كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب
بيان صفة الحسن للمأمور به"
المأمور به نوعان في هذا الباب: حسن لمعنى في نفسه وحسن
لمعنى في غيره, فالحسن لمعنى في نفسه ثلاثة أضرب:
1 - ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف بحال.
2 - وضرب يقبله, وضرب منه ملحق بهذا القسم لكنه مشابه لما
حسن لمعنى في غيره.
ـــــــ
"باب بيان صفة الحسن للمأمور به"
المأمور به نوعان في هذا الباب أي في وصف الحسن حسن لمعنى
في نفسه أي اتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في ذاته وحسن
لمعنى في غيره أي اتصف بالحسن باعتبار حسن ثبت في غيره.,
ضرب لا يقبل سقوط هذا الوصف وهو حسن بحال سواء كان مكرها
أو غير مكره كالتصديق, وضرب منه يقبله أي يقبل سقوط وصف
الحسن عنه كالإقرار فإن وصف الحسن سقط عنه عند الإكراه هذا
ما دل عليه سياق الكلام وذكر في بعض الشروح, وهو مشكل; لأن
حسن الإقرار وما يضاهيه لا يسقط في حالة الإكراه, ألا ترى
أنه لو صبر عليه حتى قتل كان مأجورا فكيف يكون حسنه ساقطا
في هذه الحالة وإنما سقط وجوبه ولا يلزم منه سقوط حسنه;
لأن عدم الوجوب لا يستلزم عدم الحسن كالمندوب على أنا لا
نسلم أن الوجوب ساقط. وأجيب عنه أنه لا يلزم من كون الصابر
عليه شهيدا بقاء حسن الإقرار; لأنه لو سقط حسنه لا يلزم
منه إباحة ضده وهو إجراء كلمة الكفر بل بقي ذلك حراما كما
كان إلا أن الترخص ثبت رعاية لحق نفسه, فإذا صبر حتى
(1/272)
والذي حسن
لمعنى في غيره ثلاثة أضرب أيضا:
1 - فضرب منه ما حسن لغيره وذلك الغير قائم بنفسه مقصودا
لا يتأدى بالذي قبله بحال.
2 - وضرب منه ما حسن لمعنى في غيره لكنه يتأدى بنفس
المأمور به فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه.
3 - وضرب منه حسن لحسن في شرطه بعد ما كان حسنا لمعنى في
نفسه أو ملحقا به وهذا القسم سمي جامعا, أما الضرب الأول
من القسم الأول فنحو الإيمان بالله تعالى وصفاته حسن لعينه
غير أنه نوعان: تصديق هو ركن لا
ـــــــ
في جميع الأحوال. وضرب يقبله أي يقبل سقوط هذا الوصف
كالإقرار فإنه لا يبقى مأمورا به في حالة الإكراه وهذا
أحسن ولكن سياق الكلام يأباه, وما ذكر شمس الأئمة رحمه
الله أدل على هذا المعنى فإنه قال: والنوع الأول قسمان حسن
لعينه لا يحتمل السقوط بحال يعني به السقوط عن المكلف وحسن
لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الأحوال. وضرب منه أي من
الذي حسن لمعنى في نفسه ما ألحق به حكما لكنه يشبه بما حسن
لمعنى في غيره نظرا إلى حقيقته كالزكاة, لا يتأدى أي ذلك
الغير الذي هو مقصود كالصلاة والجمعة مثلا بالذي قبله وهو
الطهارة والسعي, فكان شبيها بالذي حسن لمعنى في نفسه من
حيث إن ما هو موصوف بالحسن حقيقة يحصل بنفس المأمورية.
وضرب منه ما حسن لحسن في شرطه بعدما كان حسنا لمعنى في
نفسه كالصلاة, أو ملحقا بالذي حسن لمعنى في نفسه كالزكاة
فإن الصلاة حسنة لعينها لكونها تعظيم الله تعالى قولا
وفعلا والزكاة ملحقة بها وقد ازدادت كل واحدة حسنا باعتبار
حسن شرطها وهو القدرة على الأداء, وهذا القسم يسمى جامعا
لاشتماله على ما هو حسن لعينه ولغيره, وقد يجتمع الحسن
بالاعتبارين في شيء واحد كالمرأة الجميلة إذا تزينت بزينة
اكتسبت حسنا زائدا على حسنها بتلك الزينة, ونظيره الظهر
المحلوف بأدائه فإن أداه صار حسنا احترازا عن هتك حرمة اسم
الله تعالى بعد أن كان حسنا في نفسه.
قوله: "فنحو الإيمان بالله تعالى وصفاته" احترز به عمن آمن
بوحدانيته تعالى وأنكر الصفات كالفلاسفة والمعتزلة وغيرهم.
وقوله غير أنه نوعان ليس بمجرى على ظاهره; لأن النوع لا بد
من أن يوجد فيه تمام ماهية الجنس مع زيادة قيد ولا يوجد
تمام ماهية الإيمان في الإقرار ولا في التصديق على ما
اختاره الشيخ فيكون معناه غير أنه ركنان أي هو مشتمل على
ركنين بدليل قوله تصديق وهو ركن وإقرار هو ركن.
(1/273)
يحتمل السقوط
بحال حتى أنه متى تبدل ضده كان كفرا, وإقرار هو ركن ملحق
به لكنه يحتمل السقوط بحال حتى أنه متى تبدل بضده بعذر
الإكراه لم يعد كفرا; لأن اللسان ليس معدن التصديق لكن ترك
البيان من غير عذر يدل على فوات التصديق فكان ركنا دون
الأول فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير
ـــــــ
واعلم أن مذهب المحققين من أصحابنا أن الإيمان هو التصديق
بالقلب والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام في الدنيا حتى
أن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من البيان كان
مؤمنا عند الله تعالى غير مؤمن في أحكام الدنيا, كما أن
المنافق إذا وجد منه الإقرار دون التصديق كان مؤمنا في
أحكام الدنيا لوجود شرطه وهو الإقرار كافرا عند الله تعالى
لعدم التصديق., وقال كثير من أصحابنا: إن الإيمان هو
التصديق بالقلب والإقرار باللسان إلا أن الإقرار ركن زائد
يحتمل السقوط بعذر الإكراه والتصديق ركن أصلي لا يحتمل
السقوط فعند هؤلاء لو صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عذر
لم يكن مؤمنا عند الله تعالى وكان من أهل النار وهو مذهب
المصنف وشمس الأئمة وكثير من الفقهاء وتمسكوا في ذلك
بظواهر النصوص من نحو قوله عليه السلام: "بني الإسلام على
خمس شهادة أن لا إله إلا الله" 1 والشهادة لا تكون إلا
باللسان وقوله عليه السلام: "أتدرون ما الإيمان شهادة أن
لا إله إلا الله" , وقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" , وقوله صلى الله عليه
وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا
الله" 2 وغير ذلك وتمسك الفريق الأول بأن الإيمان لغة
وعرفا: هو التصديق فحسب وأنه عمل القلب ولا تعلق له
باللسان فالإيمان بالله هو تصديق الله فيما أخبر على لسان
رسوله أو تصديق رسوله فيما بلغ عن الله تعالى فمن أطلق اسم
الإيمان على غير التصديق فقد صرفه عن مفهومه لغة, وبأن
الشيء لا وجود له إلا بوجود ركنه والذي آمن موصوف بالإيمان
على التحقيق من حين آمن إلى أن مات بل إلى الأبد فيكون
مؤمنا بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة ولا وجود للإقرار
حقيقة في كل لحظة, فدل أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم
بقلبه الدائم بتجدد أمثاله لكن الله تعالى أوجب الإقرار
ليكون شرطا لإجراء أحكام الدنيا إذ لا وقوف للعباد على ما
في القلب فلا بد لهم من دليل ظاهر لتمكنهم بناء الأحكام
ـــــــ
1 حديث أخرجه البخاري في الإيمان باب رقم 53 ومسلم في
الإيمان حديث رقم 17 وأبو داود في السنة حديث رقم 4677.
2 حديث أخرجه البخاري في الإيمان باب رقم 9 ومسلم في
الإيمان حديث رقم 35 وأبو داود في السنة حديث رقم 4676
وابن ماجه في المقدمة حديث رقم 57 والترمذي في الإيمان
حديث رقم 2614 والإمام أحمد في المسند 2/379.
(1/274)
عذر لم يكن
مؤمنا ومن لم يصادف وقتا يتمكن فيه من البيان وكان مختارا
في التصديق كان مؤمنا إن تحقق ذلك وكالصلاة حسنت لمعنى في
نفسها من التعظيم لله تعالى إلا أنها دون التصديق وهي نظير
الإقرار حتى سقطت بأعذار
ـــــــ
عليه والله تعالى هو المطلع على ما في الضمائر فيجري أحكام
الآخرة على التصديق بدون الإقرار حتى أن من أقر ولم يصدق
فهو مؤمن عندنا وعند الله تعالى هو من أهل النار ومن صدق
بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا وعند الله تعالى هو
من أهل الجنة.
ثم لما كان الإقرار ركنا عند الشيخ والشيء لا يبقى بدون
ركنه لزم عليه بقاء الإيمان حالة الإكراه بدون الإقرار
فأدرج في أثناء كلامه الجواب عنه, فقال: الإقرار ركن ملحق
به أي بالتصديق في كونه ركنا, لكنه استدراك عن قوله هو ركن
أي الإقرار مع كونه ركنا محتمل للسقوط عن المكلف في بعض
الأحوال وهو حالة الإكراه; لأن اللسان ليس معدن التصديق
الذي هو الأصل في الإيمان فلا يلزم من فوات الإقرار فوات
التصديق, وهذا يقتضي أن لا يكون الإقرار ركنا لكن اللسان
لما كان معبرا عما في القلب كان الإقرار دليلا على التصديق
وجودا وعدما فجعل ركنا فيه, وقيام السيف في مسألة الإكراه
على رأسه دليل ظاهر على أن الحامل له على تبديل الإقرار
حاجته إلى دفع الهلاك عن نفسه لا تبديل التصديق, فلم يصلح
عدمه في هذه الحالة دليلا على عدم التصديق فلم يبق ركنا
فأما في غير هذه الحالة فعدمه مع التمكن منه دليل على عدم
التصديق; لأن الامتناع عنه مع كونه حسنا لعينه وواجبا عليه
من غير عذر وكلفه في الإتيان به لا يكون إلا لتبدل
الاعتقاد فصلح أن يكون ركنا وإن كان دون التصديق, مختارا
في التصديق احترازا عن التصديق حالة اليأس فإنه لا ينفع
أصلا, كان مؤمنا يعني عند الله تعالى. وإنما قال إن تحقق
ذلك; لأن التصديق الاختياري مع عدم التمكن من الإقرار أو
ما يقوم مقامه في غاية الندرة.
قوله: "وكالصلاة" عطف من حيث المعنى على قوله وإقرار هو
ركن; لأن الصلاة والإقرار كل واحد منهما يحتمل السقوط
فكانا من الضرب الثاني فكان قوله وإقرار هو ركن ابتداء
بيان الضرب الثاني, وكان من حق الكلام أن يقال أما الضرب
الأول من القسم الأول فكالتصديق الذي هو الركن الأصلي في
الإيمان; لأنه لا يحتمل السقوط عن المكلف بحال وأما الضرب
الثاني فكالإقرار الذي هو ركن ملحق بالتصديق; لأنه حسن
لعينه إذ هو إقرار بوحدانية الله تعالى وإقرار بالعبودية
له وهو حسن وضعا لكنه يحتمل السقوط إلى آخره وكالصلاة
فإنها حسنت لمعنى في نفسها وهو التعظيم لله تعالى قولا
وفعلا لجميع الجوارح وتعظيم المعظم حسن في الشاهد فدل أنها
حسنت في ذاتها وضعا ولهذا كانت رأس العبادات قال عليه
السلام: "الصلاة عماد الدين" , وقال عليه السلام: "وجعلت
قرة
(1/275)
كثيرة إلا أنها
ليست بركن في الإيمان بخلاف الإقرار; لأن في الإقرار وجودا
وعدما دلالة على التصديق. والقسم الثالث الزكاة والصوم
والحج فإن الصوم صار حسنا لمعنى قهر النفس والزكاة لمعنى
حاجة الفقير والحج لمعنى شرف
ـــــــ
عيني في الصلاة" 1, لكنها تسقط بالأعذار إلا أن اعتبار
المعنى من غير نظر إلى اللفظ في كلام المشايخ خصوصا
تصنيفات الشيخ غير غريب, والأحسن أن يقال الحسن لعينه
باعتبار كون الحسن حقيقة في ذاته أو حكما ينقسم قسمين ما
حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما., والقسم الأول باعتبار
احتمال السقوط وعدمه ينقسم قسمين أيضا ما يحتمل السقوط وما
لا يحتمل فجعل الأقسام ثلاثة فالقسم المتوسط من القسم
الأول باعتبار أصل التقسيم ومستبد باعتبار الحاصل.
وكان من حق الكلام أن يقال الحسن لمعنى في نفسه ضربان ما
حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما والضرب الأول قسمان ما
لا يقبل السقوط وما يقبله إلا أن الشيخ عد الأقسام في أول
الباب باعتبار الحاصل وترك التقسيم الأول; لأنه يفهم مما
ذكر بأدنى تأمل ثم قال بعده. وأما الضرب الأول من القسم
الأول وأراد منه أي من الضرب الأول الحسن لعينه مطلقا
باعتبار أصل التقسيم المفهوم مما ذكره فدخل فيه القسمان
الأولان ولهذا لم يفرد القسم المتوسط بالذكر, فعلى هذا
يكون قوله وكالصلاة عطفا على فنحو الإيمان ويكون الكاف في
محل الرفع ويدل عليه قوله إلا أنها دون التصديق إذ لو كان
عطفا على الإقرار لم يبق لهذا الاستثناء فائدة, ويؤيده
أيضا قوله فيما بعد: والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن
يتناول الضرب الأول من القسم الأول حيث أراد به الحسن
لعينه مطلقا كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قوله: "إلا أنها ليست بركن" جواب عما يقال إنها لما كانت
كالإقرار فهلا جعلت ركنا من الإيمان كما دل عليه ظواهر
النصوص التي تدل على أن العمل من الإيمان فقال الإقرار
دليل على التصديق وجودا وعدما كما ذكرنا فيصلح أن يكون
ركنا أما الصلاة فعدمها لا يصلح دليلا على عدم التصديق
أصلا ووجودها لا يصلح دليلا على وجوده إلا مقيدا بصفة وهو
الجماعة حتى لو صلى الكافر منفردا لا يحكم بإسلامه فلهذا
لا يصلح أن يكون ركنا فيه.
قوله: "صار حسنا لمعنى قهر النفس" بيانه أن الصوم إنما حسن
لحصول قهر النفس الأمارة بالسوء التي هي عدو الله وعدوك به
على ما جاء في الخبر أنه تعالى أوحى إلى داود
ـــــــ
1 أخرجه النسائي في عشرة النساء حديث رقم 3949 والإمام
أحمد في المسند 3/128
(1/276)
المكان إلا أن
هذه الوسائط غير مستحقة لأنفسها; لأن النفس ليست بجانية
ـــــــ
عليه السلام عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي وقال عليه
السلام: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" 1, لا أنه حسن في
ذاته; لأن تجويع النفس ومنع نعم الله تعالى عن مملوكه مع
النصوص المبيحة لها مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] {قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] {كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57, و172]
و[الأعراف 160] و[طه 81] {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
حَلالاً طَيِّباً} [البقرة: 168] ليس بحسن., وكذا الزكاة
إنما صارت حسنة بواسطة دفع حاجة الفقير الذي هو من خواص
الرحمن لا لنفسها; لأن تمليك المال وتنقيصه في ذاته إضاعة
وهي حرام شرعا وممنوع عقلا, وكذا الحج إنما صار حسنا
بواسطة أنه زيارة أمكنة معظمة محترمة عظمها الله تعالى
وشرفها على غيرها قال واحد من الصحابة:
ما أنت يا مكة إلا وادي ... شرفك الله على البلاد
وفي زيارتها تعظيم صاحبها فصار حسنا بواسطة شرف المكان لا
لذاته إذ قطع المسافة وزيارة أماكن معلومة يساوي في ذاته
سفر التجارة وزيارة البلاد, غير أن هذه الوسائط تثبت بخلق
الله تعالى لا اختيار للعبد فيها فإن النفس ليست بجانية في
صفتها بل هي مجبولة على تلك الصفة كالنار على صفة الإحراق
ولهذا لا يلام أحد على الميل إلى الشهوات ولا يسأل عنه يوم
القيامة; لأنه طبعي, ولا يقال لما لم تكن جانية في صفتها
كيف استحقت القهر; لأنا نقول إنما وجب قهرها بمخالفة هواها
لئلا يقع المرء في الهلاك بسبب متابعتها كما أن التباعد
وجب عن النار احترازا عن الهلاك وإن كانت مجبولة في صفة
الإحراق غير مختارة., وكذا الفقير ليس بمستحق عبادة إذ
العبادة لا يستحقها إلا الله عز وجل, وإنما قال ذلك; لأنه
بفقره قد يستحق إيصال النفع إليه بطريق المبرة التي تدعو
إليها الطبيعة إذ هي في الأصل مائلة إلى الإحسان إلى الغير
ودفع الضرر عن الجنس ولكن لا يستحق ما هو عبادة أصلا لما
ذكرنا, وكذا البيت ليس بمستحق للتعظيم بنفسه إذ هو حجر
كسائر البيوت بل بجعل الله تعالى إياه معظما وأمره أبانا
بتعظيمه, ولما ثبت أن هذه الوسائط ثبتت بخلق الله تعالى
بدون اختيار العبد كانت مضافة إلى الله جل جلاله وسقط
اعتبارها في حق العبد فصارت هذه العبادات حسنة خالصة من
العبد للرب بلا واسطة كالصلاة فشرط لها الأهلية الكاملة
فلا يجب على الصبي كالصلاة خلافا للشافعي رحمه الله في فصل
الزكاة.
ـــــــ
1 أخرجه البيهقي في الزهد الكبير برقم 343.
(1/277)
في صفتها
والفقير ليس بمستحق عبادة والبيت ليس بمستحق لنفسه فصار
هذا كالقسم الثاني عبادة خالصة لله حتى شرطنا لها أهلية
كاملة.
ـــــــ
"فإن قيل" الصلاة صارت قربة بواسطة الكعبة أيضا فينبغي أن
تكون من الضرب الثالث لا من الثاني كالحج.
"قلنا" إنما أراد بالواسطة ههنا ما يتوقف ثبوت الحسن
للمأمور به عليه كما بينا أن حسن هذه العبادات يتوقف على
هذه الوسائط المذكورة حتى شابهت باعتبارها الحسن لغيره
والصلاة تعظيم الله تعالى وهو حسن في ذاته من غير توقف له
على جهة الكعبة فإنها قد كانت حسنة حين كانت القبلة بيت
المقدس وجهة المشرق وقد تبقى حسنة عند فوات هذه الجهة حالة
اشتباه القبلة, فلما لم يتوقف حسنها على الواسطة كانت
الضرب الثاني بخلاف تلك العبادات فإنها لا تكون حسنة بدون
وسائطها فكانت في الضرب الثالث. إليه أشار الإمام العلامة
بدر الدين الكردري في فوائد التقويم.
فصار هذا أي القسم الثالث كالقسم الثاني وهو الإقرار
والصلاة حتى شرطنا لها أهلية كاملة; لأن العبادة الخالصة
محض حق الله تعالى شرعت على العباد ابتلاء وهو غني على
الإطلاق فتوقف وجوب حقه لغناه على كمال الأهلية فلم يجب
على الصبي والمجنون بخلاف حقوق العباد فإنها يجوز أن تجب
بأهلية قاصرة لحاجتهم فيجب على الصبي والمجنون وينوب الولي
منابهما في الأداء, واعلم أن إيراد الإيمان في نظائر هذا
النوع مشكل; لأنه في بيان الحسن الذي ثبت للمأمور به
بالأمر وعرف ذلك به لا قبله بالعقل وحسن الإيمان ثابت قبل
الأمر ويعرف بالعقل لا بتوقف ذلك على ورود السمع حتى قلنا
بوجوب الاستدلال على من لم تبلغه الدعوة أصلا, ولهذا لم
يذكر القاضي الإمام الإيمان في هذه الأقسام بل بدأ
بالصلاة; لأن حسن هذه الهيئة ثابت بالأمر لا بالعقل إلا أن
يكون حسنه ثابتا بالسمع عند الشيخ لا بالعقل كما هو مذهب
الأشعرية لكن قوله لا يقبل سقوط هذا الوصف يأبى هذا
الاحتمال, ثم حاصل ما ذكر أن التصديق في أعلى درجات الحسن
والإقرار دونه; لأنه يحتمل السقوط والصلاة دونه; لأنها
ليست بركن في الإيمان والصوم واختاره دونها; لأنها مشابهة
للحسن لغيره.
قوله: "وأما الضرب الأول من القسم الثاني" وهو ما حسن
لمعنى في غيره وذلك الغير لا يتأدى إلا بفعل مقصود فمثل
السعي إلى الجمعة ليس بفرض مقصود أي ليس بحسن في نفسه إذ
هو مشي ونقل أقدام وإنما حسن وصار مأمورا به لإقامة الجمعة
إذ به يتوصل إلى أدائها فكان حسنا لغيره لا لذاته ثم
الجمعة لا تتأدى به بل بفعل مقصود
(1/278)
وأما الضرب
الأول من القسم الثاني: فمثل السعي إلى الجمعة ليس بفرض
مقصود إنما حسن لإقامة الجمعة; لأن العبد يتمكن به من
إقامة الجمعة لا يتأدى به الجمعة, وكذلك الوضوء عندنا من
حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعبادة مقصودة; لأنه في
نفسه تبرد وتطهر لكن إنما حسن; لأنه يراد به إقامة الصلاة
ولا تتأدى به الصلاة بحال ويسقط بسقوطها وتستغني عن صفة
القربة
ـــــــ
بعده فلم يكن له مشابهة بالحسن لعينه أصلا ولهذا قدم هذا
الضرب على غيره; لأنه أعلى رتبة من غيره في كونه حسنا
لغيره بمقابلة التصديق في القسم الأول, ومعنى السعي إلى
الجمعة هو الإقبال عليها والمشي بلا سرعة فإنه روي عن عمر
وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم أن معنى قوله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] تعالى
أقبلوا على العمل الذي أمرتم به وامضوا فيه وليس في حديث
السكينة فصل بين الجمعة وغيرها وأجمع الفقهاء أنه يمشي في
الجمعة على هيئته كذا في شرح التأويلات.
قوله: "وكذلك الوضوء" أي وكالسعي الوضوء في كونه من هذا
الضرب; لأنه من حيث هو فعل يفيد الطهارة للبدن ليس بعبادة
مقصودة أي لا يصلح أن يكون عبادة مقصودة إذ لا بد لها من
كونها حسنة لذاتها وأنه في نفسه تبرد وتطهر وذلك ليس بحسن
لذاته وإنما حسن بسبب التمكن من إقامة الصلاة فكان حسنا
لغيره, ولا يتأدى به أي بالوضوء الصلاة بحال ويسقط بسقوط
الصلاة فكان كاملا في كونه حسنا لغيره, ولهذا جاز التيمم
لصلاة العيد وصلاة الجنازة مع وجود الماء عند خوف الفوت;
لأن التوضؤ إنما يلزمه إذا كان يتوصل به إلى أداء الصلاة
ولو اشتغل به هنا تفوته الصلاة لا إلى خلف فتسقط عنه وإذا
سقط عنه صار وجود الماء كعدمه فكان فرضه التيمم كذا في
المبسوط.
قوله: "وتستغني" أي الصلاة عن صفة القربة في الوضوء جواب
عما قال الشافعي رحمه الله النية شرط في الوضوء; لأنه
عبادة إذ العبادة اسم لفعل يؤتى به تعظيما لله تعالى بأمره
وحكمه الثواب وكل ذلك موجود في الوضوء وقال عليه السلام:
"الطهارة على الطهارة نور على نور يوم القيامة" وإذا ثبت
أنه عبادة كانت النية من شرطه كسائر العبادات, ونحن نسلم
أن الوضوء يصلح أن يصير عبادة وأن لا بد لصيرورته عبادة من
النية ولكنا نقول: صحة الصلاة تستغني عن هذه الصفة بل هي
إنما تتوقف على كونه طهارة وباستعمال الماء بطريق التبرد
يحصل الطهارة التي هي شرط الصلاة كما لو استدام الطهارة
ولم يحدث حتى حضرت صلوات, وهذا لما ذكرنا أن معنى العبادة
فيه غير
(1/279)
في الوضوء حتى
يصح بغير نية عندنا ومن حيث جعل الوضوء في الشرع قربة يراد
بها ثواب الآخرة كسائر القرب لا يتأدى بغير نية إلا أن
الصلاة تستغني من هذا الوصف في الوضوء. والضرب الثاني
الجهاد وصلاة الجنازة إنما صارا حسنين لمعنى كفر الكافر
وإسلام الميت وذلك معنى منفصل عن الجهاد والصلاة حتى أن
الكفار إن أسلموا لم يبق الجهاد مشروعا إن تصور لكنه خلاف
ـــــــ
المقصود بل مقصود التمكن من إقامة الصلاة بالطهارة, فإذا
طهرت الأعضاء بأي سبب كأن سقط الأمر كالسعي إلى الجمعة
يسقط بسعي لا للجمعة وإن كان يصلح أن يصير عبادة بالنية;
لأن المقصود منه التمكن من أداء الجمعة بحصوله في المسجد
لا لكونه عبادة فعلى أي وجه حصل سقط الأمر كذا هذا كذا في
الأسرار.
قوله: "والضرب الثاني" وهو الذي حسن لمعنى في غيره وذلك
الغير يتأدى بالمأمور به لا يحتاج إلى فعل مقصود الجهاد
وصلاة الجنازة, أما الجهاد فلأنه ليس بحسن في وضعه; لأنه
تعذيب عباد الله تعالى وتخريب بلاده وليس في ذلك حسن كيف
وقد قال عليه السلام: "الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم
بنيان الرب" , وسئل نبي من بني إسرائيل عن تعمير ملوك فارس
وقد كانوا عمروا الأعمار الطوال فأوحى الله تعالى إليه
أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وفي رواية أنصفوا عبادي
وعمروا بلادي فأدمت لهم الملك, وإنما صار حسنا بواسطة كفر
الكافر فإن الكافر صار عدو الله تعالى وللمسلمين فشرع
الجهاد إعداما للكفرة وإعزازا للدين الحق وإعلاء لكلمة
الله تعالى.
وأما صلاة الجنازة فلأنها ليست بحسنة في ذاتها إذ هي بدون
الميت عبث كذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله وإنما
صارت حسنة بواسطة إسلام الميت ألا ترى أن الميت لو لم يكن
مسلما كانت الصلاة عليه قبيحة منهيا عنها قال الله تعالى:
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}
[التوبة: 84], الآية فصارت حسنة لمعنى في غير الصلاة وهو
قضاء حق الميت المسلم. قوله: "وذلك" أي كفر الكافر وإسلام
الميت منفصل عن الجهاد والصلاة فإن الكفر قائم بالكافر
والإسلام بالميت والجهاد قائم بالمجاهد والصلاة بالمصلي,
والمقصود من هذا الكلام تحقيق كون هذا الضرب حسنا لغيره إذ
حصول المقصود بالإتيان بالمأمور به نفسه يوهم أنه ملحق
بالحسن لعينه كالصوم فحقق كونه حسنا لغيره بقوله وذلك معنى
منفصل إلى آخره دفعا لذلك الوهم. قوله: "لكنه خلاف الخبر";
لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يبرح
هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم
الساعة" 1 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإمارة حديث رقم 1922 والإمام أحمد في
المسند 5/103.
(1/280)
الخبر وإذا صار
حق المسلم مقضيا بصلاة البعض سقط عن الباقين ولما كان
المقصود يتأدى بالمأمور به بعينه كان شبيها بالقسم الأول.
وأما الضرب
ـــــــ
الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي
يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم
المسيح الدجال" 1. قوله: "كان شبيها بالقسم الأول" وهو
الحسن لعينه وهذا الضرب عكس الضرب الثالث من النوع الأول;
لأن ذلك حسن لعينه شبيه بالحسن لغيره وهذا الضرب حسن لغيره
شبيه بالحسن لعينه, وإنما اعتبرت الواسطة وهي كفر الكافر
وإسلام الميت ههنا دون الصوم ونظيريه; لأنها وإن كانت
بتقدير الله تعالى ومشيئته فهي تثبت باختيار العبد وصنعه
عن طواعية فوجب اعتبارها وإذا اعتبرت كانت العبادة حسنة
لمعنى في غيرها; لأن العبادة تتم بالعبد للرب عزت قدرته
فتكون الواسطة المضافة إلى غير الله تعالى غير فعل العبادة
صورة ومعنى بخلاف تلك الوسائط فإنها تثبت بصنع الله تعالى
لا بصنع للعبد فيها فسقط اعتبارها فبقيت العبادة حسنة من
العبد للرب بلا واسطة ثم حكم النوع الأول مع ضروبه الثلاثة
واحد وهو أنه إذا وجب بالأمر لا يسقط إلا بالأداء لو
باعتراض ما يسقطه بعينه. وحكم الضربين الأولين من القسم
الثاني واحد أيضا وهو بقاء الوجوب ببقاء وجوب الغير وسقوطه
بسقوط الغير حتى إذا حمله إنسان من الجامع إلى موضع مكرها
بعد السعي قبل أداء الجمعة ثم إذا خلى عنه كان السعي واجبا
عليه, وإذا حصل المقصود بدون السعي بأن حمل مكرها إلى
الجامع أو كان معتكفا فيه فصلى الجمعة سقط اعتبار السعي
ولا يتمكن بعدمه نقصان فيما هو المقصود وإذا سقطت عنه لمرض
أو سفر سقط السعي, وكذلك حكم الوضوء إلا أن مع عدم السعي
يتم أداء الجمعة وبدون الوضوء لا يجوز أداء الصلاة من
المحدث; لأن من شرط الجواز الطهارة عن الحدث هكذا ذكر شمس
الأئمة رحمه الله قلت الوضوء مساو للسعي في هذا أيضا; لأن
فعل الوضوء بمنزلة فعل السعي وحصول الطهارة به بمنزلة حصول
الرجل في الجامع بالسعي وقد تحصل الصلاة بدون فعل الوضوء
كما تحصل الجمعة بدون فعل السعي ولا يحصل بدون صفة الطهارة
كما لا تحصل الجمعة بدون كونه في الجامع.
وكذلك لو تصور إسلام الخلق عن آخرهم لا تبقى فريضة الجهاد
أيضا, وكذلك حق الميت متى سقط بعارض مضاف إلى اختياره من
بغي أو قطع طريق أو كفر سقط حقه. وكذا إذا قام به الولي
سقط عن الباقين لحصول المقصود ومتى لم يقض حقه بأن صلى
عليه غير الولي كانت الصلاة باقية على الولي وكذا إذا لم
تنكسر شوكة الكفار بالقتال
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجهاد حديث رقم 2484 والإمام أحمد في
المسند 4/429.
(1/281)
الثالث فمختص
بالأداء دون القضاء وذلك عبارة عن القدرة التي يتمكن بها
العبد من أداء ما لزمه وذلك شرط الأداء دون الوجوب وأصل
ذلك قول الله تعالى:
ـــــــ
مرة لم يسقط الفرض ووجب ثانيا; لأن المعنى الذي له وجب
بمنزلة السبب الموجب فلا يبقى الحكم بدون السبب, كذا ذكر
القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله.
ثم الشيخ لما ذكر في أثناء كلامه ما يفهم منه هذه الأحكام
لم يذكرها صريحا.
قوله: "وأما الضرب الثالث" وهو الذي سماه جامعا يختص
بالأداء دون القضاء أي هذا القسم يتأتى في الأداء دون
القضاء; لأن هذا القسم إنما صار جامعا للحسن الذاتي والحسن
الإضافي باعتبار اشتراط القدرة وهي مشروطة في وجوب الأداء
دون وجوب القضاء على ما ستعرفه فلا يتأتى في القضاء الجمع
بين الحسنين فيكون مختصا بالأداء ضرورة, ثم الحسن باعتبار
الغير إنما يثبت في هذا القسم مع كونه حسنا لذاته; لأن
العبادة لا تصح أن تكون مأمورا بها إلا بقدر من المخاطب
فيتوقف وجوبها على القدرة توقف وجوب السعي على وجوب الجمعة
فصار حسنا لغيره مع كونه حسنا لذاته.
وذلك إشارة إلى الغير المفهوم من قوله الضرب الثالث أي
الشيء الذي صار الحسن لعينه حسنا لغيره بواسطته هي القدرة
التي يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه أي يقدر عليه, وذلك
أي الشرط المذكور وهو القدرة, شرط الأداء أي شرط وجوب
الأداء, دون الوجوب أي دون نفس الوجوب. وقيل معناه الشرط
المذكور وهو القدرة الحقيقية, شرط الأداء أي شرط حقيقة
الأداء, دون الوجوب أي دون وجوب الأداء; لأن شرطه سلامة
الآلات وصحة الأسباب لا حقيقة القدرة, والأول هو الوجه
وعليه دل ما ذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة في كتابيهما,
وأصل ذلك أي أصل اشتراط القدرة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أي
طاقتها وقدرتها أي لا يأمرها بما ليس في طاقتها فثبت بالنص
أن القدرة شرط لصحة الأمر. واعلم أن الأمة قد اختلفوا في
جواز التكليف بالممتنع وهو المسمى بتكليف ما لا يطاق فقال
أصحابنا لا يجوز ذلك عقلا ولهذا لم يقع شرعا وقالت
الأشعرية إنه جائز عقلا واختلفوا في وقوعه والأصح عدم
الوقوع والخلاف في التكليف بما هو ممتنع لذاته كالجمع بين
الضدين والعقد بين شعيرتين فأما التكليف بما هو ممتنع
لغيره كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن مثل فرعون
وأبي جهل وسائر الكفار الذين ماتوا على كفرهم فقد اتفق
الكل على جوازه عقلا وعلى وقوعه شرعا, فالأشعرية تمسكوا
بأن التكليف منه تصرف في عباده ومماليكه فيجوز سواء أطاق
العبد أو لم يطق, وهذا; لأن امتناع التكليف إما أن كان
لاستحالته في ذاته أو لكونه قبيحا لا وجه إلى الأول لتصور
صدور الأمر من الله تعالى بالممتنع للعبد لا
(1/282)
{لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهو
نوعان مطلق وكامل فأما المطلق منه فأدنى ما يتمكن به
المأمور من أداء ما لزمه بدنيا كان أو ماليا
ـــــــ
إلى الثاني; لأن القبح إنما يكون باعتبار عدم حصول الغرض
والقديم منزه عن الغرض, وتمسك أصحابنا بأن تكليف العاجز عن
الفعل بالفعل يعد سفها في الشاهد كتكليف الأعمى بالنظر فلا
يجوز نسبته إلى الحكيم جل جلاله.
تحقيقه أن حكمة التكليف هي الابتلاء عندنا وإنما يتحقق ذلك
فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه أو يتركه باختياره
فيعاقب عليه فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه كان
مجبورا على ترك الفعل فيكون معذورا في الامتناع فلا يتحقق
معنى الابتلاء, ويعرف باقي الكلام في علم الكلام.
فإذا ثبت هذا فنقول ما ذكر الشيخ ههنا من قوله, وهذا أي
اشتراط هذه القدرة فضل ومنة من الله تعالى عندنا يوهم
بظاهره أن التكليف بدون هذه القدرة يجوز عنده كما هو مذهب
الأشعرية, وما ذكر في بعض مصنفاته أن المكنة الأصلية
مشروطة في العبادات تحقيقا للعدل على ما قال الله تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:
286] والميسرة مشروطة في بعضها تحقيقا للفضل على ما نطق به
النص, وما ذكر القاضي الإمام في التقويم أن الشرع جعل من
شرط وجوب الأداء مكنة العبد منه حكمة وعدلا يشير إلى خلاف
ذلك كما هو مذهب أهل السنة.
ووجه التوفيق بينهما أن إعطاء هذه القدرة التي يصير العبد
بها أهلا للتكليف الذي هو تشريف فضلا من الله ومنة; لأنه
لا يجب على الله تعالى شيء على ما عرف في مسألة الأصلح,
وإليه أشار بقوله عندنا وبناء التكليف على هذه القدرة
واشتراطها له فيه عدل وحكمة وهذا كاشتراط العقل لصحة
الخطاب عدل وحكمة; لأن خطاب من لا يفهم قبيح وخلق العقل في
الإنسان ليصير أهلا للخطاب فضل ومنة كذا ذكر في عامة
الشروح, ولقائل أن يقول هذا التأويل وإن كان صحيحا في نفسه
لكن سياق الكلام لا يدل عليه فإن الكلام مسوق لاشتراط
القدرة لصحة التكليف لا لإعطاء القدرة وخلقها في المكلف
فالأوجه أن تصرف الإشارة في قوله وهذا فضل إلى اشتراط
القدرة دون إعطائها. وبيان ذلك أن جواز التكليف مبني على
القدرة الحقيقية التي بها يوجد الفعل المأمور به إلا أنها
لما لم تسبق الفعل ولا بد للتكليف من أن يكون سابقا على
الفعل المأمور به نقل الحكم عنها إلى سلامة الآلات وصحة
الأسباب التي تحدث هذه القدرة بها عند إرادة الفعل عادة
فشرط لصحة التكليف سلامة الآلات وصحة الأسباب لصلاحيتها
لقبول تلك القدرة وتعلق تلك القدرة بها لا محالة, فاشتراط
هذه القدرة مع أن التكليف
(1/283)
وهذا فضل ومنة
من الله تعالى عندنا وهذا شرط في أداء حكم كل أمر حتى
أجمعوا أن الطهارة بالماء لا تجب على العاجز عنها ببدنه
وعلى من عجز عن
ـــــــ
صحيح بدونها بناء على توهم وجود القدرة الحقيقية عند الفعل
كما سنبينه يكون تحقيقا للفضل إليه أشير في الميزان. وعليه
دل سياق كلام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله فإنه قال من
شرط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء
غير أنه لا يشترط وجودها وقت الأمر لصحته; لأنه لا يتأدى
المأمور به بالقدرة الموجودة وقت الأمر وإنما يتأدى
بالموجود منها عند الأداء وذلك لا يوجد سابقا على الأداء
فإن الاستطاعة لا تسبق الفعل وعدمها عند الأمر لا يمنع صحة
الأمر ولا يخرجه من أن يكون حسنا بمنزلة عدم المأمور فإن
النبي عليه السلام كان رسولا إلى الناس كافة ثم صح الأمر
في حق الذين وجدوا بعده ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم
فيتمكنوا من الأداء فكما يحسن الأمر قبل وجود المأمور يحسن
قبل وجود القدرة التي يتمكن بها من الأداء ولكن بشرط
التمكن عند الأداء, ألا ترى أن التصريح به لا يعدم صفة
الحسن في الأمر فإن المريض يؤمر بقتال المشركين إذا برئ
فيكون ذلك حسنا قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ} [النساء: 103] أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا
إيماء ولا مشي فثبت بما ذكر رحمه الله أن التكليف قبل
القدرة الحقيقية صحيح بناء على وجودها عند الفعل فاشتراط
القدرة التي هي سلامة الآلات وصحة الأسباب عند التكليف
يكون فضلا لا محالة. قوله: "وهذا شرط في أداء حكم كل أمر"
أي ما ذكرنا من القدرة بسلامة الآلات شرط وجوب أداء ما ثبت
بكل أمر سواء كان المأمور به حسنا لعينه أو لغيره, حتى
أجمعوا أن الطهارة لا تجب على العاجز عنها ببدنه بأن لم
يقدر على استعماله حقيقة, وتأويله إذا لم يجد من يستعين به
فإن وجد من يستعين به لا يجوز له التيمم كذا في المبسوط.
وفي فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله إن كان
المعين حرا أو امرأته جاز له التيمم في قول أبي حنيفة رحمه
الله; لأنه لا يجب عليهما إعانته وإن كان مملوكا اختلف
المشايخ على قوله, والفرق على أحد القولين أن العبد وجب
عليه الإعانة فكان بمنزلة بدنه بخلاف الحر وعن هذا قيل إن
كان المعين يعينه ببدل لا يجوز له التيمم عند الكل.
فثبت بما ذكرنا أن قوله وأجمعوا مؤول بما ذكرنا على أنه
روي عن محمد رحمه الله إن لم يجد من يعينه لا يجوز له أن
يتيمم في المصر إلا أن يكون مقطوع اليدين; لأن الظاهر أنه
يجد في المصر من يستعين به من قريب أو بعيد والعجز بعارض
على شرف الزوال بخلاف مقطوع اليدين كذا في المبسوط.
(1/284)
استعماله إلا
بنقصان يحل به أو بماله في الزيادة على ثمن مثله وفي مرض
يزداد به وكذلك الصلاة لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة
والحج لا يجب أداؤه إلا بالزاد والراحلة; لأن تمكن السفر
المخصوص به لا يحصل بدونهما في الغالب ولا يجب الزكاة إلا
بقدرة مالية حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن سقط
الواجب بالإجماع.
ـــــــ
قوله: "وعلى من عجز عن استعماله" أي حكما بأن حل نقصان
ببدنه بأن ازداد مرضه بالتوضؤ أو بماله بأن لا يجد الماء
إلا بثمن غال., واختلف في تفسير الغالي فقيل إن كان لا
يجده إلا بضعف القيمة فهو غال وقيل ما لا يدخل تحت تقويم
المقومين فهو غال ويعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من
الموضع الذي يعز فيه الماء كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر
الدين رحمه الله, وقوله في مرض معطوف على قوله في الزيادة,
وهو لف ونشر مشوش.
قوله: "وكذلك" أي وكالوضوء الصلاة لا يجب أداؤها إلا بهذه
القدرة أي المكنة ولهذا كان وجوب الأداء بحسب ما يتمكن منه
قائما أو قاعدا أو بالإيماء; لأن تمكن السفر المخصوص به أي
بالحج, لا يحصل دونهما أي دون الزاد والراحلة في الغالب
فالزاد والراحلة من ضرورات السفر على ما عليه العادة; لأن
الزاد عبارة عن قوته والراحلة عبارة عما تحمله وهو لا يجد
بدا عنهما ولا يشترط زيادة المال والخدم; لأن الوجوب ح
يتعلق بالمكنة الميسرة وهي ليست بشرط بالإجماع.
وإنما قيد بقوله في الغالب; لأنه قد يوجد بدونهما بطريق
الكرامة كما هو محكي عن بعض السلف, وقد يوجد بدون الراحلة
أيضا إلا أن ذلك نادر لا يصح بناء الحكم عليه, ولا يقال
أدنى القدرة فيه صحة البدن بحيث يقدر على المشي واكتساب
الزاد في الطريق ولهذا صح النذر به ماشيا فينبغي أن يكون
الوجوب متعلقا بهذا القدر من القدرة لا بالزاد والراحلة;
لأنا نقول في اعتبار هذه القدرة حرج عظيم; لأنه يؤدي إلى
الهلاك في الغالب والحرج منفي وإنما اعتبرنا في الصلاة
القدرة المتوهمة وإن كان لا يتحقق الأداء بها ليظهر أثره
في الخلف وهو القضاء لا لعين الأداء ولا خلف للحج ينتفي
بمباشرته الحرج فلذلك لم تعتبر, إلا بقدرة مالية وهي أن
يكون متمكنا من أدائها بأن كان مالكا للمال قادرا عليه
بنفسه أو بنائبه حتى لو ثبت له التمكن بمال الغير بأن أذن
له في ذلك لا يعتبر في وجوب الأداء الزكاة, وهذا بخلاف
الطهارة حيث ثبت القدرة على الماء بالإباحة; لأن صفة
العبادة فيها غير مقصودة بل المقصود الطهارة وهي تحصل
بالإباحة.
(1/285)
ولهذا قال زفر
في المرأة تطهر من حيضها أو نفاسها أو الكافر يسلم أو
الصبي يبلغ في آخر الوقت أن لا صلاة عليهم إلا أن يدركوا
وقتا صالحا للأداء لما قلنا لكن أصحابنا استحسنوا بعد تمام
الحيض أو دلالة انقطاعه قبل تمامه
ـــــــ
وههنا معنى العبادة مقصود مع ذلك صفة الغنى في المؤدى
معتبر ولا يحصل ذلك بالإباحة. وكذلك لو كان بعيدا من ماله
أو لم يكن يجد المصرف لا يثبت التمكن حتى لو هلك المال قبل
الوصول إليه سقط الواجب بالإجماع., وإنما قيد به; لأن في
الهلاك بعد التمكن خلافا كما سيأتي.
قوله: "ولهذا قال زفر إلى آخره" قد ذكرنا أن المأمور بفعل
لا بد من أن يكون قادرا على تحصيل المأمور به حقيقة; لأن
تكليف ما ليس في الوسع ليس بحكمة إلا أن القدرة على نوعين
أحدهما سلامة الآلات وصحة الأسباب وهي تسمى قدرة لحدوث
القدرة فيها عند قصد الفعل في المعتاد.
والثاني حقيقة القدرة التي يوجد بها الفعل والتكليف يعتمد
الأولى وكان ينبغي أن يعتمد الثانية غير أن تعذر تقدم
المشروط على الشرط منع عن ذلك فنقل الشرطية إلى الأولى
لحصول الثانية بها عادة عند الفعل فثبت أنه لا بد من أن
يكون المأمور قادرا على الفعل حقيقة على معنى أنه لو عزم
على الفعل لوجد الفعل بالقدرة الحقيقية فكانت حالة وجود
الفعل حالة وجود القدرتين جميعا, فلهذا قال زفر رحمه الله
إذا صار الإنسان أهلا للتكليف في آخر الوقت بأن أسلم
الكافر أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض أو أفاق المجنون في
آخر الوقت بحيث لا يتمكن من أداء الفرض فيه لا يجب عليه
الصلاة; لأنه ليس بقادر على الفعل حقيقة لفوات الوقت الذي
هو من ضرورات القدرة فلم يثبت التكليف لعدم شرطه. ولا معنى
لقول من قال إن احتمال القدرة ثابت باحتمال امتداد الوقت
وهو كاف لصحة التكليف; لأن ذلك احتمال بعيد وهو لا يصلح
شرطا للتكليف; لأن المقصود لا يحصل به, ألا ترى أن احتمال
سفر الحج بدون زاد وراحلة واحتمال القدرة على الصوم للشيخ
الفاني واحتمال القدرة على القيام والركوع والسجود للمريض
المدنف والمقعد بزوال المرض والزمانة واحتمال الإبصار
للأعمى بزوال العمى أقرب إلى الوجود من هذا الاحتمال ومع
ذلك لم يصلح شرطا للتكليف فهذا أولى.
قوله: "لكن أصحابنا استحسنوا" أي عملوا بالدليل الخفي
الأقوى وتركوا القياس الذي عمل به زفر بعد تمام الحيض بأن
انقطع الدم على العشرة, أو دلالة انقطاعه أي الحيض قبل
تمامه بأن انقطع الدم فيما دون العشرة بإدراك وقت الغسل
بعد الانقطاع,
(1/286)
بإدراك وقت
الغسل أنها تجب بإدراك جزء يسير من الوقت يصلح للإحرام بها
وكذلك في سائر الفصول; لأنا نحتاج إلى سبب الوجوب وذلك جزء
من الوقت ونحتاج لوجوب الأداء إلى احتمال وجود القدرة لا
إلى تحقق القدرة وجودا; لأن ذلك شرط حقيقة الأداء فأما
سابقا عليه فلا; لأنها لا تسبق الفعل إلا في الأسباب
والآلات لكن توهم القدرة يكفي لوجوب الأصل مشروعا ثم العجز
ـــــــ
وحاصله أن الدم إذا انقطع على العشرة أي تم الحيض بتمام
العشرة وقد بقي من الوقت شيء قليل أو كثير كان عليها قضاء
تلك الصلاة عندنا وإن لم تدرك وقت الغسل, وإن انقطع على ما
دون العشرة وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل
وتتحرم للصلاة كان عليها قضاء تلك الصلاة وإلا فلا; لأن
زمان الاغتسال فيما دون العشرة من جملة الحيض في حق
المسلمة, ولهذا لا ينقطع حق الرجعة للزوج قبل الاغتسال
وذلك; لأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى فبمجرد الانقطاع لا
يحكم بالخروج من الحيض لجواز أن يعاودها الدم فإذا اغتسلت
يحكم بطهارتها فلما كانت مدة الاغتسال من الحيض وجب أن
يدرك جزء من الوقت بعد مدة الاغتسال ليجب عليها الصلاة.
وقوله يصلح للإحرام لمبالغة جانب القلة لا أن يكون ذلك
شرطا حتى لو أدركت أقل من ذلك يجب عليها الصلاة وكذلك في
سائر الفصول أي كما استحسنوا في الحيض استحسنوا في إيجاب
الصلاة على الكافر إذا أسلم والصبي إذا بلغ والمجنون إذ
أفاق في آخر الوقت وهو المختار من مذهب الشافعي أيضا فإنه
قد ذكر في الملخص في الفتوى في مذهب الشافعي ولو زال العذر
المسقط للقضاء كالجنون والصبا والكفر والحيض في قدر تكبيرة
من الوقت لزمه تلك الصلاة, ولو زال قبيل الغروب لزمه الظهر
والعصر ولو زال قبيل الفجر لزمه العشاء والمغرب وكذا ذكر
الغزالي أيضا.
وجه الاستحسان أن سبب الوجوب هو جزء من الوقت قد وجد في حق
الأهل فيثبت به أصل الوجوب إذ هو ليس بمفتقر إلى شيء آخر
وكذا شرط وجوب الأداء موجود; لأنه ليس بمتوقف على حقيقة
القدرة لامتناع تقدم القدرة على الفعل واستحالة تقدم
المشروط على شرطه بل هو متوقف على توهم القدرة الذي ثبت
بناء على سلامة الآلات وصحة الأسباب وقد وجدا لتوهم ههنا
لجواز أن يظهر في ذلك الجزء امتداد بتوقف الشمس فيسع
الأداء فيثبت بهذا القدر وجوب الأداء ثم بالعجز الحالي عن
الأداء ينتقل الحكم إلى خلفه وهو القضاء.
يوضحه أن في أوامر العباد يثبت لزوم الأداء بهذا القدر من
القدرة فإن من قال لعبده
(1/287)
الحالي دليل
النقل إلى البدل المشروع عند فوات الأصل, وقد وجد احتمال
القدرة باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير بوقف الشمس
كما كان لسليمان صلوات الله عليه وذلك نظير مس السماء فصار
مشروعا ثم وجب
ـــــــ
اسقني ماء غدا يكون أمرا صحيحا موجبا للأداء وإن لم يثبت
في الحال أنه قادر على ذلك غدا لجواز أن يموت قبله أو يظهر
عارض يحول بينه وبين التمكن من الأداء فكذلك في أوامر
الشرع وجوب الأداء يثبت بهذا القدر كذا ذكر الإمام السرخسي
رحمه الله.
"فإن قيل" قد ذكرت أن القدرة على نوعين: قدرة سلامة الآلة
والقدرة الحقيقية فنحن نسلم أن توهم القدرة الحقيقية كاف
لصحة التكليف إذا كان مبنيا على سلامة الآلة ووجودها حقيقة
ولكن لا نسلم أن توهم حدوث الآلة وسلامتها كاف لصحته فإن
توهم حدوث آلة الطيران للإنسان ثابت وكذلك توهم حدوث سلامة
آلة الأبصار والمشي للأعمى والمقعد ثابت ومع ذلك لا يصح
التكليف بالطيران والإبصار والمشي والتوهم الذي ذكرتم من
هذا القبيل; لأن الوقت للفعل بمنزلة الآلة كاليد للبطش
والرجل للمشي فلا يصح بناء التكليف عليه.
"قلنا" توهم هذه القدرة إنما لا يصلح شرط التكليف إذا كان
المطلوب منه عين ما كلف به فأما إذا كان المطلوب منه غيره
فهو كاف لصحته كالأمر بالوضوء إذا كان المقصود منه حقيقة
التوضؤ لا يصح إلا عند وجود الماء حقيقة فأما إذا كان
المطلوب منه خلفه وهو التيمم فتوهم الماء وإن كان بعيدا
كاف لصحة الأمر به ليظهر أثره في حق خلفه ويشترط ح سلامة
آلات الخلف; لأنه هو المقصود لا سلامة آلات الأصل وفي
مسألتنا المقصود من هذا التكليف إيجاب خلفه لا حقيقة
الأداء فيشترط سلامة الآلات في حق الخلف وهو القضاء لا
سلامة آلات الأصل وهو الأداء بل يكفي فيه توهم الحدوث.
قوله: "باحتمال امتداد الوقت عن الجزء الأخير" كلمة عن
بمعنى من البيانية ويتعلق بالوقت, والوقت بمعنى الزمان,
والباء في بوقف الشمس للسببية وتتعلق بالامتداد أي باحتمال
امتداد الزمان الذي هو الجزء الأخير من وقت الصلاة بسبب
وقف الشمس, كما كان لسليمان صلوات الله عليه وسلامه, روي
أن سليمان عليه السلام لما عرض له الخيل الصافنات الجياد
وفاته صلاة العصر أو ورد له كان في ذلك الوقت باشتغاله بها
وأهلك تلك الخيل بالعقر وضرب الأعناق كما قال تعالى:
{فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [صّ: 33]
تشؤما بها حيث شغلته عن ذكر ربه وعبادته وقهرا للنفس
بمنعها عن حظوظها جازاه الله تعالى بأن أكرمه برد الشمس
إلى موضعها من وقت الصلاة ليتدارك
(1/288)
النقل للعجز
الحالي كمن هجم عليه وقت الصلاة وهو في السفر أن خطاب
الأصل عليه يتوجه لاحتمال وجود الماء ثم بالعجز الحالي
ينتقل إلى التراب. والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن
يتناول الضرب الأول من القسم الأول; لأن كمال الأمر يقتضي
كمال صفة المأمور به وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا
ـــــــ
ما فاته من الصلاة أو الورد وبتسخير الريح بدلا عن الخيل
فتجري بأمره رخاء حيث أصاب, إليه أشير في كتاب عصمة
الأنبياء وكتاب حصص الأتقياء من قصص الأنبياء عليهم
السلام.
قوله: "وذلك نظير مس السماء" أي اعتبار توهم القدرة وإن
كان بعيدا في وجوب الأداء لخلفه نظير اعتبارنا توهم البر
وإن كان بعيدا في انعقاد اليمين على مس السماء لوجوب
الكفارة, فإذا حلف ليمس السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا
انعقدت يمينه عندنا ويأثم في هذه اليمين; لأن المقصود
باليمين تعظيم المقسم وإنما يحصل منها هتك حرمة الاسم
باستعمال اليمين في هذا المحل, وقال زفر رحمه الله لا
ينعقد; لأن من شرط انعقاد اليمين أن يكون ما يحلف عليه في
وسعه إيجاده ولهذا لم ينعقد اليمين الغموس وذلك غير موجود
ههنا. ولكننا نقول انعقاد اليمين باعتبار توهم الصدق في
الخبر وهو موجود فإن السماء عين ممسوسة قال الله تعالى
إخبارا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:
8] والملائكة يصعدون إليها ولو أقدره الله تعالى على
صعودها لصعدها كعيسى ومحمد عليهما السلام وكذلك الحجر محل
قابل للتحول لو حوله الله عز وجل فينعقد يمينه ثم يحنث في
الحال لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث ولا
يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة وهذا بخلاف الغموس;
لأن تصور البر الذي هو الأصل مستحيل فيه بمرة فلا ينعقد
للخلف وهو الكفارة, ولا يقال: إعادة الزمان الماضي في قدرة
الله تعالى وأيضا وقد فعله لسليمان عليه السلام فكان ينبغي
أن ينعقد يمين الغموس بهذا الطريق أيضا; لأنا لا نسلم تصور
إعادة الزمان الماضي على أنه أخبر عن فعل قد وجد منه كاذبا
فيستحيل فيه الصدق; لأن الله تعالى وإن أعاد الزمان لا
يصير الفعل فيه موجودا من الحالف بدون أن يفعله فلهذا لم
ينعقد الغموس كذا في المبسوط.
قوله: "فصار مشروعا" متعلق بقوله وقد وجد احتمال القدرة,
والضمير المستكن في فصار راجع إلى وجوب الأصل أي فصار وجوب
الأصل وهو الأداء مشروعا بهذا الاحتمال, ثم وجب النقل يعني
إلى خلفه وهو القضاء للعجز الحالي. قوله: "كمن هجم" أي
دخل, وإنما اختار لفظ الهجوم دون الدخول; لأن معناه
الإتيان بغتة والدخول
(1/289)
المعنى, ويحتمل
الضرب الثاني بدليل وعلى هذا قال الشافعي رحمه الله وهو
ـــــــ
يمينه ثم يحنث في الحال لعجزه عن إيجاد شرط البر ظاهرا
وذلك كاف للحنث ولا يؤخر الحنث إلى حين الموت لعدم الفائدة
وهذا بخلاف الغموس; لأن تصور البر الذي هو الأصل مستحيل
فيه بمرة فلا ينعقد للخلف وهو الكفارة, ولا يقال: إعادة
الزمان الماضي في قدرة الله تعالى وأيضا وقد فعله لسليمان
عليه السلام فكان ينبغي أن ينعقد يمين الغموس بهذا الطريق
أيضا; لأنا لا نسلم تصور إعادة الزمان الماضي على أنه أخبر
عن فعل قد وجد منه كاذبا فيستحيل فيه الصدق; لأن الله
تعالى وإن أعاد الزمان لا يصير الفعل فيه موجودا من الحالف
بدون أن يفعله فلهذا لم ينعقد الغموس كذا في المبسوط.
قوله: "فصار مشروعا" متعلق بقوله وقد وجد احتمال القدرة,
والضمير المستكن في فصار راجع إلى وجوب الأصل أي فصار وجوب
الأصل وهو الأداء مشروعا بهذا الاحتمال, ثم وجب النقل يعني
إلى خلفه وهو القضاء للعجز الحالي. قوله: "كمن هجم" أي
دخل, وإنما اختار لفظ الهجوم دون الدخول; لأن معناه
الإتيان بغتة والدخول من غير استئذان وإتيان وقت الصلاة
بهذه الصفة, ولأن العجز في هذه الحالة أكثر فإن من دخل
عليه باستئذان ربما يتهيأ لذلك فأما إذا دخل عليه بغتة
فالظاهر أنه لا يمكنه التهيؤ لذلك فهجوم وقت الصلاة على
المسافر مع اشتغاله بتعب السفر وعدم من يعلمه بالوقت من
مؤذن ونحوه يحقق العجز عن استعمال الماء لعدم تهيئته الماء
قبل ذلك ومع ذلك يتوجه عليه خطاب الأصل أي الوضوء وهو قوله
تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6], لاحتمال
حدوث الماء بطريق الكرامة كما هو منقول عن بعض المشايخ ثم
ينتقل بالعجز الظاهري إلى خلفه وهو التراب.
قوله: "والأمر المطلق" أي المطلق عن القرينة الدالة على أن
المأمور به حسن لعينه أو لغيره يتناول الضرب الأول من
القسم الأول. القسم الأول: هو الحسن لعينه وقد تنوع نوعين
ما حسن لعينه حقيقة وما ألحق به حكما فالأمر المطلق يتناول
الضرب الأول دون ما عداه من الأقسام, أو معناه يتناول
الضرب الأول أي النوع الأول وهو الحسن لعينه من القسم
الأول أي من التقسيم الأول وهو قوله المأمور به نوعان في
هذا الباب, ويدل عليه ما ذكر بعده ويحتمل الضرب الثاني أي
ما حسن لغيره نص على هذا في غير واحد من الكتب, وهكذا ذكر
الشيخ في شرح التقويم أيضا فقال, وأما الأمر المطلق في
العبادة فينصرف إلى ما حسن لمعنى في عينه مثل الإيمان
بالله والصلاة إلا بدليل يصرفه إلى غيره. والحاصل أن الأمر
المطلق يثبت به حسن المأمور به لعينه وعند بعض مشايخنا
(1/290)
قول زفر لما
تناول الأمر بعد الزوال يوم الجمعة بالجمعة دل ذلك على صفة
حسنه وعلى أنه هو المشروع دون غيره حتى قالا لا يصح أداء
الظهر من المقيم ما لم تفت الجمعة.
وقالا لما لم يخاطب المريض والعبد والمسافر بالجمعة بل
بالظهر صار الظهر حسنا مشروعا في حقهم فإذا أدوها لم تنتقض
بالجمعة من بعد, وقلنا
ـــــــ
شرعي فالحسن عندهم ما أمر به فيجب أن يكون كل مأمور به
حسنا إلا إذا ثبت بالدليل أنه حسن لغيره وهذا هو الأصح.
قوله: "وعلى هذا" أي على أن الأمر المطلق يقتضي كمال صفة
الحسن للمأمور به قال زفر والشافعي رحمهما الله لما تناول
الأمر بعد الزوال يوم الجمعة الجمعة وهو قوله جل ذكره:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9], دل هذا
الأمر على صفة حسنه أي على كون المأمور به وهو الجمعة حسنا
لعينه, وعلى أنه أي المأمور به هو المشروع في حق من تناوله
الأمر دون غيره حتى لو صلى الصحيح المقيم الظهر في منزله
ولم يشهد الجمعة لا يجزيه إلا إذا أعاد الظهر بعد فراغ
الإمام من الجمعة عند زفر وبعد خروج الوقت عند الشافعي
رحمهما الله وذلك; لأن الإجماع منعقد على أن فرض الوقت
صلاة واحدة وقد ثبت أنها هي الجمعة في حقه إذ هو مأمور
بالسعي إلى الجمعة وترك الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت
الجمعة فيلزم منه انتفاء شرعية الظهر قبل فوات الجمعة
ضرورة إلا أن عند زفر فوت الجمعة بفراغ الإمام; لأنه يشترط
السلطان لإقامة الجمعة وعند الشافعي فوتها بخروج الوقت;
لأن السلطان عنده ليس بشرط كذا في المبسوط.
قوله: "وقالا" أي بناء على هذا الأصل إن المعذور إذا صلى
الظهر يوم الجمعة في بيته ثم أتى الجمعة فصلاها لا ينتقض
به الظهر وهو القياس حتى لو شرع مع الإمام فقبل أن يتم
الإمام الجمعة خرج وقت الظهر لا يلزمه إعادة الظهر, وعندنا
ينتقض الظهر ويلزمه الإعادة وهذا استحسان, وجه قولهما أن
هذا اليوم في حقه كسائر الأيام فيتوجه عليه خطاب الظهر
وصار الظهر حسنا مشروعا في حقه ولهذا صح أداء الظهر منه
بالإجماع من غير إساءة وإذا صح أداؤه في وقته لم ينتقض
بالجمعة كما إذا صلى الظهر في بيته ثم أدرك الجماعة أو كما
إذا صلى الظهر ثم أدى العصر ويلزم مما ذكرنا أنه لو أدى
الجمعة قبل أداء الظهر لا يجوز عندهما كما لو أدى غير
المعذور الظهر لما ذكرنا أن فرض الوقت واحد وقد تعين الظهر
في حقه فاندفع غيره ضرورة وليس كذلك فإن المعذور لو أدى
الجمعة قبل أداء الظهر يجوز عن فرض الوقت بالإجماع كما لو
أدى الظهر, فالأوجه ما
(1/291)
نحن لا خلاف في
هذا الأصل لكن الشأن في معرفة كيفية الأمر بالجمعة وليس
ذلك على نسخ الظهر كما قلتم ألا ترى أن بعد فوات الجمعة
يقضى الظهر ولا يصلح قضاء للجمعة ولا تقضى الجمعة بالإجماع
فثبت أنه عود إلى الأصل.
ـــــــ
ذكره القاضي الإمام في الأسرار وهو أن فرض الوقت واحد
وأجمعنا أن المعذور لم يؤمر بإقامة الجمعة عينا بل له
الخيار بين إقامة الجمعة والظهر, فإذا أدى أحدهما اندفع
الآخر كالمكفر عن اليمين إذا كفر بنوع بطل سائر الأنواع
ولم ترخص نقض ما أدى بالآخر كما إذا صلى الجمعة لم ينتقض
بالظهر.
قوله: "وقلنا نحن لا خلاف في هذا الأصل" يعني في كون الأمر
المطلق مقتضيا لكمال الحسن لكن الكلام في كيفية توجه الأمر
بالجمعة فيقول الفرض الأصلي في هذا اليوم هو الظهر في حق
الكافة; لأن فرض العين ما يخاطب الآحاد بإقامته ترخص شرائط
لا يتمكن الواحد من إقامتها بنفسه فبقي الفرض كما كان
مشروعا. والدليل عليه أنه إذا فاته فرض الوقت أصلا ينوي
قضاء الظهر بعد الوقت فلو لم يكن أصل فرض الوقت الظهر لما
صح نية قضاء الظهر بعد فوات الوقت فثبت أن فرض الوقت هو
الظهر في حق الكل كما في سائر الأيام إلا أن الأمر ورد
بأداء الجمعة في هذا اليوم وليس ذلك على سبيل النسخ للظهر
كما زعم الخصم; لأنه بعد فوات الجمعة وبقاء الوقت يؤدى
الظهر وهو لا يصلح قضاء للجمعة لاختلافهما اسما ومقدارا
وشروطا كيف ولا قضاء للجمعة بالإجماع فعرفنا أن موجب الأمر
ليس نسخ الظهر بل قضيته إقامة الجمعة مقام الظهر بفعلنا
غير أن هذا الأمر حتم في حق غير المعذور وليس كذلك في حق
المعذور بل رخص له أن لا يقيم الجمعة مقام الظهر بفعله
ويأتي بالفرض الأصلي بدليل أن المسلمين أجمعوا أن المسافر
إذا صلى الجمعة قبل الظهر كان ذلك فرض وقته. وكذا المقيم
الصحيح إذا صلى الظهر بعد فوات الجمعة كان فرض وقته وفرض
الوقت ما علق إلا بالوقت فأما الفوت فإنما يتعلق به قضاء
الفائت فتبين بما ذكرنا أن الظهر مشروع في حق الصحيح
المقيم كما أن الجمعة مشروعة في حق المسافر وصار كأن
الشارع جعل الدلوك يوم الجمعة سببا للظهر والجمعة على أن
يختار العبد الجمعة وأنها تقوم مقام الظهر إذا أديت.
ومثاله وقت رمضان علقت شرعية الصوم بالشهر في حق الكل
ويسقط في حق المسافر بعدة من أيام أخر., فإذا ثبت هذا قلنا
إذا صلى المقيم الظهر صح; لأنه فرض وقته ولم ينسخ بالجمعة
كما في حق المعذور; لأنهما سواء في كون الظهر مشروع الوقت
في حقهما وإنما اختلفا في وجوب الفعل وعدمه وعدم الوجوب لا
يمنع الصحة كالمسافر إذا صام الشهر صح كالمقيم وإن اختلفا
في الوجوب; لأنهما اتفقا في أن الشهر سبب شرع
(1/292)
وثبت أن قضية
الأمر أداء الظهر بالجمعة فصار ذلك مقررا لا ناسخا فصح
الأداء وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر بإسقاطه بالجمعة وإنما
وضع عن المعذور أداء الظهر بالجمعة رخصة فلم يبطل به
العزيمة, وإنما قلنا: إن الضرب الثالث من هذا القسم يختص
بالأداء دون القضاء, أما إذا فات الأداء بحال القدرة
ـــــــ
هذا الصوم في حقهما إلا أن الصحيح المقيم يأثم بترك الجمعة
بأداء الظهر; لأنه منهي عن ذلك ولكن لما كان النهي لمعنى
في غير ما أتى به من الفعل لم يوجب فساد الفعل. وأما
المسافر إذا صلى الجمعة بعد الظهر فقد انتقض ظهره أيضا;
لأنه يساوي المقيم في شرعية الجمعة في حقه على ما بينا
وإنما يفارقه في أن ثبت له رخصة الترك وهذه رخصة حقيقية;
لأنها رخصة ترفيه بالإجماع وهي محققة للعزيمة لا نافية لها
فإذا قدم على العزيمة صار معرضا عن الرخصة التي هي حقه
فالتحق بالمقيم والمقيم يفسد ظهره بجمعته كذا هذا كذا في
الأسرار وغيره, وعن محمد رحمه الله أنه قال لا أدري ما أصل
فرض الوقت في هذا اليوم ولكن يسقط الفرض عنه بأداء الظهر
أو الجمعة, يريد به أن أصل الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين
بفعله كذا في المبسوط قوله: "وثبت أن قضية الأمر" يعني
قوله تعالى: {فَاسَعَوْا} [الجمعة: 9]. أداء الظهر بالجمعة
أي إقامتها مقام الظهر بالفعل وإسقاطه عن الذمة بأدائها,
فصار ذلك أي الأمر بالجمعة مقررا للظهر لا ناسخا له بمنزلة
فداء إسماعيل عليه السلام بالكبش حيث وقع الذبح عن إسماعيل
ولهذا سمي ذبيحا, وأمر بنقضه أي الظهر بالجمعة بعدما أدي
كما أمر بإسقاطه بالجمعة قبل الأداء, وذلك; لأن قوله
تعالى: {فَاسَعَوْا} [الجمعة: 9] يتناول من صلى الظهر ومن
لم يصله ولأنه وقع مكروها وسبيله النقض بالإعادة ولا يقال
في الأمر بالنقض إبطال العمل وهو حرام منهي فلا يجوز القول
به; لأن النقض للإكمال جائز ولأنه إبطال ضمني فلا يعتبر.
قوله: "وإنما وضع عن المعذور" جواب عما يقال إن المعذور
رخص له ترك الجمعة فإذا ترخص وأدى الظهر في بيته استوفى
موجب الرخصة فلا يكون أداء الجمعة منه نقضا لما صنع; لأنه
لا يمكنه تبديل الرخصة بعد الاستيفاء وإليه أشار الشيخ في
قوله ولم ينتقض بالجمعة من بعد, فقال العمل بالرخصة لا
يوجب إبطال العزيمة إذا أمكن العمل بها بعد ذلك وقد أمكن
ههنا لبقاء الجمعة بعد أداء الظهر فلو لم يجز جمعته بعدما
حضر وأدى الجمعة لكان عائدا على موضوعه بالنقض; لأن السقوط
كان لدفع الحرج فلو لم يجز كان فيه إثبات حرج لم يثبت في
حق غير المعذور وذلك باطل.
قوله: "يختص بالأداء دون القضاء" حتى إذا قدر في الوقت على
الأداء ثم زالت
(1/293)
بتقصير المخاطب
فقد بقي تحت عهدته وجعل الشرط بمنزلة القائم حكما لتقصيره
وأما إذا فات لا بتقصيره فكذلك; لأن هذه القدرة كانت شرطا
لوجوب الأداء فضلا من الله تعالى فلم يشترط لبقاء الواجب
ولهذا قلنا لا يسقط بالموت في أحكام الآخرة ولهذا قلنا إذا
ملك الزاد والراحلة فلم يحج
ـــــــ
القدرة بعد خروج الوقت كان القضاء واجبا عليه, حكما
لتقصيره; لأن التقصير لا يصلح سببا لإسقاط الواجب عنه;
لأنه جناية وهي لا تصلح سببا للتخفيف, فلم يشرط البقاء
الواجب; لأن بقاء الشيء غير وجوده ولهذا صح إثبات الوجود
ونفي البقاء بأن يقال وجد ولم يبق فلا يلزم أن يكون شرط
الوجود شرط البقاء; لأن ما هو شرط الشيء لا يلزم أن يكون
شرطا لغيره كالشهود في باب النكاح شرط للانعقاد لا للبقاء,
ولا يلزم منه تكليف ما ليس في الوسع; لأنه بقاء التكليف
الأول الذي وجد شرطه لا أنه تكليف ابتدائي فلهذا لم يشترط
فيه القدرة., وهذا إنما يستقيم على قول من أوجب القضاء
بالنص الذي وجب به الأداء فأما من أوجب القضاء بنص مقصود
فلا بد له من أن يشترط القدرة في القضاء أيضا; لأنه تكليف
آخر, والدليل على أن القدرة ليست بشرط في وجوب القضاء أن
في النفس الأخير من العمر يلزمه تدارك ما فاته من الصلوات
والصيامات والحج وغيرها وتيقنا أنه ليس بقادر على تداركها
ولهذا تبقى عليه بعد الموت وليس ذلك كالجزء الأخير من
الوقت في حق الأداء; لأنا اعتبرنا ذلك ليظهر أثره في خلفه
ولا خلف للقضاء فلم يعتبر وقد بقيت الفوائت عليه فعلم أن
القدرة مختصة بالأداء.
ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا فاتته صلوات في الصحة فقضاها
في حالة المرض قاعدا أو مضطجعا أو موميا حيث يخرج عن
العهدة ولو لم يشترط القدرة في القضاء لما خرج عن العهدة;
لأن القيام والركوع والسجود كانت واجبة ولم يأت بها; لأنا
نقول إنه قضاها كما وجب عليه الأداء; لأن الشرط في الأداء
أصل القدرة التي تمكنه من الأداء قائما أو قاعدا لا قدرة
مكيفة فظهر بهذا أن استطاعته على القيام ما كانت شرطا في
الابتداء بل شرطنا ذلك لكونه قادرا على القيام لا أن يكون
القدرة على القيام مشروطة في وجوب الصلاة, ألا ترى أنه لو
كان مريضا في الوقت يلزمه الصلاة على ما يستطيعه فعلم أن
الشرط هو مطلق القدرة لا القدرة المكيفة فيكون اشتراط
القيام والركوع وغيرهما أمرا عارضا زائدا, كذا رأيت في بعض
الشروح ولم يتضح لي هذا الجواب.
وقوله: "ولهذا قلنا" أي ولعدم اشتراطها لبقاء الواجب قلنا
لا يسقط بالموت وإن كان عجزا كليا في أحكام الآخرة فيبقى
تحت عهدته مؤاخذا به فثبت أن دوام القدرة
(1/294)
حتى هلك المال
لم يبطل عنه الحج وكذلك صدقة الفطر لا تسقط بهلاك المال
لما ذكرنا.
ـــــــ
ليس بشرط للبقاء, ولقائل أن يقول أثر عدم السقوط في حق
الإثم دون وجوب الفعل فإن الفعل ساقط عن الميت بالإجماع
وذلك لا يدل على عدم اشتراط بقاء القدرة لبقائه فإن ما ثبت
بالقدرة الميسرة لا يسقط بالموت في حق الإثم أيضا فإنه إذا
فرط في أداء الزكاة بعد التمكن حتى هلك المال يبقى الواجب
في حق الإثم حتى جاز أن يؤاخذ به في الآخرة وإن سقط في
أحكام الدنيا فلا يصح هذا الاستدلال., والحاصل أن بقاء
الوجوب يستغني عن القدرة عند الشيخ وإن كان لا يثبت ابتداء
بدون القدرة ويظهر ثمرته فيما إذا مات قبل أن يقدر ثانيا
أثم لما فيه من الفوت بتأخيره مختارا وإن لم يكن القدرة
قائمة عند الإيجاب ولم يقدر حتى مات لم يؤاخذ به لعدم شرط
الوجوب فإذا قدر على الحج مثلا بملك الزاد والراحلة حال
أمن الطريق وجب عليه الأداء فإن لم يحج ولم يقدر بعد حتى
مات يؤاخذ به في الآخرة وإن لم يكن له قدرة عليه أصلا لم
يؤاخذ به, وهذا الذي ذكرنا إذا لم يكن الفعل حالة البقاء
مطلوبا منه فأما إذا كان مطلوبا منه فلا بد له من القدرة;
لأن طلب الفعل بدون القدرة لا يجوز, ألا ترى أن المنظور
إليه اشتراط القدرة حالة الفعل فيجب الفعل بحسب القدرة في
تلك الحالة فإنه إذا وجبت الصلاة عليه في حالة الصحة قائما
يقضيها في حالة المرض مضطجعا ويخرج به عن العهدة ولو وجبت
عليه في حالة المرض مضطجعا يقضيها في حالة الصحة قائما لا
مضطجعا فلو لم يشترط القدرة حالة البقاء ولم يكن حال
البقاء منظورا إليها في ذلك لكان الجواب على العكس في
المسألتين.
وبعض الحذاق من تلامذة شيخنا كان يقول لا فرق في اشتراط
القدرة بين الأداء والقضاء; لأن الأداء إذا كان مطلوبا
بنفسه يشترط فيه القدرة التي هي سلامة الآلات حقيقة وإن
كان مطلوبا لغيره يشترط فيه نفس التوهم لا غير على ما مر
فكذا القضاء إذا كان الفعل منه مقصودا يشترط فيه القدرة
وإن لم يكن الفعل فيه مقصودا يشترط فيه التوهم أيضا ففي
النفس الأخير إنما يبقى عليه وجوب قضاء الصلوات المتكثرة
والصيامات المتعددة بناء على توهم الامتداد ليظهر أثره في
المؤاخذة كما إن وجوب الأداء يثبت في الجزء الأخير من
الوقت بناء على التوهم ليظهر أثره في القضاء وكان يخرج
الفروع ويقول إنما يبقى الصوم والصلاة في الذمة بعد فوات
القدرة لتوهم حدوث القدرة بعد ذلك لا; لأن القدرة لم تشترط
للبقاء. وكذلك ما ثبت بقدرة ميسرة يبقى بعد فوات القدرة
كالكفارة بالمال تبقى بعد فوات المال بناء على توهم حدوث
القدرة, ألا ترى أنه لو ملك بعد فوات المال وانتقال الحكم
إلى الصوم ما يؤدي به الكفارة يجب عليه الكفارة بالمال ولو
كان
(1/295)
وأما الكامل من
هذا القسم فالقدرة الميسرة وهذه زائدة على الأولى بدرجة
كرامة من الله تعالى وفرق ما بين الأمرين أن القدرة الأولى
للتمكن من الفعل فلم يتغير بها الواجب فبقي شرطا محضا فلم
يشترط دوامها لبقاء الواجب وهذه لما كانت ميسرة غيرت صفة
الواجب فجعلته سمحا سهلا لينا فيشترط
ـــــــ
بقاء القدرة شرطا لبقائه ينبغي أن لا يجب الكفارة بالمال
بعد سقوطها بفوات المال كما لو كفر بالصوم ثم ملك المال
وإنما يسقط الزكاة بهلاك المال لتعين المحل حتى لو سرق مال
الزكاة أو صار ضمارا سقط عنه الزكاة لفوات القدرة ولو وجده
بعد سنين لا تجب عليه زكاة السنين الماضية ولكنه يجب عليه
أداء الزكاة التي كانت عليه وكذا العشر والخراج; لأن كل
واحد متعلق بنماء متعين فبهلاكه لم يبق التوهم وكان يقول
لا أجد فرقا بين الصلاة ووجوب الكفارة في أنه تعتبر القدرة
عند الفعل ويكفي قبله التوهم. ويدل على اشتراط القدرة في
القضاء ما مر في باب الأداء والقضاء أن الأداء إنما يفوت
مضمونا إذا كان قادرا على المثل حتى لو عجز عن المثل سقط
كما في سقوط فضل الوقت وغصب المنافع وإتلاف ملك النكاح فلو
لم يكن القدرة شرطا في القضاء لما سقط بالعجز إلا أن ما
وجب بالقدرة الممكنة يبقى بعد فوات تلك القدرة لتوهم
القدرة بعد ذلك فإن تحقق التوهم وجب الفعل وإلا ظهر أثره
في المؤاخذة في الدار الآخرة. وذكر في الأسرار في مسألة
التفريط أن الأصل أن القدرة المشروطة لابتداء وجوب الأداء
يشترط لبقاء وجود الأداء; لأنها شرط الأداء فإن الله تعالى
ما كلف أداء ما ليس في القدرة وأسقط بالحرج كثيرا من حقوقه
والأداء حقيقته وقت الفعل فيشترط قيام تلك القدرة المشروطة
للأداء وقت الفعل أيضا, ألا ترى أنا نشترط القدرة على
التوضؤ بالماء حين المباشرة وقيام القدرة على أداء الصلاة
قائما حين الأداء لا حين الوجوب؟
قوله: "وأما الكامل من هذا القسم" أي من الشرط الذي بينا
أن الواجب يتوقف عليه ويزداد حسنا باشتراطه القدرة
الميسرة, وهذه زائدة على الأولى وهي الممكنة بدرجة; لأن
بها يثبت الإمكان ثم اليسر, وإنما شرطت هذه القدرة في أكثر
الواجبات المالية ولم يشترط في البدنية; لأن أداءها أشق
على النفس من العبادات البدنية; لأن المال شقيق الروح
محبوب النفس في حق العامة والمفارقة عن المحبوب بالاختيار
أمر شاق إليه أشار أبو اليسر, وفرق ما بين الأمرين أي
القدرتين أن الأولى لما شرطت للتمكن من الفعل لم يتغير بها
صفة الواجب إذ لا يمكن إثباته بدونها فكانت شرطا محضا ليس
فيها معنى العلة بوجه والشرط المحض لا يشترط دوامه لبقاء
المشروط كالطهارة شرط لجواز الصلاة ولا يشترط دوامها لبقاء
الجواز وكالشهود في باب النكاح كما ذكرنا, وهذه أي القدرة
الميسرة,
(1/296)
بقاء هذه
القدرة لبقاء الواجب لا لمعنى أنها شرط لكن لمعنى تبدل صفة
الواجب بها فإذا انقطعت هذه القدرة بطل ذلك الوصف فيبطل
الحق; لأنه غير مشروع بدون ذلك الوصف ولهذا قلنا الزكاة
تسقط بهلاك النصاب لأن الشرع علق الوجوب بقدرة ميسرة ألا
ترى أن القدرة على الأداء تحصل بمال مطلق.
ـــــــ
غيرت صفة الواجب صفة لموصوف دل عليه ميسرة. وقوله شرط جواب
لما وفي بعض النسخ فشرط بالفاء فعلى هذا يكون غيرت جواب
لما, وقوله فجعلته تفسيرا للتغيير, وقوله سمحا سهلا لينا
ألفاظ مترادفة, والتقدير وهذه القدرة لما كانت قدرة ميسرة
مغيرة صفة الواجب من مجرد الإمكان إلى صفة السهولة شرط
بقاؤها لبقاء الواجب., وليس معنى التغيير أنه كان واجبا
أولا بقدرة ممكنة بصفة العسر ثم تغير باشتراط هذه القدرة
إلى وصف اليسر بل معناه أنه لو كان واجبا بقدرة ممكنة لكان
جائزا فلما توقف الوجوب على هذه القدرة دون الممكنة صار
كأن الواجب تغير من العسر إلى اليسر بواسطتها فكانت مغيرة
وصارت شرطا في معنى العلة فيشترط دوامها باعتبار معنى
العلة لا باعتبار أنها شرط, ولا يقال بقاء الحكم يستغني عن
بقاء العلة أيضا كاستغناء المشروط عن بقاء الشرط فيجب أن
لا يشترط دوامها أيضا; لأنا نقول ذلك إذا أمكن البقاء بدون
العلة كالرمل في الحج فأما إذا لم يكن فبقاء العلة شرط
وههنا مما لا يمكن; لأن اليسر لا يبقى بدونها والواجب لا
يبقى بدون هذا الوصف, لمعنى تبدل صفة الواجب أي من العسر
إلى اليسر, ذلك الوصف أي اليسر, فيبطل الحق أي الواجب;
لأنه متى وجب بصفة لا تبقى إلا بتلك الصفة.
قوله: "ولهذا" أي ولاشتراط بقاء هذه القدرة لبقاء الواجب
الذي تعلق بها قلنا الزكاة تسقط بهلاك المال عندنا وكذا
العشر والخراج; لأن الشرع علق وجوبه أي وجوب هذا الواجب
بقدرة ميسرة, وقال الشافعي رحمه الله إذا تمكن من الأداء
ولم يؤد ضمن; لأن الوجوب تقرر عليه بالتمكن من الأداء ثم
بهلاك المال عجز عن الأداء لعدم ما يؤدي به ومن تقرر عليه
الوجوب لم يبرأ بالعجز عن الأداء فبقي عليه إلى الآخرة كما
في ديون العباد وصدقة الفطر والحج, ولأن الواجب جزء من
النصاب فلما لم يؤد حتى ذهب المال بعد تمكنه منه صار مفوتا
للحق عن محله فيضمن كمن لم يصل حتى ذهب الوقت, ولنا أن
الحق المستحق إذا وجب بوصف لا يبقى إلا كذلك; لأن الباقي
عين الواجب ابتداء لا غيره كالملك إذا ثبت مبيعا يبقى كذلك
وإن ثبت هبة تبقى كذلك وكذلك ما في الذمة من صوم أو صلاة
أو مال وهذا الواجب وجب بعد نماء المال حقيقة أو تقديرا
فلو بقي بعد هلاك ذلك المال الذي هو نماء لا تقلب غرامة
يأتي على أصل ماله.
(1/297)
ثم شرط النماء
في المال ليكون المؤدى جزءا منه فيكون في غاية التيسير فلو
قلنا ببقاء الواجب بدون النصاب لانقلب غرامة محضة فيتبدل
الواجب فلذلك سقط بهلاك المال ولا يلزم أن النصاب شرط
لابتداء الوجوب ولا يشترط لبقائه
ـــــــ
"فإن قيل" الباقي عندي غير الواجب ابتداء بل هو مثله ضمنه
بالتفويت عن وقته وهو أول أوقات الإمكان كتفويت الصلاة
والصوم عن الوقت أو بالمنع عن الفقير بعد تعين مقدار
الواجب محلا للصرف إلى الفقير كمنع الرهن عن المرتهن.
"قلنا" الزكاة ليست بموقتة فلا يتصور تفويتها عن الوقت
وكذا المنع لا يوجب الضمان إلا بتحقق يد الغاصب على المال
بأن أبطل على صاحب الحق حقه من ملك كما في منع الوديعة عن
المالك أو يد متقومة كما في منع الرهن عن المرتهن ولا تصور
ليد الغاصب فيما نحن فيه على المال; لأنه حق صاحب المال
ملكا ويدا وإنما حق الفقير في أن تعين محلا للصرف إليه
وبالمنع لا تبطل تلك المحلية فلا يوجب الضمان كمنع المشتري
الدار عن الشفيع حتى صار بحرا ومنع المولى العبد المديون
عن البيع أو العبد الجاني عن أولياء الجناية من غير اختيار
الأرش حتى هلك لا يوجب الضمان ولا على ما في ذمته من فعل
التسليم; لأن الغصب لا يتصور على ما في الذمة, ولأنه
بالمنع إنما يضمن إذا لم يكن عن ولاية وله ولاية المنع ما
دام يتحرى من هو أولى كالإمام حتى قال العراقيون من
مشايخنا إذا طلب الساعي فامتنع من الأداء إليه حتى هلك
المال ضمن وهكذا ذكره الكرخي في مختصره; لأن الساعي متعين
للأخذ فيلزمه الأداء عند طلبه فبالامتناع يصير مفوتا.
ومشايخنا يقولون لا يصير ضامنا, وكذا ذكره أبو سهل الزجاجي
وأبو طاهر الدباس1 وهو الأصح; لأنه ما فوت بهذا الحبس على
أحد ملكا ولا يدا وله رأي في اختيار محل الأداء إن شاء من
السائمة وإن شاء من غيرها فإنما حبس السائمة ليؤدي من محل
آخر فلا يضمن كذا في الأسرار والمبسوط.
قوله: "علق وجوبه" أي وجوب هذا الجواب وهو الزكاة بقدرة
ميسرة بدليلين, أحدهما أن المكنة الأصلية تحصل بملك الخمسة
مثلا ومع ذلك لم يوجبها الشرع إلا بعد ملك المائتين ليكون
الواجب قليلا من كثير, والثاني أن الوجوب تعلق بوصف النماء
لئلا ينتقض به أصل المال وإنما يفوت به بعض النماء غير أن
الشرع أقام المدة في النصاب المعد للنمو مقام حقيقته
تيسيرا لما في التعليق بحقيقة النمو ضرب حرج فعرفنا أنها
ـــــــ
1 هو محمد بن محمد بن سفيان أبو طاهر الدباس كان إمام أهل
الرأي بالعراق وكان من أهل السنة والجماعة.
(1/298)
فإن كل جزء من
الباقي يبقى بقسطه; لأن شرط النصاب لا يغير صفة الواجب ألا
ترى أن تيسير أداء الخمسة من المائتين وتيسير أداء الدرهم
من الأربعين سواء لا يختلف; لأنه ربع عشر بكل حال لكن
الغناء وصف لا بد منه ليصير الموصوف به أهلا للإغناء إذ
الإغناء من غير الغنى لا يتحقق كالتمليك من غير
ـــــــ
متعلقة بقدرة ميسرة, وإلى الوجه الثاني أشير في الكتاب وهو
المعتمد, بمال مطلق أي عن صفة النماء, فيتبدل الواجب أي من
اليسر إلى العسر فكان غير الأول فلا يثبت إلا بسبب آخر
كصلاة المقيم لا يتغير إلى الركعتين إلا بمغير وهو السفر
وكذا على العكس. قوله: "ولا يلزم" جواب السؤال وهو أن
يقال: إن اشتراط النصاب في الابتداء للتيسير كاشتراط
النماء; لأن المكنة الأصلية تثبت بدونه كما ذكرنا فوجب أن
يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب كما شرط لابتدائه ولو ملك بعض
النصاب في الابتداء لا يجب به شيء من الزكاة فكذلك يجب أن
لا يبقى ببقاء البعض شيء من الواجب وقد قلتم بخلافه, فقال
لا نسلم أن اليسر في اشتراط النصاب بل اليسر في إيجاب
القليل من الكثير وذلك ثابت فيما بقي من المال فإنه لم يجب
عليه إلا أداء ربع عشر الباقي وهذا; لأن اليسر في الابتداء
كان بإيجاب ربع العشر في كل جزء من النصاب ولم يكن يزداد
يسر ما تعلق بجزء بانضمام جزء آخر إليه; لأنه تعلق به ربع
العشر أيضا كما تعلق بذلك الجزء فكما لم يزدد اليسر
بانضمام جزء آخر إليه لا ينتقض أيضا بهلاكه إلا أن كمال
النصاب شرط في الابتداء ليصير أهلا للوجوب فإن أهل الوجوب
هو الغني والشرع أكد هذا الشرط في باب الزكاة فاعتبر
الغناء بالمال الذي جعل سببا لوجوب الزكاة لا بمال آخر ولا
يحصل الغناء به لولا مال آخر إلا إذا كان نصابا كاملا
فيشترط النصاب ليصير به غنيا أهلا للوجوب والغناء لا يثبت
بمطلق المال بل يثبت بكثرة المال وذلك أمر لا يضبط
لاختلافه بالأشخاص والأزمان والأماكن فتولى الشارع تقديره
بذاته فكان النصاب شرطا لثبوت الأهلية لا لثبوت اليسر بل
اليسر فيما دون النصاب أكثر منه في النصاب; لأن إيتاء درهم
من أربعين درهما أيسر على رب المال من إيتاء خمسة من مائتي
درهم كما أن إيتاء خمسة من المائتين أيسر من إيتاء ألف
درهم من أربعين ألفا, وإذا ثبت أنه شرط الوجوب لا شرط
اليسر لم يشترط بقاؤه لبقاء الوجوب فيما بقي من المال.
قوله: "ولكن الغناء وصف" جواب سؤال آخر يرد على هذا الجواب
وهو أنه لما لم يحصل به اليسر وجب أن لا يشترط في الابتداء
أيضا; لأن الزكاة لا يجب إلا بقدرة ميسرة فقال الغناء وصف
لا بد منه إلى آخره.
قوله: "الإغناء من غير الغنى لا يتحقق". "فإن قيل" الإغناء
الواجب تمليك ما
(1/299)
المالك والغنى
بكثرة المال وليس للكثرة حد تعرف به وأحوال الناس فيه شتى
فقدر الشرع بحد واحد فصار ذلك شرطا للوجوب لما كان أمرا
زائدا على الأهلية الأصلية وشرط الوجوب لا يشترط دوامه إذ
الوجوب في واجب واحد لا يتكرر
ـــــــ
يدفع حاجة الفقير دون الإغناء الشرعي وتحققه لا يتوقف على
ملك النصاب فكيف يصح قوله والإغناء من غير الغنى لا يتحقق.
"قلنا" المراد به نفي صفة الحسن عن الإغناء أي الإغناء
بصفة الحسن من غير الغنى لا يتحقق فلم يكن مأمورا به شرعا;
لأنها وجبت لدفع حاجة الفقير لا لإحواج المؤدي, ويؤيده ما
ذكر القاضي الإمام في التقويم ولما شرعت أي صدقة الفطر
للأغنياء عن الفقير لم يكن الفقير أهلا لوجوبها فتصير
مشروعة لإحواجه فهذا يشير إلى أن حسن الإغناء المأمور به
متعلق بالغناء الشرعي دون أصله, ونص عليه شمس الأئمة أيضا
فقال: وإنما يتحقق الإغناء بصفة الحسن من الغنى وإذا كان
كذلك لم يكن حسنا عند عدم ما تعلق به حسنه فلم يجز أن يكون
مأمورا به شرعا.
"فإن قيل" حسن الإغناء لا يتوقف على الغناء الشرعي أيضا
فإن الله تعالى مدح أقواما على الإيثار مع مساس حاجتهم إلى
ما آتوا بقوله جل ذكره: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] "قلنا" بناء
الأحكام على الأمور الغالبة والغالب من حال البشر عدم
الصبر على الشدة وإظهار الجذع والضجر عند إصابة المكروه
قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً} [المعارج: 19, 21] فقلنا لم يحسن الإغناء من غير
الغنى لئلا يؤدي إلى الأمر المذموم, فأما من اختص بتوفيق
من ربه وأوتي قوة في دينه حتى آثر مراد غيره على مراده
وصبر على الشدائد والمكاره فحسن الإغناء منه لا يتوقف على
الغنى الشرعي بل هو أحسن من الإغناء الصادر عن الغنى قال
عليه السلام: "أفضل الصدقة جهد المقل" 1, إلا أن هذا لما
كان نادرا لم يصلح لبناء الحكم فبني على الأول.
قوله: "لما كان أمرا زائدا على الأهلية الأصلية" يعني لما
ثبت أن اشتراط النصاب لثبوت الأهلية وأصل الأهلية ثابت
بالعقل والبلوغ كان هذا أمرا زائدا على تلك الأهلية في هذه
العبادة حتى صارت أهلية هذه العبادة بالعقل والبلوغ وملك
النصاب كما أن القدرة الممكنة من الفعل في الصلاة أمر زائد
على الأهلية الأصلية وإذا كان كذلك كان اشتراطه للوجوب لا
للتيسير كاشتراط الأهلية الأصلية واشتراط القدرة في الصلاة
فلم يشترط دوامه إلى آخره.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الوتر حديث رقم 1449 والإمام أحمد في
المسند 3/412.
(1/300)
فأما قيام
المال بصفة النماء فميسر للأداء فتغير به صفة الواجب
فشرطنا دوامه.
وهذا بخلاف استهلاك النصاب فإنه لا يسقط الحق وقد صار
غرما; لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق فيصير
المستهلك متعديا على صاحب الحق فعد قائما في حق صاحب الحق
فصار الواجب على هذا التقدير غير متبدل, ولهذا قلنا: إن
الموسر إذا حنث في اليمين ثم أعسر وذهب ماله أنه
ـــــــ
ولا يقال لما كان النصاب شرط الأهلية لا شرط اليسر ينبغي
أن لا يسقط الزكاة بهلاكه; لأنا نقول سقوط الزكاة لفوات
النماء الذي تعلق اليسر به لا لفوات النصاب, ألا ترى أنه
إذا هلك بعضه يبقى بقسطه الباقي ولو كان النصاب شرط اليسر
لسقطت الزكاة بفوات جزء من النصاب لانتفاء الكل بفوات
جزئه.
قوله: "وهذا" أي هلاك النصاب يخالف استهلاكه بأن أنفقه رب
المال في حاجة نفسه أو أتلفه مجانة بأن ألقاه في البحر
مثلا فإنه لا يسقط الحق وإن فات النماء والملك كما في
الهلاك; لأن النصاب صار في حق الواجب حقا لصاحب الحق وهو
الفقير, بيانه أن النصاب وإن كان في ملك رب المال وفي يده
حتى جاز بيعه وسائر تصرفاته فيه عندنا ولكنه في حق الواجب
صار حقا للفقير من حيث إنه صار رصدا لقضاء حقه منه إذ
الواجب جزء من النصاب لا مطلق المال في الذمة بدليل أنه لو
وهب النصاب من الفقير لا ينوي الزكاة أجزأه عن الزكاة, ولو
وهب مالا آخر له لم يجزه عنها, وكذلك لو هلك المال قبل
التمكن من الأداء لا يجب عليه شيء ولو كان الواجب مالا
مطلقا في الذمة لكان هلاك النصاب وبقاؤه سواء. وإذا ثبت أن
الحق متعلق بالعين كان المستهلك جانيا على محل الحق
بالإتلاف فيجعل المحل قائما زجرا عليه ونظرا لصاحب الحق إذ
لو لم يجعل قائما أدى إلى فوات الحق; لأن كل من وجب عليه
الزكاة يصرف مال الزكاة إلى حاجته فلا يصل الفقير إلى حقه
وإذا جعل قائما تقديرا يبقى الواجب ببقائه كما يثبت ابتداء
بالنماء تقديرا, وهذا كالمولى إذا أعتق العبد الجاني أو
قتله من غير أن يعلم بالجناية يضمن القيمة لأولياء
الجناية; لأنه جنى على حقهم بإتلاف محله ولو فرط في تسليم
العبد حتى هلك لا يضمن شيئا; لأن التفريط لا يصلح سببا
للضمان فكذا هذا, ولأنه خوطب بأداء العين إلى الفقير فإذا
أقدم على الاستهلاك فقد قصد إسقاط الحق الواجب عن نفسه فلا
يقدر عليه فيجعل العين كالقائم ردا لقصده, فإذا هلك بآفة
سماوية فلا صنع من جهته فجاز أن يسقط الواجب.
ونظيره الصائم إذا سافر لم يحل له الفطر; لأن الصوم واجب
عليه فلم يسقط باختياره
(1/301)
يكفر بالصوم;
لأن الوجوب متعلق بالقدرة الميسرة الدليل عليه أن الشرع
خيره عند قيام القدرة بالمال والتخيير تيسير
ـــــــ
وقصده ولو مرض أبيح له; لأنه آفة سماوية فكذلك ههنا, ولأن
السعي لا يأخذ ذلك الواجب بل يأخذ واجبا آخر بسببه; لأن
سبب الوجوب قد تحقق وهو الاستهلاك وسبب الوجوب إذا تحقق
أمكن تحقيق الوجوب, ولأن القدرة الميسرة شرط لبقاء الواجب
نظرا لمن يجب عليه والمفوت لها لا يستحق النظر كذا في
الأسرار وطريقة الإمام البرغري وغيرهما.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولاشتراط بقاء القدرة الميسرة لبقاء
الواجب الذي تعلق بها قلنا كذا, والتخيير تيسير; لأنه إذا
ثبت له الخيار شرعا ترفق بما هو الأيسر عليه كالمسافر إذا
خير بين الصوم والفطر ولو لم يكن مخيرا وكان الواجب شيئا
عينا بدون اختياره كان أشق عليه كالمقيم وجب عليه الصوم
عينا, ولا يلزم عليه صدقة الفطر قد خير فيها بين نصف صاع
من بر وبين صاع من شعير أو تمر أو غير ذلك ولم يفد التخيير
التيسير حتى قلتم إنها واجبة بقدرة ممكنة; لأنا نقول ذلك
ليس بتخيير معنى فلا يفيد التيسير, وتحقيقه أن المقصود من
التخيير قد يكون تأكيدا لواجب وقد يكون تيسيرا لأمر على
المكلف., فنظير الأول قوله تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء:
66], أي لا بد أن يصدر واحد منهما منكم, وقولك لولدك حين
غضبت عليه إما أن تقرأ الليلة ربع القرآن أو تقرأ الكتاب
الفلاني أو تكتب كذا جزء من العلم ثم تنام وإلا لأنتقمن
منك فالمقصود منه تأكيد ما أوجبت عليه من السهر في التعب
لا التيسير عليه ومعناه لا بد لك من أن تفعل أحد هذه
الأشياء ألبتة وأن لا يفوت عنك السهر لا محالة, ونظير
الثاني قولك لغلامك اشتر بهذا الدرهم لحما أو خبزا أو
فاكهة فالمقصود منه التيسير ومعناه اختر منها ما تيسر عليك
ثم يعرف المقصود في التخييرات الشرعية بكون تلك الأشياء
التي خير المكلف فيها متماثلة في المعنى وغير متماثلة فيه;
لأنها إذا كانت متماثلة في المعنى فالتخيير يقتصر على
الصورة ولا عبرة بالصور فيفيد تأكيد الواجب وإن كانت
مخالفة في المعاني غير متماثلة فيها كما في الصور "فح"
يتعدى أثر التخيير إلى المعنى فيفيد التيسر لا محالة,
فصدقة الفطر من القبيل الأول; لأن الواجب فيها مقدار مالية
نصف صاع من بر وقيمة صاع من شعير أو تمر تساويه عندهم وكذا
المقصود دفع حاجة الفقير في هذا اليوم والكل فيه سواء فلا
يفيد التخيير التيسير قصدا بل يفيد التأكيد ويصير معناه لا
بد من أن يقع الأداء لا محالة إما بنصف صاع من بر أو غير
ذلك مما يماثله في المالية., وكفارة اليمين من القبيل
الثاني; لأن مالية تلك الأشياء مختلفة اختلافا ظاهرا
(1/302)
ولأنه نقل إلى
الصوم لقيام العجز عند أداء الصوم مع توهم القدرة فيما
يستقبل, ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال وهو العدم
في العمر كله لكنه اعتبر العدم الحالي, ألا ترى أنه قال:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وتقدير
العجز بالعمر يبطل أداء الصوم فعلم أنه أراد به العجز
الحالي وكذلك في طعام
ـــــــ
فالتخيير فيها يقع على الصورة والمعنى فيفيد التيسير.
واعلم أن ما ذكر أن التخيير يفيد التيسير إنما يستقيم على
قول عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين فإنهم قالوا بأن الأمر
بأحد الأشياء يوجب واحدا منها غير عين وأن المأمور مخير في
تعيين واحد منها فعلا فأما على قول المعتزلة فلا يستقيم;
لأنهم قالوا بأن الكل واجب على طريق البدل بمنزلة فرض
الكفاية فإنه واجب على الكل ويسقط بأداء البعض ولما كان
الكل واجبا لا يفيد التخيير التيسير والمسألة طويلة مذكورة
في عامة الكتب.
قوله: "ولأنه نقل" دليل آخر على أنها متعلقة بقدرة ميسرة,
وذلك; لأنه لما نقل إلى الصوم بالعجز الحالي مع توهم
القدرة فيما بعد ولم يعتبر العجز المستدام في العمر كما
اعتبر في سائر الأفعال مثل قوله إن لم آت البصرة فعبدي حر
أو قوله إن لم أطلقك فأنت طالق أو إن لم أكلم فلانا فعلي
كذا وكما اعتبر في حق الشيخ الفاني حتى لو قدر بعد الفدية
لا تجزيه تلك الفدية دل على تيسير الأمر على المكلف حيث لم
يشترط أصل المكنة مع احتمال حدوثها في العمر ليبرأ عنهما
بالصوم ولا يبقى تحت عهدة الوجوب إلى حدوث القدرة, ثم
استدل على أن المعتبر العجز الحالي. بقوله تعالى: {فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89],
فإنه تعالى لما نقل الحكم إلى الصوم عند العجز ولو اعتبر
العجز المستدام في العمر ولا يثبت ذلك إلا بآخر العمر لا
يتحقق منه أداء الصوم علم أن المراد العجز الحالي.
وذكر في المبسوط ولو كان له مال غائب وهو لا يجد ما يكفر
به أجزأه الصوم; لأن المانع قدرته على التكفير بالمال وذلك
لا يحصل بالملك بدون اليد إلا أن يكون في ماله الغائب عبد
"فح" لا يجزيه التكفير بالصوم; لأنه متمكن من التكفير
بالعتق, فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد فلما لم
يشترط الانتظار إلى وصول المال فلأن لا يشترط الانتظار إلى
حصوله أولى, وكذلك في طعام الظهار يعني كما أن المعتبر
العجز الحالي فيما ذكرنا فكذلك هو المعتبر في جميع
الكفارات في نقل الحكم عن واجب إلى ما بعده مثل كفارة
الظهار والصوم والقتل فيعتبر في جميعها العجز الحالي في
نقل الحكم عن الرقبة إلى الصوم. وكذلك في النقل عن الصوم
إلى الإطعام في كفارة الظهار والصوم حتى لو مرض
(1/303)
الظهار وسائر
الكفارات فثبت أن القدرة ميسرة فكانت من قبيل الزكاة إلا
أن المال ههنا غير عين فأي مال أصابه من بعد دامت به
القدرة ولهذا ساوى الاستهلاك الهلاك ههنا; لأن الحق لما
كان مطلقا عن الوقت ولم يكن متعينا لم يكن الاستهلاك تعديا
وصارت هذه القدرة على هذا التقدير نظير استطاعة
ـــــــ
أياما فكفر بالإطعام جاز وإن قدر على الصوم بعد فثبت أن
القدرة المشروطة فيها ميسرة فكانت أي الكفارات من قبيل
الزكاة, وإنما خص الطعام بالذكر مع أن الحكم في الصوم
كذلك; لأنه آخر ما ينقل إليه في كفارة الظهار كالصوم في
كفارة اليمين. ولما ذكر الشيخ رحمه الله أن الكفارة من
قبيل الزكاة وقد فارقتها, في أن الواجب فيها يعود بعد هلاك
المال بإصابة مال آخر قبل الأداء ولا يعود في الزكاة وهذا
يدل على أنها دون الزكاة, وفي أن الواجب بالاستهلاك فيها
ينتقل إلى الصوم كما ينتقل بالهلاك وفي الزكاة خالف
الاستهلاك الهلاك كما قررنا وهذا يشير إلى أنها فوق الزكاة
تعرض للجواب عن الأول بقوله: إلا أن المال ههنا غير عين
يعني الواجب غير متعلق بهذا المال قبل الأداء والقدرة
الميسرة تثبت بملك المال ولا تختص بمال دون آخر; لأن المال
إنما اعتبر ههنا لكونه صالحا للتقرب به إلى الله تعالى
فيحصل به الثواب ليصير مقابلا بالأثم الذي عليه ولهذا لم
يشترط فيه النماء فكان المال الموجود وقت الحنث والمستفاد
بعده فيه سواء بخلاف الزكاة; لأنها متعلقة بالعين فلا تبقى
القدرة بهلاك العين على ما مر من بعد أي من بعد الحنث أو
من بعد الهلاك, دامت أي ثبتت. وعن الثاني بقوله ولهذا أي
ولكون المال غير عين ساوى الاستهلاك الهلاك في الكفارات
حتى إن من وجب عليه التكفير بالمال إذا أتلف ماله جاز له
التكفير بالصوم كما إذا هلك بغير صنع منه بخلاف الزكاة حيث
فارق الاستهلاك الهلاك كما ذكرنا.
وذلك; لأن بقاء الواجب بعد فوات القدرة إنما يكون بكونه
موقتا كالصلاة فإنها لما شرعت موقتة كان التأخير عن الوقت
جناية على نفس الحق بالتفويت أو بالتعدي على محل الواجب
بأن كان متعلقا بمحل عين كالزكاة وههنا الواجب لما لم يكن
موقتا ليعد تفويته عن الوقت جناية ولم يكن المال متعينا
أيضا ليصير استهلاكه تعديا كان الاستهلاك كالهلاك ضرورة
إليه أشير في طريقة الإمام البرغري رحمه الله.
قوله: "وصارت هذه القدرة" أي القدرة المالية في الكفارة,
على هذا التقدير أي على تقدير أنها تدوم بأي مال أصابه
نطير الاستطاعة التي لا تسبق الفعل من حيث إن وجودها يعتبر
حالة الأداء لا قبله ولا بعده كالاستطاعة لا يتقدم الفعل
ولا يتأخر عنه حتى
(1/304)
الفعل التي لا
تسبق الفعل ولهذا قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين; لأنه ينافي
الغناء واليسر ولا يلزم أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة وهو
ينافي اليسر لأنه قال في كتاب الأيمان رجل له ألف درهم
وعليه دين أكثر من ألف فكفر بالصوم بعد ما يقضي دينه بماله
قال يجزئه ولم يذكر أنه إذا لم يصرف إلى
ـــــــ
لو كان موسرا وقت الحنث معسرا وقت الأداء يجزيه التكفير
بالصوم ولو كان على العكس لا يجزيه. قوله: "ولهذا قلنا" أي
ولما ذكرنا أن الزكاة تجب بقدرة ميسرة وأن من شرط وجوبها
الغناء قلنا بطل وجوب الزكاة بالدين أي بالدين الذي اقترن
بوجوب الزكاة لكن إذا لحقه دين بعد وجوب الزكاة فذلك لا
يسقط الزكاة كذا في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين رحمه
الله; لأن ما عرف مانعا لا يلزم أن يكون رافعا; لأنه أي;
لأن الدين ينافي الغنى واليسر; لأن الغنى إنما يحصل بما
يفضل عن حاجته وهذا المال مشغول بالحاجة الأصلية إذ الحاجة
إلى قضاء الدين أصلية فلا يحصل الغناء بملك قدر الدين
ولهذا حل له أخذ الصدقة وهي لا تحل للغني, وكذلك اليسر
فيما إذا كان للمؤدي فضل مال غير مشغول بحاجته ونعني
بمشغولية المال بالحاجة أنه متعين لقضاء الدين; لأن تفريغ
الذمة عن الدين واجب ولا يحصل ذلك إلا بهذا المال فكان
كالمصروف إلى الدين كالماء المعد للعطش, وإنما أورد هذه
المسألة في هذا الموضع ليبتني عليها المسألة التي تليها
ويبين الفرق بينهما.
قوله: "لأنه قال" أي; لأن محمدا والإضمار من غير ذكر جائز
عند الشهرة وعدم الاشتباه كقوله تعالى: {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] والمذكور
في أصول شمس الأئمة; لأن المذكور في كتاب الأيمان قوله:
"ولم يذكر" أي محمد أنه إذا كفر بالصوم قبل صرف الألف إلى
الدين ما جوابه, واختلف المشايخ المتأخرون فيه فمنهم من
قال يجزيه وهو الأصح لما أشار إليه في الكتاب في قوله: ألا
ترى أن الصدقة تحل لهذا وفي هذا التعليل لا فرق بين ما قبل
قضاء الدين وبعده وهذا; لأن المال الذي في يده مستحق بدينه
فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا كان معه
ماء وهو يخالف العطش يجوز له التيمم; لأن الماء مستحق
بعطشه فيجعل كالمعدوم في حق التيمم.
وقال بعضهم لا يجزيه استدلالا بالتقييد الذي ذكره بقوله
بعدما يقضي دينه, والتقييد في الرواية يدل على انتفاء ما
عداه وعلى هذا يحتاج إلى الفرق. والحاصل أن في الكتاب ما
يدل على القولين فالتعليل بقوله: إن الصدقة تحل له, يدل
على أن الصوم يجزيه في الحالين والتقييد يدل على أنه لا
يجزيه قبل قضاء الدين فلهذا اختلفوا.
(1/305)
دينه ما جوابه
فقال بعض مشايخنا يجزئه التكفير بالصوم لما قلنا من فوات
صفة اليسر به فيجعل المال كالمعدوم, وقال بعضهم: بل يجب
بالمال ولا يجزئه الصوم بخلاف الزكاة, والفرق أن الزكاة
وجبت بصفة اليسر وبشرط القدرة ولمعنى الإغناء بقول النبي
صلى الله عليه وسلم أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم
ـــــــ
قوله: "وجبت بصفة اليسر"; لأن مبنى الزكاة في الشرع على
اليسر والسهولة ولهذا وجب القليل من الكثير ووجبت في
النماء لا في أصل المال تيسيرا على أرباب الأموال ولهذا
شرط لتكرار الواجب تكرار الحول كذا في أصول الفقه لبعض
المشايخ, وشرط القدرة يعني قدرة توجب هذا اليسر, ولمعنى
الإغناء بقوله عليه السلام: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا
اليوم" نص على معنى الإغناء, وهذا الحديث ورد في صدقة
الفطر فإن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر الناس أن يؤدوا صدقة الفطر قبل أن
يخرجوا إلى المصلى, وقال: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا
اليوم" 1 ولكن الحكم يثبت في الزكاة بطريق الدلالة; لأن
الإغناء لما وجب في صدقة الفطر لسد خلة الفقير مع قصور صفة
الغناء فيها لقصور النصاب فلأن يجب في الزكاة لهذا المعنى
مع كمال صفة الغناء فيها كان أولى. وقوله عليه السلام في
مثل هذا اليوم متعلق بالإغناء لا بالمسألة يعني أغنوهم في
مثل هذا اليوم عن المسألة, ثم قيل المثل زائد كما في قوله
تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11], والصواب
أنه ليس كذلك وفائدته تعميم الحكم إذ لو لم يذكر لاقتصر
الحكم على ذلك اليوم المعين, وإنما أدخل اللام في قوله
ولمعنى الإغناء; لأن الزكاة والكفارة في صفة اليسر وشرط
القدرة تشتركان فأما معنى الإغناء فمختص بالزكاة فلهذا
أفرده باللام.
قوله ولقوله عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" 2 ذكر
في مجازات الآثار النبوية أن هذا القول مجاز; لأن المراد
بذلك أن المصدق إنما يجب عليه الصدقة إذا كانت له قوة من
غنى والظهر ههنا كناية عن القوة فكان المال للغنى بمنزلة
الظهر الذي عليه اعتماده وإليه استناده ولذلك يقال فلان
ظهر لفلان إذا كان يتقوى به ويلجأ في الحوادث إليه, وذكر
في المغرب وأما لا صدقة إلا عن ظهر غنى أي صادرة عن غنى
فالظهر فيه مقحم كما في ظهر القلب وظهر الغيب, ووجه التمسك
به أنه عليه السلام شرط الغناء
ـــــــ
1 ذكره الزيلي في نصب الراية 2/432.
2 أخرجه مسلم في الزكاة حديث رقم 1034 الإمام أحمد في
المسند 2/230 وأبو داود في الزكاة برقم 1676.
(1/306)
وبقوله: "لا
صدقة إلا عن ظهر غنى" فهذا الإغناء وجب عبادة شكرا لنعمة
الغنى فشرط الكمال في سببه ليستحق شكره فيكون الواجب شطرا
من الكامل, والدين يسقط الكمال ولا يعدم أصله.
ولهذا حلت له الصدقة فلم يجب عليه الإغناء ولهذا لا يتأدى
الزكاة إلا
ـــــــ
لوجوب الصدقة; لأن المراد من قوله لا صدقة ليس نفي الوجود
إذ هي توجد وتصح بدون الغناء فيحمل على نفي الوجوب; لأن
الوجوب أشد مناسبة للوجود من غيره وليس اشتراطه لثبوت
اليسر في الواجب; لأنه لا يحصل به بل لثبوت الأهلية على ما
مر ولا احتياج لثبوت الأهلية إليه إلا أن يكون المقصود
غناء الفقير فتبين بهذا أنها وجبت لمعنى الإغناء, ولما ثبت
أنها وجبت لمعنى إغناء الفقير إنما يجب شكرا لنعمة الغناء;
لأن المال نعمة عظيمة به تعلق بقاء الأبدان وبه نيط مقاصد
الدنيا والآخرة وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" 1, فوجب أن لا
يخلو عن شكر يجب لله تعالى على سبيل العبادة كنعمة البدن
ولم يجب في المال عبادة محضة سوى الزكاة فتعينت لشكر نعمة
المال.
ثم الشكر يستدعي سببا كاملا ليؤثر في إيجاب الشكر من كل
وجه; إذ لو لم يكن كاملا كان ملحقا بالعدم من وجه والعدم
لا يؤثر فيمتنع وجوب الشكر من ذلك الوجه, والدين يسقط
الكمال أي عن الغنى قال شمس الأئمة: وحاجته إلى قضاء الدين
بالمال تعدم تمام الغنى بملكه; لأنه يوجب استحقاق المال
عليه والمستحق بجهة كالمصروف إلى تلك الجهة بمنزلة الماء
المعد للعطش, ولا يعدم أصله أي أصل الغنى; لأن المال باق
على ملكه ولهذا جازت تصرفاته فيه ولما زال وصف الكمال عنه
لم يجب به الإغناء; لأنه متعلق بالغنى الكامل وقد عدم.
قوله: "شطرا من الكامل" أي بعضا منه وشطر الشيء نصفه إلا
أنه يستعمل في البعض توسعا, ومنه قوله عليه السلام في
الحائض: "تقعد شطر عمرها", سمى البعض شطرا توسعا في الكلام
واستكثارا للقليل ومثله في التوسع: "تعلموا الفرائض
وعلموها الناس فإنها نصف العلم" , كذا في المغرب.
قوله: "ولهذا حلت" أي ولانتفاء الغنى بانتفاء الكمال عنه
حلت للمديون الصدقة أي الزكاة وهي لا تحل لغني إذا لم يكن
عاملا وابن السبيل.
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/197.
(1/307)
بعين متقومة.
وأما الكفارة فلا تستغني عن شرط القدرة وعن قيام صفة اليسر
في تلك القدرة; لأنها لم تشرع للإغناء, ألا ترى أنها شرعت
ساترة أو زاجرة لا أمرا أصليا للفقير إغناء, وألا ترى أنه
يتأدى بالتحرير وبالصوم ولا إغناء فيهما لكن المقصود به
نيل الثواب ليقابل بموجب الجناية وما يقع به كفاية الفقير
في باب الكفارة يصلح سببا للثواب ولذلك يتأدى بالإباحة ولا
إغناء يحصل بها فإذا لم يكن الإغناء مقصودا لم يشترط صفة
الغنى في المخاطب بها بل القدرة واليسر بها شرط وذلك لا
ينعدم بالدين ويتبين أنها لم تجب شكرا للغنى بل
ـــــــ
قوله: "ولهذا لا يتأدى الزكاة" أي ولأن الزكاة وجبت لمعنى
الإغناء لا يتأدى إلا بعين متقومة أي بتمليك عين متقومة
حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة لا يجزيه; لأن
المنفعة ليست بعين متقومة, وكذا لو أباحه طعاما بنية
الزكاة فأكله الفقير لا يجزيه عن الزكاة; لأنه أكل مال
الغير وبه لا يحصل الغنى, قال أبو اليسر الزكاة شرعت
لإغناء الفقير لقوله عليه السلام: "أغنوهم" والواجب فيها
هو الإغناء الكامل وهو تمليك مال محترم متقوم بلا نقصان في
نفسه والإغناء الكامل لا يجب إلا على الغني الكامل كما في
التمليك بغير عوض لا يحصل إلا من المالك.
قوله: "ساترة أو زاجرة" أي ساترة بعد الجناية زاجرة قبلها
وذلك; لأن الكفارة تضمنت معنى العبادة والعقوبة فباعتبار
معنى العبادة هي ساترة للذنب أي ماحية له قال الله تعالى:
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]
وقال عليه السلام: "أتبع السيئة الحسنة تمحها" 1 أو هي
ساترة لمرتكب الذنب; لأنه لما مزق لباس تقواه بارتكابه حتى
صار عريانا سترته الكفارة وصارت ترقيعا لما مزق, وباعتبار
معنى العقوبة هي زاجرة كسائر العقوبات.
قوله: "ولذلك" أي ولأنها لم تشرع للإغناء تتأدى بالإباحة,
في المخاطب بها أي في كونه مخاطبا بأداء الكفارة, بل شرطت
القدرة واليسر بها أي شرطت القدرة الميسرة., وفي بعض النسخ
بل القدرة واليسر بها أي تعلقت أو وجبت بالقدرة الميسرة,
وذلك بالدين أي اليسر لا يفوت به بل تيسير الأداء قائم
بملك المال مع قيام الدين عليه; لأن اليسر فيها ثبت
بالتخيير أو اعتبار العجز الحالي كما ذكرنا وذلك لا يفوت
بالدين, والانعدام وإن كان من الألفاظ المحدثة فإن أهل
اللغة لم يجوزوا عدمته فانعدم; لأن عدمته
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة برقم 1987 والإمام أحمد في
المسند 5/129.
(1/308)
جزاء للفعل فلم
يشترط كمال صفة الغنى إنما شرط أدنى ما يصلح لطلب الثواب
وأصل المال كاف لذلك وعلى هذا الأصل يخرج سقوط العشر بهلاك
الخارج; لأنه وجب بشرط القدرة الميسرة; لأن القدرة على
أداء العشر يستغني عن قيام تسعة الأعشار, لكنه شرط ذلك
لليسر ولم يجب إلا بأرض نامية بالخارج فشرط قيامه لبقاء
صفة اليسر وكذلك الخراج يسقط إذا اصطلم الزرع آفة; لأنه
إنما وجب بصفة اليسر, ألا ترى أنه لا يجب إلا بسلامة
الخارج إلا أنه بطريق التقدير بالتمكن لكون الواجب من غير
جنس الخارج وبدليل أن الخارج إذا قل
ـــــــ
بمعنى لم أجده وحقيقته تعود إلى قولك فات وليس له مطاوع
فكذا لعدمت إذ ليس فيه إحداث فعل, وذكر في المفصل ولا يقع
يعني انفعل إلا حيث يكون علاج وتأثير, ولهذا كان قولهم
انعدم خطأ إلا أنه لما شاع استعماله في الكتب صار استعماله
أولى من غيره; لأنه أقرب إلى الفهم, ولهذا قيل الخطأ
المستعمل أولى من الصواب النادر.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن بقاء القدرة الميسرة شرط
لبقاء ما تعلق بها يخرج مسألة العشر, يستغنى عن قيام تسعة
الأعشار يعني القدرة على أداء ما هو عشر من الجملة لا
تفتقر إلى تسعة الأعشار بالنظر إلى ذاته وإن افتقرت إليها
من حيث هو عشر كما أن الجزء لا يفتقر إلى الكل نظرا إلى
ذاته فأما من حيث هو جزء فلا يستغنى عنه, بأرض نامية
بالخارج أي بالنماء الحقيقي. قوله: "وكذلك الخراج يسقط" أي
كما أن العشر يسقط بهلاك الخارج فكذا الخراج يسقط, إذا
اصطلم الزرع أي استأصله آفة; لأنه متعلق بنماء الأرض
كالعشر حتى لو كانت الأرض سبخة لا يجب عليه شيء, وكذا لو
لم يسلم الخارج لرب الأرض بأن زرعها ولم تخرج شيئا أو غرقت
الأرض ثم نضب عنها الماء في وقت لا يقدر على زراعتها قبل
مضي السنة لا يجب عليه الخراج فعرفنا أنه متعلق بقدرة
ميسرة إلا أن النماء التقديري بأن كان متمكنا من الزراعة
في وقتها كاف للوجوب; لأنه أمكن اعتبار النماء التقديري في
الخراج لكون الواجب من خلاف جنس الخارج فلا يجعل تقصيره
عذرا في إبطال حق الغزاة ويجعل النماء موجودا حكما لتقصيره
حيث عطلها مع التمكن كما يجعل موجودا بعد حولان الحول في
مال الزكاة بخلاف العشر; لأنه اسم إضافي فلا يمكن إيجابه
إلا في النماء الحقيقي وبخلاف ما إذا أصاب الزرع آفة; لأنه
لم يقصر حيث لم يعطلها إلا أنه أصيب فلا يغرم شيئا كي لا
يؤدي إلى استيصاله حتى لو كان بعد الاصطلام مدة يمكن فيها
استغلال الأرض إلى آخر السنة لا يسقط الخراج أيضا كذا سمعت
من شيخي قدس الله روحه., قال شمس الأئمة رحمه الله ومما
حمد من سير الأكاسرة أنهم إذا أصاب زرع بعض الرعية آفة
غرموا له ما أنفق في الزراعة من بيت مالهم
(1/309)
حط الخراج إلى
نصف الخارج ولما كان كذلك سقط بهلاك الخارج حتى لا ينقلب
غرما محضا وهذا مخالف للحج فإنه إذا وجب بملك الزاد
والراحلة لم يسقط بفوتهما; لأنه وجب بشرط القدرة دون
اليسر, ألا ترى أن الزاد والراحلة أدنى ما يقطع به السفر
ولا يقع اليسر إلا بخدم ومراكب وأعوان وليس بشرط بالإجماع
فلذلك لم يكن شرطا لدوام الواجب وكذلك لا يسقط صدقة الفطر
ـــــــ
وقالوا التاجر شريك في الخسران كما هو شريك في الربح فإن
لم يعطه الإمام شيئا فلا أقل من أن لا يغرمه الخراج.
قوله: "وبدليل" عطف على قوله ألا ترى أنه لا يجب من حيث
المعنى, وتقديره بدليل أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج
وبدليل كذا, حط إلى نصف الخارج يعني الخراج كله وإنما يجب
إذا لم يكن أكثر من نصف الخارج فإذا كان أكثر من النصف حط
إلى نصف الخارج ليسلم له النصف على كل حال, والتنصيف عين
الأنصاف فلو كان الخارج مثلا يساوي دينارا والواجب دينار
أن يجب نصف دينار.
قوله: "وهذا" أي جميع ما ذكرنا من الزكاة والعشر والخراج
مخالف للحج الذي قاسها الشافعي عليه فإنه إذا وجب بملك
الزاد والراحلة لم يسقط بفوتهما; لأنها أي عبادة الحج وجبت
بشرط القدرة دون صفة اليسر فإنه تعالى شرط فيه نفس
الاستطاعة بقوله عز اسمه: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً} [آل عمران: 97], ولا يتحقق إلا بالزاد والراحلة
عادة فكان ملكهما أدنى ما يقطع به هذا السفر, فكان أي ملك
الزاد والراحلة شرط الوجوب لا شرط اليسر فلا يشترط دوامه
لبقاء الواجب, وذكر في الأسرار الحج لا يجب إلا بملك الزاد
والراحلة ويبقى بدونه; لأنه شرط الوجوب; لأن أداء الحج
بالوقوف والطواف ولا يتيسر بالزاد والراحلة, وإنما يتيسر
بهما السفر وما لا يثبت به قدرة الأداء ولا التيسير لا
يشترط للأداء فعلم أنه شرط الوجوب رحمة علينا.
قوله: "وكذلك" أي وكما أن الحج لا يسقط بعد الوجوب بفوات
الزاد والراحلة لا يسقط صدقة الفطر بهلاك الرأس الذي هو
السبب بأن كان له عبد وجب عليه صدقة الفطر بسببه فهلك,
وذهاب المال الذي هو الشرط وإن لم تجب ابتداء بدونهما; لأن
اشتراط الغناء للوجوب لا لتيسير الأداء لما ذكرنا أن
الصدقة لا يستقيم إيجابها إلا على غنى كما لا يستقيم إلا
على مؤمن; لأنها ما شرعت إلا لإغناء الفقير خصوصا هذه
الصدقة لقوله عليه السلام: "أغنوهم", فلو كان الفقير أهلا
لوجوبها عليه لصارت مشروعة لإحواجه, وذلك لا يجوز. وبيانه
أنه إذا ملك ما يتمكن به من إغناء الفقير عن المسألة به
متمكنا من الإغناء فلو
(1/310)
بهلاك الرأس
وذهاب الغنى; لأنها لم تجب بصفة اليسر بل بشرط القدرة
وقيام صفة الأهلية بالغنى, ألا ترى أنها وجبت بسبب رأس
الحر ولا يقع به الغنى ووجد الغنى بثياب البذلة ولا يقع
بها اليسر; لأنها ليست بنامية فلم
ـــــــ
اعتبر هذا الغناء وأمر بالإغناء لعاد على موضوعه بالنقض;
لأنه ح يصير محتاجا إلى المسألة وهذا لا يجوز; لأن دفع
حاجة نفسه لئلا يحتاج إلى المسألة أولى من دفع حاجة الغير
ألا ترى أنه لو كان له طعام أو شراب يحتاج إليه وغيره أيضا
يحتاج إليه كان الصرف إلى نفسه أولى بل واجبا إن خاف
الهلاك عليها ولهذا شرط الشافعي رحمه الله أن يملك من وجبت
عليه صاعا فاضلا من قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته
إلا أن عندنا ما دون النصاب له حكم العدم في الشرع حتى حل
لمالكه الصدقة فشرطنا النصاب ليثبت حكم الوجود شرعا فيتحقق
الإغناء, وما ذكر في بعض الشروح في جواب ما يقال المراد من
الإغناء المذكور في الحديث الإغناء عن المسألة لا الإغناء
الشرعي فلا يكون الغناء الشرعي شرطا لأهليته به إنه ثبت
بالدليل أن المراد من الإغناء كفاية الفقير بقرينة قوله عن
المسألة فبقي الغناء المشروط في جانب المؤدي مطلقا فينصرف
إلى ما هو المتعارف في الشرع ضعيف جدا; لأن اشتراط الغناء
في المؤدي ما ثبت نصا وإنما ثبت ضرورة وجوب الإغناء فإذا
تبين أن المراد منه ليس الغناء الشرعي فأنى يثبت اشتراطه
في المؤدى به فكان ما ذكرناه أولا أولى.
قوله: "بثياب البذلة والمهنة" البذلة بالكسرة ما يبتذل من
الثياب والمهنة بالفتح الخدمة, وحكى أبو زيد1 والكسائي
المهنة بالكسر وأنكره الأصمعي2 كذا في الصحاح, وفي المغرب
المهنة بفتح الميم وكسرها الخدمة والابتذال فعلى هذا يكون
البذلة والمهنة ترادفا, وقيل: أراد بثياب البذلة ثياب
الجمال التي تلبس في الأعياد والمواسم وبالمهنة التي تلبس
في غيرها, فإذا ملك من ثياب البذلة والمهنة ما يساوي نصابا
فاضلا عن حاجته الأصلية يجب عليه صدقة الفطر وبهذا النوع
من المال يحصل أصل التمكن والغناء فأما صفة اليسر فمتعلقة
بالمال النامي ليكون الأداء من فضل المال وذلك ليس بشرط
ههنا ألا ترى أنه لا يشترط حولان الحول المحقق للنماء بل
إذا ملك نصابا ليلة
ـــــــ
1 هو أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس الأنصاري
البصري 119 – 215 هـ انظر تاريخ بغداد 9/77 – 80.
2 هو عبد الملك بن قريب الباهلي المعروف بالأصمعي توفي سنة
216 انظر شذرات الذهب 2/36 – 37.
(1/311)
يكن البقاء
مفتقرا إلى دوام شرط الوجوب ولا يلزم أنها لا تجب عند قيام
الدين وقت الوجوب; لأن الدين يعدم الغناء الذي هو شرط
الوجوب وبه يقع أهلية الإغناء بخلاف الدين على العبد فإنه
لا يمنع; لأنه لا يمنع قيام الغنى بمال آخر يفضل عن حاجته
بالغا مائتي درهم وبخلاف زكاة التجارة فإنها تسقط بدين
العبد الذي هو للتجارة; لأن الزكاة تقتضي صفة الغنى الكامل
بعين النصاب لا بغيره والله أعلم هذا الذي ذكرنا هو في
تقسيم صفة حكم الأمر وصفة المأمور به في
ـــــــ
الفطر تلزمه صدقة الفطر فعرفنا أن الغناء شرط التمكن لا
شرط اليسر فلا يشترط دوامه لبقاء الواجب كذا ذكر شمس
الأئمة والإمام البرغري في كتابيهما.
قوله ولا يلزم أي على قولنا صدقة الفطر لم يجب بصفة اليسر
أن الدين القائم وقت الوجوب يمنع عن وجوبها كما في الزكاة,
ولو لم تكن واجبة بصفة اليسر لم يكن الدين مانعا من
الوجوب; لأن الأداء مع الدين ممكن ألا ترى أنه لا يمنع
وجوب الكفارة مع أنها تجب بقدرة ميسرة فلأن لا يمنع فيما
تجب بقدرة ممكنة كان أولى; لأنا نقول الدين إنما يمنع;
لأنه يعدم الغناء كما قررناه في فصل الزكاة والغناء من
شروط الأهلية فعدمه يخل بها فيمتنع الوجوب لا محالة.
قوله: "بخلاف الدين على العبد" إذا كان على العبد الذي هو
للخدمة دين بأن أذن له مولاه في التجارة فعلقت رقبته به
ومولاه موسر فعليه أن يؤدي عنه صدقة الفطر; لأن صفة الغناء
ثابتة له بما يملك من مال آخر سوى هذا العبد ومالية من
يؤدي عنه غير معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب
الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة; لأنه شغله
بنوع من خدمته بخلاف ما إذا كان الدين على المولى; لأنه
ينفي غناه ولا صدقة إلا على الغنى, ثم فرق بين دين العبد
في صدقة الفطر وبينه في الزكاة حيث يمنع دينه في الزكاة
ولا يمنع في صدقة الفطر فقال بخلاف زكاة التجارة إلى آخره,
وبيان الفرق أن المعتبر في الزكاة الغناء بذلك المال الذي
يجب فيه الزكاة حتى لو هلك ذلك المال سقطت الزكاة وإن كان
غنيا بمال آخر ودين العبد يمنع الغناء بماليته, فأما
المعتبر في صدقة الفطر فمطلق الغنى بأي مال كان ودين العبد
لا يمنع الغناء بمال آخر فافترقا.
قوله: "هذا الذي ذكرنا" أي ما ذكرنا من باب الأداء والقضاء
إلى ههنا, تقسيم في صفة حكم الأمر وهو ما مر في باب الأداء
والقضاء, وتقسيم في صفة المأمور به في نفسه وهو ما ذكر في
هذا الباب من تقسيم الحسن, فأما ما يكون صفة للمأمور به
قائمة بغيره أي بغير المأمور به وهو الوقت إذ المأمور به
قد يوصف بأنه موقت كما يوصف بأنه حسن,
(1/312)
نفسه فأما ما
يكون صفة قائمة بغيره وهو الوقت فلا بد من ترتيبه على
الدرجة الأولى وهذا.
ـــــــ
فلا بد من ترتيبه أي تقسيمه, على الدرجة الأولى وهو
الأداء; لأنه هو المفتقر إلى الوقت المحدود في بعض الأوامر
لا القضاء الذي هو الدرجة الثانية فإنه غير موقت, وقيل
معناه أن المأمور به في الدرجة الأولى أي القسمة الأولى
انقسم إلى نوعين أداء وقضاء وإلى حسن لعينه ولغيره ثم كل
واحد إلى أنواع فكذا في حكم الوقت ينقسم إلى موقت وغير
موقت ثم إلى ما يكون ظرفا ومعيارا ومشكلا فهذا الانقسام
والترتيب كالدرجة الأولى كما ترى إليه أشار الإمام المحقق
العلامة بدر الملة والدين رحمه الله, وقال الشيخ الإمام
أستاذ الأئمة حميد الملة والدين رحمه الله معناه أن
المأمور به في الدرجة الأولى مرتب على الأداء والقضاء وذا
ترتيب في نفسه وههنا انقسم إلى موقت وغير موقت وهذا
الترتيب في غيره والموقت ينقسم إلى وقت الأداء ووقت القضاء
لقوله عليه السلام: "فإن ذلك وقتها" , قلت ويؤيد هذا الوجه
ما ذكر الشيخ في شرح التقويم ثم هذا الذي ذكرنا من حكم
الأمر من الأداء والقضاء على نوعين موقت وغير موقت فغير
الموقت نوع واحد. وأما الموقت فهو أنواع, فصار الحاصل أن
المأمور به انقسم إلى أداء وقضاء وكلاهما انقسم إلى موقت
وغير موقت ونعني به أن مجموع أقسام الأداء والقضاء لا يخرج
عن كونها موقتة وغير موقتة فبعض أقسام الأداء موقت وبعضها
مع جميع أنواع القضاء غير موقت والله أعلم.
(1/313)
|