كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب تقسيم
المأمور به في حكم الوقت".
العبادات نوعان: مطلقة ومؤقتة, أما المطلقة فنوع واحد وأما
المؤقتة فأنواع نوع جعل الوقت ظرفا للمؤدى وشرطا للأداء
وسببا للوجوب وهو وقت الصلاة, ألا ترى أنه يفضل عن الأداء
فكان ظرفا لا معيارا والأداء يفوت بفواته
ـــــــ
باب تقسيم المأمور به في حكم
الوقت
قوله: "مطلقة" أي غير متعلقة بوقت, وموقتة أي متعلقة بوقت
والمراد به الوقت المحدود الذي اختص جواز أدائها به حتى لو
فات صار قضاء أما أصل الوقت فلا بد للمأمور به منه; لأن
الواجب بالأمر فعل لا محالة ولا بد له من وقت; لأنه لا
يوجد بدونه ولهذا قال مطلقة ولم يقل غير موقتة كما قال
غيره.
قوله: "ظرفا للمؤدى وشرطا للأداء" "فإن قيل" قد يستفاد
الشرطية من الظرفية; لأن الظروف محال والمحال شروط على ما
عرف فإنه فائدة في قوله شرطا للأداء, قلنا: المراد من
المؤدى الركعات التي تحصل في الوقت ومن الأداء إخراجها من
العدم إلى الوجود فكانا غيرين واعتبر هذا بالزكاة فإن
أداءها تسليم الدراهم مثلا إلى الفقير والمؤدى نفس تلك
الدراهم التي حصلت في يده, وإذا كان كذلك لا يستفاد من
ظرفية المؤدى شرطية الأداء إذ لا يلزم من كون الشيء شرط
الشيء أن يكون شرطا لغيره, على أنا لا نسلم أنه يلزم من
كون الشيء المعين ظرفا لشيء أن يكون شرطا لوجوده كالوعاء
ظرف لما فيه وليس بشرط له; لأنه يوجد بدون هذا الظرف, ثم
الغرض من إيراد هذه الجمل الثلاث بيان ما وقع به الاشتراك
والامتياز لوقت الصلاة والصوم فامتاز وقت الصلاة عن وقت
الصوم بكونه ظرفا واشتركا في كون كل واحد منهما شرطا
للأداء وسببا للوجوب فيكون في قوله وشرطا للأداء فائدة
عظيمة.
قوله: "ألا ترى أنه يفضل عن الأداء" يعني إذا اكتفى في
الأداء على القدر المفروض يفضل الوقت عن الأداء ولو أطال
ركنا منه مضى الوقت قبل تمام الأداء, وكذا يجوز الأداء في
أي جزء شاء من أجزاء الوقت ولو كان معيارا لما جاز فثبت
أنه ظرف لا معيار, وتفسير.
(1/314)
فكان شرطا
والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت ويفسد التعجيل قبله فكان
سببا وهذا القسم أربعة أنواع نوع منها ما يضاف إلى الجزء
الأول والثاني ما
ـــــــ
الظرف ههنا أن يكون الفعل واقعا فيه ولا يكون مقدرا به
وتفسير المعيار أن يكون الفعل المأمور به واقعا فيه ومقدرا
به فيزداد وينتقص بازدياد الوقت وانتقاصه كالكيل في
المكيلات فكان قوله ظرفا محضا احترازا عن المعيار فإنه ظرف
ولكنه ليس بمحض ولهذا أكده بقوله لا معيارا.
قوله: "فكان شرطا"; لأن فعل الصلاة لا يختلف بالإتيان به
في الوقت وخارج الوقت من حيث الصورة والمعنى فعلم أن
التفاوت إنما وقع باعتبار الوقت حتى سمي أحدهما أداء
والآخر قضاء.
قوله: "والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت" فإن الأداء في
الوقت الصحيح كامل وفي الوقت الناقص ناقص وإن وجد جميع
شرائطه وتغيره بتغير الوقت علامة كون الوقت سببا له كالبيع
لما كان سببا للملك تغير الملك بتغيره حتى لو كان البيع
صحيحا كان الملك صحيحا ولو كان فاسدا كان الملك فاسدا حتى
ظهر أثره في حل الوطء وثبوت الشفعة وغيرهما على ما عرف في
فروع الفقه.
ولا يقال يجوز أن يكون اختلاف صفة الأداء باختلاف صفة
الوقت لكونه ظرفا لا لكونه سببا كما في صوم يوم النحر كيف
والوقت ليس بسبب للأداء بل السبب فيه الخطاب فلا يصح هذا
الاستدلال; لأنا نقول الأصل هو اختلاف الحكم باختلاف السبب
فيحمل عليه ما لم يقم دليل يصرفه عنه, ولأن المراد من
اختلاف الأداء اختلاف الواجب في الذمة فإنه يجب كاملا
وناقصا بكمال الوقت ونقصانه, ووجوب الأداء وإن كان بالخطاب
ولكنه ليس إلا تسليم ذلك الواجب الذي ثبت بالسبب في الذمة
فيختلف أيضا باختلاف الواجب فتبين أن الاستدلال صحيح.
قوله: "ويفسد التعجيل قبله" دليل آخر على سببية الوقت, ولا
يقال لا يصلح هذا دليلا على السببية; لأن التعجيل كما لا
يجوز قبل السبب لا يجوز قبل الشرط أيضا كالصلاة قبل
الطهارات; لأنا نقول ذلك إذا لم يوجد قرينة ترجح أحد
الجانبين وقد وجد ههنا ما يدل على أن الفساد لعدم السبب
وهو الدليل السابق وهو تغير الأداء بتغير الوقت إذ المشروط
لا يختلف باختلاف صفة الشرط فتعين أن الفساد لعدم السبب لا
لعدم الشرط فصلح دليلا على السببية, وهذا كالمشترك لا يصلح
دليلا على أحد مفهوميه عينا من غير قرينة فإذا انضمت إليه
قرينة ترجيح أحد مفهوميه صلح دليلا عليه.
(1/315)
يضاف إلى ما
يلي ابتداء الشروع من سائر أجزاء الوقت ونوع آخر ما يضاف
إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده, والنوع الرابع ما
يضاف إلى جملة الوقت ودلالة كون الوقت سببا نذكره في موضعه
إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
قوله: "وهذا القسم" أي الوقت الذي هو ظرف بالنظر إلى كونه
سببا أربعة أنواع فكان هذا في الحقيقة تقسيما لسببيته لا
لنفسه ما يضاف أي سببية تضاف إلى الجزء الأول أي فيما إذا
أدى في أول الوقت, إلى ما يلي ابتداء الشروع أي فيما إذا
لم يؤد في أول الوقت, ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق
الوقت وفساده أي فيما إذا أخر العصر إلى وقت الاحمرار.
وقوله وفساده تفسير لضيق الوقت وإنما فسره به; لأنه ربما
يظن أن الجزء الأخير من وقت كل صلاة ناقص ففسره بقوله:
"وفساده" دفعا لهذا الوهم, ما يضاف إلى جملة الوقت أي فيما
إذا فات الأداء في الوقت, ودلالة كون الوقت سببا يعني ما
ذكرنا هو علامة سببية الوقت فأما الدليل على سببيته فمذكور
في موضعه وهو باب بيان أسباب الشرائع.
قوله: "والأصل في أنواع القسم الأول" أي القسم الذي هو ظرف
وأراد بالأنواع الثلاثة الأولى دون النوع الأخير; لأنا لا
نحتاج فيه إلى جعل الجزء سببا; لأن ذلك أي جعل كل الوقت
سببا يوجب تأخير الأداء عن وقته أو تقديمه على سببه; لأنه
لا بد من رعاية معنى السببية ومعنى الظرفية فلو روعي فيه
معنى السببية يلزم منه تأخير الأداء عن الوقت وفيه إبطال
معنى الظرفية والشرطية المنصوص عليهما بقوله تعالى: {إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَوْقُوتاً} [النساء: 103], ولو روعي معنى الظرفية يلزم
منه تقديم الحكم على سببه وهو ممتنع بدلالة العقل وإذا لم
يمكن أن يجعل كل الوقت سببا ولا بد من اعتبار معنى السببية
وجب أن يجعل البعض سببا ضرورة.
ولا يقال لا يجب ذلك; لأنه أمكن أن يجعل مطلق الوقت سببا
والمطلق مغاير للكل والبعض; لأنا نقول لا يمكن ذلك; لأن في
الإطلاق يدخل الكل والبعض فيلزم حينئذ أن يصح جعل الكل
سببا من حيث هو مطلق الوقت وقد بينا أن ذلك لا يجوز فتبين
أنه لا بد من تقييده بالبعض, ولأنه لا بد من تعيين السبب
ولا يمكن ذلك في مطلق الوقت, ثم لما لزم أن يكون البعض
سببا لزم أن يكون سابقا على الأداء ليقع الأداء بعده.
ولما لم يكن بعد الكل جزء مقدر أي مقدار معلوم يمكن ترجيحه
على سائر الأجزاء مثل الربع والخمس والعشر ونحوها لعدم
الدليل عليه وفساد الترجيح بلا مرجح وجب الاقتصار على
الأدنى وهو الجزء الذي لا يتجزأ من الزمان إذ هو مراد بكل
حال ولا دليل على الزائد عليه فتعين للسببية ولهذا لو أدى
بعد مضي جزء من الوقت جاز.
(1/316)
والقسم الثاني
من المؤقتة ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وذلك مثل
شهر رمضان.
والقسم الثالث ما جعل الوقت معيارا له ولم يجعل سببا مثل
أوقات صيام الكفارة والنذور والأصل في أنواع القسم الأول
من المؤقتة أن الوقت لما جعل سببا لوجوبها وظرفا لأدائها
لم يستقم أن يكون كل الوقت سببا; لأن ذلك يوجب تأخير
الأداء عن وقته أو تقديمه على سببه فوجب أن يجعل بعضه سببا
وهو ما يسبق الأداء حتى يقع الأداء بعد سببه وليس بعد الكل
جزء مقدر فوجب الاقتصار على الأدنى "وهو" ولهذا قالوا في
الكافر إذا أدرك الجزء الأخير بعدما أسلم لزمه فرض الوقت,
وقد قال محمد رحمه الله في نوادر الصلاة في مسألة الحائض
إذا طهرت وأيامها عشرة إن الصلاة تلزمها إذا أدركت شيئا من
الوقت قليلا كان ذلك أو كثيرا وإذا ثبت هذا كان الجزء
السابق أولى أن يجعل سببا لعدم ما يزاحمه, وبدليل أن
الأداء بعد الجزء الأول صحيح ولولا أنه سبب لما صح ولما
صار الجزء الأول سببا أفاد الوجوب بنفسه وأفاد صحة الأداء
لكنه لم يوجب
ـــــــ
قوله: "ولهذا" أي ولكون السببية مقتصرة على الجزء الأدنى
قالوا أي أصحابنا الثلاثة والشافعي وأصحابه رحمهم الله إن
الكافر إذا أسلم وقد بقي جزء واحد من الوقت لزمه فرض الوقت
أي قضاؤه لوجود السبب حال صيرورته أهلا للوجوب, وقد قال
محمد في نوادر الصلاة أراد به النوادر التي رواها أبو
سليمان1 عنه فذكر فيها امرأة أيام أقرائها عشرة فانقطع
الدم عنها وعليها من الوقت شيء قليل أو كثير فعليها قضاء
تلك الصلاة وإنما خص محمدا رحمه الله بالذكر وإن كان قولهم
جميعا باعتبار التصنيف, وهذا النوع من الاستدلال إنما يكون
لإثبات المذهب أو لبيان تأثير الأصل ولا يكون لإثبات
الأصل; لأنه لا يستقيم إثبات الأصل بالفرع وما ذكر ههنا من
القسم الأول.
قوله: "وإذا ثبت هذا" أي وجوب الاقتصار على الجزء الأدنى
بما ذكرنا من الدليل, كان الجزء السابق أولى بالسببية أي
حال وجوده لعدم ما يزاحمه إذ المعدوم لا يعارض الموجود.
قوله: "أفاد الوجوب بنفسه" أي أفاد الجزء الأول الوجوب
بنفسه من غير أن يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليه أو من غير
أن يتوقف عن الاستطاعة; لأن السبب لما وجد في
ـــــــ
1 هو موسى بن سليمان أبو الجوزجاني فقيه حنفي توفي سنة 200
هـ تاريخ بغداد 13/36 – 37.
(1/317)
الأداء للحال;
لأن الوجوب جبر من الله تعالى بلا اختيار من العبد ثم ليس
من ضرورة الوجوب تعجيل الأداء بل الأداء متراخ إلى الطلب
كثمن المبيع ومهر النكاح يجبان بالعقد, ووجوب الأداء يتأخر
إلى المطالبة وهو الخطاب فأما
ـــــــ
حق الأهل ولم يوجد مانع ظهر تأثيره لا محالة, ويجوز أن
يكون الباء زائدة والضمير راجعا إلى الوجوب أي أفاد نفس
الوجوب ويؤيده ما ذكر في بعض النسخ أفاد الوجوب نفسه,
والمراد منه أن يثبت معنى في الذمة يفيد صحة الأداء ولا
يأثم بتركه قبل الطلب, قال صدر الإسلام أبو اليسر: نفس
الوجوب اشتغال الذمة بالواجب كالصبي إذا أتلف مال إنسان
يشتغل ذمته بوجوب القيمة ولا يجب عليه الأداء بل يجب على
وليه وكذا القصاص يجب على القاتل ولا يجب عليه أداء الواجب
وهو القصاص وإنما يجب عليه تسليم النفس إذا طلب من له
القصاص بتسليم النفس لاستيفاء القصاص, ثم قال الوجوب أمر
حكمي والأمر الحكمي يعرف بالحكم وحكمه أنه إذا أدى ما في
ذمته يقع واجبا.
قوله: "وأفاد صحة الأداء"; لأن الوجوب لما ثبت كان جواز
الأداء من ضروراته على ما عليه عامة الفقهاء والمتكلمين
فإن الوجوب يفيد جواز الأداء عندهم, لكنه أي لكن السبب أو
نفس الوجوب لا يوجب الأداء للحال, وقوله; لأن الوجوب يجوز
أن يكون دليلا على قوله لا يوجب الأداء للحال. وبيانه أن
الوجوب ثبت جبرا من الله تعالى بلا اختيار من العبد
والوجوب بلا اختيار منه في مباشرة سببه لا يوجب الأداء
للحال كثوب هبت به الريح وألقته في حجر إنسان دخل في عهدته
حتى صحت مطالبة صاحبه إياه به ولكن لا يجب التسليم قبل
الطلب حتى لو هلك قبل الطلب لا يجب عليه شيء; لأن حصوله في
يده كان بغير صنعه فكذا هذا بخلاف الغصب فأنه مختار متعد
في مباشرة سبب الضمان فيجب التسليم قبل الطلب إزالة
للتعدي., ويجوز أن يكون قوله; لأن الوجوب دليلا على ثبوت
نفس الوجوب بوجود نفس السبب, وقوله وليس من ضرورة الوجوب
دليلا على أن الوجوب لا يوجب الأداء للحال فيكون المجموع
دليلا على المجموع., وتقريره أن الوجوب لا يتوقف على
اختيار العبد وقدرته توقف حقيقة الفعل عليه بل يثبت جبرا
عند وجود سببه بلا اختيار منه وقد وجد السبب ههنا فيثبت
الوجوب شاء العبد أو أبى ولكن لا يثبت به وجوب الأداء;
لأنه ليس من ضرورة الوجوب في الذمة تعجل الأداء أي تعجيل
وجوب الأداء فإنه ينفك عنه, كما في ثمن البيع ومهر النكاح
أي الثمن والمهر الثابت بهما, يجبان بالعقد أي عقد البيع
والنكاح لامتناع خلو البيع عن الثمن والنكاح عن المهر,
ووجوب الأداء فيهما يتأخر إلى المطالبة حتى لو كان البيع
بأجل يجب الثمن في الحال ويتأخر المطالبة إلى حلول الأجل
وكما في صوم شهر رمضان في حق المسافر يثبت
(1/318)
الوجوب
فبالإيجاب لصحة سببه لا بالخطاب ولهذا كانت الاستطاعة
مقارنة للفعل وهو كثوب هبت به الريح في دار إنسان لا يجب
عليه تسليمه إلا
ـــــــ
نفس الوجوب في حقه وينعدم وجوب الأداء في الحال وإذا كان
كذلك لا يثبت بنفس الوجوب وجوب الأداء للحال بل يتأخر إلى
وجود دليله وهو الطلب ولم يوجد ههنا; لأن الشرع خيره في
وقت الأداء أي فوض إليه تعين الجزء الذي يؤدي فيه بالفعل;
لأنه إنما طالبه بالأداء في كل وقت لا في جزء معين وإذا لم
يتعين بقي العبد مخيرا في الأداء في أي جزء شاء لكن بشرط
أن لا يفوت عن الوقت ولهذا يتعين وجوب الأداء في آخر الوقت
لتحقق المطالبة فيه.
قوله: "وأما الوجوب" متصل بقوله وجوب الأداء يتأخر إلى
المطالبة يعني الوجوب يثبت بناء على صحة السبب الذي هو
علامة إيجاب الله تعالى علينا لا بالخطاب بل يثبت به
مطالبة الواجب بالسبب.
قوله: "ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل" أي ولما ذكرنا
أن نفس الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء قلنا الاستطاعة التي
هي سلامة الآلات, مقارنة للفعل أي مشروطة لوجود الفعل لا
لنفس الوجوب فإنه يثبت في حق العاجز كالنائم والمغمى عليه
وإن لم يثبت وجوب الأداء في حقه لعدم القدرة فثبت أن
الوجوب ينفك عن وجوب الأداء, وذكر الشيخ في نسخة له في
أصول الفقه أن السبب موجب وهو جبري لا يعتمد القدرة; إذ هي
شرط في الفعل الاختياري لا في الجبري ولذلك لم يشترط
القدرة سابقة على الفعل; لأن ما قبله نفس الوجوب وهو جبر
ووجوب الأداء وأنه لا يعتمد القدرة الحقيقية على ما عرف
أما فعل الأداء فيعتمد القدرة فلذلك كانت الاستطاعة مع
الفعل لا مع الخطاب. وقيل معناه ولهذا كانت الاستطاعة
مقارنة للفعل أي لأجل ما ذكرنا من المعنى وهو أن نفس
الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته كانت الاستطاعة
مقارنة للفعل فكما أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف
وقدرته كذلك وجوب الأداء لا يفتقر إلى وجود الفعل والقدرة
الحقيقية; لأن القدرة الحقيقية مقارنة للفعل فنفس الوجوب
ينفصل عن وجوب الأداء كذلك وجوب الأداء ينفصل عن وجود نفس
الفعل والقدرة الحقيقية; لأن الوجود من وجوب الأداء غير
مراد عند أهل السنة والجماعة إذ لو كان مرادا لوجد الإيمان
من جميع الكفرة; لأنه يستحيل تخلف المراد عن إرادة الله
تعالى; لأنه عجز واضطرار والله تعالى متعال عنه والكفار
كلهم مخاطبون بالإيمان ولم يوجد الإيمان منهم حال كفرهم
وكذلك العبادات المفروضة على المؤمنين فإنهم مخاطبون بها
ثم قد لا توجد فثبت أن وجود الفعل غير مراد من وجوب
الخطاب, فحصل من هذا كله أشياء
(1/319)
......................................................
ثلاثة نفس الوجوب ووجوب الأداء ووجود الفعل فنفس الوجوب
بالسبب ووجوب الأداء بالخطاب ووجود الفعل بإرادة الله
تعالى لكن عدم الفعل من العبد بعد توجه الخطاب لعدم إرادة
الله تعالى إياه لا يكون حجة للعبد; لأن ذلك عيب عنه فكان
العبد ملزما ومحجوجا عليه بعد توجه الخطاب عليه; لأن وجوب
الأداء بالخطاب إنما يكون عند سلامة الآلات وصحة الأسباب
والتكليف يعتمد هذه القدرة; لأن الله تعالى أجرى العادة
بخلق القدرة الحقيقية عند إرادة العبد الفعل أو مباشرته
إياه ووجود الفعل يفتقر إلى هذه القدرة الحقيقية فكان قوله
ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل متصلا بقوله ليس من
ضرورة الوجوب تعجل الأداء; لأن الاستطاعة مقارنة للفعل
الذي يوجد من المكلف فلو كان نفس الوجوب يوجب تعجل الأداء
كانت الاستطاعة مقارنة لنفس الوجوب كذا ذكر بعض الشارحين.
وحاصله أنه حمل الاستطاعة على حقيقة القدرة لا على سلامة
الآلات وحمل قوله تعجل الأداء على حقيقته يعني ليس من
ضرورة الوجوب أن يوجد الفعل مقارنا له ومتصلا به ولهذا أي
ولكون الفعل غير متصل بالوجوب كانت الاستطاعة مقارنة للفعل
لا مقارنة للوجوب ولو كان تعجل الأداء من ضرورة الوجوب
لكانت مقارنة للوجوب لاقتران الفعل الذي هو المحتاج إلى
القدرة به, ولكن لا تعلق لهذا الوجه بالمطلوب وهو تأخر
وجوب الأداء عن نفس الوجوب كما ترى إذ لا يلزم من هذا
التقرير تأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب. وقيل معناه أنا
إنما أثبتنا الاستطاعة مقارنة للفعل لا سابقة عليه احترازا
عن تكليف العاجز وتحقق الفعل بلا قدرة فإنها لو كانت
متقدمة على الفعل كانت عدما وقت وجود الفعل لاستحالة بقاء
الأعراض إلى الزمان الثاني فيكون الفعل واقعا ممن لا قدرة
له ولو تصور الفعل بلا قدرة لم يكن لاشتراطها في التكليف
فائدة ولصح تكليف العاجز وهو خلاف النص والعقل فثبت أن
القول بمقارنة القدرة مع الفعل للاحتراز عن تكليف العاجز
ثم لو لم يتأخر وجوب الأداء عن نفس الوجوب مع أن نفس
الوجوب قد يثبت جبرا بلا اختيار العبد أي يثبت عند العجز
وعدم القدرة على اختيار الفعل بدليل وجوب الصلاة على
النائم والمغمى عليه لزم منه تكليف العاجز الذي احترزنا
عنه في مسألة الاستطاعة. وهذا وجه حسن ولكن لا ينقاد له
سوق الكلام إذ ليس لاسم الإشارة فيه مرجع لعدم تقدم ذكر
تكليف العاجز إلا بإضمار وهو أن يقال ليس من ضرورة الوجوب
تعجل الأداء أي وجوب الأداء إذ لو كان ذلك من ضرورته لزم
تكليف العاجز, وهو غير جائز, ولهذا أي ولعدم جواز تكليف
العاجز كانت الاستطاعة كذا, فالوجه الأول أولى وإن لم يخل
عن تمحل أيضا.
(1/320)
بالطلب وفي
مسألتنا لم يوجد المطالبة بدلالة أن الشرع خيره في وقت
الأداء فلا يلزمه الأداء إلا أن يسقط خياره بضيق الوقت.
ولهذا قلنا إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه وهو كالنائم
والمغمى عليه إذا مر عليهما جميع وقت
ـــــــ
قوله: "وهو كثوب" أي ما ذكرنا من تحقق الوجوب وتأخر وجوب
الأداء نظير ثوب هبت به الريح أي هاجت وثارت به وإنما ذكر
هذا بعدما استوضح كلامه بنظرين وهما البيع والنكاح; لأنه
أوفق وأشبه بمرامه إذ لا اختيار له في مباشرة هذا السبب
وتحقق الوجوب كما لا اختيار له في وجود الوقت وثبوت الوجوب
به فأما البيع والنكاح فله في مباشرتهما اختيار تام.
قوله: "وفي مسألتنا لم يوجد المطالبة" أي على وجه يأثم
بتركه في أول الوقت وإنما يتحقق المطالبة في آخر الوقت لا
قبله; لأن له ولاية التأخير إلى آخر الوقت والتأخير ينافي
المطالبة فإذا ضاق الوقت فقد انتهى التخيير "فح" يجب عليه
الأداء لتحقق المطالبة, ولا يلزم عليه ما إذا حال الحول
على النصاب فإنه يصير مطالبا بالأداء مع أنه مخير فيه حتى
لو هلك النصاب سقطت عنه الزكاة فثبت أن التخيير لا ينافي
المطالبة; لأنا لا نسلم أن المطالبة على الفور تحققت بل
ثبتت بصفة التراخي بشرط أن لا يفوته عن العمر على ما عرف
وفي آخر أجزاء العمر تعين المطالبة كما في آخر أجزاء الوقت
ههنا كذا قيل.
قوله: "ولهذا قلنا" تأثير المذهب أي ولأن الأداء لما لم
يلزمه عندنا قلنا إذا مات قبل آخر الوقت لا شيء عليه, ثم
استدل على انفكاك وجوب الأداء عن نفس الوجوب بمسألة مجمع
عليها فقال وهو أي تراخي وجوب الأداء عن الوجوب في أول
الوقت نظير تراخي وجوب الأداء عن النائم والمغمى عليه إذا
مر عليهما جميع وقت الصلاة ولم يزدد الإغماء على يوم وليلة
حيث ثبت أصل الوجوب ولهذا وجب القضاء عليهما وتراخي وجوب
الأداء لعدم أهلية الخطاب بزوال الفهم.
"فإن قيل" السببية تثبت بالخطاب أيضا فإن قبل ورود الشرع
لم يكن السببية ثابتة للوقت فلا يتصور ثبوتها في حق من لا
يخاطب.
"قلنا" بالخطاب عرف أن الشرع جعل الوقت سببا فبعد ذلك يفتى
بالوجوب في حق كل أهل ثبت السبب في حقه ولا يشترط خطاب كل
فرد لصيرورة السبب في حقه سببا; لأن العلم بالوجوب كما ليس
بشرط لثبوته جبرا فكذا بسبب الوجوب بل الحاجة في الجملة
تقع إلى جعل الشرع إياه سببا ولا يشترط على كل فرد بل إذا
عرف الفقيه
(1/321)
.....................................................
بالسببية يفتي بالوجوب في حق كل من ثبت السبب في حقه علم
بذلك أو لم يعلم ألا ترى أن الزكاة تجب عليه ولا شك في
تعلق الوجوب هناك بالسبب ولم يشترط علم كل شخص بذلك وكذلك
الإتلاف جعل سببا للضمان والنكاح للحل والبيع للملك وكل
ذلك ثابت في حق الصبيان والمجانين وإن لم يثبت الخطاب في
حقهم كذا ذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته. "فإن
قيل" كيف يصح هذا الاستدلال وقد ثبت أن القضاء لا يجب إلا
بعد وجوب الأداء; لأنه خلف عنه والخلف لا يثبت إلا بعد
ثبوت الأصل وقد تمحلتم في إثبات وجوب الأداء في حق الكافر
إذا أسلم في الجزء الأخير ونظائره لا يجاب القضاء كما مر
الكلام مع زفر رحمه الله في الباب المتقدم وههنا وجب
القضاء بالإجماع فمع وجوبه تعذر القول بانتفاء وجوب الأداء
عنهما, يؤيده أن القضاء لا يجب إلا بما يجب به الأداء
والأداء لا يجب إلا بالخطاب فوجب ههنا أما سقوط القضاء
لعدم وجوب الأداء وهو خلاف الإجماع أو وجوب الأداء قبل
الانتباه والإفاقة "وح" لا يصح الاستدلال.
"قلنا" قد ذكرنا فيما تقدم أن وجوب الأداء على نوعين نوع
يكون الفعل فيه بنفسه مطلوبا من المكلف حتى يأثم فيه بترك
الفعل ولا بد فيه من استطاعة سلامة الآلات ونوع لا يكون
فعل الأداء فيه مطلوبا حتى لا يأثم فيه بترك الأداء بل
المطلوب ثبوت خلفه وهو القضاء ويكتفى فيه بتصور ثبوت
الاستطاعة ولا يشترط حقيقة الاستطاعة ففي مسألة النائم
والمغمى عليه وجوب الأداء بمعنى كون الفعل فيه مطلوبا على
وجه يأثم بتركه لم يوجد لفوات شرطه وهو استطاعة سلامة
الآلات فأما وجوب الأداء على وجه يصلح وسيلة إلى وجوب
القضاء ولا يكون الفعل فيه مقصودا فموجود لوجود شرطه وهو
تصور حدوث الاستطاعة بالانتباه والإفاقة فوجب القضاء بناء
على هذا النوع من الوجوب وعدم الإثم بناء على انتفاء النوع
الأول فهذا هو التخريج على الطريقة المذكورة في هذا
الكتاب, ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح المبسوط أن تصور
القدرة كاف في وجوب الأداء في الجملة لينعقد السبب سببا في
حق الخلف قائما مقام الأداء; لأنه لو لم يكن الأصل متصورا
لصار الخلف في حق كونه حكما للسبب أصلا وهو باطل فلا بد من
احتماله وتصوره ليجعل في الأصل كأنه هو الأصل تقديرا
ودلالة أن التصور كاف لوجوب القضاء أن القضاء يجب على
النائم والمغمى عليه إذا انتبه وأفاق ولا قدرة على الأداء
لهما حقيقة وإنما يجب القضاء لما قلنا من الاحتمال.
وذكر بعض العلماء أن القضاء مبني على نفس الوجوب دون وجوب
الأداء يعني به
(1/322)
الصلاة وجب
الأصل وتراخى وجوب الأداء والخطاب فكذلك عن الجزء الأول.
وتبين أن الوجوب يحصل بأول الجزء خلافا لبعض مشايخنا وأن
الخطاب بالأداء لا يتعجل خلافا للشافعي رحمه الله.
ـــــــ
أن الوجوب إذا ثبت في الذمة فإما أن يكون مفضيا إلى وجوب
الأداء أو وجوب القضاء فإن أمكن إيجاب الأداء وجب القول به
وإلا وجب الحكم بوجوب القضاء وليس يشترط لوجوب القضاء أن
يكون وجوب الأداء ثابتا أو لا ثم يجب القضاء لفواته بل
الشرط أن يصلح السبب الموجب لإفضائه إلى وجوب الأداء في
نفس الأمر, فإذا امتنع وجوب الأداء لمانع ظهر وجوب القضاء
فهذا هو معنى الخلفية بين الأداء والقضاء فعلى هذا لا
يحتاج إلى إثبات وجوب الأداء لوجوب القضاء; لأن السبب
الموجب وهو الوقت يصلح للإفضاء إلى وجوب الأداء في نفس
الأمر كما في حق المستيقظ والمفيق فيصلح أن يكون مفضيا إلى
القضاء فلا يرد السؤال.
قوله: "فتبين أن الوجوب بأول الجزء" أي بأول جزء من الوقت
واللام لتحسين الكلام كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم
يسبني. أو بدل من الإضافة.
قوله: "خلافا لبعض مشايخنا" نفي لقول مشايخ العراق من
أصحابنا حيث قالوا الوجوب يتعلق بآخر الوقت وقوله إن
الخطاب بالأداء لا يتعجل نفي لقول الشافعي رحمه الله إن
الوجوب ووجوب الأداء عبارتان عن معنى واحد في العبادات
البدنية فتبين كل فصل على حدة.
أما الفصل الأول فنقول الواجب إذا تعلق بوقت يفضل عن أدائه
يسمى واجبا موسعا كما يسمى ذلك الوقت ظرفا وهذا عند
الجمهور من أصحابنا وأصحاب الشافعي وعامة المتكلمين, ومعنى
التوسع أن جميع أجزاء الوقت وقت لأدائه فيما يرجع إلى سقوط
الفرض ويجوز له التأخير عن أول الوقت إلى أن يتضيق بأن
يعلم أنه لو أخر عنه فات الأداء "فح" يحرم عليه التأخير.,
وأنكر بعض العلماء التوسع في الوجوب وقال إنه ينافي
الوجوب; لأن الواجب ما لا يسع تركه ويعاقب عليه والقول
بالتوسع فيه يوجب أن يجوز تركه ولا يعاقب عليه وهذا جمع
بين المتنافيين.
ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم الوجوب يتعلق بأول الوقت فإن
أخره فهو قضاء وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم إنه
يتعلق بآخره وهو قول بعض أصحابنا العراقيين فإن قدمه فهو
نفل يمنع لزوم الفرض عند بعضهم وموقوف على ما يظهر من حاله
عند آخرين فإن بقي أهلا للوجوب كان المؤدى واجبا وإن لم
يبق كذلك كان نفلا,
(1/323)
.....................................................
فمن جعل الوجوب متعلقا بأول الوقت قال الواجب الموقت لا
ينتظر لوجوبه بعد استكمال شرائطه سوى دخول الوقت فعلم أنه
متعلق به فكما في سائر الأحكام مع أسبابها وإذا ثبت الوجوب
بأول الوقت لم يجز أن يكون متعلقا بما بعده لما ذكرنا من
امتناع التوسع, وفائدة التوقيت على هذا القول أنه لو أتى
بالفعل فيما بقي من الوقت يصلح أن يكون قضاء بخلاف الصوم
إذا فات عن أول أوقاته بأن أكل أو شرب بعد الصبح فإنه لا
يكون الإمساك فيما بقي قضاء, ووجه ما ذهب إليه العراقيون
أنه لما جاز له التأخير إلى أن يتضيق الوقت وامتنع التوسع
لما ذكرنا كان الوجوب متعلقا بآخره., ثم المؤدى قبله إما
أن يكون نفلا كما قال البعض; لأنه متمكن من الترك في أول
وقت لا إلى بدل وإثم وهذا حد النفل إلا أن المطلوب يحصل
بأدائه وهو إظهار فضيلة الوقت فيمنع لزوم الفرض كمن توضأ
قبل دخول الوقت يقع نفلا; لأنه إنما يجب للصلاة فما لم
يحضر وقتها لا يوصف بالوجوب ومع هذا يمنع لزوم الفرض بعد
دخول الوقت, وإما أن يكون موقوفا كالزكاة المعجلة قبل
الحول فإنه إذا عجل شاة من أربعين شاة إلى الساعي ثم تم
الحول وفي يده ثمان وثلاثون له أن يسترد المدفوع إن كان
قائما وإن كان الساعي تصدق به كان تطوعا ولو تم الحول وفي
يده تسع وثلاثون كان المؤدى زكاة وكالجزء الأول من الصلاة
فإنه لا يوصف بالوجوب ما لم يتصل بباقي أجزاء الصلاة فإن
اتصل بمجموعها يوصف بالوجوب وإلا فلا. وتمسك الجمهور
بالنصوص والإجماع, فإن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء:
78], وقول جبرائيل للنبي عليهما السلام في حديث: "الإمامة
ما بين هذين وقت لك ولأمتك" 1, وقول النبي صلى الله عليه
وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا" 2, أي لوقتها يتناول جميع
أجزاء الوقت ويدل على أن جميعها وقت الأداء الواجب وليس
المراد تطبيق فعل الصلاة على أول الوقت وآخره ولا فعلها في
كل جزء بالإجماع فلم يبق إلا أنه أريد به أن كل جزء منه
صالح لوقوع الفعل فيه ويكون المكلف مخيرا في إيقاعه في أي
جزء أراد ضرورة امتناع قسم آخر فثبت أن التوسع ثابت شرعا.
وليس بممتنع عقلا أيضا كما زعموا فإن السيد إذا قال لعبده
خط هذا الثوب في بياض النهار إما في أوله أو في وسطه أو في
آخره كيف ما أردت فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي كان صحيحا
ولا يخلو إما أن يقال ما أوجب شيئا أصلا أو أوجب مضيقا
وهما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 149 – 150 وأبو داود
في الصلاة حديث رقم 393 والإمام أحمد في المسند 1/333
و354.
2 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 151 والإمام أحمد في
المسند 2/232.
(1/324)
.................................................
محالان فلا يبقى إلا أن يقال أوجب موسعا., وكذا الإجماع
منعقد على أن الواجب إنما يتأدى بنية الظهر ولا يتأدى بنية
النفل وبمطلق النية ولو كان نفلا كما زعم بعض العراقيين
لتأدى بنية النفل ولو كان موقوفا كما زعم الباقون منهم
لتأدى بمطلق النية ولاستوت فيه نية النفل والفرض. وقولهم
قد وجد في المؤدى في أول وقت حد النفل; لأنه لا عقاب على
تركه فاسد; لأنا لا نسلم أن ذلك ترك بل هو تأخير ثبت بإذن
الشرع وكذا الإجماع منعقد على وجوب الصلاة على من أدرك أو
أسلم أو طهر في وسط الوقت أو في آخره ولو كان الوجوب
متعلقا بأول الوقت كما قاله البعض لما وجبت الصلاة عليهم
بعد فوات أول الوقت في حال الصبي والكفر والحيض كما لو فات
جميع الوقت في هذه الأحوال, وذكر الغزالي رحمه الله أن
الأقسام في الفعل ثلاثة فعل يعاقب على تركه مطلقا وهو
الواجب, وفعل لا يعاقب على تركه مطلقا, وهو الندب وفعل
يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب
بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى
عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب
به الواجب الموسع أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا
الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية
الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب
الفرض لا ثواب الندب فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل
والنزاع يرجع إلى اللفظ واللفظ الذي ذكرناه أولى.
وأما الفصل الثاني فنقول وجوب الأداء منفصل عن نفس الوجوب
عندنا خلافا للشافعي رحمه الله في العبادات البدنية,
وفائدة الاختلاف تظهر في المرأة إذا حاضت في آخر الوقت لا
يلزمها قضاء تلك الصلاة عندنا; لأن وجوب الأداء لم يوجد
وعنده إن أدركت من أول الوقت مقدار ما تصلي فيه ثم حاضت
يلزمها قضاؤها قولا واحدا لتحقق وجوب الأداء, وإن أدركت
أقل من ذلك فأصحابه مختلفون في وجوب القضاء والظاهر من
مذهبه أن استقرار الوجوب بإمكان الأداء بعد وجود الوقت.,
وجه قوله إن الواجب في البدنيات ليس إلا الفعل; لأن الصلاة
اسم لحركات وسكنات معلومة وهي فعل وكذا الصوم اسم للإمساك
عن المفطرات وهو فعل وليس معنى الأداء إلا الفعل ولما لم
يكن بين الفعل والأداء واسطة كان وجوب الصلاة ووجوب الأداء
عبارتين عن معنى واحد وهو لزوم إخراج ذلك الفعل من العدم
إلى الوجود فلا معنى للفصل بين الوجوب ووجوب الأداء فيها
بخلاف الحقوق المالية; لأن الواجب قبل الأداء مال معلوم
فيمكن أن يوصف بالوجوب قبل وجوب الأداء كما في حقوق
العباد, ونظيرهما الشراء مع الاستئجار فإن بشراء العين
يثبت
(1/325)
.........................................................
الملك ويتم السبب قبل فعل التسليم وبالاستئجار لا يثبت
الملك في المنفعة قبل الاستيفاء; لأنها لا تبقى وقتين ولا
يتصور تسليمها بعد وجودها بل يقترن التسليم بالوجود فإنما
تصير معقودا عليها مملوكا بالعقد عند الاستيفاء فكذلك في
حقوق الله تعالى يفصل بين المالي والبدني من هذا الوجه.
ووجه ما ذهبنا إليه أن الوجوب حكم إيجاب الله تعالى علينا
بسببه والواجب اسم لما لزمه بالإيجاب والأداء فعل العبد
الذي يسقط الواجب عنه وهو بمنزلة رجل استأجر خياطا ليخيط
له هذا الثوب قميصا بدرهم فيلزم الخياط فعل الخياطة بالعقد
والأداء الخياطة نفسها وبها يقع تسليم ما لزمه بالعقد فكان
الفعل المسمى واجبا في الذمة غير الموجود مؤدى حالا
بالقميص, واعتبر بالنائم والمغمى عليه فإن هناك أصل الوجوب
ثابت لما ذكرنا من وجوب القضاء بعد الانتباه والإفاقة,
ووجوب الأداء غير ثابت لزوال الخطاب عنه كما مر تحقيقه
وهذا يدلك على المغايرة بين الأمرين وإن كان التمييز يتعذر
بينهما بالعبارة, ولا يقال ذلك ابتداء عبادة يلزم بعد حدوث
الأهلية بالانتباه والإفاقة بخطاب جديد; لأن شرائط القضاء
تراعى فيه كالنية وغيرها ولو كان ذلك ابتداء فرض لما روعيت
فيه شرائط القضاء بل كان ذلك أداء في نفسه كالمؤدى في
الوقت لولا النوم والإغماء. والذي يحقق هذا أن الوقت لو
مضى على غير الأهل ثم حدثت الأهلية لما وجب القضاء بأن كان
كافرا أو صبيا في الوقت ثم حدثت الأهلية بالإسلام والبلوغ
وحيث وجب ها هنا ومع الوجوب روعيت شرائط القضاء دل أن
الأمر على ما بينا, وكذلك وجوب أصل الصوم ثابت في حق
المسافر والمريض حتى لو صام المسافر عن الواجب صح بالإجماع
ووجوب الأداء متراخ إلى حال الإقامة والصحة حتى لو مات قبل
الإقامة أو الصحة لقي الله تعالى ولا شيء عليه, كذا في
طريقة الشيخ أبي المعين رحمه الله, وسيأتي بيان فساد فرقه
في موضعه إن شاء الله عز وجل, ثم اعترض الشيخ أبو المعين
رحمه الله على هذه الطريقة فقال ما ذكرنا طريقة بعض
مشايخنا وهي واهية بمرة بل هي فاسدة; لأن أداء الصوم هو
عين الصوم لا غيره فإن الصوم فعل العبد ولا فعل له إلا
الأداء وهذا شيء لا حاجة إلى إثباته بالدليل لثبوت صحته في
البداية, قال ثم يقول الصوم ما هو الإمساك عن قضاء
الشهوتين نهارا لله تعالى أم غيره فإن قال غيره بان بهته
ومكابرته لكل منصف وإن قال هو الإمساك فنقول الإمساك فعلك
أم هو معنى وراء فعلك فإن قال هو معنى وراء فعلي فيقال
أيوجد بفعلك أم بغير فعلك؟ فإن قال يوجد بغير فعلي فقد جعل
الصوم مما يوجد بلا فعل العبد واختياره وذا فاسد, وإن قال
يوجد بفعلي فيقال له بأي فعل يوجد وما ذلك
(1/326)
.........................................................
الفعل الذي يوجد به الإمساك الذي هو صوم ولا سبيل له إلى
بيان ذلك., ثم يقال له ما الفرق بينك وبين قول القائل
الضرب ليس بفعل للرجل ولكنه يوجد بفعله؟ وكذا الجلوس
والقيام والأكل والشرب وفي ارتكاب هذا خروج عن المعارف
وجحد للضرورات, وإن قال الإمساك فعلي فنقول إذا حصل منك
الإمساك فقد حصل منك الفعل فما الأداء فعل آخر هو, فإن قال
نعم فإذا صار الصائم فاعلا بفعلين أحدهما الإمساك والآخر
أداء الإمساك وكذا كل فاعل فعل فعلا كالآكل والشارب
والقائم والقاعد كان فاعلا فعلين أحدهما ذلك الفعل والآخر
أداؤه وهذه مكابرة عظيمة.
ثم هذا الكلام بناء على مذهب لأبي الهذيل العلاف1 من
شياطين القدرية وهو أن الصوم والصلاة والحج ليست بحركات
ولا سكون وهي معان تقارن الحركات والسكون حكى المذهب عنه
أبو القاسم الكعبي2 وهو مذهب لم يقدر أبو الهذيل تصويره
فضلا عن تحقيقه وهو كقوله إن الكون معنى وراء الحركة
والسكون والاجتماع والافتراق وأراد تصويره فلم يقدر عليه,
فكذا ما نحن فيه مكان القول بجعل أصل الوجوب غير وجوب
الأداء مبنيا على هذا المذهب فإن الأداء هو حركات وسكنات
والصوم والصلاة والحج معان وراءها فيجب تلك المعاني وتشتغل
الذمة بها ثم تحصل عند وجود الحركات والسكنات أو بها فكان
التحرك والسكون من العبد أداء لها وتحصيلا لها فتحصل هي
بها أو معها ثم مع هذا هذه العبادات عنده أفعال للعبد فكذا
عند هذا القائل هذه العبادات أفعال للعبد وهي معان وراء
الأداء الذي هو من جنس الحركة والسكون فيجب بالأسباب ثم
بالأمر يجب الحركات والسكون التي بها أو معها تحصل هذه
العبادات الواجبة فكانت الحركات والسكون التي هي أغيارها
وهي من قرائنها أداء لها لحصولها بحصول الحركات والسكون.
فأما من يقول إن هذه العبادات هي هذه الحركات والسكون وهي
بنفسها أداء فلا يمكنه أن يجعل أصل الوجوب غير وجوب
الأداء; لأن المراد بوجوب الأصل وجوب هذه الأفعال وهي
بأنفسها أداء فلا يتصور أن لا يكون الأداء واجبا; لأن
القول بعدم وجوب فعل ما مع وجوبه مناقضة ظاهرة وذا لا
يقوله من له لب, قال وقولهم إن من استأجر خياطا
ـــــــ
1 هو أبو الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف ولد
بالبصرة سنة 131 هـ توفي سنة 235 هـ وفيات الأعيان 1/607 –
608.
2 هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد محمود الكعبي البلخي
توفي سنة 319 هـ وفيات الأعيان 1/316.
(1/327)
.....................................................
ليخيط له هذا الثوب إلى آخره كلام فاسد; لأن المعقود عليه
هناك ما يحل بالثوب من آثار الخياطة التي هي فعله وهو ما
يحصل في الثوب من التركب على صور مخصوصة فأما الفعل فليس
بمعقود عليه بل هو ذريعة يتوصل بها إلى المعقود عليه,
ويمكن بها التسليم للمعقود عليه وهو الواجب بالعقد وتسليمه
غيره, فإن التسليم وهو الفعل قائم بالخياط والمعقود عليه
ما يصير مسلما بفعله في الثوب وهو حصول صفة التركب على
هيئة مخصوصة ولا شك أن ما يحصل بالفعل هو غير الفعل, يحققه
أن الخياطة فعل الخياط والمعقود عليه وهو التركب الحاصل في
الثوب ليس بفعل له حقيقة لاستحالة فعل العبد فيما وراء
حيزه بل هو فعل الله تعالى ولكنه يضاف إلى العبد حكما
لإجراء الله تعالى العادة بتخليقه تلك الصفة في الثوب عند
مباشرة الخياطة. فأما فيما نحن فيه فبخلافه لما بينا أن
أداء الصوم ليس بغير للصوم والصوم فعل العبد والعبد هو
الصائم كما أنه هو المؤدي فأما التركب الحاصل في الثوب
فليس بفعل له فإنه ليس بمتركب بل المتركب هو الثوب ولو
كانت صفة التركب فعلا له لكان هو المتركب فدل أن بين
الأمرين تفاوتا عظيما, على أن من ساعده أن المعقود عليه
الخياطة يقول هي الواجبة بنفسها وأداؤها نفسها لا غيرها
ووجوبها بالعقد وجوب أدائها لا غير بدلالة ما بينا أن أداء
الفعل نفسه لا غير.
وقولهم إن في حق النائم والمغمى عليه أصل الوجوب ثابت
ووجوب الأداء منتف غير صحيح لما بينا أن الأداء هو نفس
الصوم أو الصلاة والقول بوجوب الشيء مع انتفاء وجوبه محال
فإذا لا نسلم وجوب أصل الصوم والصلاة عليه بل الوجوب عليه
عند زوال الإغماء بخطاب مبتدأ, من قوله تعالى: {فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:
184], والمغمى عليه مريض, ومن قوله عليه السلام: "من نام
عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" ,
والإغماء مثل النوم., قولهم هذا يسمى قضاء ولو كان ابتداء
فرض لزمه لكان أداء قلنا لا فرق بين الأداء والقضاء بل هما
لفظان متواليان على معنى واحد يقال قضيت الدين وأديته
وقضيت الصلاة وأديتها على أن المغايرة بينهما تثبت باصطلاح
الفقهاء دون اقتضاء اللغة.
قولهم يراعى فيه شرائط القضاء قلنا عند الخصم لا فرق بين
الأداء والقضاء في حق النية لا في الصوم ولا في الصلاة
وإنما يحتاج إلى أن ينوي صوما وجب عليه عند زوال العذر
ولولا العذر وجب في الوقت المعين له شرعا وبهذا لا يتبين
أن الصوم أو الصلاة كانا يجبان في حالة سقط عن الإنسان
أداؤهما. وقولهم لو مضى الوقت على غير الأهل
(1/328)
.......................................................
ثم حدثت الأهلية لما وجب عليه القضاء إلى آخره فاسد أيضا;
لأنا بينا بالدليل أن هذا محال والاشتغال بإثبات المستحيل
بما يتحايل أنه دليل ضرب من السفه, على أن الشرع أوجب على
من مضى عليه الوقت وهو مغمى عليه أو نائم بعد زوال العذر
ما كان يوجبه في الوقت لولا العذر وفي باب الصبا والكفر ما
فعل هكذا والأمر لصاحب الشرع يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال ولا نقول يتحقق وجوب أصل الصوم في حق المسافر والمريض
وتأخر وجوب الأداء لما بينا أنه محال بل نقول إن هناك أوجب
الله تعالى الصوم على العبد معلقا باختياره الوقت تخفيفا
منه على عباده ومرحمة عليهم فإن اختيار الأداء في الشهر
كان الصوم واجبا فيه وإن أخر إلى حالتي الصحة والإقامة لم
يكن الصوم واجبا عليه بل كان واجبا بعد الصحة والإقامة حتى
أنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر بأن مات من مرضه أو في
سفره يلقى الله تعالى ولا شيء عليه ولو أدرك بعض الأيام
دون البعض وجب عليه بقدر ما أدرك فأما أن يقول بوجوب الأصل
دون وجوب الأداء فكلا, وهذا كله بخلاف الزكاة وسائر
الواجبات المالية فإن هناك الواجب هو المال والأداء فعل في
ذلك فيجب عند تحقق الأسباب الأموال في ذمم الصبيان وجعل
ذلك شرعا كما لو وضع عند الصبي مال معين فيجب على الولي
أداء ما وضع في ذمة الصبي من المال وتفريغها عنه كما لو
وضع في بيت الصبي مال وهذا لا يمكن تصويره في الأفعال.
هذا كلامه أوردته بلفظه وحاصله منع المغايرة بين الوجوب
ووجوب الأداء ودعوى استحالتها في الواجب البدني.
والجواب أن الأمر ليس على ما زعم فإنا وإن سلمنا أن الصوم
أو الصلاة هو الفعل وأداء الصوم هو الفعل أيضا لكنا لا
نسلم أنهما واحد. وبيانه أن لكل شيء من الأجسام والأعراض
وجودا في الذهن ويدرك ذلك بالعقل ويسمى ماهية ووجودا في
الخارج ويدرك ذلك بالحس فنفس الوجوب عبارة عن اشتغال الذمة
بوجوب الفعل الذهني ووجوب الأداء عبارة عن وجوب إخراج ذلك
الفعل من العدم إلى الوجود الخارجي ولا شك أن إخراجه من
العدم إلى الوجود غير ذلك التصور الموجود في الذهن وإن كان
مطابقا له ولهذا لا يتبدل ذلك التصور بتبدل الوجود الخارجي
بالعدم بل هو باق على حاله. والبدني كالمالي بلا فرق فإن
أصل الوجوب في المال عبارة عن لزوم مال متصور في الذمة,
ولزوم الأداء عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود الخارجي
إلا أنه لما لم يكن في وسعه ذلك أقيم مال آخر من جنسه مقام
ذلك المال الواجب في حق صحة الأداء والخروج عن العهدة وجعل
كأنه ذلك المال الواجب وهذا معنى قولهم الديون تقضى
بأمثالها لا بأعيانها فثبت بما ذكرنا أن المغايرة بينهما
ثابتة من غير استحالة والله أعلم.
(1/329)
ثم إذا انقضى
الجزء الأول فلم يؤد انتقلت السببية إلى الجزء الثاني ثم
كذلك ينتقل لما قلنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الأداء
وكان ما يلي الأداء به أولى; لأنه لما وجب نقل السببية عن
الجملة إلى الأقل لم يجز تقريره
ـــــــ
قوله: "ثم إذا انقضى الجزء الأول فلم يؤد" أي لم يشرع في
الأداء, انتقلت السببية إلى الجزء الثاني, ثم كذلك تنتقل
أي ما انتقل من السببية إلى الثاني ينتقل إلى آخر أجزاء
الوقت جزءا فجزءا مثل انتقالها إلى الثاني; لأنه لما ثبت
أن كل الوقت ليس بسبب بل السبب جزء منه والباقي ظرف وشرط
كان الجزء القائم أولى بالسببية من الجزء الفائت فيجعل
القائم خلفا عن الفائت في كونه سببا إلى أن يبلغ آخر الوقت
فيصير ذلك الجزء هو السبب عينا لكن على تقدير الشرع فيه
فإذا لم يشرع فيه حتى خرج الوقت فالوجوب يضاف إلى كل الوقت
كذا في شرح التقويم للمصنف رحمه الله.
ولا يقال لا ضرورة في نقل السببية وجعل القائم خلفا عن
الفائت إذ الفوات لا يمنع من تقرر السببية كما إذا فات
الوقت; لأنا نقول دل على ذلك تغير الأحكام في السفر
والإقامة والحيض والطهر ونحوها بعد الجزء الأول فأن
السببية لو تقررت عليه لما تغيرت الأحكام بهذه العوارض بعد
انقضائه كما لا يتغير بها بعد انقضاء الوقت. وإنما لم يمنع
تقرر السببية فوات الوقت لعدم ما يعارضه بعده وأما ههنا
فالجزء الثاني يعارض الأول وهو موجود بعد فوات الأول فكان
أولى بالسببية.
قوله: "لما ذكرنا من ضرورة تقدم السبب على وقت الأداء"
يعني كما أن ضرورة كون السبب متقدما على وقت الأداء أي على
الزمان الذي يقع فيه الأداء أوجبت انتقال السببية من الكل
إلى الجزء فكذلك توجب انتقالها إلى الثاني والثالث; لأن
السبب إنما يكون متقدما بصفة الاتصال بالمسبب لا بصفة
الانفصال إذ الانفصال بعارض وصفة الاتصال لا تثبت إلا
بالانتقال إلى ما بعد الجزء الأول فكان هذا الانتقال من
ضرورات التقدم أيضا كالانتقال الأول.
قوله: "وكان ما يلي الأداء به أولى" كأنه جواب سؤال يرد
عليه وهو أن يقال لا نسلم تحقق الضرورة في الانتقال إلى ما
بعد الجزء الأول; لأنه أمكن أن يجعل جميع ما تقدم على
الأداء من أجزاء الوقت سببا لحصول المقصود به وهو تقدم
السبب مع صفة الاتصال بالمسبب فقال ما يلي الأداء به أولى
أي الجزء المتصل بالأداء بنفسه أولى بالسببية من جميع
الأجزاء المتقدمة; لأنه لما وجب نقل السببية عن كل الوقت
إلى الجزء الأدنى لما ذكرنا من الدليل, لم يجز تقديره أي
لم يجز إثبات معنى السببية لجميع الأجزاء
(1/330)
على ما يسبق
قبيل الأداء; لأن ذلك يؤدي إلى التخطي عن القليل بلا دليل.
ـــــــ
المتقدمة على الأداء; لأن ذلك يؤدي إلى التخطي أي التجاوز,
عن القليل وهو الجزء المتصل بالأداء بلا دليل, يوجب ذلك;
لأن الدليل إنما دل على أن الكل سبب أو الجزء الأدنى سبب
فإثبات السببية لما وراء الكل والأدنى يكون إثباتا بلا
دليل وإذا كان كذلك كانت الضرورة في الانتقال إلى الثاني
والثالث باقية.
"فإن قيل لا ضرورة في الانتقال إلى ما بعد الجزء الأول;
لأن حكم السبب الوجوب في الذمة لا حقيقة الأداء وقد ثبت
الوجوب بالجزء الأول" متصلا به فلا حاجة إلى انتقال
السببية عنه.
"قلنا" الأمر كذلك إلا أن الأداء لما كان بناء على ذلك
السبب; لأنه أداء ذلك الواجب كان من نتيجة ذلك السبب أيضا
فيجب أن يكون متصلا به وكذلك الحكم في البيع أيضا إلا أن
البيع باق حكما إلى زمان الأداء شرعا إذ العقود الشرعية
موصوفة بالبقاء على ما عرف فيثبت الاتصال بينه وبين الأداء
الذي هو حكمه, فأما الجزء الأول ههنا فقد انقضى حقيقة وكذا
حكما; لأنه لا ضرورة في إبقائه حكما; لأن أمثاله التي تصلح
للسببية توجد بعده فلا يثبت الاتصال فلهذا دعت الضرورة إلى
الانتقال, وذكر في بعض الشروح أن معنى قوله وكان ما يلي
الأداء به أولى أن الجزء المتصل بالأداء أولى بالسببية من
الجزء الأول; لأن الجزء المتصل بالأداء لما صلح للسببية لا
يجوز إلغاؤه وجعل ما قبله سببا; لأن ذلك يؤدي إلى التخطي
عن القليل وهو الجزء المتصل بلا دليل وذلك لا يجوز كمن
سبقه الحدث في الصلاة فانصرف واستقبله نهر ووراءه نهر آخر
فترك الأقرب ومشي إلى أبعد لا يجوز وتفسد صلاته; لأنه
اشتغال بما لا يعنيه فكذلك هذا.
"قلت هذا معنى حسن ويشير إليه قوله" ولم يجز تقريره على ما
سبق ولكن قوله يؤدي إلى التخطي عن القليل لا ينقاد له ولو
كان المعنى ما ذكر لوجب أن يقال يؤدي إلى التخطي عن القريب
إلى البعيد بلا دليل, وقوله بلا دليل احتراز عن انتقال
السببية عن الجزء الأخير إلى الكل إن لم يوجد الأداء في
الوقت فإنه وإن كان تخطيا عن القليل إلى الكثير ولكنه
بالدليل. وحاصل ما ذكرنا أن السببية لو لم تنتقل عن الجزء
الأول فإما أن تضم إليه الأجزاء المتقدمة على الأداء أم
لا, فإن لم تضم إليه يلزم ترجيح المعدوم على الموجود مع
صلاحية الموجود للسببية واتصال المقصود به وأنه فاسد وإن
ضمت إليه يلزم التخطي عن القليل بلا دليل وهو فاسد أيضا
فتعين الانتقال, وقد استدلوا عليه بدلالة الإجماع أيضا فإن
الأهلية لو حدثت في أثناء الوقت بأن أسلم الكافر أو طهرت
الحائض أو أفاق المجنون بعد انقضاء الجزء الأول لزمت عليهم
الصلاة بالإجماع فلو استقرت السببية
(1/331)
وإذا انتهى إلى
آخر الوقت حتى تعين الأداء لازما استقرت السببية لما يلي
الشروع في الأداء فإن كان ذلك الجزء صحيحا كما في الفجر
وجب كاملا فإذا
ـــــــ
على الجزء الأول ولم ينتقل جزءا فجزءا لما وجبت الصلاة
عليهم كما لو حدثت الأهلية بعد خروج الوقت وكذلك أداء
العصر وقت الاحمرار جائز نصا وإجماعا ولولا الانتقال لم
يجز كما إذا قضى عصر الأمس في هذه الحالة فهذه الضرورة
دعتهم إلى القول بالانتقال.
وقوله: "وإذا انتهى إلى آخر الوقت" اعلم أن خيار تأخير
الأداء يثبت إلى أن يتضيق الوقت بحيث لا يسع فيه إلا فرض
الوقت بالإجماع حتى لو أخر عنه يأثم فأما انتقال السببية
فكذلك يثبت إلى تضيق الوقت أيضا عند زفر رحمه الله; لأنه
مبني على ثبوت الخيار عنده ولم يبق ذلك وعندنا الانتقال
ثابت إلى آخر جزء من الوقت لما ذكرنا أن كل جزء صالح
للسببية وأن المعدوم لا يعارض الموجود وإنما لا يسعه
التأخير لكي لا يفوت شرط الأداء وهو الوقت. وإذا عرفت هذا
فاعلم أن آخر الوقت في قوله وإذا انتهى أي الانتقال إلى
آخر الوقت إن حمل على وقت التضييق بدليل قوله حتى تعين
الأداء لازما كان موافقا لمذهب زفر; لأن استقرار السببية
عند التضييق مذهبه وإن حمل على الجزء الأخير كما هو حقيقته
لم يبق لقوله حتى تعين الأداء لازما فائدة; لأنه ثابت قبل
ذلك, إلا أن يقال المراد من استقرار السببية استقرارها في
حق وجوب الأداء لا في عدم جواز الانتقال وهو بعيد; لأن سوق
الكلام لا يدل عليه., أو يقال المراد من تعين الأداء تقرر
الواجب يعني وإذا انتهى الانتقال إلى آخر جزء من الوقت حتى
تقرر الواجب بحيث لا يحتمل السقوط استقرت السببية على ذلك
الجزء إن اتصل الشروع به ولا ينتقل إلى غيره إذ لم يبق
بعده شيء يحتمل الانتقال إليه ولهذا يعتبر حال المكلف عند
ذلك الجزء في الحيض والطهر والصبا والبلوغ والكفر والإسلام
على ما عرف وإن لم يتصل به الشروع فينتقل السببية إلى كل
الوقت كما سيأتي بيانه, فصار الحامل أنه يتعين للسببية
الجزء المتصل بالأداء فإن اتصل بالجزء الأول كان هو السبب
وإلا فينتقل إلى الثاني والثالث; لأن في المجاورة عن الجزء
الذي يتصل به الأداء في جعله سببا لا ضرورة وليس بين
الأدنى والكل مقدار يمكن الرجوع إليه كذا ذكر شمس الأئمة
رحمه الله.
قوله: "فإن كان ذلك الجزء صحيحا" بيان استقرار السببية
واعتبار صفة ذلك الجزء فإنه إن كان صحيحا كان الواجب كاملا
كما في الفجر وإن كان فاسدا أي ناقصا كان الواجب ناقصا,
فإذا غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد العصر; لأنه وجب
ناقصا لنقصان في سببه وبالغروب ينتفي النقصان فيتأدى
كاملا, ولو طلعت في خلال الفجر تفسد عندنا وقال الشافعي
رحمه الله لا تفسد اعتبارا بالغروب واستدلالا بقوله عليه
(1/332)
اعترض الفساد
بطلوع الشمس بطل الفرض وإن كان ذلك الجزء فاسدا انتقص
الواجب كالعصر يستأنف في وقت الاحمرار فإذا غربت الشمس وهو
فيها لم يتغير فلم ولا يلزم إذا ابتدأ العصر في أول الوقت
ثم مده إلى أن غربت الشمس قبل فراغه منها فإنه نص محمد أنه
لا يفسد وقد كان الوجوب مضافا إلى سبب صحيح ووجهه أن الشرع
جعل الوقت متسعا ولكن جعل له حق
ـــــــ
السلام: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد
أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد
أدرك العصر" 1, رواه أبو هريرة رضي الله عنه, والفرق
بينهما عندنا أن الطلوع بظهور حاجب الشمس وبه لا ينتفي
الكراهة بل يتحقق فكان مفسدا للفرض والغروب بآخره وبه
ينتفي الكراهة فلم يكن مفسدا للعصر وتأويل الحديث أنه
لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت قل أو كثر كذا في
المبسوط ولكن يأبى هذا التأويل ما روي في رواية أخرى عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب
الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة الصبح قبل
أن تطلع الشمس فليتم صلاته" , والتأويل الصحيح ما ذكره أبو
جعفر الطحاوي2 رحمه الله في شرح الآثار أن هذا الحديث كان
قبل نهيه عليه السلام عن الصلاة في الأوقات المكروهة ولا
يقال كان ذلك نهيا عن التطوع خاصة كالنهي عن الصلاة بعد
الفجر والعصر فلا يوجب نسخ هذا الحديث; لأنا نقول بل هو
نهي عن الفرائض والنوافل فإن قضاء الفوائت فيها لا يجوز,
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الصبح
غداة ليلة التعريس انتظر في قضائها إلى أن ارتفعت الشمس
فدل هذا على أن ما رواه نسخ به. وعن أبي يوسف رحمه الله أن
الفجر لا يفسد بطلوع الشمس ولكنه يصبر حتى إذا ارتفعت
الشمس أتم صلاته وكأنه استحسن هذا ليكون مؤديا بعض الصلاة
في الوقت ولو أفسدها كان مؤديا جميع الصلاة خارج الوقت
وأداء بعض الصلاة في الوقت أولى من أداء الكل خارج الوقت
كذا في المبسوط, وقوله بطل الفرض إشارة إلى نفي ما روي عن
محمد رحمه الله أن أصل الصلاة يبطل ببطلان الجهة على ما
عرف في شرح الجامع الصغير للمصنف.
قوله: "جعل الوقت متسعا" الشارع جعل جميع الوقت محلا لأداء
فرض الوقت
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة 1/151 ومسلم في المساجد
حديث رقم 608 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 412 والترمذي
في الصلاة حديث رقم 186 وابن ماجه في الصلاة حديث رقم 699.
2 هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي
الطحاوي الحجري الفقيه المحدث ولد سنة 239 هـ توفي سنة 321
هـ انظر البداية والنهاية 11/174.
(1/333)
شغل كل الوقت
بالأداء فإذا شغله بالأداء جاز وإن اتصل به الفساد; لأن ما
يتصل من الفساد بالبناء جعل عفوا; لأن الاحتراز عنه مع
الإقبال على الصلاة متعذر وقد روى هشام عن محمد رحمه الله
فيمن قام إلى الخامسة في العصر أنه يستحب له الإتمام; لأنه
من غير قصده ثبت فإذا اتصل به الفساد صار في الحكم عفوا
فصار بمنزلة المؤدى في وقت الصحة بخلاف حالة الابتداء;
لأنه بقصده ثبت الفساد إذ الاحتراز عنه ممكن بأن يختار
وقتا لا فساد فيه.
وأما إذا خلا الوقت عن الأداء أصلا فقد ذهب الضرورة
الداعية عن الكل
ـــــــ
وأثبتت له ولاية شغل الكل بالأداء وهو العزيمة; لأن الأصل
أن يكون العبد مشغولا بخدمة ربه في جميع الأوقات إلا أن
الله تعالى جعل للعبد ولاية صرف بعض الأوقات إلى حوائج
نفسه رخصة فثبتت أن شغل كل الوقت بالعبادة هو العزيمة,
ولهذا جعلنا الوقت في حق صاحب العذر مقام الأداء لحاجته
إلى شغل الوقت بالأداء ولا يمكنه الأقبال على العزيمة ههنا
إلا بأن يقع بعض الأداء في الوقت الناقص فيصير ذلك البعض
ناقصا ولما لم يمكن الاحتراز عنه سقط اعتباره; لأنه حصل
حكما لا قصدا فإنه بناء على الأول كما قال محمد في النوادر
إن من شرع في الخامسة بعدما قعد قدر التشهد في صلاة العصر
فإنه يضيف إليها ركعة أخرى ويكون الركعتان تطوعا ومعلوم أن
التطوع بعد العصر مكروه ولكن لما كانت بناء على الأول وقد
حصل حكما لا قصدا لم يعتبر حتى لم تثبت صفة الكراهة كذا
هذا كذا ذكره أبو اليسر رحمه الله. وذكر القاضي الإمام
علاء الدين المعروف بالغني في مختلفاته أنه السبب إنما هو
الجزء القائم من الوقت لا جملة الوقت ونعني بالجزء القائم
أنه لو أخر ينتقل السببية جزءا فجزءا إلى آخر الوقت وعلى
هذا الحرف يخرج الفرق بين صلاة الفجر والعصر فإن الفجر
يفسد بطلوع الشمس في خلاله والعصر لا يفسد بالغروب, ثم قال
وظن كثير من فقهائنا أنا نعني بالجزء القائم الجزء الذي هو
قبيل الشروع وليس كذلك فإنه لو شرع في العصر في الوقت
المستحب وطول القراءة حتى دخل الوقت المكروه يجوز ولو جعل
الوجوب مضافا إلى الجزء الذي هو قبيل الشروع لكان لا يجوز;
لأن السبب كامل بل نقول بعد الشروع كل جزء إلى آخر الصلاة
سبب لوجوب الجزء الذي يلاقيه ومحل لأدائه إلا أن يخرج
الوقت فيتقرر السببية على الجزء الأخير إن كان شرع فيها في
آخر الوقت.
قوله: "وأما إذا خلا الوقت يجوز أن يكون" جواب سؤال وهو أن
يقال لما انتقلت السببية إلى الجزء الأخير لزم أن يجوز
الأداء في الأوقات الناقصة إذا كان الجزء الأخير ناقصا
(1/334)
إلى الجزء وهو
ما ذكرنا من شغل الأداء فانتقل الحكم إلى ما هو الأصل وهو
أن يجعل كل الوقت سببا فإذا فاتت العصر أصلا أضيف وجوبها
إلى جملة الوقت دون الجزء الفاسد فوجبت بصفة الكمال فلم
يجز أداؤها بصفة النقصان ولا يلزم إذا أسلم الكافر في آخر
وقت العصر ثم لم يؤد حتى احمرت الشمس في اليوم
ـــــــ
كالعصر إذا فاتت عن وقتها ينبغي أن يجوز قضاؤها في الأوقات
المكروهة فأجاب بما ذكر, ويجوز أن يكون ابتداء بيان النوع
الرابع من القسم الأول وهو أن الوجوب يضاف إلى كل الوقت
إذا فات الأداء في الوقت; لأنا إنما جعلنا جزءا من الوقت
سببا ضرورة وقوع الأداء في الوقت; لأن الوقت بعينه شرط
الأداء وذلك سبب أيضا ولا يجوز أن يكون الوقت الواحد ظرفا
وسببا فجعلنا جزءا منه سببا والباقي ظرفا وهذه الضرورة
فيما إذا جعله ظرفا متحققة فإذا لم يجعله ظرفا بأن لم يؤد
في الوقت حتى فات سقطت الضرورة ووجب العمل بالأصل وهو أن
يجعل الوقت سببا لكماله; لأن الإضافة وجدت إلى جميع الوقت
يقال صلاة الظهر والظهر اسم لجميع الوقت ولما جعل الكل
سببا ولا فساد في كل الوقت كان الواجب على وقفه فلا يصح
أداؤه في وقت ناقص كما في الفجر وقت الطلوع.
ولا يقال لو كان الوجوب مضافا إلى الكل بعد الفوات لزم أن
لا يكون الوجوب ثابتا في الوقت فوجب أن لا يكون إنما بترك
الأداء; لأنا نقول إنما ينتقل السببية إلى الكل بعد اليأس
عن الأداء في الوقت فلا يلزم منه انتفاء الوجوب في الوقت,
ولأنه لما كان مأمورا بأداء الصلاة في الوقت ومن ضرورته
جعل بعض الوقت سببا في حقه فكان له القدرة على أن يقرر بعض
الوقت للسببية بأن يصل الأداء به يأثم بتركه وتقصيره.
"فإن قيل" لو أضيف الوجوب إلى جميع الوقت وبعضه ناقص في
العصر يكون الواجب ناقصا ضرورة فينبغي أن يجوز قضاؤه في
وقت مثله.
"قلنا" السبب الكامل من وجه ناقص من وجه الواجب يكون كذلك
فلا يتأدى في الوقت الناقص من كل وجه كذا في مختلفات
القاضي الغني, إلا أنه يقتضي أنه لو قضى العصر في اليوم
الثاني فوقع بعضه في الوقت الناقص كان جائزا وليس كذلك فإن
وقت التغير ليس بوقت لقضاء شيء من الصلاة كذا ذكر القاضي
الإمام فخر الدين رحمه الله في الجامع الصغير, والجواب
الصحيح ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله أنه إذا لم يشتغل
بالأداء حتى تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينا في ذمته
فيثبت بصفة الكمال وإنما يتأدى بصفة النقصان عند ضعف السبب
إذا لم يصر دينا في الذمة وذلك بأن يشتغل بالأداء; لأنه
يمنع صيرورته دينا في الذمة.
(1/335)
الثاني وقد نسي
ثم تذكر فأراد أن يؤديها عند احمرار الشمس لأن هذا لا يروى
ومن حكم هذا القسم أن وقت الأداء لما لم يكن متعينا شرعا
والاختيار فيه للعبد لم يقبل التعين بتعيينه قصدا ونصا
وإنما يتعين ضرورة تعين الأداء وهذا لأن تعيين الشرط أو
السبب ضرب تصرف فيه وليس إلى العبد ولاية وضع الأسباب
والشروط فصار إثبات ولاية التعيين قصدا ينزع إلى الشركة في
وضع
ـــــــ
وحقيقة المعنى فيه أن النقصان في هذا الوقت إنما يمكن
باعتبار الفعل لا باعتبار ذاته إذ هو وقت كسائر الأوقات
لكن في الاشتغال بالصلاة في هذا الوقت تشبه بعبادة أهل
الكفر وتعظيمهم ما يعتقدونه آلهة في هذا الوقت فإذا مضى من
غير فعل لم يتحقق فيه نقصان وصار كسائر الأوقات في حق ما
يرجع إلى الإيجاب في الذمة إلا أن النقصان الذي ذكرنا كان
متحملا في الوقت للأمر بالأداء فإذا مضى لم يبق متحملا;
لأن الواجب تحقق في الذمة كاملا فلا يتأدى بصفة النقصان,
وهذا هو الجواب عما إذا أسلم الكافر أو بلغ أو طهرت الحائض
في آخر وقت العصر ثم قضوها في اليوم الثاني في ذلك الوقت
حيث لا يجوز; لأنه إذا مضى الوقت صار الواجب دينا في ذمته
بصفة الكمال فلا يتأدى ناقصا كذا قال شمس الأئمة رحمه الله
تعالى.
ولا يلزم على ما ذكرنا ما إذا كان مقيما في أول الوقت ثم
سافر في آخره وفاتته الصلاة حيث يجب عليه صلاة السفر مع أن
الوجوب مضاف إلى كل الوقت; لأنا نقول النقصان من الأربع
إلى الركعتين لم يثبت من قبل السبب بل يثبت من قبل حال
المصلي فلا يتفاوت بأن يضاف إلى الجزء أو إلى الكل بخلاف
وقت العصر فإن النقصان فيه من قبل السبب فيتفاوت بإضافته
إلى الوقت الناقص والكامل, ولأن الرخصة باعتبار السفر وبعد
خروج الوقت السفر باق فبمضي الوقت لا ينقلب فرضه أربعا
بخلاف ما نحن فيه فإن النقصان باعتبار الوقت ولم يبق فيعود
إلى الكمال.
قوله: "لأن هذا لا يروى" أي عن السلف كأبي حنيفة وأبي يوسف
ومحمد رحمهم الله فيحتمل أن يجوز قال أبو اليسر في هذا
المقام لا نسلم فإنه لا يجوز بل يجوز بأنه لا رواية لهذا.,
ومن المشايخ من قال لا يجوز; لأن الفوات عن الوقت يوجب
القضاء مطلقا عن الوقت فلا يجوز في وقت ناقص بخلاف الأداء
كما قالوا في قضاء اعتكاف رمضان إذا صامه ولم يعتكف لا
يجوز في الرمضان الثاني وإن كان الأداء جائزا في الرمضان
الأول.
قوله: "لما لم يكن متعينا" يعني لكون الوقت متسعا وكون
العبد مختارا في الأداء والواو في قوله والاختيار للحال,
والضمير في فيه راجع إلى الأداء أو إلى التعيين الذي
(1/336)
المشروعات
وإنما إلى العبد أن يرتفق بما هو حقه ثم يتعين به المشروع
حكما ونظير هذا الكفارة الواجبة في الأيمان أن الحانث فيها
بالخيار إن شاء أطعم عشرة مساكين وإن شاء كساهم وإن شاء
حرر رقبة ولو عين شيئا من ذلك قصدا لم يصح وإنما يصح ضرورة
فعله لما قلنا ومن حكمه أن التأخير عن الوقت يوجب الفوات
لذهاب شرط الأداء من حكم كونه ظرفا للواجب أنه لا ينفي
غيره لأنه مشروع أفعالا معلومة في ذمة من عليه فبقي الوقت
خاليا وبقيت منافعه على حقه فلم ينتف غيرها من الصلوات.
ومن حكمه أن النية شرط ليصير ما له مصروفا إلى ما عليه ومن
حكمه أن
ـــــــ
دل عليه الكلام, قصدا أي بالقلب بأن نوى أن يكون هذا الجزء
سببا, ونصا أي بالقول بأن يقول عينت هذا الجزء للسببية لا
يتعين ويجوز الأداء بعده, وهذا أي عدم قبوله التعيين قصدا
ونصا, وليس إلى العبد ولاية تعيين الأسباب والشروط أي من
غير تفويض إليه وههنا كذلك, ينزع إلى الشركة أي يقضي ويذهب
إليها يقال فلان نزع إلى أبيه في الشبه أي ذهب, والتعيين
نوع تصرف; لأنه تقييد للمطلق وهو نسخ لإطلاقه, ثم يتعين به
المشروع أي بارتفاقه تعين ما هو متعلق به. قوله: "وإنما
للعبد أن يرتفق" يعني ليس له الاختيار المطلق; لأن ذلك لله
تعالى يفعل ما يشاء ويختار فلو ثبت التعيين بالقول كان
اختيارا مطلقا فإنه خال عن الرفق والنفع وإنما جعل إلى
العبد اختيار ما فيه رفق ولا رفق له في اختيار جزء من
الجملة قولا بل فيه نوع ضرر; لأنه ربما لا يمكنه الأداء
فيه فيفوته الأداء أصلا مع بقاء الوقت وإنما إليه التعيين
بأداء الصلاة وفيه فائدة بأن يختار الأداء في الجزء الذي
تيسر عليه الأداء كذا في أصول الفقه للمصنف رحمه الله.
قوله: "أن لا ينفي غيره" أي لا يمنع صحة صلاة أخرى; لأن
الوقت لما لم يكن معيارا لا يصير مستغرقا بالواجب فلا ينفي
مشروعية سائر أنواع الصلاة وهذا; لأن الصلاة اسم لأفعال
معلومة من القيام والركوع والسجود والقعدة وهذه الأفعال
وجبت في الذمة والأداء يحصل بمنافع بدنه فكان الوقت خلفا
عنها فبقي غيرها مشروعا فيه والمنافع مملوكة له يصرفها إلى
أي نوع شاء كالرجل عليه ديون وله مال لا ينفي وجوب دين آخر
ولا قضاء دين آخر عن ذلك المال كذا هذا, وكذلك من أجر نفسه
لخياطة الثوب ملك أن يخيط ثوبا آخر; لأن الواجب فعل
الخياطة وذلك لا ينافي فعلا آخر كذا هنا. قوله: "النية شرط
ليصير ماله مصروفا إلى ما عليه" أي ليصير المنافع التي هي
مملوكة له صالحة لأداء الفرض وغيره مصروفة إلى ما عليه,
ولا يقال هذا تفسير القضاء; لأن القضاء صرف ماله من
المشروع بعد فوات الوقت إلى ما عليه وهذا صرف المنافع في
الوقت إلى ما عليه, ثم لا بد من تعيين النية وهو إن
(1/337)
تعيين النية
شرط لأن المشروع لما تعدد لم يصر مذكورا بالاسم المطلق إلا
عند تعيين الوصف ومن حكمه أنه لما لزمه التعيين لما قلنا
يسقط بضيق وقت الأداء لأن التوسعة أفادت شرطا زائدا وهو
التعيين فلا يسقط هذا الشرط بالعوارض ولا بتقصير العباد.
وأما النوع الثاني من المؤقتة فما جعل الوقت معيارا له
وسببا لوجوبه مثل شهر رمضان وإنما قلنا إنه معيار له لأنه
قدر وعرف به وسبب له وذلك شهود جزء من الشهر لما نذكر في
باب السبب إن شاء الله ومن حكمه أن غيره صار منفيا لأن
الشرع لما أوجب شغل المعيار به وهو واحد
ـــــــ
تعين فرض الوقت لتعدد المشروع في هذا الوقت, ولم يصر
مذكورا بالاسم المطلق بأن يقول نويت أن أصلي إلا عند تعيين
الوصف بأن يقول بلسانه نويت أن أصلي فرض الظهر أو يقصد
بقلبه ذلك, وذكر فرض الوقت ليس بشرط عند البعض والأصح أنه
شرط ولا يسقط هذا الشرط بضيق الوقت; لأنه من العوارض وهي
لا تعارض الأصل كالعصمة الثابتة بالإسلام والدار لا تسقط
بعارض دخول دار الحرب حتى لو دخل مسلمان دار الحرب وقتل
أحدهما صاحبه يجب الدية; لأن الأصل وهو العصمة لم يبطل
بهذا العارض فكذلك ههنا وجب التعيين باعتبار تعدد المشروع
الذي ثبت بناء على توسع الوقت فلا يسقط بعارض ضيق الوقت,
ألا ترى أن التعدد باق فإنه لو قضى فرضا آخر عند ضيق الوقت
أو أدى نفلا جاز ويجوز أن يكون المراد من العوارض النوم
والإغماء ونحوهما أي لا يسقط هذا الشرط بأن نام أو أغمي
عليه أو نسي حتى ضاق الوقت; لأنها من العوارض وكذلك لا
يسقط بتقصير العباد بالطريق الأولى; لأن التقصير لا يصلح
سببا لسقوط الحق.
قوله: "وإنما قلنا إنه معيار" أي الوقت معيار لأنه قدر أي
لأن الصوم قدر بالوقت حتى ازداد بازدياده وانتقص بنقصانه
كالمكيل بالكيل وعرف به أي الصوم عرف بالوقت فقيل الصوم هو
الإمساك عن المفطرات الثلاث نهارا مع النية بإذن صاحب
الشرع فإذا دخل الوقت وهو النهار في تعريفه لا يوجد بدونه
فكان مقدرا به وكان الوقت معيارا له ضرورة ويجوز أن يكون
عرف من المعرفة ويكون تأكيدا لقدر أي قدر الصوم بالوقت
وعرف مقدار الصوم به فكان معيارا له وسبب له عطف على معيار
أي الوقت سبب للصوم كما يعرف في موضعه ومن حكمه أي حكم هذا
النوع شغل المعيار به أي بهذا الواجب الموقت به وهو أي
المعيار واحد والواو للحال فإذا ثبت له أي للمعيار وصف وهو
كونه مشغولا بواجب يعني: "المعيار واحد" فإذا صار معيارا
للفرض لا يسع فيه غيره مع قيام الفرض فيه فكان من ضرورة
تعين الفرض انتفاء غيره لأنه لا يتصور أداء صومين بإمساك
واحد ولا يتصور في هذا الوقت إلا إمساك واحد وهو لا يفضل
عن المستحق فلا يكون غيره مشروعا
(1/338)
فإذا ثبت له
وصف انتفى غيره كالمكيل والموزون في معياره فانتفى غيره
لكونه غير مشروع قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ولما لم
يبق غيره مشروعا لم يجز أداء الواجب فيه من المسافر لأن
شرع الصوم فيه عام ألا ترى أن صوم المسافر عن الفرض يجزيه
فيثبت أنه مشروع في حقه إلا أنه رخص له أن يدعه بالفطر
وهذا لا يجعل غير الفرض مشروعا فانعدم فعله لعدم ما نواه
وكذلك على قولهما إذا نوى النقل أو أطلق النية وكذلك
المريض في هذا كله وقال أبو حنيفة رحمه الله الوجوب واقع
على المسافر ولهذا صح أداؤه بلا توقف إلا أنه
ـــــــ
فيه ولا يتصور الأداء شرعا كذا قاله شمس الأئمة رحمه الله.
وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله المسافر
إذا نوى واجبا آخر في رمضان أو تطوعا أو أطلق النية وقع عن
فرض رمضان لأن شرع الصوم عام في حق المقيم والمسافر لأن
وجوبه بشهود الشهر وقد تحقق في حق المسافر كما تحقق في حق
المقيم ولهذا لو صام عن فرض الوقت يجزيه وقد بينا أن شرعه
ينفي شرعية الغير فثبت أن غير فرض الوقت لم يبق مشروعا في
حق المسافر أيضا إلا أن الشرع أثبت له الترخص بالفطر دفعا
للمشقة فإذا ترك الترخص كان هو والمقيم سواء فيقع صومه عن
فرض الوقت بكل حال. وقوله رخص له أن يدعه بالفطر معناه أن
الترخص مختص بالفطر دون غيره فلو جوزنا له الصوم لا عن فرض
الوقت صار مترخصا بما لم يجعل الشرع له ذلك فكان هذا نصب
المشروع للشرع لا انقيادا للشرع كذا ذكر الشيخ في شرح
التقويم فانعدم فعله أي أداؤه الواجب الآخر أو التطوع لعدم
ما نواه أي لعدمه في نفسه شرعا كالصوم في الليل وقال أبو
حنيفة رحمه الله إذا نوى عن واجب آخر يقع عما نوى لأن
الوجوب وإن كان ثابتا في حق المسافر لوجود سببه وهو شهود
الشهر إلا أن الشرع أثبت له الترخص بترك الصوم تخفيفا عليه
عند وجود السفر الذي هو محل المشاق. ومعنى الترخص أن يدع
مشروع الوقت بالميل إلى الأخف فإذا اشتغل بواجب آخر كان
مترخصا لأن إسقاطه من ذمته أخف عليه من إسقاط فرض الوقت
لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لا يكون مؤاخذا بفرض
الوقت ويكون مؤاخذا بذلك الواجب ولما جاز له الترخص بالفطر
لأنه أخف عليه نظرا إلى منافع بدنه فلأن يجوز له الترخص
بما هو أخف عليه نظرا إلى مصالح دينه كان أولى.
قوله: "ولهذا صح أداؤه" وهذا عند جمهور الفقهاء وأكثر
الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعند أصحاب الظواهر لا يجوز
وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم لأن
الوجوب في حقه مضاف إلى عدة من أيام فصار هذا الوقت في حقه
(1/339)
رخص له الترك
قضاء لحقه وتخفيفا عليه فلما أساغ له الترخص بما يرجع إلى
مصالح بدنه ففيما يرجع إلى مصالح دينه وهو قضاء ما عليه من
الدين أولى وصار كونه ناسخا لغيره متعلقا بإعراضه عن جهة
الرخصة وتمسكه بالعزيمة
ـــــــ
كالشهر في حق المقيم فلا يجوز الأداء قبله وقال صلى الله
عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" 1 وقال:
"ليس من البر الصيام في السفر" 2 وتمسك الجمهور بقوله
تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
[البقرة: 185] وهذا يعم المسافر والمقيم ثم قوله عز ذكره:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185]
لبيان الترخص بالفطر فينفى به وجوب الأداء لا جوازه وفي
حديث أنس رضي الله عنه قال سافرنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر لا يعيب البعض على
البعض3 والأخبار في هذا كثيرة وتأويل حديثهم إذا كان يجهده
الصوم حتى يخاف عليه الهلاك على ما روي أنه عليه السلام مر
برجل مغشي عليه قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فسأل عن
حاله فقيل إنه صائم فقال: "ليس من البر الصيام في السفر"
يعني لمن هذا حاله كذا في المبسوط.
قوله: "بلا توقف" احتراز عن أداء الصلاة في أول الوقت على
قول بعض مشايخنا العراقيين فإنه موقوف على ما يظهر من حال
المؤدي في آخر الوقت عندهم لأن السبب هو الجزء الأخير
عندهم واحتراز عن أداء الزكاة في أول الحول فإنه موقوف على
كمال النصاب في آخر الحول حتى لو هلك النصاب كان له أن
يسترد من الساعي إن كان قائما لأن أصل السبب وإن وجد في
أول الحول إلا أن وصفه وهو النماء لم يوجد. فلو وجد أصل
السبب قلنا بالجواز ولفوات وصفه قلنا بالتوقف وههنا السبب
وهو شهود الشهر ثابت في حق الجميع بصفة الكمال فيصح الأداء
بلا توقف كأداء الحج من الفقير لكمال سببه وهو البيت ويجوز
أن يكون معناه بلا تردد وشك.
قوله: "وصار كونه ناسخا لغيره" جواب عن قولهما إن شرع
الصوم لما ثبت في حقه لم يبق غيره مشروعا أي صار كون صوم
رمضان ناسخا لغيره من الصيامات متعلقا بإعراضه عن الرخصة
وتمسكه بالعزيمة
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الصيام حديث رقم 1666.
2 أخرجه البخاري في الصوم 3/44 ومسلم في الصيام حديث رقم
1115 وأبو داود في الصيام حديث رقم 2407 وابن ماجه في
الصيام حديث رقم 1665 والإمام أحمد في المسند 3/299.
3 أخرجه البخاري في الصوم 3/44 ومسلم في الصيام رقم 1118
والإمام مالك في الموطأ 1/295 أبو داود في الصوم حديث رقم
2405 والإمام أحمد في المسند 3/45.
(1/340)
وإذا لم يفعل
بقي مشروعا فصح أداؤه ولأن الأداء غير مطلوب منه في سفره
فصار هذا الوقت في حق تسليم ما عليه بمنزلة شعبان فقبل
سائر الصيامات, والطريق الأول يوجب أن لا يصح النقل بل يقع
عن الفرض والثاني يوجب أن يصح وفيه روايتان عنه وأما إذا
أطلق النية فالصحيح أن يقع عن رمضان لأن الترخص والترك لا
يتحقق بهذه العزيمة وأما المريض فإن الصحيح
ـــــــ
فإذا لم يفعل أي لم يعرض عن الرخصة لما ذكرنا بقي أي غير
صوم الوقت مشروعا لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط
فصح أداؤه وهذا الطريق يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عن فرض
الوقت كما روى ابن سماعة1 عنه وهو الأصح لأنه لا يمكن
إثبات معنى الرخصة بهذه النية إذ هو يتجشم للحال مرارة
الجوع ويلزمه قضاء فرض الوقت في الثاني ولا فائدة في النفل
إلا الثواب وهو في فرض الوقت أكثر فكان هذا ميلا إلى
الأثقل لا إلى الأخف وإذا لم يثبت الترخص بقي صوم الوقت
مشروعا فيتأدى بنية النفل كما في حق المقيم وروى الحسن عن
أبي حنيفة رحمهما الله أنه يقع عما نوى لأن انتفاء شرعية
النفل ليس من حكم الوجوب واستحقاق الأداء بمنافعه فإن ذلك
موجود في الواجب الموسع بل من حكم تعين هذا الزمان لأداء
الفرض ولا تعين في حق المسافر لأنه مخير بين الأداء فيه
والتأخير إلى عدة من أيام أخر فلا ينتفي صحة أداء صوم آخر
منه بهذا الإمساك كذا ذكر الإمام السرخسي وذكر القاضي
الإمام أبو زيد أن الله تعالى أمر المسافر ابتداء بصوم
العدة من غير شرط الترخص بالفطر فتأجل وجوب الصوم في حقه
بالإضافة كمن نذر أن يصوم رجبا وهو في غير رجب لا يجب
الصوم عليه في الحال فلم يبق في حقه رمضان فرضا إلا أن
يعجله ولما نوى صوما آخر ما عجله فبقي رمضان في حقه كشعبان
ما لم يعجل الفرض فيصح منه أداء النفل وغيره. وتبين بهذا
أنه مترخص بأداء النفل أيضا كما أنه مترخص بأداء فرض آخر
وإن ترخصه لا يبطل إلا بصوم الوقت وأما إذا أطلق النية
فعلى الرواية التي لا يصح نية النفل لا شك أنه يقع عن
رمضان وإن بنية النفل لما وقع عن صوم الوقت مع أنها لا
تحتمل الفرض فبالنية المطلقة التي تحتمله أولى أن يقع عنه
وعلى الرواية التي يقع بنية النفل عن النفل قيل إذا أطلق
النية لا يقع عن الفرض لأن رمضان لما صار في حقه كشعبان
حتى قيل سائر أنواع الصيام لا بد من تعيين النية كما في
الظهر المضيق ولأن المطلق يحتمل النفل والفرض والوقت
يقبلهما فكان الحمل على النفل الذي هو أدنى أولى كما في
خارج رمضان والصحيح أنه يقع عن فرض الوقت
ـــــــ
1 هو محمد بن سماعة بن عبد الله بن هلال بن وكيع بن بشر
التميمي 130 – 232.
(1/341)
عندنا فيه أن
يقع صومه بكل حال عن الفرض لأن رخصته متعلقة بحقيقة العجز
فيظهر بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فيلحق بالصحيح
ـــــــ
على جميع الروايات لأن الترخص وترك العزيمة وهي صوم الوقت
لا يثبت بهذه النية لأنه إنما يثبت بنية واجب آخر أو بنية
صريح النفل على رواية الحسن وهذه النية لا تحتمل واجبا آخر
غير فرض الوقت لأنه لا يتأدى بمثل هذه النية في غير رمضان
ففيه أولى وليست بنية صريح النفل أيضا بل هي تحتمله كما
تحتمل فرض الوقت ولما لم يثبت الترخص التحق بالمقيم فإطلاق
النية منه ينصرف إلى صوم الوقت وصار الحاصل أن الرخصة عنده
متعلقة بالفطر وما في معناه من ترفيه يرجع إليه وعندهما هي
متعلقة بالفطر لا غير.
قوله: "أما المريض فالصحيح عندنا" إلى آخره احترز به عما
روى أبو الحسن الكرخي رحمه الله أن الجواب في المريض
والمسافر سواء على قول أبي حنيفة رحمه الله وبهذه الرواية
أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله فقال وإن كان مريضا
أو مسافرا فصام رمضان بنية واجب آخر فعند أبي حنيفة يصير
صائما عما نوى ولو صام بنية التطوع ففي ظاهر الرواية أنه
يصير صائما عن رمضان وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
أنه يصير صائما عما نوى وهو اختيار شيخ الإسلام صاحب
الهداية والقاضي الإمام فخر الدين والإمام ظهير الدين
الولوالجي1 والقاضي الإمام ظهير الدين البخاري والشيخ
الكبير أبي الفضل الكرماني رحمهم الله فقد ذكر أبو الفضل
في الإيضاح وكان مشايخنا يفصلون بين المسافر والمريض وأنه
ليس بصحيح والصحيح أنهما يتساويان قال وقد روى أبو يوسف عن
أبي حنيفة رحمهما الله نصا أنه إذا نوى التطوع يقع عن
التطوع وما ذكر ههنا اختيار المصنف وشمس الأئمة ومن
تابعهما.
قلت وكشف هذا أن الرخصة لا تتعلق بنفس المرض بإجماع بين
الفقهاء ولا يعبأ فيه بقول مخالفيهم وذلك لأن المرض متنوع
نوع منه ما يضر به الصوم نحو الحميات المطبقة ووجع الرأس
والعين وغيرها ونوع منه ما لا يضر به الصوم كالأمراض
الرطوبية وفساد الهضم وغير ذلك, والترخص إنما ثبت للحاجة
إلى دفع المشقة والضرر ترفيها فمن البعيد أن يثبت فيما لا
حاجة فيه إلى دفع ضرر. فلذلك شرط كونه مفضيا إلى الحرج
بخلاف السفر فإنه يوجب المشقة بكل حال فتعلق الترخص بنفس
السفر وأقيم السفر مقام المشقة لما عرف
ـــــــ
1 ظهير الدين الولوالجي عبد الرشيد بن أبي حنيفة بن عبد
الرزاق أبو الفتح المتوفى سنة 540 هـ فقيه حنفي انظر معجم
المؤلفين 2/231.
(1/342)
فأما المسافر
فيستوجب الرخصة بعجز مقدر بقيام سببه وهو السفر فلا يظهر
بنفس الصوم فوات شرط الرخصة فلا يبطل الترخص فيتعدى حينئذ
بطريق التنبيه إلى حاجته الدينية قال زفر رحمه الله ولما
صار الوقت متعينا لهذا
ـــــــ
ثم عندنا يثبت الترخص بخوف ازدياد المرض كما يثبت بحقيقة
العجز لا خلاف فيه بين أصحابنا فإن من ازداد وجعه أو حماه
بالصوم يباح له الفطر وإن لم يعجز عن الصوم ولم يرو عن أحد
من أصحابنا خلاف ذلك فهذا المريض إن تحمل زيادة المرض وصام
عن واجب آخر لا شك أنه يقع عما نوى عند أبي حنيفة إذ لا
فرق بينه وبين المسافر بوجه فعلى هذا لا يستقيم الفرق الذي
ذكره صاحب الكتاب إلا بتأويل وهو أن المرض لما تنوع كما
ذكرنا تعلق الترخص في النوع الأول وهو الذي يضر به الصوم
بخوف ازدياد المرض ولم يشترط فيه العجز الحقيقي دفعا للحرج
وتعلق في النوع الثاني بحقيقة العجز لأنه وإن لم يضر به
الصوم لكن لما آل أمر المريض إلى الضعف الذي عجز به عن
الصوم لا بد من أن يثبت له الترخص دفعا للهلاك عن نفسه كما
يثبت بالإكراه إذ معنى العجز أنه لو صام لهلك غالبا فإذا
صام هذا المريض عن واجب آخر ولم يهلك ظهر أنه لم يكن عاجزا
ولم يثبت له الترخص فيقع عن فرض الوقت. فظهر أن مراد الشيخ
أبي الحسن من قوله الجواب في المريض والمسافر سواء المريض
الذي أضر به الصوم وتعلق ترخصه بازدياد المرض ومراد المصنف
من قوله إن رخصته متعلقة بحقيقة العجز المريض الذي لم يضر
به الصوم وتعلق ترخصه بحقيقة العجز. وقوله فإن الصحيح
عندنا كذا أراد به نفسه وإنما قال هذا لأن رواية الشيخ أبي
الحسن أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي
حنيفة لو أجريت على ظاهرها وعمومها من غير تأويل لأوجبت
تعميم الحكم في حق كل مريض كعمومه في حق المسافر وذلك فاسد
فالشيخ نظر إلى عمومها الظاهري وأشار إلى الفساد بقوله فإن
الصحيح عندنا كذا يوضح ما ذكرنا ما قال شمس الأئمة في
المبسوط فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أنه يقع
صومه من رمضان لأن إباحة الفطر له عند العجز عن أداء الصوم
فأما عند القدرة فهو والصحيح سواء بخلاف المسافر ثم قال
وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله إن الجواب في المريض
والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهو سهو أو مؤول ومراده
مريض يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض فهذا يدلك بأدنى
تأمل على صحة ما ذكرنا والله أعلم.
قوله: "بطريق التنبيه" التنبيه الإعلام يعني جواز الترخص
بالفطر لحاجته الدنيوية تنبيه على جوازه بأداء الصوم
لحاجته الدينية بالطريق الأولى لأنه أهم فيتعدى الترخص أو
الحكم من الفطر إلى الصوم الواجب للحاجة بالقياس أو
بالدلالة.
(1/343)
المشروع صار ما
يتصور من الإمساك في هذا الوقت مستحقا على الفاعل فيقع
للمستحق بكل حال كصاحب النصاب إذا وهبه من الفقير بعد
الحول وكأجير الوحد يستحق منافعه قلنا ليس التعيين
باستحقاق لمنافع العبد لأن ذلك لا يصلح قربة وإنما القربة
فعل يفعله العبد عن اختيار بلا جبر بل الشرع لم يشرع
ـــــــ
قوله: "ولما صار متعينا" إلى آخره, الصحيح المقيم إذا أمسك
في نهار رمضان ولم يحضره النية لم يكن صائما عندنا وقال
زفر رحمه الله يخرج به عن عهدة الأمر لأن الأمر بالفعل متى
تعلق بمحل بعينه أخذ حكم العين المستحق فعلى أي وصف وجد
وقع عن جهة المأمور به كالأمر برد المغصوب والودائع لما
كان متعلقا بمحل بعينه فعلى أي وجه أوقع الفعل لا يقع إلا
عن الجهة المستحقة عليه كالأمر بأداء الزكاة لما تعلق بمحل
عين وهو النصاب كان الصرف إلى الفقير واقعا عن الجهة
المستحقة حتى لو وهب النصاب من الفقير من غير نية يخرج عن
العهدة وكما لو استأجر إنسانا ليخيط له ثوبا كان الفعل
الواقع فيه من جهة ما استحق عليه سواء قصد به التبرع أو
أداء الواجب بالعقد والفقه الجامع للكل أنه لما أخذ تعلقا
بمحل عين كان متعينا على اعتبار الوجود فإذا وجد وقع عنه
وإن كان دينا باعتبار ذاته على معنى أنه يجب إيجاده.
ولنا حرفان أحدهما أن الواجب في الذمة أمر العبد بتحصيله
وإيجاده في وقت عين والإيجاد بصورته ومعناه وصورته الإمساك
ومعناه كونه عبادة. وهذا المعنى لا يحصل إلا بالعزيمة ولم
توجد فلا يقع عن الجهة المستحقة وإن تعين له بخلاف هبة
النصاب لأن الإخراج تم بصورته ومعناه وكذا الفعل في
الإجارة تم بصورته ومعناه.
والثاني وهو المذكور في الكتاب أن منافعه مع تعين الوقت
للفرض واستحقاق الصوم عليه بقيت على ملكه ونعني بها
الصلاحية التي يتمكن بها من أداء العبادة أو غيرها وهو
مأمور بأن يؤدي بها ما هو مستحق عليه من العبادة وذلك
بأداء يكون منه عن اختيار فلا يتحقق ذلك بدون العزيمة لأنه
ما لم يعزم لا يكون صارفا ماله إلى ما هو مستحق عليه ولا
يحصل ذلك بعدم العزيمة لأن العدم ليس بشيء ولا يقال
الإمساك وجد منه اختيارا فلا حاجة إلى النية ليحصل
الاختيار لأنا نقول إنما شرطنا الاختيار في صرف هذا الفعل
عن العادة إلى العبادة ولا يحصل ذلك بدون النية وإنما لا
يمكنه صرف منافعه إلى أداء صوم آخر لأنه غير مشروع لا لأن
المنافع مستحقة عليه كما لا يمكنه ذلك في الليل وهذا بخلاف
الأجير فإن المستحق منافعه إن كان أجيرا واحدا والوصف الذي
يحدث في الثوب إن كان أجيرا مشتركا فيه وذلك لا يتوقف على
عزم يكون منه وبخلاف الزكاة فإن المستحق صرف جزء من المال
إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى. وقد تحقق
(1/344)
في هذا الوقت
مما يتصور فيه الإمساك قربة إلا واحدا فانعدم غير الفرض
الوقتي لعدم كونه مشروعا لا باستحقاق منافعه كما ينعدم في
الليل أصلا ولا استحقاق ثمة فإذا بقيت المنافع له لم يكن
بد من التعيين ولم يوجد لأن عدم العزيمة ليس بشيء بخلاف
هبة النصاب لأنه عبادة تصلح مجازا عن الصدقة
ـــــــ
ذلك فالهبة صارت عبارة عن الصدقة في حقه مجازا لأن المبتغى
بها وجه الله تعالى دون العوض من المصروف إليه كما أن
الصدقة على الغني صارت عبارة عن الهبة حتى ملك المتصدق
الرجوع بدلالة في المحل قال شمس الأئمة في المبسوط وفي
مسألة هبة النصاب معنى القصد حصل باختيار المحل ومعنى
القربة حصل لحاجة المحل ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا
يملك الرجوع فيه لحصول الثواب له فالحاصل أن الخصم نظر إلى
الإمساك فقال هو الواجب لا غير وجعل تأثير النية في تحصيل
الإيقاع عن الجهة المستحقة ولا حاجة إلى ذلك إذا تعلق بمحل
عين ونحن جعلنا تأثيرها في تحصيل معنى الإمساك وهو كونه
عبادة ووقفنا الحصول على وجود المعنى كما وقفنا على حصول
الصورة أو جعلنا تأثيرها في تحقيق معنى الاختيار الذي هو
شرط في تحصيل العبادة ثم بعد حصول المعنى أو حصول أداء
العبادة عن اختيار أعرضنا عن تعيين النية كما نذكره مع
الشافعي رحمة الله عليه.
وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله ينكر هذا المذهب لزفر
ويقول المذهب عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما
هو قول مالك رحمه الله وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في
الصحيح المقيم فأما المريض أو المسافر فلا خلاف أنه لا
يكون صائما ما لم يبق. والفرق لزفر رحمه الله أن الأداء
غير مستحق في هذا الوقت فلا يتعين إلا بنيته بخلاف الصحيح
المقيم وقلنا إنما يشترط النية ليصير الفعل قربة وفي هذا
المسافر والمقيم سواء كذا في المبسوط.
وقوله كصاحب النصاب أداء وهبة من الفقير بعد الحول إنما
يستقيم مقيسا عليه لزفر إذا لم يحصل للفقير غنى بهذه الهبة
بأن كان مديونا أو وهبه متفرقا فأما إذا لم يكن كذلك فلا
لأن إيتاء مأتي درهم إلى الفقير بنية الزكاة لا يصح عنده
ولا يخرج به عن العهدة فما ظنك في الهبة بدون نية الزكاة
إلا إذا أراد به الإلزام على مذهب الخصم مما يتصور فيه
الإمساك قربة أي من فرض الوقت والقضاء والمنذور والكفارة
والنفل إلا واحدا وهو فرض الوقت لم يكن بد من التعيين أي
تعيين المنافع للعبادة لأنه عبارة أي عقد الهبة عبارة
والعبارة شيء فأمكن أن يجعل مجازا عن الصدقة بخلاف عدم
العزيمة فإنه ليس بشيء.
(1/345)
استحسانا. وقال
الشافعي رحمه الله لما كانت منافعه بقيت على ملكه وجب
التعيين حتى يصير مختارا لا مجبورا ولو وضعنا عنه تعيين
الجهة لصار مجبورا في صفة العبادة ولخلا معنى العبادة عن
الإقبال والعزيمة وقلنا الأمر على ما قلت إلا
ـــــــ
قوله: "لما بقيت منافعه" أي إلى آخره يصح صوم رمضان بنية
التطوع ونية واجب آخر ونية الصوم مطلقا عن الصحيح المقيم
وقال الشافعي رحمه الله لا يصح عن أحد بنية ما إلا بنية
فرض رمضان لأن منافعه لما بقيت على ملكه وجب التعيين أي
تعيين الجهة لأنه لا يتحقق صرف ماله إلى مشروع الوقت ما لم
يعينه في عزيمته وهذا لأن الصوم متنوع في أوصافه فرضا
ونفلا كأصل الإمساك متنوع إلى عادة وعبادة ومعنى العبادة
معتبر في الوصف كما هو معتبر في الأصل فإنه مأمور به ويحصل
به زيادة ثواب ويستحق تاركه زيادة تغليظ في العقاب فكان
الوصف بنفسه عبادة كأصل الصوم ومن الممتنع حصول عبادة لا
عن اختيار من العبد فكما شرطت العزيمة للأصل نفيا للجبر
فكذلك يشترط للوصف لهذا المعنى كما في الصلاة.
ولا يقال تعين المحل لقبول المشروع دون غيره قد أغنى عن
تعيين الوصف لأنا نقول تعين الوصف واجب على العبد ليقع عن
اختيار ولا يغني تعين المحل عن ذلك شيئا إذ نحن ما اعتبرنا
النية للتمييز حتى يسقط اعتبار التميز بالنية بتعين المحل
وإنما اعتبرت للتحصيل على ما حققنا ولا يلزم عليه حجة
الفرض حيث يتأدى بمطلق النية بالإجماع وبنية النفل عندي
لأنه ثبت بخلاف القياس بدلالة النص. وهو ما روي عن النبي
عليه السلام أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال: "ومن شبرمة"
فقال أخ لي أو صديق لي فقال: "أحججت عن نفسك" قال لا فقال
عليه السلام: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة" 1 فأمر بالحج لنفسه
بإحرام انعقد لغيره فجوزنا عن الفرض بنية النفل أيضا دلالة
ولا يمكن إلحاق الصوم بالحج لأن أمر الحج عظيم الخطر لما
يحتاج فيه إلى زيادة مشقة وليس الصوم في معناه ولكنا نقول
الأمر على ما قلت أي لا بد للوصف من التحصيل بالنية نفيا
للجبر كما لا بد للأصل منه إلا أن النية الموجودة شاملة
للأصل والوصف. وبيانه أنا أجمعنا على أن الشرط هو نية
الصوم المشروع فيه حتى إذا نوى بهذا الوصف أجزأه وإن لم
ينو فرضا وهو بنية أصل الصوم نوى مشروع الوقت لأن المشروع
فيه واحد وهو الفرض بلا خلاف بيننا وبين الشافعي والواحد
في مكان أو زمان ينال باسم جنسه كما ينال باسم نوعه باسمه
العلم فإن زيدا لو نودي يا إنسان أو يا رجل وهو منفرد
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في المناسك حديث رقم 1811 وابن ماجه في
المناسك حديث رقم 2903.
(1/346)
أنه لما اتحد
المشروع في هذا الوقت تعين في زمانه فأصيب بمطلق الاسم ولم
يفقد بالخطإ في الوصف كالمتعين في مكانه فصار جوازه بهذه
النية على أنه تعيين لا على أن التعيين عنه موضوع فكان هذا
منا قولا بموجب العلة وقال
ـــــــ
في الدار كان كما قيل يا زيد فكذا فيما نحن فيه الإمساك قد
وجد بصورته ومعناه لأنه نوى الصوم وهو واحد فيتناوله مطلق
الاسم وهو معنى قول علمائنا رحمهم الله إنه صوم عين فيتأدى
بمطلق النية كالنفل وفي غير رمضان فإنه لا صوم مع النفل في
غير رمضان في أصل الشرع وإنما يوجد غيره بعوارض.
وكذلك إذا نوى النفل لأن الموصوف بأنه نفل غير مشروع فلغت
نية النفل وبقيت نية الصوم فصار كما لو نوى الصوم مطلقا
بمنزلة ما إذا نوى الفرض في غير رمضان ولا فرض عليه يكون
نفلا لأن الوصف لغا فبقي مطلق النية.
"فإن قيل" الواحد في المكان إنما ينال باسم جنسه إذا كان
موجودا وههنا الصوم معدوم يوجد بتحصيله فكيف ينال المعدوم
باسم جنسه.
"قلنا" كونه معدوما لم يمنع أن ينال باسم نوعه بأن نوى
الصوم المشروع في الوقت فكذلك باسم جنسه لأن اسم جنسه اسمه
كما أن اسم نوعه اسمه.
"فإن قيل" لو سلمنا أنه يتأدى بمطلق النية لا نسلم أنه
يتأدى بنية التطوع أو بنية القضاء وغيره لأن المتوحد في
المكان ينال باسمه ولا ينال باسم غيره فإن زيدا لا ينال
باسم عمرو وإن كان ينال باسم إنسان ورجل كيف وأنه بهذه
النية معرض عن الفرض لأنه ترك الثقيل إلى الخفيف فإنه لو
أفطر في النفل أو في القضاء لا يلزمه الكفارة فلا يمكن أن
يجعل مع الإعراض عنه مقبلا عليه لتضاد بينهما يوضحه أنه لو
اعتقد المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر فكيف يجوز أن
يصير ناويا للصوم المشروع بنية النفل.
"قلنا" إنه قد نوى أصل الصوم ووصفه والوقت لا يقبل وصفه
فلغت نية الوصف وبقيت نية الأصل إذ ليس من ضرورة بطلان
الوصف بطلان الأصل لأن قوام الأصل ليس بالوصف وأصل الصوم
جنسه لا اسم غيره بخلاف عمرو فإنه ليس باسم جنس أصلا
والأعراض إنما تثبت في ضمن نية النفل وقد لغت الاتفاق
فيلغو ما في ضمنها ونظيره الحج على مذهبه وبه يبطل قوله
إنه لو اعتقد فيه أنه نفل يكفر.
وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقته أن الفريضة اسم
لفعل ألزمه الله تعالى وبين مقداره وأظهر لنا إلزامه لذلك
الفعل بطريق لا ريبة فيه فلولا الإلزام الظاهر لما سمي
الفعل فريضة والعبادة اسم لكل ما يحصل على طريق الإخلاص
لله تعالى على وجه
(1/347)
الشافعي رحمه
الله لما وجب التعيين شرطا بالإجماع وجب من أوله لأن أول
أجزائه فعل مفتقر إلى العزيمة فإذا تراخى بطل فإذا اعترضت
العزيمة من بعد لم
ـــــــ
لا يبقى فيه لغيره شركة ولهذا كانت العبادة مشروعة بخلاف
هوى النفس لأنها لو كانت على موافقة الهوى لتسارع إليها
المكلفون لما فيها من داعية الهوى واستلذاذ النفس لذلك
فيتحقق فيها الشركة فيزول معنى الإخلاص فكانت العبادة اسما
للفعل لا لعينه بل لوجود فعل آخر من الفاعل وهو الإخلاص
وهو يحصل بالنية وهي أن يقصد بقلبه توجيه فعله إلى الله
تعالى وحده فإذا وجد القصد ههنا كان الإمساك عبادة فبعد
ذلك اتسامه بسمة الفرضية لن يتعلق بفعل يوجد من العبد بل
يتعلق بوجود الإلزام من الله تعالى على طريق ظهر ثبوته
بيقين وقد تحقق ذلك في هذا اليوم بعينه فتتسم هذه العبادة
بهذه السمة شاء العبد أو لم يشأ كالمولود إذا ولد وقد كانت
أمه ولدت قبله آخر يتسم هذا بسمة الأخوة لوجود من يقابله.
فكذا هذا غير أن من نوى نفلا أو واجبا آخر ظن أن لا أمر
بتحصيل عبادة الصوم في هذا اليوم وأن العبادة وإن حصلت
وحصل الإمساك لله تعالى لم يتسم بسمة الفرض لزوال الأمر
بالإمساك المعين في هذا اليوم وهذا الظن منه فاسد كما ظن
أن هذا المولود لا يسمى أخا لأن أمه ما ولدت قبله وقد كانت
ولدت كان الظن باطلا والإثم ثابتا كذا هذا.
قال وعن هذا قال بعض مشايخنا إن هذه المسألة مصورة في
اليوم الأول من شهر رمضان إذا شك إنسان فيه وشرع بهذه
النيات ثم تبين أن هذا اليوم من شهر رمضان حتى يكون هذا
الظن معفوا فأما لو وجد في غيره من الأيام فيخشى عليه
الكفر لأنه ظن أن لا أمر بالإمساك في هذا اليوم المعين
بتعيين الله تعالى للإمساك ومثل هذا الظن يخشى منه الكفر
ثم قال في آخر هذه المسألة ومن وقف على ما ذكرنا عرف جيد
الخصوم عن سنن الصواب بتعلقهم في المسألة بقوله عليه
السلام: "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فإنا
سلمنا أن العمل لن يصير عبادة بدون النية لكن وجدت النية
في المتنازع فيه وإنما الخصم هو الذي ترك العمل بالجبر حيث
أخرج عمله المقرون بالإخلاص عن أن يكون عبادة وكذا قوله
عليه السلام: "ولكل امرئ ما نوى" يقتضي جواز الصوم لوجود
النية ثم يكون الصوم فرض الوقت لوجود الإلزام من الله
تعالى على وجه توقف عليه بطريق لا شبهة فيه والله أعلم.
قوله: "لما وجب التعيين شرطا بالإجماع" أي وجب تعيين مشروع
الوقت باتفاق بيننا أما بتعيين الوصف كما قلت أو بتعيين
الأصل كما قلتم وجب أن يشترط من أوله
(1/348)
يؤثر في الماضي
بوجه لأن إخلاص العبد فيما قد عمله لا يتحقق وإنما هو لما
لم يعمله بعد فإذا فسد ذلك الجزء فسد الباقي لأنه لا ينجزئ
ووجب ترجيح جانب الفساد احتياطا.
وهذا بخلاف التقديم لأن التقديم واقع على جملة الإمساك ولم
يعترض
ـــــــ
فإذا صام بنية من النهار لا يجزيه لأن الصوم واجب عليه في
جميع النهار ولا يوجد ذلك إلا بالنية فإذا خلا أوله عن
النية فسد لفقد شرط ولا وجه إلى تصحيحه بأعمال النية
المتأخرة في الماضي بطريق الإلحاق بأول النهار لأن العزم
أثره في المستقبل من حيث تحقيقه وإيجاده دون تصحيح الماضي
لأنه خرج عن يده ولم يبق قادرا ولا وجه لاعتباره في الأكثر
وإقامته مقام الكل لأنه أمر ترده الحقيقة لأنه مأمور بالكل
ولم يوجد فإنزاله موجدا في الكل بالإيجاد في البعض خلاف
الحقيقة ألا ترى أنه لا يكتفى بالإمساك في الأكثر ولا يقام
مقام الكل فكذا في اعتبار النية التي بها يوجد معنى الصوم
وإذا فسدوا له بعدم العزيمة وأنه غير متجزئ فسد الباقي
ضرورة عدم التجزي. ولا يقال لما صح الباقي بوجود العزيمة
فيه صح الكل ضرورة عدم التجزي أيضا لأنا نقول ترجيح الفساد
في باب العبادة أولى لأنه أقرب إلى الاحتياط إذ فيه الخروج
عن العهدة بيقين فهذا معنى قوله ووجب ترجيح الفساد احتياطا
ولا يلزم عليه النفل فإنه يجوز بنية من النهار بالإجماع
لأنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما من حين نوى لما
بينه.
قوله: "وهذا بخلاف التقديم" أي تأخير النية عن أول
الإمساكات يخالف تقديمها عليه حيث جاز التقديم مع أن النية
لم تقترن بأوله أيضا ولم يجز التأخير والفرق أن التقديم
واقع على جملة الإمساك يعني أنه قد عزم في الليل أنه يمسك
لله تعالى من الفجر إلى الغروب فصحت النية بوضعها من حيث
كونها عزما في المستقبل ولم يعترض عليه أي على ما قدم من
النية ما يبطله لأنه لم يوجد ما يضاده من ترك العزيمة
والإفطار بعد الصبح والأكل والشرب والمواقعة في الليل لا
ينافي العزيمة المتقدمة بالإجماع لأن من شرط المنافاة
اتحاد المحل والليل ليس بمحل للصوم أصلا فالأكل وما يشبهه
لا ينافي عزيمته فإذا لم يبطل يحكم ببقائها إلى حين الشروع
لتعذر اعتبارها مقترنة بحالة الشروع ولهذا عم الجواز أنواع
الصيامات من القضاء وغيره فأما المتأخر فلا يتصور تقديمه
أصلا فلا يمكن الحكم به لأن الشيء إنما يقدر حكما إذا تصور
حقيقة وهذا كالنية في أول الصلاة جعلت باقية حكما إلى آخر
الصلاة. أما النية الموجودة في خلال الصلاة فلا يحكم
باقترانها بأول الصلاة للتعذر كذا هنا ثم استوضح الشيخ ما
ذكر من الفرق بمسألتين
(1/349)
عليه ما يبطله
فبقي فأما المعترض فلا يحتمل التقدم ألا ترى أن النية بعد
نصف النهار لا يصح وألا ترى أن في الصوم الدين وجب الفصل
بين هذين الوجهين
ـــــــ
فقال ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا تصح ولو جاز
الحكم باقتران هذه النية بأول الإمساك كما جاز في المتقدمة
لما اختلف الحكم بين أول النهار وآخره كما لم يختلف الحكم
هناك بين أول الليل وآخره وألا ترى أن في الصوم الدين وجب
الفصل بين هذين الوجهين أي بين تقديم النية وتأخيرها حيث
جاز التقديم ولم يجز التأخير بالإجماع فكذلك ههنا لأنه
أقوى من سائر الصيامات فإن الإفطار فيه يوجب الكفارة دون
غيره وعندنا إذا صام في رمضان بنية قبل انتصاف النهار
يجزيه واختلف في ذلك طريق أصحابنا فمنهم من سوى بينه وبين
النفل وفي الجواز ومنهم من سوى بين تقديم النية وتأخيرها
وهذا هو المذكور في الكتاب فنتكلم عليه فنقول لما كانت
النية شرطا ينبغي أن تكون شرطا على وجه لا يؤدي إلى فوات
المشروط ولهذا لم يشترط مقارنتها بجميع أجزاء العبادة في
جميع العبادات ولا بالجزء الأول في باب الصوم لامتناع
تحصيلها وتعذر تحصيلها على وجه يفوت في الأعم الأغلب فلم
يكن بد من تجويز التقديم ليحصل التكليف بقدر الوسع
والتأخير يساوي التقديم في هذا المعنى لأنا لو لم نجوز
التأخير لأدى إلى التفويت لأن الإنسان قد ينشئ النية من
الليل وهو أمر غالب وقد يشتبه عليه رأس الشهر وهو أيضا أمر
معتاد وقد تطهر المرأة عن الحيض ولا تشعر إلا بعد انفجار
الصبح. وكذا الصبي قد يبلغ في الليل ولا يعلم بذلك إلا بعد
الانتباه وكذا الكافر قد يسلم في الليل ولا يعلم بوجوب
الصوم عليه إلا عند وجود النهار وإذا ثبت المساواة بينهما
في الحاجة وجب إلحاق التأخير بالتقديم لئلا يؤدي إلى فوات
الصوم.
"فإن قيل" لا مساواة بين الحاجتين لأن الحاجة إلى جواز
التقديم عامة في حق جميع المكلفين وإلى جواز التأخير خاصة
في حق البعض ثابتة في بعض الأوقات وأحكام الشرع مبنية على
ما عليه أحوال الدهماء لا على ما يبتلى به الأشخاص الجزئية
على ما عرف ولهذا لم يجعل ما بعد الزوال محلا للنية وإن
كان يتصور بقاء الحائض النائمة والصبي المحتلم إلى ما بعد
الزوال ولم يعتبر الحاجة الخاصة فكذا فيما نحن فيه على أن
الجواز لو ثبت باعتبار هذه الحاجة لثبت في حق من يثبت في
حقه الحاجة لا في حق الكل لأن ما ثبت لحاجة عامة سقط فيه
اعتبار الحاجة ووجب إجراء الحكم فيه على الإطلاق وما ثبت
لحاجة خاصة اقتصر على موضعها لكونها عارضة وفي اعتبارها
تغليب العارض على الأصل ولهذا لم يبق للحاجة عبرة في
الإجارة ونحوها وإن شرعت لدفع
(1/350)
وقلنا نحن إن
الحاجة إلى النية لأن يصير الإمساك قربة وهذا الإمساك واحد
غير متجزئ صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال الأداء ساقط
ـــــــ
الحوائج لكونها عامة واعتبرت في جواز التيمم حتى اقتصر على
من تحققت الحاجة في حقه لكونها خاصة إذ الأصل وجود الماء
وكون العوز والعدم فيه عارضا.
"قلنا" إنا إنما سوينا بين الأصل والفرع باعتبار أصل
الحاجة لا باعتبار قدرها فنطلب المساواة في أصل الحاجة لا
في قدرها وقد وجدت كما بينا فيفسد التفرقة بينهما بالدوام
وعدمه وكذا بالخصوص والعموم إذ الخاصة منها في موضعها
كالعامة في مواضعها والحاجة إلى تجويز الصوم بالنية
المتأخرة خاصة فيما يشرع من الصوم في وقت معين فاختص القول
بالجواز فيه وما ذكر أن بناء الأحكام على ما عمم وغلب دون
ما شذ وندر كلام في غير موضعه لأن ذلك على ما ذكرنا فيما
كان من الخاص في حيز الندرة فأما ما كان في نفسه في حد
الكثرة فله العبرة وإن كان غيره أكثر كعدم الماء اعتبر في
حق جواز التيمم شرعا وإن كان الوجود هنا هو الغالب لدخول
العدم في نفسه في حد الكثرة وخروجه عن حد الندرة وههنا
الأعذار في حد الكثرة لكثرة جهالتها إذ من ضرورة كثرة
الجهات كثرتها على أن الجهة لو لم تكن إلا جهة النسيان
لدخلت في حد الكثرة لاستيلائه على طبع كل فرد من أفراد
الجنس فكيف وقد كثرت الجهات على ما سبق.
وقولهم ما ثبت باعتبار الحاجة القاصرة لم يعد موضعها قلنا
فجوزوا في موضع الحاجة وخالفونا فيما وراء ذلك لتبين لكم
العذر فيما وراء محل الحاجة على أن وجود النية من النهار
في حق من لا عذر له من نسيان أو جهل غير متصور من حيث
العادة بل يوجد منه النية أو ما يقوم مقامها في الليل بأكل
زيادة من الطعام على المعتاد أو شرب زيادة شربه وإن تصور
ووجد فهو في غاية الندرة فيلحق بالعدم.
أو نقول إذا تحقق فقد صار عاجزا عند انفجار الصبح عن تقديم
النية فصار كالمعذورين وإذا حققت معنى المسألة فاصغ لشرح
ما في الكتاب فقوله الحاجة إلى النية لأن يصير الإمساك
قربة معناه النية محتاج إليها لغيرها لا لذاتها فلا يجوز
إثباتها على وجه يؤدي إلى تفويت ذلك الغير وهذا الإمساك
واحد أي الكف إلى آخر النهار ركن واحد ممتد بخلاف الصلاة
فإنها أركان غير متجزئ صحة وفسادا حتى لو فسد جزء منه فسد
الكل ولو حكم بصحة جزء بعدما تم يحكم بصحة الكل وحاصل
المعنى أن الصوم وإن كان متركبا من جنس الإمساك الدائم من
أول اليوم إلى آخره ولكن جعل جنس الإمساك كله في حق كونه
صوما كشيء لا يتجزأ لأن الأشياء المتعددة إذا دخلت تحت
خطاب واحد صارت كشيء واحد كما في قوله تعالى: {وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
(1/351)
بالإجماع للعجز
وحال الابتداء ساقط أيضا للعجز وصار حال الابتداء هنا نظير
حال البقاء في الصلاة وحال البقاء نظير حال الابتداء في
صلاة ثم العجز أطلق التقديم مع الفصل عن ركن العبادة وجعل
موجودا تقديرا فصار له فصل الاستيعاب. ونقصان حقيقة الوجود
عند الأداء على حد الإخلاص
ـــــــ
[المائدة: 6] لما دخل جميع البدن تحت الخطاب صار كشيء واحد
حتى جاز نقل البلة من موضع إلى موضع ولا يجوز ذلك في
الوضوء لعدم هذا المعنى فكذلك ههنا لما دخلت الإمساكات
المتعددة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] صارت كشيء واحد فلا يتجزأ
صحة وفسادا والثبات على العزيمة حال أداء هذه العبادة بأن
يداوم على العزم إلى حالة الانتهاء ساقط عن المكلف
بالإجماع كما في سائر العبادات لأن اعتبار النية على هذا
الوجه يوقعه في الحرج وربما لا يكون في الوسع. وهذا معنى
قوله للعجز ولهذا لو أغمي عليه أو لم يخطر بباله الصوم
بعدما وجد العزم يتأدى صومه ولهذا يشترط في سائر العبادات
قران النية بأولها لاستدامة النية من أولها إلى آخرها وحال
الشروع في الأداء أي الثبات على العزيمة في حالة الشروع في
هذه العبادة ساقط عنه بالإجماع أيضا فإنه لو نوى في أول
الليل لا يشترط أن يستديم تلك النية إلى حالة الشروع
وحاصله أنه لا يشترط اقتران العزيمة بأول حال الأداء أيضا
للعجز وهو أن وقت الشروع مشتبه لا يعرف إلا بالنجوم ومعرفة
ساعات الليل وهو مع ذلك وقت نوم وغفلة في حق عامة الخلق
الذين ثبت أمور الشرائع على عاداتهم ولم يحرم النوم فيه
شرعا أيضا بل سن لمن قام بالليل وبعدما كان متيقظا ولم
يشتبه أول الفجر بالليل فسقط اشتراط اقتران النية بأوله
وصار حال الابتداء في الصوم من حيث إنه يخرج في قران النية
وبها نظير حال البقاء في الصلاة من حيث إنه يخرج فيها على
الثبات على العزيمة وحال البقاء في الصوم من حيث إنه يمكن
قران النية بها من غير حرج نظير حال الابتداء في الصلاة في
هذا المعنى أيضا فصار الحاصل أن اقتران النية بابتداء
الصوم متعذر والثبات على العزيمة حال بقائه كذلك وقران أصل
النية به حال البقاء غير متعذر كما في ابتداء الصلاة.
والغرض من إيراد هذا الكلام هو الإشارة إلى أن النية
المتصلة به في حالة البقاء أولى بالاعتبار من المتقدمة
عليها لكونها متصلة بركن العبادة كالنية المتصلة بابتداء
الصلاة أولى باعتبار من المتقدمة عليها لهذا المعنى ثم هذا
العجز وهو تعذر قران النية بابتدائه أطلق التقديم أي أجازه
مع فصل النية عن ركن العبادة وهو الإمساك لأنه إذا نوى في
أول الليل ثم لم يخطر بباله الصوم إلى الغروب جاز صومه
بالإجماع مع أن النية لم توجد حال الشروع ولا حال البقاء
حقيقة وجعل أي العزم المتقدم والمعدوم حقيقة موجود تقديرا
فصار له
(1/352)
والعجز الداعي
إلى التأخير موجود في الجملة في حق من يقيم بعد الصبح أو
يفيق عن إغمائه وفي يوم الشك ضرورة لازمة لأن تقديم النية
من الليل عن صوم الفرض حرام ونية النفل عندك لغو فقد جاءت
الضرورة فلأن يثبت بها التأخير مع الوصل بالركن أولى ولهذا
رجحان في الوجود عند الفعل وهو حد
ـــــــ
أي لما قدم من النية فضل استيعاب أي هو مستوعب لجميع
الإمساكات تقديرا لأنه نوى الإمساك من الصبح إلى الغروب
ونقصان حقيقة الوجود عند الأداء أي أنه ليس بموجود حقيقة
حالة الأداء على حد الإخلاص أي على حقيقته وكلمة على
متعلقة بالأداء لا بالوجود والأداء على حد الإخلاص أن تكون
النية مقترنة بالأداء ليمتاز العبادة عن العادة وقد عدمت
هنا حقيقة وإن وجدت تقديرا والعجز الداعي إلى التأخير
موجود في الجملة يعني به أن العجز الذي ذكرنا كما هو داع
إلى جواز التقديم ومرخص له فكذلك هو داع إلى جواز التأخير
في حق بعض المكلفين كما في حق المقيم بعد الصبح وأمثاله
وخلاصة المعنى أن الضرورة لم تندفع بتجويز التقديم في
الجنس لأن فيهم أصحاب هذه الأعذار وإنما يندفع بالكلية
بتجويز النية من النهار وفي يوم الشك ضرورة لازمة أي في حق
الكل لأن تقديم النية عن صوم الفرض أي فرض الوقت حرام ولو
نوى ليلة الشك أداء صوم فرض رمضان غدا وبان اليوم من رمضان
لم يصح صومه عند الشافعي. وكذا لا يجوز بنية النفل فثبت أن
الضرورة فيه لازمة لا ترتفع إلا بتأخير النية فلأن يثبت
بهذه الضرورة جواز التأخير مع أنه متصل بالركن وهو الإمساك
أولى.
وهذا الكلام متصل بقوله ثم هذا العجز أطلق التقديم مع
الفصل عن ركن العبادة يعني لما جاز الصوم بنية متقدمة مع
فصلها عن ركن العبادة والاشتغال بأعمال أخر منافية للصوم
من الأكل والشرب والوقاع للضرورة وهي موجودة في النية
المتأخرة فلأن يجوز بها مع وصلها بالركن كان أولى.
"فإن قيل" هذا إنما يستقيم إن لو أمكن اعتبار المتأخرة
تقديرا كالمتقدمة والأمر بخلافه لأن النية متى تقدمت وصحت
بموضوعها عزما في المستقبل بقيت كذلك واقترنت بكل جزء لأن
نيته انتظمت أجزاء الوقت ولو نوى صوم البعض لم يصح فمتى
تأخرت صارت كما نوى صوم بعض اليوم إذ هي لا تعمل في الماضي
بوجه ما.
"قلنا" لا حاجة إلى القول ببقائه حكما لأنه قام دليل سقوط
الامتداد حقيقة فلئن ساغ لأحد أن يحكم بالاقتران بكل جزء
منه حكما مع انعدامه حقيقة جاز لآخر أيضا أن يجعل الاقتران
بجزء منه حقيقة كالاقتران بالكل لأنه من حيث اتصافه بكونه
صوما جملة
(1/353)
حقيقة الأصل
ونقصان القصور عن الجملة بقليل يحتمل العفو فاستويا في
طريق الرخصة بل هو أرجح وهذا الوجه يوجب الكفارة بالفطر
فيه وروي ذلك عنهما ولما صح الاقتصار على البعض للضرورة
وجب المصير إلى ماله حكم
ـــــــ
الإمساكات في اليوم شيء واحد فكان الاقتران منه بجزء منه
حقيقة اقترانا بالكل حكما كذا في إشارات الأسرار.
ثم شرع الشيخ في بيان المساواة بينهما فقال ولهذا أي ولما
أخر من النية رجحان على النية المتقدمة في الوجود عند
الفعل أي من حيث إنها موجودة عند الفعل حقيقة بخلاف
المتقدمة وهو أي الوجود عند الفعل حد حقيقة الأصل أن تكون
النية مقترنة بالعمل فإذا اقترنت به حقيقة كان هذا حقيقة
الأصل والاقتران به تقديرا ليس من حقيقته فكان حد حقيقة
الأصل أن يكون الاقتران حقيقة لا تقديرا وحاصل المعنى أن
الأصل في العبادات أن تكون النية مقترنة بها وهو موجود
ههنا في المتأخرة دون المتقدمة ونقصان القصور أي وله نقصان
من حيث إنه قاصر على الجملة لأنه لم يوجد في أوله ولكن ما
قصر عنه العدم قليل بالنسبة إلى ما وجد فيه العزيمة يحتمل
العفو لأن القليل محل العفو كالنجاسة القليلة والانكشاف
القليل في حق الصلاة وابتلاع ما دون الحمصة مما بين
الأسنان في حق الصوم وغير ذلك فاستويا من حيث إن لكل واحد
منهما كمالا ونقصانا فالكمال في المتقدمة الاستيعاب
والنقصان فيها عدمها عند الفعل والكمال في المتأخرة الوجود
عند الفعل والنقصان فيها قصورها عن الجملة حقيقة فكانا
مستويين في طريق الرخصة أي في جواز الترخص بها بل هذا راجح
أي التأخير أولى بالترخص به لأن الاستيعاب فيه موجود
تقديرا أيضا لأنا نقول أقمنا النية في الأكثر مقام الكل
كما أن الاستيعاب ثابت تقديرا لا تحقيقا فصار جهة النقصان
في المتأخرة معارضة لجهة الكمال في المتقدمة فسلم جهة
الكمال وهي الوجود عند الفعل للمتأخرة عن التعارض فصار
التأخير أرجح.
"فإن قيل" يلزم على هذا أن تكون النية من النهار أفضل
عندكم وليست كذلك إذ النية أفضل من الليل بالإجماع.
"قلنا" إنما كانت النية من الليل أفضل لأن فيها المسارعة
إلى الأداء والتأهب له أو الأخذ بالاحتياط لإكمال في الصوم
كما أن الابتكار يوم الجمعة أولى من السعي بعد النداء لما
فيه من المسارعة لا لتعلق كمال الصلاة نفسها به وكذلك
المبادرة إلى سائر الصلوات كذا في الأسرار.
(1/354)
الكل من وجه
خلفا عن الكل من كل وجه وهو أن يشترط الوجود في الأكثر لأن
الأقل في مقابلته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل
تقديرا فلم نجوزه بعد الزوال ورجحنا الكثير على القليل
لأنه في الوجود راجح وبطل
ـــــــ
قوله: "ولما صح الاقتصار" إلى قوله بعد الزوال جواب عن
قوله ألا ترى أن النية بعد نصف النهار لا يصح أي لما صح
اقتصار النية على بعض الإمساك وجب أن يكون لذلك البعض حكم
الكل من وجه حتى يكون قران النية به كقرانها بالكل تقديرا
وذلك هو الأكثر إذ له حكم الكل في كثير من المواضع بخلاف
الربع والثلث فإنه وإن كان لهما حكم الكل في بعض مواضع
الاحتياط إلا أن ذلك على خلاف الدليل لأنه لو أعطي للربع
حكم الكل لكانت الثلاثة الأرباع التي تقابله بذلك أولى
فأما ما زاد على النصف فغلب على ما يقابله وقرب إلى الكل
فكان الحكم بكليته على وفاق الدليل خلفا عن الكل من كل وجه
وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره وهذا كالمثل من وجه
وهو القيمة جعل خلفا عن المثل من كل وجه إذا انقطع المثل
في ضمان العدوان وهو أن يشترط الوجود في الأكثر الضمير
راجع إلى المصير إلى ماله حكم الكل أن يشترط وجود النية في
الأكثر لأن الأقل الذي لم يصادفه النية في مقابلة الأكثر
الذي صادفته في حكم العدم ولا ضرورة في ترك هذا الكل
الثابت تقديرا يعني إنما وجب ترك اعتبار الكل الحقيقي
للضرورة التي ذكرناها ولا ضرورة في ترك هذا الكل التقديري
واعتبار ما دونه فلهذا لم نجوز الصوم بالنية بعد الزوال
ولا يقال قد يتحقق الضرورة أيضا في حق الذي أقام أو أفاق
بعد الزوال والذي بلغ أو أسلم في الليل ولم يعلم بالبلوغ
أو وجوب الصوم إلا بعد الزوال لأنا إنما اعتبرنا الضروة في
ترك اعتبار الكل لوجود خلفه وهو الأكثر وههنا قد فات
الأكثر وبفواته فات الصوم لأن الأقل الذي صادفته النية في
مقابلة الأكثر الذي لم تصادفه النية في حكم العدم فكان
وجود الضرورة ههنا كوجودها بعد الغروب فلا يعبأ بها.
قوله: "ورجحنا الكثير على القليل" جواب عن قوله ووجب ترجيح
الفساد احتياطا وذلك لأن الكثير باعتبار ذاته راجح على
القليل فالكثرة وإن كانت من الأوصاف كالصحة والفساد إلا أن
هذا الوصف يثبت للشيء باعتبار ازدياد في أجزاء ذاته فكانت
الكثرة وصفا راجعا إلى الذات بخلاف الصحة والفساد لأنهما
من الأوصاف المحضة التي لا تعلق لها بالوجود فإنهما يطرآن
بعد الوجود فكان الترجيح بالكثرة راجعا إلى الذات وبالصحة
والفساد راجعا إلى الحال فكان الأول أولى لأن الذات أصل
والحال تبع
(1/355)
الترجيح على ما
قلنا بصفة العبادة لأنه حال بعد الوجود, والكثرة والقلة من
باب الوجود والوجود قبل الحال فوجب الترجيح به على ما يأتي
بيانه في باب الترجيح إن شاء الله ولأن صيانة الوقت الذي
لا درك له أصلا على العباد
ـــــــ
وعبارة الشيخ في شرح التقويم ولما وجدت النية في الأكثر
فقد وجد بعض العبادة وعدم البعض فالشافعي رجح جانب العدم
على جانب الوجود احتياطا لأمر العبادة ونحن رجحنا الموجود
على المعدوم باعتبار الكثرة وهو أولى لأنه ترجيح بمعنى
راجع إلى الذات وما فعله الشافعي رحمه الله راجع إلى العدم
وهو ليس بشيء فلا يصلح مرجحا.
قوله: "ولأن صيانة الوقت" يجوز أن يكون عطفا على الدليل
المتقدم من حيث المعنى ويجوز أن يكون عطفا على قوله لأنه
في الوجود راجح يعني ورجحنا الكثير الموجود فيه النية على
القليل الذي لم يوجد النية فيه لأن الكثير في الوجود أي في
وجوده وذاته راجح.
ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلا على العباد واجب
لأنه تعالى فرض عليهم الأداء في هذا الوقت وبفواته يفوت
الأداء لا إلى خلف في حق فضيلة الوقت فوجب صيانته احترازا
عن الفوات وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله: "من فاته
صوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر" ولا وجه إلى الصيانة في
حق أصحاب الأعذار المذكورين إلا بتجويز هذا الصوم بالنية
الموجودة قبل انتصاف النهار فوجب القول به إذ التجويز مع
خلل تمكن فيه أقرب إلى قضاء حق العبادة من التفويت.
"فإن قيل" لا يجوز تغيير الشرط وإسقاطه لفوات الفضيلة كمن
عليه الفجر لو خاف فوت الجمعة لا يسقط عنه الترتيب وكذا لا
يجوز التيمم في الجمعة وسائر الصلوات عند خوف فوت الجمعة
والجماعة وكذا لا يجوز عند خوف فوت الوقت لأن الفائت هو
الفضيلة وجاز في صلاة العيد والجنازة لأن الفائت أصل
العبادة وههنا الفائت الفضيلة فلا يجوز تغيير الشرط
وإسقاطه لفواتها.
"قلنا" نحن لا نقول بإسقاط الشرط وتغييره لاستدراك الفضيلة
ولكن نقول ينبغي أن تكون النية مشروعة على وجه لا يؤدي إلى
فوات هذه الفضيلة لحاجة الناس إلى استدراكها كما كانت
مشروعة على وجه لا يؤدي إلى فوات أصل الصوم إذ الحاجة تدفع
ما أمكن وإنما لا يجوز التيمم عند خوف فوت الجمعة والجماعة
والوقت لأنه لا يمكن
(1/356)
واجب وهو معنى
قول مشايخنا إن أداء العبادة في وقتها مع النقصان أولى
فصار هذا الترجيح متعارضا وهذا الوجه يوجب أن لا كفارة فيه
ويروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله
ـــــــ
استدراك هذه الفضائل إلا بفوت فضيلة أخرى وهي أداء الصلاة
بالوضوء لأنه أفضل من أدائها بالتيمم فلا يجوز استدراك
فضيلة بتفويت فضيلة أخرى وكذا لا يسقط الترتيب لفوت الجمعة
لأن الوقت وقت الفائتة بشهادة الرسول عليه السلام وإنما
وقت الجمعة بعد قضائها فلا يجوز أداؤها قبل الوقت.
وفي قوله لأدرك له أصلا إشارة إلى الجواب عن صوم القضاء
ونحوه حيث لا يجوز بنية من النهار لأنا إنما جوزناه في
رمضان على خلاف الأصل لصيانة فضيلة الوقت الذي لا يدرك
بالفوات أصلا على ما نطق به النص ولا حاجة في القضاء إلى
صيانة الوقت لأن كل الأوقات فيه سواء فبقي على الأصل.
قوله: "إن أداء العبادة في وقتها مع النقصان أولى" أي من
القضاء لأنه أقرب إلى صيانة حق العبادة من التفويت كأداء
العصر وقت الاحمرار أولى من قضائها بعد الغروب.
قوله: "فصار هذا الترجيح متعارضا" أي صار ترجيح الكثير على
القليل لصحة التأخير متعارضا لأن ما يوجب ترجيحه معنيان
أحدهما اقتران النية بركن العمل وهذا يقتضي أن يكون
التأخير أولى من التقديم وأن تجب الكفارة إذا أفطر والثاني
صيانة الوقت وهذا يوجب أن يكون التأخير دون التقديم وأن لا
يجب الكفارة بالفطر لتمكن خلل فيه وهذه الكفارة تسقط
بالشبهة فهذا معنى كونه متعارضا وقيل معناه أن ترجيحنا
الكثير في صورة التأخير بكون العبادة مؤداة في الوقت
يعارضه ترجيح الشافعي وهو أن الجزء الأول من النهار عري عن
النية فيحكم بالفساد احتياطا لأن كل واحد من الترجيحين
راجع إلى حال العبادة بخلاف الترجيح الأول لأنه راجع إلى
الذات فلم يعارضه ترجيح الشافعي هو راجع إلى الحال ولهذا
دل على وجوب الكفارة إذا أفطر بخلاف الترجيح الثاني لأنه
ضعف بالمعارض فصار له شبهة عدم وجود الصوم فلا يجب
الكفارة.
قوله: "ويروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله" ذكر في المبسوط
إذا أصبح غير ناو للصوم ثم نوى قبل الزوال ثم أكل فلا
كفارة عليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله أنه يلزمه
الكفارة لأن شروعه في الصوم قد صح فيتكامل جنايته بالفطر
كما لو كان نوى بالليل.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن ظاهر قوله عليه
السلام: "لا صيام لمن
(1/357)
ولم نقل
بالاستناد ولا بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق الصحة
والإمساك في أول النهار قربة مع قصور معنى الطاعة فيه لأنه
لا مشقة في
ـــــــ
لم يعزم الصيام من الليل" 1 ينفي كونه صائما بهذه النية
والحديث وإن ترك العمل بظاهره يبقى شبهة في درء ما يندرئ
بالشبهات كمن وطئ جارية ابنه مع العلم بالحرمة لا يلزمه
الحد لظاهر قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وما ذكر
ههنا موافق للمنظومة وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في
طريقته لا فرق في وجوب الكفارة بين ما إذا نوى من الليل
وبين ما إذا نوى من النهار في ظاهر الرواية وفي النوادر
قال لا يلزمه الكفارة فيما إذا نوى من النهار والصحيح ما
ذكر في ظاهر الرواية.
"فإن قيل" لا نظير لما اخترتم من جواز تأخير النية في
الشرع فلا يجوز العمل به فأما لجواز التقديم فنظائر جمة
كتقديم نية الصلاة عليها وتقديم نية الزكاة على الأداء
وغيرهما.
"قلنا" نحن ما جعلنا النية المتأخرة متقدمة لكن جعلنا
الإمساكات موقوفة على النية فبعد وجودها ينقلب صوما شرعيا
وتوقف الأمر على ما يوجد بعد موجود في الحسيات والشرعيات
فإن الرمي حكمه موقوف على الإصابة وتصرفات الفضولي موقوفة
على الإجازة والتعليقات موقوفة على الشرط وكذا الظهر
المؤدى يوم الجمعة حكمه موقوف على وجود السعي إلى الجمعة
وعدمه وكذا الوقتية المؤداة مع تذكر الفائتة حكمها موقوف
عند أبي حنيفة على ما عرف فكان توقف الإمساكات على وجود
النية في الأكثر طريقا مسلوكا.
قوله: "ولم نقل بالاستناد" جواب عما قاله الشافعي أن النية
المعترضة لا تؤثر في الماضي بوجه فقال إنما يلزم على من
قال بصحة هذا الصوم بطريق الاستناد كما اختاره بعض مشايخنا
اعتبارا بحكم البيع بشرط الخيار فإنه يثبت بطريق الاستناد
ولكن هذا لا يصح لأن الاستناد يظهر أثره في الموجود لا في
المعدوم فإنه لو كان الخيار للمشتري وحدثت زيادة في مدة
الخيار في يد البائع وهلكت ثم أجيز البيع حتى استند حكمه
إلى أول المدة لا يظهر أثر الاستناد في ذلك الهالك حتى لا
يسقط بمقابلته شيء من الثمن وههنا ما تقدم على النية قد
عدم فلا يمكن الحكم بصحته بطريق استناد النية إليه وهو
معنى ما قال الشافعي رحمه الله النية المعترضة لا تؤثر في
الماضي بل الصحيح ما ذهبنا إليه من إقامة الأكثر مقام الكل
ولا يرد عليه ما قال الشافعي.
ـــــــ
1 أخرجه أبوداود الصوم حديث رقم 2454 والترمذي في الصوم
حديث رقم 730 وابن ماجه في الصيام حديث رقم 1700.
(1/358)
الإمساك في أول
النهار فصار إثبات العزيمة فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه
وتوفيرا لحظه وعلى هذا الأصل قلنا إن صوم النفل مقدر بكل
اليوم حتى فسد
ـــــــ
قوله: "ولا بفساد الجزء الأول" رد لقوله أول الجزء الفعل
مفتقر إلى العزيمة فيفسد بعدم العزيمة ومن فساده يلزم فساد
الباقي فقال نحن لا نقول بفساد الجزء الأول مع احتمال طريق
صحته وذلك بأن يجعل الإمساك في أول النهار موقوفا على وجود
النية إلى وقت يمكن صون العبادة عن الفوات فإن حصلت النية
في ذلك الوقت كان كحصولها في الجميع ويتبين أن الفعل في
أول الوقت كان عبادة لما بينا أن الإمساكات في كونها صوما
شيء واحد لا يتجزى فاقتران النية بجزء منها كان اقترانا
بجميعها ضرورة عدم التجزؤ وإن لم يتصل النية بشيء من أجزاء
الإمساك حتى مضى الوقت الذي أمكن الاستدراك تبين أنه لم
يكن صوما فظهر بما ذكرنا أن كل جزء من أجزاء العبادة مقترن
بالنية تقديرا كما في النية المتقدمة وأن القول بفساد
الجزء الأول فاسد لانتفاء دليل الفساد وهو انعدام النية.
قوله: "والإمساك في أول النهار قربة" إلى آخره بجواز أن
يكون بيان احتمال طريق الصحة ويجوز أن يكون ابتداء كلام.
وبيانه أن المعتاد في الأكل هو الغداء والعشاء فأما ما
وراءهما فمن السرف والشره ولهذا وعد الله تعالى في الآخرة
الغداء والعشاء فقال: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا
بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] والصوم عبادة فيكون تركا
للمعتاد ليحصل معنى المشقة لأنها مشروعة على خلاف هوى
النفس وليس فيه ترك العشاء بل تأخيره إلى الغروب فكان
معناه تأخير العشاء وترك الغداء المعتاد وهو عند الضحوة
وأما ما قبل ذلك من الترك فخارج على العادة ولا مشقة فيما
يخرج مخرج العادة فكان ابتداء الركن من الضحوة من حيث
المعنى إلا أن الإمساك فيها لا يصلح للركنية إلا بما تقدم
عليه من الإمساك المعتاد فكان هو واجب التحصيل ضرورة
صيرورة هذا الإمساك ركنا فكان هذا أصلا وما تقدم عليه تبعا
له ومعنى النية القصد إلى ترك الغداء لله تعالى فإذا نوى
في هذا الوقت فقد تحقق معنى النية وكانت مقترنة حقيقة بأول
العبادة معنى وهو أصل فيستتبع تبعه فيما يثبت فيه كالأم
يستتبع ولدها في الإسلام والعتاق والرق والاستيلاد
والتدبير وكالأمير والمولى يستتبع العسكر والعبد في نية
الإقامة فيثبت النية فيما تقدم تقديرا وإن لم يثبت تحقيقا
وكان إثبات النية فيه تقديرا لا تحقيقا وفاء لحقه وتوفيرا
لحظه وإذا وجدت النية المناسبة له لا يجب الحكم بفساده
والله أعلم.
ثم هذا الحكم وهو جواز الصوم بنية من النهار ثابت في حق
الصحيح المقيم بلا خلاف بين أصحابنا فأما المريض أو
المسافر فكالصحيح المقيم عندنا وعند زفر لا يجوز لهما
الصوم إلا بنية من الليل كذا في المبسوط وذكر في فتاوى
القاضي الإمام فخر
(1/359)
بوجود المنافي
في أوله ولم يتأد إلا من أوله ولم يتأد بالنية في الآخر
لأن الصوم عرف قربة بمعياره ولم يعرف معياره إلا بيوم كامل
فلم يجز شرع العبادة وأما
ـــــــ
الدين وغيره مريض أو مسافر لم ينو الصوم من الليل في شهر
رمضان ثم نوى بعد طلوع الفجر قال أبو يوسف يجزيهما وبه أخذ
الحسن رحمهما الله فهذا يشير إلى أن عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله لا يجزيهما وجه عدم الجواز أن الأداء غير
مستحق عليهما في هذا الوقت فلا يتعين عليهما إلا بنية من
الليل كالقضاء ووجه الجواز أن الوجوب ثابت في حقهما كما في
حق الصحيح المقيم إلا أن لهما الترخص بالفطر فإذا لم
يترخصا صحت منهما النية قبل انتصاف النهار كما يصح من
المقيم وكالنفل.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن وقت الصوم معيار قلنا النفل
مقدر بكل اليوم لأن الوقت لما كان معيارا لهذه العبادة فلا
بد من أن يمتلئ المعيار ليوجد ولا بد من أن يكون الصائم
أهلا للصوم من أوله إلى آخره ليتحقق منه الصوم الشرعي
فيفسد بوجود المنافي في أوله من كفر أو حيض أو نحوهما حتى
إذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض بعد الفجر وأراد أن يتنفل
بصوم ذلك اليوم ليس له ذلك وكذا لا يتأدى بالنية بعد
انتصاف النهار وقال الشافعي رحمه الله أنه ليس بمقدر شرعا
بل يصير صائما من حين نوى لأن النبي عليه السلام قال: "إني
إذا لصائم" 1 وهي كلمة تنبئ عن الإخبار للحال ولأن مبنى
التطوع على النشاط فيتأدى بقدر ما يؤديه ألا ترى أن صلاة
النفل تجوز قاعدا وراكبا مع القدرة على القيام والنزول
وكذا الصدقة النافلة ليست بمقدرة وإن كانت الواجبة مقدرة
ولهذا يجوز عنده بنية بعد الزوال في قول وكذا مع المنافي
في أوله كالكفر والحيض في قول ولكن بشرط عدم الأكل في أول
النهار لأن ركنه إمساك يخالف هوى النفس ولا يحصل ذلك مع
الأكل في أول النهار بخلاف عدم النية أو الأهلية فإنه لا
يجعل الإمساك موافقا للعادة على أن الأكل في أول النهار لا
يمنع عن صحة الصوم في باقيه عند بعضهم أيضا منهم أبو زيد
القاشاني وقد يوجد في الشرع إمساك بعض اليوم قربة كما في
يوم الأضحى فيجوز أن يكون قربة في غيره من الأيام أيضا
ولنا ما ذكرنا أن الصوم لا يعرف قربة إلا بمعيار شرعي ولم
يعرف معياره في الشرع إلا يوم كامل فالذي يخترعه العبد من
قبل نفسه لا يصلح معيارا له إذ لا مدخل للرأي في معرفة
المقادير الشرعية وإذا كان كذلك لا يتأدى بالنية بعد
الزوال كالفرض لفوات أكثر الركن بلا نية والدليل عليه أنه
من نذر أن يصوم بعد الزوال في يوم لم يأكل فيه لم يصح
بالإجماع ولو
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيام حديث رقم 1154 والترمذي في الصوم
حديث رقم 733 وأبو داود في الصوم حديث رقم 2455 والإمام
أحمد في المسند 6/207.
(1/360)
الإمساك في أول
يوم النحر فلم يشرع صوما ولكن ليكون ابتداء التناول من
القرابين كراهية للأضياف أن يتناولوا من غير طعام الضيافة
قبل طعامها ومن هذا الجنس الصوم المنذور في وقت بعينه لما
انقلب بالنذر صوم الوقت واجبا لم يبق نفلا
ـــــــ
كان الإمساك في بعض اليوم صوما لصح كالنذر بالصدقة وإن قلت
لأن النذر إيجاب المشروع وحقيقة المعنى فيه أن النفل تبع
للفرض فيكون مقدرا بتقديره في الجملة كنافلة الصلاة مقدرة
بركعتين لأنه أدنى مقادير الفرض ويجوز قاعدا أو راكبا لأن
الفرض يجوز بتلك الهيئة عند العذر وكذا الصدقة بالقليل قد
تقع عن الفرض حتى لو وجبت عليه زكاة فأدى دانقا سقط عنه
الواجب بقدره في أحكام الدنيا والآخرة وههنا الإمساك في
بعض اليوم قصدا لا يقع عن الفرض بحال فلا يجوز أن يقدر
النفل به ولا تمسك له في الحديث فإن قوله عليه السلام "إني
إذا لصائم" إخبار عن حالة العزم فعبر بلسانه ما خطر بقلبه
وكان فيه بيان جواز العزم دون تغيير المعيار الشرعي وكان
قوله لصائم منصرفا إلى الصوم المعهود في الشرع ولا في ما
ذكر من قوله مبنى التطوع على النشاط لأنه لا أثر لنشاطه في
التقدير أصلا فإنه لو أراد أن يصلي ركعة أو يكتفي بسجدة
واحدة في كل ركعة أو تقدم السجود على الركوع وأراد أن يصوم
أول النهار دون آخره بأن نوى أن يصوم إلى العصر ليس له ذلك
بالإجماع وإنما أثر نشاطه في أنه مخير في فعله فإن شاء فعل
المشروع المقدر الشرعي فيثاب عليه وإن شاء تركه من غير
توجه عقاب عليه لا في تغيير التقدير الشرعي.
وأما الإمساك في أول يوم النحر فليس بصوم ولهذا لم يشترط
فيه النية وإنما ندب إليه في حق أهل الأمصار ليكون ابتداء
التناول من ضيافة الله تعالى ولهذا لم يثبت هذا الحكم في
حق أهل السواد لأن لهم حق التضحية بعد طلوع الفجر وليس
لأهل الأمصار أن يضحوا إلا بعد الصلاة.
قوله: "ومن هذا الجنس" أي من جنس ما صار الوقت متعينا له
كشهر رمضان للصوم المشروع فيه الصوم المنذور في وقت بعينه
أي وقت معين مثل أن يقول لله علي أن أصوم رجبا أو يوم
الخميس واحترز به عن النذر المطلق مثل أن يقول نذرت أن
أصوم يوما أو شهرا أو سنة لما انقلب صوم الوقت وهو النفل
لأنه هو الأصل في غير رمضان وسائر الصيامات بمنزلة العوارض
ولهذا يشترط فيها التعيين والتبييت واجبا أي بالنذر لم يبق
نفلا لأن الصوم المشروع
(1/361)
لأنه واحد لا
يقبل وصفين متضادين فصار واحدا من هذا الوجه فأصيب بمطلق
الاسم ومع الخطإ في الوصف وتوقف مطلق الإمساك فيه على صوم
الوقت وهو المنذور لكنه إذا صامه عن كفارة أو قضاء ما عليه
صح عما نوى لأن التعيين حصل بولاية الناذر وولايته لا
تعدوه فصح التعيين فيما يرجع إلى حقه وهو أن لا يبقى النفل
مشروعا فأما في ما يرجع إلى حق صاحب الشرع وهو أن لا يبقى
الوقت محتملا لحقه فلا فاعتبر في احتمال ذلك العارض بما لو
لم ينذر. وأما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا
ـــــــ
في وقت لا يقبل وصفين متضادين أي متنافيين أو متغايرين
وهما كونهما نفلا وواجبا لأن النفل ما لا يستحق العبد
العقوبة بتركه والواجب ما لا يستحقها بتركه فإذا ثبت
الوجوب بالنذر انتفى النفل ضرورة فصار أي الصوم المشروع في
هذا الوقت واحد من هذا الوجه أي من حيث إنه لم يحتمل صفة
النفلية وإن بقي محتملا لصفة القضاء والكفارة فأصيب بمطلق
الاسم أي يقع عن المنذور بالنية المطلقة ومع الخطإ في
الوصف أي بنية النفل كصوم رمضان لكنه إذا صامه أي صوم
الوقت أو صام الوقت على طريق الاتساع عن واجب آخر صح عما
نوى لأن التعيين أي تعيين الناذر الوقت للصوم المنذور حصل
بولايته فلا يعدوه لحقه أي لحق صاحب الشرع. فاعتبر أي هذا
الوقت في احتمال ذلك العارض وهو ما يرجع إلى صاحب الشرع
بما لو لم ينذر أي بعدم النذر أو المعنى فاعتبر النذر أو
التعيين في حق إبطال احتمال الوقت ذلك العارض وهو القضاء
والكفارة بما لو لم ينذر أي بالعدم يعني كمال الموجب
الأصلي في هذا اليوم هو النفل حقا للعبد وصوم القضاء
والكفارة كان محتمله فإذا نذر فقد تصرف فيما هو حقه
بالإيجاب لا فيما هو حق الشرع وهو احتمال الوقت لصوم
القضاء والكفارة إذ لو ظهر أثره في ذلك صار العبد مبدلا
للمشروع والذي ليس بحقه من قبل نفسه وذلك لا يصح كمن سلم
وعليه سجدتا السهو يريد به قطع الصلاة لا يعمل إرادته فيه
لأنه تبديل للمشروع فكذا هذا.
واعلم أن إيراد هذا القسم في هذا النوع مشكل لأن هذا النوع
في بيان ما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه وفي هذا
القسم الوقت معيار ولكنه ليس بسبب إذ السبب فيه النذر على
ما عرف فكان إيراده في القسم الذي يليه أولى وإنما أورده
في هذا النوع لأن شبهه بصوم رمضان أقوى من شبهه بصوم
الكفارة لأن الوقت فيه معيار وشرط للأداء وفي القسم الثالث
الوقت معيار لا غير فلهذا أورده ههنا.
قوله: "وأما الوقت الذي جعل معيارا لا سببا" وهو القسم
الثالث من أقسام الموقتة فالشيخ ذكر هذا القسم في أقسام
الموقتة وغيره من المشايخ ذكره في المطلقة وذلك لأن له
شبها بهما جميعا فشبهه بالموقتة أنه تعلق بوقت مقدر له وهو
النهار لا بمطلق الوقت كالزكاة حتى لو أداه ليلا لم يعتبر
بخلاف الزكاة وشبهه بالمطلقة أنه لم يتعلق بوقت متعين يفوت
الأداء كما يفوت بفوات شهر رمضان بل متى أداه يكون مؤديا
لا
(1/362)
فمثل الكفارات
المؤقتة بأوقات غير متعينة وكقضاء رمضان والنذر المطلق,
والوقت فيها معيار لا سبب ومن حكمها أنها من حيث جعلت قربة
لا تستغني عن النية وذلك في أكثر الإمساك ومن حيث إنها غير
متعينة لا يتوقف الإمساك فيها إلا لصوم الوقت وهو النفل
فأما على الواجب فلا لأنه محتمل الوقت وإنما التوقف على
الموضوعات الأصلية فأما على المحتمل فلا فلهذا كانت النية
من أوله شرطا ليقع الإمساك من أوله من العارض الذي يحتمله
الوقت فأما إذا توقف على وجه فلا يحتمل الانتقال إلى غيره
ومن حكمه أنه لا فوات له ما لم
ـــــــ
قاضيا فاختار الشيخ جانب كونه موقتا واختار غيره جانب كونه
مطلقا والوقت فيها أي فيما ذكرنا من الصيامات معيار ولهذا
لا يتحقق قضاء صومين في يوم واحد وأداء كفارتين بالصوم في
شهرين لا سبب فإن سبب الكفارات ما يضاف إليه من ظهار أو
قتل أو يمين ونحوها. وسبب القضاء التفويت أو الفوات أو ما
هو سبب الأداء وسبب النذر المطلق أي المنذور المطلق النذر
ومن حكمها أي من حكم هذه الصيامات أنها من حيث جعلت قربة
لا تستغني عن النية وتكفي في أكثر الإمساك كصوم رمضان
والنذر المعين والتطوع ومن حيث إنها غير متعينة في هذا
الوقت بل هي من محتملاته لا يكون توقف الإمساك في هذه
الصيامات إلا على صوم الوقت وهو النفل إذ هو الموضوع
الأصلي في غير رمضان فأما على الواجب فلا أي فأما التوقف
على الواجب وهو القضاء والكفارات فلا يكون لأن الواجب
محتمل الوقت وإنما يكون التوقف على الموضوعات الأصلية كما
في قولك رأيت أسدا يتوقف صحته وصدقه على رؤية الهيكل
المعلوم لا على رؤية إنسان شجاع لأن الأول موضع اللفظ
والثاني محتمله وهذا لأن التوقف إنما يثبت ضرورة استدراك
فضيلة صوم الوقت التي لا يدرك أصلا والضرورة فيما هو
الموضوع الأصلي للوقت لا فيما هو محتمله فإذا كان الوقت
عينا لفرض كرمضان كان الوقف عليه فنفذ عليه وإن كان غير
رمضان فالأصل فيه النفل فلا ينفذ على غيره. فلهذا كانت
النية شرطا من أوله ليقع الإمساك من أوله من محتمل الوقت
فإذا نوى من الليل صوم القضاء ينعقد الإمساك من أول النهار
لمحتمل الوقت فيجوز وأما إذا انعقد الإمساك لموضوع الوقت
وهو النفل لا يمكن صرفه إلى محتمل الوقت وهذا في الحقيقة
جواب عن كلام الخصم فإنه جمع بين صوم رمضان وصوم القضاء في
عدم جواز التأخير ففرق الشيخ بينهما بما ذكره ومن حكمه أنه
لا فوات له ذكر الشيخ في شرح التقويم ومن حكمه أنه لا
يتضيق عليه وجوب الأداء وحكى عن أبي الحسن الكرخي أن عند
أبي يوسف رحمه الله يتضيق كالحج والصحيح ما ذكرنا والله
أعلم
(1/363)
يكن الوقت
متعينا. وأما النوع الرابع من المؤقتة فهو المشكل منه وهو
حج الإسلام ومعنى قولنا إنه مشكل أن وقته العمر وأشهر الحج
في كل عام صالح لأدائه أم أشهر الحج من العام الأول وقت
متعين لأدائه ولا خلاف في الوصف الأول حتى إذا أخر عن
العام الأول كان مؤديا فأما الوصف الثاني فهو صحيح عند أبي
يوسف في الحال وأشهر الحج في هذا العام الذي لحقه الخطاب
به بمنزلة وقت الصلاة فإذا أدرك العام الثاني صار ذلك
بمنزلة العام الأول لا يصير
ـــــــ
قوله: "وأما النوع الرابع من الموقتة فهو المشكل" أي الذي
لا يعلم أن وقته متوسع أم متضيق منه أي من الموقتة على
تأويل المذكور وهو حج الإسلام إسناد الإشكال إلى الحج مجاز
إذ الإشكال في وقته لا في نفسه وبيان الإشكال من وجهين
أحدهما بالنسبة إلى سنة واحدة وهو أن الحج عبادة تتأدى
بأركان معلومة ولا يستغرق الأداء جميع الوقت فمن هذا الوجه
يشبه وقت الصلاة ومن حيث إنه لا يتصور في سنة واحدة إلا
أداء حجة واحدة يشبه وقت الصوم والثاني بالنسبة إلى سني
العمر فإن الحج فرض العمر ووقته أشهر الحج وهي من السنة
الأولى يتعين على وجه لا يفضل عن الأداء وباعتبار أشهر
الحج من السنين التي يتأتى يفضل الوقت عن الأداء وذلك
محتمل في نفسه فكان مشتبها كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله.
وإلى الوجه الثاني أشار الشيخ في الكتاب وكذا في شرح
التقويم فقال وقت الحج وقت عين جعل ظرفا لأداء الحج ومعنى
إشكاله أنه إذا أخر الحج عن هذا الوقت المعلوم له ظرفا في
هذه السنة وقع الشك والإشكال في أدائه فإنه إن عاش أدى وإن
مات تحقق الفوات فسميناه مشكلا وهكذا في التقويم أيضا وهو
الصحيح.
قوله: "وأشهر الحج في كل عام" إلى آخره يعني لا يدري أوقته
متوسع في الحقيقة في حق كل من وجب عليه أم متضيق فإن عاش
سنين كان أشهر الحج من كل عام صالحا لأدائه بمنزلة آخر
الوقت في الصلاة وكان الوقت في حقه متوسعا وإن لم يعش كان
أشهر الحج من العام الأول متعينا لأدائه وكان الوقت متضيقا
كما بينا ولا خلاف في الوصف الأول وهو أن كل عام صالح
لأدائه حتى إذا أخر عن العام الأول وأداه في عام آخر كان
مؤديا لا قاضيا بالاتفاق لكون ذلك عاما من عمره فأما الوصف
الثاني وهو تعيين أشهر الحج من العام الأول للأداء فهو
صحيح أي ثابت مع الوصف الأول عند أبي يوسف رحمه الله يعني
أشهر الحج من العام الأول متعين للأداء في الحال كوقت
الصلاة للصلاة من غير نظر إلى أنه يعيش إلى القابل أم لا
فيأثم بتأخيره عنه كما في الصلاة إلا أنه إذا أداه في
العام الثاني كان مؤديا لا قاضيا بخلاف الصلاة.
(1/364)
كذلك إلا بشرط
الإدراك وقال محمد رحمه الله موسعا يسع تأخيره عن العام
الأول وقال الكرخي وجماعة من مشايخنا إن هذا يرجع إلى أن
الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور أم لا مثل وجوب الزكاة
وصدقة الفطر والعشر والنذر بالصدقة المطلقة فقال أبو يوسف
على الفور وقال محمد رحمه الله على التراخي فكذلك الحج
فأما تعين الوقت فلا. والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر
المطلق لا يوجب الفور بلا خلاف فأما مسألة الحج فمسألة
مبتدأة
ـــــــ
قوله بمنزلة يوم أدركه في حق قضاء رمضان" يعني من وجب عليه
قضاء رمضان إذ لو أدرك يوما من أيام أخر لا يتعين عليه
وجوب القضاء في هذا اليوم حتى لو أخر عنه لا يأثم لأن وقت
القضاء جميع العمر فكذلك ههنا وإنما خص هذا النظير دون أول
أجزاء الوقت في الصلاة مع أنه مثله لأنه أشبه بوقت الحج من
وقت الصلاة فإن وقت أداء الصوم ينقطع بإقبال الليل إلى
الغد كما أن وقت أداء الحج ينقطع بانقضاء أشهر الحج من هذا
العام إلى أشهر الحج من العام القابل بخلاف وقت الصلاة
لأنه لم يتخلل من أجزائه ما يمنع جواز الأداء.
قوله: "وإنما يعرف" أي حقيقة الخلاف في تعين الأشهر من
العام الأول للأداء بمعرفة كيفية وجوب الحج فقال أبو يوسف
رحمه الله وجوبه بطريق التضييق فيلزم منه تعين الأشهر من
العام الأول وقال محمد رحمه الله وجوبه بطريق التوسع فيلزم
منه جواز التأخير عن العام الأول وعدم تعينه للأداء.
"فإن قيل" لما ثبت أن وقته متضيق عند أبي يوسف لم يبق
مشكلا كوقت الصوم ولما ثبت أنه متوسع عند محمد زال الإشكال
عنه أيضا كوقت الصلاة.
"قلنا" إنما حكم أبو يوسف بالتضيق على سبيل الاحتياط حتى
لا يؤدي إلى تفويت العبادة لا من حيث إنه انقطع جهة التوسع
بالكلية ألا ترى أنه لو أدرك العام الثاني جاز أداؤه فيه
وإنما قال محمد بالتوسع نظرا إلى ظاهر الحال لا أنه لا
يحتمل التضيق عنده ألا ترى أنه لو مات قبل إدراك الأشهر من
العام الثاني كان الأشهر من العام الأول متعينا للأداء
عنده. فثبت أن الإشكال لم يزل بما قالاه.
قوله: "مثل وجوب الزكاة" جمع الشيخ بين ما وجب بإيجاب الله
تعالى وبين ما وجب بإيجاب العبد فالزكاة وصدقة الفطر
والعشر نظير الأول والنذر بالصدقة المطلقة أي غير المقيدة
بوقت نظير الثاني فأما تعين الوقت فلا أي إما أن يكون
تعيين الوقت مختلفا فيه ابتداء فلا يعني مسألة الحج مبنية
على أن في الأمر المطلق أول أوقات الإمكان متعين للأداء
عند أبي يوسف خلافا لمحمد لا أن الخلاف فيها ابتدائي.
(1/365)
فذهب محمد رحمه
الله في ذلك أن الحج فرض العمر بلا خلاف إلا أنه لا يتأدى
في كل عام إلا في وقت خاص فيكون وقته نوعا من أنواع أشهر
الحج في عمره وإليه تعيينه كصوم القضاء وقته النهر دون
الليالي وإلى العبد تعيينه فلا يتعين الذي يليه إلا
بتعيينه بطريق الأداء ألا ترى أنه متى أداه كان مؤديا ولو
ـــــــ
قوله: "فأما مسألة الحج فمسألة مبتدأة" أي غير بنائية فعند
أبي يوسف هو واجب على الفور حتى يأثم بنفس التأخير رواه
عنه بشر1 والمعلى2 وهكذا ذكره ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهم
الله قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به
فهذا دليل على أن الوجوب عنده على الفور وعند محمد رحمه
الله يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخره ومات
قبل إدراك السنة الثانية فهو آثم بالاتفاق أما عند أبي
يوسف فظاهر وأما عند محمد فلأن التأخير كان بشرط عدم الفوت
وقد فوت فيأثم وعند الشافعي رحمه الله لا يأثم بالتأخير
وإن مات كذا في المبسوط وغيره. وهذا الخلاف في التأثيم
بالتأخير فأما الوجوب فثابت عند الكل حتى وجب عليه الإيصاء
بالإحجاج بالإجماع كما في تأخير صوم القضاء والكفارة ويجب
الإيصاء بالفدية وإن جاز تأخيره وذكر الغزالي رحمه الله في
المستصفى أن التأخير عند الشافعي جائز في حق الشاب الصحيح
دون الشيخ والمريض لأن البقاء إلى السنة الثانية غالب في
حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض وذكر في إشارات الأسرار
لأبي فضل الكرماني وقال محمد والشافعي رحمهما الله يجب
موسعا يحل فيه التأخير إلا إذا غلب على ظنه أنه إذا أخر
يفوت ثم ذكر في آخر كلام محمد وأما إذا مات قبل أن يحج فإن
كان الموت فجأة لم يلحقه إثم وإن كان بعد ظهور إمارات يشهد
قلبه بأنه لو أخر يفوت لم يحل له التأخير ويصير متضيقا
عليه لقيام الدليل فإن العمل بدليل القلب واجب عند عدم
الأدلة واستدل محمد رحمه الله بأن الحج فرض العمر فكان
جميع العمر وقت أدائه إلا أنه لا يتأدى في كل عام إلا في
وقت خاص وهو أشهر الحج فيكون وقته نوعا من أنواع أشهر الحج
أي فردا من أفرادها لا أشهر الحج من هذا العام بعينها. وما
من سنة يمضي إلا ويتوهم إدراك الوقت بعدها وإنما يثبت
العجز بعارض الموت فرجحنا الحياة عليه لأن ما
ـــــــ
1 هو بشر بن الوليد بن خالد الكندي توفي سنة 238 هـ انظر
وفيات الأعيان 6/379 و 384 و386.
2 هو المعلى بن منصور أبو يعلى الرازي فقيه حنفي ومحدث
توفي سنة 211 هـ انظر معجم المؤلفين 12/309.
(1/366)
كان الأول
متعينا لصار بالتأخير مفوتا والدليل عليه أنه بقي وقتا
للنفل مع أنه لم يشرع في مدة واحدة إلا حج واحد ولو تعين
للفرض لما بقي النفل مشروعا كما في شهر رمضان فثبت أنه غير
متعين إلا بالأداء ومتى تعين بالأداء لم يبق النفل فيه
مشروعا ولأبي يوسف رحمه الله أن أشهر الحج من العام الأول
متعينة للأداء فلا يحل له التأخير عنها كوقت الظهر للظهر
وإنما قلنا هذا لأن الخطاب
ـــــــ
كان ثابتا فالظاهر بقاؤه إلى أن يظهر المزيل وفيه شك فلم
يعتبر وإذا كان كذلك لا يتعين إلا بتعينه فعلا كصوم القضاء
فإنه موقت بالعمر ووقت أدائه النهر دون الليالي كما أن وقت
الحج أشهر الحج دون باقي السنة ومع هذا لا يتعين إلا بتعين
العبد فعلا فكذا هذا.
ولأبي يوسف رحمه الله أن أشهر الحج من السنة الأولى في حق
المخاطب به آخر الوقت فيحرم التأخير عنه كما في آخر وقت
الصلاة وذلك لأن الوقت في حقه أشهر الحج من عمره لا من
جميع الدهر والأشهر التي من عمره ما كان متصلا بعمره وهذه
الأشهر هي المتصلة بعمره يقينا والتي لم يجئ بعد غير متصلة
بعمره فلا تصير وقت حجه إلا بالاتصال. وذلك مشكوك
والانفصال في الحال ثابت فلا يرتفع بالشك وعلى اعتبار
الانفصال لا يبقى وقت لحجه غير الوقت الحاضر فيكون التأخير
عنه تفويتا كالتأخير عن آخر وقت الصلاة يحققه أن بمضي وقت
عرفة يفوت وقت الحج في الحال ولا يرجى عوده إلا بالعيش إلى
العام القابل وفيه شك لأن العيش إلى سنة ليس بأرجح من
الموت فلا يثبت العود بالشك ولا يرتفع حكم الفوت بخلاف
الواجب المطلق عن الوقت حيث له أن يؤخره لأن الفوت فيه
بالموت والعمر ثابت للحال والموت محتمل فلا يرتفع الثابت
بالمحتمل فأما الثابت ههنا فالفوت بمضي الوقت فلا يرتفع
بالمحتمل وهو العيش إلى السنة القابلة ونظيره المفقود لا
يورث عنه ماله لأن ملكه ثابت فلا يزول بالشك ولا يرث عن
واحد لأن ملك غيره لم يكن ثابتا له فلا يثبت بالشك أيضا
وبخلاف تأخير صوم القضاء والكفارة لأن الموت في ليلة نادر
فلم يعد تفويتا على ما ذكر في الكتاب فصار حرف المسألة أن
الخصم يقول لا فوات إلا بالموت فإن جميع العمر وقت الأداء
ويعتبر الظاهر لإبقاء ما كان من القدرة ولا يبطلها
بالموهوم ونحن نقول إذا تعذر الأداء عليه بعد خروج الوقت
فقد تحقق الفوات وله احتمال أن لا يكون فواتا بالإدراك
وفيه شك فحكمنا بالفوات للحال على احتمال أن لا يكون
فواتا.
"فإن قيل" قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج سنة عشر
من الهجرة ونزلت فرضيته سنة ست منها فعلم أن التأخير جائز.
(1/367)
للأداء لحقه في
هذا الوقت وهذا واحد لا مزاحم له لأن المزاحمة لا يثبت إلا
بإدراك وقت آخر وهو مشكوك لأنه لا يدركه إلا بالحياة إليه
والحياة والممات في هذه المدة سواء في الاحتمال فلا يثبت
الإدراك بالشك فيبقى هذا الوقت متعينا بلا معارضة ويصير
الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة فيصير كوقت الظهر
في التقدير بخلاف الصوم لأن تأخيره عن اليوم الأول لا
يفوته
ـــــــ
"قلنا" تأخيره عليه السلام كان لعذر وهو اشتغاله بأمر
الحروب وغيره ولأن التأخير إنما حرم للفوت وذلك بالشك في
العيش وقد ارتفع ذلك في حقه عليه السلام فإنه كان يعلم أنه
يعيش إلى أن يبين أمر الحج الذي هو أحد أركان الدين ويعلم
الناس المناسك ولم يكن علم قبل عام الحج فلما ارتفع الشك
في حقه اتسع الوقت وصار كأول وقت الصلاة وهذا الدليل لم
يثبت في حق غيره كذا في الأسرار.
واعلم أن ما ذهب إليه محمد من القول بجواز التأخير بشرط
سلامة العاقبة على ما ذكر في المبسوط وفي هذا الكتاب
وغيرهما مشكل لأن العاقبة مستورة فلا يمكن بناء الأمر
عليها فإنه إذا سألنا سائل وقال قد وجب علي حج وأريد أن
أؤخره إلى السنة التي تأتي والعاقبة مستورة عني فهل يحل لي
التأخير مع الجهل بالعاقبة أم لا فإن قلنا نعم فلم يأثم
بالموت الذي ليس إليه. وإن قلنا لا يحل فهو خلاف مذهبه وإن
قلنا إن كان في علم الله أنك تموت قبل إدراك السنة الثانية
لا يحل لك التأخير وإن كان في علمه أنك تحيا فلك التأخير
فيقول أو ما يدريني ماذا في علم الله فما فتواكم في حق
الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فيلزم منه
القول بعدم الإثم وإن مات كما هو قول الشافعي أو الإثم
بنفس التأخير وإن لم يمت كما هو قول أبي يوسف كذا رأيت في
بعض نسخ أصول الفقه فثبت أن الصحيح من قول محمد ما ذكره
أبو الفضل في إشارات الأسرار كما مر بيانه.
قوله: "ويصير الساقط بطريق التعارض كالساقط بالحقيقة" يعني
قد سقط أشهر العام القابل من كونها وقت الحج في حقه لتعارض
دليل الإدراك وهو الحياة ودليل عدم الإدراك وهو الممات لما
بينا أنهما سواء في هذه المدة فصار كأنه سقط حقيقة أي صار
كأن أشهر الحج بعد ليس من عمره أصلا فيبقى هذا الوقت
الموجود بلا معارض فيصير كوقت الظهر فالتأخير عنه يكون
تفويتا كتأخير الظهر عن وقته بخلاف الصوم أي صوم القضاء
والكفارة ونحوهما أن تأخيره عن اليوم الأول لا يفوته لما
ذكر فلم يكن دليل عدم الإدراك مساويا لدليل الإدراك وهو
معنى قوله والتعارض للحال غير قائم أي تعارض الحياة والموت
في ليلة غير قائم لأن الحياة غالبة والموت نادر فلا يسقط
إدراك اليوم الثاني
(1/368)
والتعارض للحال
غير قائم لأن الحياة إلى اليوم الثاني غالبة, والموت في
ليلة واحدة بالفجاءة نادر فلا يترك الظاهر بالنادر وإذا
كان كذلك استوت الأيام كلها كأنه أدركها جملة فخير بينها
ولا يتعين أولها ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا لأنا إنما
اعتبرنا التعيين احتياطا واحترازا عن الفوت فظهر ذلك في حق
المأثم لا غير فأما أن يبطل اختيار جهة التقصير والمأثم
فلا ولا يلزم إذا أدرك العام الثاني لأنا إنما عينا الأول
لوقوع الشك فإذا أدركه وذهب الشك صار الثاني
ـــــــ
باحتمال الموت لأن السقوط بتعارض الحياة والموت ولم يوجد
وإذا لم يسقط كان مزاحما لليوم الأول فلم يثبت تعينه
للأداء فجاز التأخير.
وفي بعض النسخ لأن التعارض للحال قائم أي تعارض اليوم
الأول والثاني في الحال قائم وإن وجد احتمال الموت قبل
مجيء اليوم كما في الحج لأن ذلك نادر فلا يقابل الغالب وهو
الحياة وإذا ثبت التعارض لم يتعين اليوم الأول للأداء فجاز
التأخير. وقوله للحال إشارة إلى أن التعارض في الحج للحال
معدوم وإن احتمل أن يثبت بالإدراك فأما التعارض ههنا فقبل
الإدراك ثابت وهذا اللفظ يدل على أن ما في هذه النسخة أصح.
قوله: "ولا يلزم أن النفل بقي مشروعا" جواب عن قوله
والدليل على أنه بقي وقتا للنفل وتقريره أن التعيين إنما
ثبت ههنا يعارض خوف الفوت لا أنه أمر أصلي فيظهر التعيين
أي أثره في حرمة التأخير وحصول الإثم به لا في انتفاء
شرعية النفل بخلاف تعين رمضان للفرض فإنه أمر أصلي ثبت
بتعيين الشارع فيظهر أثره في انتفاء النفل وحصول الإثم
جميعا فأما أن يبطل أي بهذا التعيين جهة اختيار التقصير
والمأثم بالشروع في النفل فلا نعني شروعه في النفل اختيار
جهة الإثم والتقصير لأنه ترك الفرض وقد بقي له اختيار ذلك
كما له اختيار جانب الترك أصلا وفي سائر العبادات إذ لو لم
يبق له اختيار ذلك لحصلت العبادة جبرا والفعل الجبري لا
يصلح أن يكون عبادة.
قوله: "ومن حكم هذا الأصل" أي وقت الحج أو الوقت المشكل
أنه ظرف لا معيار وقوله إن وقت الحج إقامة للمظهر مقام
المضمر ألا ترى أنه أي وقت الحج يفضل عن أداء الحج فإن وقت
الوقوف وهو الركن الأعظم فيه يفضل عنه وكذلك وقت الطواف
والرمي وغيرهما ولو كان معيارا لا يفضل عنه كوقت الصوم عن
الصوم وأن الحج أفعال عرفت بأسمائها كالوقوف والطواف
والسعي والرمي وغيرها وصفتها أي وهيئتها وترتيبها مثل
كيفية الطواف والرمل فيه وكيفية السعي والرمي وتقديم بعضها
على بعض لا بمعيارها أي لا مدخل للوقت في معرفة هذه
العبادة فكان ظرفا كوقت الظهر ومشابهته
(1/369)
هو المتعين
وسقط الماضي لأن الماضي لا يحتمل الأداء بعد مضيه وفي
إدراك الثالث شك فقام الثاني مقام الأول ومن حكم هذا الأصل
أن وقت الحج ظرف
ـــــــ
لوقت الصوم ليس من حيث إنه مقدر للعبادة بل من حيث إنه لم
يشرع فيه إلا حج واحد وذلك لا يوجب اشتباها في ظرفيته فإنه
لو أذن فيه بأداء حج آخر لكان قادرا عليه بل على أمثاله من
غير نقصان في الأول كما في وقت الصلاة فثبت أنه في ذاته
ظرف لا معيار وإذا ثبت أنه ظرف لا يدفع غيره من جنسه كوقت
الظهر قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله العبادة متى
أعملت بأفعال معلومة بنفسها صارت متقدرة بتلك الأفعال لا
بالوقت وإذا لم يتقدر بالوقت لا يصير الوقت معيارا لذلك
الفعل فلا يصير مستغرقا به فلا يقتضي تعينه محلا لذلك
الفعل نفي غيره لأن الحال بمحل إنما ينفي غيره إذا استغرقه
كالصوم لما قدر بالوقت استغرقه ونفي غيره والانتفاء بسبب
الفرض ليس بنص الكتاب فإنه ليس فيه نص على دفع غيره صريحا
بل بحكم ضيق الوقت وذلك باستغراق الحال للمحل كله ولا
استغراق إلا إذا قدرت العبادة بالوقت والحج لم يقدر بالوقت
فإنه إذا فسر عن قدره قيل أنه إحرام ووقوف وطواف كالصلاة
قيام وقراءة وركوع وسجود فلا يستغرق الوقت فلا ينفي غيره
والأمر بالتعجل لا ينافي ما قلناه كالأمر بتعجيل الصلاة في
آخر الوقت لا ينفي غيره.
قوله: "ولهذا" أي ولأن وقت الحج ظرف لا معيار قلنا إذا نوى
التطوع من عليه حجة الإسلام يصح ويقع عما نوى وقال الشافعي
رحمه الله تلغو نية النفل ويقع عن حجة الإسلام لأنه لما
عظم أمر الحج لما فيه من زيادة كلفة ومشقة عدمت في غيرها
من الطاعات ولهذا لم يجب في العمر إلا مرة حجر عن الصرف
إلى التطوع مع قيام الفرض صيانة له أي لحج الإسلام عن
الفوت وإشفاقا عليه أي على المكلف لأن تحمل المشاق الكثيرة
وترك حجة الإسلام واختيار النفل عليه مع أن الثواب في أداء
الفرض أكثر وأن العقاب على تركه بعد التمكن من أدائه مستحق
عليه من السفه والسفيه عندي مستحق الحجر في أمر الدنيا
صيانة لماله كالمبذر ففي أمر الدين أولى فيجعل نية النفل
لغوا تحقيقا لمعنى الحجر ويبقى أصل نية الحج وبه يتأدى فرض
الحج بالإجماع.
توضيحه أنه لو نوى الفرض ثم طاف أو وقف بنية التطوع تلغو
نيته ووقع ذلك عن الفرض لما ذكرنا فكذا في أصل الحج ولا
يقال لما لغت نية النفل لم يبق أصل النية كما في الصوم على
أصله لأنا نقول الصفة في هذه العبادة قد ينفصل عن الأصل
فإنه لو عدم وصف الصحة في الحج بقي أصل الإحرام بخلاف
الصوم لأن الصفة هناك لا تنفصل عن الأصل فإن الصحة إذا
عدمت لم يبق أصل الصوم لكنا نقول الحجر عن هذا يفوت
الاختيار وفوات الاختيار ينافي العبادة فيكون القول بالحجر
لصيانة الحج مؤديا إلى تفويت الحج.
(1/370)
له لا معيار
وجوازه عند الإطلاق بدلالة التعيين من المؤدي إذ الظاهر
أنه لا يقصد النفل وعليه حجة الإسلام فصار التعيين لمعنى
في المؤدي لا في
ـــــــ
بيانه أن الحج عبادة والعبادة فعل اختياري لأن ما لا
اختيار للعبد فيه لا يصلح طاعة أو عصيانا على ما عرف فإذا
نوى النفل فقد أعرض عن الفرض بأبلغ من ترك أصل العزيمة لأن
الوقت في ذاته قابل للنفل فمع هذا لو وقع عن الفرض كان
واقعا بدون اختياره وهذا هو الجبر الصريح فالقول به يكون
مفضيا إلى إبطاله فيكون عائدا على موضوعه بالنقض فالقول
بصحته يكون قولا بإبطاله إذ العبادة لا تقع من غير اختيار
قط بخلاف شهر رمضان فإنه غير قابل للنفل فلا تصح فيه نية
النفل أصلا فلا يثبت الإعراض لأنه يثبت في ضمن النفل على
ما مر.
وقوله وقط لا يصح العبادة بلا اختيار رد لقوله وصح أصله
بلا نية وقوله ولكن الاختيار في كل باب بما يليق به إلى
آخره جواب عن صحة إحرام الرفقة عنه بدون أمره وقصده عند
أبي حنيفة رحمه الله يعني إنما جوزنا ذلك لأن الاختيار فيه
موجود عنده تقديرا لا على أنه جائز من غير اختيار أصلا.
وبيانه أن الإحرام شرط الأداء عندنا بمنزلة الوضوء للصلاة
ولهذا جوزنا تقديمه على أشهر الحج, والرفقة إنما تعقد
ليعين بعضهم بعضا عند العجز ولما عاقدهم عقد الرفقة فقد
استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والإذن دلالة
بمنزلة الإذن إفصاحا كما في شرب ماء السقاية وإذا ثبت
الأذان قامت نيتهم مقام نيته كما لو أمرهم بذلك نصا فكان
هذا النوع من الاختيار كافيا فيما هو شرط العبادة فأما
الأفعال فلا بد من أن تجري على بدنه عند بعض مشايخنا وإليه
مال الشيخ لأن النيابة تجري في الشروط ولا تجري في الأفعال
ألا ترى أن النيابة تجري في الوضوء فإنه لو غسل أعضاء
المحدث غيره كان له أن يصلي بتلك الطهارة ولا تجري النيابة
في أعمال الصلاة يوضحه أن النيابة عند تحقق العجز وفي أصل
الإحرام تحقق عجزه عنه بسبب الإغماء فينوب عنه أصحابه فأما
الأفعال فلم يتحقق فيها العجز لأنهم إذا حضروا المواقف كان
هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف
راكبا بعذر وعند بعضهم نيابتهم عنه في الأفعال يصح أيضا
قال شمس الأئمة رحمه الله وهو الأصح إلا أن الأولى أن
يقفوا به وأن يطوفوا به ليكونوا أقرب إلى أدائه لو كان
رفيقا ولو أدوا عنه كان جائزا لأن الحج يؤدى بالنائب عند
العجز بالإجماع.
قوله: "وجوازه عند الإطلاق" إلى آخره جواب عن قوله يصح
بإطلاق النية يعني لا نسلم أن جوازه في هذه الحالة باعتبار
أن تعيين الفرض ساقط بل هو شرط ولكنه لا يحتاج إلى ذكره
بالقلب أو باللسان حالة الإحرام لأن الظاهر أن المسلم لا
يتكلف لحج النفل
(1/371)
المؤدى فإذا
نوى النفل فقد جاء صريح بخلافه فيبطل به بخلاف شهر رمضان
لأنه متعين لا مزاحم له في وقته لا لمعنى في المؤدي وهذا
كنقد البلد لما تعين لمعنى في المؤدي وهو تيسر إصابته
دلالة بطل عند التصريح بغيره.
وأما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي خلافا للكرخي على
ما أشرنا إليه والله أعلم. ومن هذا الأصل.
ـــــــ
وعليه حجة الإسلام فصار الفرض متعينا بدلالة الحال فاستغني
عن التعيين وانصرف مطلق النية إليه فإذا سمى شيئا آخر نصا
اندفع به ما تعين بالحال.
وأما الإحرام عن الأبوين فإنما يصح لأنه يجعل ثوابه لهما
أو لأحدهما وله ولاية ذلك عند أهل السنة والجماعة لأنه حقه
فيصرفه إلى من شاء لا أن يكون الأفعال واقعا عنهما أو عن
أحدهما ولهذا كان له أن يجعله عن أحدهما بعدما أحرم عنهما
لأن جعل الثواب لهما أو لأحدهما إنما يصح بعد الأداء فلغت
نيته قبله ولهذا لم يسقط حجة الإسلام عنهما كذا في بعض
الشروح وذكر شمس الأئمة في المبسوط إذا حج الرجل عن أبيه
أو أمه حجة الإسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن
شاء الله وتمسك فيه بأحاديث ثم ذكر في آخر هذه المسألة
وإنما قيد الجواب بالاستثناء بعدما صح الحديث لأن سقوط حجة
الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقة العلم لأنه أمر بينه
وبين ربه والعلم لا يثبت بخبر الواحد فلهذا قيد الجواب
بالاستثناء وأما قوله إذا طاف أو وقف متطوعا يقع عن الفرض
فالجواب عنه أن عقد الإحرام قد انعقد للفرض ولا اعتبار
للنية بعد ذلك إنما المعتبر هو النية عند الإحرام الذي هو
جامع كما لو سجد سجدة في صلاة الفرض بنية التطوع لم يعتبر
لأن التحريمة انعقدت للفرض والنية تعتبر عند التحريمة.
"فإن قيل" ما ذكرتم مخالف للنص فإنه روي عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن النبي عليه السلام سمع رجلا يلبي عن شبرمة
فقال: "ومن شبرمة" قال أخ لي أو صديق لي فقال عليه السلام:
"أحججت عن نفسك؟" فقال لا فقال عليه السلام: "حج عن نفسك
ثم عن شبرمة" .
"قلنا" ليس كذلك فإن تأويله عندنا أنه كان ذلك للتعليم على
سبيل الأدب ألا ترى أنه أمره أن يستأنف الحج ولم يقل أنت
حاج عن نفسك وكان هذا حين كان الخروج عنه ممكنا بالعمرة
فانتسخ والله أعلم.
(1/372)
.......................................................
الأمر المطلق هل يقتضي الفور أم التراخي؟
قوله: "وأما الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي" اختلف
العلماء في الأمر المطلق أنه على الفور أم على التراخي
فذهب أكثر أصحابنا وأصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إلى أنه
على التراخي وذهب بعض أصحابنا منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي
وبعض أصحاب الشافعي منهم أبو بكر الصيرفي وأبو حامد إلى
أنه على الفور وكذا كل من قال بالتكرار يلزمه القول بالفور
لا محالة وذهب طائفة من أصحاب الشافعي إلى أنه على الوقف
لا يحمل على الفور ولا على التراخي إلا بدليل ومعنى قولنا
على الفور أنه يجب تعجيل الفعل في أول أوقات الإمكان ومعنى
قولنا على التراخي أنه يجوز تأخيره عنه وليس معناه أنه يجب
تأخيره عنه حتى لو أتى به فيه لا يعتد به لأن هذا ليس
مذهبا لأحد.
تمسك القائلون بالفور بأن الأمر يقتضي وجوب الفعل في أول
أوقات الإمكان بدليل أنه لو أتى به فيه يسقط الفرض عنه
بالاتفاق فجواز تأخيره عنه نقض لوجوبه إذ الواجب ما لا يسع
تركه ولا شك أن تأخيره ترك لفعله في وقت وجوبه فثبت أن في
التأخير نقض الوجوب في وقت الوجوب وهو باطل ولأن التأخير
تفويت لأنه لا يدري أيقدر على الأداء في الوقت الثاني أو
لا يقدر وبالاحتمال لا يثبت التمكن من الأداء على وجه يكون
معارضا للمتيقن به فيكون تأخيره عن أول أوقات الإمكان
تفويتا ولهذا يستحسن ذمه على ذلك إذا عجز عن الأداء ولأن
المتعلق بالأمر اعتقاد الوجوب وأداء الفعل وأحدهما وهو
الاعتقاد يثبت بمطلق الأمر للحال فكذلك الثاني واعتبر
الأمر بالنهي والانتهاء الواجب بالنهي يثبت على الفور فكذا
الائتمار الواجب بالأمر.
وتمسك القائلون بالتراخي بأن صيغة الأمر ما وضعت إلا لطلب
الفعل بإجماع أهل اللغة فلا تفيد زيادة على موضوعها كسائر
الصيغ الموضوعة للأشياء وهذا لأن قوله افعل ليس فيه تعرض
للوقت بوجه كما لا تعرض لقوله فعل ويفعل على زمان قريب أو
بعيد ومتقدم أو متأخر فكما لا يجوز تقييد الماضي والمستقبل
بزمان لا يجوز تقييد الأمر به أيضا لأن التقييد في المطلق
يجري مجرى النسخ ولهذا لم يتقيد بمكان دون مكان يزيد ما
قلنا إيضاحا أن مدلول الصيغة طلب الفعل والفور والتراخي
خارجيان إلا أن الزمان من ضرورات حصول الفعل لأن الفعل لا
يوجد من العباد إلا في زمان والزمان الأول والثاني والثالث
في صلاحيته للحصول واحد فاستوت الأزمنة كلها وصار كما لو
قيل افعل في أي
(1/373)
...................................................
زمان شئت فيبطل تخصيصه وتقييده بزمان دون زمان ألا ترى أنه
لو أمره بالضرب مطلقا لا يتقيد بآلة دون آلة وشخص دون شخص
وإن كان ذلك من ضروراته لما ذكرنا فكذا الزمان فثبت أن
الأمر بصيغة لا يفيد الفور وكذا بحكمه وهو الوجوب لأن
الفعل يجوز أن يكون واجبا وإن كان المكلف في أول الوقت
مخيرا بين فعله وتركه فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه
فواته وإن لم يفعله فيكون هذا الأمر مقتضيا طلب الفعل في
مدة عمره بشرط أن لا يخلي زمان العمر منه فيثبت الوجوب
عليه بوصف التوسع لا بوصف التضيق.
والتكليف على هذا الوجه جائز عقلا وشرعا أما عقلا فلأنه لو
قال لغلامه افعل كذا في هذا الشهر أو في هذه السنة في أي
وقت شئت بشرط أن لا تخلى هذه المدة عن الواجب صح ولم
يستنكر وأما شرعا فلأن الصلوات المفروضات في الأزمنة
المعلومة وقضاء الواجبات في العمر بهذه المثابة ولهذا يكون
مؤديا في أي وقت فعله لأنه أتى بالمأمور به على الوجه الذي
أمر به فثبت أنه لا دليل على الفور لا من جهة اللفظ ولا من
جهة الحكم فبطل القول به.
وأما الجواب عن كلماتهم فنقول قولهم في جواز التأخير نقض
الوجوب إذ الواجب لا يسع تركه قلنا ما ذكرتم حكم الواجب
المضيق فأما الموسع فحكمه جواز التأخير إلى وقت مثله بشرط
أن لا يخلي الوقت عنه ولو أخلى عصى وأثم فلا يلزم من
التأخير نقض الوجوب وقولهم في التأخير تفويت وذلك حرام
قلنا الفوات لا يتحقق إلا بموته وليس في مجرد التأخير
تفويت لأنه يتمكن من الأداء في جزء يدركه من الوقت بعد
الجزء الأول حسب تمكنه في الجزء الأول وموت الفجأة نادر لا
يصلح لبناء الأحكام عليه فيجوز له التأخير إلى أن يغلب على
ظنه بأمارة أنه إذا أخر يفوت المأمور به والظن عن أمارة
دليل من دلائل الشرع كالاجتهاد في الأحكام فيجوز بناء
الحكم عليه.
"فإن قيل" ما قولكم فيمن مات بغتة أيموت عاصيا أم غير عاص
فإن قلتم يموت عاصيا فمحال لأنا إذا أطلقنا له التأخير
واخترمته المنية من غير أن يحس بحضورها لم يتصور إطلاق وصف
العصيان عليه لأن العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال
وإن قلتم يموت غير عاص فلم يبق للوجوب فائدة.
"قلنا" اختلف الأصوليون فيه فمنهم من قال إذا مات بعد
تمكنه من الأداء يموت عاصيا لأن التأخير إنما أبيح له بشرط
أن لا يكون تفويتا وتقييد المباح بشرط فيه خطر مستقيم في
الشرع كالرمي إلى الصيد يباح بشرط أن لا يصيب آدميا وهذا
لأنه متمكن من ترك الترخص بالتأخير بالمسارعة إلى الأداء
التي هي مندوب إليها فقلنا بأنه يتمكن من
(1/374)
......................................................
البناء على الظاهر ما دام يرجو الحياة عادة وإن مات كان
مفرطا لتمكنه من ترك الترخص بالتأخير.
ومنهم من قال لا يموت عاصيا ولكنه يدل على بطلان فائدة
الوجوب وهذا لما بينا أن التأخير عن الوقت الأول إلى وقت
مثله لم يحرم عليه لأنه ليس فيه تفويت المأمور به ثم إذا
أحس بالفوات بظهور علامات الموت منعناه من التأخير لأنه
تفويت تعد فإذا مات بغتة وفجأة فهو غير مفوت للمأمور به
لأنه أخر عن وقت إلى وقت مثله وقد أطلقنا له ذلك فصار
الفوات عند موته بغتة من غير ظهور أمارات الموت مضافا إلى
صنع الله تعالى لا إلى العبد لأنه قد فعل ما كان مطلقا له
فلم يصح وصف فعله بالتفويت فلم يجز أن يوصف بالعصيان ثم
عدم وصفه بالعصيان لم يدل على فوات فائدة الوجوب لأنا
حققنا صفة الواجبية فيما يرجع إلى فعل العبد من منعه من
التفويت فبوجود الفوات من الله تعالى لا يبطل فائدة الوجوب
وقولهم وجب تعجيل الاعتقاد فيجب تعجيل الفعل قلنا اعتقاد
الوجوب يستغرق جميع العمر ومن ضرورته تعجيل وجوبه وكذا
الانتهاء في النهي فأما أداء الواجب فلا يستغرق جميع العمر
فلا يتعين للأداء جزء من العمر إلا بدليل على أنا نقول يجب
اعتقاد وجوبه على التوسع كما يلزمه فعله على التوسع فإذا
وجب الفعل على حسب ما يعتقده من الوجوب ووجب الاعتقاد على
حسب ما يلزمه من الفعل لم يقع الفرق بينهما بوجه والله
أعلم.
قوله: "على ما أشرنا إليه" متعلق بقوله فعلى التراخي لا
بقوله خلافا للكرخي فإنه لم يشر إلى مذهبه فيما تقدم
والإشارة قوله والذي عليه عامة مشايخنا أن الأمر المطلق لا
يوجب الفور بلا خلاف. قوله: "ومن هذا الأصل" أي ومن الخاص.
(1/375)
|