كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب أحكام الحقيقة والمجاز"
"والصريح والكناية"
قال حكم الحقيقة وجود ما وضع له أمرا كان أو نهيا خاصا أو عاما وحكم المجاز وجود ما استعير له خاصا كان أو عاما وطريق معرفة الحقيقة التوقيف والسماع بمنزلة النصوص وطريق معرفة المجاز التأمل في مواضع الحقائق وأما في الحكم فهما سواء إلا عند التعارض فإن الحقيقة أولى منه ومن
ـــــــ
"باب أحكام الحقيقة والمجاز"
قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله حكم الحقيقة وجود ما وضع له أي ثبوت ما وضع اللفظ أمرا كان أو نهيا خاصا كان أو عاما كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج:77". وقوله جل ذكره {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} "الأنعام:151" و"الإسراء:33"فإن كل واحد من النصين خاص في المأمور به والمنهي عنه عام في المأمور والمنهي وهذا بلا خلاف
وحكم المجاز وجود ما استعير له أي ثبوت ما استعير اللفظ له خاصا كان أو عاما عند عامة العلماء كقوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} "النساء:43" {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف:36" وقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين" وفيه خلاف بعض أصحاب الشافعي وسنبينه وطريق معرفة الحقيقة التوقيف أي التنصيص من الواضع والسماع من السامع يعني لا يوقف عليها إلا بالنقل عن واضع اللغة بمنزلة النصوص في الشرع فإنها لا تثبت حججا إلا بعد السماع من صاحب الشرع والنقل عنه وطريق معرفة المجاز التأمل في مواضع الحقائق ليمتاز الوصف الخاص المشهور من غير امتياز الوصف المؤثر في باب القياس عن غيره; لأن المجاز لا يصح بكل وصف وحاصله أن جواز استعمال المجاز لا يتوقف على السماع بل يتوقف على معرفة طريقه الذي سلكه أهل اللسان في استعماله وهو رعاية الاتصال بين

(2/59)


أصحاب الشافعي من قال لا عموم للمجاز وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فاحتج الشافعي رحمه الله بعمومه وأبى أن يعارضه حديث ابن عمر في النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين
ـــــــ
محل الحقيقة والمجاز بوجه وقد مر من قبل "أما في الحكم" أي في إثبات الحكم وإيجاب العمل فالحقيقة والمجاز سواء إلا عند التعارض يعني إذا تعارض في كلام واحد جهة كونه مستعملا في موضوعه وجهة كونه مستعملا في غير موضوعه كان حمله على الحقيقة أولى; لأن الحقيقة أصل والمجاز عارض. ويجوز أن يكون معناه إذا تعارض كلام هو حقيقة وكلام آخر هو مجاز كانت الحقيقة أولى من المجاز وراجحة عليه ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أن الحقيقة ترجح على المجاز لعدم افتقارها إلى القرينة المخلة بالتفاهم لخفائها وعدم الاطلاع عليها ولكني ما ظفرت به في شيء من كتب أصحابنا صريحا فكان حمل كلام الشيخ على المعنى الأول أولى لتأيده بما ذكر القاضي الإمام في التقويم أن المجاز أحد نوع الكلام وله من الأنواع العموم والأحكام ما للحقيقة; لأنه مستعمل بمنزلتها إلا أن المطلق من الكلام لحقيقته حتى يقوم الدليل على مجازه; لأن معنى الحقيقة أصل والثاني طارئ عليه فلا يثبت إلا بدليله.
قوله: "فاحتج الشافعي بعمومه وأبى أن يعارضه" إلى آخره. بيانه أن قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام1" يدل بعبارته وعمومه على حرمة بيع المطعوم بالمطعوم قليلا كان أو كثيرا مساويا كان أو غير مساو; لأن الطعام معرف باللام فيقتضي الاستغراق إلا أن الاستثناء عارضه في الكثير; لأن المراد من قوله سواء بسواء المساواة في الكيل بالإجماع فبقي ما وراءه داخلا تحت العموم فيحرم بيع حفنة بحفنة وبحفنتين وتفاحة بتفاحة وبتفاحتين وبإشارته يقتضي كون الطعم علة; لأن الحكم متى ترتب على اسم مشتق كان مأخذه علة لذلك الحكم كالسرقة والزنا في قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "المائدة:38" {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} "النور:2"على ما عرف والطعام اسم لما يؤكل مشتق من الطعم وهو الأكل فكان الطعم هو العلة. وإذا ثبت كونه علة وقد انعقد الإجماع على أن العلة ليست إلا أحد أوصاف النص لم يبق الكيل علة ضرورة فلا يحرم بيع الغير المطعوم كالجص والنورة متفاضلا لعدم العلة الموجبة للحرمة وهي الطعم وحديث الصاع وهو ما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخشى عليكم"
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الكساقاة حديث رقم 1592 والإمام أحمد في المسند 6/400.

(2/60)


والصاع بالصاعين; لأن الصاع مجاز عما يحويه ولا عموم له فإذا ثبت المطعوم به مرادا سقط غيره قال; لأن الحقيقة أصل الكلام والمجاز ضروري يصار إليه توسعة ولا عموم لما ثبت ضرورة تكلم البشر والصحيح ما قلنا; لأن المجاز أحد نوعي الكلام فكان مثل صاحبه; لأن عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة
ـــــــ
الرماء1" وفي بعض الراويات الرماء يعني الربا إذ الرماء الزيادة والربا وأرمى الشيء إرماء أي زاد وأرمى فلان أي أربى يدل بعبارته وعمومه أن الربا يجري في غير المطعوم كالجص والنورة; لأن الصاع محلى فاللام التعريف فاستغرق جميع ما يحله من المطعوم وغيره فيحرم بيع الجص والنورة متفاضلا وبإشارته يدل على أن الكيل هذا لعلة; لأنه لما كان المراد من الصاع ما يكال به صار تقدير الكلام ولا ما يكال بصاع بما يكال بصاعين أو ولا مكيل بمكيلين فيقتضي جواز بيع حفنة بحفنتين وتفاحة بتفاحتين لعدم معنى الكيل على خلاف ما اقتضاه الحديث الأول فهذا هو معنى المعارضة إلا أن الخصم قال هذا النص مجاز عبارة عما يحله ويجاوره بطريق إطلاق اسم المحل على الحال كما في قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} "الأعراف:31"أي صلاة فلا يمكن القول بعمومه; لأن العموم لا يجري إلا في الحقائق وقد أريد المطعوم منه بالإجماع فلم يبق غيره مرادا وصار كأنه قيل ولا المطعوم المقدر بالصاع بالمطعوم المقدر بالصاعين وعلى هذا التقدير لم يبق له دلالة على حرمة بيع ما وراء المطعوم متفاضلا ولا على كون المكيل علة وصار موافقا للأول
وشبهة الخصم أن الأصل في الكلام هو الحقيقة; لأن الألفاظ وضعت دلالات على المعاني للإفادة. ولهذا لا يعارض المجاز الحقيقة بالاتفاق حتى لا يصير اللفظ المتردد بين الحقيقة والمجاز في حكم المشترك فكان الأصل أن لا يجوز استعمالها في غير موضوعاتها لتأدية ذلك إلى الإخلال بالفهم إلا أنهم جوزوا ذلك ضرورة التوسعة في الكلام بمنزلة الرخص الشرعية في الأحكام فإنها بنيت ضرورة التوسعة على الناس وهذه الضرورة يرتفع بدون إثبات حكم العموم للمجاز فلا يصار إليه من غير ضرورة وكان المجاز في هذا بمنزلة ما ثبت بطريق الاقتضاء فكما لا يثبت هناك وصف العموم عندكم; لأن الضرورة ترتفع بدونه فكذا هنا عندي ولكنا نقول المجاز أحد نوعي الكلام فكان مثل صاحبه في احتمال العموم والخصوص إلى آخر ما ذكر الشيخ في الكتاب وفي قوله أحد نوعي
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/109.

(2/61)


بل لدلالة زائدة على ذلك ألا ترى أن رجلا اسم خاص فإذا زدت عليه لام العريف من غير معهود ذكرته انصرف إلى تعريف الجنس فصار عاما بهذه الدلالة فالصاع نكرة زيد عليها لام التعريف وليس في ذلك معهود ينصرف إليه فانصرف إلى جنس ما أريد به ولو أريد به عينه لصار عاما فإذا أريد به ما يحله
ـــــــ
الكلام إشارة إلى أن المجاز ليس بضروري بل هو أحد قسمي الكلام حتى كاد المجاز يغلب الحقيقة فكيف يسمى هذا ضروريا.
قوله: "لأن عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة" إذا لو كان كذلك ينبغي أن لا يوجد حقيقة إلا وأن تكون عامة والأمر بخلافه بل لدليل زائد ليحقق به مثل الواو والنون أو الألف والتاء في قوله مسلمون ومسلمات أو الألف واللام فيما لا معهود فيه أو غير ذلك مما تقدم ذكره في باب ألفاظ العموم فإذا وجد ذلك الدليل في المجاز وجب القول بعمومه إذا كان المحل قابلا له كما في الحقيقة
"فإن قيل": سلمنا أن العموم في الحقيقة ليس لمجرد كونه حقيقة ولكنه يجوز أن يكون لذلك وللدليل الذي التحقق به فيثبت العموم بالمجموع ولم يوجد بالمجموع في المجاز فلا يصح القول بعمومه.
"قلنا": لا بد في مثل ذلك أن يكون لكل واحد من المعنيين نوع تأثير في إثبات ذلك الحكم ليصح إضافته إليهما وقد وجدنا التأثير فيما نحن فيه للدليل اللاحق لا لكونه حقيقة فلا يصح إضافته إليهما بل يجب إضافته إلى ذلك الدليل المؤثر وذلك أنا قد وجدنا الواو والنون ولام التعريف في اسم الجنس, وسائر دلائل العموم تدل على العموم دلالة مطردة ولم نجد الحقيقة كذلك إذ هي موجودة في مسلم وضارب ورجل ولا تدل على العموم بوجه فعرفنا أن لا تأثير لها فأضفنا ثبوت العموم إلى الدليل المؤثر إلى كونه حقيقة ولكن لهم أن يقولوا إنما اطرد دلالة الواو والنون وغيرهما على العموم; لأنها لا تنفك عن صيغة تلحق بها فتدل حقيقة تلك الصيغة مع الدليل اللاحق به على العموم لاجتماع الوصفين فأما الحقيقة فقد انفصلت عن دليل العموم فيما ذكر من النظائر فلا يثبت العموم بها وحدها; لأن الحكم المتعلق بالوصفين لا يثبت بوصف واحد فإذا لا بد من إقامة الدليل على انتفاء كون الحقيقة مؤثرا في العموم.
قوله: "والصاع نكرة" أي لفظ الصاع في قوله عليه السلام: "ولا الصاع بالصاعين" قبل دخول اللام عليه كان نكرة يعني لو تصورناه بدون اللام في هذا الموضع كان نكرة فزيد عليها لام التعريف وليس ثم معهود فانصرف إلى الجنس فأوجب التعميم وفي ضم

(2/62)


ويجاوره مجازا كان كذلك لوجود دلالته ألا ترى أنه استعير له ذلك بعينه ليعمل في ذلك عمله في موضعه كالثوب يلبسه المستعير كان أثره في دفع الحر والبرد
ـــــــ
قوله ويجاوره إلى ما يحله إشارة إلى المعنى المجوز للمجاز أي جواز إرادة ما يحله باعتبار المجاورة, ألا ترى أنه استعير ذلك بعينه الضمير في أنه لشأن أي أن الشأن استعارة ذلك اللفظ الذي صار عاما بدليل وهو الصاع مثلا فيما نحن فيه ليعمل في ذلك أي فيما استعير له وهو ما يحله ويجاوره. "عمله" أي كعمله في محله وهو موضوعه الأصلي ولما كان عمله في محله إثبات العموم كان كذلك فيما استعير له أيضا لوجود دلالته وهي لام التعريف.
قوله: "إلا أنهما يتفاوتان" جواب عما ذكرنا أن الحقيقة تترجح عند التعارض أي هما مستويان في العموم والخصوص ولكنهما يفترقان في اللزوم والبقاء فإن الحقيقة لازمة باقية حتى لم يصح نفيها عن موضوعها والمجاز ليس بلازم باق حتى صح نفيه كالثوب الملبوس لا يسترد إذا كان مملوكا ويسترد إذا كان عارية, ولهذا تترجح الحقيقة عند التعارض; لأنها ألزم وأدوم والمطلوب بكل كلمة عند الإطلاق ما هي موضوعة له في الأصل فيترجح ذلك حتى يقوم دليل المجاز بمنزلة الملبوس يترجح جهة الملك للابس فيه حتى يقوم دليل العارية كذا قال شمس الأئمة رحمه الله وهذا الترجح لا يدل على كون المجاز ضروريا كترجيح المحكم على الظاهر لا يدل على كونه ضروريا وعلى انتفاء العموم عنه.
قوله: "والمجاز طريق مطلق" أي طريق جاز سلوكه من غير ضرورة فإنا نجد الفصيح من أهل اللغة القادر على التعبير عن مقصوده بالحقيقة يعدل إلى التعبير عنه بالمجاز لا لحاجة ولا لضرورة وقد ظهر استحسان الناس للمجازات فوق ما ظهر من استحسانهم للحقائق فتبين بهذا أن قولهم هو ضروري فاسد والدليل عليه أن القرآن في أعلى رتب الفصاحة وأرفع درج البلاغة, والمجاز موجود فيه عد من غريب بدائعه وعجيب بلاغته قوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} "الإسراء:24" وإن لم يكن للذل جناح وقوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} "الحجر:94" أي أظهره غاية الإظهار فكان التعبير عنه بالصدع أبلغ وهو في الأصل لصدع الزجاج وقوله عز اسمه {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} "هود:44"وقوله جل ذكره {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} "البقرة:25" والجري للماء لا للأنهار وقوله علت كلمته {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} "الكهف 77"وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى
"والله تعالى علي" أي منزه عن العجز والضرورات فثبت أنه ليس بضروري

(2/63)


مثل عمله إذا لبس بحق الملك إلا أنهما يتفاوتان لزوما وبقاء.والمجاز طريق مطلق لا ضروري حتى كثر في كتاب الله تعالى وهو أفصح اللغات والله سبحانه
ـــــــ
ولا يقال المقتضى ضروري عندكم حتى أنكرتم جواز عمومه أصلا مع أنه موجود في القرآن فليكن المجاز كذلك
لأنا نقول الضرورة في المقتضى راجعة إلى الكلام والسامع فإنه إنما يثبت ضرورة تصحيح الكلام شرعا لئلا يؤدي إلى الإخلال بفهم السامع, والضرورة في المجاز لو ثبتت كانت راجعة إلى المتكلم; لأن ثبوته لتوسعة طريق التكلم على المتكلم. ولهذا ذكر المجاز في أقسام استعمال النظم الذي هو راجع إلى المتكلم والمقتضى في أقسام الوقوف على المراد الذي هو حظ السامع وإذا كان كذلك جاز أن يوجد المقتضى في القرآن بخلاف المجاز لو كان ضروريا وبهذا ظهر أن استدلالهم بالمقتضى ليس بصحيح; لأن العموم العوارض الألفاظ على ما مر والمجاز ملفوظ فإذا وجد دليل العموم فيه أمكن القول بعمومه فأما المقتضى فغير ملفوظ لا تحقيقا ولا تقديرا بل هو ثابت شرعا فلا يتصور فيه العموم بخلاف المحذوف فإنه ملفوظ تقديرا فأمكن القول بعمومه عند وجود دليله. قال أبو اليسر المقتضى إذا كان ثابتا لغة يوجب العموم فأما إذا كان ثابتا شرعا فلا; لأنه صير إليه للضرورة فيتقدر بقدرها وفي قوله حتى كثر ذلك في كتاب الله تعالى إشارة إلى رد قول من أنكر وقوع المجاز في القرآن من الرافضة وأهل الظاهر منهم داود الأصفهاني وأبو بكر الأصبهاني1 واتباعهما متمسكين بأن المجاز كذب بدليل أنه يصدق نافيه وإذا كان صدقا كان إثباته كذبا ضرورة وإذا كان كذبا يمتنع ذلك في كلام الله تعالى وبما ذكرنا أن المجاز هو استعارة الكلمة لغير ما وضعت وهذا لا يكون إلا من ذي الحاجة وأنه تعالى منزه عن الحاجة وبأن المجاز لو كان واقعا في القرآن لصح وصفه تعالى بكونه متجوزا لصدور التكلم بالمجاز والأمر بخلافه
وكل ذلك فاسد; لأن المجاز موجود في القرآن بحيث لا وجه إلى إنكاره ونظائره أكثر من أن تحصى وقولهم المجاز كذب فيمتنع وقوعه في كلامه تعالى وهم منهم; لأن كذبه إنما يلزم لو كان النفي والإثبات للحقيقة كقولنا هو أسد بالحقيقة ليس بأسد بالحقيقة لتناقضهما حينئذ وأما إذا كان أحدهما بالحقيقة والآخر بالمجاز كقولنا ليس بأسد بالحقيقة هو أسد بالمجاز فلا يلزم من صدق النفي كذب الإثبات; لأنهما لا يتنافيان وإنما
ـــــــ
1 هو أبوبكر محمد بن داود الظاهري تولي رئاسة المذهب الظاهري وكان أديبا توفي سنة297ه أنظر معجم المؤلفين 9/296

(2/64)


وتعالى علا عن العجز والضرورات ومن حكم الحقيقة أنه لا تسقط عن المسمى بحال وإذا استعير لغيره احتمل السقوط يقال للوالد أب ولا ينفى عنه بحال ويقال للجد أب مجازا ويصح أن ينفى عنه لما بينا أن الحقيقة وضع
ـــــــ
لم يصح وصفه تعالى بكونه متجوزا; لأن مثل هذا الإطلاق يتوقف على الإذن; لأن أسماء الله تعالى توقيفية وذكر عبد القاهر البغدادي في أصوله بعد ذكر قول هذه الطائفة وذكر شبهتهم ثم افتراق هؤلاء في كلمات من القرآن طريقها المجاز فمنهم من تأول بعضهما على الحقيقة وتقول في مثل قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف:82" وقوله {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} "الىكهف:77" إنه محمول على الحقيقة; لأنه تعالى قادر على إنطاق الأرض لأنبيائه وعلى خلق الإرادة في الجدار ومنهم من شك في كون المجازات التي في القرآن أنها منه وقال لعلها من الجنس الذي غير منه ويدل عليه ما ذهب إليه الإمامية من الرافضة في دعواها أن الصحابة غيرت نظم القرآن وزادت فيه ما ليس منه ونقضت منه ما كان فيه من إمامة علي وأولاده وزعمهم أيضا أن ما فيه من مجازات فهو من زيادات المبدلين ثم قال في آخر هذه المسألة وأما الذين أنكروا وجود المجاز في القرآن وزعموا أنه لو كان فيه مجاز لكان كذبا فإنه يلزمهم أن يكون قوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} "الحجر:9" كذبا; لأن إنا ونحن للجماعة دون الواحد في أصل الوضع. وإن قالوا صح ذلك على وجه التعظيم فهو المجاز الذي أنكروه وأيضا فإن منكر المجاز في القرآن لا يخلو من أن يقول المعدوم شيء كما قالت القدرية أو يقول ليس بشيء كما قال غيرهم وعلى الأول يلزمه أن يكون قوله تعالى {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} "مريم:9" مجازا وعلى الثاني يلزم أن يكون قوله عز اسمه {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} "الحج:1" وأما الرافضة المدعية أن المجازات كلها مما غيرتها الصحابة فلا كلام معهم في هذه المسألة; لأنهم في حيرة في أحكام الشرع وفي تيه إلى أن يظهر إمامهم الذي ينتظرونه ومن لا يثق بشيء من القرآن فلا يناظر في صفات كلمات القرآن ولا في أحكام القرآن
قوله: "ومن حكم الحقيقة أنه" أي أن لفظ الحقيقة "لا يسقط عن المسمى بحال" أي يصح إطلاقه على موضوعه أبدا ولا يصح نفيه عنه بحال فإذا أطلق كان مسماه أولى به من غيره "إلا إذا كان مهجورا" الاستثناد متصل بقوله لا يسقط عن المسمى بحال يعني إذا كان المسمى مهجورا أي ترك الناس العمل به وإرادته عن هذا اللفظ " فح " بجواز أن يسقط عنه لفظه الموضوع له لا يتناوله عند الإطلاق سواء كان الهجران بالعادة أو بالتعذر بل يتعين المجاز "ويصير ذلك" أي كونه مجهورا دليل الاستثناء أي نازلا منزلته فيصير

(2/65)


مستعار فكانا كالملك والعارية إلا أن يكون مهجورا فيصير ذلك دلالة الاستثناء كما قلنا فيمن حلف لا يسكن الدار فانتقل من ساعته وكمن حلف لا يقتل وقد كان جرح ولا يطلق وقد كان حلف كمن حلف لا يأكل من الدقيق لا يحنث
ـــــــ
المسمى المهجور مستثنى تقديرا من جملة محتملات اللفظ مع صلاحيته للدخول تحت اللفظ كمن حلف لا يسكن هذه الدار وهو فيها موجب هذا الكلام وجوب الامتناع عن السكنى من زمان الحلف إلى آخر العمر; لأن المصدر الذي دل عليه قوله " لا يسكن " نكرة وقعت في موضع النفي فيعم جميع ما يتصور من السكنى في العمر فكان القياس أن يحنث وإن أخذ في النقلة من ساعته كما قال زفر رحمه الله لوجود حقيقة السكنى بعد الفراغ من اليمين وإن قل لفوات شرط البر به وهو استغراق العدم جميع العمر كما لو دخل ثم خرج على الفور بعد الانتقال إلا أنه لا يحنث عندنا استحسانا; لأن ذلك القدر من السكنى صار مستثنى عن اليمين لكونه مهجورا في مثل هذا الكلام بدلالة أن مقصود الحالف منع نفسه عما في وسعه من السكنى إذ اليمين تعقد للبر لا للحنث ولا يتصور المنع ومحافظة البر إلا بإخراج هذا القدر من اليمين فوجب القول به تحقيقا للمقصود وصار كأنه قال لا أسكن هذه الدار إلا زمان الانتقال.
قوله: "وكمن حلف لا يقتل فلانا وقد كان جرحه قبل ذلك" فمات المجروح بعد يمينه من ذلك الجرح لا يحنث وإن وجد الانزهاق الذي به ويصير الجرح السابق قتلا بعد اليمين لما ذكرنا أن مقصود الحالف منع النفس عما في وسعه من القتل في المستقبل فصار هذا الموت باعتبار أنه لم يدخل تحت مقصوده مستثنى عن اليمين لكونه مهجورا وقس عليه مسألة الطلاق وكمن حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من عينه قال بعض مشايخنا يحنث; لأن عينه مأكول فيدخل تحت اليمين كأكل الخبز والأصح أنه لا يحنث; لأن أكل عين الدقيق مهجور عادة فصار ذلك دليل الاستثناء وينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه من الخبز ونحوه, كذا ذكر شمس الأئمة في "أصول الفقه" "والمبسوط"
وذكر في شرح الجامع الصغير والأصح عندي أنه يحنث; لأن الدقيق يتأتى أكل عينه وما هو المقصود بالأكل يحصل بأكل عينه وقد تقلى فيؤكل أيضا فإذا كان حقيقة لفظه متعارفا أيضا من وجه "قلنا" يحنث به.
وفي المبسوط ولو نوى أكل الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز; لأنه نوى حقيقة كلامه وفي شرح الجامع الصغير للقاضي الإمام فخر الدين رحمه الله فإن عنى أكل الدقيق صحت نيته فيما فيه تغليظ حتى يحنث بأكل الدقيق ولا يصدق في صرف اليمين عن الخبز; لأنه خلاف الظاهر وكما إذا حلف لا يأكل من هذا الشجر فأكل من عينه لم يحنث

(2/66)


بالأكل من عينه عند بعض مشايخنا وإذا حلف لا يأكل من هذا الشجر فأكل من عين الشجر لم يحنث أيضا.ومن أحكام الحقيقة والمجاز
ـــــــ
يعني في شجر لا يؤكل عينه عادة; لأن أكل عين الشجر لما كان مهجورا للتعذر انصرفت يمينه إلى المجاز وهو أكل ثمره إن كان له ثمر وثمنه إن لم يكن
قوله: "استحالة اجتماعهما مرادين بلفظ واحد" اختلف الأصوليون في جواز إطلاق اللفظ الواحد على مدلوله الحقيقي ومدلوله المجازي في وقت واحد فذهب أصحابنا وعامة أهل الأدب والمحققون من أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إلى امتناعه. وذهب الشافعي وعامة أصحابه وعامة أهل الحديث وأبو علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد من المتكلمين إلى جوازه مستروحين في ذلك إلى أنه لا مانع من إرادة المعنيين جميعا فإن الواحد منا قد يجد نفسه مريدة بالعبارة الواحدة معنيين مختلفين كما يجدها مريدة للمعنيين المتفقين جميعا ونعلم ذلك من أنفسنا قطعا فمن ادعى استحالته فقد جحد الضرورة وعاند المعقول. ألا ترى أن الواحد منا قد يجد في نفسه إذا قال لغيره لا تنكح ما نكح أبوك أو قال توضأ من لمس المرأة إرادة العقد والوطء وإرادة المس باليد والوطء حتى لو صرح به وقال تنكح ما نكح أبوك وطئا ولا عقدا وتوضأ من اللمس مساو وطئا صح من غير استحالة فكذا يجوز أن يحمل قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} "النساء:22" على الوطء والعقد وقوله جل جلاله {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} النساء:43" و"المائدة:6" على الوطء والمس باليد من غير استحالة ويؤيده صحة استثناء كل واحد منهما عن النص مثل أن يقول أو لامستم النساء إلا أن يكون المس باليد وإلا أن يكون بالوطء وإذا صح الاستثناء صحت إرادة الجميع أيضا عند عدمه. قالوا وقد حكي عن سيبويه أنه قال يجوز أن يراد باللفظ الواحد الدعاء على الغير والخبر عن حاله مثل أن يقول لغيره له الويل فهذا دعاء عليه بالويل وخبر عن ثبوت الويل له وهذان معنيان مختلفان.
قالوا وهذا بخلاف ما إذا أريد باللفظ الواحد معنيان متضادان كما إذا أريد بالأمر الوجوب والندب أو الإباحة أو التهديد أو أريد بالمشركين الكل والبعض حيث لا يجوز مع صلاحيته لكل واحد; لأن العمل بهما مستحيل; لأن كون الفعل واجبا يأثم بتركه يضاد كونه ندبا أو مباحا لا نأثم بتركه فيستحيل الجمع بينهما. وكذا إرادة الكل يضاد إرادة البعض فأما إرادة وجوب الطهر من المس باليد فلا يضاد إرادة وجوب الطهر من الجماع فلا يستحيل الجمع فوجب القول بجواز إرادتهما.
ولمن ذهب إلى امتناعه وجهان. أحدهما أن القول بجواز إرادتهما يؤدي إلى

(2/67)


استحالة
ـــــــ
المحال فيكون فاسدا. وبيان الاستحالة من وجوه أحدها ما أشار الشيخ إليه في الكتاب أن الحقيقة ما يكون مستقرا في موضوعه مستعملا فيه والمجاز ما يكون متجاوزا عن موضوعه مستعملا في غيره والشيء الواحد في حالة واحدة لا يتصور أن يكون مستقرا في موضعه ومتجاوزا عنه ضرورة أن الشيء الواحد لا يحل مكانين.
وثانيها أنه لو صح الإطلاق عليهما يكون المستعمل مريدا لما وضعت له الكلمة أولا لاستعمالها فيه غير مريد له أيضا للعدول بها عما وضعت له فيكون موضوعها مرادا أو غير مراد وهو جمع بين النقيضين. والاستحالة في الوجه الأول باعتبار اللفظ وفي الوجه الثاني باعتبار المعنى.
وثالثها أن استعمال الكلمة فيما هي مجاز فيه يوجب إضمار كاف التشبيه لما عرف واستعمالها فيما هي حقيقة فيه لا يوجب ذلك وبين الإضمار وعدمه تناف. ورابعها أن المجاز لا يعقل من الخطاب إلا بقرينة وتقييد, والحقيقة تفهم بالإطلاق من غير قرينة وتقييد ويستحيل أن يكون الخطاب الواحد جامعا بين الأمرين فيكون مطلقا ومقيدا في حالة واحدة.
ولكن الفريق الأول اعترضوا على هذه الأوجه فقالوا على الوجه الأول لا نسلم أن الحقيقة مستقرة في موضعه حقيقة والمجاز متجاوز عن موضعه كذلك بل اللفظ صوت وحرف يتلاشى كما وجد فيستحيل وصفه بالاستقرار والتجاوز ولكنه استعمل أي تلفظ به وأريد به موضوعه وغير موضوعه ولا استحالة في ذلك كما بينا.
وعلى الوجه الثاني أنا لا نسلم لزوم كونه غير مريد لما وضعت الكلمة له أو لا بل اللازم كونه مريدا لما وضعت له أولا وثانيا وهو المجموع ولا يلزم من إرادتهما معا أن لا يكون الأول مرادا.
وعلى الوجه الثالث أن الإنسان إذا قال رأيت الأسود وأراد به أسدا ورجالا شجعانا لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه في البعض دون البعض.
وعلى الوجه الرابع أن ما ذكرتم لا يلزمنا; لأنا إنما يجوز أن يحمل اللفظ على الحقيقة والمجاز إذا تساويا في الاستعمال لكن إذا عري عن عرف الاستعمال لم يجز أن يحمل على المجاز إلا أن يقوم الدليل عليه ثم قيام الدلالة على المجاز لا ينفي عن اللفظ إرادة الحقيقة لصحة تعلق القصد والإرادة بهما جميعا وفي بعض هذه الاعتراضات وهاء وفي الجواب عنها كلام طويل.

(2/68)


اجتماعهما مرادين بلفظ واحد لما قلنا أحدهما موضوع والآخر مستعار منه فاستحال اجتماعهما كما استحال أن يكون الثوب على رجل لبسه ملكا له
ـــــــ
والوجه الثاني وهو اختيار أكثر المحققين أن إرادة المعنيين تجوز عقلا ولكن لا تجوز لغة; لأن أهل اللغة وضعوا قولهم حمار للبهيمة المخصوصة وحدها وتجوزوا به في البليد وحده ولم يستعملوه فيهما معا أصلا ألا ترى أن الإنسان إذا قال رأيت حمارا لا يفهم منه البهيمة والبليد جميعا وإذا قال رأيت حمارين لا يفهم منه أنه رأى أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين بوجه وإذا كان كذلك كان استعماله فيهما خارجا عن لغتهم فلا تجوز
"فإن قيل" صحة إطلاق اللفظ على مفهوميه الحقيقي والمجازي إنما يتوقف على استعمالهم إذا جوزنا ذلك بطريق الحقيقة فأما إذا جوزناه بطريق المجاز كما ذهب إليه ابن الحاجب فلا يعد ما كان مبنيا على طريقة منقولة عنهم وهو إطلاق اسم الجزء على الكل
"قلنا" نعم ولكن إذا صح بناؤه على تلك الطريقة ونحن لا نسلم ذلك; لأن الكل الذي يجوز إطلاق اسم جزئه عليه لا بد من أن يكون داخلا تحت لفظ موضوع له ليثبت كليته بذلك الاعتبار ثم يطلق عليه اسم جزئه كإطلاق اسم الوجه أو الرقبة على الذات فإن جميع أجزاء البدن لما كان داخلا تحت اسم الذات أو الإنسان أو البدن أو النفس أو ما أشبهها جاز إطلاق اسم الجزء وهو الوجه أو الرقبة عليه وأنت لا تجد لفظا يدل على الهيكل المخصوص والإنسان الشجاع بالوضع ليثبت الكلية فيهما بوجه فكيف يجوز إطلاق لفظ الأسد عليهما بطريق إطلاق اسم الجزء على الكل ولا جزئية ولا كلية. ولا يقال الكلية ثابتة من حيث إن دلالة اللفظ لا يعدو عن المعنى الحقيقي والمجازي فكانا كلا من هذا الوجه.; لأنا نقول لا نسلم أن مثل هذه الكلية والجزئية من طرق المجاز فإنهم لم يعتبروه في شيء من استعمالاتهم فكانا بمنزلة وصف البخر والحمى في الأسد على أنه هو المتنازع فيه فلا بد من إقامة الدليل على أنه يصلح للمجاز. وبما ذكرنا خرج الجواب عن كلماتهم. ولا تمسك لهم فيما حكوه عن سيبويه إذ لم ينقل عنه أنه يجوز أن يستعمل فيهما معا بل معنى ما نقل عنه أنه يجوز أن يراد به الدعاء ويجوز أن يراد به الخبر ونحن نقول به. وقوله استحالة اجتماعهما أي اجتماع مفهوميهما.
"مرادين بلفظ واحد" قيد بقوله مرادين احتراز عن جواز اجتماعهما من حيث التناول الظاهري كما إذا استأمن على الأبناء والموالي. أو احترازا عن جواز اجتماعهما في احتمال اللفظ إياهما. لما قلنا إن أحدهما أي أحد المفهومين موضوع أي موضوع له.

(2/69)


وعارية معا, ولهذا قلنا فيمن أوصى لمواليه وله موال أعتقهم ولمواليه موال أعتقوهم أن الثلث للذين أعتقهم وليس لموالي معتقيه شيء; لأن معتقيه مواليه حقيقة بأن أنعم عليهم وصار ذلك كأولاده لإحيائهم بالإعتاق فأما موالي الموالي
ـــــــ
"والآخر" أي المفهوم الآخر "مستعار منه" أي له "فاستحال اجتماعهما" أي اجتماع هذين المفهومين في لفظ واحد في حالة واحدة لتأديه إلى كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا في حالة واحدة. أو يقال لما قلنا إن أحدهما أي أحد المذكورين وهو الحقيقة موضوع. والآخر وهو المجاز مستعار منه أي مما وضع له; فاستحال اجتماعهما أي اجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد كما استحال أن يكون الثوب الواحد "على رجل لبسه" أي في حالة استعماله ملكا له وعارية في حقه أيضا. يعني الألفاظ للمعاني بمنزلة الكسوة للأشخاص فكما أن في الكسوة الواحدة يستحيل أن يجتمع صفة الملك والعارية في استعمال واحد فكذلك يستحيل أن يجتمع في اللفظ الواحد كونه حقيقة ومجازا في استعمال واحد.
ولا يقال إن أردتم باستحالة اجتماع الملك والعارية استحالته بنسبة شخصين فذلك ممنوع; لأن الثوب المستعار في حالة استعمال المستعير مملوك ومستعار فقد اجتمع الملك والعرية فيه ولكن بنسبة شخصين. وإن أردتم استحالته بنسبة شخص واحد فمسلم ولكن المذكور في الكتاب لا يطابقه; لأن المذكور فيه اجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد في حالة واحدة باعتبار معنيين مختلفين بالاعتبار معنى واحد فلا يستقيم التشبيه. لأنا نقول المراد هو التشبيه من حيث الاستعمال لا غير يعني كما أن استعمال الثوب الواحد في حالة واحدة بطريق الملك والعارية جميعا مستحيل سواء كان بنسبة شخص أو بنسبة شخصين فكذلك استعمال اللفظ في حالة واحدة بطريق الحقيقة والمجاز معا مستحيل سواء كان بنسبة معنى واحد أو بنسبة معنيين. وكان الأحسن في التشبيه أن يقال كما استحال أن يلبس الثوب الواحد لابسان كل واحد منهما لبسه بكماله أحدهما بطريق الملك والآخر بطريق العارية. إلا أن الشيخ اختار هذا الوجه من التشبيه; لأنه أظهر في الاستحالة وبين استحالة اجتماع الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى معنيين لتعرف الاستحالة بالنسبة إلى معنى واحد بطريق الدلالة وليكون إشارة إلى رد قول من زعم من مشايخنا العراقيين أن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان في لفظ واحد في محل واحد ولكن أن يجتمعا في لفظ واحد باعتبار محلين مختلفين حتى قالوا تثبت حرمة الجدات وبنات الأولاد بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُم} "النساء:23". مع أن اسم الأم والبنت للجدة وبنت الولد مجاز; لأن ما ذكروا عين مذهب الخصوم. وأما حرمة الجدات وبنات

(2/70)


فمواليه مجازا; لأنه لما أعتق الأولين فقد أثبت لهم مالكية الإعتاق فصار ذلك مسببا لإعتاقهم فنسبوا إليه بحكم السببية مجازا والحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز ألا ترى أن الاسم المشترك لا عموم له مثل الموالي لا يعم الأعلين والأسفلين
ـــــــ
الأولاد ونحوها فثابتة بالإجماع أو بعين النص باعتبار أن الأم في اللغة الأصل والبنت الفرع فصار كأنه قيل حرمت عليكم أصولكم وفروعكم فيدخل فيه الجميع. أو بدلالة النص وهي أن العمة والخالة لما حرمتا مع بعد قرابتهما وهي قرابة المجاورة فالجدات والبنات لأن يحرمن من قرب قرابتهن وهي قرابة الجزئية والبعضية كان أولى.
ولا يقال الثوب المرهون إذا استعاره الراهن ولبسه يكون ذلك بطريق الملك والعارية جميعا في زمان واحد. لأنا نسلم أن انتفاعه به بطريق العارية بل بأصل الملك الذي هو ثابت له إذ هو المطلق للانتفاع إلا أنه كان ممنوعا عنه لتعلق حق المرتهن وقد أبطل حقه بالإعارة. والدليل عليه أنه لو هلك في يده هلك غير مضمون على المرتهن ولم يسقط عن الدين شيء. وإطلاق العارية عليه مجاز; لأن تمليك المنافع ممن لا يملكها حقيقة لا يتصور إلا أنه لما كان للمرتهن أن يسترد لبقاء عقد الرهن تصور بصورة الإعارة فلذلك سمي إعارة.
قوله: "فصار ذلك" أي الإنعام عليهم بالإعتاق, "كولادهم لإحيائهم بالإعتاق" . يعني أن المولى بالإعتاق صار سببا لحياتهم كالأب صار سببا لوجود الولد. وهذا; لأن الكفر في حكم الموت قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} "الأنعام:122". أي كافرا فهديناه وقال {إِِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} "النمل:80". والمعنى فيه أن الكافر لما لم ينتفع لحياته صار في حكم الأموات كما أنه إذا لم ينتفع بسمعه ونطقه وبصره وعقله صار في حكم عديم الحواس والعقل قال الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} "البقرة:171". وإذا ثبت هذا قلنا إن الرق أثر الكفر, ولهذا لا يجوز ضرب الرق على المسلم ابتداء فالمولى بالإعتاق يصير مسببا لحياته بإزالة ما هو أثر الموت فكان إعتاقه بمنزلة الإحياء كالولادة فيكون متعلق بمنزلة الولد ومعتق المعتق بمنزلة ولد الوالد فيكون إطلاق اسم المولى على الأول حقيقة وعلى الثاني مجازا كما في الولد وولد الولد فلا يدخل الثاني تحت الوصية.
قوله: "ألا ترى متصل" بقوله ملكا وعارية وتوضيح لما ذكر من عدم جواز إرادة معنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد فقال الاسم المشترك لا عموم له لما مر في أول الكتاب مثل الموالي لا يعم المعتقين والمعتقين في مسألة الوصية ويبطل الوصية.

(2/71)


حتى أن الوصية للموالي وللموصي موال أعتقهم وموال أعتقوه باطلة وهذه معان يحتملها الاسم احتمالا على السواء إلا أنها لما اختلف سقط العموم فالحقيقة والمجاز وهما مختلفان ودلالة الاسم عليهما متفاوتة أولى أن لا يجتمعا ولهذا قلنا في غير الخمر أنه لا يلحق بالخمر في الحد; لأن الحقيقة أريدت
ـــــــ
وفي رواية يصح الوصية ويكون بينهم على السوية النصف للمعتقين والنصف للمعتقين وبه قال الشافعي. وفي رواية ترجح الأعلى على الأسفل. وفي رواية على العكس. وهذه معان أي المعاني التي دل عليها الاسم المشترك. يحتملها الاسم احتمالا على السواء; لأن كل واحد منهما ثابت بالوضع. إلا أنها أي لكنها لما اختلف سقط العموم لما عرف أن من شرط العام تساوي الأفراد الداخلة تحته في المعنى الذي دل عليه اللفظ. فالحقيقة والمجاز أي مفهوماهما. وهما مختلفان; لأن الإنسان الشجاع مخالف الأسد. ودلالة الاسم عليهما أي على مفهومي الحقيقة والمجاز متفاوتة للاحتياج في الدلالة على أحدهما إلى القرينة دون الآخر. أولى أن لا يجتمعا لوجود ذلك المانع الموجود في المشترك وهو الاختلاف وزيادة وهي عدم التساوي في الدلالة.. واعلم أن هذا من قبيل الاستدلال بالمختلف على المختلف; لأن كل من جوز الجمع غير أصحابنا العراقيين قال بالعموم في المشترك بل استدل بجواز عموم المشترك على جواز التعميم ههنا وقال التعميم ههنا أولى من التعميم في المشترك; لأنه لا بد من تعلق بين محلي الحقيقة والمجاز ولما جاز تعميم المشترك بدون علاقة بين المعنيين كان التعميم هنا مع وجود التعلق أولى بالجواز وإذا كان كذلك لا يصلح ما ذكر الشيخ للإلزام على الخصم لكن لما تمهد وتقرر عند الشيخ انتفاء جواز التعميم في المشترك بدلائل قوية ذكرناها في أول هذا الكتاب لم يبال بالاستدلال به كما فعل محمد هكذا في غير موضع من كتبه.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولامتناع الجمع بين مفهومي الحقيقة والمجاز في لفظ واحد. قال الشافعي رحمه الله يجب الحد بشرب القليل من سائر الأشربة المسكرة وكثيره كما في الخمر واستدل بعض أصحابه على ذلك بعموم قوله عليه السلام.: "من شرب الخمر فاجلدوه1" . وقال سائر الأشربة يسمى خمرا باعتبار مخامرة العقل فيدخل تحت عموم هذا النص كالخمر. فقال الشيخ لا يصح إلحاق سائر الأشربة بالخمر
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الحدود باب رقم 15 والحاكم من المستدرك 4/371.

(2/72)


بذلك النص فبطل المجاز, ولهذا قلنا في قوله تعالى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} "النساء:43" أن المس باليد غير مراد; لأن المجاز مراد بالإجماع وهو الوطء حتى حل للجنب التيمم فبطل الحقيقة, ولهذا قيل فيمن أوصى لأولاد فلان أو
ـــــــ
بهذا الطريق; لأن اسم الخمر للنيء من ماء العنب إذا غلى واشتد حقيقة ولسائر الأشربة مجاز باعتبار المخامرة وقد يثبت الحقيقة مرادة بهذا النص فيخرج المجاز من أن يكون مرادا. ولا يقال قد ألحق سائر الأشربة بالخمر عند حصول السكر في إيجاب الحد فيجوز أن يلحق بها القليل أيضا. لأنا نقول قد ثبت الحكم في الكثير بالإجماع وبقوله عليه السلام.: "والسكر من كل شراب1" . لا بطريق الإلحاق.
قوله: "ولهذا" أي وللامتناع المذكور قلنا في قوله تعالى. {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}, "أن المس باليد غير مراد" حتى لا يكون مس المرأة حدثا خلافا لما يقوله الشافعي وعامة أهل الحديث فإن المنقول عن الشافعي أنه قال أحمل آية اللمس على المس والوطء جميعا كذا ذكره الغزالي وهكذا رأيت في بعض كتب أصحاب الحديث أيضا; لأن المجاز وهو الوطء أريد منه بالإجماع حتى حل للجنب التيمم بهذا النص ولا ذكر له في كتاب الله تعالى إلا ههنا فبطل أن يكون الحقيقة مرادة. ولهذا من حمل الآية على اللمس باليد لم يجوز التيمم للجنب مثل ابن مسعود رضي الله عنه ومن حملها على الوطء جوزه له مثل علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة
"فإن قيل" قد قرئت الآية بقراءتين لامستم ولمستم من الملامسة واللمس فيحمل أحدهما على الوطء والأخرى على المس باليد كما حملتم القراءتين في قوله تعالى. {حَتَّى يَطْهُرْنَ} "البقرة.:222" بالتشديد والتخفيف وقوله {وَأَرْجُلِكُمْ} "البقرة:222" بالنصب والجر على الحالين
"قلنا" لا نزاع فيه وإنما النزاع في حمل كل واحدة منهما على المعنيين كما هو المنقول عن الخصوم. وإنما يجوز ما ذكرتم إذا لم يمنع عنه مانع وقد وجد ههنا فإنه روي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يخرج إلى الصلاة2". ولأن الصحابة والسلف رضي الله عنهم اختلفوا في تأويل الآية على قولين فبعضهم قالوا المراد منها المس باليد ولم يجوزوا التيمم للجنب وبعضهم المراد هو الجماع وجوزوا التيمم للجنب ولم يجعلوا المس
ـــــــ
1 أخرجه النسائي في الأشربة باب رقم 48
2 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 179 والترمذي في الطهارة حديث رقم 86 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 502 والإمام أحمد في المسند 6/210

(2/73)


لأبنائه وله بنون وبنو بنين جميعا أن الوصية لأبنائه دون بني بنيه لما قلنا..فإن قيل قد قالوا فيمن حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان أنه يحنث إذا دخلها حافيا أو متنعلا وفيمن قال عبدي حر يوم يقدم فلان أنه إن قدم ليلا أو نهارا
ـــــــ
حدثا فالقول بجواز التيمم للجنب وكون المس حدثا أيضا عملا بالقراءتين كان خارجا عن أقوالهم وإجماعهم فيكون مردودا كذا ذكر في شرح التأويلات.
قوله: "ولهذا" أي ولامتناع الجمع قلنا فيمن أوصى لأولاد فلان. ذكر في المبسوط ولو أوصى بثلثه لبني فلان ولفلان ذلك أولاد فالثلث للذكور من ولده دون الإناث في قول أبي حنيفة الآخر وفي قوله الأول وهو قولهما إذا اختلط الذكور بالإناث فالثلث بينهم وإن انفرد الإناث فلا شيء لهن بالاتفاق. وإن كان له أولاد وأولاد ابن فعند أبي حنيفة رحمه الله الوصية لبنيه لصلبه دون بني ابنه; لأن الاسم لأولاد الصلب حقيقة ولبني الابن مجاز بدليل أنه يستقيم نفيه عنهم والمجاز لا يزاحم الحقيقة. وفي قولهما الكل سواء; لأن عموم المجاز يتناولهم فيطلق البنين في العرف على الفريقين وهو نظير مذهبهم في مسألة الحنطة والشرب من الفرات. ولو أوصى لولد فلان دخل فيه أولاده لصلبه الذكور والإناث في حالتي الاختلاط والانفراد; لأن اسم الولد للجنس. وإن كان له ولد لصلبه وأولاد ابن فالوصية لولده لصلبه دون أولاد ابنه. ذكر الخلاف في المسألة الأولى ولم يذكر في الثانية. فإن كانت على الخلاف كما يشير لفظ شمس الأئمة في أصول الفقه حيث قال قال أبو حنيفة فيمن أوصى لبني فلان أو لأولاد فلان فلا حاجة إلى الفرق. ولو كانت على الوفاق فالفرق لهما أن لفظ بني فلان قد استعمل في أولاد الصلب وأولاد البنين استعمالا شائعا فأما لفظ الولد فلم يستعمل في أولاد البنين استعمال الأول. فتبين أن ما ذكر الشيخ مذهب أبي حنيفة دون مذهبهما.
قوله: "فإن قيل" إلى آخره لما فرغ من تمهيد هذه القاعدة وإقامة الدليل عليهما شرع في بيان ما يرد نقضا على هذا الأصل من المسائل والجواب عنها وهي عدة مسائل.
إحداها مسألة وضع القدم فإنه إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو متنعلا أو راكبا حنث وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن الدخول حافيا حقيقة هذا اللفظ وغيره مجاز. وهذا إذا لم يكن له نية فإن نوى حين حلف أن لا يضع قدمه فيها ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث; لأنه نوى حقيقة كلامه وهذه حقيقة مستعملة غير مهجورة كذا في المبسوط. وذكر في المحيط إذا عنى به حقيقة وضع القدم لا يحنث بالدخول راكبا; لأنه نوى حقيقة كلامه فيصدق ديانة وقضاء. والثانية قوله عبدي حر يوم يقدم فلان من غير نية فقدم فلان ليلا ونهارا يحنث وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن اليوم للنهار

(2/74)


عتق عبده وفي السير الكبير قال في حربي استأمن على نفسه وأبنائه أنه يدخل فيه البنون وبنو البنين وفيمن حلف لا يسكن دار فلان أنه يقع على الملك والإجارة و العارية جميعا قيل له وضع القدم مجاز عن الدخول لأنه موجبه والدخول مطلق فوجب العمل بإطلاق المجاز وعمومه.وكذلك اليوم اسم للوقت
ـــــــ
حقيقة ولليل مجاز. فإن نوى بياض النهار يصدق ديانة وقضاء وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يصدق ديانة لا قضاء; لأن اليوم متى ذكر مقرونا بما لا يمتد صار عبارة عن الوقت بعرف الاستعمال فكان لبياض النهار بمنزلة المجاز فيكون خلاف الظاهر فلا يصدقه القاضي. وجه الظاهر أنه اسم لبياض النهار حقيقة وبمجرد الاستعمال لا يصير الحقيقة كالمجاز كما أن قوله لا يضع قدمه في كذا ينصرف إلى الدخول بعرف الاستعمال ويصدق إذا نوى حقيقة وضع القدم في القضاء, كذا ذكر الإمام خواهر زاده رحمه الله.
والثالثة مسألة السير وهي ظاهرة.
والرابعة ما إذا حلف لا يدخل دار فلان ولم يسم دارا بعينها ولم يكن له نية يقع على الدار المملوكة والمستأجرة والعارية والإضافة إلى فلان بالملك حقيقة وبغيره مجاز بدليل صحة النفي في غير الملك وعدم صحته في الملك فيكون فيه جمع بينهما. وعند الشافعي إذا قال لا أدخل مسكن فلان فكذا الجواب. وإن قال بيت فلان أو دار فلان لا يحنث إلا في الملك; لأن سكنى فلان حقيقة موجودة في المسكن المستأجر والمستعار بخلاف البيت والدار.
قوله: "قيل له وضع القدم مجاز عن الدخول" أي عبارة عنه. ضمن لفظ المجاز معنى العبارة فلذلك ذكر بصلة عن أو كلمة عن بمعنى في; لأن حروف الصلات تنوب بعضها عن بعض يعني هو مجاز في هذا المعنى وهو الدخول. لأنه موجبه أي الدخول موجب وضع القدمين وهو سببه فاستعير لحكمه. وإنما حملناه على الدخول; لأن مقصود الحالف منع نفسه عن الدخول لا عن مجرد وضع القدم فيصير باعتبار مقصوده كأنه حلف لا يدخل والدخول مطلق لعدم تقيده بالركوب والتنعل والحفاء فيحنث في الكل باعتبار الدخول الذي هو المقصود لا باعتبار كونه راكبا أو حافيا كما في إعتاق الرقبة يخرج عن العهدة بمطلق الرقبة لا بكونها كبيرة أو صغيرة أو كافرة أو مؤمنة. ألا ترى أنه لو وضع قدميه ولم يدخل لا يحنث في يمينه كذا في فتاوى قاضي خان1; لأنه لما صار مجازا
ـــــــ
1 هو الحسن بن منصور بن محمد بن عبدالعزيز الأوزجندي والفرغاني فخر الدين أبو المفاخر المعروف بقاضي خان توفي سنة 592 أنظر الفوئد البهية 64 – 65.

(2/75)


ولبياض النهار ودلالة تعين أحد الوجهين أن ينظر إلى ما دخل عليه فإن كان فعلا يمتد كان النهار أولى به; لأنه يصلح معيارا له وإذا كان لا يمتد كان الظرف أولى
ـــــــ
عن الدخول لا يعتبر حقيقته بعد قوله: "بإطلاق المجاز وعمومه بمنزلة الترادف" وإنما جمع الشيخ بينهما; لأن القاضي الإمام ذكر لفظة الإطلاق فقال يحنث بمطلق الدخول الذي هو مجازه وذكر غيره لفظة العموم فقال يحنث بعموم المجاز فجمع الشيخ بينهما. والمطلق يشابه العام من حيث الشيوع حتى ظن أنه عام.
قوله: "وكذلك اليوم" إلى آخره. اعلم أن لفظ اليوم يطلق على بياض النهار بطريق الحقيقة اتفاقا وعلى مطلق الوقت بطريق الحقيقة عند البعض فيصير مشتركا وبطريق المجاز عند الأكثر وهو الصحيح; لأن حمل الكلام على المجاز أولى من حمله على الاشتراك; لأن المجاز في الكلام أكثر فيحمل على الأغلب. ولأنه لا يؤدي إلى إبهام المراد; لأن اللفظ إن خلا عن قرينة فالحقيقة متعينة وإن لم يخل عنها فالذي يدل عليه القرينة وهو المجاز متعين بخلاف الاشتراك فإنه يؤدي إلى الاختلال في الكلام بعدم إفهام المراد. ثم لا شك في أنه ظرف على كلا التقديرين عند الفريقين فيرجح أحد محتمليه بمظروفه فإن كان مظروفه مما يمتد وهو ما يصح فيه ضرب المدة أي يصح تقديره بمدة كاللبس والركوب والمساكنة ونحوها فإنه يصح أن يقدر بزمان يقال لبست هذا الثوب يوما وركبت هذه الدابة يوما وساكنته في دار واحدة شهرا يحمل على بياض النهار; لأنه يصح مقدارا له فكان الحمل عليه.
وإن كان مظروفه مما لا يمتد كالخروج والدخول والقدوم إذ لا يصح تقدير هذه الأفعال بزمان يحمل على مطلق الوقت اعتبارا للتناسب. ثم في قوله أنت حر أو عبدي حر يوم يقدم فلان أو أنت طالق أو امرأته طالق يوم يقدم فلان اليوم ظرف للتحرير أو الطلاق; لأنه انتصب به إذ التقدير حررتك أو طلقتك يوم كذا وإنهما مما لا يمتد فيحمل اليوم على مطلق الوقت فيحنث إذا قدم ليلا أو نهارا بإطلاق المجاز كما في المسألة الأولى. وفي قوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان أو اختاري نفسك يوم يقدم فلان التفويض والتخيير مما يمتد فيحمل اليوم على بياض النهار حتى لو قدم فلان ليلا لا يصير الأمر بيدها ولا يثبت لها الخيار.. واعلم أيضا أنه لا اعتبار لما أضيف إليه اليوم وهو القدوم في هذه المسائل مثلا في ترجيح أحد محتمليه به; لأن إضافة اليوم إليه لتعريفه وتمييزه من الأيام والأوقات المجهولة كقوله أنت طالق يوم الجمعة أو أنت حر يوم الخميس لا للظرفية, ولهذا لم يؤثر يقدم في انتصاب يوم باتفاق أهل اللغة إذ المضاف إليه لا يؤثر في المضاف بحال بل هو منصوب بمظروفه لما ذكرنا أن تقديره حررتك في يوم قدوم فلان أو فوضت أمرك إليك

(2/76)


وهو الوقت ثم العمل بعموم الوقت واجب فلذلك دخل الليل والنهار بخلاف قوله ليلة يقدم فلان فإنه لا يتناول النهار; لأنه اسم للسواد الخالص لا يحتمل
ـــــــ
في يوم قدومه فكان اعتباره بمظروفه الذي يؤثر فيه أولى من اعتباره بما لا أثر له فيه فعرفنا أنه لا اعتبار للمضاف إليه في ترجيح أحد محتمليه. والدليل عليه ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله في شرح كتاب الطلاق ولو قال امرأته طالق يوم أدخل دار فلان فدخلها ليلا أو نهارا طلقت; لأن اليوم إذا قرن بما لا يكون ممتدا كان بمعنى الوقت كالطلاق وإذا قرن بما يكون ممتدا كان بمعنى بياض النهار كقوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان. وذكر في باب الخيار منه وإن قال اختاري يوم يقدم فلان فقدم ليلا فلا خيار لها ولو قدم بالنهار فلها الخيار في ذلك اليوم إلى غروب الشمس; لأن الخيار مما يتوقف فذكر اليوم فيه للتوقيت فيتناول بياض النهار خاصة بخلاف قوله أنت طالق يوم يقدم فلان; لأن الطلاق لا يحتمل التوقيت فذكر اليوم فيه عبارة عن الوقت وهكذا ذكر في كتاب الصوم أيضا. وذكر في الهداية في فصل إضافة الطلاق إلى الزمان في قول الرجل لامرأة يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلا طلقت أن اليوم إذا قرن بفعل لا يمتد يحمل على مطلق الوقت والطلاق من هذا القبيل. ففي هذه المسائل اعتبر الطلاق والأمر باليد والخيار الذي هو مظروف دون القدوم الذي هو مضاف إليه فثبت أن المعتبر ما ذكرنا
"فإن قيل": قد ذكر الشيخ المصنف رحمه الله في شرح الجامع الصغير في هذه المسألة أن التزوج مما لا يمتد فحمل فيه على الوقت المظروف فاعتبر التزوج الذي هو مضاف إليه ولم يعتبر الطلاق الذي هو مظروف. وكذا اعتبر صاحب الهداية المضاف إليه دون المظروف في كتاب الأيمان في قوله يوم أكلم فلانا فامرأته طالق أنه يقع على الليل والنهار حيث قال; لأن الكلام مما لا يمتد ولم يقل لأن الطلاق مما لا يمتد وهذا ذكر في عامة شروح الجامع الصغير أيضا في هذه المسألة. وكذا عامة المشايخ رحمهم الله اعتبروا المضاف إليه في هذا الباب دون المظروف. وذلك; لأن في اعتبار المضاف إليه اعتبار المظروف أيضا; لأن الظرف إذا أضيف إلى فعل لا بد أن يكون ذلك الفعل مظروفا للمضاف ويكون المضاف ظرفا له لا محالة لوقوع ذلك الفعل فيه فيكون هذا أولى بالاعتبار مما ذكرت وفيه موافقة العامة واحتراز عن نسبتهم إلى الخطأ
"قلنا": بعد ما ظفر بحقيقة المعنى مؤكدة بما ذكرنا من الدليل والشواهد يعض عليها بالناجذ ولا يصار إلى التقليد الصرف ثم يحمل ما نقل عن بعض المشايخ على وجه صحيح وذلك أن الفعل المظروف والمضاف إليه إن كان كل واحد منهما ممتدا كقولك أمرك بيدك يوم يركب فلان أو يسافر فلان. أو غير ممتد كقوله أنت طالق يوم يقدم فلان

(2/77)


غيره مثل النهار اسم للبياض الخالص لا يحتمل غيره.وأما إضافة الدار فإنما يراد به نسبة السكنى إليه فيستعار الدار للسكنى فوجب العمل بعموم نسبة السكنى
ـــــــ
أنت حر يوم أدخل دار فلان لا يختلف الجواب إن اعتبر المظروف والمضاف إليه. وإن كان المظروف ممتدا والمضاف إليه غير ممتد كقوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان أو على العكس كقوله أنت حر يوم يركب فلان أو يسافر فلان فحينئذ يختلف الجواب باعتبار المظروف والمضاف إليه فاعتبار المظروف يقتضي حمل اليوم في المسألة الأولى على بياض النهار وفي الثانية على مطلق الوقت فلا يصير الأمر بيدها في الأولى إن قدم فلان ليلا ويعتق العبد في الثانية إن سافر ليلا أو نهارا واعتبار المضاف إليه يقتضي حمله في الأولى على مطلق الوقت والثانية على بياض النهار فيصير الأمر بيدها إن قدم فلان ليلا أو نهارا ولا يعتق العبد إن سافر أو ركب ليلا. فبعض المشايخ تسامحوا في العبارة فيما لا يختلف الجواب واعتبروا المضاف إليه نظرا إلى حصول المقصود وهو استقامة الجواب وبعضهم سلكوا طريقة التحقيق ولم يلتفتوا إلى المضاف إليه أصلا كما ذكرنا.
فأما فيما يختلف الجواب فيه بالاعتبارين فالكل سلكوا طريق التحقيق واعتبروا المظروف ولم يلتفتوا إلى المضاف إليه أصلا. ففي مسألة الأمر باليد التي هي مسألة الجامع الصغير اعتبر الكل الأمر باليد الذي هو مظروف دون القدوم الذي هو المضاف إليه وكذا في مسألة الخيار التي هي مسألة المبسوط. فأما قوله يوم أكلم فلانا فامرأته طالق فإن كان الكلام مما يمتد وهو الظاهر; لأنه يصح ضرب المدة فيه كاللبس والركوب فهو يؤيد ما ذكرنا ويكون من القسم الذي يختلف الجواب فيه بالاعتبارين فيعتبر المظروف الذي هو غير ممتد دون المضاف إليه الذي هو ممتد.
وإن كان غير ممتد كما قاله بعض المشايخ وتابعهم فيه صاحب الهداية مع أن دليل عدم امتداده غير متضح فهو من القسم الذي لا يختلف الجواب فيه بالاعتبارين فيندرج في الجواب الذي ذكرنا وأما قوله في اعتبار المضاف إليه اعتبار المظروف أيضا ففاسد; لأن المظروفية التي لزمت من الإضافة ليست بمقصودة في الكلام فلذا لا تؤثر في اللفظ أصلا ولو اعتبرت لا تكون مطردة فلا يصح اعتبارها فأما المظروفية التي هي مقصودة في الكلام فهي التي أثرت في اللفظ ولو اعتبرت يكون مطردة في جميع المسائل فيجب اعتبارها إذ ترك ما هو مقصود واعتبار ما ليس بمقصود قلب المعقول وخلاف الأصول
قال العبد الضعيف جامع هذه المتفرقات هذا ما يخيل لي من الوجه الصواب في هذه المسألة وتراءى لي أنه هو الحق ولعل نظر غيري أدق وما قاله أصوب وأحق وهو أعلم بالحقيقة والصواب.

(2/78)


وفي نسبة الملك نسبة السكنى موجودة لا محالة فيتناوله عموم المجاز.وأما مسألة السير ففيها رواية أخرى بعد ذلك الباب أنه لا يتناولهم ووجه الرواية
ـــــــ
قوله: "وأما إضافة الدار فإنما يراد به" أي بالمذكور أو بقوله دار فلان نسبة السكنى; لأن الدار لا تعادى ولا تهجر لذاتها عادة وإنما تهجر لبغض صاحبها فكان المقصود من هذه الإضافة نسبة السكنى لا إضافة الملك. فيستعار الدار للسكنى أي لموضع السكنى وصار كأنه قيل لا أدخل موضع سكنى فلان أو دارا مسكونة لفلان فيدخل في عمومه الملك والإجارة والعارية فيحنث في الدار المملوكة بعموم المجاز لا بالملك حتى لو كان الساكن فيها غير فلان لم يحنث وإن كانت مملوكة لفلان كذا ذكر شمس الأئمة في أصول الفقه. وذكر في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين والفتاوى الظهيرية ولو حلف لا يدخل دار فلان ولم ينو شيئا فدخل دارا يسكنها فلان بإجارة أو بإعارة يحنث في يمينه وإن دخل دارا مملوكة لفلان وفلان لا يسكنها يحنث أيضا. فعلى هذه الرواية لا يندفع السؤال لبقاء الجمع بين الحقيقة والمجاز إلا أن يجعل قوله دار فلان عبارة عما يضاف إليه مطلقا فيدخل في عمومه الدار المضافة إليه بالسكنى وبالملك جميعا كما أشير إليه في المبسوط فقيل إذا حلف لا يسكن دار فلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى حنث وإن سكن دارا له قد باعها بعد يمينه لم يحنث; لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد.
قوله: "وأما مسألة السير" الكبير إذا قال الكفار أمنونا على أبنائنا ولهم أبناء وأبناء أبناء فالأمان على الفريقين جميعا استحسانا وكان القياس أن يكون الأمان للأبناء خاصة; لأن الاسم حقيقة للأبناء مجاز في حق أبناء الأبناء فلا يجمع بينهما, ولهذا جعل أبو حنيفة رحمه الله الوصية للأبناء خاصة بهذا اللفظ. ولكنا استحسنا وقلنا المقصود من الأمان حقن الدم أي صيانته وحفظه يقال حقنت دمه أي منعته أن يسفك وهو مبني على التوسع; لأن الأصل في الدماء أن يكون محقونة لقوله عليه السلام.: "الآدمي بنيان الرب" . ولهذا لم يجز القتل قبل الدعوة وبعد قبول الجزية فيثبت بأدنى شبهة واسم الأبناء من حيث الظاهر يتناول الفروع فإنهم ينسبون إليه بالبنوة يقال بنو هاشم وبنو تميم وقال الله تعالى. {يَا بَنِي آدَمَ} "الأعراف "26". إلا أن الحقيقة تقدمت على المجاز في الإرادة فبقي مجرد صورة الاسم شبهة فيثبت الأمان به; لأن الشبهة كافية لحقن الدم كما يثبت الأمان بمجرد الإشارة إذا دعا بها الكافر إلى نفسه بأن أشار أن انزل إن كنت رجلا أو إن كنت تريد القتال أو تعال حتى تبصر ما أفعل بك فظنه الكافر أمانا لصورة المسالمة وإن لم يكن ذلك

(2/79)


الأولى أن الأمان لحقن الدم فبني على الشبهات وهذا الاسم بظاهره يتناولهم لكن بطل العمل به لتقدم الحقيقة عليه فبقي ظاهر الاسم شبهة.
ـــــــ
حقيقة. والدليل عليه حديث عمر رضي الله عنه. "أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو أن تعال فإنك إن جئت قتلتك فأتاه فهو آمن" يعني إذا لم يفهم قوله إن جئت قتلتك أو لم يسمع.
وما روي أن الهرمزان لما أتى به إلى عمر رضي الله عنه قال له تكلم فقال أتكلم كلام حي أم ميت فقال عمر كلام حي فقال كنا نحن وأنتم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لكم دين لكنا نعدكم معشر العرب بمنزلة الكلاب فإذا عزكم الله بالدين وبعث رسوله فيكم لم نطقكم فقال عمر رضي الله عنه أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا اقتلوه فقال أفيما علمكم نبيكم أن تؤمنوا أسيرا ثم تقتلوه فقال متى أمنتك فقال قلت لي تكلم كلام حي والخائف على نفسه لا يكون حيا فقال عمر رضي الله عنه قاتله الله أخذ الأمان ولم أفطن به فثبت أن مبنى الأمان على التوسع. وهذا بخلاف الوصية; لأنها لا يستحق بالصورة والشبهة. ولأن في إثبات المزاحمة في الوصية بين الحقيقة والمجاز إدخال النقص في نصيب الأبناء وليس ذلك في الأمان. ولأن طلب الأمان بهذه اللفظة لإظهار الشفقة على من ينسب إليه بالبنوة وربما يكون ذلك أظهر منه في حق الأبناء على ما قيل: النافلة أحب إلى المرء من الولد
"فإن قيل": فهلا اعتبرتم هذه الشبهة في إثبات الأمان للأجداد والجدات في الاستيمان على الآباء والأمهات فإنهم إذا قالوا أمنونا على آبائنا وأمهاتنا لا يدخل فيه الأجداد أو الجدات بحال مع أن الاسم يتناولهم صورة
"قلنا": لأن الحقيقة إذا صارت مرادة فاعتبار الصورة لثبوت الحكم في محل آخر يكون بطريق التبعية لا محالة وبنو البنين يليق صفة التبعية بحالهم فأما الأجداد والجدات فلا يكون اتباعا للآباء والأمهات وهم الأصول فلهذا ترك اعتبار الصورة هناك في إثبات الأمان لهم كذا أجاب شمس الأئمة في أصول الفقه. ولا يقال الجد أصل الأب خلقة ولكن تبع له في إطلاق اسم الأب عليه; لأن إطلاق هذا الاسم بطريق الاستعارة عن الأب كإطلاق اسم الابن على ابن الابن فيليق إثبات الأمان في حقهم بطريق التبعية أيضا ألا ترى أن استحقاق الميراث للجد وانتقال نصيب الأب إليه عند عدمه بهذا الطريق ولا يمنع عنه كونه أصلا للأب خلقة فلأن يثبت له الأمان الذي يثبت بأدنى شبهة ولا يمنع عنه كونه أصلا خلقة كان أولى. لأنا نقول إثبات الأمان بظاهر الاسم بعد إرادة الحقيقة منه إثبات له بدليل ضعيف فيعمل به إذا لم يمنع منه معارض كما في جانب الأبناء فإن ابن الابن تبع

(2/80)


فإن قيل قد قال أبو يوسف ومحمد فيمن حلف لا يأكل من هذه الحنطة أنه يحنث إن أكل من عينها أو ما يتخذ منها وفيه جمع بينهما وكذلك قال
ـــــــ
للابن من كل وجه فأما إذا وجد معارض فلا كما في جانب الآباء فإن جهة كون الجد تبعا في الاسم إن كانت توجب ثبوت الحكم في حقه فجهة كونه أصلا من حيث الخلفة مانعة عنه فيسقط العمل به عند وجود المعارض; لأنه ضعيف في نفسه فأما باب الميراث فمبني على القرب ولا شك أن الأب أقرب إلى الميت من جده فلا جرم يستحق الميراث بعد الأب. وذكر شمس الأئمة في شرح السير الكبير أن الأجداد والجدات أصول للآباء والأمهات وأنهم مختصون باسم فلا يتناولهم اسم الآباء والأمهات على وجه الاتباع لفروعهم كما لا يتناول العم مع أنه سمي أبا في قوله تعالى. {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} "البقرة:133" وإسماعيل كان عما ليعقوب عليهم السلام وكما يتناول الخالة مع أنها سميت أما في قوله تعالى. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} "يوسف:100". أي أباه وخالته وفي قوله عليه السلام: "الخالة أم1" . حتى لم يقل أحد إنهما يدخلان في الأمان للآباء والأمهات لما ذكرنا أنهما ليسا من الأتباع وإن كل واحد منهما تختص باسم آخر به ينسب إليه فكذلك الجد والجدة. ولهذا لو لم يكن لهم آباء وأمهات ولهم أجداد وجدات لا يدخلون أيضا بخلاف بني الأبناء فإنهم تفرعوا من الأبناء فكانوا تبعا لهم وإنهم ينسبون إليه باسم البنوة ولكن بواسطة الابن فكان الأمان بهذا الاسم متناولا لهم. وهذا بيان لسان العرب فإن كان قوم في لسانهم الذي يتكلمون به أن الجد أب كما أن ابن الابن ابن فهو داخل في الأمان وهكذا في لسان الفارسية فإنه يقال للجد بدر بدر كما يقال لابن الابن بسر بسر. هذا حاصل ما ذكر شمس الأئمة في شرح السير الكبير وقال هذا الفصل مشكل
"فإن قيل": إذا اشترى المكاتب أباه يصير مكاتبا عليه تبعا فليثبت الأمان ههنا أيضا لشبهة الاسم تبعا وفيه حقن الدم.
"قلنا": لو لم يحكم هناك بكتابته تبعا يلزم أن يكون الأب مملوكا لابنه وهو شنيع جدا أو لا طريق له إلى الاستخلاص عن ذلك فأما ههنا فقد أمكنه إحراز نفسه وماله بالاستيمان أو بالإسلام فلا حاجة إلى ارتكاب جعل المتبوع تبعا. ولأن الكتابة من شعب الحر لثبوت حرية اليد فيها وإفضائها إلى حرية الرقبة فكما تثبت له الحرية إذا اشتراه ابنه
ـــــــ
1 أخرجه مسلم حديث برقم 1783 وأبو داود في الطلاق حديث رقم 2278 والترمذي في البر والصلة حديث رقم 1904.

(2/81)


-------------------------------------------------
ـــــــ
الحر فكذلك نثبت له صفة الكتابة إذا اشتراه ابنه المكاتب إثباتا للحكم بقدر دليله. والأوجه أن يقال ليس ما ذكرتم من قبيل ما نحن فيه; لأن كلامنا في أن لفظ الأب هل يتناول الجد ظاهرا ليثبت له الأمان ابتداء بصورة هذا الاسم لا أن يثبت له الأمان من جهة الابن بطريق السراية. والكتابة والحرية يثبتان له من جهة الابن بأمر حكمي لا باعتبار لفظ يدل عليهما فلم يكن من قبيل ما نحن فيه. وهذا الاسم أي اسم الأبناء يتناولهم يعني بني الأبناء. لكن بطل العمل به أي بذلك التناول يعني امتنع التناول لتقدم الحقيقة.
قوله: "فإن قيل" هذه ثلاث مسائل أخرى ترد نقضا على الأصل المذكور أيضا وإنما أفردها عن المسائل المتقدمة لكونها مختلفة بين أصحابنا بخلاف المسائل المتقدمة. ثم من الناس من زعم أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز عندهما واستدلوا بهاتين المسألتين المذكورتين أولا وأبى القاضي الإمام وشمس الأئمة والشيخ المصنف وأخوه صدر الإسلام ذلك. قال صدر الإسلام إنهما أجل قدرا من أن يشتبه عليهما هذا. أما بيان المسألة الأولى فنقول إذا حلف لا يأكل من هذه الحنطة فإن أراد أن لا يأكلها حبا كما هي فيمينه على ما نوى حتى لو أكل من خبزها أو سويقها لا يحنث بالإجماع أما عند أبي حنيفة فظاهر وكذا عندهما; لأنه إذا نوى العين فقد نوى الحقيقة فيصح نيته كما لو حلف لا يأكل من هذا الدقيق ونوى أكل عينه صحت نيته عندهم وإن كانت يمينه بغير نية منصرفة إلى الخبز. وإن نوى أن لا يأكل ما يتخذ منها صحت نيته أيضا حتى لا يحنث بأكل عينها; لأنه نوى محتمل كلامه. وإن لم يكن له نية فعلى قوله تقع على العين لا غير حتى لا يحنث بالخبز وعلى قولهما يحنث بالخبز رواية واحدة وهل يحنث بأكل عين الحنطة. أشار محمد في الأيمان إلى أنه لا يحنث فإنه قال يمينه على ما يصنع منها وهذا إشارة إلى أنه لو أكل عينها لا يحنث. وذكر في الجامع الصغير وقال أبو يوسف ومحمد يحنث إن أكلها خبزا أيضا وهذا يدل على أنه يحنث بتناول عين الحنطة عندهما وإنما يرد السؤال على هذا الوجه; لأن أكل العين حقيقة هذا الكلام وأكل الخبز مجازه فيحصل الجمع بين الحقيقة والمجاز. وهذا الوجه الصحيح عند الشيخ وشمس الأئمة والقاضي الإمام فخر الدين وعامة المشايخ. وذكر الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده أن الصحيح رواية كتاب الأيمان; لأن اسم الحنطة للعين حقيقة وللخبز مجاز أنهما لا يجتمعان في لفظ واحد ألا ترى أنه لو نوى أكل العين لا يحنث بالخبز والسويق لما قلنا فكذا إذا لم ينو وانصرفت يمينه إلى الخبز لا يبقى الحقيقة مرادة. وما ذكر في الجامع مؤول فمعنى قوله وإن قضمها حنث أي إذا نوى العين وإن أكل من خبزها يحنث أيضا على قولهما إذا لم يكن له نية.

(2/82)


فيمن حلف لا يشرب من الفرات أنه يحنث إن كرع واغترف وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيمن قال لله علي أن أصوم رجب أنه إن نوى اليمين كان نذرا ويمينا وهو جمع بينهما قيل له أما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فقد
ـــــــ
وأما المسألة الثانية فهي ما إذا حلف لا يشرب من الفرات فاليمين يقع على الكرع الذي هو حقيقة كلامه عند أبي حنيفة رحمه الله وذلك بأن يضع فاه عليه ويشرب منه بغير واسطة ولو نوى الاغتراف لا يصدق قضاء عنده; لأنه نوى المجاز وفيه تخفيف من وجه كذا ذكر القاضي الإمام المعروف بخان. وعندهما لو اغترف منه بيده أو إناء فشرب يحنث. ولو شرب كرعا قيل لا يحنث على قولهما إذا لم ينو ذلك كي لا يصير جامعا بين الحقيقة والمجاز وقيل يحنث وهو الصحيح ويلزم منه الجمع بين الحقيقة والمجاز. وأما المسألة الثالثة فمسألة النذر وهي قوله لله علي أن أصوم رجب وهذه المسألة على ستة أوجه. إن لم ينو شيئا.
أو نوى النذر ولم يخطر بباله اليمين.
أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا بالاتفاق.
ولو نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا بالاتفاق.
ولو نواهما أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر كان نذرا في الأول ويمينا في الثاني عند أبي يوسف وكان نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهم الله حتى يلزمه القضاء والكفارة جميعا بالفوات في الوجهين وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز; لأن النذر مع اليمين مختلفان بلا شبهة; لأن موجب النذر الوفاء بالملتزم والقضاء عند الفوت لا الكفارة وموجب المحافظة على البر والكفارة عند الفوت لا القضاء واختلاف أحكامهما يدل على اختلاف ذاتيهما. ثم هذا الكلام للنذر حقيقة لعدم توقف ثبوته به على قرينة كما إذا لم ينو شيئا ولليمين مجاز لتوقف ثبوتها به على قرينة وهي النية والتوقف على القرينة من أمارات المجاز وإذا ثبت هذا لا يجوز الجمع بينهما لما مر من الدلائل فيترجح الحقيقة على المجاز في الوجه الأول وتسقط الحقيقة بتعين المجاز مرادا في الوجه الثاني. ورجب منصرف إذ ليس فيه إلا العلمية وفي الحديث: "إن رجبا شهر عظيم" . إلا أن الشيخ جعله ههنا غير منصرف; لأن المراد منه في هذه اليمين هو الرجب الذي يتعقب اليمين لا رجب منهم فكان معدولا عن الرجب المعروف بالأم فلا ينصرف لاجتماع العدل والعلمية كما في سحر إذا أردت سحر يومك على ما عرف.

(2/83)


عملا بإطلاق المجاز وعمومه; لأن الحنطة في العادة اسم لما في باطنها ومن أكلها أو ما يتخذ منها فقد أكل ما فيها والشرب من الفرات مجاز للشرب من الماء الذي يجاور الفرات وينسب إليه وهذه النسبة لا تنقطع بالأواني لما ذكرنا
ـــــــ
قوله: "أما أبو يوسف ومحمد فقد عملا بإطلاق المجاز وعمومه" إذا كان للفظ حقيقة مستعملة ومجاز متعارف فالعمل بالمجاز أولى عندهما وستعرف السر فيه. ثم للمجاز ههنا وجهان. أحدهما أن يجعل أكل الحنطة عبارة عن أكل ما يتخذ منها; لأن الحنطة إذا ذكرت مقرونة بالأكل يراد بها في عرف الاستعمال ما يتخذ منها من الخبز ونحوه يقال أكلنا أجود حنطة في أرض كذا أي أجود خبز ويقال فلان يأكل الحنطة أي خبز الحنطة وما يتخذ منها ومطلق الاسم منصرف إلى المتعارف وإن كانت الحقيقة ممكن العمل بها كما في وضع القدم فصار كأنه قال لا آكل ما يتخذ منها فيحنث بأكل الخبز ونحوه ولا يحنث بأكل العين.
والثاني وهو المذكور في الكتاب أن يجعل أكل الحنطة عبارة عن أكل ما فيها بعرف الاستعمال يقال أهل بلد كذا يأكلون الحنطة ويراد ما فيها من الأجزاء أي طعامهم من أجزاء الحنطة لا من أجزاء الشعير وإذا صار عبارة عن أكل ما فيها يحنث بأكل العين كما يحنث بأكل الخبز لدخوله تحت عموم المجاز لا باعتبار الحقيقة كما في مسألة وضع القدم.
ولا يقال فعلى ما ذكرتم يلزم أن يحنث بأكل السويق عندهما لوجود أكل ما في باطنها. لأنا نقول السويق جنس آخر غير جنس الدقيق عند هما, ولهذا جوزا بيع الدقيق بالسويق متفاضلا فلا يكون ما أكل من جنس ما كان موجودا في الحنطة فلا يحنث كذا ذكر شمس الأئمة. وذكر الإمام خواهر زاده رحمه الله أن على قول محمد يحنث.
قوله: "والشرب من الفرات" تكلموا في كيفية المجاز هنا قال بعض مشايخنا بجعل قوله من الفرات مجازا لشرب ماء الفرات; لأن الشرب لا يتحقق في نفس الفرات فلا بد من أن يضمر فيه ماء الفرات. ولكن هذا ليس بصواب بدليل أنه لو شرب من نهر آخر يأخذ من الفرات لا يحنث ولو صار مجازا لشرب ماء الفرات ينبغي أن يحنث كما لو نص عليه بأن قال لا أشرب من ماء الفرات. بل الصحيح أن يجعل مجازا لشرب ماء منسوب إلى الفرات مجاور له بعرف الاستعمال فإنه يقال بنو فلان يشربون من الوادي ومن الفرات وإنما يراد به ما قلنا والأخذ بالأواني لا يقطع هذه النسبة فيحنث بالكرع والاغتراف جميعا لعموم المجاز لا باعتبار الحقيقة. فإن نوى في قوله لا أشرب من الفرات ماء الفرات يصح نيته عند البعض حتى لو شرب من نهر يأخذ من الفرات يحنث; لأنه نوى ما يحتمله لفظه

(2/84)


في الجامع فصار ذلك عملا بعمومه لا جمعا بين الحقيقة والمجاز وأما مسألة النذر فليس بجمع بل هو نذر بصيغته ويمين بموجبه وهو الإيجاب; لأن إيجاب
ـــــــ
لأن الشرب لا يتحقق بدون الماء. وعند العامة لا يصح; لأن الماء غير مذكور نصا وإنما يصير مذكورا مقتضى الشرب والمقتضى لا عموم له فلا يصح نية التعميم فيه كما لا يصح نية الثلاث في قوله أنت طالق كذا في الجامع البرهاني.
قوله: "فأما مسألة النذر فليس بجمع" يعني ليس ما ذكر في تلك المسألة من ثبوت حكم النذر واليمين بجمع الحقيقة والمجاز باعتبار الصيغة وهو أن يكون صيغته دالة على النذر بطريق الحقيقة وتكون دالة على اليمين أيضا بطريق المجاز بل هو نذر بصيغته لا غير ولكنه يمين باعتبار موجبه أي حكمه وهو أن موجب النذر لزوم المنذور لا محالة, ولا بد من أن يكون المنذور قبل النذر مباح الترك ليصح التزامه بالنذر; لأن النذر بما هو واجب في نفسه لا يصح على ما عرف فإذا لزم المنذور بالنذر صار تركه الذي كان مباحا حراما به وصار النذر تحريم المباح بواسطة حكمه وهو لزوم المنذور, وتحريم المباح يمين عندنا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "حرم مارية أو العسل1" على نفسه فسمى الله تعالى ذلك التحريم يمينا وأوجب فيه الكفارة حيث قال. {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} "التحريم:1". إلى أن قال. {قدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} "التحريم:2". أي شرع لكم تحليلها بالكفارة حتى روي عن مقاتل:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية" وهو مذهب أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد وطاوس والحسن والثوري وأهل الكوفة فكان النذر بواسطة موجبه يمينا لا بصيغته بل هو بصيغته نذر لا غير, ومثل هذا ليس بممتنع كشراء القريب سمي إعتاقا في الشرع ويستحيل أن يكون إثبات الملك إزالته لكنه بصيغته إثبات الملك والملك في القريب يوجب العتق بقوله عليه السلام.: "من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" . فكان الشراء إعتاقا بواسطة حكمه وهو ثبوت الملك لا بصيغته. وكالهبة بشرط العوض هبة باعتبار الصيغة بيع باعتبار المعنى فكذا هذا.
"فإن قيل": لو كان النذر يمينا باعتبار موجبه ينبغي أن لا يحتاج في ثبوتها إلى نية كالعتق في شراء القريب وإليه ذهب سفيان الثوري حيث قال لو قال لله علي أن أصوم غدا فمرض في الغد فأفطر أو كان الحالف امرأة فحاضت كان عليهما القضاء والكفارة
"قلنا": باستعمال هذه الصيغة في محل آخر خرجت اليمين من أن يكون مراده بها فصارت كالحقيقة المهجورة فلا يثبت من غير نية كذا قيل. والجواب الصحيح أن التحريم
ـــــــ
1 أخرج حديث تحريمه صلي الله عليه وسلم العسل علي نفسه البخاري وابن سعد وعبدبن حميد

(2/85)


المباح يصلح يمينا بمنزلة تحريم المباح وصار ذلك كشري القريب تملك بصيغته وتحرير بموجبه فهذه مثله.
ـــــــ
يثبت بموجب النذر ولا يتوقف على النية; لأن تحريم ترك المنذور به ثابت نواه أو لم ينوه إلا أن كونه يمينا يتوقف على القصد فإن النص جعله يمينا عند القصد ولم يرد الشرع بكونه يمينا عند عدم القصد وثبوته ضما فإذا نوى اليمين فحينئذ يصير التحريم الثابت به يمينا لوجود شرطه لكن بموجب النذر لا بطريق المجاز. وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب الصوم أنه اجتمع في كلامه كلمتان. أحدهما يمين وهو قوله لله فإنه عند إرادة اليمين كقوله بالله قال ابن عباس دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج وهذا; لأن الباء واللام يتعاقبان قال الله تعالى خبرا عن فرعون {آمَنْتُمْ لَهُ} "طه:71"وفي موضع آخر {آمَنْتُمْ بِهِ} "الأعراف:123". الأخرى نذر وهي قوله علي إلا أن عند الإطلاق غلب معنى النذر باعتبار العادة فحمل عليه فإذا نواهما فقد نوى بكل لفظ ما هو من محتملاته فتعمل نيته ولا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة بل في كلمتين وذلك غير مستبعد. فعلى هذا يكون قوله علي أن أصوم إيجابا في نفسه وجواب القسم أيضا إن جاز ذلك كلأكرمنك في قولك والله إن أكرمتني لأكرمنك جواب القسم والشرط جميعا وذلك; لأنه لما أضاف إيجاب الصوم إلى المستقبل صار كأنه قال والله لأصومن كذا فيحتمل أن يصلح جوابا للقسم من حيث المعنى.
وذكر في بعض شروح هذا الكتاب أن معنى قوله نذر بصيغته يمين بموجبه أن الصوم قبل صدور هذه الصيغة كان غير واجب فبالنذر يصير واجبا وباليمين أيضا يصير واجبا فهو يريد أن يثبت الوجوب لغيره كما يثبت لعينه وإرادة اليمين صحيحة بالإجماع من صيغة النذر بدليل أنه إذا نوى اليمين يكون يمينا فعلم أن إرادة الوجوب من هذه الصيغة صحيحة فإذا نوى اليمين حصل ههنا دليلان أحدهما يدل على الوجوب لعينه وهو الصيغة والآخر يدل على الوجوب لغيره فيعمل بهما إذ لا تنافي بينهما; لأن الواجب لعينه يجوز أن يكون واجبا لغيره كما لو حلف ليصلين ظهر هذا اليوم يصير واجبا لغيره بعد أن كان واجبا لعينه حتى لو فات وجب عليه القضاء والكفارة فكذا هذا.
ولا يقال موجب هذا الكلام الوجوب لا الإيجاب وقد سماه في الكتاب إيجابا.; لأنا نقول إنما سماه إيجابا مجازا; لأن الوجوب لا يكون إلا بالإيجاب من الشرع فيثبت الإيجاب به اقتضاء فسمي الوجوب إيجابا بواسطة أنه مقتضاه. والأوجه أن يقال المراد من الموجب المعنى أي هو يمين بمعناه وهو الإيجاب على ما حققناه. ويؤيده ما ذكر في بعض الجوامع: فإذا نوى اليمين فقد نوى ما هو معنى النذر.

(2/86)


وطريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين الشيئين وذلك بطريقين لا
ـــــــ
قوله: "وطريق الاستعارة" كذا اعلم أن الاستعارة في اصطلاح علماء المعاني والبيان عبارة عن نوع من المجاز وهي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به كما تقول في الحمام أسد وأنت تريد الشجاع مدعيا أنه من جنس الأسود فيثبت للشجاع ما يخص المشبه به وهو اسم جنسه مع سد طريق التشبيه بأفراده في الذكر. وإنما سموا هذا النوع من المجاز استعارة للتناسب بينه وبين معنى الاستعارة, وذلك لأن المتكلم متى ادعى في المشبه كونه داخلا في حقيقة المشبه به فردا من أفرادها برز فيما صادف من جانب المشبه به في معرض نفس المشبه به نظرا إلى ظاهر الحال من الدعوى بروز المستعير مع الثوب المستعار في معرض المستعار منه من غير تفاوت إلا أن أحدهما إذا فتش مالك والآخر ليس كذلك فالشجاع حال دعوى كونه فردا من أفراد حقيقة الأسد يكتسي اسم الأسد اكتساء الهيكل المخصوص إياه نظرا إلى الدعوى. وذكر في نهاية الإيجاز أن المجاز أعم من الاستعارة; لأنها عبارة عن نقل الاسم عن أصله إلى غيره للتشبيه بينهما على حد المبالغة وليس كل مجاز للتشبيه. وأيضا ليس كل مجاز من باب البديع وكل استعارة فهي من البديع فلا يكون كل مجاز استعارة.. وأيضا فإن العارية أن يعطي المعير للمستعير ما عنده فإذا قلت رأيت أسدا فقد أثبت الأسدية للرجل فقد حصل للمستعير ما كان حاصلا للمعير فظهر وجوب تخصيص اسم الاستعارة بما كان النقل لأجل التشبيه على حد المبالغة ولكنها في اصطلاح الفقهاء عبارة عن مطلق المجاز يعني المرادف له كأنهم أرادوا بهذه التسمية إياه أن اللفظ استعير عن محل الحقيقة للمعنى المجازي لعلاقة بينهما استعارة الثوب. وعن هذا قيل لا بد في الاستعارة من المستعار عنه وهو الهيكل المخصوص مثلا. والمستعار له وهو الشجاع. والمستعير وهو المتكلم. والمستعار وهو اللفظ. والاستعارة وهي التلفظ. وما تقع به الاستعارة وهو الاتصال بين المحلين كما لا بد في استعارة الثوب من المستعار عنه وهو المالك. والمستعار له وهو الشخص الذي يريد لبس الثوب. والمستعير وهو الذي يلتمس الثوب. والمستعار وهو الثوب. والاستعارة وهي الالتماس. وما يقع به الاستعارة وهو الصداقة بين الشخصين. وإذا عرفت أنه لا بد من أن يكون بين محل الحقيقة والمجاز تعلق خاص يكون ذلك باعثا على استعمال للفظ في محل المجاز إذ لو لم يكن بينهما تعلق في نفس الأمر أو كان ولكن لم يعتبره المستعمل كان ذلك الاستعمال منه ابتداء وضع آخر وكان ذلك اللفظ مشتركا لا مجازا. فاعلم أن العلماء وإن حصروه بناء على الاستقراء في خمسة وعشرين نوعا.

(2/87)


ثالث لهما الاتصال بينهما صورة أو معنى لأن كل موجود من الصور له
ـــــــ
1 - إطلاق اسم السبب على المسبب كقوله عليه السلام.: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" . أي صلوها فإن العرب لما رأت بعض الأشياء يتصل بالنداوة استعارت عنه البل لمعنى الوصل.
2 - وعكسه كقول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
سمي الخمر إثما لكونها مسببا لها.
3 - وإطلاق اسم الكل على البعض كقوله تعالى. {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} "البقرة:19". أي أناملهم
4 - وعكسه كقوله عز اسمه. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} "القصص:88". أي ذاته.
5 - وإطلاق اسم الملزوم على اللازم كقوله تعالى. {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} "الروم:35". سميت الدلالة كلاما; لأنها من لوازمه. ومنه قيل كل صامت ناطق أي أثر الحدوث فيه يدل على محدثه فكأنه ينطق.
6 - وعكسه كقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو بانت بإظهار
أريد بشد المئزر الاعتزال عن النساء; لأن شد الإزار من لوازم الاعتزال.
7 - وإطلاق أحد المتشابهين على الآخر كإطلاق اسم الإنسان على الصورة المنقوشة لتشابههما شكلا وإطلاق اسم الأسد على الشجاع لتشابههما في الشجاعة التي هي من الصفات الظاهرة للأسد.
8 - وإطلاق اسم المطلق على المقيد كقول الشاعر:
فيا ليتنا نحيا جميعا وليتنا ... إذا نحن متنا ضمنا كفنان
ويا ليت كل اثنين بينهما هوى ... من الناس قبل اليوم يلتقيان
أو قبل يوم القيامة.
9 - وعكسه قال شريح أصبحت ونصف الخلق علي غضبان يريد أن الناس بين محكوم عليه ومحكوم له لا نصف الناس على سبيل التعديل والتسوية. ومنه قول الشاعر:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أفعل

(2/88)


صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث أما المعنى فمثل قولهم للبليد حمار وللشجاع أسد لاتصال ومشابهة في المعنى بينهما وأما الصورة فمثل تسمية المطر سماء قالوا مازلنا نطأ السماء حتى أتيناكم
ـــــــ
10 - وإطلاق اسم الخاص على العام كقوله تعالى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} النساء:69". أي رفقاء. 11 - وعكسه كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} "الأعراف:143" لم يرد الكل; لأن الأنبياء كانوا قبله مؤمنين.
12 - وحذف المضاف سواء أقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى إخبارا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف:82". أو لا كقول أبي داود1:
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
ويسمى هذا مجازا بالنقصان.
13 - وعكسه كقول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
أي أنا ابن رجل جلا أي أوضح أمره.
14 - وتسمية الشيء باسم ما له به تعلق المجاورة كتسميتهم قضاء الحاجة بالغائط الذي هو المكان المطمئن من الأرض.
16 - وتسمية الشيء باسم ما يئول إليه كتسمية العنب بالخمر. وتسميته باسم ما كان كتسمية الإنسان بعد الفراغ من الضرب ضاربا.
17 - وإطلاق اسم المحل على الحال كقوله عليه السلام: "لا يفضض الله فاك" أي أسنانك.
18 - وعكسه كقوله جل جلاله. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "آل عمران:107". أي في الجنة; لأنها محل نزول الرحمة.
19 - وإطلاق اسم آلة الشيء عليه كقوله عز قائلا حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
ـــــــ
1 هو أبو داؤد جويرية بن الحجاج الأيادي كان معاصرا للمنذر بن ماء السماء وهو مشهور بوصف الخيل أنظر بروكلمان 1/118-120.

(2/89)


المطر لاتصال بينهما صورة; لأن كل عال عند العرب سماء والمطر من السحاب
ـــــــ
{اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} "الشعراء:84". أي ذكرا حسنا, أطلق اسم اللسان وأراد به الذكر إذ اللسان آلته.
20 - وإطلاق اسم الشيء على بدله كقولهم فلان أكل الدم إذا أكل الدية. ومنه قول الشاعر:
يأكلن كل ليلة إكافا
أي ثمن أكاف.
21 - وإطلاق النكرة في موضع الإثبات للعموم قال تعالى. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} "التكوير:14". أي كل نفس. ومنه دع امرأ وما اختاره أي اترك كل امرئ واختياره.
22 - وإطلاق المعرف باللام وإرادة واحد منكر كقوله تعالى. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} "البقرة:58". أي بابا من أبوابها كذا نقل عن أئمة التفسير.
23 - وإطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "الشوري:40". فإنها من المبتدئ سيئة ومن الله حسنة. ومنه ما يقال قاتله الله ما أحسن ما قال يريدون به الدعاء له وإن كان هو الدعاء عليه.
24 - والحذف كقوله تعالى. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} "النساء:176". أي لئلا تضلوا.
25 - والزيادة كقوله تعالى. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "الشوري:11". ولكن ما حصره الشيخ في قوله وذلك أي الاتصال الذي يقع به الاستعارة بطريقين لا ثالث لهما أضبط مما ذكروه إذ لا يكاد يشذ عنه شيء مما ذكروه ولا يخفى عليك تداخل بعضها في بعض.
قوله: "كل موجود من الصور" أي من المحسوسات التي يجري في أسمائها المجاز. ولفظ شمس الأئمة فإن كل موجود مصور يكون له صورة ومعنى ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم أي كنا في طين وردغة بسبب المطر إلى أن وصلنا إليكم وقال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا

(2/90)


ينزل وهو سماء عندهم فسمي باسمه وقول الله عز وجل {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} "النساء:43" وهو المطمئن من الأرض يسمى الحدث بالغائط لمجاورته صورة في العادة وقال تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف:43"أي عنبا لاتصال بينهما ذاتا; لأن العنب مركب بثفله ومائه وقشره.فسلكنا في الأسباب الشرعية والعلل هذين الطريقين في الاستعارة
ـــــــ
أي إذا نزل المطر بأرض قوم ونبت الكلأ رعيناه وإن كان ذلك القوم كارهين غضابا ولم نلتفت إلى غضبهم. "لاتصال بينهما" أي بين السحاب والمطر صورة; لأن السماء اسم لكل ما علاك فأظلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء وقال تعالى. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} "الحج:15" والمطر ينزل من السحاب وهو سماء عندهم فكان بين المطر والسحاب الذي هو السماء اتصال فسمي المطر باسمه وهو السماء. "سمى به الغائط" أي سمي الحدث باسم المكان المطمئن وهو الغائط. "لمجاورته" أي لمجاورة الحدث المكان المطمئن صورة في العادة; لأنه يكون في المطمئن من الأرض عادة وهو من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال كقوله تعالى. {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} "الأعراف:21". "لاتصال بينهما" أي بين العصير الذي يصير خمرا وبين العنب.; لأن العنب مركب بثفله هو ما سفل من كل شيء ويقال تركت بني فلان مثافلين أي يأكلون الثفل يعنون الحب وذلك إذا لم يكن لهم لبن وكان طعامهم الحب.
قوله: "فسلكنا في الأسباب الشرعية والعلل" والأحكام أيضا أي في المشروعات جمع هذين الطريقين وهما الاتصال صورة والاتصال معنى وجوزنا بهما الاستعارة فيها فالاستعارة الجارية بين السبب والمسبب والعلة والمعلول في الشرعيات بالمجاورة التي بينها نظير الاستعارة في المحسوسات فالاتصال الصوري وهو معنى قوله فصار الاتصال في السبب نظير الصور فيما يحس; لأنه لا مناسبة بين السبب والمسبب معنى إذ معنى السبب الإفضاء إلى الشيء ومعنى المسبب ليس كذلك وكذا معنى العلة الإيجاب والإثبات ومعنى المعلول ليس كذلك فلا يمكن إثبات المناسبة بينهما معنى بوجه فكان هذا الاتصال من قبيل اتصال المطر بالسحاب.
والاستعارة الجارية في المشروعات بالمعنى الذي شرعت له نظير الاستعارة في المحسوسات بالاتصال المعنوي. فنظير الأولى استعارة الشراء للملك ولفظ العتق لإزالة ملك المتعة فإنها جائزة للاتصال الصوري كما في المطر والسحاب لا بالمعنوي إذ ليس بين معنى الشراء ومعنى الملك مناسبة. وكذا بين معنى العتق ومعنى زوال ملك المتعة.

(2/91)


وهو الاستعارة بالاتصال في الصورة وهو السببية والتعليل; لأن المشروع ليس بصورة تحس فصار الاتصال في السبب نظير الصور فيما نحس والاتصال في معنى المشروع كيف شرع اتصال هو نظير القسم الآخر من المحسوس.ولا خلاف بين الفقهاء أن الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع يصلح طريقا
ـــــــ
ونظير الثانية استعارة الحوالة للوكالة فإن معنى الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة ومعنى الوكالة نقل ولاية التصرف فلذلك استعار محمد رحمه الله لفظ الحوالة للوكالة في الجامع الصغير فقال في المضارب ورب المال إذا افترقا وليس في المال ربح وبعض رأس المال دين لا يجبر المضارب على نقل الديون ويقال له أحل رب المال عليهم أي وكله بقبض الديون. وكذا الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة, والحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة لتشابههما في المعنى, ومثل الميراث والوصية بينهما اتصال معنوي من حيث إن كل واحد منهما يثبت الملك بطريق الخلافة بعد الفراغ عن حاجة الميت فيجوز استعارة أحدهما للآخر قال الله تعالى. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} "النساء:11". أي يورثكم.
قوله: "ولا خلاف بين الفقهاء" رد لقول من زعم أن المجاز لا يجزئ في الألفاظ الشرعية من البيع والهبة والنكاح والطلاق متمسكا بأن هذه الألفاظ إنشاءات في الشرع وأنها أفعال جارحة الكلام وهي اللسان ومخارج الحروف بمنزلة أفعال سائر الجوارح ومن فعل فعلا حقيقة وأراد أن يكون فاعلا فعلا آخر لا يكون كذلك فكذلك أفعال هذه الجارحة وإنما يدخل الاستعارة والمجاز في الألفاظ التي من باب الأخبار والأمر والنهي ونحوها. وعند العامة يجري الاستعارة في جميع الألفاظ الشرعية; لأن العرب لما وضعت طريق الاستعارة أو استعملت المجاز في كلامهم وعرف بالتأمل طريقة يكون إذنا منهم بالاستعارة لكل متكلم من جملتهم أو من غيرهم كصاحب الشرع متى وضع طريق التعليل كان إذنا بالقياس لكل من فهم ذلك الطريق. وقولهم إنها إنشاء أفعال والمجاز يجري في الأخبار قلنا المجاز لا يختص بالأخبار بل هو جار في سائر أقسام الكلام وهذه الألفاظ وإن جعلت إنشاءات شرعا لم يخرج من أن يكون كلاما والاستعارة جائزة في الكلام إذا وجد طريقها كما في الأمر والنهي فإذا أتى بكلام هو إنشاء لفعل وذلك الكلام شبيه كلام آخر هو إنشاء لفعل آخر من حيث المعنى الذي هو طريق الاستعارة فهو نظير الألفاظ اللغوية كذا في الميزان.
"إن الاتصال بين اللفظين" أي أن مدلوليهما من قبل حكم الشرع. وإنه ليس بحكم يختص باللغة أي طريق الاستعارة أو الاستعارة على تأويل المجاز. وذلك ثابت أي القرب

(2/92)


للاستعارة فإنه ليس بحكم يختص باللغة; لأن طريق الاستعارة القرب والاتصال وذلك ثابت بين كل موجودين من حيث وجدا والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له وسببه الذي تعلق به فصحت به الاستعارة.ولأن حكم الشرع متعلق بلفظ شرع سببا أو علة لا يثبت من حيث يعقل إلا واللفظ دال عليه لغة والكلام
ـــــــ
والاتصال يثبت ويتحقق "وبين كل موجودين" أي بين موجودين من حيث وجدا فإن كان وجودهما حسا يتحقق الاتصال بينهما ويعتبر باعتبار الوجود الحسي وإن كان وجودهما شرعا يتحقق الاتصال بينهما باعتبار ذلك الوجود. والمشروعات توجد شرعا وهي قائمة بمعناها متعلقة بأسبابها نحو الملك فإنه مشروع قائم بمعناه وهو كونه مطلقا وحاجزا وله سبب تعلق به وهو الشراء فيتحقق الاتصال بينها معنى وصورة كما في المحسوسات. فصحت به أي بذلك الاتصال الاستعارة.
وحاصله أن الاتصال الذي هو طريق الاستعارة يتحقق في المحسوس والمشروع جميعا صورة ومعنى فيجوز به الاستعارة في الكل لما مر أن جواز الاستعارة متوقف على معرفة الطريق وتحققه لا على التوقيف. والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له وبسببه الذي تعلق به كالنكاح يتعلق وجوده بكلام المتعاقدين الذي هو سببه وبمعناه الذي شرع لأجله وهو الانضمام والازدواج وكذا البيع والهبة وجميع المشروعات.
قوله: "ولأن حكم الشرع متعلقا بلفظ" بيانه أن تعلق حكم الشرع بما جعل سببا له على نوعين. تعلق يدرك بالعقل ونعني به أنه كان ثابتا قبل الشرع وقد كانت اللغة دالة عليه كتعلق الملك بالبيع والهبة وتعلق الحل بالنكاح وأشباه ذلك, ولهذا لا ينكر ثبوت الملك بالبيع والحل بالنكاح أحد من أهل الملل. وتعلق لا يدرك بالعقل بل لم يكن ثابتا قبل الشرع ولا دل عليه اللغة كتعلق وجوب الحد بالقذف وشرب الخمر, ولهذا ترى أهل الملل ينكرونه سوى أهل الإسلام, والاستعارة إنما تجري بين الشيئين إذا عقل بينهما اتصال وتعلق لا فيما لا يعقل فكانت جارية في القسم الأول لا في القسم الثاني وإذا كان كذلك كانت هذه استعارة في اللفظ اللغوي في التحقيق; لأن الشرع لم يغيره عن موضوعه بل قرره على ما كان فيصح كما في سائر الألفاظ اللغوية وكما قبل تقرير الشرع إياه قال شمس الأئمة رحمه الله إذا تأملت في أسباب المشروعات وجدتها علة على الحكم المطلوب بها باعتبار أصل اللغة فيما يكون معقول المعنى والكلام فيه ولا استعارة فيما لا يعقل ألا ترى أن البيع مشروع لإيجاب الملك وموضوع له أيضا في اللغة. وقوله: "متعلقا" حال عن المفعول معنى وهو الحكم إذ هو

(2/93)


فيما يعقل ولا استعارة فيما لا يعقل ألا ترى أن البيع لتمليك العين شرعا ولذلك وضع لغة فكذلك ما شاكله.وهذا في مسائل أصحابنا لا يحصى وقال الشافعي رحمه الله إن الطلاق يقع بلفظ التحرير مجازا والعتاق يقع بلفظ الطلاق مجازا ولم يمتنع أحد من أئمة السلف عن استعمال المجاز فقد انعقد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة. مجازا مستعارا لا أنه انعقد هبة; لأن تمليك المال في غير المال لا يتصور وقد كان في نكاحه وجوب العدل في القسم والطلاق والعدة ولم يتوقف الملك على القبض فثبت أنه كان مستعارا ولا اختصاص
ـــــــ
مضاف إلى الفاعل "وسببا" مفعول ثان لشرع "ولا يثبت" خبران "وما شاكله" نحو الهبة تدل على الملك لغة والإجارة تدل على ملك المنفعة لغة وكذا الإعارة والوكالة وأشباهها.
قوله: "وهذا" لما أقام الدليل على ما ذكر شرع في بيان كونه متفقا بين الجمهور فقال: وهذا أي استعمال المجاز في الألفاظ الشرعية كثير في مسائل أصحابنا. وكذا الشافعي رحمه الله يجيز استعارة لفظ التحرير للطلاق كما هو مذهبنا وعلى العكس على مذهبه وكذا لم يمتنع أحد من السلف عن استعمال المجاز في الألفاظ الشرعية فثبت أنه لا خلاف في هذا الفصل بين الجمهور.
قوله: "مجازا مستعارا" ترادف على وجه التأكيد وإنما أكد; لأنه في بيان الخلاف. لا أنه انعقد هبة نفي لقول بعض أصحاب الشافعي إن النكاح في حق النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة التسري في حق الأمة حتى يصح بلا ولي ولا شاهد وبلفظ الهبة وفي حال الإحرام وأن يزيد على التسع ولا يلزمه القسم ولا ينحصر عدد الطلاق منه ولا يجب المهر لا بالعقد ولا بالدخول فقال الشيخ نكاحه عليه السلام بلفظ الهبة ينعقد نكاحا لا هبة; لأن الهبة تمليك المال بغير عوض وذلك لا يتصور حقيقة فيما ليس بمال لعدم المحل ولذا لم يكن أحكام الهبة ثابتة من توقف الملك على القبض وحق الرجوع للواهبة بعد القبض حتى لم يكن لمن وهبت نفسها منه عليه السلام أن تتزوج بزوج آخر قبل تسليم النفس ولا أن ترجع عن الهبة بعد التسليم وقد كان في نكاحه عليه السلام وإن كان معقودا بلفظ الهبة وجوب القسم حتى كان يقول: "اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك1" يريد زيادة محبته عليه السلام لبعض نسائه. وقد قيل كانت الموهوبات أربعا. ميمونة بنت الحارث.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2134 والترمذي في النكاح حديث رقم 1140والإمام أحمد في المسند 6/144.

(2/94)


للرسالة بالاستعارة وجوه الكلام بل الناس في وجوه التكلم سواء فثبت أن هذا فصل لا خلاف فيه.
غير أن الشافعي رحمه الله أبى أن ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج; لأنه عقد شرع لأمور لا يحصى من مصالح الدين والدنيا, ولهذا شرع بهذين اللفظين وليس فيهما معنى التمليك بل فيهما إشارة إلى ما قلنا فلم يصح الانتقال عنه لقصور اللفظ عن اللفظ الموضوع له في الباب وهذا معنى
ـــــــ
وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية. وأم شريك بنت جابر. وخولة بنت حكيم كذا في الكشاف.
وكذا الطلاق كان مشروعا في حقه عليه السلام حتى طلق حفصة وسودة ثم راجعهما. وكذا العدة كانت واجبة في طلاقه حتى لم يكن يحل لمطلقته الخروج عن المنزل ما دامت في العدة وهذه الأحكام كلها تنافي التسري فعرفنا أنه انعقد نكاحا لا هبة كما هو قول الجمهور وأصح أقوال الشافعي. فثبت أنه أي لفظ الهبة كان مستعارا للنكاح ولما ثبت جواز الاستعارة في حقه عليه السلام ثبتت في حق الأمة; لأنه ليس للرسالة أثر في معنى الخصوص بالاستعارة ووجوه الكلام فإن معنى الخصوصية هو التخفيف والتوسعة وما كان يلحقه حرج في استعمال لفظ النكاح فقد كان عليه السلام أفصح الناس.
قوله: "غير أن الشافعي" استثناء منقطع بمعنى لكن من قوله هذا فصل لا خلاف فيه يعني أن الشافعي يوافقنا في جواز جريان الاستعارة في الألفاظ الشرعية إلا أنه لا يجوز استعارة ألفاظ التمليك للنكاح ويأبى أن ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح والتزويج لما نذكر لا أن الاستعارة لا تجرى في الألفاظ الشرعية. أما بيان المسألة فقول النكاح ينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والصدقة والتمليك عندنا ولا ينعقد بلفظ الإعارة والإباحة والإحلال. واختلف مشايخنا في انعقاده بلفظ الإجارة والرهن والقرض والصحيح أنه لا ينعقد بها. واختلفوا أيضا في انعقاده بلفظ البيع والشراء فقيل لا ينعقد; لأن انعقاده بلفظ الهبة ثبت نصا بخلاف القياس فلا يلحق به إلا ما كان في معناه من كل وجه والبيع ليس في معنى الهبة وقيل ينعقد وهو الصحيح كذا في طريقة الحجاجية. وإنما ينعقد بلفظ الهبة إذا طلب الزوج منها النكاح حتى لو طلب منها التمكين من الوطء فقالت وهبت نفسي منك وقبل الزوج لا يكون نكاحا كذا في المطلع وإليه أشير في فتاوى القاضي الإمام فخر الدين. وكان شيخي رحمه الله يقول ناقلا عن بعض الفتاوى أنه يشترط النية في الهبة; لأن أبا البنت لو قال وهبتها منك لتخدمك فقال قبلت لا يكون نكاحا فلما احتملت الهبة الخدمة والنكاح لا يتعين النكاح إلا بالنية وما ظفرت بهذه الرواية.
وعند الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج عربيا كان اللفظ أو

(2/95)


قولهم عقد خاص شرع بلفظ خاص وهذا كلفظ الشهادة لما كان موجبا بنفسه بقوله أشهد لم يقم اليمين مقامه وهو أن يقول احلف بالله; لأنه موجب لغيره
ـــــــ
غيره في الأصح. وفي قول لا ينعقد بغير العربي فإن لم يحسن العاقد العربية يفوض إلى من يحسنها. وفي قول إن كان يحسن العربية لا ينعقد وإلا فينعقد. والمعنى فيه أن النكاح شرع لمقاصد جمة لا تحصى مما يرجع إلى مصالح الدين والدنيا من حرمة المصاهرة ووجوب النفقة والمهر وجريان التوارث وتحصين الدين وثبوت صفة الإحصان وغيرها وإنما يثبت الملك فيه تبعا ضرورة تحصيل هذه المقاصد المطلوبة شرعا بعد النكاح لا مقصودا في الباب فشرع بلفظ ينبئ عن هذه المعاني لغة وهو النكاح والتزويج فإن النكاح في اللغة عبارة عن الضم الذي يدل على الاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة. وكذا لفظ التزويج ينبئ عن هذه المقاصد; لأنه ينبئ لغة عن الازدواج والتلفيق بين الشيئين على وجه الاتحاد بينهما كزوجي الخف ومصراعي الباب وليس في هذين اللفظين ما يدل على التمليك, ولهذا لا يثبت بهما ملك العين أصلا
والهبة وسائر الألفاظ الموضوعة للتمليك لا ينبئ عن هذه المقاصد فلا يجوز الانتقال عنه أعني عن اللفظ الموضوع له وهو النكاح أو التزويج إلى هذه الألفاظ لقصورها عن اللفظ الموضوع له في هذا الباب في إفادة المقاصد المطلوبة بالنكاح كما لا يصح الانتقال إلى لفظ الإجارة والإحلال مع أن ملك النكاح أقرب إلى ملك المنفعة منه إلى ملك الرقبة ولفظ الإحلال أقرب إلى معنى النكاح من البيع; لأنه ليس في النكاح إلا استحلال الفرج فلما لم يجز الانتقال إلى الإجارة والإحلال فلأن لا يجوز إلى ألفاظ التمليك كان أولى. إلا أن في حق النبي صلى الله عليه وسلم كان ينعقد بلفظ الهبة مع قصور فيه تخفيفا عليه وتوسعة للغات في حقه كما قال تعالى {خَالِصَةً لَكَ} "الأحزاب:50". وهذا معنى قول أصحاب الشافعي أنه "عقد خاص" أي مختص بلفظ لا يثبت بدونه "شرع بلفظ خاص" أي بلفظ مختص بهذا العقد لا يستعمل في غيره. وذكر في بعض مصنفات الشيخ وهو معنى قول أصحاب الشافعي إن النكاح لفظ خاص وله حكم خاص فلا يجوز إقامة لفظ آخر مقامه كما في الشهادة لما كان لها لفظ خاص وله حكم وهو وجوب القضاء على القاضي لا يجوز إقامة لفظ آخر مقامه وهو اليمين حتى لو حلف وقال والله إن لهذا الرجل على هذا الرجل كذا وكذا من المال لا يجب القضاء به. وكان المعنى فيه هو أن اليمين ما وضعت للإثبات بل للدفع والإثبات إنما يتحقق فيه بواسطة الدفع, والبينة وضعت للإثبات في الأصل فلا يجوز إقامة لفظ وضع للإثبات بواسطة مقام لفظ وضع للإثبات بلا واسطة فهكذا بهذين اللفظين تثبت هذه المقاصد بلا واسطة وبلفظ الهبة وغيره إنما تثبت

(2/96)


فلم يصلح الاستعارة وكذلك عقد المفاوضة لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة عندكم كذلك حكي عن الكرخي; لأن غيره لا يؤدي معناه ولهذا لم يجوزوا
ـــــــ
بواسطة ملك الرقبة فوجب أن لا يجوز إقامتها مقام ما يوجب المقاصد بلا واسطة فهذا معنى قوله لفظ الشهادة موجب بنفسه ولفظ اليمين موجب لغيره. ويجوز أن يكون معناه أن لفظ الشهادة موجب بنفسه إذ هو لفظ وضع للإثبات واستعمل فيه حتى ذكر الله تعالى في موضع إثبات الوحدانية لذاته لفظ الشهادة فقال جل ذكره. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} "آل عمران 18". واليمين موجبة لغيرها وهو صيانة حرمة اسم الله تعالى عن الهتك فلا يجوز إقامة اليمين مقامه لقصور لفظ اليمين عن لفظ الشهادة, ولهذا لا يقوم قوله أعلم أو أتيقن مقامه; لأن لفظ الشهادة إنشاء وذلك إخبار فكان قاصرا عن الإنشاء فلا ينوب منابه.
قوله: "وكذلك عقد المفاوضة" أي وكالشهادة شركة المفاوضة فإنها لا تنعقد إلا بلفظة المفاوضة عندكم. وإنما قيد به; لأن عنده المفاوضة ليست بمشروعة أصلا حتى قال إن كان في الدنيا عقد فاسد فهو المفاوضة وربما قال إنه نوع من القمار. كذلك حكي عن الكرخي يعني حكي هذا المذهب عن أبي الحسن الكرخي.
"لأن غيره" أي غير لفظ المفاوضة من الألفاظ التي تؤدي معنى الشركة "لا يؤدي معناه" أي معنى عقد المفاوضة أو معنى لفظ المفاوضة, وذلك لأن اشتقاق هذا اللفظ إما من التفويض سمي به هذا العقد; لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه في جميع مال التجارة. أو من قولهم الناس فوضى في هذا الأمر أي سواء لا تباين بينهم وسمي به هذا العقد; لأنه مبني على المساواة في المال والربح والألفاظ التي تستعمل في الشركة وينوب بعضها عن البعض لا يؤدي هذا المعنى أصلا فلا يجوز استعارتها للمفاوضة. وفي المبسوط وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المفاوضة لا ينعقد إلا بلفظة المفاوضة حتى إذا لم يذكر لفظ المفاوضة كان عنانا عاما والعنان قد يكون خاصا وقد يكون عاما قال وتأويل هذا إن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة فلا يتحقق فيهما الرضاء بحكم المفاوضة قبل علمهما به ويجعل تصريحها بالمفاوضة قائما مقام ذلك كله. فإن كان المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها; لأن المعتبر هو المعنى دون اللفظ.
قوله: "ولهذا لم يجوزوا" أي ولما ذكرنا أن ما قصر من الألفاظ عن تأدية معنى اللفظ الآخر لا يجوز أن يقوم مقامه لم يجوز بعض أصحاب الشافعي نقل الأحاديث بالمعاني; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب والعجم وكان مختصا بجوامع الكلم فلا يؤدي

(2/97)


رواية الأحاديث بالمعاني والجواب أن لفظ البيع والهبة وضع لملك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المتعة; لأن ملك المتعة يثبت به تبعا فإذا كان كذلك قام هذا الاتصال مقام ما ذكره من المجاورة التي هي طريق الاستعارة فصحت الاستعارة بهذا الاتصال بين السبيين والحكمين والجواب عما قال أن هذه
ـــــــ
لفظ آخر معنى لفظه فلا يقوم مقامه لقصوره عنه. ولكن هذا القول غير مأخوذ عندهم فإن صاحب القواطع ذكر فيه وقال بعض أصحابنا كل ما أوجب العلم من ألفاظ الحديث فالمعول فيه على المعنى لا مراعاة اللفظ فيه, وأما الذي يجب العمل به منها ففيه لا يجوز الإخلال بلفظه كقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم1" . وكقوله عليه السلام.: "خمس يقتلن في الحل والحرم2" . وما أشبه ذلك. قال والأصح هو الجواز بكل حال. وأما علماؤنا فاحتجوا بقوله تعالى {خَالِصَةً} "الأحزاب:50". أي أحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ومتى جاز نكاح النبي عليه السلام وهو قدوة الأمة جاز للأمة إلا حيث تثبت الخصوصية. وقوله تعالى {خَالِصَةً} "الأحزاب 50". مصدر مؤكد كوعد الله وكتاب الله أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خلوصا. والفاعل والفاعلة في المصدر غير عزيز كالخارج والقاعد والعافية والكاذبة كذا في الكشاف. أو هي صفة مصدر محذوف دل عليه قوله وهبت أي هبة خالصة لك بغير بدل وكان عليه السلام مخصوصا بذلك بخلاف سائر المؤمنين فإن الهبة لا تخلص لهم بل يجب البدل حكما. والدليل على ما ذكرنا صدر الآية وسياقها فإن المذكور في أول الآية {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} "الأحزاب:50"وفي سياقها {قدَعلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} "الأحزاب:50". فعرفنا أن الخلوص له الإباحة بغير مهر وأن لا إباحة لغيره إلا بفرض ومهر. ولأن الخصوصية لإبانة الشرف ولا يتبين ذلك في التخصيص باللفظ إذ ليس في إطلاق العبارة بلفظ دون لفظ فائدة ولا عسر في العبارة ولا حرج خصوصا لمن كان أفصح العرب والعجم إنما الفائدة في الأحكام التي تتعلق بالألفاظ. وإمامنا في هذه المسألة علي رضي الله عنه روي أن رجلا وهب ابنته لعبيد الله بن الحر فأجاز علي رضي الله عنه ذلك. ولما ثبت الانعقاد بلفظ الهبة ثبت بلفظ البيع بالطريق الأولى; لأنه مثله في الإيجاب ويزيد
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 61 والترمذي في الطهارة حديث رقم 3 وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 2750 والإمام أحمد في المسند 1/123.
2 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1199 وابو داود في المناسك حديث رقم 1846 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 2087.

(2/98)


الأحكام من حيث هي غير محصورة جعلت فروعا وثمرات للنكاح وبني النكاح على حكم الملك له عليها; لأنه أمر معقول معلوم ألا ترى أن المهر يلزم بالعقد لها ولو كان ما ذكرت أصلا وهو مشترك لما صح إيجاب العوض على أحدهما, ولهذا كان الطلاق بيد الزوج; لأنه هو المالك وإذا كان كذلك قلنا لما شرع هذا
ـــــــ
عليه بالعوض والنكاح لا يكون إلا بعوض فكان البيع أقرب إلى النكاح من الهبة. وأما الكلام من حيث المعنى فما أشار إليه الشيخ في الكتاب بقوله والجواب أي عما قال الشافعي أنه لا يجوز إقامة ألفاظ التمليك مقام لفظي النكاح والتزويج لانعدام المجوز هو أن لفظ الهبة والبيع وسائر ألفاظ التمليك. وضع أي كل واحد منهما لملك الرقبة. وملك الرقبة سبب لملك المتعة أي موجب له إذا كان المحل قابلا له; لأن ملك المتعة يثبت به تبعا له فكان ألفاظ التمليك سببا لملك المتعة وقد ثبت من مذهب العرب استعارة اللفظ لغيره إذا كان سببا له كما استعارت لفظ السماء للكلإ في قولهم: إذا سقط السماء بأرض قوم. أي الكلأ بدليل قوله: رعيناه وإن كانوا غضابا; لأن السماء سبب المطر والمطر سبب الكلأ وكما استعاروا لفظ المسيس للجماع; لأن المس سبب انبعاث الشهوة وذلك مؤدي إلى الجماع.
"وإذا كان كذلك" أي وإذا كان الشأن ما ذكرنا من وجود الاتصال بين ملك المتعة وألفاظ التمليك بواسطة الرقبة قام هذا الاتصال مقام الاتصال الذاتي بين المحسوسين. فصحت الاستعارة لهذا الاتصال أي لأجل هذا الاتصال الموجود بين السببين والحكمين. المراد بالسبيين ألفاظ التمليك وألفاظ النكاح ومن الحكمين ملك الرقبة وملك المتعة فالاتصال بين السببين ثابت من حيث إن كل واحد يوجب ملك المتعة أحدهما بواسطة والآخر بغير واسطة وكذا بين الحكمين; لأن ملك المتعة يثبت بملك الرقبة فيجوز أن يقوم هذه الألفاظ مقام ألفاظ النكاح; لأن ما هو المقصود بالنكاح وهو ملك المتعة يثبت بألفاظ التمليك بواسطة ملك الرقبة. قال شمس الأئمة رحمه الله ولا حاجة إلى النية يعني في انعقاد النكاح بألفاظ التمليك; لأن المحل الذي أضيف إليه متعين لهذا المجاز وهو النكاح لنبوته عن قبول الحقيقة بخلاف إيقاع الطلاق بألفاظ العتق لصلاحية المحل للوصف بالحقيقة
"فإن قيل": ملك المتعة في النكاح غير ما يثبت في ملك اليمين لتغايرهما في الأحكام المتعلقة بهما من ثبوت ملك الطلاق والإيلاء والظهار ونحوها في أحدهما دون الآخر وألفاظ التمليك لا يعرف سببا للنوع الأول من ملك المتعة بل عرف سببا للنوع الآخر فلا يجوز إثباته بها.

(2/99)


الحكم بلفظ النكاح والتزويج ولا يختصان بالملك وضعا ولغة فلأن يثبت بلفظ التمليك والبيع والهبة وهي للتمليك وضعا أولى وإنما صلح الإيجاب بلفظ النكاح والتزويج وإن لم يوضعا للملك; لأنهما اسمان جعلا علما
ـــــــ
"قلنا" ملك المتعة عبارة عن ملك الانتفاع والوطء وهو لا يختلف في النكاح وملك اليمين لكن تغاير الأحكام لتغايرهما حالا لا ذاتا فإنه في باب النكاح يثبت مقصودا به وفي ملك اليمين يثبت تبعا له وقد يختلف الحكم بتغاير الحالة مع اتحاد الذات كالثمرة المتصلة بالشجر يتعلق بها حق الشفيع ولا يتعلق إذا كانت منفصلة فاختلف الحكم بتغاير الحال دون الذات ونحن إنما اعتبرنا اللفظ لإثبات ملك المتعة في المحل فيثبت على حسب ما يحتمله المحل فإذا جعلنا لفظ الهبة مجازا أثبتنا به ملك المتعة قصدا لا تبعا فيثبت فيه أحكام النكاح ولا يثبت أحكام ملك اليمين
قوله: "والجواب عما قال" أي عما قال الشافعي إن النكاح عقد شرع لأمور لا تحصى من مصالح الدين والدنيا فلا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج هو أنا لا نسلم ذلك بل هو مشروع لأمر واحد وهو ملك المتعة وما وراءه من فروع النكاح وثمراته لا من الأمور الأصلية فيه; لأنها غير محصورة لا يمكن ضبطها فلا يصلح وضع النكاح لأمور غير معلومة ولأنها ربما تحصل وربما لا تحصل وقد تحصل بعضها دون البعض فلا تصلح أن تكون هي المقصود الأصلي فيه وأن يكون النكاح مبينا لها إذ لا بد للأمر الأصلي أن يثبت عقيب علته لا محالة كسائر الأحكام عقيب أسبابها فيجعل مبينا على حكم الملك للرجل على المرأة; لأن ثبوت الملك به أمر معقول بدليل أن الرجل قوام على المرأة كالمولى على الأمة وبدليل أن البدل وهو المهر يلزم بالعقد لها عليه. ولو كان ما ذكر الشافعي من المصالح أصلا في النكاح لما كان إيجاب البدل على أحدهما خاصة; لأن تلك المصالح مشتركة بينهما. وكذا هو معلوم أيضا بلا شبهة ويثبت في حق الجميع قطعا فكان جعله أصلا في النكاح أولى. وإذا كان كذلك أي وإذا كان الحكم الأصلي في النكاح ما ذكرنا وهو الملك قلنا إلى آخره والتقريب ظاهر وقوله وضعا ولغة ترادف "أو وضعا" أي في أصل الوضع "ولغة" أي في استعمال أهل اللغة.
قوله: "وإنما صلح الإيجاب" جواب سؤال يرد على هذا التقرير وهو أن يقال لما كان المقصود الأصلي فيه إثبات الملك ينبغي أن لا ينعقد النكاح بلفظ النكاح والتزويج; لأنهما لا ينبئان عن إثبات الملك بوجه لغة. أو كان استعمال ألفاظ التمليك فيه أولى من استعمال لفظي النكاح والتزويج. فقال إنما صلح الإيجاب أي إثبات هذا الحكم بهذين اللفظين; لأنهما بمنزلة العلمين لهذا الحكم في إثبات هذا الملك بهما, والعلم يثبت

(2/100)


لهذا الحكم والعلم يعمل وضعا لا بمعناه بمنزلة النص في دلائل الشرع وإنما تعتبر المعاني لصحة الاستعارة على نحو ما يستعمل للقياس فلما ثبت الملك
ـــــــ
الحكم بعينه لا بمعناه بمنزلة النص في دلائل الشرع. وبيانه أن الاسم الموضوع للشيء يدل على ما وضع له سواء عقل معناه أو لم يعقل; لأن الحقيقة تثبت بالسماع من غير أن يعقل معناها ألا ترى أن الأعلام تدل على مسمياتها من غير أن يوجد فيها معناها فإن القصير يسمى طويلا والأسود يسمى كافورا ويدلان على المسمى من غير وجود معنى الطول والبياض أصلا كما أن النصوص يوجب الأحكام بعينها سواء عقل معناها أو لم يعقل. وكما أن هناك إذا احتيج إلى القياس يعتبر المعاني فكذلك هنا إذا احتيج إلى الاستعارة تعتبر المعاني ليصح استعارة هذا اللفظ لمعنى آخر "فلما ثبت الملك" الذي هو مقصود في الباب "بهما" أي بلفظي النكاح والتزويج. وضعا من غير أن يكون لهما دلالة باعتبار أصل الاشتقاق على الملك "صحت التعدية به" أي صحت تعدية ثبوت الملك وكانت الباء زائدة. أو صحت تعدية ثبوت الملك "به" أي بكون الملك ثابتا بهما والباء للسببية. إلى ما هو صريح في التمليك وهو الألفاظ المتنازع فيها. وهذا بخلاف لفظ الإجارة والإعارة والإحلال وأخواتها فإن الإجارة والإعارة لتمليك ملك المنفعة بعوض وغير عوض وملك المنفعة لا يكون سببا لملك المتعة بحال. والإقراض بمعنى الإعارة أيضا على ما عرف في موضعه مع أن الإقراض في محل المتعة لا يصح; لأن محلها الآدمي والاستقراض في الحيوان لا يجوز. وأما لفظ الإحلال فلا يوجب ملك المتعة أصلا وكذا الإباحة والتمتع فإن من أحل لغيره طعاما أو أباحه له أو أذن له أن يتمتع به لا يملكه وإنما يتلفه على ملك المبيح فكذا إذا استعملت في النكاح لا يثبت بها الملك. وكذا لفظ الوصية لا يوجب الملك بنفسه أصلا بل موجبه الخلافة مضافة إلى ما بعد الموت ولو صرح بلفظ النكاح مضافا لا يصح أيضا
"فإن قيل": الهبة أيضا لا توجب الملك ما لم ينضم إليها القبض. "قلنا": الهبة لا توجب إضافة الملك ولكن لضعف في السبب لتعريه عن العوض بتأخر الملك إلى أن يتقوى بالقبض, وينعدم ذلك الضعف إذا استعمل في النكاح; لأن العوض يجب به بنفسه, ولهذا جاز استعماله في حق الصغيرة والكبيرة فلهذا كان موجبا ملك النكاح بنفسه مع أن المملوك بالنكاح بنفس العقد يصير كالمقبوض, ولهذا لو ماتت عقيب العقد تقرر البدل فكان هذا بمنزلة هبة عين فسد الموهوب له فيوجب الملك بنفسه كذا في "المبسوط". وقال القاضي الإمام رحمه الله إن تراخي الملك عن الهبة ليس من موجب الهبة فإن القبض لو سبق الهبة ملك بنفسها ولكن نفيا عن المتبرع عهدة ما لم يتبرع به وإذا كان كذلك

(2/101)


بهما وضعا صحت التعدية به إلى ما هو صريح في التمليك فإن قيل فهلا صحت استعارة النكاح للبيع والمناسبة التي ذكرتم قائمة; لأنها تقوم بالطرفين جميعا لا محالة لا يناسب الشيء غيره إلا وذلك يناسبه كالأخوين قيل له الاتصال من هذا الوجه على نوعين أحدهما اتصال الحكم بالعلة والثاني اتصال الفرع بما هو سبب محض ليس بعلة وضعت له فالأول يوجب الاستعارة من الطرفين; لأن العلة لم تشرع إلا لحكمها والحكم لا يثبت إلا بعلته فاستوى الاتصال فعممت الاستعارة.ولهذا قلنا فيمن قال إن ملكت عبدا فهو حر فملك نصف عبد ثم
ـــــــ
صار عبارة عن نكاح مطلق ثم النكاح لا يقع تبرعا ليتأخر الملك نفيا للعهدة عنها على أن النكاح بشرط أن لا يملك صحيح والشرط باطل.
قوله: "فإن قيل فهلا صحت" هذا السؤال يرد على قوله فصحت الاستعارة لهذا الاتصال بين السببين والحكمين. وتوجيهه أن يقال لو صحت استعارة البيع للنكاح للاتصال بينهما من حيث السببية يلزم أن تصح استعارة النكاح للبيع والهبة أيضا لقيام الاتصال الذي ذكرتم; لأن الاتصال لا بد له من طرفين ليقوم بهما ولا يتصل الشيء بغيره إلا وأن يكون ذلك الغير متصلا به أيضا; لأنه من الإضافيات كالأخوة لما افتقرت إلى طرفين تثبت من الجانبين وقد وافقتمونا على فساد هذه الاستعارة فيدل على فساد الأولى. فأجاب وقال الاتصال من هذا الوجه على نوعين كامل وناقص.
فالأول هو أن يكون الاتصال من الجانبين وذلك بأن يكون كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر كاتصال كل واحد من العلة والمعلول بصاحبه; لأن الحكم لا يثبت إلا بعلته فيكون من حيث الوجود مفتقرا إليها وكذا العلة تشرع ولم تقصد لذاتها وإنما شرعت للحكم حتى لا يكون مشروعة في محل لا يتصور شرعية الحكم فيه, نحو بيع الحر ونكاح المحارم فكانت مفتقرة إلى الحكم من حيث الغرض. وهذا النوع من الاتصال يوجب أي يجوز الاستعارة من الطرفين لتحقق الاتصال من الجانبين بعدم استغناء كل واحد منهما عن صاحبه.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن جواز الاستعارة يعم الجانبين قلنا فيمن قال إلى آخره. والمسألة على أربعة أوجه. أحدها الحلف على ملك عبد منكر بأن قال إن ملكت عبدا فهو حر فملك نصف عبد وباعه ثم ملك النصف الباقي عتق هذا النصف في القياس وفي الاستحسان لا يعتق وجه القياس أن الشرط ملك العبد مطلقا من غير شرط الاجتماع وقد حصل فيعتق هذا النصف كما في فصل الشراء وكما في العبد المعين. وجه الاستحسان

(2/102)


باعه ثم ملك النصف الباقي لم يعتق حتى يجتمع الكل في ملكه ولو قال إن اشتريت عبدا عتق النصف الباقي وإن لم يجتمع وفي العبد المعين يستويان وإن قال عنيت بالملك الشراء كان مصدقا في الحكم والديانة وإن قال عنيت
ـــــــ
أن ملك المطلق يقع على كماله وذلك بصفة الاجتماع فاختص به ألا ترى أن الرجل إذا قال إن ملكت مائتي درهم فعبدي حر أنه يقع على اجتماع الملك وهذا أيضا استحسان.
وألا ترى أن الرجل يقول والله ما ملكت مائتي درهم قط ولعله قد ملكها وزيادة متفرقة لكن لما لم يجتمع في ملكه يعد صادقا وذلك; لأن المطلق يتقيد بدلالة العادة كمطلق اسم الدراهم يتقيد بنقد البلد فههنا مطلق الملك يتقيد بالاجتماع بدلالة العادة أيضا. وكان أبو بكر الإسكاف1 إذا أراد تفهيم أصحابه هذه المسألة دعا بحمال كان على باب مسجده فيقول يا فلان هل ملكت مائتي درهم فيقول والله ما ملكتها قط ثم ينظر إلى أصحابه كم ترون أنه ملك من الدراهم متفرقا وأنفق على نفسه فعرفنا أن المراد بمثل هذا: المجتمع دون المتفرق.
والثاني الحلف على شراء عبد منكر بأن قال إن اشتريت عبدا فهو حر فاشترى نصف عبد وباعه ثم اشترى النصف الباقي لنفسه عتق هذا النصف بخلاف الملك. والفرق بينهما أن الاجتماع في الملك بصفة العبدية بعد الزوال لا يتحقق فأما الاجتماع في كونه مشتر له بعد الزوال فمتحقق; لأن كونه مشترى له لا يتوقف على ملكه ألا ترى لو قال إن اشتريت عبدا فامرأته طالق فاشتراه لغيره أنه يحنث في يمينه فإذا اشترى الباقي بعد بيع النصف الأول فقد اجتمع الكل في عقده فوجب الحنث. إلا أن يعني أن يشتري عبدا كاملا فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء; لأنه نوى تخصيص العام. والثالث. والرابع أن ينعقد اليمين على ملك عبد بعينه أو شراء عبد بعينه والمسألة بحالها يعتق النصف الباقي في الفصلين بخلاف الفصل الأول. والفرق أن الاجتماع صفة مرغوبة فيعتبر في غير المعين ولا يعتبر في المعين; لأنه يعرف بالإشارة إليه كمن حلف لا يدخل هذه الدار لا يعتبر فيها صفة العمران ويعتبر في غير المعين. ولأن الإنسان في العادة إنما يستخبر من نفسه أن يقول ما ملكت ألف درهم مريدا بصفة الاجتماع لا بصفة الافتراق في غير المعين ولا يستخبر ذلك في المعين لا يقول ما ملكت هذا الألف إذا ملكه متفرقا. وذلك لأن بدون الإشارة إلى المعين قصده نفي الغناء عن نفسه ولم يحصل له
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن أحمد الإسكاف البلخي توفي سنة 333ه فقيه حنفي أنظر الفوائد البهية 160

(2/103)


بالشراء الملك كان مصدقا في الديانة; لأنه استعار الحكم لسببه في الفصل الأول واستعار السبب لحكمه في الثاني.وأما الاتصال الثاني فيصلح طريقا للاستعارة
ـــــــ
الغناء إذا كان ملكه متفرقا وفي المعين قصده نفي ملكه عن المحل وقد كان ملكه على المشار إليه ثابتا وإن كان في أزمنة متفرقة كذا في جامع المصنف وشمس الأئمة رحمهما الله. والمراد من قوله عتق النصف في فصل الشراء هو أن يكون الشراء صحيحا فإن كان فاسدا لم يعتق وإن اشتراه جملة; لأن شرط حنثه ثم قبل أن يقبضه ولا ملك له فيه قبل القبض, ألا ترى أنه لو أعتقه لم ينفذ. فإن كان في يده حين اشتراه عتق إذا كان مضمونا بنفسه في يده حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيصير متملكا بنفس الشراء فيعتق لوجود الشراء كذا في المبسوط. قال العبد الضعيف ينبغي أن يكون قوله يعتق النصف في هذه المسائل قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما فينبغي أن يعتق كله ثم يجب السعاية في النصف أو الضمان للاختلاف المعروف في تجزي الإعتاق.
قوله "وإن قال عنيت بالملك الشراء". هذا هو التقريب يعني إن عنى بالملك الشراء حتى لا يشترط الاجتماع فيه فيعتق النصف يصدق ديانة وقضاء; لأنه استعار الحكم وهو الملك. لسببه أي لعلته فيجوز وفيه تغليظ عليه فيصدقه القاضي أيضا. والسبب لفظ عام يطلق على العلة وعلى السبب المصطلح يقال النكاح سبب الحل والبيع سبب الملك, والمراد منه العلة. وإن نوى بالشراء الملك حتى يشترط الاجتماع فيه فلا يعتق النصف الباقي يصدق ديانة; لأنه استعار السبب أي العلة لحكمه فيجوز ولا يصدقه القاضي; لأنه نوى ما فيه تخفيف عليه فلا يقبل قوله للتهمة لا لعدم صحة الاستعارة.
ثم المراد من قوله يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء أنه إذا استفتى يجيبه المفتي على وفق ما نوى ولكن القاضي يحكم عليه بموجب كلامه ولا يلتفت إلى ما نوى إذا كان فيه تخفيف. وكان هذا نظير ما لو استفتى رجل عن فقيه أن لفلان علي ألف درهم وقد قضيته هل برئت من دينه فالفقيه يفتيه بأنك برئت منه وإذا سمع القاضي ذلك منه يقضي عليه بالدين إلا أن يقيم بينة على الإيفاء كذا في بعض شروح الجامع.
والثاني وهو الاتصال الناقص أن يكون الافتقار من أحد الجانبين دون الآخر كاتصال الفرع أي الحكم بما هو سبب محض ليس بعلة وضعت له.
لفظ السبب يطلق على العلة وغيرها يقال البيع سبب الملك والنكاح سبب الحل والزنا سبب الحد ويراد به العلة; لأن معنى الإفضاء في العلة أكثر منه في غيرها فبقوله محض

(2/104)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
احترز عن العلة إذ السبب المحض لا يكون موجبا للمسبب بذاته بحال, ثم من شرط المحض أن لا يكون الحكم مضافا إليه ولا العلة التي تخللت بينه وبين الحكم, والمراد ههنا انتفاء إضافة الحكم إليه دون علته بدليل أن العلة وهي زوال ملك الرقبة فيما ذكر من النظير أضيفت إلى السبب وهو أنت حرة وإن لم يضف الحكم وهو زوال ملك المتعة إليه فلذلك فسره بقوله ليس بعلة وضعت له يعني المراد من السبب المحض أن لا يكون علة موضوعة للفرع لا أن لا يكون العلة المتخللة مضافة إليه أيضا فإن ذلك ليس بشرط ههنا. وهذا النوع من الاتصال يصلح طريقا للاستعارة من أحد الطرفين وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم دون العكس; لأن الشرط في صحة الاستعارة أن يكون المستعار له متصلا بالمستعار منه ليصير بمنزلة لازم من لوازمه فيصح ذكر الملزوم وإرادة اللازم والمسبب مفتقر إلى السبب افتقار المعلول إلى العلة لقيامه به فيصلح ذكر السبب وإرادة ما هو من لوازمه تقديرا وهو المسبب فأما السبب فمستغن في ذاته عن المسبب لقيامه بنفسه وحصول حكمه الأصلي الذي وضع له به وثبوت المسبب به من الأمور الاتفاقية فإن شراء الأمة المجوسية والأخت من الرضاعة والعبد والبهيمة جائز لحصول موجبه الأصلي وهو الملك وإن لم يحصل ملك المتعة وإذا كان كذلك لا يصير السبب متصلا بالمسبب ولازما له لعدم افتقاره إليه فلا يتحقق الاستعارة إذ هي ذكر الملزوم وإرادة اللازم فلهذا لا يجوز استعارة المسبب للسبب. إلا إذا كان المسبب مختصا بالسبب فحينئذ تجوز استعارة المسبب له أيضا كقوله تعالى إخبارا. {إِِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} "يوسف:36". أي عنبا استعير اسم المسبب للسبب لاختصاص الخمر بالعنب. وكقولهم أمطرت السماء نباتا أي ماء سموه باسم مسببه وهو النبات لاختصاصه به. وكقول الراجز:
أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآبال في سحابه
سمي الماء باسم مسببه وهو أسنمة الآبال; لأن الأسنمة لا يرتفع إلا بالنبات ولا يوجد النبات إلا بالماء. وذلك; لأنه إذا كان المسبب مختصا بالسبب صارا في معنى العلة والمعلول فيصير السبب إذ ذاك متعلقا بالمسبب أيضا من حيث إن المسبب لما لم يحصل إلا به والمسبب مطلوب صار كأن السبب موضوع له ومفتقر إليه نظرا إلى الغرض كافتقار العلة إلى المعلول فيحصل الاتصال من الجانبين. ألا ترى أن الخمر لما اختصت بالعنب صار العنب متصلا بها ومفتقرا إليها من حيث إن الخمر ماء العنب ولا قيام للعنب بدون مائه. وكذلك النبات أو ارتفاع السنام لما لم يحصل إلا بالمطر صار للمطر تعلق به من حيث الغرض والحكمة فيجوز الاستعارة من الجانبين فأما ثبوت ملك المتعة بالبيع

(2/105)


من أحد الطرفين وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم; لأن هذا الاتصال ثابت في حق الفرع لافتقاره.ولا يصح أن يستعار الفرع للأصل; لأن هذا الاتصال في حق الأصل معدوم لاستغنائه وهذا كالجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة توقف أول الكلام على آخره لصحة آخره وافتقاره فأما الأول فتام في
ـــــــ
والهبة فقد حصل تبعا واتفاقا فكان اتصاله بالأصل عدما في حق الأصل فلا يصح استعارته له.
قوله "أن يستعار الأصل للفرع" والسبب للحكم. قيل قوله والسبب للحكم عطف تفسير وفائدته دفع وهم من يتوهم أن المراد من الأصل العلة ومن الفرع المعلول. وقيل الأصل والفرع أعم من السبب والمسبب فيتناول غير المشروعات والسبب والمسبب مختصان بالمشروعات ويؤيده ما ذكره شمس الأئمة لا يصح استعارة الحكم للسبب كما لا يصح استعارة الفرع للأصل.
قوله "وهذا كالجملة الناقصة". أي الاتصال بين السبب والمسبب الذي هو ثابت من أحد الجانبين مثل اتصال الجملة الناقصة بالكاملة في قوله زينب طالق وعمرة مثلا فقوله زينب طالق جملة تامة لوجود طرفيها وقوله وعمرة جملة ناقصة لافتقارها إلى الخبر, ولهذا لو انفردت لا يفيد شيئا لكنها بواسطة واو العطف تعلقت بالأولى فتوقف حكم الأولى ليصح اشتراكهما في الخبر وتصير الثانية مفيدة مثل الأولى فيقع الطلاق عليهما ولكن هذا التوقف ثابت بالنسبة إلى الجملة الناقصة لافتقارها إلى الخبر ولكنه بالنسبة إلى الأولى في حكم العدم لكمالها في نفسها. والدليل على التوقف في حق الثانية وقوع الطلقات الثلاث في قوله للمدخول بها أنت طالق وطالق وطالق. وعلى عدم التوقف في حق نفسها عدم وقوع الطلقة الثانية والثالثة في قوله لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق; لأن الجملة الأولى لما لم تتوقف في نفسها ثبت موجبها قبل التكلم بالجملة الثانية وقد بانت لا إلى عدة فيلغو ما بعدها.
ونظير ما ذكرنا من الأصول إضافة الحكم في المحل المنصوص عليه إلى المعنى بالنسبة إلى الفرع ليصح التعدية إليه وعدم إضافته إليه بالنسبة إلى نفس المنصوص عليه لعدم الافتقار إليه بوجود النص الذي هو أقوى منه. ومن الفروع صحة اقتداء المتنفل بمن يصلي صلاة مضمونة مع أنها غير مضمونة على الإمام مضمونة على المقتدي لكن عدم الضمان في حق الإمام بعارض ظن يخصه فلا يظهر في حق المقتدي فتكون صلاته هذه مضمونة في حق المقتدي غير مضمونة في حق نفسه.

(2/106)


نفسه لاستغنائه وعلى هذا الأصل قلنا إن ألفاظ العتق تصلح أن تستعار للطلاق; لأنها وضعت لإزالة ملك الرقبة وذلك يوجب زوال ملك المتعة تبعا لا قصدا على نحو ما قلنا فصحت الاستعارة وقال الشافعي رحمه الله يصح أن
ـــــــ
قوله "وعلى هذا الأصل". أي على أن استعارة السبب للمسبب جائزة قلنا إن ألفاظ العتق يصلح أن يستعار للطلاق بأن قال لامرأته حررتك أو أعتقتك أو أنت حرة ناويا للطلاق وقع للطلاق لما ذكر في الكتاب. وإنما يحتاج إلى النية; لأن المحل المضاف إليه غير متعين لهذا المجاز بل هو محل لحقيقة الوصف بالحرية فيحتاج إلى النية ليتعين المجاز بخلاف استعارة ألفاظ التمليك للنكاح حيث يصح بدون النية; لأن إضافتها إلى الحرة لا تدل إلا على النكاح فإن الأب إذا قال لآخر بعت ابنتي منك أو وهبتها لك لا يمكن العمل لحقيقة البيع والهبة لعدم قبول المحل حكمهما فتعينت جهة الاستعارة فلذلك لا يحتاج إلى النية. قوله "وقال الشافعي" لا يجوز استعارة ألفاظ الطلاق للعتاق عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز والخلاف في الصريح والكناية سواء حتى لو قال لأمته أنت طالق أو طلقتك أو أنت بائن أو أنت حرام ونوى به الحرية لا يعتق عندنا خلافا له. قال التشابه والتشاكل في المعاني من طرق الاستعارة كالشجاع تسمى أسدا والبليد حمارا وقد ثبتت المشاكلة بين الطلاق والعتاق في المعنى لغة وشرعا. أما لغة فلأن الطلاق معناه التخلية والإرسال يقال أطلقت البعير أي أرسلته وخليته وكذا العتاق موضوع لهذا فإنه يقال أعتقت العصفور وحررته أي أرسلته. وأما شرعا فلأن كل واحد منهما إزالة الملك بطريق الإبطال مبني على السراية فإنه لو طلق نصفها يسري إلى الكل وكذا لو أعتق نصفه يسري إلى الكل أيضا إذا كان موسرا وكذا كل واحد منهما لازم لا يرتد بالرد ولا يحتمل الفسخ ويحتمل التعليق بالشرط والإيجاب في المجهول وإذا ثبت الاتصال بينهما معنى جاز استعارة الطلاق للعتاق كما جاز عكسه.
"وقلنا" لا يصح هذه الاستعارة; لأن طريق صحتها منحصر على الاتصال ذاتا أو معنى كما تقدم ذكره وقد عدم الاتصال بينهما ذاتا; لأنه في الشرعيات من حيث السببية وانقطاع ملك النكاح قط لا يكون سببا لانقطاع ملك الرقبة كملك المنفعة لا يكون سببا لملك الرقبة وقد بينا أن اتصال المسبب بالسبب لا يصلح طريقا للاستعارة وقد سلم الخصم أيضا أنه لا اتصال بينهما من حيث السببية فلا يصح الاستعارة بهذا الطريق وكذا عدم الاتصال بينهما معنى لما ذكر في الكتاب فامتنعت الاستعارة بالكلية وصار بمنزلة قوله اسقني ناويا للعتق.

(2/107)


يستعار الطلاق للعتق; لأنهما في المعاني يتشابهان; لأن كل واحد منهما إسقاط بني على السراية واللزوم والمناسبة في المعاني من أسباب الاستعارة مثل المناسبة في الأسباب وقلنا لا يصح هذه الاستعارة لما قلنا في المسألة الأولى أن اتصال الفرع بالأصل في حق الأصل في حكم العدم.
ولا تصح الاستعارة للمناسبة في المعاني من الوجه الذي قلنا; لأن طريق الاستعارة من قبل المعاني المشاكلة في المعاني التي هي من قبيل الاختصاص الذي به يقوم الموجود فأما بكل معنى فلا وهذا الطريق من الخصم نظير طريقه في أوصاف النص أن التعليل بكل وصف صحيح من غير أثر خاص وقلنا نحن هو باطل; لأن الابتلاء يسقط فكذلك
ـــــــ
قوله "من الوجه الذي قلنا" أي ذكرناه في جانب الشافعي أن كل واحد منهما إسقاط بني على السراية واللزوم. هي من قبيل الاختصاص الذي يقوم به الموجود أي من قبيل المعاني المختصة التي قيام الموجود بها بحيث لو زالت عنه لا يبقى الموجود على حقيقته ولا يريد به المعنى الداخل في الماهية وإنما يريد معنى هو مختص به وملازم له واشتهر به مثل الشجاعة للأسد والبلادة للحمار فإن قوامهما بهما يعني لا يتصور وجودهما بدونهما. فأما بكل معنى فلا أي فأما الاستعارة بكل معنى فلا يجوز; لأنها لو جازت بكل معنى جازت استعارة الأرض للسماء والجدار للإنسان باعتبار الجسمية والوجود والحدوث ولا يتفوه به عاقل. ولأن الاستعارة مأخوذة من العرب وإنهم استعاروا بالمعنى المخصوص المشهور وامتنعوا عن الاستعارة بالأوصاف العامة فعلم أنها لا يصح بكل معنى. ألا ترى أن البخر والحمى من لوازم الأسد كالشجاعة ولكن لما لم يشتهر بهذين الوصفين لا يجوز أن يستعار الأسد للأبخر والمحموم. وهذا الطريق أي الاستعارة بكل وصف مشهورا كان أو غيره نظير طريقه في اعتبار أوصاف النص حيث جوز التعليل بالوصف المؤثر وبغيره من الوصف المخيل والوصف المتعدي وغير المتعدي وجوز التعليل بقياس الشبه. هو باطل أي التعليل بكل وصف باطل; لأن الابتلاء يسقط; لأن الناس مبتلون بالاعتبار بالنص وهو قوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا} "الحشر:2". فلو جاز التعليل بكل وصف لم يبق للابتلاء فائدة ولم يبق للعالم على الجاهل فضل ولقاس كل من له أدنى تمييز بأي وصف شاء وبطلانه لا يخفى على ذي لب. وذلك يبطل الامتحان أي الاستعارة بكل وصف يبطل الامتحان فإن المجاز طريق وضع يزداد الكلام به حسنا وطراوة وبهجة وفصاحة ويتميز الذكي من الغبي في إبداع الاستعارات والتعريضات واستخراج غرائب التشبيهات فلو جازت الاستعارة بكل وصف لزال حسن الكلام وذهبت طراوته وصار المجاز من عيوب الكلام بعد أن كان من محاسنه ولاستوى البليغ الماهر في فنون الكلام

(2/108)


الاستعارة يقع بمعنى له أثر الاختصاص ألا ترى أن العرب تسمي الشجاع أسدا للاشتراك في المعنى الخاص وهو الشجاعة فأما بكل وصف فلا; لأن ذلك يبطل الامتحان ويصير الموجودات في الأحكام كلها متناسبة ولا مناسبة بينهما من هذا الوجه; لأن معنى الطلاق ما وضع له اسمه وما احتمله محله وهو رفع القيد; لأن الإطلاق عبارة عنه والنكاح لا يوجب حقيقة الرق ولا يسلب المالكية وإنما
ـــــــ
العالم بجهات الفصاحة ومن لم يشم رائحة منها وغفل عن لطائفها وهو خلاف العقل والإجماع.
قوله "ولا مناسبة بينهما" أي بين الطلاق والعتاق. من هذا الوجه أي الوجه الذي هو طريق الاستعارة وهو المشاكلة في المعنى الخاص المشهور الذي وضع كل واحد منهما له; لأن معنى الطلاق رفع القيد لغة وشرعا وإليه أشار بقوله ما وضع له اسمه وما احتمله محله. أما لغة فلأن معناه التخلية والإرسال يقال أطلق المقيد والمسجون إذا خلى سبيله وأرسله وأطلق البعير إذا رفع عقاله وخلى سبيله. ومنه أطلقت الأسير إذا حللت إساره وخليت عنه والتركيب يدل على الحل والانحلال.
أما شرعا فلأن النكاح لا يوجب الرق حقيقة ولا يسلب المالكية فإنها ثابتة لها بعد النكاح كما كانت قبله بدليل أنها بقيت أهلا للشهادات والتصرفات, ولو وطئت بشبهة كان العقر لها لا للزوج لكنها صارت محبوسة بحق الزوج مقيدة شرعا حتى لم يحل لها الخروج والبروز بدون إذنه ولم يحل لها تزويج نفسها من أحد فالطلاق يزيل الحبس ويرفع القيد الذي أثبته النكاح عنها فهذا القدر هو الذي احتمله المحل لا غير.
. فأما الإعتاق فإثبات القوة لغة وشرعا أما لغة فلأنه يقال عتق الفرخ إذا قوي حتى طار عن وكره ومنه عتاق الطير لكواسبها مثل الصقر والبازي لزيادة قوة وغلبة فيها وهو جمع عتيق ويقال عتقت البكر إذا أدركت وقويت. وهذا شائع بالشين المعجمة أي منتشر مشهور في كلام العرب. وأما شرعا فلأن الرق الذي هو في حكم الموت ثابت على الكمال, وسلطان المالكية أي تسلطها ساقط أي معدوم حتى التحق المرقوق بالبهائم ولم يبق له شهادة ولا ولاية فكان الإعتاق إحياء له وإثباتا للقوة الشرعية فيه وليس بين إزالة القيد ليعمل القوة الثابتة عملها وبين إثبات القوة بعدما عدمت مشابهة كما ليس بين إحياء الميت وبين إطلاق الحي مشابهة, ولهذا لم يصح احتجاج نمرود اللعين بقوله {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} "البقرة:258" في محاجته إبراهيم عليه السلام حيث جعل رفع القيد عن المحبوس معارضا للإحياء الحقيقي وإذا ثبت ذلك امتنعت الاستعارة لانسداد طريقها بالكلية

(2/109)


يوجب قيدا فلا يحتمل إلا إطلاق القيد وأما الإعتاق فإثبات القوة الشرعية; لأن ذلك معناه لغة يقال عتق الطير إذا قوي وطار عن وكره ومنه عتاق الطير. ويقال عتقت البكر إذا أدركت وهذا شائع في كلام العرب وكذلك الرق ثابت على الكمال وسلطان المالكية ساقط فصح الإعتاق إثباتا وليس بين إزالة القيد لتعمل القوة الشرعية عملها وبين إثباتها بعد العدم مشابهة كما ليس بين إحياء الميت وبين إطلاق الحي مشابهة فما هذا إلا كمن استعار الحمار للذكي والأسد للجبان فإن قيل أليس لا يصح أن يستعار البيع للإجارة كما لا يستعار الإجارة للبيع
ـــــــ
"فإن قيل" لا نسلم أن الإعتاق إثبات القوة بإثبات المالكية والولاية بل هو إزالة المانع كالطلاق فإن المالكية إنما يثبت بكونه آدميا فإنه خلق حرا مالكا في الأصل وحلول الرق فيه يمنع القوة كالنكاح فكان الإعتاق إزالة المانع والدليل عليه أنه يصح تعليقه بالشروط والإثباتات لا تعلق بالشروط.
"قلنا" بل الإعتاق إثبات القوة; لأن الرق بسبب المالكية وأهلية الشهادة والولاية أصلا وتثبت بالعتق ابتداء, ولهذا صار منسوبا إلى العتق بالولاء; لأنه أحياه معنى. وقوله علة المالكية والولايات كونه آدميا غير مسلم بل العلة كونه حرا وقد زالت الحرية بالكلية بحلول الرق فبالإعتاق تثبت مالكية أخرى جديدة. وأما قوله يصح تعليقه بالشرط فلا يكون إثباتا فنقول إنما لا يجوز تعليق الإثبات الذي فيه معنى التمليك بالشرط أما الإثبات الذي ليس فيه معنى التمليك فهو قابل للتعليق بالشرط كقوله إن شفى الله مريضي فعلي كذا
"فإن قيل" ما ذكرتم إنما يستقيم على قولهما فإن عندهما الإعتاق إثبات القوة الشرعية التي يعبر عنها بالعتق ولكنه لا يستقيم على أصل أبي حنيفة رحمه الله; لأن الإعتاق عنده إزالة الملك على ما عرف في مسألة تحري الإعتاق وإذا كان الإعتاق إسقاطا عنده كان مشابها للطلاق معنى فيجوز أن يستعار الطلاق له.
"قلنا" الإعتاق عنده إثبات القوة أيضا لكن بواسطة إزالة الملك فكان فيه معنى الإثبات والإسقاط جميعا أما الطلاق فإسقاط محض فلا يثبت التشابه بينهما في المعنى الخاص فيمتنع الاستعارة
قوله "فما هذا إلا كمن استعار الحمار للذكي والأسد للجبان" يحتمل وجهين أحدهما أن الحمار إنما يستعار للبليد والأسد للشجاع للمناسبة بين المحلين في

(2/110)


وملك المنفعة تابع لملك الرقبة قيل له قد قال بعض مشايخنا أن البيع لا ينعقد بلفظ الإجارة والإجارة تنعقد به وذلك يتصور في الحر تقول بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا وهذا جائز فأما إذا قال بعت منك منافع هذه الدار شهرا بكذا لم يجز كذا ذكره في أول كتاب الصلح وهذا ليس
ـــــــ
البلادة والشجاعة فاستعارة الحمار للذكي الذي هو ضد البليد والأسد للجبان الذي هو ضد الشجاع تكون الاستعارة فيما لا مناسبة فيه أصلا وهو قلب المعقول وخلاف الموضوع.
والثاني أن للحمار نوع ذكاء وذلك أنه إذا مشى في طريق أو اعتلف شعيرا في مكان يعرف ذلك الطريق والموضع بعد مدة حتى لو ضل صاحبه الطريق وأرخى حبله يخرجه إلى الطريق ولو أخفى شيئا في المفازة وقد علف حماره شعيرا في ذلك الموضع ثم نسي ذلك الموضع يهديه حماره إلى ذلك الموضع إذا أرخى رسنه وللجبان نوع شجاعة وهو أنه وإن كان فارا من القتال ولكنه إذا أقبل على القتال عند الاضطرار يقاتل قتالا شديدا لا يقاتل غيره مثله فاستعارة الحمار والأسد للذكي والجبان باعتبار هذين المعتبرين فاسدة لكونهما غير مشهورين فكذا استعارة ألفاظ الطلاق للعتاق بالمعاني التي ذكرها الخصم لكونها غير مشهورة.
قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في الأسرار فاعتبر الشافعي رحمه الله في مسألة العتاق تشاكل المعاني بين ألفاظ الطلاق والعتاق من حيث الظاهر وتباين المعاني بين ألفاظ التمليك والتزويج فإن التزويج للوصل على سبيل المساواة بين الزوجين والتمليك لإثبات الملك كله لأحدهما على الآخر بلا حظ للمملوك في المالكية بوجه وإنه وجه ظاهر صحيح على ما اعتبره إلا أنا جوزنا الاستعارة في باب النكاح لاتصال بينهما سببا متى كان حكم النكاح وقوع ملك على المرأة قبل فعل التمتع وإن افترقت المعاني وهو طريق كتشاكل المعاني ولم نجوز في باب العتاق لانعدام السببية وافتراق المعاني فما ذهبنا إليه أحق وأدق وذلك أظهر وأوضح.
قوله "فإن قيل" هذا السؤال وارد على جواب السؤال الأول وتوجيهه أن يقال قد ذكرتم أن استعارة السبب للمسبب تجوز وكما أن ملك الرقبة سبب لملك المتعة فهو سبب لملك المنفعة ولا يصح عندكم استعارة البيع للإجارة حتى لو قال بعت عبدي شهرا بدرهم أو بعتك نفسي مريدا للإجارة لا يصح فيلزم أن لا تصلح استعارة البيع للنكاح أيضا فمنع الشيخ ما ذكره هذا السائل أولا وقال لا نسلم عدم الانعقاد به بل الإجارة

(2/111)


لفساد الاستعارة لكن لفساد في المحل لأن المنفعة لا يصلح محلا للإضافة; لأن
ـــــــ
تنعقد بلفظ البيع على ما اختاره بعض المشايخ. ثم سلم جواب هؤلاء المشايخ في صورة واحدة وإن كان جوابهم مطلقا شاملا لجميع الصور فقال. وذلك أي انعقاد الإجارة بلفظ البيع إنما يتصور في الحر إذا قال بعت نفسي منك شهرا بدرهم لعمل كذا يعني إذا أضاف البيع إلى نفسه دون منافعه وبين المدة والعمل والأجرة فإن ترك واحدا منها يفسد العقد كما في صريح الإجارة. وأجاب عن غيره هذه الصورة فقال لا تنعقد الإجارة بلفظ البيع في غير الصورة المذكورة لا لخلل في الاستعارة ولكن لمعنى آخر يمنع من الانعقاد.
وبيانه أنه لا يخلو من أن أضيف البيع إلى المنفعة أو إلى العين فإن أضيف إلى المنفعة بأن قال بعت منافع هذه الدار أو منافع هذا العبد منك بعشرة شهرا فالصحيح أنه لا يجوز لما ذكر في كتاب الصلح. ولو ادعى شقصا في دار في يد رجل فصالحه منه على سكنى بيت من هذه الدار معلوم عشر سنين فهو جائز; لأن ما وقع عليه الصلح منفعة معلومة ببيان المدة. ولو آجره من الذي صالحه جاز في قول أبي يوسف ولم يجز في قول محمد ولو آجره من غيره جاز. ولو باع هذا السكنى بيعا من رجل لم يجز بيع السكنى وإن ذكر في التقويم أنه ينعقد إجارة ولكن عدم الجواز للإضافة إلى غير محله على ما بين في الكتاب لا لخلل في الاستعارة.
وإن أضيف إلى العين فلا يخلو من أن يذكر المدة أو لا. فإن لم يذكر بأن قال بعت عبدي منك بعشرة فلا شبهة في أنه ينعقد بيعا لإضافته إلى محل قابل للبيع وإمكان العمل بالحقيقة وعدم إمكان حمله على المجاز وهو الإجارة لفقد الشرط وهو بيان المدة. وإن ذكر المدة بأن قال بعت منك عبدي شهرا بعشرة فلا رواية فيه ويجوز أن ينعقد إجارة إذا سمى جنس العمل مع ذلك بأن قال بعت منك عبدي شهرا بعشرة لعمل كذا; لأن أهل المدينة يسمون الإجارة بيعا فعلى ذلك التعارف يجوز وإذا جاز في تعارف أهل اللسان ببلد جاز في غيره إذا اتفق المتعاقدان عليه كذا في الأسرار.
ويجوز أن لا ينعقد إجارة كما أشار إليه الشيخ في قوله ويتصور ذلك في الحر. وينعقد بيعا صحيحا لإمكان العمل بالحقيقة بصرف ذكر المدة إلى تأجيل الثمن; لأن ذكر المدة في مثل هذا المقام إنما يكون لتأجيل الثمن كما في قوله بعتك إلى شهر لا لتوقيت المبيع; لأنه لا يقبل التوقيت. ويجوز أن ينعقد بيعا فاسدا; لأن الحمل على الحقيقة وإن كانت قاصرة أولى من الحمل على المجاز والبيع الفاسد بيع حقيقة ويثبت به الملك عند القبض فكان الحمل عليه أولى من الحمل على المجاز وهو الإجارة.

(2/112)


ذلك معدوم ليس في مقدور البشر حتى لو أضاف إليها الإجارة لم يجز فكذلك فيما يستعار لها ولكن العين أقيمت مقامها في حق الإضافة في الأصل فكذلك ما يستعار لها وصار هذا كالبيع يستعار للنكاح في غير محله وهي المحرم من النساء فيثبت أن فساده إضافة إلى غير محله. من أحكام هذا القسم أيضا أن المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو خلف عن الحكم
ـــــــ
قوله "لأن المنفعة لا يصلح محلا للإضافة" أي لإضافة العقد إليها. لأن ذلك أي المذكور وهي المنفعة معدومة ليس في مقدور البشر أي ليس في قدرته إيجادها أو ليست هي داخلة فيما هو مقدور البشر. حتى لو أضاف إليها الإجارة بأن قال آجرتك منافع هذه الدار لم يجز فكذلك ما يستعار لها أي للإجارة وهو البيع إذا أضيف إليها لا يجوز. في الأصل أي في حقيقة الإجارة. فكذلك ما يستعار لها أي فكالأصل المستعار في احتياجه إلى المحل فيقام العين فيه مقام المنفعة ليصح الاستعارة كما في الحر. وصار هذا أي عدم الجواز بناء على عدم المحل نظير البيع المستعار للنكاح في غير محله أي في محل النكاح وهي المحرم من النساء فإنها لما لم تكن محل حقيقة النكاح لم تكن محلا لما يستعار للنكاح أيضا وهو البيع فكذلك المنافع لما لم يصلح لإضافة الإجارة إليها لم يصلح لإضافة ما يستعار للإجارة أيضا وهو البيع; لأن الحقيقة أقوى من المستعار فعرفنا أن الفساد لعدم المحلية لا لفساد الاستعارة.
قوله "المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم" إلى آخره اعلم أنه لا خلاف في أن المجاز خلف عن الحقيقة بدليل أنه لا يثبت إلا عند فوات معنى الحقيقة وتعذر العمل به, ولهذا يحتاج المجاز إلى القرينة والحقيقة لا تحتاج إليها. وإنه لا بد لثبوت الخلف من تصور الأصل; لأن الخلف من الإضافيات فلا يتحقق بدون الأصل كالابن مع الأب. وإن المصير إلى المجاز لا يجوز إلا عند تعذر الحقيقة كما أن المصير إلى الخلف لا يجوز إلا عند فوات الأصل, ولهذا لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز. والحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ لا من أوصاف المعاني, ولهذا قالوا الحقيقة لفظ استعمل وكذا والمجاز لفظ استعمل في كذا. وإنما الخلاف في أن الخلفية في التكلم بأن صار التكلم بلفظ المجاز خلفا عن التكلم بلفظ الحقيقة ثم يثبت الحكم بناء على صحته بطريق الاستبداد لا خلفا عن حكم الحقيقة. أو في الحكم بأن تعذر حكم الحقيقة بعارض فصير إلى المجاز لإثبات لازم الحقيقة خلفا عن الحقيقة في إثبات حكمها احترازا عن إلغاء الكلام, فقال أبو

(2/113)


بيانه فيمن قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني لم يعتق عندهما; لأن هذا الكلام لم ينعقد لما وضع له أصلا فصار لغوا لا حكم له فلا يجب العمل بمجازه; لأنه خلف عنه في إثبات الحكم ومن شرط الخلف أن ينعقد السبب
ـــــــ
حنيفة رحمه الله المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم وقالا هو خلف عنها في الحكم.
ويتضح لك ما ذكرنا في قوله للشجاع هذا أسد فعندهما هو خلف في إثبات الشجاعة عن قوله هذا أسد في محل الحقيقة لإثبات الهيكل المخصوص. وما قرع سمعك أن حكم المجاز خلف عن حكم الحقيقة عندهما فالمراد منه ما ذكرنا; لأن الخلفية بين المجاز والحقيقة اللذين هما من أوصاف اللفظ بالاتفاق لا بين شجاعة الشجاع والهيكل المعلوم. وعند أبي حنيفة رحمه الله التكلم بقوله هذا أسد للشجاع خلف عن التكلم بقوله هذا أسد للهيكل المعلوم من غير نظر في ثبوت الخلفية إلى الحكم ثم يثبت الحكم به وهو الشجاعة بناء على صحة التكلم لا خلفا عن شيء كما يثبت حكم الحقيقة بناء على صحة التكلم. وقوله لعبده الذي يولد مثله لمثله وهو معروف النسب من الغير هذا ابني فعندهما هو خلف في إثبات العتق عن قوله هذا ابني لابنه الحقيقي في إثبات البنوة والعتق. وعند أبي حنيفة رحمه الله نفس التكلم بقوله هذا ابني خلف عن التكلم بقوله هذا ابني في محل الحقيقة ثم يثبت العتق بناء على صحة التكلم كما يثبت البنوة والعتق في محل الحقيقة بناء على صحة الكلام. لهما أم الحكم هو المقصود لا نفس العبارة فاعتبار الخلفية والأصالة فيما هو المقصود أولى من اعتبارهما فيما هو وسيلة وهي العبارة.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ بإجماع أهل اللغة فجعل المجاز خلفا عن الحقيقة في التكلم الذي هو استخراج اللفظ أولى مما ذكرا; لأن الحقيقة والمجاز لا يجريان في المعاني. وتحقيقه أن الاستعارة نقل وإنه لا يتصور في المعنى; لأن المعنى هو تمام ماهية المستعار عنه وإنه لا يقبل النقل إلى المستعار له بحيث يصير عينه عينه. وكذا صفته لا تقبل الانتقال; لأن صفة الشيء هي القائمة به فكيف تقبل النقل عنه وإنما يتصور الانتقال في اللفظ. ألا ترى أن الشجاعة التي في الأسد لا تنتقل إلى الإنسان باستعارة لفظ الأسد له ولكن اللفظ ينتقل إليه فعرفنا أن الخلفية في التكلم لا غير ويظهر أثر هذا الاختلاف في قوله لعبده الذي لا يولد مثله لمثله هذا ابني فعلى قولهما وهو قول أبي حنيفة الأول يلغو هذا الكلام ولا يتعلق به حكم وهو قول الشافعي أيضا. وفي قول أبي حنيفة الآخر يعتق هذا العبد ويصير هذا الكلام عبارة عن قوله عتق علي من حين ملكته بطريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم. وجه قول أبي حنيفة الأول أن هذا الكلام لم ينعقد لإيجاب حكم الحقيقة أصلا وهو البنوة فيلغو كما لو قال أعتقتك قبل

(2/114)


للأصل على الاحتمال وامتنع وجوده بعارض كمن حلف ليمسن السماء أن اليمين انعقدت للبر لاحتمال وجوده فانعقدت للكفارة خلفا عنه فأما الغموس فلم ينعقد للحكم الأصلي فلا ينعقد لخلفه وهذا نظير مسألة الغموس وقال أبو حنيفة "الاستعارة" رحمه الله إن المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم بل
ـــــــ
أن أخلق أو قبل أن تخلق أو قال هذا أخي أو قال لغلام صغير له هذا جدي أو قال لعبده هذه بنتي أو قال لأمته هذا غلامي. وإنما قلنا إنه لم ينعقد أصلا; لأن معنى قوله هذا ابني أنه مخلوق من مائي, وابن خمسين سنة يستحيل أن يكون مخلوقا من ماء ابن عشرين سنة وإذا كان كذلك لا يمكن جعله عبارة عن الإقرار بالحرية من حين ملكه لما ذكرنا أن المجاز خلف عن الحقيقة في إثبات الحكم ولا بد لثبوت الخلف من تصور الأصل فيشترط أن يكون الأصل في مخرجه صحيحا موجبا للحكم على الاحتمال ولكن يتعذر العمل به بعارض فيخلفه المجاز في إثبات الحكم وقد بينا أن هذا الكلام في نفسه غير منعقد لإيجاب حكم أصلا فلا يمكن أن يجعل المجاز خلفا عنه فيلغو كما في النظائر المذكورة
وهذا بخلاف قوله لمعروف النسب هذا ابني حيث يعتق وإن لم يثبت النسب; لأن كلامه في مخرجه صحيح موجب لحكمه وهو البنوة لولا العارض لجواز أن يكون مخلوقا من مائه بالزنا أو بالوطء بشبهة لكنه لما اشتهر نسبه من الغير لوجود ظاهر الدليل تعذر إثباته منه رعاية لحق الغير فيصح أن يخلفه المجاز. ونظير هاتين المسألتين الحلف على مس السماء واليمين الغموس فإن الأول موجب للكفارة لانعقاد السبب موجبا للأصل وهو البرهان بناء على أن السماء عين ممسوسة فيصلح لإيجاب الخلف وهو الكفارة عند تحقق العارض وهو العجز الحالي فأما الغموس فلم تنعقد لإيجاب الأصل وهو البر فلا تصلح موجبة للخلف وهو الكفارة وما نحن فيه نظير الغموس على أنا نقول في معروف النسب لا يعتق بطريق المجاز بل بطريق الحقيقة; لأن الولد كما ذكرنا يحتمل أن يكون موجودا من مائه وأن الفراش له في الباطن فيصدق فيما يرجع إلى حق نفسه ويجعل كأن النسب ثابت فيثبت أحكامه باعتبار الحقيقة لا باعتبار المجاز ولهذا صارت أم الغلام أم ولد له لو كانت في ملكه كما لو أقر بذلك لمجهول النسب وثبتت حقيقة البنوة وههنا لا تصير أم ولد له للاستحالة ولا يلزم على هذا الجواب إذا قال لامرأته وهي أصغر سنا منه هذه بنتي وهي معروفة النسب من الغير لا تثبت الحرمة ولو اعتبر النسب ثابتا في حقه لحرمت عليه لأنا نقول إن المقر إنما يصدق فيما يرجع إلى نفسه لا فيما يرجع إلى غيره وكلامه هذا إقرار على الغير; لأن حكم النسب في النكاح ليس إزالة الملك بعد ثبوته وإنما موجبه انتفاء

(2/115)


هو في الحكم أصل.ألا ترى أن العبارة تتغير به دون الحكم فكان تصرفا في
ـــــــ
حل المحلية من الأصل وذلك حقها لا حقه فلا يصدق على إبطال حق الغير فأما قوله هذا ابني فإقرار على نفسه; لأن من حكم البنوة بطلان الملك بعد ثبوته فإنه يملك ابنه بالشراء ثم يبطل ذلك بالعتق عليه فيكون إقرارا على نفسه فيصدق.
وجه قوله الآخر أنه إن تعذر العمل بحقيقة كلامه فقد أمكن بمجازه فيعمل به كما في معروف النسب وذلك; لأن طريق المجاز وهو الاتصال من حيث السببية موجود; لأن البنوة من أسباب العتق فإنه إذا قال لمن هو يولد لمثله وهو مجهول النسب هذا ابني تثبت البنوة وتثبت الحرية من وقت الدخول في ملكه بواسطة البنوة فكان هذا اللفظ سببا للبنوة والبنوة سببا للحرية من وقت الدخول في الملك واستعارة السبب للمسبب طريق معهود فيجعل اللفظ مجازا لمسببه احترازا عن الإلغاء وصار كأنه قال عتق علي من حين ملكته ولا يقال العتق ليس من أحكام البنوة بل هو حكم الملك; لأن الحكم في علة ذات وصفين يضاف إلى آخرهما وجودا وهو الملك ههنا دون القرابة; لأنه حادث والقرابة من وقت العلوق فثبت أن البنوة ليست بسبب للعتق فلا تصح استعارتها له لأنا نقول الملك إذا كان ثابتا ولا نسب ثم ادعاه كان النسب آخرهما وجودا فتصح استعارته له ألا ترى أن العبد إذا كان بين وارثين وهو مجهول النسب فادعاه أحدهما عتق ويضمن نصيب شريكه إن كان موسرا ولا يضمن إن كان معسرا فلولا أنه صار معتقا بهذه الدعوى لما تعلق به ضمان يختلف بالإيسار والإعسار; لأنه لا صنع له في التمليك كذا في الطريقة البرغرية وأما قولهم لا بد للخلف من تصور الأصل فمسلم ولكن الخلفية في التكلم دون الحكم فيشترط صحة التكلم وهي بأن يكون الكلام صالحا لإفادة المعنى في نفسه بكونه مبتدأ وخبرا موضوعا للإيجاب أي إثبات معنى بصيغته وقد وجد ذلك فيما نحن فيه; لأن قوله هذا ابني موضوع لإثبات البنوة وقد تعذر العمل بحقيقته وله مجاز متعين فيعمل بمجازه. ولا معنى لما قالوا من اشتراط احتمال البنوة في هذا المحل; لأن أهل اللغة قاطبة اتفقوا على أن قوله للشجاع هذا أسد استعارة صحيحة ومعلوم أن الشجاع لا يتصور أن يكون الهيكل المعلوم بوجه ولكن قوله هذا أسد مبتدأ وخبر موضوع لإفادة معنى وهو الإخبار عن الهيكل المعلوم ثم استعير لإثبات لازمه وهو الشجاعة الموجودة في الشجاع الذي لا يتصور فيه الأسدية أصلا فكذا قوله هذا ابني مبتدأ وخبر موضوع للإخبار عن البنوة في محل وهو الابن الحقيقي واستعير لإثبات لازمه وهو الحرية في الأكبر سنا منه فيصح هذه الاستعارة أيضا إذ ليس بينهما فرق.
قوله "ألا ترى أن العبارة تتغير به دون الحكم" يعني أن التغير الذي هو من لوازم

(2/116)


التكلم فتشترط صحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته وقد وجد ذلك فإذا وجد وتعذر العمل بحقيقته وله مجاز متعين صار مستعارا لحكمه بغير نية كالنكاح بلفظ الهبة وقالا لفظ الهبة ينعقد لحكمه
ـــــــ
المجاز للعبارة دون الحكم; لأن اللفظ الموضوع لمعنى إذا استعمل في موضوعه فهو حقيقة وإذا نقل عنه واستعمل في غير موضوعه يتغير ذلك اللفظ ويصير مجازا فأما الحكم فلا يقبل الانتقال والتغير كما ذكرنا فعرفنا أن الخلفية في التكلم لا في الحكم وزعم بعض الشارحين أن معناه أن محل المجاز له لفظ موضوع إذا استعمل فيه يكون حقيقة كلفظ الشجاع في موضوعه فإذا استعمل فيه لفظ المجاز وهو الأسد تغيرت تلك العبارة فأما الحكم وهو إثبات الشجاعة له فلا يتغير بالشجاع والأسد وعن هذا توهموا أن قول الرجل هذا أسد للشجاع خلف عن قوله هذا شجاع وأن قوله هذا ابني في مسألتنا خلف عن قوله هذا حر من حين ملكته وإن عندهما ثبوت الشجاع بقوله هذا أسد خلف عن ثبوت الهيكل المعلوم به وثبوت الحرية بقوله هذا ابني لمعروف النسب الذي هو أصغر سنا منه خلف عن البنوة وكل ذلك وهم; لأن المجاز لا يكون خلفا إلا عن حقيقته التي نقلت عن محلها إلى محل المجاز فأما عن الحقيقة الثابتة لمحل المجاز فلا. ولو كان لفظ الأسد خلفا عن الشجاع ولفظ هذا ابني خلفا عن هذا حر كما زعموا لا يتأتى الخلاف في قوله هذا ابني الأكبر سنا منه; لأن حكم الأصل وهو الحرية التي ثبتت بقوله هذا حر ليس بممتنع في هذا المحل بل هو متصور كما في الأصغر سنا منه فيلزم أن يثبت العتق عندهما أيضا لوجود شرط المجاز وهو تصور حكم الأصل والأمر بخلافه ولا يصح أيضا أن يكون الشجاع خلفا عن الهيكل المعلوم لما ذكرنا أن الخلفية إذ ذاك تكون بين المعاني لا بين الألفاظ والحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ بل المراد من الخلفية في الحكم أو في التكلم ما ذكرنا في أول المسألة ولا يقال كيف يكون " هذا أسد " خلفا عن " هذا أسد " وليس بينهما تغاير ولا بد من أن يكون الخلف مغايرا للأصل إذ الشيء لا يكون خلفا عن نفسه لأنا نقول هذا الكلام في محل الحقيقة غيره في محل المجاز بسبب اختلاف في المحلين ألا ترى أن آثارهما مختلفة فإن قولك هذا أسد في محل الحقيقة يدل على ما لم يدل هو في محل المجاز وكذا قوله هذا ابني في محل الحقيقة يدل على البنوة التي لم توجد في محل المجاز فصحت الخلفية.
قوله "وله مجاز متعين" احتراز عن قوله هذا أخي على ما نبينه صار مستعارا لحكمه أي للازم حكمه وهو الحرية إذ هي لازمة البنوة عند ثبوت الملك.
قوله "كالنكاح بلفظ الهبة" يعني إذا قال وهبت ابنتي منك أو قالت وهبت

(2/117)


الأصلي في الحرة; لأن احتمال بيع الحرة وهبتها مثل احتمال مس السماء وأما هذا فمستحيل بمرة وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا تصرف في التكلم فلا يتوقف على احتمال الحكم كالاستثناء فإن من قال لامرأته أنت طالق ألفا إلا
ـــــــ
نفسي منك على وجه النكاح يصير هذا اللفظ مستعارا للنكاح وإن لم ينعقد لإيجاب حكم الحقيقة وهو ملك الرقبة في هذا المحل; لأن الحرة لا تقبل ذلك أصلا فكذا فيما نحن فيه وقالا لفظ الهبة كذا يعني أنهما لا يسلمان عدم انعقاده لحكمه الأصلي في هذا المحل ويقولان إن احتمال بيع الحرة وهبتها ثابت عقلا وشرعا وإن كان بعيدا كاحتمال مس السماء. ألا ترى أن تملك الحر كان مشروعا في شريعة يعقوب عليه السلام حتى قال بنوه {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} "يوسف:75" فعرفنا أنه ليس بمستحيل ولكنه امتنع لعارض وهو عدم جواز النسخ
"فأما هذا" أي البنوة في الأكبر سنا منه "فمستحيل بمرة" أي بالكلية عقلا وشرعا على إنا لم نثبت النكاح بلفظ الهبة بطريق المجاز وإنما نثبته بطريق الحقيقة; لأن الهبة بحقيقتها توجب الملك في العين, وملك النكاح عندنا في حكم ملك العين; لأن عين المرأة تصير مملوكة للزوج في حق الوطء إلا أنه ثابت من وجه دون وجه وملك اليمين ثابت من كل وجه فكان ذلك أحق فإنه أمكن إثباته وإلا أثبتنا ملك النكاح بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز ولأن منافع البضع في حكم العين على ما عرف وملك النكاح عبارة عن ملك منافع البضع والجواب أن بعدما تحققت الاستحالة في شريعتنا لا تصور لانعقاده سببا للحكم الأصلي كما لو ثبتت عقلا ألا ترى أن نكاح المحارم لما انتسخ ولم يبق مشروعا لم ينعقد سببا للحل أصلا لم يصر حتى شبهة في سقوط الحد عندهما مع بقاء المحلية في حق الأجنبي فهنا أولى لارتفاع المحلية بالكلية وهذا بخلاف الحلف على مس السماء; لأن الاحتمال مسه بطريق الكرامة ثابت في الحال فينعقد سببا. وما قالا: الهبة تعمل بحقيقتها ليس بمستقيم; لأن الثابت به أحكام النكاح من ملك الطلاق وصحة الإيلاء وعدم صحة النقل إلى الغير وسائر ما يترتب على النكاح ولو كانت عاملة بحقيقتها لملك النقل إلى الغير بأسباب الملك ولكان العقر له فيما إذا وطئت بشبهة ولملك تزويجها من غيره كالأمة فثبت أنها عاملة بطريق المجاز وإن تصور ثبوت حكم الأصل في هذا المحل ليس بشرط لصحة المجاز ولما رجع الشيخ إلى كلام أبي حنيفة أعاد ذكره فقال, وقال أبو حنيفة يعني مجيبا لكلامهما هذا تصرف في التكلم أي استعمال المجاز تصرف في اللفظ فكان الخلفية في التكلم فلا يتوقف على تصور الحكم كالاستثناء لما كان تصرفا في التكلم لم يتوقف صحته على تصور الحكم فإن من قال

(2/118)


إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه تقع واحدة ذكره في المنتقى وإيجاب ما زاد على الثلث من طريق الحكم باطل لكن من طريق التكلم صحيح والاستثناء تصرف في التكلم بالمنع فصح فكذلك هذا لما كان تصرفا في التكلم صحت الاستعارة به لحكم حقيقته وإن لم ينعقد لإيجاب تلك الحقيقة ومن حكم الحقيقة عتقه من حين ملكه فجعل إقرارا به فعتق في القضاء بخلاف النداء; لأنه لاستحضار
ـــــــ
لامرأته أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين صح الإيجاب والاستثناء حتى لا يقع إلا واحدة نص عليه في المنتقى وهو اسم كتاب للحاكم الشهيد أبي الفضل ومعلوم أن إيجاب ما وراء الثلاث واستثناءه من طريق الحكم باطل إذ لا مزيد للطلاق على الثلاث فكان هذا من حيث الحكم استثناء الكل من الكل فينبغي أن لا يصح ويقع ثلاث تطليقات إلا أنه لما صح من حيث التكلم والاستثناء تصرف في التكلم بالمنع من ثبوت المستثنى صح الإيجاب والاستثناء.
وكذلك لو قال نسائي طوالق إلا زينب وفاطمة وهند أو خديجة أو قال عبدي أحرار إلا سالما ويزيعا وفرقد أو ليس له من العبيد غيرهم صح هذا الاستثناء وإن كان في الحكم استثناء الكل من الكل لما ذكرنا فكذا هذا أي المجاز لما كان تصرفا في التكلم صحت الاستعارة به أي بقوله هذا ابني أو بهذا الطريق لحكم حقيقته أي للازم موضوعه وإن لم ينعقد لإيجاب تلك الحقيقة أي لإثبات موضوعه الأصلي في هذا المحل ومن حكم الحقيقة أي ومن لوازم موضوعه الأصلي العتق من حين ملكه فجعل هذا الكلام إقرارا به أي بالعتق من حين ملكه فعتق العبد في القضاء.
قوله "فعتق في القضاء" يعني لما صار قوله هذا ابني إقرارا بالحرية من حين ملكه لا إنشاء لعتق في الحال يحكم القاضي بعتقه وإن كان كاذبا في إقراره; لأنه حجة على نفسه كما لو أقر به صريحا كاذبا وكلام الشيخ يشير إلى أنه لا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى كما في الإقرار كاذبا وقد صرح الشيخ الإمام البرغري في طريقته بما أشار الشيخ إليه فقال. فإن قيل لا وجه لتصحيح هذا الكلام; لأنه إما أن يجعل مجازا لإنشاء الحرية أو للإقرار بالحرية لا وجه إلى الأول; لأنه في موضع الحقيقة إخبار الإنشاء وقد ذكرتم أن معناه عتق علي من حين ملكته وهذا إقرار وليس بإنشاء والدليل عليه أن هذا الكلام يبطل بالإكراه والهزل ولا يصح تعليقه بالشرط وحكم الإنشاء على خلافه ولا وجه إلى الثاني; لأنه كذب محض بيقين; لأنا نعلم أنه لا يعتق بالبنوة; لأن ذلك مستحيل ولم يوجد إعتاق من جهة السيد والإقرار إذا اتصل به دليل الكذب يبطل كالإكراه والهزل فإذا كان كذبا بيقين أولى أن يبطل

(2/119)


المنادى بصورة الاسم لا بمعناه فإذا لم يكن المعنى مطلوبا لم يجب الاستعارة لتصحيح معناه بخلاف قوله بأجر فإنه يستوي نداؤه وخبره; لأنه موضوع للتحرير فصار عينه قائما مقام معناه فصار المعنى مطلوبا بكل حال.
ـــــــ
قلنا هذا مجاز للإقرار بالحرية من حين الدخول في ملكه, ولهذا يبطل بالكره والهزل ولا يصح تعليقه بالشرط. وقوله إنه كذب بيقين وهو مستحيل قلنا الاستحالة في البنوة لا في الحرية فيصير كأنه قال عتق علي من حين ملكته ولو نص على هذا لم يكن محالا وقوله لم يوجد الإعتاق فلم يصح هذا الإقرار قلنا لو صرح بهذا الكلام فإنه يعتق عبده في القضاء ثم إن كان صادقا بأن سبق منه إعتاق يعتق العبد في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يسبق منه إعتاق لا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى كذا هنا.
قوله "بخلاف النداء" جواب عن سؤال وهو أن يقال إذا قال لعبده يا ابني لا يعتق إلا في رواية شاذة عن أبي حنيفة رحمه الله وعلى ما ذكرت يلزم أن يجعل بمعنى قوله يا حر بطريق الاستعارة كما جعله أبو حنيفة في تلك الرواية كذلك فقال لا يلزم هذا; لأن النداء في اللغة موضوع لاستحضار المنادى بصورة الاسم لا لتحقيق معنى الاسم في المنادى ألا ترى أنك تنادي رجلا فتقول يا حسن ويكون قبيحا ولما لم يكن موضوعا لتحقيق المعنى في المنادى لم نشتغل بتصحيحه بإثبات موجبه اللغوي الحقيقي أو المجازي فأما الخبر فقد وضع لتحقيق المخبر به فيجب تصحيحه بإثبات معناه الحقيقي أو المجازي إن أمكن.
قوله "بخلاف قوله يا حر" جواب عن سؤال آخر يرد على هذا الجواب وهو أن يقال إذا قال لعبده يا حر أو يا عتيق يعتق كما لو قال هو حر فاستوى النداء والخبر وعلى ما ذكرت ينبغي أن لا يعتق في النداء فقال إنما استوى النداء والخبر فيه; لأنه موضوع للتحرير وعلم لإسقاط الرق به فكأن عينه قائمة مقام معناه, ألا ترى أنه لو أراد أن يسبح فجرى على لسانه عبدي حر يعتق فكان المعنى مطلوبا منه بكل حال فلهذا يعتق في الحالين. وذكر في المبسوط لو جعل اسم عبده حر أو كان ذلك معروفا عند الناس ثم ناداه به فقال يا حر لم يعتق وإذا لم يكن هذا الاسم معروفا له يعتق به في القضاء; لأنه ناداه بوصف يملك إيجابه بخلاف قوله يا ابني فإنه نداء بوصف لا يملك إيجابه فينظر إلى مقصوده فيه وهو الإكرام دون التحقيق فصار الضابط أن النداء لاستحضار المنادى بوصفه القائم به إن كان ثابتا كقوله يا طويل يا أسود وهو طويل أو أسود وإن لم يكن قائما به فإن كان وصفا يصح ثبوته من جهة المنادى يثبت اقتضاء كقوله يا حر يا عتيق وإن لم يكن كان استحضارا للمنادى بصورة الاسم كقوله يا طويل وهو قصير وقوله يا ابني الأكبر سنا منه أو الأصغر منه وهو معروف النسب

(2/120)


ومن حكم هذا الباب أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز; لأن
ـــــــ
وبما ذكرنا خرج الجواب عن قوله أعتقتك قبل أن تخلق أو قبل أن أخلق; لأنه ليس له حقيقة أصلا فلم يصح التكلم به فلا يمكن تصحيحه بجعله عبارة عن لازم حقيقته إذ ليس له حقيقة فيلغو ضرورة. وأما قوله هذا أخي فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يعتق; لأن للأخوة في ملكه موجبا وهو العتق فيجعل كناية عن موجبه وفي ظاهر الرواية لا يعتق; لأن الأخوة اسم مشترك قد يراد بها الأخوة في الدين, قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} "الحجرات:10". وقد يراد بها الاتحاد في القبيلة قال الله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} "الأعراف:65" وقد يراد بها الأخوة في النسب والمشترك لا يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي أو لأمي يعتق على هذا الطريق ولأن الأخوة لا يكون إلا بواسطة الأب أو الأم; لأنها عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم وهذه الواسطة غير مذكورة نصا ولا تثبت بما ذكر أيضا فلم يصر العتق بدون الواسطة حكم نصه فلا يستقيم كناية عنه كشراء الأب لا يكون إعتاقا إلا بواسطة الملك فمتى لم يوجب الشراء ملكا للمشتري لم يكن إعتاقا.
وكذا الجواب عن قوله هذا جدي; لأن الجد إنما يعتق عليه بواسطة الأب فما لم يثبت الواسطة نصا أو مقتضى ثبوت النسب لم يوجب عتقا في ملكه فلا يصير حكما له فلا يصير كناية عنه فأما الولاد فنفسه علة العتق مع الملك وقد نطق بالولاد والملك ثابت فيصلح كناية عنه وقد ذكر الإمام البرغري أن لا رواية في قوله هذا جدي فنقول بأنه يعتق وأما قوله لعبده هذه بنتي فلا يوجب العتق وإن أقر بما هو سبب الحرية; لأن قوله هذه بنتي حكمه ثبوت الحرية بجهة البنتية وهذا الذات ليس بمحل لتلك الحرية أصلا فإضافتها إليه بمنزلة إضافة العتق إلى الحمار فتلغو. ولأن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى تعلق الحكم بالمشار إليه وإذا كان من خلاف جنس المسمى تعلق الحكم بالمسمى فإنه إذا اشترى فصا على أنه ياقوت أحمر فإذا هو ياقوت أصفر ينعقد البيع لوجود المشار إليه ولو ظهر أنه زجاج لا ينعقد لعدم المسمى والذكر والأنثى في بني آدم جنسان مختلفان على ما عرف وقد أشار إلى العبد وسمي أنثى فكانت العبرة للمسمى وهو معدوم ولا يمكن تصحيح الكلام إيجابا ولا إقرارا في المعدوم ولا يمكن أن يجعل البنت مجازا للابن بوجه ألا ترى أنه لا يعتق وإن احتمل أن يكون ولده بأن كان أصغر سنا ولا يلزم عليه إذا قال فقأت عينك وعيناه صحيحتان فإنه لا يلزمه شيء ولا يجعل كناية عن الأرش الذي هو حكم الفقهاء; لأن الفقاء لا يوجب عليه أرشا في حال قيام العين فإنه ضرب حتى ذهب نور العين ووجب الأرش ثم برأت وعاد نورها أو كان قلع سنا فيثبت لم يلزم الجاني شيء فثبت

(2/121)


المستعار لا يزاحم الأصل وذلك مثل قولنا في الأقراء أنها الحيض; لأن القرء للحيض حقيقة وللطهر مجاز من قبل أنه مأخوذ من الجمع وهو معنى حقيقة
ـــــــ
أن الجناية وإن تحققت لم يوجب أرشا حال عدم أثرها في المجني عليه وإذا كان كذلك لم يستقم كناية عنه فعلى هذا الطريق يدفع النقوض والله أعلم.
قوله "ومن حكم هذا الباب" أي باب الحقيقة والمجاز أو من حكم هذا النوع أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز يعني إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ لحقيقته إلى أن يدل الدليل على كونه مجازا كقوله رأيت اليوم حمارا أو استقبلني أسد في الطريق لا يحمل على البليد والشجاع إلا بقرينة زائدة فإن لم يظهر فاللفظ للبهيمة والسبع ولا يكون مجملا. ومن الناس من زعم أنه يصير مجملا يجب الوقف فيه; لأنه إذا استعمل فيهما وأمكن أن يراد به المجاز كما أمكن إرادة الحقيقة لم يكن حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر لتساويهما في الاستعمال ولا مزية للحقيقة في هذا الموضع فصار بمنزلة الاسم المشترك ألا ترى أن المجاز الذي قد غلب عليه العرف والاستعمال أولى بإطلاق اللفظ من الحقيقة فعلم أن كونه حقيقة لا يؤثر في كونه أولى لحمل اللفظ عليه وإذا حمل عند الإطلاق على الغالب حقيقة كان أو مجازا وجب أن لا يكون حال التساوي لأحدهما مزية على الآخر. والصحيح ما ذهب إليه العامة; لأن الواضع إنما وضع اللفظ للمعنى ليكتفي به في الدلالة عليه فصار كأنه قال إذا سمعتم أني تكلمت بهذا اللفظ فاعلموا أني عنيت به هذا المعنى فمن تكلم بلغته وجب أن يريد به ذلك المعنى فوجب حمله عند الإطلاق عليه ولأنا نجد بالضرورة أن مبادرة الذهن إلى فهم الحقيقة أقوى من مبادرته إلى فهم المجاز وذلك يدل على صحة ما قلنا. وقولهم هما في الاستعمال سواء فاسد; لأن مجرد الاستعمال للحقيقة والمجاز لا يفهم إلا بقرينة تنضم إليه فأنى يتساويان وإذا لم يتساويا كان المعنى الأصلي أولى باللفظ من المعنى العارض عند عدم دليل يصرفه إليه.
قوله "وذلك" أي نظير هذا الأصل قولنا في الأقراء المذكورة في النص إنها الحيض لا الأطهار. وإنما ذكر لفظ الأقراء دون القروء المذكور في النص إشارة إلى أن المراد من القروء الذي هو جمع كثرة جمع القلة. قوله "لأن القرء للحيضة حقيقة وللطهر مجاز" اعلم أنه لا خلاف أن القرء استعمل في الحيض والطهر لغة وشرعا وقال عليه السلام لفاطمة بنت حبيش: "دعي الصلاة أيام أقرائك" يعني أيام حيضك وقال: "إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها في كل قرء تطليقة" يعني الطهر وقال الشاعر:

(2/122)


هذه العبارة لغة وذلك صفة الدم المجتمع فأما الطهر فإنما وصف به بالمجاورة مجازا ولأن معنى القرء الانتقال يقال قرأ النجم إذا انتقل والانتقال بالحيض لا بالطهر فصارت الحقيقة أولى وكذلك العقد لما ينعقد حقيقة وللغرم مجاز
ـــــــ
يا رب مولى حاسد مباغض ... على ذي ضغن وضب فارض
له قروء كقروء الحائض
وقال الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها غريم غرائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأراد به الطهر; لأن الطهر هو الذي يضيع في زمان غيبة الزوج وأما الحيض فضائع في الأحوال كلها ولكن الاشتباه والخلاف في أن الاستعمالين بطريق الحقيقة أو أحدهما بطريق الحقيقة والآخر بطريق المجاز فبالنظر إلى نفس الاستعمال يجب أن يكون كلاهما بطريق الحقيقة; لأن الأصل في مطلق الاستعمال هو الحقيقة والاستعمال في المجاز لا يكون بدون قرينة فيلزم من هذا أن يكون الاسم مشتركا وهو الذي ذهب إليه عامة العلماء واختاره الشيخ في أول الكتاب حيث ذكره في نظائر المشترك
وبالنظر إلى أصل الاشتقاق يجب أن يكون في الحيض بطريق الحقيقة وفي الطهر بطريق المجاز وهو الذي اختاره بعض مشايخنا وأشار إليه الشيخ ههنا بقوله من قبل أنه مأخوذ من كذا يعني هذا الوجه يقتضي كونه حقيقة في الحيض مجازا في الطهر وإن كان الاشتراك هو المختار فيه عندي فبهذا عرف أن المذكور هنا لا يناقض المذكور في أول الكتاب. ثم ذكر للاشتقاق وجهين أحدهما أن أصل هذا التركيب يدل على الجمع يقال قرأت الشيء قرآنا أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض ويقال ما قرأت هذه الناقة سلا قط وما قرأت جنينا أي لم تضم رحمها على ولد كذا في الصحاح ومنه قول الشاعر:
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وحقيقة الاجتماع في الدم; لأن الحيض اسم لدم مجتمع في نفسه فإن نفس الدم لا يكون حيضا حتى تدوم فأما الطهر فليس بشيء مجتمع ولكنه حال اجتماع دم الحيض في الرحم فإنه يجتمع في زمان الطهر ثم يدر فكان الاسم للدم المجتمع في نفسه حقيقة ولزمان اجتماع الدم مجازا باعتبار المجاورة فعند الإطلاق كان حمله على الحيض أولى والضمير في به راجع إلى القرء وهذا إنما يستقيم إذا ثبت أن القرء بمعنى المفعول فأما إذا

(2/123)


وكذلك النكاح للجمع في لغة العرب على ما عرف والاجتماع في الوطء ويسمى العقد به مجازا; لأنه سببه حتى يسمى الوطء جماعا فكانت الحقيقة
ـــــــ
كان بمعنى الفاعل فالأمر على العكس; لأن زمان الطهر هو الجامع للدم فكان الطهر أحق بهذا الاسم وكان إطلاقه على الحيض بطريق المجاز للمجاورة والثاني أن هذا التركيب يدل على الانتقال أيضا يقال قرأ النجم إذا انتقل وهذا المعنى وإن كان موجودا في الطهر والحيض; لأن المرأة تنتقل عن الطهر إلى الحيض وعن الحيض إلى الطهر غير أن الطهر أصل والحيض عارض فحقيقة الانتقال تكون بالحيض لا بالطهر إذ لولا الحيض لما وجد الانتقال فيكون الاسم للحيض حقيقة وللطهر مجازا للمجاورة أيضا; لأن الطهر مجاور للحيض فكانت الحقيقة أولى
وذكر الإمام البرغري أن الطهر لا يأخذ اسم القرء إلا بمجاورة الدم فإن كل طهر لا ينطلق عليه اسم القرء وإنما ينطلق على الطهر المتخلل بين الحيضتين فالطهر أحد اسم القرء لأجل الدم, والدم يستحقه لنفسه فكان جعله اسما للدم أولى. قال ولأن الحيض أول المنتقل إليه وأول المنتقل عنه; لأن الطهر الأصلي لا يسمى قرءا وإنما القرء هو الحيض والطهر الذي بعده فيثبت الانتقال أولا إلى الحيض ثم منه إلى الطهر فاستحق الاسم قبل الطهر فكان أولى بالأصالة.
قوله "وكذلك العقد" إلى آخره لا كفارة في اليمين الغموس عندنا وقال الشافعي يجب فيها الكفارة لقوله تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} "المائدة 89"والغموس معقودة; لأن المراد من العقد المذكور عقد القلب وهو قصده, ولهذا سميت العزيمة عقيدة, ألا ترى أن ما يقابله وهو اللغو ما جرى على اللسان من غير قصد وعندنا العقد هو ربط اللفظ باللفظ لإيجاب حكم, نحو ربط لفظ اليمين بالخبر المضاف إليه لإيجاب الصدق منه وتحقيقه وربط البيع بالشراء لإيجاب الملك وهذا أقرب إلى الحقيقة; لأن أصله عقد الحبل وهو شد بعضه ببعض وضده الحل ثم استعير للألفاظ التي عقد بعضها ببعض لإيجاب حكم ثم استعير لما يكون سببا لهذا الربط وهو عزيمة القلب فصار عقد اللفظ أقرب إلى الحقيقة بدرجة فكان الحمل عليه أحق كذا في التقويم وغيره فكان معنى قوله لما ينعقد حقيقة أنه أقرب إلى الحقيقة أو المراد منه الحقيقة الشرعية
قوله "وكذلك النكاح" لفظ النكاح قد استعمل في الوطء كقوله عليه السلام: "ناكح اليد ملعون" وكقول الشاعر:

(2/124)


أولى وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في
ـــــــ
إذا سقى الله أرضا صوب غادية ... فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم ... والناكحين بشطأي دجلة البقرا
وقول الآخر:
يحب المديح أبو خالد ... ويهرب من صلة المادح
كبكر تحب لذيذ النكاح ... وتهرب من صولة الناكح
وقد استعمل في العقد أيضا كقوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} "النساء:3". وقوله عليه السلام: "تناكحوا توالدوا تكثروا" ويقال كنا في نكاح فلان إلا أن استعماله في الوطء بطريق الحقيقة; لأنه اسم معنوي مأخوذ من الضم والجمع يقال انكح الصبر أي التزمه وضمه إليك ويقال في المثل أنكحنا الفري فسنرى أي جمعنا بين العير والحمار فسنرى ما يحدث كذا قيل وقال أبو الطيب:
أنكحت ضم صفاها جحف يعمله ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
أي ألزمت وضممت ومعنى الضم والجمع إنما يتحقق حقيقة في الوطء بما يحصل من الاتحاد بين الذاتين ولذلك سمي جماعا وفي العقد بطريق المجاز; لأنه سبب يتوصل به إلى ذلك الضم, أو لأن فيه ضما حكميا فكانت الحقيقة أولى عند الإطلاق. وبهذا تبين أن حمل قوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} "النساء:22" على الوطء كما حمله بعض مشايخنا ليثبت بإطلاقه حرمة المصاهرة بالزنا أولى من حمله على العقد كما قاله الشافعي لما ذكرنا كذا قيل ولكن عامة مشايخنا وجمهور المفسرين على أن النكاح المذكور في الآية هو العقد قال صاحب الكشاف في تفسير سورة الأحزاب لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد; لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ المماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان. وقوله حتى سمي الوطء متعلق بقوله والاجتماع في الوطء
"فإن قيل" فيما ذكرتم من المثالين استعارة اسم المسبب للسبب, وقد أثبتم ذلك
"قلنا" المسبب مخصوص بالسبب في هذين المثالين فكانا في معنى العلة والمعلول فيجوز استعارته للسبب كاستعارة اسم المعلول للعلة وذلك; لأن المسبب في المثال الأول وهو انعقاد اللفظين لا يصير عقدا حقيقة إلا بعزيمة القلب وقصده إذ اللسان

(2/125)


الدعوى في رجل له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال المولى أحد هؤلاء ولدي ثم مات قبل البيان أنه يعتق من كل واحد ثلثه ولا يعتبر ما يصيب كل واحد من قبل أمه حتى يعتق الثالث كله ونصف الثاني كما قال أبو يوسف
ـــــــ
معبر عما في الضمير, ولهذا لا ينعقد بلفظ من ليس له قصد صحيح كالصبي الذي لا يعقل والمجنون وكذا الوطء المقصود مخصوص بالعقد ليس له طريق سواه على ما يقتضيه الشرع والعقل, ووطء الإماء ليس بمقصود وهو باب الاستخدام على ما عرف كذا في بعض الشروح ولا يخلو عن تمحل وتكلف. قوله "ولهذا" أي ولأن المجاز لا يزاحم الحقيقة ولا يعارضها وقال أبو حنيفة إلى آخره أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة بأن كان بين كل ولدين ستة أشهر فصاعدا وليس له نسب معروف فقال المولى في صحته: أحد هؤلاء ولدي ثم مات قبل البيان لم يثبت نسب واحد منهم; لأن المدعي نسبه مجهول, ونسب المجهول لا يمكن إثباته من أحد; لأنه إنما يثبت في المجهول ما يحتمل التعليق بالشرط ليكون متعلقا بخطر البيان والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط. وتعتق الجارية; لأنه أقر لها بأمية الولد ويعتق من كل واحد ثلثه في قول أبي حنيفة رحمه الله; لأن دعوة النسب إذا لم تعمل في إثبات النسب كان إقرارا بالحرية على أصله كما في مسألة الأكبر سنا منه فصار كأنه قال أحدهم حر فيعتق ثلث كل واحد منهم من جميع المال. وقال محمد رحمه الله يعتق من الأكبر ثلثه ومن الأوسط نصفه والأصغر كله; لأن الأصل عنده أن هذه الكلمة متى لم يمكن اعتبارها على حكم الولاد يلغو أصلا ومتى أمكن من وجه نزل العتق على حكم الولاد كأنه ثابت على ما أشار إليه الشيخ بعد هذا في معروف النسب إذا ادعاه المولى أنه ابنه يعتق ولا يقضى بالنسب له; لأن الولاد ههنا ممكن في الجملة فكذا فيما نحن فيه لا يقضى بالنسب للجهالة ولكن الولاد ممكن على ما ادعى فينزل العتق على اعتباره وإذا نزل على اعتباره عتق من الأكبر ثلثه; لأنه إن عناه عتق ولا يعتق إن عنى الآخرين ويعتق نصف الأوسط; لأنه يعتق إن عناه وكذا إن عنى الأكبر; لأنه ولد أم الولد فيعتق بموت المولى كما تعتق أمه ولا تعتق إن عنى الأصغر وأحوال الإصابة حالة واحدة في الروايات الظاهرة بخلاف أحوال الحرمان فلهذا يعتق نصفه. وأما الأصغر فهو حر في جميع الأحوال إلا أن أبا حنيفة رحمه الله لم يعتبر هذه الأحوال; لأنها مبنية على ثبوت النسب ولم يثبت النسب ولأن جهة الحرية مختلفة وحكمها مختلف فإنه إذا كان مقصودا بالدعوة كان حر الأصل وإذا كان المقصود غيره كانت حريته بطريق التبعية للأم بعد موت المولى وبين كونه مقصودا أو تبعا

(2/126)


رحمه الله; لأن إصابته من قبل أمه في مقابلة إصابته من قبل نفسه بمنزلة المجاز من الحقيقة وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى.وإذا كانت الحقيقة متعذرة أو مهجورة صير إلى المجاز بالإجماع لعدم المزاحمة أما المتعذر فمثل الرجل يحلف لا يأكل من هذه النخلة أو الكرمة أنه يقع على ما يتخذ منه مجازا بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشاة أو من هذا اللبن أو من هذا الرطب فإنه يقع على عينه; لأن الحقيقة قائمة وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا الدقيق وقع على ما يتخذ منه; لأن الحقيقة متعذرة وكذلك لو حلف لا يشرب من هذا البئر
ـــــــ
منافاة وكذلك بين حرية الأصل وحرية العتق منافاة فلا يمكن اعتبار الجهتين جميعا فلهذا قال يعتق من كل واحد ثلثه كذا في المبسوط والأسرار.
قوله "ولا يعتبر ما يصيب كل واحد" يعني الأوسط والأصغر من قبل أمه لأن إصابته أي إصابة العتق إياه من قبل أمه بمنزلة المجاز من الحقيقة; لأنه ثابت بواسطة ومتوقف عليها توقف المجاز على الحقيقة وما يصيبه من قبل نفسه لا يتوقف على شيء فكان بمنزلة الحقيقة وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في هذه المسألة مثل قول محمد إلا في حرف واحد وهو أنه قال يعتق من الأكبر نصفه; لأن ترددت بين شيئين فقط إما أن يكون ثابت النسب من المولى فيكون حرا كله أو لا يكون ثابت النسب منه فلا يعتق شيء منه فلهذا عتق نصفه وسعى في نصف قيمته.
قوله "متعذرة أو مهجورة" المتعذرة ما لا يتوصل إليه إلا بمشقة كأكل النخلة, والمهجورة ما يتيسر إليه الوصول ولكن الناس تركوه كوضع القدم وقيل في الفرق بينهما أن المتعذر لا يتعلق به حكم وإن تحقق والمهجور قد يثبت به الحكم إذا صار فردا من أفراد المجاز.
قوله "لا يأكل من هذه النخلة" إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فيمينه تقع على عينها إن كانت مما يؤكل كالريباس وقصب السكر الرطب وإن لم تكن فعلى ثمرتها إن كانت لها ثمرة كالنخلة والكرمة وإن لم يكن لها ثمرة فعلى ثمنها كالخلاف ونحوه وهذا إذا لم يكن له نية فأما إذا نوى شيئا فيمينه على ما نوى إن كان اللفظ يحتمل ذلك كذا نقل عن العلامة شمس الأئمة الكردري رحمه الله.
قوله "لا يشرب من هذا البئر" إذا حلف لا يشرب من هذا البئر وهي مليء فيمينه تقع على الكرع عند أبي حنيفة رحمه الله لا على الاغتراف وعندهما تقع على الاغتراف كذا في بعض شروح الجامع وإن لم يكن ملئ فيمينه على الاغتراف لا على الكرع

(2/127)


لم يقع على الكرع وهو حقيقته لما قلنا واختلفوا فيما إذا أكل عين الدقيق أو تكلف فكرع من البئر فقيل لما كان متعذرا لم يكن مرادا فلا يحنث وقيل بل الحقيقة لا تسقط بحال فيحنث والأول أشبه; لأن أصحابنا قالوا فيمن حلف لا ينكح فلانة وهي أجنبية أنه يقع على العقد فإن زنى بها لم يحنث فأسقطوا حقيقته وأما المهجورة فمثل من حلف لا يضع قدمه في دار فلان أن الحقيقة مهجورة والمجاز هو المتعارف وهو الدخول فحنث كيف دخل ومثاله أن التوكيل بالخصومة صرف إلى جواب الخصم مجازا فيتناول الإنكار والإقرار
ـــــــ
بالاتفاق لتعذر الحقيقة فإن تكلف فكرع منها قيل يحنث; لأن الحقيقة إذا صارت موجودة لم تبق متعذرة فكان اعتبارها أولى من اعتبار المجاز ولأنها إذا صارت موجودة وانتفى التعذر كانت داخلة في عموم المجاز هو شرب الماء المجاور للبئر كما في مسألة الفرات عندهما وقيل لا يحنث; لأن المجاز لما صار مرادا لتعذر الحقيقة سقط اعتبارها لامتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز بخلاف قوله لا يشرب من الفرات عندهما; لأن عموم المجاز وهو إرادة الماء المجاور للفرات تناول الحقيقة وهي الكرع فأما مسألة البئر فمجازها وهو إرادة الاغتراف لا يتناول الحقيقة فلا يحنث بالكرع. وإنما جعل كلامه في مسألة الفرات عبارة عن الماء المجاور له; لأن الحقيقة وهي الكرع مستعملة فيه عرفا وشرعا كالاغتراف فجعل عبارة عن الماء المجاور للفرات ليتناول الحقيقة والمجاز فأما مسألة البئر فالحقيقة فيها متعذرة غير مستعملة العرف فيها الاغتراف لا غير فجعل كلامه عبارة عنه فلم يدخل فيه الكرع قوله "حلف أن لا ينكح" إذا قال لأمته أو لمنكوحته إن نكحتك فكذا وقعت يمينه على الوطء لما مر أن النكاح للوطء حقيقة وللعقد مجاز فإن أعتق الأمة ثم تزوجها أو أبان المنكوحة ثم تزوجها لا يحنث وإن كانت المرأة أجنبية والمسألة بحالها وقعت يمينه على العقد; لأن الحقيقة مهجورة شرعا وعقلا فإن زنى بهذه الأجنبية لم يحنث; لأن اليمين لم يتناوله لتعذره شرعا فكذا في هذه المسألة; لأن المهجور عادة كالمهجور شرعا.
قوله "التوكيل بالخصومة" إلى آخره إذا وكل رجلا بالخصومة مطلقا فأقر على موكله في القياس لا يجوز إقراره وهو قول أبي يوسف الأول وزفر والشافعي; لأنه وكله بالخصومة وهي المنازعة والمشاجرة والإقرار مسالمة وموافقة فكان ضد ما أمر به والتوكيل بالشيء لا يتضمن ضده. وفي الاستحسان يجوز إقراره وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله; لأنا تركنا هذه الحقيقة وجعلنا كلامه توكيلا بالجواب مجازا إطلاقا لاسم السبب على

(2/128)


بإطلاقه; لأن الحقيقة مهجورة شرعا والمهجور شرعا مثل المهجور عادة ألا ترى أن من حلف لا يتكلم هذا الصبي لم يتقيد بصباه; لأن هجران الصبي مهجور
ـــــــ
المسبب; لأن الخصومة سبب الجواب أو إطلاقا لاسم الجزء على الكل; لأن الإنكار الذي ينشأ منه الخصومة بعض الجواب فيدخل في عمومه الإنكار والإقرار
وإنما حملناه على هذا; لأن التوكيل إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه والذي يتيقن به أنه مملوك للموكل الجواب لا الإنكار فإنه إذا عرف المدعي محقا لا يملك الإنكار شرعا وتوكيله بما لا يملك لا يجوز شرعا والديانة تمنعه من قصد ذلك فكان مهجورا شرعا والمهجور شرعا كالمهجور عادة فلهذا حملناه على هذا النوع من المجاز كالعبد المشترك بين اثنين ببيع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده بهذا الطريق غير أن عند أبي يوسف في قوله الآخر يصح إقراره في مجلس القاضي وغير مجلس القاضي; لأن الموكل أقامه مقام نفسه مطلقا فيملك ما كان الموكل مالكا له والموكل يملك الإقرار في مجلس القضاء وغير مجلس القضاء فكذا الوكيل وعندهما يملك الإقرار في مجلس القاضي دون غيره; لأن الجواب إنما يسمى خصومة مجازا إذا حصل في مجلس القضاء; لأنه لما ترتب على خصومة الآخر إياه يسمى باسمه كما قال الله جل جلاله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "الشوري:40" والمجازاة لا يكون سيئة ولأن مجلس القضاء مجلس الخصومة فما يجري فيه يسمى خصومة مجازا وهذا لا يوجد في غير مجلس القضاء. وإلى قولهما أشار الشيخ بقوله صرف إلى جواب الخصم مجازا; لأن جواب الخصم لا يتحقق إلا في مجلس الخصومة على ما ذكرنا.
قوله "لم يتقيد بزمان صباه" إذا حلف لا يكلم هذا الصبي لا يتقيد بزمان صباه حتى لو كلمه بعد ما كبر يحنث والأصل فيه أن اليمين متى عقدت على شيء بوصف فإن صلح داعيا إلى اليمين يتقيد به سواء كان منكرا أو معرفا احتراز عن الإلغاء كما إذا حلف لا يأكل رطبا أو هذا الرطب يتقيد بالوصف حتى لو أكله بعدما صار تمرا لم يحنث; لأن هذا الوصف يصلح داعيا إلى اليمين لن يضره أكل الرطب وإن لم يصلح داعيا إلى اليمين فإن كان المحلوف عليه منكرا يتقيد به أيضا; لأن الوصف إذ ذاك يصير مقصودا باليمين; لأن المعرف للمحلوف عليه ولو ترك اعتباره بطلت اليمين فيجب اعتباره ضرورة كمن حلف لا يأكل لحم جمل فأكل لحم كبش لا يحنث وإن كان المحلوف عليه معرفا بالإشارة لا يتقيد اليمين بالوصف كما إذا حلف لا يأكل لحم هذا الحمل فأكله بعدما صار كبشا يحنث; لأن الوصف للتقييد أو التعريف ولا يصلح للتقييد هنا; لأنه لا يصلح داعيا إلى اليمين; لأن من امتنع عن أكل لحم الحمل لضرر يلحقه يكون أشد امتناعا من

(2/129)


شرعا وعلى هذه الجملة يخرج قولهم في رجل قال لعبده - ومثله يولد لمثله وهو معروف النسب من غيره هذا ابني أنه يعتق عملا بحقيقته دون مجازه; لأن ذلك ممكن فالنسب قد يثبت من زيد ويشتهر من عمرو فيكون المقر مصدقا في حق نفسه وإليه أشار محمد رحمه الله في الدعوى والعتاق أن الأم تصير أم
ـــــــ
أكل لحم الكبش ولا للتعريف أيضا لحصول التعريف بمعرف أقوى منه وهو الإشارة إذ هي فوق الوصف في التعريف لكونها بمنزلة وضع اليد على المشار إليه فيحمل على المجاز وهو أن يجعل عبارة عن الذات كأنه قال لا آكل لحم هذا الحيوان. وإذا عرفت هذا كان ينبغي أن يتقيد اليمين في قوله لا أكلم هذا الصبي بوصف الصبا; لأنه يصلح داعيا إلى الحلف بترك الكلام مع الصبيان لسفاهتهم وقلة عقولهم وسوء آدابهم كوصف الرطوبة, ولهذا يصلح داعيا إلى اليمين في قوله لا أكلم صبيا إلا أن هجران الصبي بترك الكلام معه حرام مهجور شرعا لقوله عليه السلام: "من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا1" وفي ترك الكلام ترك الترحم فكان بمنزلة المهجور عادة فيترك الحقيقة ويصار إلى المجاز ويجعل كأنه قال لا أكلم هذا الذات بطريق إطلاق اسم الكل على البعض فإذا كلمه بعد زوال الصفة يحنث لبقاء الذات بخلاف قوله لا أكلم صبيا حيث يتقيد بالصبا وإن كان حراما مهجورا شرعا; لأنه صار مقصودا بالحلف لكونه هو المعرف للمحلوف عليه كما بينا فيجب تقييد اليمين به وإن كان حراما كمن حلف ليشربن اليوم خمرا أو ليسرقن الليلة ينعقد اليمين وإن كان حراما لصيرورة الشرب والسرقة مقصودين باليمين فيحنث إن لم يشرب أو لم يسرق كذا هنا.
قوله "وعلى هذه الجملة" أي الجملة التي ذكرنا أنه يعمل فيها بالحقيقة عند الإمكان لا بالمجاز يخرج قول أصحابنا في المسألة المذكورة أن إثبات العتق فيها بطريق الحقيقة لا بطريق أن اللفظ صار مجازا للتحرير. وذلك; لأن العمل بجهة الحقيقة ممكن فإن النسب قد يثبت من زيد بأن كان الفراش له في الباطن بأن كانت منكوحته أو أمته حقيقة ولا يمكنه الإثبات لعارض ويشتهر من عمرو لوجود ظاهر الدليل فلا يصدق المقر في إبطال حق الغير ولكن يصدق فيما يرجع إلى حقه ويجعل كأن النسب ثابت منه فيثبت أحكام النسب في حقه باعتبار الحقيقة لا باعتبار المجاز والدليل عليه أن الجارية تصير أم ولد له ولو صار مجازا لما صارت أم ولد له كما لو قال له أنت حر بل إنما يعتق لاحتمال
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البر والصلة حديث رقم 1919 وأبو داود في الأدب حديث رقم 4943 والإمام أحمد في المسند 1/257

(2/130)


ولد له قال في الجامع في عبد له ابن ولابنه ابنان فقال المولى في صحته أحد هؤلاء ولدي ثم مات وكلهم يصلح ابنا له أنه يعتق من الأول ربعه ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه وعلى قياس ذلك الجواب لو كان لابن العبد ابن واحد وكلهم يولد لمثله أنه يعتق من الأول ثلثه ومن الثاني نصفه
ـــــــ
أنه مخلوق من مائه وقد ذكر محمد ما يدل عليه وهو ما ذكرنا أن الرجل إذا كانت له جارية فولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال أحد هؤلاء ولدي ثم مات من غير بيان يعتق من الأول الثلث ومن الثاني النصف وكل الآخر ولو كان العتق في قوله هذا ابني بطريق المجاز لما عتق من كل واحد منهم إلا الثلث كما لو أنشأ العتق في أحدهم ومات من غير بيان ولما كان العتق منهم على الاختلاف علم أن ثبوت العتق باحتمال النسب وإنما قيد بقوله في صحته ليستقيم الجواب المذكور فإنه إن كان هذا الكلام في مرض الموت ولا مال له غير هؤلاء ولم يجز الورثة وقيمتهم على السواء يجعل كل رقبة ستة أسهم لحاجتنا إلى حساب له نصف وثلث وأقله ستة ثم يجمع سهام العتق وهي سهمان وثلاثة وستة فتبلغ أحد عشر سهما وقد ضاق ثلث المال وهو ستة عنه فيجعل كل رقبة أحد عشر سهما فيعتق من الأكبر سهمان ويسعى في تسعة ومن الأوسط ثلاثة أسهم ويسعى في ثمانية ومن الأصغر ستة أسهم ويسعى في خمسة ليستقيم الثلث والثلثان.
قوله "وقال في الجامع كذا" رجل له عبد ولعبده ابن وللابن ابنان في بطنين مختلفين فقال المولى في صحته أحد هؤلاء ولدي وكل واحد منهم يولد مثله لمثله ثم مات قبل البيان فإن من الأول يعتق منه ربعه ويسعى في الباقي ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه ولو كانا من بطن واحد يعتق كل واحد منهما بكماله; لأن أحد التوأمين لا ينفصل عن الآخر في النسب أما النسب فلا يثبت; لأنه لو ثبت في المجهول لبقي معلقا بالبيان وتعليق النسب بالشرط باطل; لأنه إخبار عن أمر كان والتعليق في أمر معدوم يحتمل الوجود أما العتق فقد قيل أن الذي ذكره قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن يجعل كلمة النسب عبارة عن التحرير لما تعذر إثبات النسب فيعتق من كل واحد ربعه ولا يعتبر جهة النسب كما في مسألة كتاب الدعوى يعتق من كل واحد ثلثه ولا يعتبر جهة النسب. والصواب أن هذه المسألة بلا خلاف; لأن جهة النسب إذا احتملت الصحة لم يجعل لغوا عندهم وإن تعذر العمل بها لما بينا أن من قال لعبده وهو معروف النسب هذا ابني أنه يعتق وتصير أمه أم ولد له لاحتمال النسب منه فكذلك ههنا وليس هذا كمسألة كتاب الدعوى; لأن هناك يثبت العتق لهم على احتمال النسب على السواء وإنما التفاوت فيما يثبت بطريق السراية من الأم وذلك بمنزلة المجاز

(2/131)


ومن الثالث كله لاحتمال النسب ولو كان تحرير العتق من كل واحد ثلثه وأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أنه إقرار بالحرية
ـــــــ
من الحقيقة فلا يجمع بينهما فأما العتق ههنا فلا يثبت بطريق السراية; لأن الأب لو كان حرا لا يلزم منه حرية الولد وإنما يثبت بجهة النسب لا غير; لأن الأول لو كان ابنه لكان أولاده حفدة له وهم في ملكه فيعتقون عليه; لأن من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه فلذلك وجب الجمع ويعتبر الأحوال. وإذا ثبت هذا قلنا إن الأول يعتق في حال ولا يعتق في ثلاثة أحوال فيعتق ربعه وأما الثاني فيعتق في حالين بأن يراد نفسه أو أبوه ولا يعتق في حالين بأن يراد ابنه الأكبر أو الأصغر وأحوال الإصابة حالة واحدة فوجب أن يعتق ثلثه وأحد الآخرين حر بيقين بأن يراد نفسه أو أبوه أو جده وأما الآخر فإن أريد به نفسه أو أبوه أو جده فكذلك وإن أريد به أخوه لم يعتق وأحوال الإصابة حالة واحدة فيعتق في حال ولا يعتق في حال فيعتق نصفه فصار لهما رقبة ونصف فيوزع عليهما; لأنه يحتمل أن يكون كل واحد هو الحر كله ويحتمل أن يكون هو الحر نصفه فيكون لكل واحد ثلاثة أرباعه وما قلنا إن أحوال الإصابة حالة واحدة رواية الجامع وفي الزيادات اعتبر أحوال الإصابة كما اعتبر أحوال الحرمان ووجه ذلك أن الرق لا يثبت أصله إلا بسبب واحد وهو القهر أما العتق فله أسباب متعددة مثل التنجيز والتعليق والكتابة والاستيلاد والتدبير فإذا اعتبر أحوال ما اتحد سببه فلأن يعتبر أحوال ما تعدد سببه أولى. وجه المذكور في الجامع وهو الأصح أن ازدحام الأسباب في الإصابة لا يتحقق; لأن الشيء إذا أصيب بسبب استحال حصوله بسبب آخر فأما الحرمان فيقبل الازدحام ألا ترى أن من أصاب شيئا بالشراء لم يصبه بالهبة والإرث ومن حرم شيئا بعدم الشراء فقد حرمه سائر الأسباب فلذلك وجب الجمع بين أحوال الحرمان دون الإصابة. وقوله في الكتاب في صحته احتراز عما إذا قال ذلك في مرضه ولم يكن له مال غيرهم ولم يجز الورثة حيث عتقوا من الثلث بحساب حقهم وذلك بأن يجعل كل رقبة اثني عشر لحاجتنا إلى حساب له ثلث وربع وأدناه اثنا عشر حق الأول في ربعه وهو ثلاثة أسهم وحق الثاني في ثلثه وذلك أربعة وحق كل واحد من الآخرين في ثلاثة أرباعه وهي تسعة فصارت سهام الوصية خمسة وعشرين وثلث المال ستة عشر فقد ضاق الثلث عن سهام الوصايا فنجعل الثلث خمسة وعشرين والمال خمسة وسبعين فنحتاج إلى معرفة الرقبة من الثلث ليظهر لنا مقدار ما يعتق عنها ومقدار ما يسعى فيه فنقول إن ثلث المال رقبة وثلث الرقبة منه ثلاثة أرباعه وليس لخمسة وعشرين ربع صحيح فنضربه في أربعة فيصير مائة والمال ثلاثمائة والرقبة ثلاثة أرباع المائة وهي خمسة وسبعون كان حق الأول في ثلثه فضربناها في أربعة فبلغ اثني عشر وصار حق الثاني ستة

(2/132)


فيجب أن يصير مقرا بحق الأم أيضا; لأنه يحتمل الإقرار والثاني أنه تحرير مبتدأ من قبل أن الإقرار بالنسب لو ثبت ثبت تحريرا مبتدأ حتى قلنا في كتاب الدعوى في رجلين ورثا عبدا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه كأنه أعتقه; لأن ثبوت النسب مضاف إلى خبره; لأن المخبر به قائم بخبره فإذا كان كذلك جعل مجازا عن التحرير وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى; لأنه ليس في وسع البشر إثبات أمومية الولد قولا; لأنها من حكم الفعل فلم يثبت
ـــــــ
عشر وصار حق كل واحد من الآخرين ستة وثلاثين فذلك مائة وتسعون في الباقي فحصل الثلث والثلثان كذا في شرح الجامع المصنف رحمه الله.
قوله "وأما في الأكبر سنا منه" يعني مهما أمكن في العمل بحقيقة النسب يعمل بها في قوله هذا ابني ويجعل العتق ثابتا بالنسب لا أن يجعل مجازا في الحرية فيثبت أمومية الولد به, فأما إذا لم يمكن كما في الأكبر سنا منه فأبو حنيفة رحمه الله يجعله مجازا في الحرية. وذلك بطريقين: أحدهما أن يجعل مجازا في الإقرار بالحرية كما بينا فيحصل مقرا بأن أم الغلام أم ولد له; لأن حق الحرية للأم حكم النسب كما أن حقيقة الحرية للولد حكمه فكما جعل قوله هذا ابني مجازا للإقرار بحقيقة الحرية يجعل مجازا للإقرار بحق الحرية للأم وصار كأنه قال عتق هذا علي من حين ملكته, وأمه أم ولدي والثاني أن قوله هذا ابني بمنزلة تحرير مبتدأ كأنه قال هو حر; لأنه ذكر كلاما هو سبب للحرية في ملكه فيصير به معتقا ابتداء ألا ترى أنه لو ورث رجلان عبدا مجهول النسب ثم ادعى أحدهما أنه ابنه غرم لشريكه إن كان موسرا كأنه أعتقه ولو لم يكن تحريرا مبتدأ لما غرم; لأن الشريكين إذا ورثا قريب أحدهما لا يضمن وارث القريب لعدم الصنع منه وعلى هذا الطريق لا يصير أم الغلام أم ولد له; لأنه ليس لتحرير الغلام ابتداء تأثير في إيجاب أمومية الولد لأمه ولا يمكن أن يجعل مجازا في إنشاء أمومية الولد; لأنه لا يمكن إثباتها بطريق الإنشاء قولا بأن يقول جعلتك أم ولد أو أنشأت فيك أمومية الولد وإنما هي من حكم الفعل الذي هو الاستيلاد. وقوله; لأن ثبوت النسب متصل بقوله تحريرا مبتدأ يعني ثبوت النسب مضاف إلى خبره; لأنه لم يكن ثابتا قبل خبره فيقصر على وقت الخبر; لأن المخبر به في حق علم السامع قائم أي ثابت بخبره فإذا كان كذلك أي إذا كان ثبوت النسب مضافا إلى خبره جعل هذا الخبر مجازا عن التحرير أي في التحرير أو عبارة عنه أو كناية عنه. والطريق الأول أصح; لأنه ذكر في كتاب الإكراه إذا أكره أن يقول هذا ابني لا يعتق عليه والإكراه يمنع صحة الإقرار بالعتق لا صحة التحرير ابتداء ووجوب الضمان في مسألة الدعوى بطريق الإقرار أيضا; لأنه موجب للضمان كالإنشاء ألا ترى أنه لو قال عتق

(2/133)


بدونه.وقد يتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا; لأن الكلام وضع لمعناه فيبطل إذا استحال حكمه ومعناه وذلك أن يقول الرجل لامرأته هذه بنتي وهي معروفة النسب وتولد لمثله أو أكبر سنا منه فإن الحرمة لا تقع به أبدا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله; لأن الحقيقة في الأكبر سنا منه متعذر وفي
ـــــــ
علي من حين ملكته كان ضامنا لشريكه أيضا فعلم أن الضمان غير مختص بالإنشاء كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وقد يتعذر" أي وقد يمتنع العمل بالحقيقة والمجاز في بعض الألفاظ فيلغو ضرورة وذلك إذا كان إثبات موجب اللفظ في المحل الذي استعمل فيه اللفظ ممتنعا; لأن الكلام وضع لإفادة المعنى فإذا تعذر إثبات معناه الموضوع له يجعل مجازا وكناية عن حكمه أعني لازم معناه الثابت به تصحيحا له فإذا تعذر إثبات ذلك أيضا يلغو ضرورة مثال ذلك أن يقول الرجل لامرأته, ومثلها لا يصلح بنتا له أو تصلح وهي معروفة النسب هذه بنتي لا تقع الفرقة به أبدا يعني سواء أصر على هذا القول أو أكذب نفسه بأن قال غلطت أو أوهمت إلا أنه إذا أصر على ذلك يفرق القاضي بينهما; لا لأن الحرمة ثابتة بهذا اللفظ بل; لأنه إذا أصر عليه صار ظالما يمنع حقها عن الجماع; لأنه يمتنع عن وطئها عند الإصرار وصارت هي كالمعلقة فيجب دفعه في التفريق كما في الجب والعنة.
ووافقنا الشافعي رحمه الله في التي لا تصلح بنتا له وقال في التي تصلح بنتا له أنها تحرم; لأن ملك النكاح أضعف من ملك اليمين والولاد أنفى لهذا الملك منه لملك اليمين ثم ملك اليمين ينتفي بهذه اللفظ ملكه فهذا أولى وهذا لأن موجبه الحرمة وإليه إثبات الحرمة فيؤخذ بموجب قوله فيما أمكن ولنا أن العمل بحقيقة كلامه في الفصلين أعني في التي تصلح بنتا له والتي لا تصلح بنتا له متعذر أما في الفصل الثاني فظاهر وأما في الفصل الأول فلأن الحقيقة إما أن جعلت ثابتة على الإطلاق بأن جعل النسب ثابتا منه بالنسبة إلى جميع الناس أو جعلت ثابتة في حق المقر لا غير ليظهر أثره في التحريم كما قلنا في قوله لعبده الذي يولد لمثله وهو معروف النسب هذا ابني ليظهر أثره في العتق لا وجه إلى الأول; لأنه أي لأن النسب مستحق من جانب من اشتهر نسبا منه فلا يؤثر إقراره في إبطال حق الغير ولا إلى الثاني; لأن هذا الكلام لو صح معناه أي لو ثبت موجبه وهو البنتية كان التحريم الثابت به منافيا لملك النكاح وليس إلى العبد إثبات ذلك إنما إليه إثبات حرمة هي من واجب النكاح دون تبديل حال المحل وهو المراد من قوله فلم يصلح حقا من حقوق الملك أي التحريم المنافي لا يصلح حقا من

(2/134)


الأصغر سنا تعذر إثبات الحقيقة مطلقا; لأنه مستحق ممن اشتهر منه نسبها وفي حق المقر معتذر أيضا في حكم التحريم; لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصلح حقا من حقوق الملك وكذلك العمل بالمجاز وهو التحريم في الفصلين متعذر لهذا العذر الذي أبليناه فلا يمكن أن يجعل النسب ثابتا في حق المقر بناء على إقراره; لأن الرجوع عنه صحيح والقاضي كذبه ههنا فقام ذلك مقام رجوعه بخلاف العتاق; لأن الرجوع عنه لا يصح.ٍومن حكم
ـــــــ
من حقوق الملك; لأن الشيء لا يثبت ما ينافيه فلا يكون داخلا تحت ولايته بثبوت ملك النكاح له. ولأن حل المحلية ثبت شرعا كرامة لها, ولهذا يزداد بحريتها وينتقص برقها فيكون الإقرار بالبنتية في حق الحل إقرارا عليها فيكون باطلا.
وكذا العمل بمجازه وهو أن يجعل كناية عن التحريم في الأكبر سنا منه على أصل أبي حنيفة رحمه الله وفي الأصغر سنا منه على قول الكل وهو المراد من قوله في الفصلين متعذر أيضا لهذا العذر الذي أبليناه وهو أن التحريم الثابت بهذا الكلام أي التحريم الذي هو من لوازم البنتية مناف لملك النكاح فلم يصلح حقا من حقوقه فلا يجوز أن يستعار هذا الكلام لذلك التحريم; لأن الزوج لا يملك إثباته والتحريم الذي يملك الزوج إثباته وهو التحريم القاطع للحل الثابت بالنكاح ليس من موجبات هذا الكلام ولوازمه فلا يصح استعارته له أيضا فلذلك بطل.
قوله "بخلاف العتق" يعني بخلاف قوله هذا ابني; لأن العمل بحقيقته في الأصغر سنا منه ممكن على ما مر وكذا بمجازه فيه وفي الأكبر سنا منه; لأن البنوة بعد الثبوت موجبها لعتق يقطع الملك كإنشاء العتق, ولهذا تأدت به الكفارة وثبت به الولاء لا عتق ينافي الملك, ولهذا لو اشترى ابنه أو بنته صح الشراء وفي وسعه إثبات عتق يقطع الملك وهو موجب البنوة فيجعل كناية عنه.
وقرر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله ما ذكرناه بهذه العبارة فإن قيل يصير قوله هذه بنتي كناية عن قوله هي علي حرام قلنا أعن حرمة يملك الزوج إثباتها بملك النكاح أو عن حرمة لا يملكها فلا بد أن يقول عن تحريم يملك الزوج إثباته بحق الملك لينفذ منه ويلزمه بقوله فإن تحريما غير مملوك له بحق الملك غير لازم ولا نافذ كما لو أخبر بحرمة في ملك الغير أو أخبر به رجل آخر فقال إنها بنت هذا الزوج والتحريم المملوك للزوج بحق الملك تحريم بعد الملك من حيث قطع الملك لا من حيث إثبات حرمة مؤبدة فالحرمات المؤبدة علقت بأسباب حكمية تثبت قبل ملك المالك غير مملوك

(2/135)


هذا الباب أن الكلام إذا كانت له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف فالحقيقة
ـــــــ
للرجل بملك النكاح واللفظ الذي تكلم به لا يحتمل هذا الفراق الذي قلناه ولا يكون سببا له بحال بل هو سبب لحرمة مؤبدة منافية للنكاح من حيث يثبت لا من حيث تملك فإنا لو توهمناه صادقا لم يكن بينهما نكاح من الأصل ولا تحل له بحال وإذا لم يحتمله لم يصح كناية عنه فلغا صريحه وكفايته جميعا. وقوله أبليناه أي بيناه متعد إلى مفعولين يقال أبليت فلانا عذرا إذا بينته له بيانا وحقيقته جعلته باليا بعذري وعالما بكنهه من بلاه إذا أخبره وجربه وأحد المفعولين ههنا محذوف والتقدير أبليناك إياه
واعلم أن الحكم في مجهولة النسب أيضا ما عرفته في معروفته نص عليه في الأسرار فقيل إذا قال الرجل لامرأة هذه بنتي ويجوز أن يكون كذلك ولها نسب معروف أو ليس لها نسب معروف وقال غلطت أو أخطأت حل له أن يتزوجها. وإن قال ذلك بعد العقد لم يحرم إلا أنه إذا لم يكن لها نسب معروف ودام على قوله فرق بينهما وكذا ذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني في إشارات الأسرار فقال إذا قال لامرأته هذه بنتي وهي مجهولة النسب وتصلح بنتا له ثم قال غلطت لم يفرق بينهما عندنا وهكذا ذكر في المبسوط وذلك; لأن الرجوع عن الإقرار بالنسب صحيح قبل تصديق المقر له إياه كما صح الرجوع عن الإيجاب في العقود قبل وجود القبول فلا يمكن العمل بموجب هذا الإقرار قبل تأكده بالقبول لاحتمال انتقاضه بالرجوع أو بالرد إلا أن الشيخ وضع المسألة في معروفة النسب; لأن تعذر العمل بالحقيقة فيها أظهر وقد أشار الشيخ إلى ما ذكرناه أيضا بقوله ولا يمكن أن يجعل النسب ثابتا إلى آخره على ما ذكر في بعض النسخ وهو في الحقيقة دليل آخر على تعذر العمل بالحقيقة في حق المقر لأن الرجوع عنه صحيح يعني قبل تصديق المقر له وإن كان مجهول النسب والقاضي كذبه ههنا أي في معروفة النسب فقام تكذيب القاضي إياه مقام تكذيبه نفسه وأوضح هذا المعنى في عتاق المبسوط بهذه العبارة إذا قال لامرأته هذه بنتي وهي معروفة النسب من الغير فإنه لا يقع الفرقة بينهما; لأنه صار مكذبا شرعا في حق النسب ولو أكذب نفسه بأن قال غلطت لا يقع الفرقة وإن لم يكن لها نسب معروف فكذلك إذا صار مكذبا في النسب شرعا وفي العتاق لو أكذب المولى نفسه في حق من لا نسب له كان العتق ثابتا فكذلك إذا صار مكذبا شرعا.
قوله "ومن حكم هذا الباب" إذا كانت الحقيقة مستعملة والمجاز غير مستعمل أو كانا مستعملين وكانت الحقيقة أكثر استعمالا أو كانا في الاستعمال على السواء فالعبرة للحقيقة بالاتفاق; لأن الأصل في الكلام هو الحقيقة ولم يوجد ما يعارض هذا الأصل فوجب العمل به وإن كان المجاز أغلب استعمالا فعند أبي حنيفة رحمه الله العبرة

(2/136)


أولى عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله العمل بعموم المجاز أولى وهذا يرجع إلى ما ذكرنا من الأصل أن المجاز عندهما خلف عن الحقيقة في الحكم وفي الحكم للمجاز رجحان; لأنه ينطلق على الحقيقة والمجاز معا فصار مشتملا على حكم الحقيقة فصار أولى ومن أصل أبي حنيفة أنه خلف في التكلم دون الحكم فاعتبر الرجحان في التكلم دون الحكم فصارت الحقيقة أولى مثاله من حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على عينها
ـــــــ
للحقيقة وعندهما العبر للمجاز وهذا أي هذا الاختلاف بناء على اختلافهم في خلفية المجاز فعند هما لما كانت الخلفية باعتبار إثبات الحكم; لأن الحكم هو المقصود دون العبارة كان العمل بعموم المجاز أولى; لأن حكمه راجع على حكم الحقيقة لدخول حكم الحقيقة تحت عمومه وعند أبي حنيفة رحمه الله لما كانت الخلفية في التكلم به لا في الحكم; لأنه تصرف من المتكلم في عبارته من حيث إنه يجعل عبارة قائمة مقام عبارة ثم يثبت الحكم بالمجاز مقصودا لا أنه خلف عن الحكم على ما عرفته لا يثبت المزاحمة بين الأصل والخلف فيجعل اللفظ عاملا في حقيقته عند الإمكان وإنما يصار إلى أعماله بطريق المجاز فيما تعذر إعماله في حقيقته هذا بيان كلام الشيخ وسياقه يدل على أن عندهما إنما يترجح المجاز المتعارف إذا كان عمومه متناولا للحقيقة ولا دلالة فيه على حكمه إذا لم يكن متناولا للحقيقة.
وذكر في شروح الجامع البرهاني ما يدل على ترجحه بكل حال فقيل إن كان المجاز أغلب استعمالا فعندهما العبرة للمجاز; لأن المرجوح بمقابلة الراجح ساقط فكانت هذه الحقيقة كالمهجورة وعند العبرة للحقيقة; لأن العمل بالأصل ممكن فلا يصار إلى المجاز إلا بدليل مرجح وغلبة الاستعمال لا تصلح مرجحة; لأن العلة لا تترجح بالزيادة من جنسها فكان الاستعمال في حد التعارض فبقيت العبرة للحقيقة بخلاف المهجورة; لأنه لا تعارض هناك في الاستعمال فبقيت العبرة للمجاز
ثم اختلفوا في تفسير التعارف قال مشايخ بلخ رحمهم الله المراد به التعارف بالتعامل وقال مشايخ العراق المراد التعارف بالتفاهم وقال مشايخ ما وراء النهر ما قال مشايخ العراق قول أبي حنيفة وما قاله مشايخ بلخ قولهما بدليل ما إذا حلف لا يأكل لحما فأكل لحم آدمي أو خنزير حنث عنده; لأن التفاهم يقع عليه فإنه يسمى لحما ولا يحنث عندهما; لأن التعامل لا يقع عليه; لأن لحمهما لا يؤكل عادة.
قوله "يقع على عينها"; لأن عينها مأكولة عادة فإنها تقلى فيؤكل ويتخذ منها

(2/137)


دون ما يتخذ منها عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا وعندهما يقع على مضمونها على العموم مجازا وكذلك إذا حلف لا يشرب من الفرات يقع على الكرع خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقع على شرب ماء مجاور للفرات وذلك لا ينقطع بالأواني; لأنها دون النهر في الإمساك.
ـــــــ
الكشك والهريسة وقد يؤكل أيضا نيا حبا فإن من اشترى حنطة يمضغها كما هي ليختبر أنها رخوة أم علكة ولما كانت عينها مأكولة ينصرف اليمين إلى الحقيقة دون المجاز كما في العنب والرطب. وعندهما لما كان المتعارف من أكل الحنطة أكل ما في بطنها كما مر بيانه يقع يمينه على مضمونها أي على الأجزاء التي تضمنتها هذه الحنطة للتعارف وكون الحقيقة داخلة في عموم المجاز, وأشار شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح الأيمان الأصل إلى أن قول أبي حنيفة مثل قولهما في أن الحقيقة تترك بالتعارف ولكنه خالفهما في هذه المسألة; لأنه قال التعارف في حنطة غير معينة لا في حنطة بعينها ألا ترى إنك في قولك فلان يأكل الحنطة لا تريد حنطة معينة ولا استغراق جنس الحنطة واللام فيها يفيد تعريفها كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني وإذا لم يوجد التعارف في المعينة لا يترك العمل بالحقيقة; لأن الحقيقة إنما يترك بنية غيرها أو بالعرف ولم يوجد واحد منهما قال وعلى قياس قول أبي حنيفة يجب أن يكون الجواب كما قالا إذا عقد اليمين على حنطة بغير عينها بأن حلف لا يأكل حنطة وفي التهذيب لمحيي السنة رحمه الله ولو حلف على الحنطة فله أحوال ثلاث أحدها أن يشير إلى حنطة فيقول لا آكل هذه من غير أن يذكر لفظ الحنطة فيحنث بأكلها سواء أكلها كذلك أو طحنها فأكل الطحين أو خبزها فأكل الخبز والثانية أن يقول لا آكل حنطة فيحنث بأكل الحنطة سواء أكلها نيئا أو مطبوخا أو مبلولا أو مقليا ولا يحنث بأكل الدقيق والسويق والعجين والخبز والثالثة أن يقول لا آكل هذه الحنطة وأشار إلى صبرة فأكل من دقيقها أو عجينها أو خبزها لا يحنث لتبدل الاسم. وقال ابن شريح يحنث لوجود الإشارة كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله حنث والأول هو المذهب بخلاف الحمل; لأنه لا يمكن أكله حيا فكان يمينه على لحمه والحنطة يمكن أكلها حبا فكان يمينه على حبها.
قوله "يقع على الكرع خاصة"; لأن ذلك حقيقة كلامه وهي مستعملة عادة وشرعا فإن النبي عليه السلام مر بقوم فقال: "هل عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا في الوادي1" وذلك عادة أهل البوادي والقرى أيضا وإذا كانت مستعملة كان اللفظ محمولا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الأشربة ر حديث رقم 3724 والإمام أحمد في المسند 3/328.

(2/138)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
عليها دون المجاز وعند هما يقع على شرب ماء يجاور الفرات; لأنه هو المراد من مثل هذا الكلام في العرف يقال بنو فلان يشربون من الوادي أو من الفرات ويراد به ماء منسوب إليه فيحمل الكلام عليه لكونه متناولا للحقيقة بعمومه والأخذ بالأواني لا يقطع هذه النسبة; لأنها لا تعمل عمل الأنهار في إمساك الماء فيحنث بالاغتراف والكرع جميعا لعموم المجاز فإن شرب من نهر يأخذ من الفرات لم يحنث; لأن هذا مثل الفرات في إمساك الماء فيقطع المجاورة عنه فخرج عن عموم المجاز والكرع تناول الماء بالفم من موضعه يقال كرع الرجل في الماء وفي الإناء إذا مد عنقه نحوه ليشربه ومنه كره عكرمة1 الكرع في النهر; لأنه فعل البهيمة يدخل فيه أكارعه كذا في المغرب وفي الصحاح كرع في الماء يكرع كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء وفيه لغة أخرى كرع بالكسر يكرع كرعا وفي الأساس كرع في الماء أدخل فيه أكارعه بالخوض فيه ليشرب والأصل في الدابة; لأنها لا تكاد تشرب إلا بإدخال أكارعها فيه. ثم قيل للإنسان كرع في الماء إذا شرب فيه خاض أو لم يخض والله أعلم.
ـــــــ
1 هو الحبر العالم عكرمة أبو عبدالله البربري المدني الهاشمي مولي عباس رضي الله عنه توفي سنة 7ه وفيات الأعيان 3/265- 226.

(2/139)