كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

باب جملة ما يترك به الحقيقة والمجاز والصريح والكناية
...
"باب جملة ما يترك به الحقيقة"
وهو خمسة أنواع قد تترك بدلالة الاستعمال والعادة وقد تترك بدلالة اللفظ في نفسه وقد تترك بدلالة سياق النظم وقد تترك بدلالة ترجع إلى المتكلم وقد تترك بدلالة في محل الكلام أما الأول فمثل الصلاة فإنها اسم للدعاء قال الله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} "التوبة:103" أي ادع.
ـــــــ
"باب جملة ما يترك به الحقيقة"
لما ذكر أحكام الحقيقة والمجاز شرع في بيان القرائن التي يصرف بها الكلام إلى المجاز فقال جملة ما يترك به الحقيقة خمسة أنواع يعني به الشرعيات. والانحصار على الخمسة المذكورة عرف بالاستقراء قوله"بدلالة الاستعمال والعادة". قيل هما مترادفان. وقيل المراد من الاستعمال نقل اللفظ عن موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعا وغلبة استعماله فيه كالصلاة والزكاة حتى صار بمنزلة الحقيقة ويسمى إذ ذاك حقيقة شرعية. ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفا واستفاضته فيه كوضع القدم في قوله لا أضع قدمي في دار فلان ويسمى حقيقة عرفية ويجوز أن يكون الاستعمال راجعا إلى القول يعني إنهم يطلقون هذا اللفظ في معناه المجازي في الشرع والعرف دون موضوعه الأصلي كالصلاة والدابة مثلا فإنهما لا تستعملان في الشرع والعرف إلا في الأركان المعهودة والفرس. والعادة راجعة إلى الفعل كما سنبينه وعلى هذا الوجه يدل سياق كلام الشيخ قوله "فإنها اسم للدعاء" الصلاة الدعاء لغة قال عليه السلام: "وإذا كان صائما فليصل1" أي فليدع.
وقال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتجلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عينا ... فإن لجنب المرء مضطجعا
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في النكاح حديث رقم 1431 والترمذي في الصوم حديث رقم 780 وأبو داود في الصوم حديث رقم 2460 والإمام أحمد في المسند 2/279.

(2/140)


ثم سمي بها عبادة معلومة مجازا لما أنها شرعت للذكر قال الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} "طه: 14"وكل ذكر دعاء وكالحج فإنه قصد في اللغة
ـــــــ
أي دعوت يريد قولها يا رب جنب أبي الأوصاب, وقال أيضا:
وصهباء طاف يهوديا ... وأبرزها وعليها ختم
وأقبلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
أي استقبل بالخمر الريح ودعا, وارتسم من الروسم وهو الخاتم يعني ختمها, ثم نقلت إلى الأركان المعلومة لما ذكر قوله قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} إما من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول أي لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار الواردة في كل ركن. أو من قبيل إضافته إلى الفاعل أي أقمها لأن أذكرك بالمدح والثناء كما قيل في تفسير قوله تعالى " {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} "العنكبوت: 45"أي ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد إياه. أو أقمها لأني ذكرتها في كل كتاب ولم أخل منها شريعة وإيراده ههنا للمعنى الأول
قوله "وكل ذكر دعاء" فإن من ذكر الله تعالى يقال دعاه. وتحقيقه أن اشتغال العبد الفقير المحتاج بذكر مولاه الغني الكريم وثنائه تعرض منه لطلب حاجته منه فيكون كل ذكر دعاء أو الدعاء ذكر المدعو لطلب أمر منه. وقيل لسفيان بن عيينة ما حديث يروى عن رسول صلى الله عليه وسلم: " أفضل دعاء أعطيته أنا والنبيون قبلي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير1" قال ما تنكر من ذا ثم حدث بقوله عليه السلام: "من تشاغل بالثناء على الله تعالى أعطاه الله فوق رغبة السائلين2" . ثم قال هذا أمية بن أبي الصلت يقول لابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والسناء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
فهذا مخلوق يقول في مخلوق فما ظنك برب العالمين كذا في "ربيع الأبرار" وغيره
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الدعوات حديث رقم 3585
2 أخرجه الترمذي في ثواب القرآن حديث رقم 2926

(2/141)


فصار اسما لعبادة معلومة مجازا لما فيه من قوة العزيمة والقصد بقطع المسافة وكذلك نظائرها من العمرة والزكاة حتى صارت الحقيقة مهجورة وإنما صار هذا دلالة على ترك الحقيقة لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة ومثاله ما قال علماؤنا رحمهم الله فيمن نذر صلاة أو حجا أو المشي إلى بيت الله أو أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة ينصرف إلى
ـــــــ
قوله "وكالحج فإنه قصد في اللغة" الحج القصد ومنه المحجة للطريق والحجة لأنها تقصد وتعتمد أو بها يقصد الحق المطلوب قال المخبل السعدي:
واشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا.
أي يقصدونه ويختلفون إليه. والسب العمامة والزبرقان لقب حصين بن بدر الفزاري وهو في الأصل القمر ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك المعروف.
وكذلك نظائرها من العمرة. العمرة اسم من الاعتمار كالعبرة من الاعتبار وأصلها الزيارة يقال اعتمر أي زار. وفي المغرب أصلها القصد إلى مكان عامر ثم غلبت على هذه العبادة المعلومة وهي الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير والزكاة هذا التركيب يدل على الطهارة قال تعالى {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} "التوبة :103" قيل وتطهرهم ويقال فلان زكى نفسه أي مدحها وطهرها عن رذائل الأخلاق, وعلى الزيادة والنماء وهو الظاهر يقال زكا الزرع يزكو زكاة أي نما ثم سمي بها القدر الذي يخرج من المال إلى الفقراء لأن إخراجه سبب لنماء المال واليمن والبركة فيه ولطهارة مؤديه عن الآثام وغلب استعمالها فيه بحيث صارت الحقيقة مهجورة. حتى صارت الحقيقة مهجورة فإنه لو حلف أن يصلي أو يحج أو يعتمر أو يزكي لم يلزم عليه إلا العبادات المعهودة ولا يخرج عن العهدة بمباشرة حقائقها اللغوية. وإنما صار هذا أي استعمال اللفظ في معناه المجازي واستفاضته فيه دلالة على ترك الحقيقة لأن الكلام موضوع للإفهام والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينا كان بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سواه لعدم العرف كالمجاز لا يتناوله الكلام إلا بقرينة. وهذا كاسم الدراهم يتناول نقد البلد عند الإطلاق لوجود العرف الظاهر في التعامل به ولا يتناول غيره إلا بقرينة لترك التعامل به وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله
قوله "أو المشي إلى بيت الله" إذا قال علي المشي إلى بيت الله لزمه حجة أو عمرة والخيار إليه استحسانا وفي القياس لا يلزمه شيء لأن الإلزام بالنذر إنما يصح إذا كان من

(2/142)


المجاز المتعارف ومثاله كثير وقالوا فيمن حلف لا يأكل رأسا إنه يقع على المتعارف استحسانا على حسب ما اختلفوا ويسقط غيره وهو حقيقة وكذلك لو حلف لا يأكل بيضا إنه يختص ببيض الإوز والدجاجة استحسانا ولو حلف لا
ـــــــ
جنسه واجب عليه شرعا وليس من جنس المشي إلى بيت الله واجب عليه شرعا فلا يصح التزامه بالنذر كالمشي إلى الحرم وإلى المسجد الحرام عند أبي حنيفة رحمه الله. يوضحه أن الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به وهو المشي بالاتفاق فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من حج أو عمرة كان أولى وصار كما لو قال علي الذهاب أو السفر إلى بيت الله. ولكنا تركنا القياس بالعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك وتعارفوا ذلك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا واشتهر فيه يسقط اعتبار حقيقته ويجعل كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه والعرف مختص بلفظ المشي المضاف إلى الكعبة أو إلى بيت الله أو إلى مكة فبقي ما وراءها على القياس. وعندهما المشي المضاف إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام كالمضاف إلى الكعبة على ما عرف في موضعه.
ولو قال لله علي أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة فعليه أن يهديه استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى. وجه الاستحسان أنه إنما يراد بهذا اللفظ الإهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به عرفا فكأنه التزم أن يهديه لما ذكرنا أن اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتبار حقيقته في نفسه. كذا في المبسوط. والمعنى المجوز للتجوز هو أن الضرب على حطيم الكعبة أمارة إخراجه عن ملكه على وجه القربة ودليل عليه فكان من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب. ومثاله كثير مثل ما لو قال علي أن أذبح الهدي يجب ذبح الهدي بالحرم وكما لو قال علي أن أنحر ولدي أو أذبح ولدي أو أضحي ولدي يلزمه ذبح شاة عند أبي حنيفة ومحمد استحسانا. قوله "وقالوا فيمن حلف" إنما فرق بين النظائر الأولى وبين هذه المسائل بقوله وقالوا لأن فيما تقدم لم تكن الحقيقة منظورا إليها أصلا وفي هذه المسائل بعض أفراد الحقيقة مقصود ولهذا قال هو شبيه بالمجاز. يقع على المتعارف. إذا حلف لا يأكل رأسا فهو على رءوس البقر والغنم استحسانا لأنا نعلم أنه لم يرد به رأس كل شيء فإن رأس الجراد والعصفور لا يدخلان تحته وهو رأس حقيقة فإذا علمنا أنه لم يرد به الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو أن الرأس ما يكبس في التنانير ويباع مشويا. وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لما رأى من عادة أهل الكوفة إنهم يفعلون ذلك في هذه الرءوس الثلاثة ثم تركوا هذه العادة في الإبل فرجع وقال يحنث في رأس البقر

(2/143)


يأكل طبيخا أي شواء إنه يقع على اللحم خاصة استحسانا وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز على ما سبق وهذا ثابت بدلالة العادة لا غير.وأما الثابت
ـــــــ
والغنم خاصة ثم إن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلا في رءوس الغنم فقالا لا يحنث إلا في رأس الغنم فعلم أن الاختلاف اختلاف عرف وزمان لا اختلاف حكم وبرهان والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان
قوله "إنه يختص ببيض الإوز والدجاجة" هذا اللفظ يشير إلى أنه لا يحنث بأكل ما سواهما من البيض لأن التعارف مختص بهما وهكذا ذكر شمس الأئمة في أصول الفقه فقال يتناول يمينه بيض الدجاج والإوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك. وذكر في المبسوط إذا حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير من الدجاجة والإوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاجة ونحوها. فهذا يدل على أنه يحنث بما سواهما كبيض النعام والحمام وسائر الطيور والدجاج معروف وفتح الدال فيه أفصح من كسرها الواحدة دجاجة للذكر والأنثى لأن الهاء دخلته على أنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة كذا في الصحاح
قوله "ولا يأكل طبيخا" وإن حلف لا يأكل طبيخا فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره استحسانا وفي القياس يحنث في اللحم وغيره مما هو مطبوخ ولكن الأخذ بالقياس ههنا يفحش فإن المسهل من الدواء مطبوخ ونحن نعلم أنه لم يرد به ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة وتتخذ منه المباحات. قالوا وإنما يحنث إذا أكل اللحم المطبوخ بالماء فأما القلية اليابسة فلا يسمى مطبوخا. فإن طبخ بالماء إياها فأكل من مرقه يحنث لأنه يسمى طبيخا في العادة ولما فيه من أجزاء اللحم. وكذا إذا حلف لا يأكل الشواء ولا نية له فهو على اللحم خاصة أيضا استحسانا دون البيض والباذنجان والسلق والجزر لما ذكرنا أن العمل بالعموم غير ممكن فيصرف إلى أخص الخصوص وهو ما وقع عليه العرف
قوله "وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز" إنما ذكر هذا جوابا عن سؤال يرد عليه وهو أن يقال أنت في بيان ترك الحقيقة إلى المجاز وفيما ذكرت من المسائل اللفظ يتناول ما بقي تحته بطريق الحقيقة لكنه لا يتناول من وراء ذلك فكان من قبيل الحقيقة القاصرة وقد اخترت في باب موجب الأمر أن الحقيقة القاصرة لا يسمى مجازا فأنى يستقيم

(2/144)


بدلالة اللفظ في نفسه فمثل قوله حلف لا يأكل لحما أنه لا يقع على السمك وهو لحم في الحقيقة لكنه ناقص لأن اللحم يتكامل بالدم فما لا دم له قاصر من وجه فخرج عن مطلقه بدلالة اللفظ وكذلك قول الرجل كل مملوك لي حر لا
ـــــــ
إيراد هذه المسائل في هذا الباب فقال العام إذا سقط بعضه صار شبيها بالمجاز لأنه انتقل عن موضوعه الأصلي من وجه وهو الكل إلى غيره وهو البعض . على ما سبق أي في باب العام الذي لحقه الخصوص بطريق الإشارة فإن الشيخ أبا الحسن الكرخي لم يعمل به لأنه لم يبق عاما حقيقة ونحن حكمنا بأنه تغير وصار ظنيا فتحقق به شبه المجاز فلذلك ناسب إيرادها ههنا
قوله "وهذا ثابت بدلالة العادة لا غير" أي تخصص هذه العمومات ثابت بالعرف العادي لا بالعرف الاستعمالي فإن لفظ الرأس كما يستعمل في رأس الغنم يستعمل في رأس العصفور والحمام وسائر الحيوانات على السواء إلا أن العادة في الأكل مختصة برأس الغنم . وكذا إطلاق لفظ البيض على بيض العصفور والحمام شائع كما شاع في بيض الدجاج والإوز لكن العادة الظاهرة في الأكل اختصت بأكل بيض الدجاج والإوز دون غيرهما . وهكذا في مسألة الطبيخ والشواء فتركت الحقيقة وهي العموم بالعادة . بخلاف ما تقدم فإن الحقيقة تركت فيه بغلبة استعمال اللفظ في تلك المعاني كما بينا لا بالعادة لأن الناس كما اعتادوا فعل الصلاة اعتادوا الدعاء أيضا . فتبين بهذا أن قوله بدلالة الاستعمال والعادة ليس بترادف كما زعم البعض وأن الواو فيه بمعنى أو .
قوله "وأما الثابت بدلالة اللفظ في نفسه" ترك الحقيقة الثابت بدلالة اللفظ في نفسه هو أن يكون اللفظ متناولا لأفراد بعمومه على سبيل الحقيقة ولكنه يكون معنويا فيتخصص بالبعض بالنظر إلى مأخذ اشتقاقه كما إذا حلف لا يأكل لحما كان القياس أن يدخل في عمومه لحم السمك كما هو مذهب مالك لأنه لحم حقيقة ولهذا لا يصح نفيه عنه وقد سماه الله تعالى لحما في قوله عز اسمه {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} "النحل: 14". ولكنه تخصص بدلالة الاشتقاق كما تخصص ما تقدم بدلالة العرف وذلك لأن اللحم اسم معنوي وأصل تركيبه يدل على الشدة والقوة يقال التحم القتال أي اشتد والملحمة الواقعة العظيمة ثم سمي اللحم بهذا الاسم لقوة فيه باعتبار تولده من الدم الذي هو أقوى الأخلاط في الحيوان وليس للسمك دم فكان في لحمه قصور من حيث المعنى فكان صرف مطلق الاسم إلى ماله قوة أولى من صرفه إلى ما فيه قصور وإن كان الاسم له حقيقة كاسم الوجود بالجوهر أولى منه بالعرض وإن كان الاسم له حقيقة لقصور العرض في معنى الوجود لعدم ثباته ولتوقفه على وجود الجوهر . يوضحه أنه لا يذكر إلا بقرينة

(2/145)


يتناول المكاتب, وكل امرأة لي طالق, لا يتناول المبتوتة المعتدة لما قلنا فصار مخصوصا وللمخصوص شبه بالمجاز ومن هذا القسم ما ينعكس وذلك مثل
ـــــــ
للقصور الذي ذكرنا فلا يدخل تحت مطلق الاسم كصلاة الجنازة لما لم تذكر إلا بقرينة لقصور فيها لا يتناولها مطلق اسم الصلاة
"فإن قيل" أليس أنه لو أكل لحم خنزير أو لحم إنسان فإنه يحنث في يمينه مع أنه لا يذكر إلا بقرينة
"قلنا" قد ذكر بعض مشايخنا فيه الخلاف. وبعضهم ذكروا أنه لا يحنث بأكل لحم الخنزير أو الآدمي لانعدام العرف في أكلهما فصار كالرأس والبيض وهو اختيار الإمام التمرتاشي. ولئن سلمنا أنه يحنث على ما هو المذكور في المبسوط وغيره فالجواب أن ذكر القرينة ههنا ليس لقصور معنى اللحمية فيه لأنه متولد من الدم كلحم الشاة وكذا معنى الغذاء المطلوب من اللحم يتم في لحم الخنزير والآدمي فعرفنا أن القرينة للتعريف كلحم الشاة والطير ولبيان الحرمة لا لقصور في معنى اللحمية وليس للحرمة تأثير في المنع من إتمام شرط الحنث كما لو حلف لا يشرب شرابا فشرب الخمر يحنث
قوله "لا يتناول المكاتب" إذا قال كل مملوك لي حر لا يدخل فيه المكاتبون لأنه أثبت العتق لكل مملوك يضاف إليه بالملك مطلقا بقوله لي وهذا غير موجود في المكاتبين لأنه يملكهم رقبة لا يدا بل المكاتب كالحر يدا حتى كان أحق بمكاسبه ولا يملك المولى استكسابه ولا وطء المكاتبة والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا. وكذلك صرح بالإضافة إلى نفسه والمكاتب مضاف إليه من وجه دون وجه فللدلالة في لفظه وهي إطلاق الملك والإضافة لا يتناوله الكلام بدون النية ولكن يتناوله مطلق اسم الرقبة المذكورة في قوله تعالى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "المائدة: 83-9". لأنه يتناول الذات المرقوق والرق لا ينتقص بالكتابة لقوله عليه السلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم1" . ولأنها يحتمل الفسخ واشتراط الملك بقدر ما يصح به التحرير وذلك موجود في المكاتب فيتأدى به الكفارة. وهذا بخلاف المدبر وأم الولد حيث يدخل كل واحد منهما في عموم قوله كل مملوك لي حر ولا يتأدى بهما الكفارة لأن الملك فيهما كامل إذ المولى يملكهما يدا ورقبة ويملك استغلالهما واستكسابهما وطء المدبرة وأم الولد فكان كل واحد منهما مملوكا من كل وجه فيدخل في عموم قوله كل مملوك لي لكن الرق فيهما ناقص لأن ما ثبت من جهة العتق لا يحتمل الفسخ بوجه فلا يتأدى بهما الكفارة
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في العتق حديث رقم 3926

(2/146)


رجل حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله بأكل الرطب والرمان والعنب وقالا يحنث لأن الاسم مطلق فيتناول الكامل منه, وقال أبو حنيفة: الفاكهة اسم للتوابع ; لأنه من تفكه مأخوذ وهو التنعم قال الله تعالى {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} "المطففين: 31"أي ناعمين وذلك أمر زائد على ما يقع به القوام وهو الغذاء فصار تابعا والرطب والعنب قد يصلحان للغذاء وقد يقع
ـــــــ
قوله "لا يتناول المبتوتة المعتدة" يعني من غير نية لما قلنا من معنى القصور فإنها امرأته من وجه لبقاء ملك اليد والدواعي فلا يدخل ولو طلقها صح الطلاق أيضا, دون وجه لزوال أصل ملك النكاح حتى حرم الوطء والدواعي فلا يدخل تحت مطلق الاسم من غير نية. وفائدة القيدين أنها لو كانت مطلقة رجعية تدخل من غير نية لبقاء النكاح والحل ولو كانت منقضية العدة لا تدخل وإن نوى لبطلان النكاح بالكلية. فصار العام أي قوله لحما الواقع في موضع النفي وقوله كل مملوك وكل امرأة "مخصوصا" أي مخصوصا منه فصار شبيها بالمجاز. قوله "ومن هذا القسم ما ينعكس" أي ومن الترك الثابت بدلالة اللفظ ما هو على عكس ما ذكرنا من المسائل فإن الحقيقة تركت فيما ذكرنا باعتبار النقصان والقصور لأن أصل الاشتقاق يدل على الكمال وههنا تركت الحقيقة باعتبار الكمال لأن أصل الاشتقاق يدل على النقصان والتبعية. إذا حلف لا يأكل فاكهة ولا نية له لم يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان عند أبي حنيفة وعندهما يحنث بأكلها وهو قول الشافعي وإن نواها عند الحلف يحنث بالإجماع كذا في التحفة. قالوا إن الفاكهة ما يؤكل على سبيل التفكه وهو التنعم وهذه الأشياء أكمل ما يكون من ذلك ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذا الفاكهة ما يقدم بين يدي الضيفان للتفكه به لا لشبع والرمان والرطب والعنب من أنفس ذلك كالتين. وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه الأشياء غير الفاكهة قال تعالى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} "الرحمن: 68". وقال جل ذكره {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} "عبس: 27 – 31". فتارة عطف الفاكهة على هذه الأشياء وتارة عطف هذه الأشياء عليها والشيء لا يعطف على نفسه مع أنه مذكور في موضع المنة ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد في موضع المنة بلفظين ولأن الفاكهة اسم مشتق من التفكه وهو التنعم قال الله تعالى. {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} "المطفين: 31". أي ناعمين والتنعم زايد على ما به القوام والبقاء والرطب والعنب يتعلق بهما القوام وقد يجتزأ بهما في بعض المواضع والرمان في معنى الدواء قد يقع به القوام أيضا وهو قوت من جملة التوابل إذا يبس. وإذا كان كذلك أي كان الأمر كما ذكرنا. كان فيها أي في هذه الأشياء الثلاثة وصف زايد وهو الغذائية وقوام البدن بها فلهذه الزيادة لا

(2/147)


بهما القوام والرمان قد يقع به القوام لما فيه من معنى الأدوية وإذا كان ذلك كان فيها وصف زائد والاسم ناقص مقيد في المعنى فلم يتناول الكامل وكذلك طريقه فيمن حلف لا يأكل إداما أنه يقع على ما يتبع الخبز لأن الأدم
ـــــــ
يتناولها مطلق اسم الفاكهة كما أن مطلق اسم اللحم لا يتناول لحم السمك والجراد للنقصان. ولا يلزم دخول الطرار تحت اسم السارق وإن كان في فعله وصف زائد وهو القاطع من اليقظان لأنا أثبتنا الحكم فيه بدلالة النص من غير مناقضة تلزم فإن ملك الزيادة مكملة لمعنى السرقة كالضرب والشتم كل واحد مكمل لمعنى الإيذاء فأما الاسم ههنا فواقع على ما هو تبع والزيادة ههنا مغيرة لمعناه وهو التبعية إذ الأصالة تنافي التبعية فلذلك لا يصح دخول هذه الأشياء تحت مطلق الاسم. ويؤيده ما ذكر الشيخ في شرح التقويم أن كمال المعنى فيه أي في التمر إخراجه من أن يكون فاكهة وجعله غذاء فلا يتناوله مطلق الاسم لأن المطعومات بعضها أصول وهي الأغذية وبعضها فروع كالفواكه والتمر والعنب والرمان التحقت بالأغذية لزيادة معان فيها وكثرة رغائب الناس إليها لا جرم خرجت عن مطلق اسم الفروع كالوالدين والمولودين خرجوا عن اسم الأقارب في الوصية وفي الطرار الأمر بخلافه
قوله "والاسم ناقص" أي اسم الفاكهة دال على ما هو ناقص في نفسه. مقيد أي بكونه تابعا في المعنى أي بالنظر إلى معناه في أصول اللغة. وذكر في التحفة ومشايخنا قالوا هذا اختلاف عرف وزمان فأبو حنيفة رحمه الله أفتى على حسب عرف زمانه فإنهم كانوا لا يعدونها من الفواكه وتغير العرف في زمانهما وفي عرفنا ينبغي أن يحنث في يمينه أيضا بالاتفاق
قوله "وكذلك" أي وكالطريق المذكور لأبي حنيفة رحمه الله في مسألة الفاكهة طريقة في مسألة الإدام وهي ما إذا حلف ولا يأكل إداما ولا نية له فإنه يقع على ما يصطبغ به مثل الخل والزيت واللبن دون الجبن والبيض واللحم والسمك في قول أبي حنيفة وهو الظاهر من مذهب أبي يوسف رحمهما الله لأن الإدام اسم لما يطيب الخبز ويصلحه فكان اسما لما يتبع الخبز ومدار التركيب يدل على الموافقة والملاءمة يقال أدم الله بينكما وآدم أي أصلح وألف. وفي الحديث: "لو نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما1: " يعني أن يكون بينكما المحبة والاتفاق وكمال التبعية والموافقة فيما يختلط بالخبز ولا يحتاج فيه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في النكاح حديث رقم 1087 وابن ماجة في النكاح حديث رقم 1865 والإمام أحمد في المسند 4/245- 246.

(2/148)


اسم للتابع فلم يجز أن يتناول ما هو أصل من وجه وهو اللحم والجبن والبيض وعند محمد يحنث في ذلك كما في المسألة الأولى وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة.
وأما الثابت بسياق النظم فمثل قول الله تعالى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} "الكهف: 29"تركت حقيقة الأمر والتخيير بقوله عز وجل {إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} "الكهف: 29"وحمل
ـــــــ
إلى الحمل قصدا ولا إلى المضغ والابتلاع كذلك وكالخل وكذا كل ما يصطبغ بهذه الصفة فأما اللحم والجبن والبيض وأمثالها فتحمل مع الخبز ويقع عليها المضغ والابتلاع قصدا فيكون أصلا من هذا الوجه فكانت قاصرة في معنى التبعية فلا تدخل تحت مطلق اسم الإدام من غير نية وعند محمد رحمه الله يحنث في هذه الأشياء أيضا وهو رواية عن أبي يوسف في الأمالي لما ذكرنا أن الإدام مشتق من المؤادمة وهي الموافقة فما يؤكل مع الخبز غالبا فهو موافق له فيكون إداما وقال عليه السلام.: "سيد إدام أهل الجنة اللحم" . وأخذ لقمة بيمينه وتمرة بشماله فقال: "هذه إدام هذه:" . فعرفنا أن ما يوافق الخبز في الغالب إدام إلا أنا خصصنا منه ما يؤكل غالبا وحده كالبطيخ والتمر والعنب لأن الإدام تبع فما يؤكل وحده غالبا لا يكون تبعا فأما الجبن والبيض واللحم فلا يؤكل وحده غالبا فكان إداما كذا في المبسوط. ثم ما ذكر الشيخ ههنا عبارة كتاب الأيمان وفي الجامع الصغير بهذه العبارة حلف لا يأتدم بإدام قال الإدام كل شيء يصطبغ به قال الفقيه أبو جعفر في كشف الغوامض فعلى ما ذكر في الجامع لو أكل الإدام وحده لا يحنث لأن الائتدام به أن يأكل الخبز به وعلى عبارة كتاب الأيمان يحنث لأنه قد أكله وإن كان قد أكله وحده فإن اسم الإدام يلزمه أكله وحده أو مع الخبز
قوله "وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة" أي في مسألة الإدام دون الفاكهة والفرق له على أحديهما شيوع إطلاق اسم الفاكهة على العنب والرطب والرمان حقيقة وعرفا ووجود معنى التنعم فيها وعدم شيوع إطلاق اسم الإدام على البيض واللحم والجبن ألا ترى أن الإدام يسمى صبغا لأن الخبز يغمس فيه ويلون به وهذا المعنى لم يوجد في هذه الأشياء فلم يكمل فيه معنى التبعية.
قوله "تركت حقيقة الأمر" أي حقيقة قوله فليؤمن متروكة ههنا بقرينة فمن شاء وحقيقة قوله فليكفر متروكة بدلالة العقل وبقرينة قوله {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} . أي للذين عبدوا غير الله نارا وكذا تركت حقيقة التخيير بهذه القرينة لأن موجبه رفع المأثم

(2/149)


على الإنكار والتوبيخ مجازا ومثاله ما قاله محمد رحمه الله في السير الكبير في الحربي استأمن مسلما فقال له أنت آمن كان أمانا فإن قال أنت آمن ستعلم ما يلقى لم يكن أمانا ولو قال انزل إن كنت رجلا لم يكن أمانا ولو قال لرجل طلق امرأتي إن كنت رجلا أو إن قدرت أو اصنع في مالي ما شئت إن كنت رجلا لم يكن توكيلا وقال رجل لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل لك علي ألف درهم ما أبعدك لم يكن إقرارا وصار الكلام للتوبيخ بدلالة سياق نظمه وأما الثابت بدلالة من قبل المتكلم فمثل قول الله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} "الإسراء: 64"إنه لما استحال منه الأمر بالمعصية
ـــــــ
وهذه القرينة لا تناسبه. "وحمل" أي الأمر في قوله. {فَلْيَكْفُرْ} . "على الإنكار" أي على أن المقصود منه الإنكار والرد على من صدر منه الكفر. "والتوبيخ" أي التهديد والوعيد كما في قوله تعالى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "فصلت: 40". مجازا أي بطريق المجاز لأنه مستعمل في غير موضوعه لمناسبة. وبيان ذلك أن موضوعه الأصلي هو الطلب, وفائدته إما أن يكون راجعة إلى الآمر كقولك خط لي هذا الثوب أو احمل لي هذا الطعام, أو إلى المأمور كقولك البس هذا الثوب أو كل هذا الطعام ثم الأمر الذي يرجع نفعه إلى المأمور أولى بالامتثال والقبول من غيره فمتى قابله المأمور بالرد والعصيان فذلك يوهم للآمر أنه إنما رد وعصى لظنه أن نفعه يعود إلى الآمر فيطلب منه ضد المطلوب الأول ويأمره بالاستدامة على العصيان والاستمرار على الرد لمعنيين أحدهما تنزيه نفسه عن عود عائدة المأمور به إليه إذا لو كانت راجعة إليه لما دفعها بطلب ضدها لأنه خلاف الطبع والعقل والثاني أنه لما خالف أمره أبغضه الآمر فطلب منه ما يستحق به العقوبة العظمى لما لم يمتثل ما يستجلب المثوبة الحسنى فصار معناه أني أطلب منك العصيان لتستحق به الخسران ولهذا لا يرد الأمر بمعنى التهديد إلا وقد سبقه أمر واجب الامتثال به وقد تلقاه المأمور بالعصيان فهذا هو المجوز لاستعمال هذه الصيغة في الإنكار والتوبيخ وكلام الله تعالى نزل على أساليب استعمالات الناس فلذلك ورد فيه الأمر بمعنى التوبيخ. وذكر في بعض الشروح أن هذا من قبيل ذكر الضد وإرادة الآخر لمعاقبة بينهما إذ المراد من مثل هذا الأمر والنهي وهذا وجه حسن
قوله قول الله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استزل أو حرك من استطعت منهم بوسوستك ودعائك إلى الشر. إنه لما استحال منه الأمر بالمعصية لأن الأمر لطلب الوجود من قبل المأمور وذلك يستحيل ههنا لأنه جل جلاله كريم حكيم

(2/150)


والكفر حمل على إمكان الفعل وإقداره عليه مجازا لأن الأمر للإيجاب فكان من المعنيين اتصال ومثاله من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أنه يتعلق به لما في غرض المتكلم من بناء الجواب عليه وكذلك امرأة قامت لتخرج فقال لها
ـــــــ
لا يليق بكرمه وحكمته أن يطلب من عدوه إبليس أن يستفز عباده, حمل على إمكان الفعل أي تمكينه منه وإقداره أي جعله قادرا عليه مجازا بطريق أن الأمر الموجب يقتضي تمكن العبد من الفعل وقدرته عليه أعني قدرة سلامة الآلات وصحة الأسباب لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز فاستعير الأمر للإقدار والتمكين الذي هو من لوازم الأمر كاستعارة الأسد للشجاع فصار المعنى أني أمكنتك وأقدرتك على تهييجهم ودعائهم إلى الشر. وقوله لأن الأمر للإيجاب أو للإيجاد كما في بعض النسخ فكان بين المعنيين أي الإيجاب والإقدار يشير إلى ما ذكرنا يعني لما كان الأمر للإيجاب ولا إيجاب بدون القدرة كان بين الإيجاب والإقدار اتصال لكون القدرة من لوازم صحة الإيجاب فيجوز استعارته للإقدار
قوله "ومثاله" أي نظير ما تركت الحقيقة بدلالة حال المتكلم من الفروع قوله والله لا أتغدى جوابا لمن دعاه إلى الغداء فقال تعال تغد معي فإن حقيقة هذا الكلام للعموم لدلالته لغة على مصدر منكر واقع في موضع النفي إذ التقدير لا أتغدى تغديا فيقتضي أن يحنث بكل تغد يوجد بعد كما لو قاله ابتداء إلا أن هذه الحقيقة تركت بدلالة حال المتكلم لأن من المعلوم أنه أخرج الكلام مخرج الجواب لكلام الداعي وأنه قد دعاه إلى تغدي الفداء الذي بين يديه لا إلى غيره فيقيد به وإذا تقيد كلام الداعي به يقيد الجواب به أيضا لأنه بناء عليه وصار كأنه قال والله لا أتغدى الفداء الذي دعوتني إليه وقس على ما ذكرنا مسألة الخروج. ومن أمثلته ما لو قالت له زوجته إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من الجنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر وسيأتي بيانه وهذا النوع من اليمين سبق به أبو حنيفة رحمه الله ولم يسبق به وكانوا يقولون قبل ذلك اليمين مؤبدة كقوله لا أفعل كذا ومؤقتة كقوله لا أفعل اليوم كذا فأخرج أبو حنيفة قسما ثالثا وهو ما يكون مؤبدا لفظا وموقتا معنى وأخذه من حديث جابر وابنه حيث دعيا إلى نصرة إنسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا وبناء الكلام على ما هو معلوم من مقصود المتكلم أصل في الشرع والعرف لما بينا في قوله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} "الإسراء: 64"إنه محمول على الإقدار والتمكين لاستحالة الأمر بالمعصية من الله تعالى ولاتفاقهم على أن قول الداعي اللهم اغفر لي التماس لا أمر لمعنى في المتكلم وهو أن العبد ليس له ولاية الإلزام فكان المقصود منه الالتماس ضرورة

(2/151)


زوجها إن خرجت فأنت طالق أنه يقع على الفور لما قلنا ومثاله كثير. وأما الثابت بدلالة محل الكلام فمثل قوله تعالى {مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "غافر: 58" سقط عمومه وذلك حقيقة لأن محل الكلام وهو المخبر عنه لا
ـــــــ
قوله "على الفور" أي على الحال وهو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا لبث فقيل جاء فلان من فوره أي من ساعته وفي الصحاح ذهبت في حاجة ثم أتيت فلانا من فوري أي قبل أن أسكن والتحقيق الأول كذا في المغرب.
قوله قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} حقيقة للعموم لأن المصدر الثابت بدلالة الفعل عليه لغة نكرة في موضع النفي فتعم إلا أن العمل بعمومها متعذر لوجود المساواة بينهما في كثير من الصفات مثل الإنسانية والعقل والذكورة وغيرها فوجب الاقتصار على البعض لنبوة المحل عن قبول العموم ثم اختلف فيه فذهب أصحابنا إلى أن ذلك البعض ما دل عليه فحوى الكلام وهو نفي المساواة في البصر في هذا النظير ونفي المساواة في الفوز في قوله تعالى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} "الحشر: 20"وذهب أصحاب الشافعي إلى نفي المساواة بينهما على العموم فيما أمكن القول به متمسكين بأن العمل بالعموم واجب مهما أمكن فإذا تعذر العمل به في بعض الأفراد لم يلزم منه سقوط العمل به فيما بقي كالعام الذي خص منه ألا ترى إلى قوله تعالى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} "الأنعام: 102"و"الرعد:16"و"الزمر:62" و"غافر:62" لما لم يكن العمل بعمومه بدلالة العقل فإن ذات الله تعالى وصفاته لم يدخل تحته بقي فيما وراء ذلك على العموم ولنا أن هذا الكلام لما لم يقبل العموم لعدم صدوره في محل العموم لم ينعقد للعموم أصلا لأن الشيء ينتفي بانتفاء محله وصار كأنه قيل إنهما لا يستويان في بعض الصفات فكان في معنى المجمل فيجب الاقتصار على ما يدل عليه صيغة النص وعلى ما يتيقن به أنه مراد بخلاف العام الذي خص منه لأنه قد انعقد للعموم ثم خص بعض الأفراد بعارض لحقه بطريق المعارضة فيقتصر على قدر المعارض فيبقى ما وراءه على العموم. وفائدة الاختلاف تظهر في أن المسلم لا يقتل بالذمي عنده وأن ديته لا يكون كدية المسلم وأن استيلاء الكافر على مال المسلم لا يكون سبب الملك كاستيلاء المسلم على ماله لقوله تعالى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} "الحشر: 20"والقول بانتفاء المساواة في حق هذه الأحكام ممكن فوجب القول به وعندنا نفي المساواة مختص بالفوز بقوله جل ذكره {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} "الحشر: 20"فلا يظهر في حق هذه الأحكام ألا ترى أن نفي المساواة في قوله تعالى:

(2/152)


يحتمله لأن وجوه الأستواء قائمة فوجب الإقتصار على ما دلت عليه صيغة الكلام وهو التغاير في البصر وكذلك كاف التشبيه لا يوجب العموم لما قلنا من قيام المغايرة من وجوه كثيرة حتى إذا قيل زيد مثلك لم يثبت عمومه إلا أن يقبل المحل العموم مثل قول علي رضي الله عنه في أهل الذمة إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا فإن هذا عام عندنا لأن المحل يحتمله
ـــــــ
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} "غافر :58" لم يظهر في حق هذه الأحكام حتى يقتصر البصير بالأعمى ويستويان في الدية والاستيلاء لاختصاصه بالبصر فكذا هذا
قوله "وهو التغاير في البصر" المراد والله أعلم عمى القلب وبصره لأن ذكر القضية المعلومة في ذهن كل أحد غير مستحسن ويؤيده ما ذكر في التفسير وما يستوي الأعمى أي المشرك الذي لا يبصر الرشد والبصير أي المؤمن الذي يبصره.
قوله "وكذلك كاف التشبيه" يعني كما أن نفي المساواة والمماثلة لا يوجب العموم عند نبوة المحل عنه فكذلك إثبات المماثلة بذكر حرف التشبيه أو بلفظ المثل أو بغيرهما لا يوجب العموم عند نبوة المحل أيضا فيحمل على ما هو المتيقن مثاله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سارق أمواتنا كسارق أحيائنا لا يمكن القول فيه بالعموم لانتفاء المماثلة والمساواة بينهما من وجوه كثيرة فيحمل على ما هو المتيقن وهو الإثم في الآخرة دون حكم الدنيا وهو القطع وإلا إذا قبل المحل العموم فيجب القول به حينئذ لارتفاع المانع لأن المحل يحتمله إذ المماثلة ثابتة من كل وجه حسا وطبعا وكذا يثبت حكما لأن الغرض من التشبيه إثبات المماثلة في الحكم فيكون عاما ورأيت في حاشية أنا إنما عملنا بالعموم في حديث علي رضي الله عنه لأن فيه حقن الدم ولم نعمل بالعموم في حديث عائشة رضي الله عنها لأن فيه إثبات الحد والحد يحتال لدرئه لا لإثباته قوله "ومن هذا الباب" أي ومما تركت الحقيقة فيه بدلالة محل الكلام قوله عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات" . وقوله عليه السلام : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان, وما استكرهوا عليه" فإن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن لا يوجد العمل إلا بالنية نظرا إلى كلمة الحصر وأن لا يوجد الخطأ والنسيان والإكراه أصلا نظرا إلى استناد الارتفاع إلى ما هو محلى باللام المستغرق للجنس وقد نرى أن العمل يوجد بلا نية وكذا يوجد الخطأ والنسيان والإكراه فعرفنا بنبوة محل الكلام وهو العمل والخطأ واختاره عن قبول الحقيقة أنها ساقطة وليست بمرادة وأن العمل في حديث النية والخطأ والنسيان والإكراه في حديث الرفع مجاز وكناية عن الحكم بطريق إطلاق اسم الشيء على موجبه أو بطريق حذف

(2/153)


ومن هذا الباب قول النبي عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" ورفع الخطأ والنسيان سقطت حقيقته لأن المحل لا يحتمله من قبل أن غير الخطأ غير مرفوع بل هو متصور فسقط حقيقته وصار ذكر الخطأ والعمل مجازا عن حكمه وموجبه وموجبه نوعان مختلفان أحدهما الثواب في الأعمال التي تفتقر إلى النية والمأثم في الحرمات والثاني الحكم المشروع فيه من الجواز والفساد وغير ذلك وهذان معنيان مختلفان ألا ترى أن الجواز والصحة يتعلق بركنه وشرطه والثواب أو المأثم يتعلق بصحة عزيمته فإن من توضأ بماء نجس ولم يعلم حتى صلى ومضى على ذلك ولم يكن مقصرا لم يجز في الحكم لفقد
ـــــــ
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} "يوسف: 82"فصار كأنه قيل حكم الأعمال بالنيات ورفع حكم الخطأ ثم ما صار هذا الكلام عبارة عنه وهو الحكم له معنيان مختلفان أحدهما ما يتعلق بالآخرة وهو الثواب في الأعمال التي يحتاج إلى النية على ما تضمنه الحديث الأول والإثم في الأفعال المحرمة على ما دل عليه الحديث الثاني فإنه وارد في المحرمات
والثاني ما يتعلق بالدنيا وهو الحكم المشروع في ذلك المحل مثل الجواز في الأعمال المنوية والفساد في الأفعال المحرمة وغير ذلك من الندب والكراهة والإساءة والدليل على اختلاف المعنيين أن الثواب على العمل الذي هو عبادة والإثم في العمل الذي هو محرم يبتني على العزيمة والقصد, والفساد الذي هو حكم يبتني على الأداء بالأركان والشرائط إلى آخر ما ذكر في الكتاب.
وإذا ثبت اختلاف المعنيين صار هذا اللفظ بمنزلة المشترك كاسم المولى والقرء فلا يجوز احتجاج الخصم به علينا في اشتراط النية في الوضوء وفي عدم فساد الصوم بالخطأ والإكراه حتى يقيم دليلا على أن المراد منه ليس إلا ما يتعلق بالدنيا من الصحة والفساد ولا يمكنه ذلك لأن ما يتعلق بالآخرة وهو الثواب والمأثم مراد بالإجماع لأن استحقاق الثواب متعلق بالعزم والإثم في الخطأ والنسيان والإكراه مرفوع بالاتفاق أو يقيم دليلا على جواز العموم في المشترك ولا يمكنه ذلك أيضا لما مر في أول الكتاب
"فإن قيل" لو كان المراد حكم الآخرة لا غير لم يكن لقوله من أمتي فائدة لأن عدم المؤاخذة في الآخرة يعم جميع الأمم إذ لا يجوز في الحكمة تعذيبهم

(2/154)


شرطه واستحق الثواب لصحة عزيمته وإذا صارا مختلفين صار الاسم بعد صيرورته مجازا مشتركا فسقط العمل به حتى يقوم الدليل على أحد الوجهين فيصير مؤولا وكذلك حكم المأثم على هذا فصار هذا كاسم المولى والقرء وسائر الأسماء المشتركة
ـــــــ
"قلنا" ذلك مذهب المعتزلة فأما عند أهل السنة فهي جائزة في الحكمة بدليل قوله تعالى إخبارا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} "البقرة: 286"فلو لم يكن الخطأ والنسيان جائزي المؤاخذة كان معنى الدعاء لا تجر علينا بالمؤاخذة فيهما إذ المؤاخذة فيما لا تجوز المؤاخذة فيه جور. وفساده ظاهر
قوله"صار الاسم" أي اسم العمل والخطأ وأختيه بعد صيرورته مجازا حيث أريد به غيره وهو الحكم مشتركا أي في معنى المشترك لأن ما هو مراد منه وهو الحكم مشترك
قوله "وحكم المأثم" أي حكم هو مأثم على هذا يعني كما أن الثواب ينفصل عن الجواز في مسألة المتوضئ بالماء النجس من غير علم فكذلك الإثم ينفصل عن الفساد كمن صلى مرائيا مراعيا للشروط والأركان يستوجب الإثم من غير فساد وكالكلام في الصلاة ناسيا أو مخطئا تحقق الفساد من غير إثم هذا تقرير كلام الشيخ وفيه نوع اشتباه فإن الاشتراك الذي لا يجري العموم فيه هو الاشتراك اللفظي بأن يكون اللفظ موضوعا بإزاء كل واحد من المعاني الداخلة تحته قصدا كاسم القرء والعين على ما مر في أول الكتاب دون الاشتراك المعنوي فإن العموم يجري فيه بلا خلاف وذلك بأن يكون اللفظ موضوعا بإزاء معنى يعم ذلك المعنى أشياء مختلفة كاسم الحيوان يتناول الإنسان والفرس وسائر أنواعه بالمعنى العام وهو التحرك بالإرادة وكاسم الشيء يتناول المتضادات بمعنى الوجود وكاسم اللون يتناول السواد والبياض وغيرهما باعتبار معنى اللونية والحكم من هذا القبيل لأن حكم الشيء هو الأثر الثابت به فيتناول الجواز والفساد والثواب والمأثم بهذا المعنى العام لا بكونه موضوعا بإزاء كل واحد من المعاني المنتظمة تحته فكان من قبيل الشيء والحيوان لا من قبيل العين والقرء ألا ترى أنه يتناول الثواب أو المأثم لا باعتبار كونه ثوابا أو إثما بل باعتبار كونه أثرا ثابتا بالفعل كالشيء يتناول الماء والنار باعتبار الوجود لا باعتبار كونه مرطبا أو محرقا. وما ذكر في بعض الشروح أنه من قبيل العين للينبوع والشمس لا من قبيل الشيء لأن الحكم يتناول الجواز والفساد والثواب والمأثم قصدا لأن هذه أحكام شرعية كالعين يتناول الينبوع والشمس قصدا فكان مشتركا لفظيا تحكم إذ لا نقل فيه ولا دليل عليه

(2/155)


ومن الناس من ظن أن التحريم المضاف إلى الأعيان مثل المحارم والخمر
ـــــــ
واعلم أن القاضي الإمام أبا زيد رحمه الله لم يفرق بين المقتضى والمحذوف كما هو مذهب عامة أهل الأصول وجعل هذين الحديثين من نظائر المقتضى فقال في حديث الرفع عين هذه الأشياء غير مرفوعة إذ لو أريد عينها لصار كذبا وهذا لا يجوز على صاحب الشرع فاقتضى ضرورة زيادة وهي الحكم ليصير مفيدا وصار المرفوع حكمها وثبت رفع الحكم عاما عند الشافعي في الدنيا والآخرة حتى بطل طلاق المكره والمخطئ ولم يفسد الصوم بالأكل مخطئا لأن المقتضى له عموم عنده وعندنا يرتفع حكم الآخرة لا غير لأن بذلك القدر يصير مفيدا فيزول الضرورة فلا يتعدى إلى حكم آخر لأن المقتضى لا عموم له وقال في حديث النية لما ثبت حكم الآخرة مرادا وبه يصير الكلام مفيدا لم يتعد إلى ما وراءه وصار كأنه قال إنما ثواب الأعمال بالنيات هذا معنى كلامه رحمه الله ولما خالفه الشيخ المصنف وشمس الأئمة رحمهما الله في المحذوف وفرقا بين المحذوف والمقتضى وجوزا عموم المحذوف دون المقتضى والحديثان من قبيل المحذوف دون المقتضى على أصلهما اضطرا إلى تخريج الحديثين على وجه لا يرد نقضا على ما اختارا من جواز عموم المحذوف فبنيا انتفاء العموم فيهما على الاشتراك دون الاقتضاء وفيه من التمحل ما ترى. وقد كنت فيه برهة من الزمان فلم يتضح لي وجه يعتمد عليه وراجعت الفحول فلم يشيروا علي بجواب شاف وهو أعلم بالحقيقة
قوله "ومن الناس من ظن" اختلفوا في التحريم والتحليل المضافين إلى الأعيان مثل قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "النساء: 23" {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "المائدة: 3" {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "المائدة: 1". وقوله عليه السلام: "حرمت الخمر لعينها" : "أحلت لنا ميتتان1" على ثلاثة أقوال فذهب الشيخ المصنف وشمس الأئمة وصاحب الميزان ومن تابعهم إلى أن ذلك بطريق الحقيقة كالتحريم والتحليل المضافين إلى الفعل فيوصف المحل أولا بالحرمة ثم ثبتت حرمة الفعل بناء عليه فيثبت التحريم عاما
وذهب بعض أصحابنا العراقيين منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي ومن تابعه إلى أن المراد تحريم الفعل أو تحليله لا غير وإليه ذهب عامة المعتزلة.
وذهب قوم من نوابت القدرية كأبي عبد الله البصري وأصحاب أبي هاشم إلى أنه
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجة في الصيد حديث رقم 3218 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/97.

(2/156)


مجاز لما هو من صفات الفعل فيصير وصف العين به مجازا وهذا غلط عظيم
ـــــــ
مجمل وأن الاحتجاج في تحريم وطء الأمهات وتحريم أكل الميتة والدم وإباحة أكل لحوم الأنعام بهذه الآيات غير صحيح. تمسكت هذه الطائفة بأن القول بثبوت التحريم والتحليل على العموم بحيث يوصف العين والفعل جميعا بهما متعذر وبهذه النسبة أورد الشيخ هذه المسألة في هذا الباب وذلك لأن الحل والحرمة لا يكونان وصفين للأعيان لأنهما من التكليف الذي هو متوقف على القدرة ولهذا يتعلق بهما الثواب والعقاب والأعيان ليست بمقدورة لنا فلا تصلح متعلقة للتحريم والتحليل وإنما يتعلقان بالأفعال المقدورة لنا وهي الأفعال الاختيارية وإذا كان كذلك لا بد من إضمار فعل يكون هو متعلق التحريم والتحليل حذرا من إهمال الخطاب ولا يمكن إضمار جميع الأفعال المتعلقة بالعين لأن الإضمار خلاف الأصل والضرورة تندفع بما دون الجميع فوجب الاقتصار على البعض ثم ذلك البعض غير متعين لعدم دلالة اللفظ عليه فكان مجملا وتمسك الفريق الثاني بأن العرف يدل قطعا على أن المراد من ذلك تحريم الفعل المقصود منه فإن من اطلع على أعرف أهل اللغة ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول القائل لغيره حرمت عليك الطعام والشراب وحرمت عليك النساء سوى تحريم الأكل والشرب في الطعام والشراب وتحريم الوطء والاستمتاع في النساء ولا يتخالجه شك في أن هذا التحريم ليس بتحريم لنفس العين وأنه تحريم الفعل المقصود فلا يكون مجملا وصار كأنه قيل حرم عليكم نكاح أمهاتكم أو الاستمتاع بهن وحرم عليكم أكل الميتة وأحل لكم أكل الطيبات وحرم عليكم شرب الخمر لعينه.
قال عبد القاهر البغدادي في أصول الفقه إن الأمة بأسرها أجمعت قبل هذه الطائفة من القدرية على أن الله سبحانه وتعالى قد دل على تحريم وطء الأمهات والبنات وتحريم الميتة والدم وتحليل أكل النعم بهذه الآيات إجماعا لا ريب فيه ويكفرون المتأول لها ويقولون إنما حكمنا بكفره لتأويله نصا لا يحتمل إلا على معنى واحد ولا يحتجون عليه إلا بظواهر هذه الآيات والمخالف في أن هذا دليل ثابت غير محتمل مكذب الأمة ولا فرق بين مخالفة الأمة في أن المراد بهذه الآيات ما ذكرنا وبين خلافها في تحريم الأمهات والبنات والميتة والدم فمن أجاز أحدهما لزمه تجويز الآخر قال ومما يدل عليه أن اللفظ إذا احتمل معنيين وبطل بدليل العقل أحدهما وجب المصير إلى الآخر ولم يجز التوقف فيه وقد ورد لفظ التحريم والتحليل متعلقا بالأعيان التي لا يصح كونها من أفعالنا ولا يصح النهي عنها لوجودها تعين القسم الآخر وهو رجوع التحريم والتحليل إلى تصرفنا فيها ولم يكن للتوقف فيهما معنى مع صحة أحد القسمين ببطلان الآخر ولكنا نقول يصح

(2/157)


----------------------------------------
ـــــــ
وصف العين بالحرمة حقيقة كما يصح وصف الفعل بها ومعنى اتصافها بها خروجها من أن يكون محلا للفعل شرعا كما أن معنى وصف الفعل بالحرمة خروجه من الاعتبار شرعا فإذا أمكن العمل بحقيقته لا معنى للإضمار لأنه ضروري يصار إليه عند تعذر العمل بظاهر اللفظ ولأن الحرمة عبارة عن المنع قال تعالى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} "القصص: 12"أي منعنا وقال جل جلاله. {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} "الأعراف: 50"أي منعهم شراب الجنة وطعامها ومنه حرم مكة لمنع الناس عن الاصطياد فيه وغيره وحريم البئر لمنع الغير عن التصرف في حواليها فيوصف الفعل بالحرمة على معنى أن العبد منع عن اكتسابه وتحصيله فيصير العبد ممنوعا والفعل ممنوعا عنه وتوصف العين بالحرمة على معنى أن العين منعت عن العبد تصرفا فيها فيصير العين ممنوعة والعبد ممنوعا عنها فعرفنا أن وصف العين بالحرمة صحيح وأن المنع نوعان منع الرجل عن الشيء كقولك لغلامك لا تأكل هذا الخبز وهو موضوع بين يديه ومنع الشيء عن الرجل بأن رفع الخبز من يديه أو أكل فإذا أضيف التحريم إلى الفعل كان من قبيل النوع الأول وإذا أضيف إلى العين كان من النوع الثاني ونظيرهما الحفظ والحماية فإن الحماية أن يظهر أثرها في الحمى بدفع الأغيار عنه ويكون فعل الحامي في القاصد لذلك المحمي لا في عينه فيبقى المحمي على أصل الصيانة. والحفظ أن يظهر أثره في المحفوظ بصنع في المحفوظ لا في دفع القاصد إلا أن اندفاع القاصد عنه لعدم إمكان الوصول إليه فيحصل الصيانة. ومنه قول الشاعر:
ألا ذهب المحافظ والمحامي ... ومانع ضيمنا يوم الخصام
ذكر هذين الأمرين جميعا فكان المقصود حاصلا في الحالين وهو الصيانة ودفع الضرر عن صاحب المال لكن بطريقين مختلفين فكذلك ما نحن فيه كذا في شرح التأويلات وهذا النوع من التحريم في غاية التوكيد لانتفاء الفعل فيه بالكلية وانقطاع تصوره أصلا فإن من قال لعبده لا تشرب الماء الذي في هذا الكوز يحتمل أن يشربه لبقاء المحل والقدرة عليه فأما إذا صبه المولى بعد النهي أو شربه كان الانتفاء فيه أقوى لانقطاع ذلك الاحتمال بفوات المحل فإذا أمكن تحقيق إضافة التحريم إلى العين واتصافها بالحرمة بالطريق الذي قلنا كان جعل ذلك مجازا باعتبار عدم قبول المحل صفة الحرمة والحل كما زعموا خطأ فاحشا وذكر في الميزان وإنما أنكرت المعتزلة حرمة الأعيان احترازا عن مناقضة مذهبهم الفاسد في نفي خلق أفعال العباد عن الله تعالى بقولهم إن منها ما يوصف بالقبح والحرمة مثل الكفر والمعاصي ولا يجوز نسبة خلق القبيح إلى الله تعالى فيلزمهم خلق الأعيان القبيحة المستقذرة من الأنجاس والجعلان والخنافس والقردة والخنازير ونحوها فأنكروا قبح الأعيان. وقالوا إنها ليست بقبيحة وأنكروا المحسوس والثابت ببداية العقول

(2/158)


لأن التحريم إذا أضيف إلى العين كان ذلك أمارة لزومه وتحققه فكيف يكون مجازا لكن التحريم نوعان تحريم يلاقي نفس الفعل مع كون المحل قابلا كأكل مال الغير. والنوع الثاني أن يخرج المحل في الشرع من أن يكون قابلا لذلك الفعل فينعدم الفعل من قبل عدم محله فيكون نسخا ويصير الفعل تابعا من هذا الوجه فيقام المحل مقام الفعل فينسب التحريم إليه ليعلم أن المحل لم يجعل صالحا له وهذا في غاية التحقيق من الوجه الذي يتصور في جانب المحل لتوكيد النفي فأما أن يجعل مجازا ليصير مشروعا بأصله فغلط فاحش ومما يتصل بهذا القسم حروف المعاني فإنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز وشطر من مسائل الفقه مبني على هذه الجملة وهذا الباب لبيان ما يتصل بها من الفروع والله أعلم
ـــــــ
وأنكروا اتصافها بالحرمة لئلا يلزمهم اتصافها بالقبح فإن كل محرم يكون موصوفا بالقبح وعندنا الأعيان نوعان قبيحة وحسنة كالأفعال نوعان قبيحة وحسنة ونوع متوسط في الأعيان لا ينفر عنه الطباع ولا يميل إليه فيوصف بالحل والإباحة
قوله "كان ذلك أمارة لزومه وتحققه" يعني إذا أضيف التحريم إلى العين كان حرمة الفعل آكد وألزم واللزوم من أمارات الحقيقة حتى جعلنا الفارق بين الحقيقة والمجاز أن يكون الحقيقة لازمة لا تنفى والمجاز لا يكون لازما وينفى فما يؤكد اللزوم كيف يكون مجازا لكن التحريم استدراك عن قوله فكيف يكون مجازا أي لا يكون مجازا لكن يصير الفعل تابعا في التحريم بخلاف ما إذا أضيف إلى الفعل فإنه يكون مقصودا بالتحريم فيقام المحل مقام الفعل يعني لما لم يثبت تحريم الفعل مقصودا إذ لم يذكر الفعل صريحا أقيم العين مقام الفعل في إثبات حرمة الفعل لأن العين لما اتصفت بالحرمة ثبتت حرمة الفعل ضرورة كما بينا أو أقيمت مقامه في الاتصاف بالحرمة لأن الفعل لم يبق متصورا شرعا. وهذا أي تحريم الفعل بإخراج المحل عن المحلية في نهاية التحقيق وإن كان الفعل فيه تابعا لأن نفي الفعل فيه وإن كان تبعا أقوى من نفيه إذا كان مقصودا كما قررنا "فأما أن يجعله" أي التحريم المضاف إلى العين مجازا في العين ليصير الفعل فيها بالنظر إلى أصله مشروعا لبقاء محله كأكل مال الغير "فغلط فاحش" لأن فيه إخراج ما هو مقصود وأصل وهو العين عن الأصالة وإقامة ما هو تبع وهو الفعل مقامه ولأن فيه إبقاء جهته للفعل في الحل
قوله "وشطر من مسائل الفقه" شطر كل شيء نصفه إلا أنه يستعمل في البعض توسعا في الكلام واستكثارا للقليل كما قال عليه السلام في الحائض: "تقعد شطر عمرها" أي بعضه ومثله في التوسع قوله عليه السلام: "تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم" كذا في المغرب والله أعلم

(2/159)