كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب حروف المعاني":
"الواو"
ومن هذه الجملة حروف العطف وهي أكثرها وقوعا وأصل هذا القسم
ـــــــ
"باب حروف المعاني"
هذا باب دقيق المسلك لطيف المأخذ, كثير الفوائد, جم المحاسن, جمع الشيخ رحمه الله فيه بين لطائف النحو, ودقائق الفقه, واستودع فيه غرائب المعاني, وبدائع المباني, فاصغ لما يتلى عليك من بيان لطائف حقائقه, واستمع لما يلقى إليك من كشف غوامض دقائقه. بتوفيق الله جل جلاله تستزد به تبصرا في درك أسرار مستودعاته, وتستفد به تبحرا في الوقوف على عجائب مستبدعاته, إن شاء الله سبحانه وتعالى
واعلم أن لفظ الحروف يطلق على الحروف التسعة والعشرين التي هي أصل تراكيب الكلام ويطلق على ما يوصل معاني الأفعال إلى الأسماء وعلى ما يدل بنفسه على معنى في غيره على ما فسر في علم النحو بأن الحرف ما دل على معنى في غيره ويسمى الأول حروف التهجي أي التعدد من هجى الحروف إذا عددها والثاني حروف المعاني لما ذكرنا من إيصالها معاني الأفعال إلى الأسماء أو لدلالتها على معنى فإن الباء في قولك مررت بزيد حرف معنى لدلالتها على الإلصاق بخلاف الباء في بكر وبشر فإنها لا تدل على معنى. وكذا الهمزة في أزيد حرف معنى بخلافها في أحمد وكذا من في قولك أخذت من زيد حرف معنى بخلافه في منوال ثم إطلاق لفظ الحروف ههنا على المذكور في الباب بطريق التغليب لأن بعض ما ذكر في هذا الباب أسماء مثل كل ومتى ومن وإذا وغيرها لكن لما كان أكثرها حروفا سمي الجمع بهذا الاسم
قوله "حروف العطف" العطف في اللغة الثني والرد يقال عطف العود إذا ثناه ورده إلى الآخر فالعطف في الكلام أن يرد أحد المفردين إلى الآخر فيما حكمت عليه أو إحدى الجملتين إلى الأخرى في الحصول. وفائدته الاختصار وإثبات المشاركة
"الواو"
وأصل هذا القسم الواو لأن العطف لإثبات المشاركة ودلالة الواو على مجرد

(2/160)


الواو وهي عندنا لمطلق العطف من غير تعرض لمقارنة ولا ترتيب وعلى هذا عامة أهل اللغة وأئمة الفتوى وقال بعض أصحاب الشافعي إن الواو يوجب الترتيب حتى قالوا في قول الله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} "المائدة: 6" يوجب الترتيب واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا في
ـــــــ
الاشتراك وسائر حروف العطف يدل على معنى زائد على الاشتراك فإن الفاء يوجب الترتيب معه وثم يوجب التراخي معه فلما كانت في تلك الحروف زيادة على حكم العطف صارت كالمركبة معنى والواو مفرد والمفرد قبل المركب والحاصل أن العطف لما كان عبارة عن الاشتراك والواو متمخضة لإفادة هذا المعنى دون غيره صارت أصلا في العطف
قوله "وهي عندنا لمطلق العطف" أي لمطلق الجمع من غير تعرض لمقارنة كما زعمه بعض أصحابنا على قول أبي يوسف ومحمد ولا ترتيب كما زعمه ذلك البعض على أصل أبي حنيفة وكما زعمه بعض أصحاب الشافعي يعني أنها تدل في عطف المفرد على المفرد على اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم فقط من غير أن يدل على كونهما معا بالزمان أو على تقدم أحدهما على الآخر به, وفي عطف الجملة على الجملة على اشتراكهما في الثبوت هذا هو مذهب جماهير العلماء من أهل اللغة وأئمة الفتوى أي أهل الشرع والفتى الشاب القوي الحدث واشتقاق الفتوى منه لأنها جواب في حادثة أو أحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل كذا في المغرب
وقال بعض أصحاب الشافعي إنها للترتيب ونقل ذلك عن الشافعي رحمه الله أيضا قال شمس الأئمة وقد ذكر الشافعي ذلك في أحكام القرآن. وفي القواطع نقل عن الشافعي أنه قال في الوضوء يعتبر ذكر الآية ثم قال ومن خالف الترتيب الذي ذكره الله لم يجز وضؤه وروي عن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع أما في المفرد فكقولك زيد راكع وساجد وأما في الجملة فكقوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج : 77"قوله "واحتجوا" تمسك مثبتو الترتيب بما روي أن الصحابة لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم عند السعي بين الصفا والمروة بأيهما نبدأ وقد نزل قوله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} "البقرة: 158"قال: "ابدءوا بما بدأ الله به1" ففيه دليل على أنها للترتيب من وجوه أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم وجوب الترتيب حتى قال ابدءوا بكذا وأنه عليه السلام كان أعلم باللسان وأفصح العرب والعجم وإليه أشير في الكتاب
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1218 والترمذي في الحج حديث رقم 862 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1905 وابن ماجة في الحج حديث رقم 3074.

(2/161)


:"السعي وقال " نبدأ بما بدأ الله عز وجل" يريد به قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} "البقرة: 158"ففهم وجوب الترتيب ووجوب الترتيب بقوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77"وهذا
ـــــــ
والثاني أنه عليه السلام نص على الترتيب عند اشتباهها عليهم أنها للجمع أو للترتيب فيثبت بتنصيصه عليه السلام أنها للترتيب. والثالث أنها لو كانت للجمع المطلق لما احتاجوا إلى السؤال لأنهم كانوا أهل لسان ولا يعارض بأنها لو كانت للترتيب لما احتاجوا إلى السؤال أيضا لأنهم يقولون يجوز أن يكون سؤالهم لتجويزهم إياها مستعملة في الجمع المطلق تجوزا بناء على الغالب
قوله "ووجوب الترتيب" وتمسكوا أيضا بأن الركوع مقدم على السجود بلا خلاف واستفيد هذا التقدم من الواو في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77" فلو لم يكن الواو للترتيب لما استفيد ذلك منها
ومما تمسكوا به أن أعرابيا قال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال النبي عليه السلام: "بئس خطيب القوم أنت قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى1" ولو كان الواو للجمع المطلق لما وقع الفرق بين العبارتين
قوله "وهذا حكم" ابتداء دليل العامة أي موجب الواو حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب أي تتبعه من استقريت البلاد إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرض ومعناه أنه ينظر في استعمالاتهم أنها استعملت في الجمع المطلق أو في الترتيب وبالتأمل في موضوع كلامهم أي في قوانينهم التي بني عليها كلامهم أنها توجب كونها للترتيب أم للجمع المطلق كالحكم الشرعي يتعرف من اتباع الكتاب والسنة بأن يطلب فيهما وبالتأمل في موارد النصوص وقوانين الشرع الموضوعة لاستخراج الأحكام إن لم يوجد فيهما وكلاهما أي الاستقراء والتأمل حجة عليه أي على من ادعى أنها للترتيب لا للجمع المطلق من غير تعرض أي تصد له وهو استعارة يعني من غير دلالة لها على المقارنة والترتيب حتى لو جاء مقارنين أو على التعاقب بصفة الوصل أو التراخي كان صادقا في هذا الإخبار وقد ثبت ذلك بالنقل عن أئمة اللغة ونقل اللغة عن أربابها حجة وقد نص عليه سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه. وقال الإمام عبد القاهر معنى الواو الجمع بين الشيئين في الحكم لا في الوقت ولا ترتيب فيه لأنها في الاسمين المختلفين بإزاء التثنية
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الجمعة حديث رقم 48 وأبو داود في الأدب حديث رقم 4981 والإمام أحمد 4/256

(2/162)


حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب وبالتأمل في موضوع كلامهم كالحكم الشرعي إنما يعرف من قبل اتباع الكتاب والسنة والتأمل في أصول الشرع وكلاهما حجة عليه ودليل لما قلنا أما الأول فإن العرب تقول جاءني زيد وعمرو فيفهم منه اجتماعهما في المجيء من غير تعرض للقران أو الترتيب في المجيء ولأن الفاء يختص بالأجزئة ولا يصلح فيها الواو حتى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار وأنت طالق طلقت في الحال ولو احتمل الواو الترتيب لصلح للجزاء كالفاء وقد صارت الواو للجمع في قول الناس جاءني الزيدون وأصله جاءني زيد وزيد وزيد وقالوا لا تأكل السمك وتشرب اللبن معناه لا
ـــــــ
في المتفقين فإذا قلت جاءني زيد وعمرو لم يجب أن يكون المبدوء به في اللفظ سابقا بل كل منهما بمنزلة صاحبه في جواز تقديمه كما إذا قلت جاءني الزيدان إن لم يكن اللفظ مقتضيا تقدم أحدهما بل مقتضاه اجتماعهما في وجود الفعل فقط ولأن الفاء يختص بالأجزئة وذلك لأن الجزاء متعقب على ما يوجبه من شرط أو نحوه والفاء هي التي تدل على التعقيب فلذلك اختصت بها ولا يصلح فيها الواو لما ذكر فلو كان موجبها الترتيب لما افترق الحال بين الفاء والواو
قوله "وأصله جاءني زيد وزيد وزيد" وإنما كان كذلك لأنه نظير جاءني بكر وبشر وخالد وهذا المجموع أسماء أعلام وضعت لأشخاص مختلفة من غير نظر إلى المعنى إلا أن الألفاظ إذا كانت مختلفة لا يمكن جمعها في لفظ واحد مع كمال المقصود وهو تعريف ذواتهم فلذلك يقال جاءني بكر وبشر وخالد فأما إذا كانت متفقة فيمكن اختصارها بصيغة الجمع والاكتفاء بلفظ واحد منها مع كمال المقصود فيقال زيدون احترازا عن التطويل والتكرير المستكرهين وهذا الواو لمطلق الجمع بالإجماع فيكون الواو في قوله جاءني بكر وبشر وخالد كذلك أيضا لأن هذه عين تلك كذا في بعض الشروح
قوله "وقالوا" أي أهل اللغة لا تأكل السمك وتشرب اللبن قال الشيخ الإمام عبد القاهر اعلم أن النصب في قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن. بإضمار أن والذي أوجب ذلك أنهم لو أدخلوا ما بعد الواو في إعراب ما قبلها لاشتمل النهي على كل واحد من الفعلين وليس الغرض ذلك وإنما المقصود النهي عن الجمع بينهما فلما لم يكن إدخال تشرب في إعراب تأكل وجب أن يضمر أن وينزل قولك لا تأكل السمك منزلة لا يكن منك أكل السمك ليكون تشرب, مع تقدير أن مصدرا معطوفا على مثله نحو لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن فحصل بهذا الإضمار معنى النهي عن الجمع بينهما وأن

(2/163)


تجمع بينهما من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب في الوجود ولو استعمل الفاء مكانه لبطل المراد ومثله قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ـــــــ
أحدهما مباح له وما ذكر عن بعض البغداديين أنه منصوب على الظرف فالمراد أنهم لما قصدوا أن يكون الثاني غير داخل في حكم الأول فنصبوه صار العدول به عن المعنى الأول كأنه نصبه إذ كان سببا لإضمار أن فأما أن يراد أن النصب بنفس مخالفته للأول حتى كان عامله ذلك المعنى فلا
قوله "ولو استعمل الفاء مكانه لبطل المراد" لأن الغرض ههنا الجمع بين الشيئين ولا يراد أن يجعل الأكل سببا للشرب نحو أن تقول إن أكلت السمك شربت اللبن كما يكون ذلك في قولك لا تنقطع عنا فنجفوك أي لا يكن منك انقطاع فجفاء منا وكقولك لا تدن من الأسد فيأكلك أي إنك إن دنوت منه أكلك ويصير دنوك سببا لأكله إياك وعليه قوله تعالى {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} "طه: 81"أي لا تجاوزوا الحد في أكل الطيبات فإنكم إن فعلتم ذلك حل عليكم غضبي ويصير طغيانكم سبب حلول آثار الغضب عليكم وإذا كان المراد الجمع وجب الثبات على الواو دون الفاء لأن الواو تدل على الجمع والفاء تدل أن الثاني بعد الأول. وإذا ثبت أن الفاء لا تصلح في موضع الواو كما لا تصلح الواو في موضع الفاء في قوله إن دخلت الدار وأنت طالق علم أن كل واحد منهما وضعت لمعنى على حدة وأنها ليست للترتيب
قوله "ومثله" أي مثل قوله لا تأكل السمك وتشرب اللبن قول الشاعر:
"لا تنه عن خلق وتأتي مثله"
أي لا يكن منك نهي عن خلق وإتيان بمثله أي لا تجمع بين هذين فالنهي عن خلق مباح له, إذا لم يقترن بإتيان مثله وما حكي عن الأصمعي أنه كان ينشده بإسكان الياء ويقول إن سماعي كذلك فوجهه أن تكون الياء في تقدير النصب كقوله: كأن أيديهن بالقاع الفرق
أو يكون على الابتداء نحو لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله وقبله:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تقبل إن وعظت وتقتدى ... بالأمر منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم

(2/164)


أي لا تجمع بينهما فهذا لبيان الوضع وأما الثاني فلأن كلام العرب أسماء وأفعال وحروف والأصل في كل قسم منها أن يكون موضوعا لمعنى خاص يتفرد به فأما الاشتراك فإنما يثبت لغفلة من الواضع أو عذر دعا إليه وكذلك التكرار
ـــــــ
ومما تمسك به العامة قوله تعالى في سورة البقرة {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} "البقرة: 58". وقوله عز اسمه في سورة الأعراف {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} "الأعراف: 161" والقصة واحدة آمرا ومأمورا وزمانا ثبت ذلك بنقل أئمة التفسير فلو كانت الواو للترتيب لتناقضا لدلالة الأول على تقدم الدخول على القول ودلالة الثاني على عكسه وكلامه تعالى عن ذلك منزه ولأنه لو أفاد الترتيب لكان قوله رأيت زيدا وعمرا قبله متناقضا ولكان قوله رأيت زيدا وعمرا بعده تكرارا والأول باطل والثاني خلاف الأصل قال الإمام عبد القاهر ومما يدل على أن الواو لا أصل له في الترتيب أنهم وضعوها حيث لا يتصور الترتيب كقولهم اشترك زيد وعمرو واختصم بكر وخالد وذلك أن الاشتراك والاختصام مما يقتضي فاعلين فلو قلت في قولك اشترك زيد وعمرو إن زيدا قبل عمرو في الرتبة كان بمنزلة أن تقول اشترك زيد وتسكت لأن أحدهما إذا تقدم على صاحبه لم يكن مساويا له ومجتمعا معه كما أنك إذا قلت جاءني زيد قبل عمرو لم يكن لزيد اجتماع مع عمرو في المجيء فمن ادعى أن الواو دليل على الترتيب لزمه أن يقول اشترك زيد واختصم بكر ويسكت ولهذا لا يصح بالفاء وثم لأنك لو قلت اختصم زيد فعمرو أو اشترك بكر ثم خالد كان بمنزلة قولك جاءني زيد فعمرو في جعلك الاختصام والاشتراك مما يسند إلى فاعل واحد حتى كأنك قلت اختصم زيد وسكت لما ذكرنا أن الترتيب يزيل الاجتماع.
قوله "والأصل في كل قسم كذا" يعني الأصل في الكلام الخصوص اسما كان أو فعلا أو حرفا وهو أن يكون بإزاء كل لفظ معنى واحد وأن لا يكون لمعنى واحد إلا لفظ واحد لأن الكلام وضع للإفهام والاشتراك يخل به والترادف يوجب إخلاءه عن الفائدة وذلك لا يليق بالحكمة. لغفلة من الواضع يعني إن كانت اللغات اصطلاحية بأن وضع الواضع اللفظ أولا بإزاء معنى واشتهر بين قوم وقد نسيه ثم وضعه بإزاء معنى آخر واشتهر بين قوم آخرين ثم اجتمعوا واشتهر الوضعان بين الكل أو عذر أي حكمة دعت إلى ذلك وهو الابتلاء إن كانت اللغات توقيفية ليتبين درجة العالم الذي يستخرج المراد من الكلام بقوة قريحته بالتأمل فيه.لتكرر الدلالة أي يلزم التكرار
"فإن قيل" لا يتكرر بل يكون لمطلق الترتيب
"قلنا" قد وضعت كلمة بعد لمطلق الترتيب فيلزم التكرر لا محالة على أنها

(2/165)


وقد وجدنا حروف العطف وغيرها موضوعة لمعان يتفرد كل قسم بمعناه فالفاء للترتيب ومع للقران وثم للتعقيب والتراخي فلو كان الواو للترتيب لتكررت الدلالة وليس ذلك بأصل لكن الواو لما كانت أصلا في الباب كان ذلك دلالة على أنها وضعت لمطلق العطف مع احتمال كل قسم من أقسامه من غير تعرض لشيء منها ثم انشعبت الفروع إلى سائر المعاني وهذا كما وضع لكل جنس اسم مطلق مثل الإنسان والتمر ثم وضعت لأنواعها أسماء على الخصوص وصارت الواو فيما قلنا نظير اسم الرقبة في كونه مطلقا غير عام ولا مجمل ولهذا قلنا إن حكم النص في آية الوضوء التحصيل من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب وقد ظن
ـــــــ
ليست لمطلق الترتيب عندكم فإن الولاء في الوضوء شرط في الجديد كما هو قول مالك ولو كان لمطلق الترتيب لم يشترط ولأنها لو كانت للترتيب لخلا الكلام عن حرف يدل على مطلق الجمع وهو معنى مقصود وذلك إخلال به ولا يتخالجن في وهمك أنها أوجبت الترتيب في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} "البقرة: 277" حيث رتب العمل على الإيمان ولم يعتبر بدونه لأن ذلك استفيد من قوله تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} "طه: 112" لا من الواو لكن الواو استدراك من حيث المعنى أي ليست الواو للترتيب لكنها لما كانت أصلا في باب العطف لكونها أكثر وقوعا بدلالة الاستقراء كان ذلك أي كونها أصلا دلالة على أنها وضعت لمطلق العطف الذي هو أصل لما سواه من أقسامه للمناسبة. "ثم انشعبت الفروع" أي الحروف التي هي فروع لها نظرا إلى قلة وقوعها بالنسبة إلى الواو كالفاء وثم "إلى سائر المعاني" التي هي فروع لمطلق الجمع من تقيده بصفة الترتيب وصفة القران وصفة التراخي اعتبارا للتناسب ومحافظة على قوانينهم المستمرة في سائر الألفاظ فإنهم وضعوا لكل جنس اسما ثم فرعوا عليه أنواعه كالإنسان اسم جنس ثم يتنوع إلى رجل وامرأة وكالتمر اسم جنس ثم يتنوع إلى عجوة وبرني وسنجاني وقسب ودقل وغيرها
قوله "غير عام" كما زعم الشافعي رحمه الله وقد بينا ولا مجمل قد زعم بعض الناس أن اسم الرقبة مجمل لأن المراد لا يعرف منها. وقوله مؤمنة مفسر لها فلذلك يتقيد الرقبة في كفارة اليمين بصفة الإيمان وهذا فاسد لأنها اسم جنس وأسماء الأجناس معلومة المعاني عند أرباب اللسان وأصحاب الشريعة فكانت من قبيل المطلق لا من قبيل المجمل ولهذا قلنا أي ولكونها للجمع المطلق من غير تعرض لمقارنة كما قاله مالك إذ القران فيه لا يتصور إلا بالولاء. أو ترتيب كما قاله الشافعي والجواب عن متمسكهم أن قوله

(2/166)


بعض أصحابنا أن الواو للمقارنة وليس كذلك وزعم بعضهم أنها عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمقارنة لأنهما قالا فيمن قال لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق أنها إذا دخلت طلقت ثلاثا وأنها عند أبي حنيفة رحمه الله تطلق واحدة فدل أنه جعلها للترتيب وليس كذلك بل
ـــــــ
تعالى {ِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} "البقرة: 158" لبيان أنهما من معالم الحج وشعائر الله وهذا لا يحتمل الترتيب وسيأتي بيانه. وكذلك قوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} "الحج: 77" لا يفيد الترتيب وما عرفنا وجوب الترتيب به كيف وأنه معارض بقوله عز اسمه {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} "آل عمران: 43" وإنما عرفناه بقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أو يكون الركوع مقدمة السجود والقيام مقدمة الركوع على ما عرف في موضعه وكذا رده عليه السلام على الأعرابي لم يكن لإفادة الواو الترتيب إذ لا ترتيب في معصيتهما لعدم انفكاك أحديهما من الأخرى بل لترك ذكر اسم الله تعالى على سبيل التعظيم قوله "وقد ظن بعض أصحابنا" أن الواو للمقارنة عند علمائنا الثلاثة استدلالا بما إذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار يتعلق الكل بالشرط وينزلن جملة ولو لم تكن للمقارنة لوقع الأول ولغا الثاني والثالث لعدم المحل وزعم بعضهم أنها للترتيب عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله للمقارنة استدلالا بالمسألة المذكورة في الكتاب وليس كذلك أي ليس الأمر كما زعموا إذ لا يلزم من وجود المقارنة أو الترتيب في صورة من الصور التي وجدت فيها الواو أن يكون الواو موضوعة له لجواز أن يكون المقارنة أو الترتيب بناء على معنى آخر غير الواو كما سنبينه والدليل عليه عدم اطرادها في الدلالة على المقارنة أو الترتيب في عامة الصور كيف والمطلق في الخارج لا يوجد إلا مقيدا بصفة وذلك لا يدل على كون اللفظ موضوعا للمقيد ألا ترى أن الإنسان لا يوجد في الخارج إلا مقيدا بصفة. وذلك لا يدل على أن لفظ الإنسان دال على تلك الصفة وموضوع لها بل الواو لمطلق العطف عند أصحابنا جميعا وإنما الاختلاف في المسألة بناء على كيفية تعلق الثاني والثالث بالشرط لا لأن الواو أوجبت المقارنة أو الترتيب ألا ترى أنهم اتفقوا على أنه لو نجز فقال أنت طالق وطالق وطالق لا يقع إلا واحدة وعلى أنه لو قدم الجزاء فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار أنه يتعلق الكل بالشرط وينزلن جملة فلو كان اختلافهم في مسألة الكتاب بناء على اختلافهم في موجب الواو لثبت الاختلاف في المسألتين ولكنهما قالا موجبه الاجتماع أي موجب كلامه الاجتماع لأن موجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه.

(2/167)


اختلافهم راجع إلى ذكر الطلقات متعاقبة يتصل الأول بالشرط على التمام والصحة ثم الثاني والثالث ما موجبه فقال أبو حنيفة رحمه الله موجبه الافتراق لأن الثاني اتصل بالشرط بواسطة والثالث بواسطتين والأول بلا واسطة فلا يتغير هذا
ـــــــ
والجملة الأولى تامة لوجود الشرط والجزاء وقوله وطالق جملة ناقصة لأنه بغير شرط فيصير ما يتم به الأولى وهو الشرط شرطا للثانية لتصير كاملة ولهذا تعلقت الثانية والثالثة بالشرط ولم تقعا في الحال ولما ساوت الثانية والثالثة الأولى في التعليق بالشرط وليس بين الأجزئة ما يوجب صفة الترتيب إذ الواو لا توجب ذلك وتعلقت غير موصوفة بالترتيب وقعن كذلك كما لو كرر الشرط بأن قال إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق أو قدم الجزاء كما ذكرنا إذ الجزاء يتأخر عن الشرط قدم الشرط عليه أو أخره ذكرا
وكما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق تطليقة ونصفا فدخلت الدار تطلق ثنتين ولا فرق بين تطليقة ونصف تطليقة إذ الطلاق لا نصف له ولا يلزم ما إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق وطالق وطالق فإنها تطلق واحدة لا ثلاثا خلافا لأحمد بن حنبل وبعض أصحاب مالك والليث بن سعد1 وربيعة2 "وابن" أبي ليلى لأن أزمنة الوقوع متفرقة فلا تقع مجتمعة فتبين بالأول فلا يصح الثاني وفيما نحن فيه زمان الوقوع زمان وجود الشرط ولم يوجد منه تفريق بعد الشرط ألا ترى أنه لو أرسل فقال أنت طالق واحدة لا بل ثنتين لم تطلق إلا واحدة ولو علق ثم وجد الشرط طلقت ثلاثا كذا في الأسرار وذكر بعض مشايخنا في بيان قولهما إن عطف الجملة الناقصة على الكاملة يوجب إعادة ما في الكاملة لتصير الناقصة كاملة أيضا بخلاف عطف الكاملة على مثلها ألا ترى أنه لو قال لامرأتيه هذه طالق ثلاثا وهذه طلقت الأخرى ثلاثا لأن خبر الأولى يصير معادا في حقها بخلاف ما لو قال هذه طالق ثلاثا وهذه طالق حيث تطلق الأخرى واحدة لأنها مفيدة بنفسها فلا تقتضي ذكر الخبر مرة أخرى.
وكذلك لو قال جاءني زيد وعمرو أو قال مررت بالبصرة والكوفة يصير المجيء والمرور مذكورين مرة أخرى لا طريق له إلا ذلك فكذلك ههنا قوله وطالق ناقص لا شرط
ـــــــ
1 هو الليث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي أبو فقيه مصر ولد سنة 94ه.توفي سنة 175ه أنظر وفيات الأعيان 4/127-128.
22 هو ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ التيمي المعروف بريعة الرأي توفي سنة 136ه أنظر التهذيب 3/258-259.

(2/168)


الأصل بالواو ولأنه لا يتعرض للقران وقالا موجبه الاجتماع والاتحاد لأن الثاني جملة ناقصة فشاركت الأول وهو في الحال تكلم بالطلاق وليس بطلاق فصح التحصيل والترتيب في التكلم لا في صيرورته طلاقا كما إذا حصل التعليق
ـــــــ
له فيصير الشرط كالمذكور مرة أخرى كأنه قال إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق إن دخلت الدار وطالق إن دخلت الدار فيقع ثلاث تطليقات بدخلة واحدة كما لو كرر الشرط صريحا وقد نص على هذا الوجه في الجامع الكبير فقيل في وقوله إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل ثنتين تقديره لا بل ثنتين إن دخلت الدار وحاصل الطريقتين يرجع إلى حرف واحد وهو أن الطلقات تعلقن بالشرط بلا واسطة فلذلك ينزلن جملة عند وجود الشرط لا لأن الواو أوجبت المقارنة وقال أبو حنيفة رحمه الله موجبه أي موجب ذكر الطلقات متعاقبة الافتراق أي انفصال الثانية عن الأولى والثالثة عنهما في التعلق بالشرط والتعاقب في الوقوع لا الاجتماع كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق أو قال وطالق بعده وطالق بعده لأن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق جملة تامة مستغنية عما بعدها فلم تتوقف عليه فتعلق هذا الطلاق بالشرط بلا واسطة. وقوله وطالق جملة ناقصة فتتوقف على الأولى لا محالة لافتقارها إليها إذ الناقصة مفتقرة إلى الكاملة في إفادة المعنى فيتعلق الطلاق الثاني بعد تعلق الأول والتعليق بالشرط منفصلا عنه صحيح كما لو نص على كلمة بعد أو ثم فكان الأول متعلقا بالشرط بلا واسطة والثاني بواسطة والثالث بواسطتين وإذا تعلق بهذا الترتيب ينزلن كذلك أيضا لأن الجزاء ينزل على الوجه الذي تعلق كالجواهر إذا نظمت في سلك وعقد, رأسه تنزل عند الانحلال على الترتيب الذي نظمت به فلو غير موجب هذا الكلام وبطلت الواسطة إنما يبطل قضية الواو. وقد بينا أن الواو لا توجب القران كما لا توجب الترتيب
بخلاف ما إذا كرر الشرط لأن الكل تعلق بالشرط بلا واسطة وبخلاف ما إذا قدم الجزاء لأن أول الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير أوله, أول الكلام تنجيز لو لم يوجد الشرط آخرا فيتوقف عليه وإذا توقف تعلق الكل بلا واسطة بالشرط أيضا وبخلاف قوله إن دخلت الدار فأنت طالق تطليقة ونصفا لأنه لا يوجد في اللغة لفظ يدل عليه أو جزء منه فكان الواحد مع النصف كاسم واحد بمنزلة أحد عشر وأحد وعشرين ألا ترى أنه لو نجز لهذا اللفظ فقال أنت طالق تطليقة ونصف تطليقة تقع ثنتان كما لو قال أنت طالق إحدى وعشرين طلقة تقع الثلاث جملة ولم تقع الواحدة أولا ثم العشرون كما قال زفر فكذا ههنا فأما طالق وطالق فكلامان صيغة ولم يقم دليل يجعلهما كلاما واحدا لأنا وجدنا في اللغة ما يعبر به عن الاثنين بعبارة أو جزء منه وهي

(2/169)


بشروط يتخللها أزمنة كثيرة فإن الترتيب لا يجب به وإذا كان موجب الكلام ما قلنا لم يتغير بالواو لأنها لا تتعرض للترتيب لا محالة ولا توجبه فلا يترك المقيد بالمطلق وإذا تقدمت الأجزية فقد اتحد حال التعليق فصار موجب الكلام الاجتماع والاتحاد فلم يترك بالواو لما قلنا فإن قيل فقد قال أصحابنا فيمن قال لامرأته أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول أنها تبين بواحدة وهذا من باب
ـــــــ
ثنتان أو ثلاث وبخلاف قوله لا بل ثنتين لأن هذه الكلمة لاستدراك الغلط والإضراب عما قبلها بإقامة الثاني مقام الأول فإذا اقتضت الالتحاق بالأول صرن جملة كما لو قال ومعها أخرى وأما قولهما يصير ما تم به الأولى كالمعاد مرة أخرى فسيجيء بيانه وقوله: وهو في الحال تكلم بالطلاق جواب عن كلام أبي حنيفة رحمه الله أن الثاني تعلق بواسطة.
واعلم أن القاضي الإمام أبا زيد رحمه الله ذكر في "الأسرار" أن هذه مسألة مشكلة فإنا متى اعتبرنا الطلاق المتعلق بمحسوس علق بحبل واحد أوجب التعليق بشرط واحد على التعاقب صفة ترتيب للمتعلق في نفسه كما قال أبو حنيفة رحمه الله بمنزلة حلق متعلقة بحبل واحد على التعاقب ولكن الشبهة في المسألة من وجهين أحدهما أن الترتيب إنما ثبت تكلما به فكان التعاقب في أزمنة التعليق ونحن نسلم التعاقب في أزمنة تعلق الأجزئة بالشرط تكلما بها ولكنه لا يوجب تعاقب الوقوع حين الشرط كما لو كرر الشرط وإنما الموجب للترتيب في الوقوع لفظ يوجب تفريق أزمنة الوقوع كثم أو ترتيب الواقع إن تعلقن جملة كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا واحدة بعد واحدة والثاني وإليه أشير في الكتاب أن المتعلق ليس بطلاق للحال بل هو كلام له عرضية أن يصير طلاقا عند وجود الشرط فإذا لم يكن طلاقا للحال لا يقبل وصف الترتيب في الحال لأن الوصف لا يسبق الموصوف فكانت العبرة لحالة الوقوع فإن وجد ما يوجب تفريق أزمنة الوقوع ككلمة ثم, أو ما يبقى وصفا له بعد الوقوع ككلمة بعد يثبت الترتيب ويصير بكلمة ثم أو بعد ذلك الجزاء الذي يصير طلاقا في الثاني أنه يصير طلاقا بهذا الوصف فأما الواو فلا توجب ذلك. وكذا أزمنة التعليق لا تكون وصفا لما يقع زمان الشرط فيلغو اعتبار تفرقها واجتماعها في حق الواقع ذكر القاضي الإمام هاتين الشبهتين ولم يذكر الجواب ميلا إلى ترجيح قولهما فكأن الشيخ إنما أورد قولهما آخرا وذكر جوابهما عن كلام أبي حنيفة اتباعا للقاضي الإمام. قال شمس الأئمة وما قاله أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى مراعاة حقيقة اللفظ لأن من المعلوم أن عند وجود الشرط ذلك الملفوظ به يصير طلاقا فإذا كان من ضرورة العطف إثبات هذه الواسطة ذكرا فعند وجود الشرط يصير كذلك طلاقا

(2/170)


الترتيب وقال في النكاح من الجامع فيمن زوج أمتين من رجل بغير إذن مولاهما وبغير إذن الزوج ثم أعتقهما المولى معا إنه لا يبطل نكاح واحدة منها ولو أعتقهما في كلمتين منفصلتين بطل نكاح الثانية فإن قال هذه حرة وهذه حرة متصلا بواو العطف بطل نكاح الثانية وهذا أيضا من باب الترتيب وقال في هذا الباب فيمن زوج رجلا أختين في عقدتين بغير إذن الزوج فبلغه فأجازهما معا بطلا وإن أجازه متفرقا بطل الثاني وإن قال أجزت نكاح هذه وهذه بطلا كأنه قال أجزتهما وهذا من باب المقارنة وقال في كتاب الإقرار من الجامع فيمن هلك عن ثلاثة أعبد قيمتهم سواء وعن ابن لا وارث له غيره فقال الابن
ـــــــ
واقعا ومن ضرورة تفرق الوقوع أن لا يقع إلا واحدة فإنها تبين لا إلى عدة كما لو نجز فقال أنت طالق وطالق وطالق
قوله "وإذا كان موجب الكلام ما قلنا" وهو الاجتماع والاتحاد "فلا يترك المقيد" أي المقتضي للاجتماع "بالمطلق" أي الواو. وقوله وإذا تقدمت الأجزية يجوز أن يكون جوابا عن استدلال الطائفة الأولى بهذه المسألة أن الواو للمقارنة عند أصحابنا جميعا يعني ثبت المقارنة باتحاد حال التعليق الذي يقتضي الاجتماع في الوقوع لا بموجب الواو ويجوز أن يكون متصلا بكلام أبي حنيفة رحمه الله على سبيل الفرق يعني إذا تأخرت الأجزية فموجب كلامه الافتراق فلا يتغير بالواو إذا تقدمت فموجبه الاجتماع فلا يترك بالواو أيضا لما قلنا إنها لا تتعرض للقران ولا للترتيب.ثم ذكر الشيخ ما يرد نقضا على هذا الأصل مع جوابه وهو أربع مسائل اثنتان منها تدلان على أن الواو للترتيب واثنتان على أنها للقران منها مسألة الأمتين وهي أن رجلا لو زوج أمتين لآخر برضاهما من رجل في عقدة أو عقدتين بغير إذن مولاهما وبغير إذن الزوج كان النكاح موقوفا على إجازة كل واحد منهما فإن نقض أحدهما انتقض وإن أجاز أحدهما توقف على إجازة الآخر فإن أعتقهما المولى بلفظ واحد بأن قال أعتقتهما أو قال هما حرتان لا يبطل نكاح واحدة منهما لأنه لم يتحقق الجمع بين الحرة والأمة لا في حال العقد ولا في حال الإجازة ولزم العقد من جانب المولى لسقوط حقه بالإعتاق وبقي موقوفا على إجازة الزوج إن شاء أجاز نكاحهما وإن شاء أجاز نكاح واحدة منهما بعينها ولو أعتقهما في كلمتين منفصلتين بأن قال أعتقت هذه أو قال هذه حرة ثم قال بعد زمان للأخرى مثل ذلك أو متصلتين كما ذكر الشيخ في الكتاب بطل نكاح الثانية لما ستقف عليه وبقي نكاح الأولى موقوفا على إجازة الزوج ولو وجد إذن المولى دون الزوج في المسألة توقف النكاح على إجازة

(2/171)


أعتق أبي في مرض موته هذا وهذا وهذا فإن أقر به في كلام متصل عتق من كل واحد ثلثه وإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث وهذا من باب القران قيل له أما في المسألة الأولى فقد قال مالك بن أنس إنه تقع الثلاث وجعلها للقران لكنه غلط لما قدمنا والواو للعطف المطلق ولذلك لم يقع الثاني لأن الأول وقع قبل التكلم بالثاني لما لم يكن الكلام نصا على المقارنة ولم يقف على التكلم بالباقي فسقطت ولايته لفوات محل التصرف لا
ـــــــ
الزوج لا غير ولو أعتقتا معا لا يبطل نكاح واحدة منهما وبقي موقوفا على إجازة الزوج كما كان ولو أعتقتا على التعاقب بكلامين منفصلين أو متصلين بطل نكاح الثانية وبقي نكاح الأولى موقوفا على ما كان ولو وجد إذن الزوج دون المولى توقف على إجازة المولى ولو أعتقهما معا نفذ نكاحهما ولو أعتقهما على التعاقب بطل نكاح الثانية ونفذ نكاح الأولى. ولو وجد إذنهما جميعا نفذ نكاحهما ولا يبطل بإعتاق بحال, فيما ذكرنا تعرف فائدة القيدين المذكورين في المسألة فتأمل
قوله "في عقدتين" احتراز عما إذا زوجهما في عقدة واحدة فإن ذلك لا ينفذ بحال قوله "ولو سكت فيما بين ذلك" بأن قال أعتق أبي هذا وسكت ثم قال للآخر أعتق هذا وسكت ثم قال وأعتق هذا عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث لأنه لما أقر بعتق الأول فقد أقر بالثلث له فعتق من غير سعاية ثم لم يصح ما بعده في تغيير حقه لأن المغير إنما يصح بشرط الوصل وإذا أقر بالثاني فقد زعم أن الثلث بينه وبين الأول نصفين إلا أنه لم يصدق في إبطال حق الأول وصدق في إثبات حق الثاني ولما أقر بالثالث فقد زعم أن الثلث بينهم أثلاثا لكنه لم يصدق في إبطال حق الأولين كذا في شرح الجامع للمصنف
قوله "أما في المسألة الأولى" إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق يقع واحدة عند عامة العلماء وقال مالك والشافعي في قوله القديم وأحمد بن حنبل والليث بن سعد وربيعة وابن أبي ليلى إنها تطلق ثلاثا لأن الواو توجب المقارنة. ولأن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فصار كما لو قال لها أنت طالق ثلاثا ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار طلقت ثلاثا عند وجود الشرط فكذا ههنا لكن ما قالوه غلط لما قدمنا أن للقران لفظا موضوعا وهو مع فلو حملنا الواو عليه كان تكرارا وهو خلاف ما عليه أهل اللغة أيضا والواو للعطف المطلق لا للقران ولذلك أي ولكونها للعطف المطلق لم يقع الثاني لأن الأول وقع قبل التكلم بالثاني لأن توقف الكلام الذي صدر من أهله في محله لا يكون إلا لما يوجب ذلك من تنصيص عليه بلفظ يوجبه ككلمة مع أو من مغير التحق بآخره كالشرط والاستثناء ولم يوجد ههنا تنصيص

(2/172)


لخلل في العبارة وكذلك في مسألة نكاح الأمتين لأن عتق الأولى يبطل محلية الوقف في حق الثانية لأنه لا حل للأمة في مقابلة الحرة حال التوقف فبطل الثاني قبل التكلم بعتقها ثم لم يصح التدارك لفوات المحل في حكم التوقف لأن الواو لا تتعرض للمقارنة فأما في نكاح الأختين فإن صدر الكلام توقف على آخره لا لاقتضاء واو العطف لكن لأن صدر الكلام وضع لجواز النكاح وإذا اتصل
ـــــــ
عليه لأن الواو ليست بنص على المقارنة بل هي من محتملات الواو ولا مغير أيضا لأن ذكر الطلاق الثاني لا يؤثر في الطلاق الأول وهو معنى قوله ولم يقف على التكلم بالثاني وإذا لم يتوقف أوله على آخره بانت بالأول ولغا الثاني والثالث لفوات محل التصرف بحصول الإبانة بالطلاق الأول
"لا لخلل في العبارة" أي لا لفساد في التكلم والعطف فإن ذلك يقتضي وقوع الثاني والثالث ولكن من شرطه قيام المحل فإذا لم يبق لغا ضرورة ثم على قول أبي يوسف رحمه الله يقع الأول قبل أن يفرغ من التكلم بالثاني وعند محمد رحمه الله عند الفراغ من التكلم بالثاني يقع الأول لجواز أن يلحق بكلامه شرطا أو استثناء مغيرا. وما قاله أبو يوسف أحق فإنه ما لم يقع الطلاق ولا يفوت المحل فلو كان وقوع الأول بعد الفراغ من المتكلم بالثاني لوقعا جميعا لوجود المحل مع صحة التكلم بالثاني كذا قال شمس الأئمة رحمه الله
قوله "وكذلك في نكاح الأمتين" أي وكما أن عدم وقوع الثاني والثالث لفوات المحل لا لأن الواو توجب الترتيب فكذا في نكاح الأمتين بطلان نكاح الثانية لفوات المحل لا لاقتضاء الواو ذلك لأن عتق الأولى يبطل محلية الوقف في حق الثانية يعني بعدما عتقت الأولى لا تبقى الثانية محلا للنكاح الموقوف "لأنه لا حل للأمة في مقابلة الحرة حال التوقف" أراد به حل المحلية أي لا تبقى الأمة محل النكاح في مقابلة الحرة حال توقف نكاح الأمة فإنه إن تزوج أمة نكاحا موقوفا ثم تزوج حرة نكاحا نافذا أو موقوفا يبطل نكاح الأمة أصلا وذلك لأن حال التوقف حال انضمام الأمة إلى الحرة والنكاح الموقوف معتبر بابتداء النكاح لأنه غير لازم فكان في حق من يلزمه حكمه بمنزلة غير المنعقد والأمة ليست بمحل لابتداء النكاح منضمة إلى الحرة فلهذا بطل توقف نكاح الثانية بعدما عتقت الأولى قبل الفراغ عن التكلم بعتقها ثم لم يصح التدارك بعد إعتاقها لفوات المحل في حق التوقف قبله وإنما قيد بقوله في حق التوقف لأن بطلان المحلية في حقه لا غير حتى لو تزوجها بعد صح لأنها قد صارت حرة ولأن الواو لا تتعرض للمقارنة لتجعلهما

(2/173)


به آخره سلب عنه الجواز فصار آخره في حق أوله بمنزلة الشرط والاستثناء في قول الرجل أنت طالق إن شاء الله وصدر الكلام يتوقف عليه بشرط الوصل لما نبين في باب البيان إن شاء الله فكذلك هذا, وهذا لا يوجد في قول الرجل أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول لأن صدر الكلام لا يتغير بآخره فلم يتوقف. وكذا في مسألة نكاح الأمتين لا يتغير صدر الكلام بآخره لأن عتق الثانية إن ضم إلى الأول لم يغير
ـــــــ
كلاما واحدا بمنزلة قوله أعتقتهما وهذا يشير إلى أنه لو قال أعتقت هذه مع هذه كان بمنزلة قوله أعتقتهما.
قوله "فأما نكاح الأختين" ذكر بعض مشايخنا أن اختلاف الجواب في المسألتين لاختلاف الوضع فإنه في مسألة الأمتين قال هذه حرة وهذه حرة والكلام الثاني جملة تامة لأنه مبتدأ وخبر فإذا عطفت على جملة تامة لا يوجب مشاركتها الأولى فلا يتوقف أول الكلام على آخره كقوله لامرأتيه: عمرة طالق ثلاثا, وزينب طالق إن زينب تطلق واحدة وقال في مسألة الأختين أجزت نكاح هذه وهذه والكلام الثاني جملة ناقصة فشاركت الأولى ضرورة حتى لو قال ههنا وأجزت هذه يجب أن يبطل نكاح الثانية ولو قال في مسألة الأمتين هذه حرة وهذه لم يبطل نكاح الثانية كما لو أعتقهما بكلمة واحدة والأصح أن بينهما فرقا فيما إذا كان المعطوف جملة تامة في المسألتين. والفرق ما أشار الشيخ إليه في الكتاب وهو أن آخر الكلام إذا كان يغير أوله توقف أول الكلام عليه كما وقف على الشرط والاستثناء وإذا لم يتغير به لم يتوقف عليه ففي مسألة الأختين آخر الكلام يغير أوله لأنه إذا لم يضم الثانية إلى الأولى صح نكاح الأولى وإذا ضم إليها بطل نكاحها للجمع بينهما وهو معنى قوله سلب عنه الجواز فنزل منزلة الاستثناء والشرط فتوقف الأول عليه فصار كالجمع بكلمة واحدة فبطلا وفي مسألة الأمتين إعتاق الأخيرة لا يغير الكلام الأول لأن النكاح يبقى موقوفا صحيحا كما كان وإنما أثر الثاني في صحة نفسه لا في تغيير الأول لو صح فلم يتوقف الكلام عليه وإذا لم يتوقف فسد الثاني
قوله "وصدر الكلام يتوقف عليه" أي على الآخر الذي هو مغير بشرط الوصل هذا جواب عما إذا أجاز نكاحهما متفرقا حيث لا يؤثر إجازة نكاح الثانية في إبطال نكاح الأولى ولا يتوقف الكلام الأول على الثاني وإن كان مغيرا فقال صدر الكلام إنما يتوقف على المغير إذا كان متصلا به فأما إذا كان منفصلا عنه فلا وهذا لا يوجد أي تغير صدر الكلام بالآخر في مسألتين لا يوجد ولا يقال قد يتغير في مسألة الطلاق صدر الكلام

(2/174)


نكاح الأولى عن الصحة إلى الفساد وعن الوجود إلى العدم وكذلك في مسألة الإقرار صدر الكلام يتغير بآخره ألا ترى أن موجب صدره عتقه بلا سعاية وإذا انضم الأخرى إلى الأول تغير الصدر عن عتق إلى رق عند أبي حنيفة رحمه الله لأن المستسعى مكاتب عند أبي حنيفة وعندهما يتغير عن براءة إلى شغل بدين السعاية فلذلك وقف صدره على آخره ولهذا قلنا إن قول محمد في الكتاب
ـــــــ
بآخره لأنه يثبت به حرمة غليظة لأنا نقول ليس ذلك بتغيير بل هو تقرير حكم أوله وتأكيده لأن حكمه الحرمة الخفيفة وحكم آخره الحرمة الغليظة وكلاهما رافع للقيد وأما ما يثبت من زيادة الحرمة فباعتبار الطلقة الثالثة.
قوله "عن الصحة إلى الفساد وعن الوجود إلى العدم" المغير الذي يلتحق بآخر الكلام لا يخلو من أن يؤثر في الوصف كالشرط فإنه لا يبطل الكلام ولكن يؤخر حكمه إلى حين وجود الشرط أو في الأصل كالاستثناء فإنه إذا قال أنت حر إن شاء الله يبطل أصل الكلام بالاستثناء حتى لم يبق له موجب أصلا فالشيخ تعرض لهما فقال إعتاق الثانية لا يؤثر في وصف نكاح الأولى بالتغيير من الصحة إلى الفساد ولا في أصله بالإعدام
قوله "وكذلك في مسألة الإقرار" عطف على مسألة الأختين يعني كما أن صدر الكلام في تلك المسألة يتغير بآخره فكذلك في مسألة الإقرار يتغير الصدر بآخره أيضا. من أصحابنا من قال إنما يعتق من كل واحد ثلثه لأنه جمعهم بحرف الجمع وهو الواو والمجموع بحرف الجمع كالمجموع بلفظ الجمع فصار كأنه قال أعتقهم والدي ألا ترى أن قول الرجل علي ألف درهم لفلان وفلان بمنزلة قوله لهما علي ألف درهم وأن قوله بعت هذا العبد من فلان وفلان بمنزلة قوله بعته منهما فكذا هذا قال شمس الأئمة رحمه الله في "شرح الجامع" وهذا ليس بصحيح فإن الواو للعطف المطلق ليس لها عمل في القران ولا في الترتيب ولكن آخر الكلام ههنا يغير أوله لأن حكم الصدر لو سكت عليه سلامة نفس الأول له بلا سعاية لأنه يخرج من الثلث فإذا اتصل به الثاني والثالث تغير الصدر عن عتق إلى رق عند أبي حنيفة رحمه الله لأن السعاية وجبت عليه والمستسعى كالمكاتب عنده في الأحكام والمكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم. وعندهما وإن لم يتغير إلى الرق ولكن يتغير من براءة إلى شغل لأنه لما كان يخرج من الثلث عتق مجانا فإذا اتصل به الثاني والثالث لم يبق له إلا ثلث الثلث ووجبت عليه السعاية في ثلثي قيمته فلذلك توقف صدره على آخره لا للواو
قوله "ولهذا قلنا" أي ولأن الواو لمطلق العطف قلنا إن قول محمد في الكتاب أي

(2/175)


وينوي من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة أنه لا يوجب ترتيبا وكذلك قوله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} لا يوجب ترتيبا أيضا ألا ترى أن المراد بالآية
ـــــــ
في الجامع الصغير وينوي أي في التسليمتين من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة لا يوجب ترتيبا كرر الشيخ لفظة أن لطول الكلام فلا يلزم منه تفضيل عامة المؤمنين على الملائكة فيظهر بهذا فساد قول من قال بتفضيلهم على الملائكة وادعى أن هذا مذهب أصحابنا استدلالا بهذه الرواية ألا يرى أنه قال في المبسوط وينوي بتسليمة الأول من كان عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء وعن يساره مثل ذلك فعلم أنه أراد مطلق الجمع في النية لا الترتيب فيها وفي شرح الجامع الصغير لشمس الأئمة رحمه الله من أصحابنا من يقول ما ذكر في الصلاة قول أبي حنيفة الأول وما ذكر ههنا بناء على قوله الثاني فقد رجع إلى تفضيل بني آدم على الملائكة قال وهذه مسألة فيها كلام بين أهل الأصول ولكن لا معنى للاشتغال به ههنا فالواو لا توجب الترتيب والترتيب في النية لا يتحقق فإن من سلم على قوم لا يمكنه أن ينوي الرجال أولا ثم النساء ثم الصبيان ولكن مراده في الموضعين أن يجمعهم في نيته.
وفي شرح الجامع الصغير للمصنف فأما التقديم والتأخير فليس بشيء لازم لأن الواو لا توجب ترتيبا لكن للبداية أثر في الاهتمام كما في مسألة الوصية بالقرب فدل ما ذكر ههنا وهو آخر التصنيفين أن مؤمني البشر أفضل من الملائكة وهو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة
قال الإمام الكشاني والمختار عندنا أن خواص بني آدم وهم المرسلون أفضل من جملة الملائكة, وعوام بني آدم من المسلمين الأتقياء أفضل من عوام الملائكة وليسوا بأفضل من خواصهم بل خواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم. وذكر الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} "الأسراء: 70" أما الكلام في تفضيل البشر على الملائكة, والملائكة على البشر فإنا لا نتكلم فيه لأنا لا نعلم ذلك وليس لنا إلى معرفته حاجة فنكل الأمر فيه إلى الله عز وجل وذلك مثل الكلام بين الأنبياء والرسل وأتقياء الخلق وبين الملائكة وتفضيل هؤلاء على هؤلاء فنفوض ذلك إلى الله تعالى فأما أن يجمع بين شر البشر وأفسقهم وبين الملائكة الذين لم يعصوا الله طرفة عين فيقال هم أفضل من الملائكة فلا يجوز ذلك ولكن إن كان لا بد فإنه يجمع بين ما ذكرنا وبين الملائكة فيتكلم حينئذ بتفضيل بعض على بعض

(2/176)


أنهما من الشعائر ولا يتصور فيه الترتيب وإنما ثبت السعي بقوله تعالى {أن يطوف بهما} غير أن السعي لا ينفك عن ترتيب والتقديم في الذكر يدل على قوة المقدم ظاهرا وهذا يصلح للترجيح فرجح به فصار الترتيب واجبا بفعله لا بنص الآية وهذا كما قال أصحابنا رحمهم الله في الوصايا بالقرب النوافل إنه يبدأ بما بدأ به الميت لأن ذلك دلالة على قوة الاهتمام وصلح للترجيح فأما قول الرجل لفلان علي مائة ودرهم ومائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد فليس بمبني على حكم العطف بل على أصل آخر يذكر
ـــــــ
قوله "وكذلك" جواب عن متمسك الخصم يعني كما أن قول محمد من الرجال والنساء والحفظة لا يحتمل الترتيب فقوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} "البقرة: 158" لا يحتمل الترتيب لأن الآية سيقت لبيان أنهما من الشعائر ومعالم الحج وهذا لا يحتمل الترتيب لأنه يجري في الفعل لا في العين ألا ترى أن في الزمان الذي كان الصفا فيه من المعالم كانت المروة فيه كذلك أيضا قوله "وإنما ثبت السعي" جواب عما يقال لما كانت الآية لبيان أنهما من الشعائر فيم ثبت وجوب السعي أو شرعيته فقال إنما ثبت ذلك بقوله تعالى {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} "ابقرة: 158"ولهذا قال عطاء ومجاهد هو ليس بواجب وتركه لا يوجب شيئا لأنه قال فلا جناح ومثله يستعمل في المباح دون الواجب
وقال عامة العلماء هو واجب بهذا النص وبقوله عليه السلام: "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا" . وأما قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ} "البقرة: 158"أي لا إثم عليه فلتحرج الناس عن الطواف بهما لمكان صنمين كانا عليهما في الجاهلية إساف ونائلة وكانوا يعبدونهما في الجاهلية فبعد الإسلام كرهوا التعبد لله تعالى في ذلك المكان فنفى ذلك عنهم بقوله فلا جناح عليه
قوله "غير أن السعي لا ينفك عن ترتيب" يعني أن النص الموجب للسعي لا يقتضي الترتيب لكن السعي في نفس الأمر لا ينفك عن ترتيب والبداية بالذكر في مصطلح الكلام يدل على زيادة عناية بذلك الشيء وقوة اهتمام به كما إذا فارقك من كنت مشغوفا به وقيل لك ما الذي تتمنى تقول وجه الحبيب أتمنى فتقدم وجه الحبيب لكونه نصب عينك ولزيادة التفات خاطرك إليه ولما دلت البداية على زيادة العناية ظهر بها نوع قوة صالحة للترجيح ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه استدل في تفضيل المهاجرين أو تعيين الإمام منهم بتقديمهم في قوله عز اسمه {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} "التوبة: 100"

(2/177)


في باب البيان إن شاء الله.وقد تدخل الواو على جملة كاملة بخبرها فلا تجب به المشاركة في الخبر مثل قول الرجل هذه طالق ثلاثا وهذه طالق أن الثانية تطلق واحدة فسمى بعضهم هذه واو الابتداء أو واو النظم وهذا فضل من الكلام وإنما هي للعطف على ما هو أصلها لكن الشركة في الخبر كانت واجبة لافتقار الكلام الثاني إذا كان ناقصا فأما إذا كان تاما فقد ذهب دليل الشركة ولهذا قلنا إن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تم به الأولى بعينه حتى قلنا في قول إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق أن الثاني يتعلق بذلك الشرط بعينه ولا يقتضي الاستبداد به كأنه أعاده وإنما يصار إلى هذه الضرورة استحالة الاشتراك
ـــــــ
فذلك رجح النبي عليه السلام بالتقديم فقال: "نبدأ بما بدأ الله تعالى به" أو قال: "ابدءوا بما بدأ الله به" . وصار الترتيب واجبا بفعله وبقوله لا بنص الآية
قوله "فأما قوله لفلان علي مائة ودرهم" إلى آخره جواب عن سؤال وهو أن يقال العطف يفسر المعطوف عليه كما في قوله مائة ودرهم حتى كانت المائة دراهم فأنى لم يجعل مفسرا في قوله مائة وثوب أو يقال الواو لمطلق العطف فكيف جعل مبينا للمعطوف عليه في قوله مائة ودرهم وإذا جعل مبينا في هذه الصورة فلم تخلف في الصورة الأخرى فقال ليس ذلك بناء على حكم العطف ليلزم اطراده بل على أصل الآخر يقرع سمعك إن شاء الله تعالى
قوله "بخبرها" الباء متعلقة بكاملة أي كما لها بخبرها فلا يجب به أي بهذا العطف. وهذا فضل أي تسميتهم إياها واو الابتداء أو النظم من فضول الكلام لا حاجة إليها بل هي واو العطف كهي في الجملة الناقصة إلا أن عملها في عطف الجملة الناقصة الجمع بينهما وبين الكاملة فيما تم به الكاملة وفي عطف الكاملة الجمع بين مضموني الجملتين في الحصول لكن الشركة استدراك عن قوله وإنما هي العطف على ما هو أصلها أي هي للعطف لكنها لا توجب الشركة في الخبر لأن الشركة إنما يثبت لافتقار الكلام الثاني إياها لعدم إفادتها بدونها لا بمجرد العطف فإذا كان الكلام الثاني مفيدا بنفسه ذهب دليل الشركة وهو الافتقار
قوله "ولهذا قلنا" أي ولأن ثبوت الشركة للافتقار والضرورة قلنا إن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تم به الأولى بعينه ولا يجعل كأنه أعيد مرة أخرى لأن الإضمار خلاف الأصل إذ هو جعل غير المنطوق منطوقا وإنما يصار إليه عند الضرورة والضرورة ههنا متى ارتفعت بالأدنى وهو إثبات الشركة فيما تم به الأولى لا يصار إلى الأعلى وهو الإضمار لأن

(2/178)


فأما عند عدم استحالة الاشتراك في الخبر الأول هو الأصل مثل قولك جاءني زيد وعمرو الثاني يختص بمجيء على حدة لأن الاشتراك في مجيء واحد لا يتصور فصار الثاني ضروريا والأول أصليا ومن عطف الجملة قول الله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور: 4" في قصة القذف ومثل قوله تعالى
ـــــــ
ما ثبت بالضرورة متقدر بقدرها إلا إذا استحال إثبات الشركة " فح " يصار إليه ففي المسألة المذكورة في الكتاب وهي قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق الطالق الثاني متعلق بذلك الشرط بعينه ولا يقتضي أي العطف الاستبداد أي التفرد بالشرط كأنه أعاد الشرط وأفرد الثاني به بمنزلة قوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق لما ذكرنا أن المقصود وهو إفادة الكلام الثاني يحصل بتعلقه بذلك الشرط بعينه فلا يصار إلى الإضمار وفائدته تظهر فيما إذا قال كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق كان يمينا واحدة حتى لا يقع إلا طلقة واحدة ولو كان كالمعاد لوقعت طلقتان. وكذا في مسألة الكتاب لو كان كالمعاد لوقعت طلقتان وإن كانت المرأة غير مدخول بها بلا خلاف أيضا وكذا لو قال لامرأته أنت طالق إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار الأخرى يتعلق بدخول الدار الثانية تلك التطليقة لا تطليقة أخرى حتى لو دخلت الدارين لا تطلق إلا واحدة ولو اقتضى الإعادة لطلقت ثنتين. وكذا لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة تعلق طلاق الثانية بدخول الأولى حتى لو دخلت الدار طلقتا جميعا ولا يجعل كأنه أفردها بالشرط وقال وفلانة إن دخلت الدار إذ لو جعل كذلك لم تطلق الثانية بدخول الأولى بل تطلق بدخول نفسها وفي هذا النظير نظر. ولا يلزم على ما ذكرنا قوله هذه طالق ثلاثا وهذه حيث لا تثبت الشركة في خبر الأولى ويجعل الخبر كالمعاد حتى طلقت الثانية ثلاثا ولو ثبتت الشركة لطلقت كل واحدة ثنتين لانقسام الثلاث عليهما كما لو قال لفلان علي ألف ولفلان يجعل الألف منقسما عليهما تحقيقا للشركة ولا يجعل كالمعاد حتى يكون لكل واحد منهما ألف لأنا نقول تعذر ههنا إثبات الشركة لأن في تنصيص الزوج على الثلاث إشارة إلى أن مقصوده إثبات الحرمة الغليظة وسد باب التدارك بالكلية وبالانقسام لا يحصل ذلك المقصود فيجعل الخبر كالمعاد ضرورة ولأن بالانقسام يفوت موجب الكلام أصلا إذ لا دلالة للثلاث على الأربع بوجه فأما إثبات المثل فأكثر من أن يحصى فيصار إليه عند التعذر قال الإمام البرغري اتفقوا أنه لو قال لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق أو قال فطالق فطالق أنه يقع عند وجود الشرط طلقة واحدة ولو كان الخبر كالمعاد لوقع ثلاث تطليقات كما لو كرر الشرط صريحا مع تخلل الأزمنة. وإنما يصار إلى هذا أي إلى الاستبداد ضرورة استحالة الاشتراك كما إذا قال فلانة طالق وفلانة فإنه يقع على الثانية

(2/179)


{يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} "الشوري: 24" ومثل قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} "آل عمران: 7" وقد يستعار الواو للحال وهذا معنى يناسب معنى الواو لأن الإطلاق يحتمله قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
ـــــــ
غير ما وقع على الأولى لأن الاشتراك بينهما في تطليقة لا يتحقق فصار الثاني أي استبداد الجملة الناقصة بخبر آخر ضروريا والأول وهو اشتراك الناقصة في خبر الأولى من غير استبداد أصليا
قوله "ومن عطف الجملة قوله تعالى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "النور: 4" فإنه جملة تامة بخبرها فلا يوجب العطف المشاركة فيما تم به الجملتان الأوليان وهو الشرط الذي تضمنه قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} "النور: 4" كقول الرجل إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة طالق لا يتعلق طلاق الثانية بالشرط وإذا كان كذلك كان الاستثناء اللاحق به مختصا به غير راجع إلى ما تقدمه فبقي المحدود في القذف غير مقبول الشهادة بعد التوبة كما كان قبلها ومن هذا القبيل قوله تعالى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} "الشوري: 24" فإن قوله {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جملة تامة معطوفة على ما تقدم غير داخلة تحت الشرط إذ لو دخلت كان ختم القلب ومحو الباطل معلقين بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبل وجوده وقد عدم ختم القلب ووجد محو الباطل فعرفنا أنه خارج عن الشرط وسقوط الواو في الخط واللفظ ليس للجزم بل سقوطه في اللفظ لالتقاء الساكنين وفي الخط إتباعا للفظ كسقوطه في قوله تعالى {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ} "الإسراء: 11" وقوله {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} "العلق: 18" ولهذا وقف يعقوب1 عليه بالواو نظرا إلى الأصل وإن وقف غيره بغير واو إتباعا للخط والدليل على أنه ابتداء إعادة اسم الفاعل إذ لو كان بناء لقيل ويمحو الباطل
واختلف في ختم القلب فقيل هو الصبر أي إن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر حتى لا تجد مشقة استهزائهم وتكذيبهم وقيل هو الإنساء أي إن يشأ الله ينسك ما أوحى إليك فلا تبلغه إليهم فلا يستهزئون بك ولا يكذبونك
وقيل هو عدم الفهم أي إن يشأ الله يختم على قلبك فلا يفهم الحق من الباطل كما فعل بأولئك الكفرة. تذكرة إحسانه إليه وما أكرمه بأنواع الكرامات ليشكر ربه ويرحم على أولئك بما ختم على قلوبهم وما ينزل بهم من أنواع العذاب
ـــــــ
1 هو القاريء يعقوب بن اىسحاق بن زيد بن عبدالله بن أبي اسحاق أبو مولي الحضرميين 117-205ه أنظر وفيات الأعيان 6/390-392

(2/180)


وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي إذا جاءوها وأبوابها مفتوحة واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل فقالوا في رجل قال لعبده أد إلي ألفا وأنت حر أن الواو للحال حتى لا يعتق إلا بالأداء وكذلك من قال لحربي انزل وأنت آمن لم
ـــــــ
ويمح أي يطهر ويظفر أهل الحق على أهل الباطل وينصرهم حتى يصير أهل الحق ظاهرين على الباطل وقيل: يحق الحق بالحجج والبراهين ويمحو الباطل بالحجج والبراهين حتى يعرف كل أحد الحق من الباطل بالحجج التي أقامها إذا تأمل فيها حق التأمل. "بكلماته" أي بحججه كذا في شرح "التأويلات". ومثله {وَالرَّاسِخُونَ} أي ومن قبيل عطف الجملة الذي لا يوجب الاشتراك قوله عز اسمه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} "آل عمران: 7" فإنه غير داخل تحت الاستثناء في قوله جل ذكره {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} "آل عمران: 7"لما بينا في أول الكتاب وهذا على تقدير الوقف على قوله {إِلَّا اللَّهُ} "آل عمران: 7" فأما على تقدير الوصل فهو داخل تحت الاستثناء كما مر بيانه
قوله "وقد يستعار الواو للحال" اعلم أن الأصل في الجملة الواقعة موقع الحال أن لا يدخلها الواو لأن الإعراب لا ينظم الكلمات كقولك ضرب زيد اللص مكتوفا إلا بعد أن يكون هناك تعلق ينتظم معانيها فإذا وجدت الإعراب قد تناول شيئا بدون الواو كان ذلك دليلا على تعلق هناك معنوي فذلك يكون مغنيا عن تكلف معلق آخر إلا أن النظر إليها من حيث كونها جملة مستقلة بفائدة غير متحدة بالجملة السابقة كما في الحال المؤكدة وغير منقطعة عنها لجهة جامعة بينهما كما ترى في نحو جاء زيد وفرسه يعدو ويبسط العذر في أن يدخلها واو للجمع بينها وبين الأولى مثله في نحو قام زيد وقعد عمرو فهذا معنى استعارة الواو للحال
قوله "لأن الإطلاق يحتمله" يعني لما كانت الواو لمطلق الجمع كان الاجتماع الذي بين الحال وذي الحال من محتملاته لأن المطلق يحتمل المقيد فيجوز استعارتها لمعنى الحال عند الاحتياج. قال الله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} "الزمر: 73" أي وقد فتحت أبوابها. قيل أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها بدليل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} "ص: 50"وذلك لأن تقديم فتح باب الضيافة على وصول الضيف إكراما له وتأخير فتح باب العذاب إلى وصول المستحق له أليق بالكرم, فلذلك جيء بالواو كأنه قيل حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها قبل وجواب إذا محذوف أي إذا جاءوها وكانت هذه الأشياء التي ذكرت إلى

(2/181)


يأمن حتى ينزل فيكون الواو للحال وقالوا فيمن قال لامرأته أنت طالق وأنت مريضة أو وأنت تصلين أو مصلية أنه لعطف الجملة حتى يقع الطلاق في الحال على احتمال الحل حتى إذا نوى بها واو الحال تعلق الطلاق بالمرض
ـــــــ
قوله {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} "الزمر: 73" دخلوها ونالوا المنى وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف
قوله "واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل" ففي بعضها جعلوا الواو للحال من غير نية وفي بعضها جعلوها لعطف الجملة لا غير وفي بعضها جعلوها للعطف محتملا للحال وفي بعضها اختلفوا فإذا قال لعبده أد إلي ألفا وأنت حر أنه لا يعتق ما لم يؤد. وكذا إذا قال لحربي انزل وأنت آمن لا يأمن ما لم ينزل جعلوا الواو في المسألتين للحال لأنه لا يحسن العطف ههنا لأن الجملة الأولى فعلية طلبية والجملة الثانية اسمية خبرية وبينهما كمال الانقطاع وذلك مانع من حسن العطف إذ لا بد لحسنه من نوع اتصال بين الجملتين على ما عرف فلذلك جعلناها للحال ولما صارت للحال والأحوال شروط لكونها مقيدة كالشرط تعلقت الجزية بالأداء والأمان بالنزول كما في قوله إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق تعلق الطلاق بالركوب تعلقه بالدخول. وصار كأنه قال إن أديت إلي ألفا فأنت حر وإن نزلت فأنت آمن هذا تقرير عامة الكتب.
فإن قيل: ما ذكرت عكس ما يقتضيه هذا الكلام فإن الواو دخلت في قوله أنت حر وأنت آمن لا في قوله أد وانزل فيقتضي أن يكون الجزية شرطا للأداء والأمان شرطا للنزول كما في قوله أنت طالق وأنت مريضة إذا نوى التعليق كان المرض شرطا للطلاق لدخول الواو فيه لا عكسه وإذا ثبت ذلك كان الجزية والأمان سابقين على الأداء والنزول لأن الشرط مقدم على المشروط لا محالة فلا يكونان متعلقين بالأداء والنزول وإذا انتفى التعلق كان كل واحد واقعا في الحال
قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أنه من باب القلب كقوله عرضت الناقة على الحوض أي الحوض على الناقة وهو شائع في الكلام قال الله تعالى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} الأعراف: 4" أي جاءها بأسنا فأهلكناها على أحد التأويلين وقال عز اسمه {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} "النجم 8" حمل على ثم تدلى فدنا وقال رؤبة:
ومهمة مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
أراد كأن لون سمائه من غبرتها أرضه. وقال آخر: يمشي فيقعس أو يكب فيعثر أراد

(2/182)


والصلاة وقالوا في المضاربة إذا قال رجل لرجل خذ هذا المال مضاربة واعمل به في البز إن هذا الواو لعطف الجملة للحال حتى لا تصير شرطا بل تصير مشهورة ويبقى المضاربة عامة واختلفوا في قول المرأة لزوجها طلقني ولك
ـــــــ
أو يعثر فيكب وقال القطامي1 كما طينت بالفدن السياعا أي طينت بالسياع الفدن. وهو القصر فيكون التقدير كن حرا وأنت مؤد ألفا وكن آمنا وأنت نازل أي أنت حر وأنت آمن في هذه الحالة وإنما يحمل على هذا لأنه لا يصح تعليق الأداء والنزول بما دخل فيه الواو لأن التعليق إنما يصح ممن يصح منه التنجيز وليس في وسع المتكلم تنجيز الأداء أو النزول فكيف يصح تعليقه ألا ترى أن وجود المشروط من لوازم الشرط إذا لم ينزل قبله ولو وجدت الجزية أو الأمان ههنا لا يلزم منه الأداء والنزول ولما لم يصح العمل بظاهره ولا يمكن العمل بالعطف أيضا جعلناه من باب القلب الذي هو شعبة من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر وأنه يورث الكلام قلاحة
والثاني أن قوله وأنت حر وقوله وأنت آمن من الأحوال المقدرة كقوله تعالى {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} "الزمر:73"أي مقدرين الخلود في حالة الدخول لا من الأحوال الواقعة فإن غرض المتكلم من هذا الكلام عدم وقوع الجزية والأمان في الحال فيكون معناه أد إلي ألفا مقدرا للجزية في حالة الأداء وانزل مقدرا للأمان في حالة النزول ولما أثبت المتكلم الجزية والأمان في حالتي الأداء والنزول كانا متعلقين بهما ومعدومين في الحال. والثالث أن الجملة الواقعة حالا قائمة مقام جواب الأمر بدلالة مقصود المتكلم فأخذت حكمه ويصير معنى الكلام أد إلي ألفا تصر حرا وإذا كان كذلك كانت الجزية متعلقة بالأداء والأمان متعلقا بالنزول تعلق الإكرام بالإتيان في قوله ائتني أكرمك
والرابع: أن قوله أنت حر يوجب الحرية للحال لولا قوله أد إلي كذا فبانضمام هذا الكلام إليه تأخر العتق كما يتأخر بانضمام إن دخلت الدار إليه فكان قوله أد إلي كذا بمنزلة إن دخلت الدار في تأخير الجزية عن وقت التكلم فكان كالشرط من هذا الوجه وذكرا في بعض الشروح أنه لما جعل الجزية حالا للأداء أي وصفا له لا يثبت سابقا عليه إذ الحال لا تسبق ذا الحال والصفة لا تسبق الموصوف
قوله "إنه لعطف الجملة" أي الواو للعطف لإمكان العمل بالحقيقة إذ الجملتان خبريتان ههنا بخلاف ما تقدم وذكر الضمير لأن حروف التهجي تذكر وتؤنث على
ـــــــ
1 هو الشاعر القطامي عمير بن شييمم بن عمرو بن عباد التغلبي توفي نحو 13ه الأغاني 2/118-132.

(2/183)


ألف درهم فحمله أبو يوسف ومحمد على المعاوضة حتى إذا طلقها وجب له الألف وحمله أبو حنيفة رحمه الله على واو عطف الجملة حتى إذا طلقها لم يجب له شيء ولأبي يوسف ومحمد طريقان أحدهما أن الواو قد يستعار للباء كما استعير له في باب القسم على ما نبين إن شاء الله عز وجل فحمل على هذا المجاز بدلالة حال المعاوضة لأن حال الخلع حال المعاوضة كما قيل في قوله
ـــــــ
احتمال الحال لأن الطلاق يقبل الإضافة إلى حال المرض والمرض يصلح شرطا له فإذا نوى الحال صحت نيته ديانة وصار كأنه قال أنت طالق في حال مرضك أو أنت طالق في حال اشتغالك بالصلاة ولكن لا يصدقه القاضي لأنه نوى خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه
قوله "خذ هذا المال واعمل به مضاربة" في البز أي خذه مضاربة واعمل به في البز كذا لفظ المبسوط. وهذه الواو لعطف الجملة لأنها تصلح لذلك ههنا لكون الجملتين طلبيتين لا للحال لأنها لا تصلح للحال ههنا لأن حال العمل لا يكون وقت الأخذ وإنما يكون العمل بعد الأخذ مع أن استعارتها للحال لتصحيح الكلام, والكلام صحيح ههنا باعتبار الحقيقة فلا حاجة إلى حمل حرف الواو على المجاز فيكون مشورة أشار بها عليه لا شرطا في الأمر الأول كذا في المبسوط والبز متاع البيت من الثياب خاصة عن أبي دريد 1وعن الليث ضرب من الثياب وعن الجوهري2 هو من الثياب أمتعة البزاز والبزازة حرفة وقال محمد في السير البز عند أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن لا ثياب الصوف والخز كذا في المغرب
قوله "أحدهما كذا" الواو تستعمل بمعنى الباء مجازا كما استعملت في القسم لمناسبة بينهما صورة ومعنى أما صورة فلأن كليهما شفوي وأما معنى فلأن الجمع موجود في الإلصاق الذي هو معنى الباء ثم المستعمل في المعاوضات الباء التي تؤدي معنى الإلصاق دون الواو لأنه لا يعطف أحد العوضين على الآخر والخلع معاوضة من جانب المرأة ولهذا صح رجوع المرأة قبل إيقاع الزوج فبدلالة المعاوضة حملناها على الباء كما في. قوله احمل هذا الطعام ولك درهم حملت على الباء حتى كان هذا وقوله احمله بدرهم سواء ووجب المال إذا حمله لأنه انعقد إجارة لا استعانة أو هي محمولة على الحال
ـــــــ
1 "أبو دريد" ابن دريد وهو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الآزدي البصري أبوبكر ولد سنة 223ه توفي سنة 321ه.
2 هو اسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أبو نصر توفي 393ه وقيل 400ه أنظر معجم الأدباء 6/151-165.

(2/184)


الرجل لآخر احمل هذا الطعام إلى منزلي ولك درهم أنه يحمل على الباء أي بدرهم والثاني أن الواو للحال بدلالة حال المعاوضة أيضا ليصير شرطا وبدلا ونظيره قوله أد إلي ألفا وأنت حر وانزل وأنت آمن بخلاف خذ هذا المال واعمل به فإنه لا معنى للباء هنا وإنما حمل في مسألة الخلاف على الحال لدلالة
ـــــــ
بدلالة المعاوضة أيضا فإنها تقتضي العوض من الجانبين وذلك بأن يجعل الواو للحال ليصير وجوب الألف عليها شرطا للطلاق وبدلا عنه لأن نفسها تسلم لها بهذا المال فصار كأنها قالت طلقني في حال ما يكون لك علي ألف وقد علمت أن الأحوال شروط فكان معناه طلقني بشرط أن يكون لك علي ألف فلما قال الزوج طلقت أو فعلت كان تقديره طلقت بذلك الشرط أي طلقت إن قبلت الألف ونظيره أي نظير قوله طلقني ولك ألف "وهذا" أي قوله ولك ألف "لا معنى للباء هنا" أي لا يمكن أن يجعل الواو بمعنى الباء في مسألة المضاربة إذ لو جعلت بمعناها صار كأنه قال خذ هذا المال مضاربة بالعمل بالبز فيصير العمل بالبز عوضا عن الأخذ فيجب العمل بنفس الأخذ حينئذ والعمل ليس بواجب على المضارب بمجرد عقد المضاربة بالإجماع. ولا يمكن أن يجعل للحال أيضا لأنها إنما حملت في مسألة الخلاف وهي قوله طلقني ولك ألف على الحال بدلالة المعاوضة والمضاربة ليست بمعاوضة لأن المضارب في أول الأمر أمين وبعد الأخذ في العمل وكيل وعند ظهور الربح شريك وإذا لم يوجد معنى المعاوضة لا يمكن حملها على الحال فبقيت للعطف والابتداء فكان قوله واعمل به مشورة.
وكذا الكلام في قوله أنت طالق وأنت مريضة أو مصلية وقال أبو حنيفة رحمه الله الواو للعطف حقيقة والحمل على الحقيقة واجب حتى يقوم دليل يعارضها والمعاوضة لا يصلح دليلا معارضا يترك به الحقيقة لأن ذلك أي العوض أو معنى المعاوضة أمر زائد في الطلاق والدليل عليه أن العوض إذا دخله صار يمينا من جانب الزوج بأن قال أنت طالق على ألف أو أدي إلي ألفا وأنت طالق حتى لم يصح رجوعه قبل قبولها ويحنث به في قوله إن حلف بطلاقك فكذا وذلك لأنه يصير معلقا للطلاق بقبولها المال والتعليق بالشرط يمين لما عرف واليمين لازمة لا تقبل الرجوع لقوله عليه السلام ك "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد1" الحديث ولو كان معنى المعاوضة فيه أصليا صار يمينا ويصح رجوعه كما في النكاح وسائر المعاوضات. وكذلك يوجد الطلاق بدون العوض وهذا هو
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الطلاق حديث رقم 1184 وأبو داود في الطلاق حديث رقم 6194 وابن ماجة في الطلاق حديث رقم 2039.

(2/185)


المعاوضة ولم يوجد وكذلك في قوله أنت طالق وأنت مريضة وقال أبو حنيفة رحمه الله الواو في الحقيقة للعطف فلا تترك إلا بدليل ولا تصلح المعاوضة دلالة لأن ذلك في الطلاق أمر زائد ألا ترى أن الطلاق إذا دخله العوض كان يمينا من جانب الزوج فلم يستقم ترك الأصل بدلالة هي من باب الزوائد بخلاف
ـــــــ
الغالب وإيجاب المال فيه نادر فثبت أن العوض فيه أمر زايد فلا يصلح مغيرا لحقيقة العطف والطلاق لأن العارض لا يعارض الأصلي بخلاف الإجارة لأن معنى المعاوضة فيها أمر أصلي فجاز أن يعارض أمرا أصليا آخر
قوله "لأن الحال فعل أو اسم فاعل" نحو قولك جاءني زيد يتكلم أو متكلما وذلك لأن الأصل في الحال المطلقة أن تكون صفة غير ثابتة والفعل واسم الفاعل أدل على هذا المعنى من غيره لدلالة الفعل على التجدد والزوال ودلالة اسم الفاعل على اتصاف الشخص بالفعل كيف وقد أخذ حكم الفعل في كثير من المواضع. وقوله: ولك ألف. جملة اسمية أو ظرفية وليس بفعل ولا باسم فاعل فلا يكون صفة الحال بخلاف قوله وأنت حر فإن الحر اسم مشتق من الحرار يقال حر العبد يحر حرارا من باب علم فيصلح صفة الحال وحاصله أن الدلالة على الحال في قوله ولك ألف معدومة مع أن الصيغة لا تصلح للحال فلا يكون الواو للحال وفي قوله وأنت حر قد وجد المعنيان فجعلت للحال هذا تقرير كلام الشيخ وهو مشكل لأن المذكور في عامة كتب النحو أن الجمل الأربع وهي الاسمية والفعلية والشرطية والظرفية قد تقع حالا ثم الجملة إن كانت اسمية أو شرطية فالواو لازمة نحو جاءني زيد وأبوه منطلق ولقيته وإن تكرمه يكرمك وإن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت فالترك لازم نحو جاءني زيد يسرع أو يتكلم أو يعدو فرسه.
وإن كان الفعل ماضيا أو مضارعا منفيا جاز الأمران وإن كانت ظرفية وليس بعد الظرف مظهر فالترك لازم نحو لقيته أمامك وأكرمته في الدار وإن كان بعده مظهر فالأمران جائزان نحو لقيته عليه جبة وشيء ولقيته وعليه جبة وشيء. وقوله ولك ألف. من هذا القبيل فيصلح أن يكون حالا وكيف ولا يصلح أن يكون الواو للعطف ههنا لأن الجملة الأولى طلبية مع كونها فعلية والثانية خبرية مع كونها اسمية وقد عرفت أن التناسب شرط بين المعطوف والمعطوف عليه ولما لم يستقم أن تكون الواو للعطف تجعل للحال تصحيحا لكلامه واحترازا عن الإلغاء. وكذا قوله وأنت حر صيغته للحال مشكل أيضا لأن قوله حر بنفسه لم يقع حالا وإنما وقع خبرا للمبتدأ ولو جعل حالا كان منصوبا مرفوعا معا وهو باطل بل الجملة بمجموعها وقعت في حيز الحال وهي ليست بفعل ولا باسم

(2/186)


الإجارة لأنها شرعت معاوضة أصلية كسائر البيوع وقولها ولك ألف ليست بصيغة الحال أيضا لأن الحال فعل أو اسم فاعل وأما قوله أد ألفا وأنت حر وصيغته للحال وصدر الكلام غير مفيد إلا شرطا للتحرير فحمل عليه قوله أنت
ـــــــ
فاعل وإذا جاز وقوعها حالا مع أنها جملة اسمية من كل وجه كان وقوع قوله ولك حالا أقرب إلى الجواز لاحتمال كونها فعلية كما هو مذهب البعض. ويجوز أن يكون مراد الشيخ من قوله الحال فعل أو اسم فاعل أنها كذلك نظرا إلى الأصل أي الأصل فيها أن تكون فعلا أو اسم فاعل ووقوع غيرهما حالا على خلاف الأصل وإليه يشير قوله ليس بصيغة للحال أي صيغة الحال في الأصل فعل أو اسم فاعل وإن وقع غيرهما حالا أيضا وذكر في بعض الشروح أن ما يجيء من الحال التي ليست هي بفعل ولا باسم فاعل من الجملة الاسمية والظرفية كقولهم: فوه إلى في ولقيته وعليه جبة وشيء مقدر باسم الفاعل وهو مشافها ومستقرة عليه جبة وشيء فعلم أن قوله في الكتاب الحال فعل أو اسم فاعل صحيح ولكن للخصم أن يقول فلتكن هذه الجملة وهي قولها ولك ألف. حالا بمثل هذه التأويل أيضا أي طلقني مستقرا لك علي ألف درهم أو واجبا علي ذلك. وقيل معناه أن هذا التركيب لا يصلح للحال لأن الحال إذا كانت مفردة لا يقتضي الواو ألبتة. وكذا إذا كانت فعلا مضارعا مثبتا لأن فحواه فحوى المفرد إذ لا فرق بين قولك جاءني زيد مسرعا وجاءني زيد يسرع في إفادة معنى الإسراع ثم الظرف لافتقاره إلى العامل إما مقدر بالفعل كما هو مذهب البعض أو باسم الفاعل كما هو مذهب آخرين فإذا وقعت الجملة الظرفية في حيز الحال كانت مقدرة بالفعل أو باسم الفاعل فكان تقدير قوله لقيته عليه جبة وشيء لقيته تستقر عليه جبة وشيء أو مستقرة عليه جبة وشيء وعلى كلا التقديرين لا يستقيم الواو لأن الواقع حالا في التحقيق هو الفعل المقدر أو اسم الفاعل المقدر وكلاهما لا يقتضي الواو فكان هذا الترتيب مع الواو غير صالح للحال كما لو صرح بالمضمر فقيل لقيته يستقر عليه جبة وشيء أو مستقرة عليه بخلاف قوله وأنت حر فإنه جملة اسمية وقعت بمجموعها في حيز الحال ولا يصلح الجملة الاسمية لها إلا مع الواو فكانت هذه الصيغة صالحة للحال. وتبين بما ذكرنا أن اللام في قوله الحال فعل أو اسم فاعل للعهد أي الحال المستترة في هذا الظرف وهو قوله أو لك فعل أي يستقر أو اسم فاعل أي مستقر قلت هذا كلام حسن لو لم يكن مخالفا لروايات كتب النحو أجمع فإن المذكور فيها أن الجملة الواقعة حالا إذا كانت ظرفية وبعد الظرف اسم مظهر جاز فيها إثبات الواو وتركها أما تركها فلما ذكر هذا القائل, وأما إثباتها فلأنها أخذت شبها بالجملة الاسمية من حيث إن الظرف خبر وما بعده من المظهر مخبر عنه فجاز فيه الأمران

(2/187)


طالق مفيد بنفسه. وقوله أنت مريضة جملة تامة لا دلالة فيها على الحال لكنه يحتمل ذلك فصحت نيته وأما قوله أد ألفا لا يصلح ضريبة فصلح دلالة على الحال وقوله واعمل به في باب المضاربة لا يصلح حالا للأخذ فبقي قوله خذ هذا المال مضاربة مطلقا وقوله انزل وأنت آمن فيه دلالة الحال لأن الأمان إنما يراد إعلاء الدين وليعاين الحربي معالم الدين ومحاسنه فكان الظاهر فيه الحال ليصير معلقا بالنزول إلينا والكلام يحتمل الحال
ـــــــ
قوله "وصدر الكلام" يعني قوله أد إلي ألفا غير مفيد شيئا إلا شرطا للجزية لأنه لا يصلح للإيجاب ابتداء إذ المولى لا يستوجب على عبده دينا ولا يصلح للضريبة أيضا لأنها لا يكون من غير عقد واصطلاح ولأنها لا يزيد في شهر على عشرين درهما أو ثلاثين أو نحوها والضريبة وظيفة يأخذها المالك فحمل عليه أي حمل صدر الكلام على كونه شرطا للتحرير بأن جعلت الواو للحال ليصير تعليقا للعتق بأداء المال بخلاف ما نحن فيه لأن أول الكلام إن صدر من الزوج بأن قال أنت طالق وعليك ألف درهم كان إيقاعا مفيدا منه بدون آخره فلا حاجة إلى الحمل على الحال وإن صدر منها فهو التماس صحيح منها فلهذا لا يحمل على الحال بل يكون معناه ولك ألف في تينك أو يكون وعدا منها إياه بالمال والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم. ولأن أدنى ما في الباب أن يكون حرف الواو محتملا لجميع ما ذكرنا والمال بالشك لا يجب كذا في المبسوط فصلح أي قوله أد إلي ألفا دلالة على الحال أي على أن الواو للحال
قوله "لا دلالة فيها على الحال" لأن الأصل في التصرفات التنجيز والتعليق يثبت فيها بعارض الشرط وذلك لا يثبت بالاحتمال والشك ولأن الظاهر من حال المؤمن أنه لا يطلق حليلته في حال المرض لأنه حال شفقة ومرحمة ولما لم توجد دلالة على الحال حملت الواو على العطف الذي هو حقيقتها وقد صح الحمل عليه لاتفاق الجملتين ولكنها يحتمل الحال لأن المريض قد يصلح شرطا للطلاق والطلاق قد يتأخر إلى المرض ويتحقق فيه فإذا نوى التعليق يصدق ديانة لأنه محتمل كلامه. لا يصلح حالا للأخذ لأن العمل يوجد بعد الأخذ فلا يصلح حالا للأخذ الموجود قبله والكلام يحتمل الحال أيضا لأن قوله آمن نعت فاعل أو لأنه جملة اسمية مع الواو وأيضا نصب على المصدر من آض يئيض إذا رجع وينوب عن الحال تقول فعلت ذاك أيضا أي أيضا عائدا إليه ويقال قد أكثرت من أيض أي أكثرت التكلم بهذه الكلمة كذا ذكر الميداني1.
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري أبو الفضل المتوفي سنة 518ه. أنظر وفيات الأعيان 1/148.

(2/188)


"الفاء"
وأما الفاء فإنه للوصل والتعقيب حتى أن المعطوف بالفاء يتراخى عن المعطوف عليه بزمان وإن لطف. هذا موجبه الذي وضع له ألا ترى أن العرب تستعمل الفاء في الجزاء لأنه مرتب لا محالة وتستعمل في أحكام العلل كما
ـــــــ
"الفاء"
قوله "الفاء للوصل والتعقيب" يعني موجبه وجود الثاني بعد الأول بغير مهلة حتى لو قلت ضربت زيدا فعمرا كان المعنى أن ضرب عمرو وقع عقيب ضرب زيد ولم يتطاول المدة بينهما ومعنى قوله تراخى عن المعطوف بزمان وإن لطف هو أن من ضرورة التعقيب تراخي الثاني عن الأول بزمان وإن قل ذلك الزمان بحيث لا يدرك إذ لو لم يكن كذلك كان مقارنا والقران ليس بموجب له قال الإمام عبد القاهر أصل الفاء الاتباع والعطف فرع على ذلك ألا ترى أنه لا يعرى عن الاتباع بوجه لأنك إذا قلت ضربت زيدا فعمرا فقد أتبعت عمرا زيدا مع عطفك على ما قبله لفظا وقد يكون للاتباع متجردا عن العطف كما في جواب الشرط بالفاء نحو إن تأتني فأنا أكرمك فعرفت أن أعرف المعنيين هو الاتباع وذكر في شرح الموجز أن الفاء في الترتيب على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون الثاني من موجب الأول فيكون بعده بلا فصل كقوله ضربته فبكى لأنه من موجب الضرب والثاني أن لا يكون من موجب الأول فيكون بعد الأول ولكن يجوز أن يكون بينهما مهلة يسيرة كقولك جاء زيد فعمرو إذ يجوز أن يكون بين مجيء زيد وعمرو مهلة يسيرة. والثالث أن لا يكون من موجب الأول ويكون بينهما مسافة كقولك دخلت البصرة فالكوفة فإن الثاني بعده وبينهما قدر المسافة إذ لا يمكن أن يقع الثاني عقيب الأول
قوله "ألا ترى" توضيح لما ذكر أن الفاء للوصل والتعقيب يعني لما كان الفاء للترتيب مع الوصل استعملته العرب في الآخر به لأن من حق الجزاء أن يتعقب نزوله وجود الشرط بلا فصل لأن الحكم مرتب على العلة أي بلا فصل رتبة أو زمانا على حسب ما اختلفوا

(2/189)


يقال جاء الشتاء فتأهب لأن الحكم مرتب على العلة ويقال أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا أي كان كذلك فازداد الثمن صاعدا مرتفعا ولما قلنا إن وجوه العطف منقسمة على صلاته فلا بد من أن يكون الفاء مختصا بمعنى هو موضوع له حقيقة وذلك هو التعقيب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لآخر بعت منك هذا العبد بكذا فقال الآخر فهو حر إنه قبول للبيع ولو قال هو حر أو
ـــــــ
قوله "أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا" معنى هذا أنك اشتريت عدل ثياب ووقع سعر أول ثوب بعشرة ثم غلا السعر فزاد على العشرة فتقول أخذت كل ثوب بعشرة فصاعدا فقوله فصاعدا انتصب على الحال بعامل مضمر والتقدير كان الأخذ بعشرة فازداد الثمن عقيب الأخذ صاعدا من غير تراخ أو ذهب الثمن صاعدا وليس انتصاب صاعدا على العطف لأنه لم يتقدم إلا ذكر الفاعل والمفعول والعشرة ولا يستقيم عطفه على الفاعل لفظا أو معنى وهو ظاهر. وكذا على المفعول معنى إذ ليس الغرض أنك أخذت المثمن والصاعد لأن الصاعد هو الثمن وكذا على العشرة لفظا وهو ظاهر وكذا معنى لأنك لم ترد أنك أخذت المثمن بعشرة فتصاعدا وإنما أردت أنك أخذت بعضه بعشرة وبعضه بأكثر فوجب حمله على أن يكون التقدير فازداد الثمن صاعدا أي ذهب على هذه الحالة في البعض.
قوله "وجوه العطف منقسمة على صلاته" أراد بالصلاة الحروف يعني قد ذكرنا أن أنواع العطف انقسمت على حروف العطف وأن كل حرف مختص بمعنى في أصل الوضع فالواو لمطلق العطف وثم للترتيب مع التراخي فلا بد من أن يكون الفاء لمعنى اختص به في أصل الوضع وذلك هو التعقيب بصفة الوصل إذ لم يوضع له لفظ آخر والاشتراك خلاف الأصل لما مر غير مرة
قوله "ولذلك" أي ولأن الفاء للتعقيب قال أصحابنا فيمن قال لغيره بعت هذا العبد منك بكذا وقال المشتري فهو حر إنه يعتق ويجعل الرجل قابلا للبيع ثم معتقا لأنه ذكر الحرية بحرف الفاء عقيب الإيجاب والفاء للترتيب ولا يترتب العتق على الإيجاب إلا بعد ثبوت القبول فيثبت ذلك بطريق الاقتضاء وصار كأنه قال قبلت فهو حر بخلاف قوله هو حر أو وهو حر لعدم ما يوجب التعقيب فبقي محتملا لرد الإيجاب بأن جعله إخبارا عن الحرية الباقية قبل الإيجاب ولقبول البيع بأن جعل إنشاء للحرية في الحال فلا يثبت القبول بالشك.
قوله "فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن" وذلك لأن الفاء للوصل والتعقيب فبذكره تبين أنه شارط للكفاية في الإذن لأنه أمره بقطع مرتب على الكفاية فصار كأنه قال إن كفاني

(2/190)


وهو حر لم يجز البيع وقال مشايخنا فيمن قال لخياط انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصا فنظر فقال نعم فقال فاقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه إنه يضمن كما لو قال فإن كفاني قميصا فاقطعه فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن ولذلك قالوا فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فدخلت الدار وهي غير مدخول بها أنه يقع على الترتيب فتبين بالأولى ولذلك اختص الفاء
ـــــــ
قميصا فاقطعه والمعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط فإذا لم يكفه قميصا كان القطع حاصلا بغير إذن فكان موجبا للضمان بخلاف ما لو قال اقطعه فقطعه فإذا هو لا يكفيه لا يضمن لأن قوله اقطعه إذن مطلق فلا يكون القطع بعده موجبا للضمان لأن الغرور بمجرد الخبر إذا لم يكن في ضمن عقد ضمان لا يوجب الضمان على الغار كما لو قال هذه الطريق آمن فسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه لا يضمن كذا في "المبسوط"
قوله "فتبين بالأول" قال بعض مشايخنا هذا قول أبي حنيفة فأما عندهما فينبغي أن تطلق ثنتين وذلك لأن العمل بموجب الفاء ههنا غير ممكن لأن الأجزية لا يترتب بعضها على بعض بعد وجود الشرط فيجعل الفاء بمعنى الواو مجازا وحكمه على الخلاف كما عرفت والصحيح أنها تطلق واحدة عندهم جميعا لأن الفاء للتعقيب فيثبت به ترتيب بين الأولى والثانية في الوقوع كما لو قال بكلمة بعد فلا يمكن القول بإيقاع الثانية لأنها تبين بالأولى ومع إمكان اعتبار الحقيقة لا معنى للمصير إلى المجاز كذا قال شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "ولذلك" أي ولمعنى التعقيب اختص الفاء بكذا إنما أعاد هذا الكلام ليبني عليه ذكر الحديث الذي أورده وبظاهره تمسك أصحاب الظواهر منهم داود الأصبهاني فقالوا إن الرجل إذا ملك أباه أو ابنه يلزمه أن يعتقه ولكن لا يعتق عليه قبل إعتاقه لأن قوله فيعتقه تنصيص على أنه يستحق عليه إعتاقه ولو عتق بنفس الشراء لم يكن لقوله فيعتقه معنى ولأن القرابة لا تمنع ثبوت الملك ابتداء فلا تمنع البقاء بالطريق الأولى ألا ترى أنها لما منعت بقاء ملك النكاح منعت ثبوته ابتداء وقال عامة العلماء يعتق عليه من غير إعتاق لما عرف والمراد من قوله فيشتريه فيعتقه الإعتاق بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال أطعمه فأشبعه وسقاه فرواه وعلمه فهداه وضرب فأوجع وكتب فقرمط وإنما أثبتنا به الملك ابتداء لأن انتفاء العبودية وثبوت العتق لا يتحقق إلا به فإذا لم يملكه لا يعتق بخلاف ملك النكاح لأنه لا فائدة في إثبات ملك النكاح له على ابنته ثم إزالته لأنها تعود إلى ما كانت عليه

(2/191)


بعطف الحكم على العلل كما يقال أطعمته فأشبعته أي بهذا الإطعام وقال النبي عليه السلام: "لن يجزي ولد والده يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه1" فدل ذلك على أن كونه معتقا حكم للشرى بواسطة الملك ولهذا
ـــــــ
قوله "وأطعمته فأشبعته" أي بهذا الإطعام إذ لو كان الإشباع بغير هذا الإطعام لم يكن الإشباع متصلا بهذا الإطعام وليس ذلك بموجب الفاء وكذلك في قوله عليه السلام فيشتريه فيعتقه مقتضاه أن يكون الإعتاق متصلا بالشراء من غير تخلل زمان بينهما وذلك فيما قلنا فلو شرط إعتاق ابتدائي لا يكون ذلك عملا بالفاء لأنه وإن أعتقه متصلا بالشراء فذلك لا يكون إعتاقا حتى يتم كلامه فيتخلل بينهما زمان وذلك ليس بمقتضى الفاء كذا قيل وفيه تكلف. قوله "فدل ذلك" أي قوله فيشتريه فيعتقه على أن كونه معتقا حكم للشراء كالإشباع في قوله أطعمه فأشبعه وقوله بواسطة الملك احتراز عما يقال لا يصح أن يكون الإعتاق حكما للشراء لأن الشراء موضوع لإثبات الملك والإعتاق إزالة له فكان منافيا له والمنافي لحكم الشيء لا يصلح أن يكون حكما لذلك الشيء فقال إنه بنفسه لا يصلح حكما له ولكنه يصلح بواسطة الملك وذلك لأنه بالشراء يصير متملكا والملك في القريب إكمال لعلة العتق فيصير العتق مضافا إلى الشراء بواسطة الملك وإذا صار مضافا إليه يصير به معتقا لأن السبب الموجب للحكم بواسطة كالموجب بغير واسطة في كون الحكم مضافا إليه وإذا كان كذلك لا يحتاج إلى إعتاق آخر كما قاله أصحاب الظواهر وإذا اشتراه ناويا عن الكفارة يخرج به عن العهدة أيضا خلافا لما قاله زفر والشافعي رحمهما الله. وإنما حصر النبي صلى الله عليه وسلم مجازاة الولد الوالد على هذه الصورة لأن الوجود أعظم النعم وأعلاها وقد حصل للولد بواسطة الأب فلا يمكن للولد مجازاته لأن جميع ما يتصور من الولد من الإحسان إلى الأب لا يماثل بنعمة الوجود لأن جميع ذلك راجع إلى الأحوال وما صدر من الأب راجع إلى الذات لا إذا وجده مملوكا وأعتقه بالشراء " فح " يجوز أن يكون هذا منه نوع مجازاة لأن الرق أثر الكفر الذي هو موت حكما قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} "الأنعام: 122"أي كافرا فهديناه فإذا أزال عنه هذا الوصف بالشراء صار كأنه أحياه بعدما فني فيجوز أن يصير مقابلا بإحسانه ومجازاة لإنعامه وهذا على وجه التحريض والترغيب لا على طريق التحقيق فإن أحدا لا يقدر على مجازاة الأبوين ومكافأتهما بحال إذا أنصف من نفسه وتأمل في إحسانهما إليه وإشفاقهما
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في العتق حديث رقم 1510.وأبو داود في الأدب حديث رقم 5137.والترمذي في البر والصلة حديث رقم 1906.وابن ماجة في الأدب حديث رقم 3659.

(2/192)


قلنا فيمن قال إن دخلت هذه الدار, فهذه الدار, فعبدي حر إن الشرط أن يدخل الأخيرة بعد الأولى من غير تراخ.وقد تدخل الفاء على العلل أيضا إذا كان ذلك مما يدوم فتصير بمعنى التراخي كما يقال أبشر فقد أتاك الغوث وقد نجوت ونظيره ما قال علماؤنا في المأذون فيمن قال لعبده أد إلي ألفا فأنت حر أنه يعتق للحال
ـــــــ
عليه اللهم اغفر لنا ما ضيعنا من حقوقهم واغفر لهم ما ضيعوا من حقك يا أكرم الأكرمين من غير تراخ أي من غير أن يشتغل بينهما بعمل آخر أو يؤخر الدخول في الثانية من غير اشتغال بعمل.
قوله "وقد تدخل الفاء على العلل" الأصل أن تدخل الفاء على الأحكام لأنها مترتبة على العلل ولا تدخل على العلل لاستحالة تأخر العلة عن المعلول إلا أنها قد تدخل على العلل على خلاف الأصل بشرط أن يكون لها دوام لأنها إذا كانت دائمة كانت في حالة الدوام متراخية عن ابتداء الحكم فيصح دخول الفاء عليها بهذا الاعتبار كما يقال لمن هو في قيد ظالم أو حبس ذي سلطان أو ضيق أو مشقة إذا ظهر آثار الفرج والخلاص له أبشر فقد أتاك الغوث وقد نجوت باعتبار أن الغوث الذي هو علة الإبشار باق بعد ابتداء الإبشار ويسمى هذه الفاء فاء التعليل لأنها بمعنى لام التعليل والإبشار لازم ومتعد يقال بشرته بمولود فأبشر أي صار فرحا مسرورا به وههنا بمعنى اللازم والمراد من الغوث المغيث
قوله "أنه يعتق للحال" لما ذكرنا أن الفاء في مثل هذا الموضع للتعليل فيصير معناه أد إلي ألفا لأنك حر فلذلك يتنجز به العتق.
وقوله ولم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط جواب سؤال وهو أن يقال هلا جعلت قوله أد إلي ألفا علة وقولك فأنت حر ثابتا به كما هو حقيقة الفاء والأداء صالح لإضافة الحرية إليه فيصير كأنه قال إن أديت إلي ألفا فأنت حر كما في صورة الواو فقال لأنا إن جعلناه كذلك احتجنا إلى إضمار الشرط والإضمار خلاف الأصل فإذا صح الكلام بدونه لا يصار إليه من غير ضرورة ولا يقال دخول الفاء على العلة أيضا خلاف الأصل لأن موجبه الترتيب والعلة سابقة على الحكم كما بينا لأنا نقول فيما ذهبنا إليه عمل بحقيقة الفاء من وجه لأن العلة لما كانت مستدامة يحصل الترتيب فكان أولى من الإضمار ثم رجع الشيخ إلى أصل الكلام فقال ولهذا قلنا أي ولأن الفاء للعطف بالصفة التي ذكرت. قلنا إذا قال لفلان علي درهم فدرهم إنه يلزمه درهمان لأن الفاء للعطف ومن شرطه المغايرة فوجب أن يكون الثاني غير الأول عملا بحقيقة العطف لكن الترتيب من لوازم الفاء ولا يمكن رعايته ههنا لأن الترتيب الذي نحن بصدده هو التقدم والتأخر بين الشيئين زمانا وإنما يتحقق هذا فيما يتعلق بالزمان وهو الفعل دون العين ولهذا لا

(2/193)


وتقديره أد إلي ألفا فإنك قد عتقت لأن العتق دائم فأشبه المتراخي وقالوا في السير الكبير انزل فأنت آمن إنه آمن نزل أو لم ينزل لما قلنا فلم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط لأن الكلام صح بدون الإضمار وإنما الإضمار ضروري في الأصل ولهذا قلنا فيمن قال لفلان علي درهم فدرهم إنه يلزمه درهمان لأن المعطوف غير الأول ويصرف الترتيب إلى الوجوب دون الواجب أو يجعل
ـــــــ
يقال هذا أول وهذا آخر وإنما يقال هذا ثبت أولا أو جلس أو قام أو نحوه والدراهم في الذمة في حكم العين فلا يتصور فيها الترتيب فيصرف الترتيب إلى الوجوب أي وجب درهم وبعده آخر كما إذا قال درهم ثم درهم يلزمه درهمان بالإجماع ويصرف التراخي والترتيب إلى الوجوب أو يجعل الفاء عبارة عن الواو مجازا لمشاركتهما في نفس العطف كأنه قال درهم ودرهم وقال الشافعي رحمه الله لزمه درهم لأن موجب حرف الفاء لا يتحقق في الدراهم كما ذكرنا ولا يمكن صرفه إلى الوجوب أيضا لأن وجوب الثاني بعد الأول متصلا به لا يتصور إذ لا بد له من مباشرة سبب آخر بعد وجوب الأول فينفصل لا محالة فيحمل على أنه جملة مبتدأة محذوفة المبتدأ ذكرت لتحقيق مضمون الجملة الأولى وتأكيدها كأنه قال فهو درهم كقوله تعالى. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} "إبراهيم: 4" أي من قبلك {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} "إبراهيم: 4" أي بلغتهم {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} "إبراهيم: 4" أي الدين الحق والصراط المستقيم {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} "إبارهيم: 4" أي يصير ذلك البيان سبب ضلال من شاء الله إضلاله والمذكور في التفاسير فيضل الله من يشاء بعد التبيين بإشارة الباطل {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} "إبراهيم 4" لاتباع الحق وكقول الشاعر وهو رؤبة في رواية صاحب الصحاح:
يريد أن يعربه فيعجمه أي إعرابه إعجامه ومعنى البيت أنه لا يقدر على إنشاء الشعر والتكلم به من وضعه في غير موضعه بأن مدح من لا يستحق المدح أو ذم من لا يستحق الذم لأن حسن الكلام وفصاحته بحسن موقعه فإذا فقد ذلك فسد فهذا معنى قوله يريد أن يعربه أي يفصحه ولا يلحن في إعرابه فيعجمه أي يأتي به عجميا يعني يلحن فيه قال الفراء رفعه على المخالفة يريد أن يعربه ولا يريد أن يعجمه وقال الأخفش لوقوعه موقع المرفوع لأنه أراد أن يقول يريد أن يعربه فيقع موقع الإعجام, فلما وضع قوله فيعجم موضع قوله فيقع رفعه. كذا في الصحاح وذكر صاحب الكشاف في رسالته الزاخرة راويا عن الحطيئة أنه كان يقول: قول جيد الشعر أشد من قضم الحجارة. وقال:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه

(2/194)


مستعارا بمعنى الواو وقال الشافعي لزمه درهم لأن معنى الترتيب لغو فحمل على جملة مبتدأة لتحقيق الأول فهو درهم كما قال الشاعر:
والشعر لا يسطيعه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
وقوله {ليُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} "إبراهيم: 4" إلا أن هذا لا يصح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة والحقيقة أحق ما أمكن.
ـــــــ
قوله "إلا أن هذا" أي جعله جملة مبتدأة كما قال الشافعي لا يصح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة وهي العطف وإلغاء الفاء من كل وجه لأنه يساوي قوله
علي درهم درهم والحقيقة أحق بالاعتبار من الإلغاء ما أمكن وفيما ذهبنا إليه إن كان ترك الحقيقة من وجه ففيه اعتبارها من وجه لأنه إن فات العمل بصفة الوصل من الوجه الذي قاله فقد حصل العمل بمعنى العطف الذي هو أصل في هذا الحرف وبصفة التعقيب في الوجوب فكان أحق مما قاله الشافعي.

(2/195)


"ثم"
وأما ثم فللعطف على سبيل التراخي وهو موضوعة ليختص بمعنى ينفرد به واختلف أصحابنا في أثر التراخي فقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو بمعنى الانقطاع كأنه مستأنف حكما قولا بكمال التراخي وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما التراخي راجع إلى الوجود فأما في حكم التكلم فمتصل بيانه
ـــــــ
"ثم"
قوله "على سبيل التراخي" وهو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه مهلة في الفعل المتعلق بهما فإذا قلت جاءني زيد ثم عمرو أو قلت ضربت زيدا ثم عمرا كان المعنى أنه وقع بينهما مهلة ولهذا جاز أن تقول ضربت زيدا ثم عمرا بعده بشهر ولا يصح ذلك بالفاء واختلف أصحابنا في أثر التراخي أي في ظهور أثره فقال أبو حنيفة رحمه الله يظهر أثره في الحكم والتكلم جميعا حتى كان بمنزلة ما لو سكت ثم استأنف قولا بكمال التراخي يعني هذه الكلمة وضعت لمطلق التراخي فيدل على كماله إذ المطلق ينصرف إلى الكامل وذلك بأن يثبت التراخي في التكلم والحكم جميعا إذ لو كان التراخي في الوجود دون التكلم كان ثابتا من وجه دون وجه ألا ترى أن هذه الكلمة دخلت على اللفظ فيجب إظهار أثر التراخي في نفس اللفظ أيضا تقديرا كما يظهر أثره في الحكم وإذا ظهر أثره في اللفظ صار كما لو فصل بالسكوت "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله:التراخي راجع إلى الوجود أي يوجد ما دل اللفظ عليه متراخيا كما في كلمة بعد لا في التكلم لأنه متصل حقيقة وكيف يجعل التكلم منفصلا والعطف لا يصح مع الانفصال فيبقى الاتصال حكما مراعاة لحق العطف بيانه فيمن قال إلى آخره هذه المسألة على وجوه أربعة أما إن علق الطلاق بكلمة ثم في المدخول بها أو في غير المدخول بها وأما إن قدم الشرط أو أخره فإذا أخر الشرط في غير المدخول بها فقال أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الأول في الحال ويلغو ما بعده لأنه لما صار كأنه سكت ثم استأنف لا يتوقف أول الكلام على آخره إن وجد المغير في آخره لفوات شرط التوقف وهو الاتصال فيقع الأول في الحال وتبين لا إلى عدة فيلغو ما بعده ضرورة كما إذا وجد حقيقة السكوت. وإذا قدم الشرط فقال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق تعلق الأول

(2/196)


فيمن قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار قال أبو حنيفة رحمه الله الأول يقع ويلغو ما بعده كأنه سكت على الأول ولو قدم الشرط تعلق الأول ووقع الثاني ولغا الثالث كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق وقال أبو يوسف ومحمد يتعلقن جميعا وينزلن على الترتيب سواء قدم الشرط أو أخر ولو كانت مدخولا بها نزل الأول والثاني وتعلق الثالث إذا أخر الشرط وإذا قدمه تعلق الأول ونزل الباقي عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يتعلق الكل ذكره في النوادر وقد يستعار ثم بمعنى واو العطف
ـــــــ
بالشرط ووقع الثاني لبقاء المحل إذ المعلق لا يترك في المحل ولغا الثالث لأنها بانت لا إلى عدة ولا يقال ينبغي أن يلغو الثاني أيضا لأن الكلام الثاني لما انقطع عن الأول حتى ظهر أثر الانقطاع في عدم التعلق بالشرط لا يثبت له شركة فيما تم به الأول ولا يصير ذلك كالمعاد فيه أيضا لأن ذلك إنما يثبت بشرط الاتصال وهو معدوم فيبقى قوله ثم طالق بلا مبتدأ ولو استأنف به حقيقة لا يقع شيء فكذا إذا صار مستأنفا حكما لأنا نقول صحة العطف مبنية على الاتصال صورة وذلك موجود ههنا فأما التعلق بالشرط فمبني على اتصال الكلام صورة ومعنى ولهذا اختص بحرف الفاء الذي يوجب الوصل حتى لو قال إن دخلت الدار وأنت طالق لا يثبت التعليق بالشرط يوضحه أنه لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق لا يتعلق الثاني والثالث بالشرط لعدم ما يوجب التعليق وهو حرف الفاء ولكن يثبت الشركة فيما تم به الجملة الأولى للاتصال صورة ويمكن ذلك بدون العاطف بأن يجعل خبرا بعد خبر وإذا أخر الشرط في المدخول بها أو قدمه تعلق بالشرط ما يليه ووقع الثاني في الحال وهو ظاهر. وعندهما يتعلق الكل بالشرط في الوجوه الأربعة وينزلن على الترتيب عند وجود الشرط لأن كلمة ثم للعطف بصفة التراخي فلوجود معنى العطف يتعلق الكل بالشرط ولمعنى التراخي يقع مرتبا فإذا كانت مدخولا بها تطلق ثلاثا وإن كانت غير مدخول بها تطلق واحدة ويلغو الثاني لفوات المحل بالبينونة
قوله "كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق" يعني لغير المدخول بها تعلق الأول بالشرط ووقع الثاني ولغا الثالث ولو أخر الشرط طلقت واحدة في الحال ولغا ما سواها ولو قدم الشرط أو أخره وكانت المرأة مدخولا بها طلقت ثنتين للحال وتعلق بالشرط ما يليه وهذه الوجوه الأربعة مذكورة في المبسوط من غير ذكر خلاف فتصلح مقيسا عليها لأبي حنيفة رحمه الله في المسائل المذكورة
قوله "وقد يستعار ثم بمعنى الواو" وإذا تعذر العمل بحقيقة ثم يجوز أن يجعل

(2/197)


مجازا للمجاورة التي بينهما قال الله تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} "البلد: 17" {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} "بونس: 46" ولهذا قلنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر يمينه" إنه يحمل على حقيقته لأن العمل به
ـــــــ
مستعارا له للواو احترازا عن الإلغاء للمجاورة أي للاتصال الذي بينهما في معنى العطف فالواو لمطلق العطف وثم لعطف مقيد والمطلق داخل في المقيد فيثبت بينهما اتصال معنوي فيجوز أن يستعمل بمعنى الواو قال الله تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي وكان لتعذر العمل بحقيقة ثم إذ الإيمان هو الأصل المقدم الذي يبتنى عليه سائر الأعمال الصالحة وهو شرط صحتها فلا يكون فك الرقبة والإطعام معتبرين قبله كالصلاة قبل الطهارة فعرفنا أنه بمعنى الواو وذكر صاحب الكشاف في مثل هذا الموضع أن كلمة التراخي لبيان تباين المنزلتين كما أنها لبيان تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمرو. وقال في هذه الآية جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره وذكر في التيسير أنها لترتيب الإخبار لا لترتيب الوجود أي ثم أخبركم أن هذا لمن كان مؤمنا وقال الله تعالى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} قد تعذر العمل بحقيقة ثم لأنه تعالى شهيد على ما يفعلون قبل رجوعهم إليه كما هو شهيد بعد ذلك فكان بمعنى الواو كما في قول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
قال صاحب الكشاف المراد من الشهادة مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب كأنه تعالى قال ثم الله يعاقب على ما يفعلون وقال ويجوز أن يراد أن الله مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم
قوله "ولهذا قلنا" أي ولوجوب العمل بالحقيقة عند الإمكان ووجوب المصير إلى المجاز عند التعذر قلنا كذا. ولجواز استعارة ثم للواو قلنا كذا إذا عجل الكفارة بالمال قبل الحنث لا يجوز عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز لقوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه ثم ليأت الذي هو خير1" شرع الكفارة قبل الحنث وما روي في رواية أخرى: "فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه" محمول على الوجوب وهذا على الجواز ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الأيمان حديث رقم 1650والترمذي في الأيمان حديث رقم 15.

(2/198)


ممكن لأنا نعمل بحقيقة موجب الأمر فيجعل الكفارة واجبة بعد الحنث وروي: "فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" فحملنا هذا على واو العطف لأن العمل بحقيقته غير ممكن وهو موجب الأمر لأن التكفير قبل الحنث غير واجب فكان المجاز متعينا تحقيقا لما هو المقصود وإذا صح بأن يستعار ثم للواو فالفاء به أولى لأن جوازه بالفاء أقرب ولهذا قال مشايخنا فيمن قال لامرأته إن دخلت
ـــــــ
غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه" رتب والترتيب للوجوب في الشرع فحملنا ثم على حقيقته في هذه الرواية لإمكان العمل بها وذلك لأن الأمر بالتكفير وهو قوله ثم ليكفر يبقى على حقيقته إذ الكفارة واجبة بعد الحنث بالاتفاق وهذه الرواية هي المشهور ولا تعارضها الرواية الأخرى وهو قوله: "فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" لأنها غير مشهورة كذا في الأسرار ولو صحت كان ثم فيها محمولا على الواو لتعذر العمل بحقيقته إذ لو حمل على حقيقته لا يكون الأمر بالتكفير للوجوب حينئذ لأن التكفير قبل الحنث ليس بواجب بالإجماع وإنما الكلام في الجواز فإن قيل فيما ذكرتم ترك العمل بحقيقة ثم. وإن كان فيه عمل بحقيقة الأمر وفيما قلنا عكسه فبم ترجح ما ذكرتم قلنا يكون وجوب الكفارة هو المقصود من سوق الكلام إذ المقصود الأصلي من اليمين البر والكفارة خلف عنه فحمل ما هو راجع إلى المقصود على الحقيقة أولى من عكسه
وإليه أشار الشيخ بقوله تحقيقا لما هو المقصود وبأن فيما ذهبنا إليه ترك الحقيقة من وجه واحد وهو ترك العمل بحقيقة ثم وفيما ذهبوا إليه ترك الحقيقة من وجهين وهما حمل الأمر على الإباحة وترك العمل بالإطلاق لأن التكفير بالصوم قبل الحنث لا يجوز بالاتفاق والأمر بالتكفير ثبت مطلقا غير مقيد بالمال فكان ما قلناه أحق وفيما ذهبوا إليه ترك حقيقة الكلام من وجه آخر وهو أنه عليه السلام علق التكفير بأمرين بالحلف وبرؤية الحنث خيرا وجواز التعجيل لا يتعلق بالخيرية على أصلهم وإنما جعلناه عبارة عن الواو مجازا دون الفاء مع أن الفاء أقرب إليه لأن الفاء يوجب ترتيبا أيضا فلا يحصل الغرض إذ يبقى الأمر غير موجب كما كان ولا يقال لما صار بمعنى الواو يجب أن يجوز كيف ما كان عملا بمطلق العطف لأنا إنما حملناه على الواو ليبقى الأمر على حقيقته فلو قلنا بالجواز كيف ما كان لا يحصل هذا المقصود فجعلناه مقيدا بترتيب الكفارة على الحنث وإن صار بمعنى الواو ليبقى الأمر على حقيقته وليتوافق الروايتان. قوله عليه السلام: "من حلف على يمين" اليمين خلاف اليسار في الأصل وسمي القسم باليمين لأنهم كانوا يتماسحون بأيمانهم حالة التحالف وقد يسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها ومنه الحديث: "من حلف على يمين" وهي مؤنثة في جميع المعاني كذا في المغرب

(2/199)


الدار فأنت طالق فطالق فطالق ولم يدخل بها إن هذا على الاختلاف مثل ما اختلفوا في الواو إلا أن الحقيقة أولى فلذلك اخترنا الاتفاق في هذا وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فعلى هذا أيضا..
ـــــــ
قوله "فالفاء به أولى" أي الواو أولى من ثم لأن جواز الفاء بالواو أقرب من جواز ثم بالواو لأن الواو للجمع ومعنى الجمع في التعقيب مع الوصل أقرب منه في التعقيب مع الفصل فكان أحق بجواز الاستعارة للواو من ثم ألا ترى أن من قال لفلان علي درهم فدرهم أنه يلزمه درهمان كما لو قال درهم ودرهم ولهذا أي ولقرب جوازه بالواو قال بعض مشايخنا منهم الطحاوي إن الفاء في قوله لغير المدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق بمعنى الواو لتعذر حمله على الحقيقة على ما بيناه فيقع عند وجود الشرط واحدة عند أبي حنيفة وعندهما ثلاث إلا أن الحقيقة أولى يعني لا نسلم تعذر العمل بالحقيقة وإذا لم تكن متعذرة كان العمل بالحقيقة أولى فكانت المسألة على الاتفاق لا على الاختلاف فلا يقع إلا واحدة عندهم جميعا لأن في كلامه تنصيصا على أن الثانية تعقب الأولى فتبين الأولى لا إلى عدة بخلاف الواو. وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فقال لها أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار فعلى هذا أيضا أي لا يقع إلا واحدة بالاتفاق كما إذا قدم الشرط لأن موجب الفاء لما كان هو الترتيب كان النزول على الترتيب عند وجود الشرط فلا يتفاوت الأمر بين تقديم الجزاء وتأخيره وعند أولئك البعض ينبغي أن تقع الثلاث بالاتفاق كما إذا قدم الجزاء بحرف الواو فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار تطلق ثلاثا عند وجود الشرط بالاتفاق وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله إذا قال إن دخلت الدار أنت طالق فطالق فطالق بحرف الفاء لم يذكر محمد رحمه الله جوابه في الكتاب وذكر الفقيه أبو الليث1 في المختلفات أنه يقع عند الكل ثلاث تطليقات متى وجد الشرط سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن وذكر الكرخي والطحاوي أن المسألة على الاختلاف وإن أخر الشرط فبالإجماع يقع ثلاث تطليقات لأنه لو ذكر بكلمة الواو يقع ثلاث تطليقات وإن كان لا يوجب الوصل فإذا ذكر بكلمة الفاء وأنه يوجب الوصل أولى وفي شرح الطحاوي فإن قدم الشرط فقال إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق أو قال بحرف الفاء والمرأة غير مدخول بها فدخلت الدار بانت بتطليقة واحدة عند أبي حنيفة وقالا تقع ثلاث, ولو كانت مدخولة تقع الثلاث بالإجماع, عنده متتابعة وعندهما جملة ولو أخر الشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار وذكره بالفاء فإنها تطلق ثلاثا سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن فالطحاوي جعل كلمة الفاء مثل كلمة الواو قدم الشرط أو أخر. وذكر الفقيه أبو الليث أنها مثل كلمة بعد فقال إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق إن كانت مدخولا بها تقع الثلاث متتابعة وإن كانت غير مدخول بها وقعت واحدة بالإجماع
ـــــــ
1 هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه المتوفي سنة 383 أنظر الفوائد البهية 220.

(2/200)


"بل"
وأما بل فموضوع لإثبات ما بعده والإعراض عما قبله على سبيل التدارك يقال جاءني زيد بل عمرو ولهذا قال زفر رحمه الله فيمن قال لفلان علي ألف درهم بل ألفان إنه يلزمه ثلاثة آلاف لأنه أثبت الثاني وأبطل الأول لكنه غير مالك إبطال الأول فلزماه كما لو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين إنها
ـــــــ
قوله "وأما بل" اعلم أن كلمة بل موضوعة للإضراب عن الأول منفيا كان أو موجبا والإثبات للثاني على سبيل التدارك للغلط فإذا قلت جاءني زيد بل عمرو كنت قاصدا للإخبار بمجيء زيد ثم تبين لك أنك غلطت في ذلك فتضرب عنه إلى عمرو فتقول بل عمرو وإذا قلت ما جاءني زيد بل عمرو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير ما جاءني زيد بل ما جاءني عمرو فكأنك قصدت أن تثبت نفي المجيء لزيد ثم استدركت فأثبته لعمرو والثاني أن يكون المعنى ما جاءني زيد بل جاءني عمرو فيكون نفي المجيء ثابتا لزيد ويكون إثباته لعمرو ويكون الاستدراك في الفعل وحده دون الفعل وحرف النفي معا كذا قاله الإمام عبد القاهر وقد يدخل عليه كلمة "لا" تأكيدا للنفي الذي تضمنته هذه الكلمة. وإنما يصح الإضراب عن الكلام بهذه الكلمة إذا كان الصدر محتملا للرد والرجوع فإن كان لا يحتمل ذلك صار بمنزلة العطف المحض فيعمل في إثبات الثاني مضموما إلى الأول على سبيل الجمع دون الترتيب ألا ترى أن من قال لامرأته بعد الدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثنتين تطلق ثلاثا لأنه لا يملك الرجوع عما أوقع وبمثله لو قال لرجل طلق امرأتي فلانة لا بل فلانة يملك أن يطلق الثانية دون الأولى لأن الرجوع عن التوكيل منه صحيح كذا في شرح الجامع لشمس الأئمة
قوله "ولهذا" أي ولكونه إعراضا عما قبله وإثباتا لما بعده قال زفر رحمه الله إذا قال لفلان علي ألف درهم بل ألفان يلزمه ثلاثة آلاف وهو القياس لأن كلمة بل لاستدراك

(2/201)


تطلق ثلاثا وقلنا نحن إنما وضعت هذه الكلمة للتدارك وذلك في العادات بأن ينفى انفراده ويراد بالجملة الثانية كمالها بالأولى وهذا في الإخبار ممكن كرجل يقول سني ستون بل سبعون زيادة عشر على الأول فأما الإنشاء فلا يحتمل تدارك الغلط وقع ثلاث تطليقات حتى إذا قال كنت طلقت أمس امرأتي واحدة بل ثنتين أو لا بل ثنتين وقعت ثنتان لما قلنا ولهذا قلنا فيمن قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين أو بل ثنتين ولم يدخل بها إنها تطلق واحدة لأنه قصد إثبات الثاني مقام الأول ولم يملك لأنها بانت ولهذا قالوا جميعا فيمن قال لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا
ـــــــ
الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه ورجوعه عن الإقرار بالألف باطل وإقراره بالألفين على وجه الإقامة مقام الأول صحيح فيلزمه المالان كما لو قال علي ألف درهم بل ألف دينار أو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل ثنتين وقلنا يلزمه ألفان لا غير وهو الاستحسان لأن هذه الكلمة وضعت لتدارك الغلط إلا أن المراد منه في مثل هذا الكلام في العادة تداركه بنفي انفراد ما أقر به أولا لا بنفي أصله ألا ترى أن أصله داخل في الكلام الثاني فلو صح التدارك بنفي أصله لاجتمع النفي والإثبات في شيء واحد وذلك باطل فعلم أن تدارك الغلط في هذا الكلام بإثبات الزيادة التي نفاها في الكلام الأول تقديرا فكأنه قال علي ألف ليس معه غيره ثم استدرك النفي بقوله بل ألفان أي غلطت في نفي الغير عنه بل مع ذلك الألف آخر كما يقال حججت حجة لا بل حجتين كان استدراكا لنفي الانفراد عنها وإخبارا لحجتين لا غير وكما يقال جاءني رجل بل رجلان كان استدراكا لانفراده لا لأصل مجيئه. وهذا بخلاف ما إذا اختلف جنس المال لأن عند اختلاف الجنس لا يمكن أن يجعل كأنه أعاد القدر الأول وزاد عليه لأن ما أقر به أولا غير موجود في الكلام الثاني بخلاف ما إذا اتفق الجنس ألا ترى أنه لا يقال حججت حجة لا بل عمرتين وبخلاف الطلاق أيضا لأنه إنشاء أي إخراج من العدم إلى الوجود وبعدما ثبت وجود شيء لا يمكن تداركه بأن يجعل غير موجود في تلك الحالة فلا يصح استدراكه حتى لو أخرج الكلام مخرج الإخبار كان إقرارا بالثنتين استحسانا خلافا له أيضا لما قلنا إن الغلط في الإخبار قد يتمكن وعلى هذا لو قال علي ألفان بل ألف أو علي ألف دينار لا بل زيوف يلزمه أزيد المالين وأفضلهما وهما الألفان والجياد في الاستحسان لأنه قصد استدراك الغلط بالرجوع عن بعض ما أقر به أولا أو وصفه فلم يعمل وفي القياس يلزمه المالان كذا في "المبسوط"
قوله "ولهذا" أي ولكونه للإعراض عما قبله وإقامة الثاني مقامه قلنا إذا قال لغير

(2/202)


بل ثنتين أو بل اثنتين إنها إذا دخلت طلقت ثلاثا لأن هذا لما كان لإبطال الأول وإقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط إبطال الأول وليس في وسعه إبطال الأول ولكن في وسعه إفراد الثاني بالشرط ليتصل به بغير واسطة كأنه قال لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت الدار فيصير كالحلف باليمينين. وهذا بخلاف العطف بالواو عند أبي حنيفة رحمه الله لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وثنتين ولم يدخل بها إنها تبين بالواحدة لأن الواو للعطف على تقدير الأول فيصير معطوفا على سبيل المشاركة فيصير
ـــــــ
المدخول بها أنت طالق واحدة بل ثنتين إنها تطلق واحدة لأنه قصد الرجوع عن الأول بإثبات الثاني مقامه ولم يقدر على الرجوع لأنه لازم ولا على إقامة الثاني مقامه وإيقاعه لأنها لم تبق محلا بوقوع الأول فلغا آخر كلامه
قوله "ولهذا" أي ولما ذكرنا قالوا جميعا إلى آخره. قال أبو اليسر إنما يقع ثلاث تطليقات عند الشرط لأنه لما قال إن دخلت الدار فأنت طالق فقد تعلق الطلاق بالشرط فإذا قال لا بل تطليقتين فقد قصد الرجوع وإقامة التطليقتين مقامه فلا يصح الرجوع لأنه تعلق بالشرط على سبيل اللزوم وتعليق الثنتين بالشرط يصح لأنه في وسعه وقد أتى به لأن اللفظ ينبئ عنه فيجعل كأن الشرط ثبت هنا مذكورا إلا أنه حذف اختصارا فيصير كأنه قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثنتين فدخلت مرة واحدة تقع الثلاث وهذا بخلاف قوله لامرأته قبل الدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق حيث يقع واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الواو ما وضعت للاستدراك ولكنها للعطف فالأول تعلق بالشرط بلا واسطة والثاني تعلق بذلك الشرط بواسطة فإذا وجد الشرط نزل على الوجه الذي تعلق وهذا لأن المعطوف عليه إنما يجعل مكررا إما لضرورة أو لأن اللفظ دال عليه لغة أما الضرورة فمثاله قوله جاءني زيد وعمرو. ثبت مجيء كل واحد منفردا ضرورة أنه لا يتصور مجيئهما بمجيء واحد وأما ما دل عليه اللفظ لغة فحرف "بل" فإنه دل على وجود الشرط لغة على ما بينا. قال الشيخ رحمه الله في بعض تصانيفه وإنما قلنا ذلك أي إنه يجعل بمنزلة يمينين لأنه لو لم يجعل الشرط مدرجا صار معطوفا وهو يقتضي المعطوف عليه لأنه بدونه لا يتصور فيثبت الواسطة ح بين الجملتين ولم يكن هذا موجب هذه الكلمة بل موجبها ما ذكرنا فصار كأنه أعاد الشرط وهذا تعليل محمد رحمه الله لأنه قال فصار بمنزلة قوله "لا بل ثنتين" إن دخلت
قوله "ويتصل بهذا" أي بباب العطف أن العطف متى تعارض له شبهان أي جهتان

(2/203)


متصلا بذلك الشرط بواسطة ولا يصير منفردا بشرطه لأن حقيقة الشركة في اتحاد الشرط فيصير الثاني متصلا به بواسطة الأول فقد جاء الترتيب ويتصل بهذا أن العطف متى تعارض لها شبهان اعتبر أقواهما لغة فإن استويا اعتبر أقربهما مثاله ما قال في الجامع أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه لامرأة أخرى أنه جعل عطفا على الجزاء دون الشرط لأنا لو عطفناه على الشرط كان قبيحا لأنه ضمير مرفوع متصل غير مؤكد بالضمير المرفوع المنفصل وهو التاء في قوله دخلت وذلك قبيح قال الله تعالى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} "البقرة: 35"
ـــــــ
اعتبر أقواهما لغة وإن بعد ذلك الشبه لأن القرب لا يقابل القوة فيعتبر القوة أولا ثم القرب ثانيا نحو الكناية تنصرف إلى ما هو المقصود في الكلام أولا لأنه أقوى كقولك رأيت ابن زيد وكلمته ينصرف الكناية إلى الابن دون زيد ثم إلى المكني الأقرب ثانيا وكما في العصبات يعتبر قوة القرابة أولا ثم القرب ثانيا مثاله رجل له امرأتان فقال لأحديهما أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه مشيرا إلى المرأة الأخرى لا إلى دار أخرى أنه أي قوله لا بل هذه يجعل عطفا على الجزاء دون الشرط حتى لو دخلت الأولى الدار طلقتا جميعا ولو دخلت الأخرى لم تطلق واحدة منهما
ولهذا الكلام وجوه ثلاثة: أحدها أن يجعل معطوفا على الجزاء وتقديره لا بل هذه إن دخلت الدار فأنت طالق
والثاني: أن يجعل معطوفا على الشرط وتقديره لا بل هذه إن دخلت الدار فأنت طالق
والثالث: أن يجعل معطوفا على المجموع وتقديره لا بل هذه طالق إن دخلت الدار فيكون طلاقها معلقا بدخولها والكلام لا يحمل على هذا الوجه بحال ويحمل على الوجه الثاني عند وجود النية فإذا عدمت حمل على الوجه الأول استدلالا بغرض المتكلم وصيغة الكلام. أما الاستدلال بالغرض فهو أن كلمة بل تستعمل للتدارك والظاهر أن يقصد الإنسان تدارك أعظم الأمرين والغلط في الجزاء أهم وأعظم من الغلط في الشرط لأنه هو المقصود في مثل هذا الكلام فوجب العمل به للرجحان فيما يرجع إلى قصد المتكلم وأما الاستدلال بصيغة الكلام فهو أن العطف على الضمير المرفوع المتصل بارزا كان أو مستترا من غير أن يؤكد بضمير مرفوع منفصل قبيح وإن كان جائزا تقول العرب فعلت أنا وزيد وقلما تقول فعلت وزيد بل هو شيء لا يكاد يوجد إلا في ضرورة الشعر قال الله تعالى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ} "المؤمنون: 28" فلم يعطف على الضمير حتى أكده بالمنفصل

(2/204)


و"الأعراف: 19"فأكده وذلك أن الفاعل مع الفعل كشيء واحد وإذا كان ضميره لا يقوم بنفسه تأكد الشبه بالعدم فقبح العطف بخلاف ضمير المفعول لأنه منفصل في الأصل لأنه يتم الكلام بدونه على ما ذكرنا نظيره أنت طالق إن ضربتك لا بل هذه ينصرف إلى الثانية فإذا عطفناه على الجزاء كان معطوفا على ضمير مرفوع منفصل وذلك أحسن فلذلك قدمناه
ـــــــ
وإنما وجب ذلك لأن من شرط العطف المجانسة بين المعطوف والمعطوف عليه ليفيد العطف فائدته وهو التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في المعنى ولهذا لا يعطف الاسم على الفعل ولا على العكس ثم الضمير المرفوع المتصل بمنزلة الجزء من الكلمة ألا ترى أن إعراب الفعل يقع بعد هذا الضمير في نحو يضربان ويضربون إذ النون فيهما بدل عن الرفع في يضرب. وألا ترى أنهم أسكنوا لام الفعل مع هذا الضمير فقالوا ضربت وضربنا احترازا عن توالي الحركات وإنما يحترز عنه في كلمة واحدة لا في كلمتين فعرفنا أنه بمنزلة حرف من حروف الفعل فإذا كان كذلك كان العطف عليه عطفا على الفعل في الظاهر فوجب تأكيده بالمنفصل ليكون عطفا للاسم على الاسم ولأن الفعل والفاعل بمنزلة شيء واحد لافتقار كل منهما إلى الآخر إذ الفعل لا يتصور بدون الفاعل ومن قام به الفعل لا يتصف بالفاعلية بدون الفعل فكان له في ذاته شبه بالعدم نظرا إلى افتقاره إلى الفعل إلا أنه إذا كان قائما بنفسه بأن كان مظهرا منفصلا لا يعبأ بهذا الشبه اعتبارا للحقيقة فإذا كان غير قائم بنفسه بأن كان ضميرا مستكنا أو بارزا متصلا تأكد الشبه بالعدم والعطف على المعدوم حقيقة باطل فعلى ما تأكد شبهه بالعدم كان قبيحا فوجب التأكيد بالمنفصل ليحصل العطف على الموجود من كل وجه وهذا بخلاف العطف على الضمير المنصوب المتصل حيث جاز من غير مؤكد كقولك ضربته وزيدا لأنه متصل لفظا لا تقديرا لأن المفعول فضلة في الكلام فكان منفصلا في التقدير ولذلك لا يغير له الكلمة فإنك تقول ضربك وضربنا فيكون الباء على حالها فلذلك جاز العطف عليه فأما ما نحن في بيانه فمتصل لفظا وتقديرا لما بينا أن الفاعل كالجزء من الفعل فلذلك لم يحسن العطف عليه إذا ثبت هذا فنقول إذا عطفنا قوله لا بل هذه على الشرط صار عطفا على التاء في قوله إن دخلت وهو ضمير مرفوع متصل غير مؤكد بالمنفصل ولو عطفناه على الجزاء صار عطفا على قوله فأنت وهو ضمير مرفوع منفصل فكان هذا أولى.
فإن قيل قد جعل الفاصل قائما مقام المؤكد في جواز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير قبيح كما في قوله تعالى {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ} "المسد: 3"

(2/205)


وأما إذا استويا فمثاله ما ذكرنا في الإقرار أن لفلان علي ألف درهم إلا
ـــــــ
فقوله امرأته معطوف على الضمير في سيصلى على قراءة من قرأ "حمالة" بالنصب وجاز ذلك للفاصل وهو قوله {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} وكذا ولا آباؤنا في قوله عز اسمه {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} "الأنعام: 148" معطوف على الضمير في أشركنا للفاصل وهو كلمة لا وكذا وآباؤنا في قوله تعالى إخبارا {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} "النمل: 67" معطوف على الضمير في كنا باعتبار الفاصل وهو ترابا إلى غيرها من النظائر وههنا قد وجد الفاصل وهو لفظة الدار وكلمة لا فيقتضي جواز العطف على التاء في دخلت من غير قبح كما جاز على أنت واستواء الشبهين في صحة العطف وإذا استويا ترجح العطف على الشرط بالقرب كما في قوله أنت طالق إن ضربتك لا بل هذه كان معطوفا على الضمير المنصوب في ضربتك لا على قوله أنت طالق حتى كان طلاق الأولى معلقا بضرب كل واحدة منهما ولا تطلق الثانية بحال لاستواء الجهتين وترجح الأخيرة بالقرب قلنا إنما جعل الفاصل قائما مقام المؤكد في جواز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير قبح إذا لم يوجد في الكلام معطوف عليه آخر أقوى منه فأما إذا وجد ذلك فالعطف عليه أولى من العطف على الضمير المتصل وفي مسألتنا قد وجد الأقوى وهو قوله أنت لعدم احتياجه في صحة العطف عليه إلى مؤكد ولا فاصل فكان أولى مما يحتاج إلى ذلك إلا إذا تعذر العطف على الأقوى فحينئذ يصار إلى ما دونه في الدرجة كما في قوله أنت طالق إن دخلت الدار لا بل فلان فيتعين العطف على الشرط وإن كان ضميرا مرفوعا متصلا لتعذر العطف على الجزاء لاستحالة كونه محلا للطلاق. وقد جاء العطف على الضمير المستكن من غير فصل في قوله:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا
فمع الفصل أولى
ثم إنه إن نوى الوجه الثاني وهو العطف على الشرط صح لأنه نوى ما يحتمله كلامه فإن دخلت الثانية أو الأولى الدار طلقت الأولى واحدة ولو دخلتا فكذلك أيضا وذلك في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى وإن دخلت الأولى طلقت الأخيرة أيضا في الحكم لأنه لا يصدق في صرف الطلاق عن الثانية بدخول الأولى لأن ذلك ثابت بظاهر العطف فلا يصدق في إبطاله وإنما صدقناه فيما فيه تغليظ عليه دون التخفيف وإن نوى الوجه الثالث لم يصح لأن قضية العطف بهذه الكلمة القيام مقام الأول في الذي تم به الكلام الأول فإذا تعذر إبطال الأول وجب الشركة في ذلك بعينه فلو أفردناه بالشرط والجزاء لبطلت الشركة وذلك مما ينافيه العطف الناقص كذا ذكره الشيخ في شرح الجامع

(2/206)


عشرة دراهم ودينارا أن الدينار صار داخلا في الاستثناء وصار مشروطا مع العشرة لا مع الألف لما ذكرنا أن عطفه على كل واحدة منهما صحيح فصار ما جاوره أولى.
ـــــــ
وذكر شمس الأئمة في العطف الناقص إنما يجعل ما تقدم كالمعاد ضرورة الحاجة إلى تصحيح آخر كلامه فإن قوله لا بل هذه غير مفهوم المعنى وهذه الضرورة تندفع بصرفها إلى الطلاق أو إلى الشرط فلا يصار إلى غيره من غير ضرورة.
قوله "وأما إذا استويا" أي استوى الشبهان في صحة العطف وحسنه فمثاله ما لو قال إن لفلان علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينارا كان الدينار معطوفا على العشرة لا على الألف حتى صارت قيمته مستثناة مثل العشرة فيلزمه تسعمائة وثمانون لو قدرنا قيمة الدينار عشرة أو سبعون لو قدرناها عشرين ولو جعلناه معطوفا على الألف لزمه تسعمائة وتسعون درهما ودينار وذلك لأنه تعارض في عطف الدينار شبهان إذ يحسن عطفه على المستثنى منه وهو الألف كما لو قال علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينار ويحسن عطفه أيضا على المستثنى وهو عشرة لأن استثناء الدينار من الدراهم الألف صحيح استحسانا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله كاستثناء العشرة منها ألا ترى أنه لو قال علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينارا كان معطوفا على العشرة لا غير وإذا صح العطف عليهما ترجح العطف على العشرة بالقرب والجوار وبأن فيه العمل بالأصل وهو براءة الذمة فيصير قيمته مستثناة مع العشرة من الألف.
قال العبد الضعيف أصلحه الله تعالى ويجب على أصل محمد وزفر رحمهما الله أن يكون الدينار معطوفا على الألف لأنا إن جعلناه معطوفا على العشرة يصير الدينار مستثنى من الدراهم وذلك غير جائز عندهما وهو القياس ولما بطل إحدى الجهتين تعينت الأخرى للعطف. فإن قيل إذا جعلناه معطوفا على المستثنى منه يصير الدراهم العشرة مستثناة من الألف ومن الدينار وذلك عندهما غير جائز أيضا ولما لم يصح العطف على الألف وعلى العشرة عندهما يجب أن يبطل كما لو قال لفلان علي ألف درهم إلا عشرة وثوبا قلنا لا نسلم عدم صحة عطفه على الألف عندهما بناء على ما ذكرتم فإن محمدا رحمه الله ذكر في الأصل إذا قال له علي ألف درهم ومائة دينار إلا درهم صح الاستثناء وينصرف إلى الدراهم لأنا إن جعلناه استثناء من الدنانير نظرا إلى القرب صح باعتبار المعنى دون الصورة وإن جعلناه استثناء من الدراهم صح باعتبار الصورة والمعنى فكان جعله من الدراهم أولى ثم قال إذا كان ذلك لإنسان واحد جعلنا الاستثناء من نوعه فعرفنا أن في مثل هذا ينصرف الاستثناء إلى الجنس فصح العطف على الألف.

(2/207)


"لكن"
وأما لكن فقد وضع للاستدراك بعد النفي تقول ما جاءني زيد لكن عمرو فصار الثابت به إثبات ما بعده فأما نفي الأول فيثبت بدليله بخلاف كلمة
ـــــــ
"لكن"
قوله: "وأما لكن" اعلم أن لكن يستدرك به ما يقدر في الجملة التي قبلها من التوهم نحو قولك ما رأيت زيدا لكن عمرا فلمتوهم أن يتوهم أن عمرا غير مرئي أيضا فأماطت كلمة لكن هذا التوهم والفرق بينه وبين بل من وجهين
أحدهما: أن لكن أخص من بل في الاستدراك لأنك تستدرك بل بعد الإيجاب كقولك ضربت زيدا بل عمرا وبعد النفي كقولك ما جاءني زيد بل عمرو ولا تستدرك بلكن إلا بعد النفي لا تقول ضربت زيدا لكن عمرا وإنما تقول ما ضربت زيدا لكن عمرا وهو معنى قوله وضع للاستدراك بعد النفي وهذا في عطف المفرد على المفرد فإن كان في الكلام جملتان مختلفتان جاز الاستدراك بلكن في الإيجاب أيضا كقولك جاءني زيد لكن عمرو لم يأت فقولك عمرو لم يأت جملة منفية وما قبل لكن جملة موجبة فقد حصل الاختلاف وعمرو في قولك لكن عمرو لم يأت, مرفوع بالابتداء ولم يأت خبره وكذا قولك ضربت زيدا لكن لم أضرب عمرا فعمرا منصوب بلم أضرب وليس لحرف العطف فيه حظ كما يكون في قولك ما ضربت زيدا لكن عمرا كذا ذكره الإمام عبد القاهر
فتبين بهذا أن قوله للاستدراك بعد النفي مختص بعطف المفرد على المفرد دون عطف الجملة على الجملة. والثاني: أن موجب الاستدراك بهذه الكلمة إثبات ما بعده فأما نفي الأول فليس من أحكامها بل يثبت ذلك بدليله وهو النفي الموجود فيه صريحا بخلاف كلمة بل فإن موجبها وضعا نفي الأول وإثبات الثاني يوضحه أن في قولك ما جاءني زيد لكن عمرو انتفى مجيء زيد بصريح هذا الكلام لا بكلمة لكن فإنه لو سكت عن قوله لكن عمرو كان الانتفاء ثابتا أيضا وفي قولك جاءني زيد بل عمرو انتفى مجيء زيد بكلمة بل لا بصريح الكلام فإنه لو سكت عن قوله بل عمرو لا يثبت الانتفاء بل يثبت ضده وهو الثبوت فهذا هو الفرق بينهما

(2/208)


بل غير أن العطف إنما يستقيم عند اتساق الكلام فإذا اتسق الكلام تعلق النفي بالإثبات الذي وصل به وإلا فهو مستأنف مثاله ما قال علماؤنا في الجامع في رجل في يده عبد فأقر أنه لفلان فقال فلان ما كان لي قط لكنه لفلان آخر فإن وصل الكلام فهو للمقر له الثاني وإن فصل يرد على المقر لأنه نفى عن نفسه فاحتمل أن يكون نفيا عن نفسه أصلا فيرجع إلى الأول ويحتمل أن يكون نفيا
ـــــــ
قوله "غير أن العطف" استثناء منقطع بمعنى لكن من قوله وضع للاستدراك بعد النفي وتقديره لكن للعطف بطريق الاستدراك بعد النفي إلا أن العطف بهذا الطريق إنما يستقيم عند اتساق الكلام والمراد من اتساق الكلام, انتظامه وذلك بطريقين أحدهما أن يكون الكلام متصلا بعضه ببعض غير منفصل ليتحقق العطف والثاني أن يكون محل الإثبات غير محل النفي ليمكن الجمع بينهما ولا يناقض آخر الكلام أوله كما في قولك ما جاءني زيد لكن عمرو فإذا فات أحد المعنيين لا يثبت الاتساق فلا يصح الاستدراك فيكون كلاما مستأنفا
مثال فوات المعنى الأول رجل في يده عبد فأقر به لإنسان فقال المقر له ما كان لي قط لكنه لفلان آخر فإن وصل الكلام فهو للمقر له الثاني وهو فلان وإن فصل يدرد على المقر الأول لأن هذا الكلام وهو قوله ما كان لي قط تصريح بنفي ملكه عن العبد فيحتمل أن يكون نفيا عن نفسه أصلا من غير تحويل إلى آخر فيكون هذا ردا للإقرار وهو الظاهر لأنه خرج جوابا له والمقر له متفرد برد الإقرار فيرتد برده ويرجع العبد إلى المقر الأول ويحتمل أن يكون نفيا عن نفسه إلى المقر له الثاني فيكون تحويلا لا ردا للإقرار ويصير قابلا له مقرا به لغيره.
"فإذا وصل" أي قوله لكنه لفلان "به" أي بقوله ما كان لي قط كان وصله به بيانا أنه نفاه أي الملك عن نفسه إلى الثاني لا أنه نفاه مطلقا وصار كالمجاز بمنزلة قوله لفلان علي ألف درهم وديعة فيصير قوله علي مجازا للحفظ إذا وصله بالكلام فكذلك ههنا "وإذا فصل" في قوله لكنه لفلان عن النفي "كان هذا نفيا مطلقا" أي نفيا عن نفسه أصلا لا نفيا إلى أحد فكان ردا للإقرار وتكذيبا للمقر حملا للكلام على الظاهر وكان قوله لكنه لفلان بعد ذلك شهادة بالملك للمقر له الثاني على المقر الأول وبشهادة الفرد لا يثبت الملك فيبقى العبد ملكا للمقر الأول ومثال آخر رجل ادعى دارا في يد رجل أنها داره والذي هي في يده يجحد ذلك فأقام المدعي بينة أنها داره فقضى القاضي بها له ثم أقر المقضي له أنها دار فلان ولم يكن لي قط أو قال ما كانت لي قط لكنها لفلان بكلام

(2/209)


إلى غير الأول فإذا وصل كان بيانا أنه نفاه إلى الثاني وإذا فصل كان مطلقا فصار تكذيبا للمقر وقالوا في المقضي له بدار بالبينة إذا قال ما كانت لي قط لكنها لفلان وقال فلان إنه باعني بعد القضاء أو وهبني أن الدار للمقر له وعلى
ـــــــ
متصل فإن صدقه المقر له في الجميع ترد الدار على المقضي عليه ولا شيء للمقر له لأنهما تصادقا أن الدعوى والبينة والحكم كل ذلك كان باطلا فوجب رد الدار على المقضي عليه
بخلاف المسألة الأولى لأن المقر الأول. والثاني والمقر له الآخر اتفقوا على أن العبد ليس للأول لأن الثاني صدق المقر الأول في النفي وإن كذبه في الجهة والثالث صدق المقر الثاني على هذا الوجه فقد حصل الاتفاق على أن لا حق للأول في العبد فلم يستقم رده عليه مع اتفاقهم على خلافه فيرد إلى الثالث لأنه لا منازع له فيه فأما المقضي عليه في هذه المسألة فيدعيها ولم يزعم قط أنها ليست له ولكن استحقت عليه بالقضاء فإذا بطل القضاء بقول المقضي له إنها ما كانت لي قط لكن المقضي عليه من أخذها بزعمه فلهذا ترد عليه
وإن كان المقر له صدقه في الإقرار وكذبه في النفي عن نفسه بأن قال كانت الدار ملكا للمقر إلا أنه وهبها لي بعد القضاء وسلمها إلي أو باعها مني فهي للمقر له ويضمن قيمتها للمقضي عليه وهذا لا يشكل إذا بدأ بالإقرار ثم بالنفي لأن إقراره صح ظاهرا وثبت الاستحقاق للمقر له بتصديقه إياه في قوله هي لفلان فإذا قال بعده ما كانت لي قط فقط أراد إبطال إقراره والرجوع عنه وكذبه المقر في ذلك فلم يبطل في حقه وأما إذا بدأ بالنفي بأن قال ما كانت لي قط لكنها لفلان بكلام موصول فكذلك عندنا وعن زفر رحمه الله أن الدار ترد على المقضي عليه لأن قوله ما كانت لي قط كاف في نقض القضاء لو اقتصر عليه. وقوله: ولكنها لفلان كلام مبتدأ مقطوع عما قبله لأنه ليس ببيان مغير ليتوقف أول الكلام عليه ويصيرا كشيء واحد فيكون إقرارا بالملك للغير بعدما انتفى ملكه وعاد إلى المقضي عليه فلا يصح هذا الإقرار وإن صدقه المقر له كما لو فصل الإقرار عن النفي ولكنا نقول إن آخر كلامه مناف لأوله لأن آخره إثبات وأوله نفي والإثبات متى ذكر معطوفا على النفي متصلا به لا يقع عنه ولا يحكم لأول الكلام بشيء قبل آخره ألا ترى أن كلمة الشهادة تكون إقرارا بالتوحيد باعتبار آخره ولا فرق فإن ذلك كلام يشتمل على النفي والإثبات كما أن هذا كلام يشتمل على النفي والإثبات فيعتبر الحاصل وهو إثبات الملك للمقر له عند اتصال آخره بأوله كما في كلمة الشهادة ويكون قوله ما كانت لي

(2/210)


المقضي له القيمة للمقضي عليه لأنه نفاها عن نفسه إلى الثاني أيضا حيث وصل به البيان إلا أنه بالإسناد صار شاهدا على المقر له فلم تصح شهادته على ما بينا في شرح الجامع وقال في نكاح الجامع في أمة تزوجت بغير إذن موليها
ـــــــ
قط باتصال الإثبات به نفيا للملك عن نفسه بإثباته للثاني وذلك محتمل بأن يملكه بعد القضاء فيحمل عليه في حق المقر له ولهذا قالوا إنما يصح هذا الإقرار إذا غابا عن مجلس القاضي حتى يمكن للقاضي تصديق المقر له فأما إذا قال ذلك في مجلس القضاء فقد علم القاضي بكذبه لأنه علم أنه لم يجر بينهما هبة وقبض ولا بيع والكذب لا حكم له فلا يصح إقراره في هذه الصورة ولأن اتصال النفي عن نفسه بالإثبات لغيره إنما يكون لتأكيد الإثبات عرفا وما ذكر تأكيدا للشيء كان حكمه حكم ذلك الشيء ولا يكون له حكم نفسه فصار من حيث المعنى كأنه قال هذا الدار لفلان وسكت ولأن النفي لما كان لتأكيد الإقرار كان مؤخرا عن الإقرار معنى لأن التأكيد أبدا يكون بعد المؤكد. ولأن المقر قصد تصحيح إقراره ولا يصح في هذه الصورة إلا بجعل الإقرار مقدما والكلام يحتمل التقديم والتأخير دون الإلغاء فوجب القول به بشرط أن يكون موصولا
قوله "إلا أنه" أي لكنه بالإسناد أي بإسناد نفي الملك إلى ما قبل القضاء فإن قوله ما كانت لي قط يتناول الأزمنة السابقة على القضاء صار شاهدا على المقر له لأن حق المقر له قد تعلق بالعين بقوله لكنها لفلان وهو بالإسناد يبطل هذا الحق لأن قوله ما كانت لي قط يتضمن بطلان القضاء وفي بطلانه بطلان حق المقر له لأنه ثبت بناء على صحة الإقرار الذي هو مبني على صحة القضاء فصار شاهدا عليه من هذا الوجه فلم يصح شهادته عند تكذيب المقر له لأنه رجوع عما أقر به للغير
ويتضح هذا بفصل تقديم الإقرار على النفي بأن قال هي لفلان ولم يكن لي قط فإن النفي فيه شهادة على المقر له وبطلان حقه الثابت بالإقرار السابق فكذلك في فصل تأخير الإقرار لأن الكلام باتصال النفي بالإثبات صار كشيء واحد فصار تقدم الإقرار وتأخره سواء ثم إنه وإن لم يصدق في حق المقر له فهو مصدق في حق نفسه وظاهر كلامه إقرار ببطلان القضاء وهو حقه فصار به مقرا بالدار للمقضي عليه فيضمن له قيمتها.
قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله في شرح الجامع وهذا على قول من يرى ضمان العقار بالغصب فيضمن بالقصر أيضا فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا وذكر في شرح الجامع للفقيه أبي الليث رحمه الله أن هذا قولهم جميعا لأن العقار يضمن بالقول مثل سوم البيع الفاسد والرجوع عن الشهادة فكذا ههنا وذكر شمس الإسلام الأوزجندي

(2/211)


بمائة درهم فقال المولى لا أجيز النكاح ولكن أجيزه بمائة وخمسين أو إن زدتني خمسين أن هذا فسخ للنكاح وجعل لكن مبتدأ لأن الكلام غير متسق لأنه نفي فعل وإثباته بعينه فلم يصلح للتدارك وفي قول الرجل لك علي ألف درهم قرض فقال المقر له لا ولكنه غصب الكلام متسق فيصح الوصل لبيان أنه نفي السبب لا الواجب.
ـــــــ
أنه بالإقرار لغيره صار متلفا للدار والدار يضمن بالإتلاف عند الكل كما يضمن بالشهادة الباطلة
واعلم أن هذين المثالين أعني قول المقر له بالعبد ما كان لي قط لكنه لفلان وقول مدعي الدار ما كانت لي قط لكنها لفلان ليسا من نظائر هذا الباب في الحقيقة لأن لكن المشددة ليست من حروف العطف بل هي من الحروف الناصبة أو إنما العاطفة هي المخففة إلا أنهما لما اشتركتا في الاستدراك واستوتا في الحكم أورد الشيخ هذين المثالين في هذا الفصل ومثال فوات المعنى الثاني أمة تزوجت إلى آخره وهو ظاهر. قوله "وفي قول الرجل لك علي كذا" هذه المسألة تخالف المسألة التي قبلها في أن الاستدراك فيها صرف إلى الجملة حتى صح ولم يصرف إلى أصل الإقرار وفي تلك المسألة صرف إلى أصل النكاح ولم يصرف إلى الجهة وهي نفي المائة وإثبات المائة والخمسين كما في قوله لا أجيز النكاح إلا بزيادة خمسين وذلك لأنه في تلك المسألة قد صرح برد النكاح بقوله لا أجيز النكاح فلا يمكن صرفه إلى الجهة وفي مسألة الإقرار لم يصرح برد أصل الإقرار وهو الألف بل قال لا وأنه يصلح ردا للجهة وردا للأصل فإذا وصل به قوله ولكنه غصب علم أنه نفى السبب لا أصل المال وأنه قد صدقه في الإقرار بأصل المال ولا تفاوت في الحكم بين السببين والأسباب مطلوبة للأحكام فعند عدم التفاوت يتم تصديقه له فيما أقر به فيلزمه المال.
وهذا بخلاف ما إذا شهد أحد الشاهدين بأن الألف عليه بسبب الغصب وشهد الآخر بأن الألف عليه بسبب القرض حيث لا تقبل وإن اتفقا في الأصل لأن المدعي يصير مكذبا أحد الشاهدين في بعض ما شهد به وذلك مبطل للشهادة فأما تكذيب المقر له للمقر في بعض ما أقر فلا يوجب بطلان الإقرار فافترقا وقوله الكلام متسق أي كلام المقر له مع كلام المقر متوافقان لا متنافيان لأنهما توافقا في أصل الواجب وإن اختلفا في السبب.

(2/212)


"أو"
وأما أو فإنها تدخل بين اسمين أو فعلين فيتناول أحد المذكورين هذا موضوعها الذي وضعت له يقال جاءني زيد أو عمرو أي أحدهما ولم يوضع للشك وليس الشك بأمر مقصود يقصد بالكلام وضعا لكنها وضعت لما قلنا
ـــــــ
قوله "وأما أو" اعلم أن كلمة أو تدخل بين اسمين أو أكثر كقولك جاءني زيد أو عمرو أو بين فعلين أو أكثر كقوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} "التوبة: 80" وقوله عز اسمه {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} "النساء: 66"وكقولك كل السمك أو اشرب اللبن فيتناول أحد المذكورين هذا موجب هذه الكلمة باعتبار أصل الوضع لأنها في مواضع استعمالها لا تخلو عن هذا المعنى فعرفنا أنها وضعت له قال الله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "المائدة: 89" والواجب أحد الأشياء حتى لو كفر بالأنواع كلها كان مؤديا بأحد الأنواع لا بالجميع كما قاله البعض. وكذلك في قوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} "البقرة: 196" الواجب واحد منها وكذا الجائي في قولك جاءني زيد أو عمرو أحدهما لا كلاهما
قوله "ولم يوضع للشك" نفي لما ذكره القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في التقويم أن كلمة أو عند عامة الناس للتخيير في الإثبات وللنفي في النفي والصحيح عندنا أن كلمة أو كلمة تشكيك فإنك إذا قلت رأيت زيدا أو عمرا لا تكون مخبرا عن رؤيتهما جميعا ولكنك تكون مخبرا عن رؤية كل واحد منهما على سبيل الشك فإنك قد رأيت أحدهما ولكنك شككت في معرفة ذلك منهما حتى احتمل كل واحد منهما أن يكون هو المرئي وأن لا يكون إلا أنها إذا استعملت في الإيجابات والأوامر والنواهي لم توجب شكا لأن الشك إنما يتحقق عند التباس العلم بشيء وذلك إنما يكون في الإخبارات فأما الإنشاءات فلا يتصور فيها شك ولا التباس لأنها لإثبات حكم ابتداء وما ذكره القاضي الإمام مذهب عامة النحاة.
وخالفه الشيخ وشمس الأئمة رحمهما الله في ذلك فقالا هذه الكلمة ليست للتشكيك لأن الشك ليس بمعنى يقصد بالكلام وضعا أي ليس بمقصود في المخاطبات

(2/213)


فإن استعملت في الخبر تناولت أحدهما غير معين فأفضى إلى الشك وإذا استعملت في الابتداء والإنشاء تناولت أحدهما من غير شك تقول رأيت زيدا أو عمرا فيكون للتخيير لأن الابتداء لا يحتمل الشك فعلمت أن الشك جاء من
ـــــــ
بحيث يوضع كلمة توجب تشكيك السامع في معنى الكلام وليس معناه أن الشك ليس بمعنى يوضع له لفظ لأن لفظ الشك قد وضع لمعناه بل المعنى ما ذكرنا. وذلك لأن موضوع الكلام إفهام السامع لا تشكيكه فلا يكون الشك من مقاصده فلا يكون هذه الكلمة موضوعة لذلك بل هي موضوعة لأحد المذكورين غير عين كما قلنا إلا أنها في الإخبارات يفضي إلى الشك باعتبار محل الكلام لأنه أخبر عن مجيء أحدهما في قوله جاءني زيد أو عمرو ومعلوم أن فعل المجيء وجد من أحدهما عينا لا نكرة إذ لا تصور لصدور الفعل من غير العين وبإضافة الفعل إلى أحدهما غير عين لا ينتقل الفعل من العين إلى النكرة بل يبقى مضافا إلى العين كما وجد وإنما جهله السامع فوقع الشك في الذي وجد منه فعل المجيء فتبين أن التشكيك إنما يثبت حكما واتفاقا بكون الكلام خبرا لا مقصودا بحرف أو كالهبة وضعت لإفادة ملك الرقبة للموهوب له ثم إذا أضيف إلى الدين يكون إسقاطا حكما واتفاقا لا مقصودا بالهبة ألا ترى أنها إذا استعملت في الإنشاء لا تؤدي معنى الشك أصلا مع أنها حقيقة فيه لا مجاز وقد عرفت أن الحقيقة لا تخلو عن موضوعه الأصلي فثبت أنها لم توضع للتشكيك وكذا التخيير يثبت بمحل الكلام أيضا لأنها إذا استعملت في الابتداء كقولك اضرب زيدا أو عمرا تناولت أحدهما غير عين والأمر للائتمار ولا يتصور الائتمار بإيقاع الفعل في غير العين فيثبت التخيير ضرورة التمكن من الائتمار ولهذا لو اختار أحدهما قولا لا يصح لأنه لا ضرورة في ذلك إنما هي في حق الفعل وكذا إذا استعملت في الإنشاء كقوله هذا حر أو هذا. ويؤيد قول الشيخين ما ذكر في المفصل أن "أو" و "أم" وأما ثلاثتها لتعليق الحكم بأحد المذكورين إلا أن "أو" و "أما" يقعان في الخبر والأمر والاستفهام و "أم" لا يقع إلا في الاستفهام إذا كانت متصلة إلى آخره وما ذكر أبو علي الفارسي1 في "الإيضاح" أن أو لأحد الشيئين أو الأشياء في الخبر وغيره تقول كل السمك أو اشرب اللبن أي افعل أحدهما ولا تجمع بينهما وما ذكر عبد القاهر في التلخيص أن "أو" لأحد الشيئين أو الأشياء بيان ذلك أنك تقول جاءني زيد أو عمرو فيكون المعنى على أنك أثبت المجيء لأحدهما لا بعينه فهذا أصله ثم إن كان الكلام
ـــــــ
1 هو أبو الحسن بن أحمد بن عبدالغفار الفارسي الفسوي.النحوي العالم بالعربيةوالقراءات توفي سنة 377ه.

(2/214)


قبل محل الكلاموعلى هذا قلنا في قول الرجل هذا حر أو هذا وهذه طالق أو هذه إنه بمنزلة قوله أحدكما وهذا الكلام إنشاء يحتمل الخبر فأوجب التخيير
ـــــــ
خبرا كانت أو للشك كما رأيت وإن كان أمرا كانت للتخيير كقولك اضرب زيدا أو عمرا فقد أمرته بأن يضرب أحدهما ثم خيرته في ذلك فأيهما ضرب كان مطيعا وما ذكر أيضا في المقتصد أن أو له ثلاثة أوجه.
أحدها الشك نحو قوله ضربت زيدا أو عمرا أردت أن تخبر بضربك زيدا فاعترضك شك صورت له أن تكون ضربت عمرا فأثبت بأو وعطفت عمرا على زيد فصار كلامك مفيدا أنك ضربت واحدا من زيد وعمرو بغير عينه.
والوجه الثاني التخيير كقولك اضرب زيدا أو عمرا فقد أمرته بضرب أحدهما بغير عينه ولم يجز أن تضربهما معا فليس في هذا شك وإنما هو تخيير ألا ترى أن الآمر إذا قال اضرب زيدا أو عمرا لم يكن هناك شيء موجود قد شك فيه كما يكون في الخبر
والوجه الثالث الإباحة نحو قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فهذا يشبه التخيير من وجه وهو أنه جالس أحدهما كان مطيعا ويفارقه من آخر وهو أنه إن جالسهما معا كان جائزا. ولو قلت اضرب زيدا أو عمرا فضربهما جميعا لم يجز قال ولما كان لأحد الشيئين أو الأشياء في جميع ما ذكرنا قالوا زيد أو عمرو قام ولم يقولوا قاما لأن المعنى أحدهما قام. فإن قيل أول هذا الكلام يؤيد المذهب الأول وكذا ما ذكرنا في المفصل ويقال في أو وأما في الخبر أنهما للشك وفي الأمر أنهما للتخيير والإباحة وما ذكر في المفتاح أن أو في الخبر للشك وفي الأمر للتخيير وهو الامتناع عن الجمع أو الإباحة وهي تجويز الجمع وفي الاستفهام لأحد ما يذكر لا على التعيين قلنا هذا منهم تسامح في العبارة وبيان لمواضع الاستعمال وتقسيم له بحسب العوارض والتحقيق ما ذكرناه
ورأيت في كتاب بيان حقائق الحروف أن معنى أو إثبات أحد الشيئين أو الأشياء مبهما مع إفراده عن غيره في المعنى بلا ترتيب لأنها في حروف العطف بمنزلة الواو وفي أنها لا ترتب إلا أن الواو للجمع وأو للإفراد وهي تجيء على ستة أوجه إبهام أحد الشيئين أو الأشياء والشك والتخيير والإباحة والتفصيل ومعنى الإفراد فقط, وبمعنى إلا أن. والأصل في الجميع هو الأول فقط لرجوعها في الجميع إليه إذا لم يكن في الكلام ما يوجب زيادة عليه
قوله "وعلى هذا" أي على أنها يتناول أحد المذكورين قلنا في قوله هذا حر أو هذا أو هذه طالق أو هذه إنه بمنزلة قوله أحدكما حر أو إحداكما طالق "وهذا الكلام"

(2/215)


على احتمال أنه بيان حتى جعل البيان إنشاء من وجه وإظهارا من وجه على ما ذكرنا في مسائل العتاق في الجامع والزيادات ولهذا قلنا فيمن قال وكلت فلانا
ـــــــ
أي قوله هذا حر أو هذا أو قوله أحدكما حر إنشاء يحتمل الخبر أي يصلح أن يكون خبرا لأنه في وضعه الأصلي خبر كقولك للرجلين أحدكما عالم إلا أن الإخبار يقتضي تقدم المخبر عنه على ما عليه وضعه فاقتضى الإخبار عن الحرية وجود الحرية سابقا عليه ليصح الإخبار عنها فإذا لم تكن الحرية ثابتة جعلنا هذا الكلام إنشاء كأنه قال أنشئ الحرية احترازا عن الإلغاء والكذب أو جعلنا الحرية ثابتة قبيل هذا الكلام بطريق الاقتضاء تصحيحا له لأن إثباتها في ولايته فصار إنشاء شرعا وعرفا إخبارا حقيقة ولهذا إذا جمع بين حر وعبد وقال أحدكما حر يجعل إخبارا حتى لا يعتق العبد لأنه أمكن العمل بموضوعه الأصلي وهو الإخبار. وإذا كان إنشاء يحتمل الخبر أوجب التخيير من حيث إنه إنشاء حتى كان له أن يختار العتق في أيهما شاء بأن يبين العتق في أحدهما كما كان للمأمور في قوله اضرب زيدا أو عمرا أن يختار الضرب في أيهما شاء ومن حيث إنه خبر يوجب البيان أي الإظهار لا التخيير كما لو أعتق أحدهما عينا ثم نسيه فأخبر أن أحدهما حر لا يكون له أن يبين العتق في أيهما شاء بل وجب عليه أن يبين العتق في الذي أوقعه فيه إذا تذكر.
ثم إنه إذا تبين العتق في أحدهما كان له حكم الإنشاء من حيث إن الإيجاب الأول إنشاء وهو غير نازل في العين لأنه ما أوجبه إلا في النكرة والنكرة ضد المعرفة لغة فلا يمكن إثباته في غير ما أوجبه كما إذا أوقعه في سالم لا يمكن إثباته في بزيع والعتق إنما يتحقق في العين بالبيان فكان له حكم الإنشاء من هذا الوجه ولهذا شرط له أهلية الإنشاء وصلاحية المحل للإنشاء حتى لو مات أحد العبدين فبين العتق في الميت لا يصح ومن حيث إن الإيجاب يحتمل الخبر يكون البيان إظهارا أي هذا هو الذي أخبرت بحريته أو من حيث إن الذي أوقع العتق فيه معرفة من وجه لأنه لا يعدوهما بيقين كان العتق واقعا فيه فكان البيان إظهارا ولهذا يجبر عليه ولو كان إنشاء من كل وجه لما أجبر عليه وإذا اجتمع فيه جهتا الإنشاء والإظهار عمل بهما في الأحكام فاعتبرت جهة الإنشاء في موضع التهمة وجهة الإظهار في غير موضع التهمة. فإذا طلق إحدى نسائه الأربع ولم يكن دخل بهن فتزوج خامسة أو أخت إحداهن ثم بين الطلاق في أخت المتزوجة جاز له نكاح الخامسة ونكاح الأخت فاعتبر البيان إظهارا لعدم التهمة إذ يمكن له إنشاء الطلاق في التي عينها وتزوج أختها في الحال ولو كان دخل بهن لا يجوز نكاح الخامسة والأخت فاعتبر إنشاء في حق العدة لمكان التهمة ألا ترى أنه لا يتمكن من ذلك بإنشاء الطلاق في الحال ولو قال لامرأتيه أحديكما طالق فماتت أحديهما قبل البيان تعينت الباقية للطلاق لزوال

(2/216)


أو فلانا ببيع هذا العبد إنه صحيح ويبيع أيهما شاء لأن أو في موضع الابتداء تخيير والتوكيل صحيح استحسانا وأيهما باعه صح وكذلك إذا قال وكلت به أحد هذين وكذلك إذا قال بع هذا أو هذا إنه صحيح ويبيع أيهما شاء لأن أو
ـــــــ
المزاحمة بخروج الميتة عن محلية الطلاق فإن قال عنيت الميتة حين تكلمت صدق في حق بطلان ميراثه عنها ولا يصدق في إبطال طلاق لأن الطلاق تعين فيها شرعا فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله ولو كانت تحته حرة وأمة قد دخل بهما فقال أحديكما طالق ثنتين ثم أعتقت الأمة ثم مرض الزوج وبين الطلاق في المعتقة فإنها تحرم حرمة غليظة ويصير الزوج فارا حتى ترث هي فاعتبر إظهارا في حق الحرمة لعدم التهمة وإنشاء في حق الإرث لمكان التهمة لأن حقها تعلق بماله في مرضه فهو بالبيان فيها يريد إبطال حقها. ولو قال لعبدين له قيمة أحدهما ألف وقيمة الآخر مائة أحدكما حر ثم مرض فبين العتق في كثير القيمة يصح ويعتبر من جميع المال فاعتبر جهة الإظهار لعدم التهمة لأن كل واحد من العبدين متردد بين أن يعتق وبين أن لا يعتق فكان بمنزلة المكاتب فلا يتعلق به حق الورثة بخلاف مسألة الفرار لتحقق التهمة هناك فاعتبر إنشاء وعلى هذا فقس المسائل في الزيادات
قوله "ولهذا" أي ولأن أو يتناول أحد المذكورين قلنا إذا قال وكلت هذا أو هذا ببيع هذا العبد صح التوكيل ولم يشترط اجتماعهما على البيع بخلاف ما لو قال وهذا وإذا باع أحدهما نفذ البيع ولم يكن للآخر بعد ذلك أن يبيعه وإن عاد إلى ملك موكله وقيل البيع يباح لكل واحد منهما أن يبيعه وفي القياس لا يجوز لجهالة من وكل ببيعه وجه الاستحسان أن هذه جهالة مستدركة فتحمل فيما هو مبني على التوسع
وكذلك إذا قال بع هذا أو هذا يصح التوكيل استحسانا أيضا ولم ينص محمد رحمه الله على القياس والاستحسان في هذه المسألة في الأصل كما نص في المسألة الأولى وفرق بعضهم فقالوا الجهالة فيما تناولته الوكالة بالبيع دون الجهالة فيمن هو وكيل بالبيع كما في الإقرار جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار وجهالة المقر له تمنع من ذلك, والأصح أن الفصلين قياسا واستحسانا. ووجه القياس أن التوكيل بالبيع معتبر بإيجاب البيع وإيجاب البيع في أحدهما بغير عينه لا يصح للجهالة فكذلك التوكيل ووجه الاستحسان أن مبنى الوكالة على التوسع لأنه لا يتعلق اللزوم بنفسها وهذه جهالة مستدركة لا يفضي إلى المنازعة فلا يمنع صحة التوكيل يوضحه أن الموكل قد يحتاج إلى هذا لأنه لا يدري أي العبدين يروج فيوكله ببيع أحدهما توسعة للأمر عليه وتحصيلا لمقصود نفسه في الثمن.

(2/217)


في موضع الابتداء للتخيير والتوكيل إنشاء والتخيير لا يمنع الامتثالوقلنا في البيع والإجارة إذا دخلت أو في المبيع أو في الثمن فسد العقد إلا أن يكون
ـــــــ
"قوله والتخيير لا يمنع الامتثال" جواب عما يقال إن الموكل إن ما أمره ببيع أحد الشيئين وهو مجهول فلا يمكنه الامتثال فينبغي أن لا يصح التوكيل فقال هذا الأمر يوجب التخيير وهو غير مانع عن الامتثال لأنه يمكنه الإتيان بأحدهما كما في قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} "المائدة: 89"
قوله "وقلنا" معطوف على قلنا الأول أي ولأن أو لأحد الشيئين قلنا كذا وقلنا أيضا إذا دخلت أو في المبيع بأن قال بعت منك هذا الثوب أو هذا بعشرة أو في الثمن بأن قال بعت منك هذا الثوب بعشرة أو بعشرين فقال قبلت أو في المستأجر بأن قال آجرت اليوم هذا العبد أو هذا بدرهم أو في الأجرة بأن قال آجرت هذا العبد اليوم بدرهم أو بدرهمين فسد العقد في الفصول الأربعة لأن كلمة أو أوجبت التخيير ومن له الخيار منهما غير معلوم فبقي المعقود عليه أو المعقود به مجهولا جهالة مؤدية إلى المنازعة وهي مفسدة للعقد إلا أن يكون من له الخيار معلوما في اثنين أو ثلاثة بأن قال بعت هذا أو هذا على أنك بالخيار تأخذ أيهما شئت فحينئذ يصح العقد استحسانا. وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يجوز وهو القياس لأن المبيع أحد الثوبين أو الأثواب وأنه مجهول متفاوت فيمنع صحة العقد كما إذا لم يكن من له الخيار معلوما وكما لو اشترى أحد الأثواب الأربعة على أن يأخذ أيها شاء وجه الاستحسان أن هذه الجهالة بعد تعين من له الخيار لا يفضي إلى المنازعة لأن من له الخيار يستبد بالتعيين فلا تمنع جواز العقد بهذا الاعتبار لكن بقي في هذا العقد معنى الحظر لتردد عاقبته إذ يحتمل كل واحد من الثوبين أن يستقر العقد فيه وأن لا يستقر والحظر مفسد كالشرط فلما احتمل الشرط في الثلاثة الأيام في المحل الواحد دفعا للحاجة يتحمل الحظر ههنا أيضا في الثلاثة اعتبارا للمحل بالزمان لأن الحاجة متحققة ههنا أيضا لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله ولا يمكنه من الحمل إليه إلا بالتبع فكان في معنى ما ورد به الشرع
ولما لم يتحمل في الشرط أكثر من ثلاثة لاندفاع الحاجة بما دونه غالبا لم يتحمل ههنا أيضا في أكثر من ثلاثة لاندفاع الحاجة بما دونه إذ الثلاثة تشتمل على كل الأوصاف جيد ووسط ورديء فيصير الزيادة لغوا وصفا كذا في الأسرار
فإن قيل في البيع بشرط الخيار المعلق هو الحكم دون العقد وههنا المعلق نفس

(2/218)


من له الخيار معلوما في اثنين أو ثلاثة فيصح استحسانا لأنه إذا لم يكن معلوما أوجب جهالة ومنازعة وإذا كان من له الخيار معلوما لم يوجب منازعة لكنه يوجب خطرا فاحتمل في الثلاث استحسانا
وقال أبو يوسف ومحمد في المهر
ـــــــ
العقد وهذا فوق ذلك فكيف يجوز الإلحاق به. قلنا نعم ولكن الحكم ثمة غير ثابت أصلا وههنا الحكم ثبت في أحدهما نكرة ففي حق الحكم تأثير شرط الخيار أكثر وفي حق العقد تأثير الشرط ههنا أكثر فاستويا فجاز الإلحاق ولا يقال لما جاز خيار الشرط عندهما في أكثر من ثلاثة بعد أن كانت المدة معلومة ينبغي أن يجوز خيار التعيين في أكثر من ثلاثة أيضا لأنا نقول إنهما إنما جوزا خيار الشرط في أكثر من ثلاثة بالأثر غير معقول المعنى فلا يمكن الإلحاق به.
وقوله "إلا أن يكون من له الخيار معلوما" يشير بعمومه إلى ثبوت خيار التعيين لكل واحد من المتبايعين وهو اختيار الشيخ أبي الحسن الكرخي وبعض المتأخرين من مشايخنا لأنه لما ثبت في جانب المشتري اعتبارا بخيار الشرط يثبت في جانب البائع أيضا اعتبارا به وذكر في المجرد أنه لا يجوز في حق البائع لأن الجواز في حق المشتري ثبت لدفع الحاجة وهو اختيار ما هو الأرفق بحضرة من يقع الشراء له ولا حاجة إلى ذلك في جانب البائع لأن المبيع قد كان معه قبل البيع
وتبين بما ذكرنا أن الاستثناء راجع إلى فصل المبيع دون الثمن حتى لو كان من له الخيار معلوما في فصل الثمن بأن قال بعت منك هذا الثوب بعشرة دراهم أو بدينار على أن آخذ منك أيهما شئت أو على أن تؤدي إلي أيهما شئت لا يصح لأن جوازه ثبت إلحاقا له بشرط الخيار وذلك إنما يثبت في المبيع دون الثمن ولأن الحاجة إليه في الثمن ليست مثل الحاجة في المبيع فيرد إلى القياس وكذا حكم الأجرة في عقد الإجارة فأما المستأجر فيه فمثل المبيع في خيار التعيين لأن خيار الشرط وخيار الرؤية وخيار العيب تجري فيه فيجري خيار التعيين أيضا
وذكر في الفصل السادس من إجارات "المحيط" الأصل أن الإجارة إذا وقعت على أحد شيئين وسمى لكل واحد أجرا معلوما بأن قال آجرتك هذه الدار بخمسة أو هذه الأخرى بعشرة أو كان هذا القول في حانوتين أو عبدين أو مسافتين مختلفتين نحو أن يقول إلى واسط بكذا أو إلى الكوفة بكذا فذلك جائز عند علمائنا. وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء وإن ذكر أربعة أشياء لم يجز وكذا هذا في أنواع الصبغ والخياطة إذا ذكر ثلاثة جاز وإن زاد عليها لم يجز استدلالا بالبيع إلا أن فرق ما بين الإجارة والبيع أن الإجارة

(2/219)


إذا دخله أوان التخيير إذا كان مفيدا أوجب التخيير مثل قوله في الجامع تزوجتك على ألف حالة أو ألفين إلى سنة أو ألف درهم أو مائة دينار أن للزوج أن يعطي أي المهرين شاء وإذا لم يفد التخيير مثل ألف أو ألفين لزمه الأقل إلا أن يعطي الزيادة لأن النكاح لما لم يفتقر إلى التسمية اعتبرت التسمية بالإقرار بالمال مفردا وبالوصايا وببدل الخلع والعتق والصلح عن المقصود وصار من
ـــــــ
يصح من غير شرط الخيار حتى أن من باع أحد العبدين لا يجوز إلا بشرط الخيار وإجارة أحد الشيئين يجوز من غير شرط الخيار
"قوله وقال أبو يوسف ومحمد" إلى آخره إذا تزوج امرأة على ألف حالة أو على ألفين إلى سنة أو على ألف درهم أو مائة دينار أو تزوجها على ألف أو ألفين أو على ألف حالة أو ألف نسيئة لا يحكم مهر المثل في هذه المسائل عندهما بحال بل يثبت الخيار للزوج إذا كان التخيير مفيدا بأن كان المالان مختلفين وصفا كما في الألف والألفين إلى سنة إذ كل واحد من المالين أنقص من الآخر من وجه وأزيد من وجه أو جنسا كما في الدراهم والدنانير فيعطي أي المهرين شاء لأن موجب هذه الكلمة التخيير وقد أمكن العمل به فوجب القول به وإن لم يكن التخيير مفيدا كما في الألف والألفين أو الألف الحالة والألف المؤجلة إذ لا فائدة في التخيير بين القليل والكثير في جنس واحد لزمه الأقل لأن تسمية المال في النكاح منفصلة عن العقد بدليل أنه لا يتوقف العقد على ذكره فكان ذلك بمنزلة التزام المال بغير عقد فيجب القدر المتيقن به وهو معنى قوله اعتبرت التسمية بالإقرار بالمال مفردا أي صار كأنه أقر لإنسان بألف أو ألفين أو أوصى لفلان بألف أو ألفين ولأن النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه والتخيير بين الألف والألفين لا يمنع صحة العقد فكان قياس الطلاق بمال والعتق بمال وهناك إذا سمى الألف والألفين يجب القدر المتيقن به فكذا ههنا ولا وجه للرجوع إلى مهر المثل لأنه موجب نكاح لا تسمية فيه وبالتخيير لا تنعدم التسمية كذا في "المبسوط".
وقوله وصار من يستفاد من جهته رد لما قاله أبو حنيفة رحمه الله في مسألة الجامع إن الخيار للمرأة إذا كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فقالا من استفيد هذا الكلام من جهته أي صدر هذا الإيجاب منه أولى ببيانه لأنه هو المجمل فكان الخيار له بكل حال
قوله "وقال أبو حنيفة يصار إلى مهر المثل" أي يحكم مهر المثل في هذه المسائل كلها لأنه الواجب الأصلي في النكاح كالقيمة في باب البيع وأجر المثل في الإجارة وإنما يعدل عنه إذا كانت التسمية معلومة قطعا ولم يوجد فوجب المصير إليه.

(2/220)


يستفاد من جهته أولى بالبيان والتخيير لأنه هو الموجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يصار إلى مهر المثل لأن الثابت بطريق التخيير غير معلوم إلا بشرط الاختيار فلا يقطع الموجب المتعين بخلاف العتق والخلع والصلح عن القود لأنه لا يعارضه موجب متعين لأنه جائز بغير عوض فأما النكاح فلا ينعقد إلا بمهر المثلوعلى هذا قلنا في قول الله تعالى {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
ـــــــ
فإن قيل إن الخلاف في النكاح الصحيح ما موجبه وموجبه المسمى فوجب المصير إليه ما أمكن وقد وجد في مسألة الألف والألفين تسميتان أحديهما لا شك فيها والأخرى فيها شك فتثبت الذي لا شك فيها فلم يجب مهر المثل.
قلنا النكاح لما صح بمهر المثل صار هو الواجب الأصلي لأن النكاح صحيح قبل التسمية فكانت التسمية زيادة لا محالة فحل محل أجر المثل في الإجارة الفاسدة فلا يجب العدول عنه بالشك كذا في "الأسرار" فصار الأصل عندهما أن الموجب الأصلي في النكاح هو المسمى فلا يمكن المصير إلى مهر المثل إلا إذا فسدت التسمية من كل وجه وأبو حنيفة رحمه الله يقول لما كان مهر المثل واجبا بنفس العقد كان هو الأصل فالعدول إلى المسمى حين صحت التسمية ولم يثبت ثم عند أبي حنيفة رحمه الله في مسألة الجامع وهي مسألة الألف الحالة والألفين إلى سنة إن كان مهر مثلها ألفي درهم أو أكثر فالخيار للمرأة إن شاءت أخذت الألف الحالة وإن شاءت كان لها الألفان إلى سنة لأنها التزمت أحد وجهي الحظ إما القدر وإما الأجل والمقاصد في ذلك مختلفة فوجب التخيير وإن كان مهر مثلها أقل من ألف درهم كان الخيار للزوج يعطيها أيهما شاء لأن مهر المثل هو الحكم وقد التزم الزوج أحد وجهين من الزيادة إما الزيادة إلى ألفي درهم لكن بصفة الأجل وإما ألف درهم من غير أجل وهما مختلفان فيختار أيهما شاء كذا في شرح الجامع للمصنف رحمه الله
قوله "وعلى هذا قلنا" أي على أن أو يتناول أحد المذكورين فيوجب التخيير في موضع الإنشاء قلنا في كفارة اليمين ما الواجبة بقوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} "المائدة: 89" وكفارة الحلق الواجبة بقوله عز اسمه {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} "البقرة: 196" وجزاء الصيد الثابت بقوله جل ذكره {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} "المائدة: 95" أن الواجب فيها وفي أمثالها واحد من الجملة غير عين والمكلف مخير في تعيين واحد منها فعلا لا قولا فيتعين في ضمن الفعل وهو مذهب جمهور الفقهاء ويسمى هذا واجبا مخيرا وذهبت شرذمة من الفقهاء العراقيين والمعتزلة

(2/221)


تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} "المائدة:89" إن الواجب واحد من هذه الجملة يتعين باختياره من طريق الفعل لما ذكرنا أنها ذكرت في موضع الإنشاء فأوجب التخيير على احتمال الإباحة حتى إذا فعل الكل جاز فأما
ـــــــ
إلى أن الكل واجب عليه على سبيل البدل فإذا فعل أحدها سقط وجوب باقيها. ثم إنه إذا أتى بالكل كان الواجب واحدا منها عند الجمهور وهو الذي كان أعلاها قيمة ولو ترك الكل كان معاقبا على واحد منها وهو الذي كان أدناها قيمة لأن الفرض يسقط بالأدنى واختلف المخالفون في ذلك فعامتهم وافقونا فيه فكان الخلاف بيننا وبينهم لفظيا لا معنويا كما قال أبو الحسين البصري إنهم يعنون بوجوب الجميع أنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان به وللمكلف اختيار أي واحد كان وهو بعينه مذهب الفقهاء وقال بعضهم إنه إذا أتى بالجميع يثاب ثواب الواجب على كل واحد ولو ترك الجميع يعاقب على ترك كل واحد فعلى هذا كان الخلاف معنويا
قال صاحب "الميزان" وهذه المسألة بيننا وبين المعتزلة فرع مسألة أخرى وهي أن التكليف يبتنى على حقيقة العلم عندهم دون السبب الموصل إليه وإيجاب واحد من الأشياء غير عين تكليف بما لا علم للمكلف به لأن الواجب مجهول حالة التكليف فيكون تكليف ما ليس في الوسع. وعندنا التكليف يبتنى على سبب العلم لا على حقيقته كما يبتنى على سبب القدرة لا على حقيقتها وههنا طريق العلم قائم وهو الاختيار فلا يكون تكليف العاجز تمسكوا في ذلك بأن إيجاب أحد الأشياء إما أن يكون موجبه ثبوت الحكم في واحد منها عينا أو في واحد غير عين أو في الكل على سبيل الجمع أو على سبيل البدل لا وجه للأول والثالث لأنه خلاف النص والإجماع كيف والتخيير ينافيهما ولا للثاني لأنه تكليف بما هو غير معلوم للمكلف وقت التكليف والتكليف بإتيان المجهول تكليف ما ليس في الوسع وهو باطل فتعين القول بوجوب الكل على سبيل البدل وهو طريق مشروع موافق للأصول فإن فرض الكفاية مثل الجهاد وصلاة الجنازة يجب على الكل بطريق البدل حتى إذا قام به البعض سقط عن الباقين ولعامة العلماء أن الأمر بأحد الأشياء لما صح حتى لو ترك الكل أثم ولم يجز أن يكون أمرا بأحدها عينا ولا بالكل على سبيل الجمع لما ذكرنا ولا بالكل على سبيل البدل لأنه لو ترك الكل لا يأثم إلا إثم الواحد ولو أتى بالكل لا يثاب ثواب الواجب إلا على الواحد وذلك يخالف حد الواجب تعين أنه أمر بأحد الأشياء غير عين وهو جائز عقلا فإن السيد إذا قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثواب أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك به وإن تركتهما عاقبتك ولست أوجب الجميع وإنما أوجب واحدا لا بعينه أي

(2/222)


أن يكون الكل واجبا فلا على ما زعم بعض الفقهاء وكذلك قولنا في كفارة الحلق وجزاء الصيد فأما قوله تعالى {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} "المائدة:33" فقد جعله بعض الفقهاء للتخيير فأوجبوا التخيير في كل نوع من أنواع قطع الطريق وقلنا نحن هذه ذكرت على
ـــــــ
واحد أردت كان هذا كلاما معقولا ولا يفهم منه إيجاب الجميع للتصريح بنقيضه فكذا إذا ورد الشرع به وليس هذا تكليف ما ليس في الوسع لقيام سبب حصول العلم بالواجب عينا باختيار المكلف وشروعه في الفعل وذلك كاف لصحة التكليف.
قوله "فأوجب التخيير على احتمال الإباحة" التخيير الثابت بكلمة أو على وجهين أحدهما أن يثبت على وجه لا يجوز الجمع بين الكل كقولك اضرب زيدا أو عمرا كان له أن يضرب أيهما شاء ولا يجوز له الجمع لأن الأصل فيه الحظر وإنما يثبت الإباحة بعارض الأمر وأنه يتناول واحدا من الجملة فتقصر عليه والثاني: أن يثبت على وجه يجوز الجمع بين الكل كقولك جالس الفقهاء أو المحدثين كان له أن يجالس أي فريق شاء وأن يجالسهم جميعا لأن إباحة مجالستهم ومجالسة غيرهم قد كانت ثابتة قبل الأمر فبالأمر اقتصرت على المذكورين وصار معنى الكلام اقتصر على مجالسة هؤلاء ولا تجالس غيرهم
ثم إن كان الأمر للإباحة كما في النظير المذكور يحصل الامتثال بالجميع كما يحصل بالواحد لأن المقصود وهو الاقتصار حاصل بالجميع كما هو حاصل بالواحد وإن كان للوجوب كان الامتثال بالواحد لا غير وإن أتى بالجميع لأن الأمر لا يتناول إلا واحدا من الجملة ولكن لا يحرم عليه الإتيان بالجميع لأن الإباحة كانت ثابتة قبل الأمر فتبقى على ما كانت. فمن القسم الأول قول الرجل لآخر طلق من نسائي فلانة أو فلانة أو أعتق من عبيدي فلانا أو فلانا أو بع منهم فلانا أو فلانا وقول المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفوين لوليها زوجني فلانا أو فلانا يثبت التخيير في هذه الصور ولا يجوز الجمع لأن هذه الأشياء كانت محظورة على المأمور قبل الأمر ومن القسم الثاني خصال الكفارة وجزاء الصيد وصدقة الفطر فيثبت التخيير فيها على وجه يجوز الجمع لأن هذه الأشياء كانت مباحة قبل الأمر فبقيت على الإباحة فاتضح بما ذكرنا معنى قوله فأوجب التخيير على احتمال الإباحة وظهر أنه احتراز عن القسم الأول قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "اىلمائدة: 33" أي يحاربون أولياء الله ورسوله والمودة إذا استحكمت يضيف كل واحد من المحبين فعل صاحبه إلى نفسه وفي الخبر الإلهي: "من عادى لي

(2/223)


سبيل المقابلة بالمحاربة والمحاربة معلومة بأنواعها عادة بتخويف أو أخذ مال أو قتل أو قتل وأخذ مال فاستغنى عن بيانها واكتفى بإطلاقها بدلالة تنويع الجزاء فصارت أنواع الجزاء مقابلة بأنواع المحاربة فأوجب التفضيل والتقسيم على حسب أحوال الجناية وتفاوت الأجزية وقد ورد بيانه على هذا المثال
ـــــــ
وليا فقد بارزني بالمحاربة1" أو ذكر اسم الله للتبرك وتشريف الرسول عليه السلام كما في قوله تعالى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} "الأنفال :41" والمراد محاربة رسول الله ومحاربة المؤمنين في حكم محاربته {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} "المائدة 33" أي مفسدين أو لأن سعيهم لما كان على طريق الفساد نزل منزلة ويفسدون فانتصب فسادا على المعنى . ويجوز أن يكون مفعولا له أي للفساد والسعي هو المشي بسرعة واستعير في الكسب والتصرف لأنه يحصل به غالبا والمراد بالآية قطاع الطريق عند عامة أهل التفسير {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} ذهب الحسن والنخعي وسعيد بن المسيب ومالك إلى أن الإمام بالخيار في العقوبات المذكورة في حق كل قاطع طريق كذا في الكشاف "والمبسوط" وأشير في "شرح التأويلات" إلى أنه بالخيار بين القتل والصلب والقطع في كل نوع من أنواع قطع الطريق عندهم ولكن لا يجوز له الاقتصار على النفي لأن من أثبت التخيير لم يجعل النفي جزاء على حدة بل حمل كلمة "أو" في قوله {أَوْ يُنْفَوْا} "المائدة :33" على الواو والنفي على القتل فكان بمعناه وينفوا من الأرض بالقتل والصلب قالوا كلمة أو للتخيير بحقيقتها فيجب العمل بها إلى أن يقوم دليل المجاز لأن قطع الطريق في ذاته جناية واحدة وهذه الأجزية ذكرت بمقابلتها فيصلح كل واحد جزاء له فيثبت التخيير كما في كفارة اليمين ولكنا نقول لا يمكن القول بالتخيير ههنا لأن الجزاء على حسب الجناية يزداد بزيادتها وينتقص بنقصانها قال الله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "الشوري :40" فيبعد أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها بأغلظ الأنواع تقريره أن الأمة أجمعت على أن القاتل أو آخذ المال لا يجازى بالنفي وحده وإن كان ظاهر الآية يقتضي التخيير بين الأجزية الأربعة في الكل فدل أنه لا يمكن العمل بظاهر التخيير كذا في شرح "التأويلات"
ثم المحاربة أنواع كل نوع منها معلوم من تخويف أو أخذ مال أو قتل نفس أو جمع بين القتل وأخذ المال وهذه الأنواع تتفاوت في صفة الجناية والمذكور أجزية متفاوتة في معنى التشديد فوقع الاستغناء بتلك المقدمة عن بيان تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصا وهذا التقسيم ثابت بأصل معلوم وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الرقاق باب رقم 38 .

(2/224)


بالسنة في حديث جبريل عليه السلام حين نزل بالحد على أصحاب أبي بردة على التفصيل فأما فيما سبق فلا أنواع للجناية على حسب اختلاف الأجزية فأوجب التخيير وهذا لأن مقابلة الجملة بالجملة يوجب التقسيم لا محالة والجناية بأنواعها لا تقع إلا معلومة فكذلك الجزاء
ـــــــ
ينقسم البعض على البعض كما يقال لمن يسأل عن حدود الكبائر هي جلد مائة أو ثمانين أو الرجم أو القطع يفهم منه التقسيم والتفصيل لا التخيير فكذا ههنا وتبين أن معنى النص أن جزاء المحاربين لا يخلو عن هذه الأنواع إما أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل أو يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين الأخذ والقتل {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} إن أفردوا الأخذ قطع اليد لأخذ المال والرجل لإخافة السبيل أو لتغلظ الجناية بالمجاهرة {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} بالحبس إن أفردوا الإخافة, وذكر الشيخ أبو منصور رحمه الله في هذه الآية أن الأصل فيه أن كلمة أو متى ذكرت بين الأجزية المختلفة الأسباب يراد بها الترتيب كما في هذه الآية وإلا فهي للتخيير كما في كفارة اليمين.
قوله "وقد ورد بيانه" أي بيان الحد المذكور على هذا المثال وهو التقسيم على أحوال الجناية في حديث جبريل عليه السلام وهو ما روى محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع أبا بردة وفي بعض الروايات أبا برزة هلال بن عويمر الأسلمي وهو الأصح على أن لا يعينه ولا يعين عليه فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه الطريق فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك" وفي رواية عطية عنه "ومن أخاف الطريق ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي" ففي هذا الخبر تنصيص على أن كلمة أو ههنا للتفصيل دون التخيير
"فإن قيل" في هذا الحديث أنهم قطعوا على أناس يريدون الإسلام وبنفس الإرادة لا يثبت الإسلام ولا يخرج الكافر عن كونه حربيا وقد ثبت بالدليل أن من قطع على حربي طريقا لا يجب عليه الحد وإن كان مستأمنا
قلنا: قد قيل إنهم كانوا قد أسلموا فجاءوا يريدون الهجرة لتعلم أحكام الإسلام فكان معنى قوله يريدون الإسلام يريدون تعلم أحكام الإسلام. وقيل بل جاءوا على قصد أن يسلموا ومن جاء من دار الحرب على هذا القصد فوصل إلى دار الإسلام فهو بمنزلة أهل الذمة والحد يجب بقطع الطريق على أهل الذمة كما يجب بالقطع على المسلمين بخلاف المستأمنين.

(2/225)


حتى قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن أخذ المال وقتل إن الإمام بالخيار إن شاء قطعه ثم قتله أو صلبه وإن شاء قتله ابتداء أو صلبه لأن الجناية تحتمل الاتحاد والتعدد فكذلك الجزاء
ـــــــ
"فإن قيل" دل الحديث على أن من أخذ المال وقتل صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف فقد أوجب على كل فريق حدا على حدة بسبب قطع طريق واحد ومتى قطع الطريق جماعة فقتل البعض منهم وأخذ المال فإن الصلب يجب على الكل بلا تفصيل.
قلنا: الحد ذكر مطلقا في الحديث إذ لم يذكر فيه أن من أخذ المال وقتل منهم صلب فينصرف كل حد إلى نوع من قطاع الطريق على حدة ولا ينصرف كله إلى أصحاب أبي بردة فكان أصحابه سببا لبيان الحكم في كل نوع لا أن كان الحكم فيهم على التفصيل وأنه غير مضاف إليهم والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله.
قوله "حتى قال أبو حنيفة" يعني لما انقسمت أنواع الجزاء على أنواع الجناية قال أبو حنيفة رحمه الله إذا جمع بين الأخذ والقتل كان للإمام الخيار إن شاء قطعه ثم قتله أو صلبه وإن شاء قتله أو صلبه من غير قطع لأنه اجتمع فيه جهة الاتحاد وجهة التعدد أما جهة التعدد فلأن السبب الموجب للقطع قد وجد والسبب الموجب للقتل قد وجد فيلزمه حكم السببين. وأما جهة الاتحاد فلأن الكل قطع المادة وهو واحد فكان له أن يقتصر على القتل أو الصلب وهذا نظير ما قال فيمن قطع يد رجل ثم قتله عمدا إن شاء الولي قطعه ثم قتله وإن شاء قتله من غير قطع لاجتماع جهتي التعدد والاتحاد كما مر بيانه في باب الأداء والقضاء وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يصلبه الإمام لا غير لأن ظاهر قوله من قتل وأخذ المال صلب في حديث جبريل يدل على ما قالوا ولأن هذا الحد شرع جزاء قطع الطريق الآمن بأمان الله تعالى لإجراء أخذ المال وقتل النفس مجاهرة إذ الحق في تلك الحالة في المال والنفس لصاحبه إلا أن قطع الطريق يتقوى إذا خوف الناس بالقتل والأخذ جميعا فيزداد الحد كما ازداد الجناية فيزداد حد الزاني المحصن على حد البكر لقوة جنايته بزيادة الحرمة باجتماع الموانع من الزنا كذا في الأسرار.
قال القاضي الإمام وهذا هو الأصح عندنا وذكر الإمام خواهر زاده أن الجواب لأبي حنيفة عن الحديث أن المروي في رواية أبي صالح عن ابن عباس ما ذكرنا وقد روي في رواية الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس أن من أخذ المال وقتل قطعت يده

(2/226)


ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيمن قال لعبده ودابته هذا حر أو هذا إنه باطل لأنه اسم لأحدهما غير عين وذلك غير محل للعتق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه هو كذلك لكن على احتمال التعيين حتى لزمه التعيين
ـــــــ
ورجله من خلاف وصلب فقد تعارضت الروايات في حديثه فسقط الاحتجاج به ووجب التمسك بما فعله النبي عليه السلام للعرنيين فإنه لم يتعارض فيه الروايات. وقد روي: "أن النبي عليه السلام أمر بقطع أيديهم وأرجلهم وأمر بتركهم في الحرة حتى ماتوا" فقد جمع بين القطع والقتل فأخذ أبو حنيفة بهذا لما تعارضت الروايات عن ابن عباس وأشار شمس الأئمة في "المبسوط" في جانب الجواب لأبي حنيفة رحمه الله إلى أن قوله من قتل وأخذ المال صلب بيان ما يختص بهذه الحالة لا بيان ما يختص هذه الحالة به فلا يجوز الصلب إلا في هذه الحالة ولكن يجوز فيها غيره عند قيام الدليل وقد وجد سبب القطع ولم يوجد عنه مانع فيجوز
قوله "ولهذا قال" أي ولأن أو لأحد المذكورين قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لو جمع بين عبده ودابته فقال: هذا حر أو هذا لغا كلامه لأن أو لما كان لأحد الشيئين كان محل الإيجاب أحدهما غير عين وإذا لم يكن أحد المذكورين محلا للإيجاب فغير المعين منهما لا يكون صالحا وبدون صلاحية المحل لا يصح الإيجاب أصلا كذا في أصول شمس الأئمة. وهذا الكلام وسياق كلام الشيخ يشيران إلى أنه لو نوى عبده بهذا الإيجاب لا يعتق عندهما أيضا لأن اللغو والباطل لا حكم له أصلا وذكر في المبسوط ما يخالفه فقال إذا جمع بين عبده وبين ما لا يقع عليه العتق من ميت أو أسطوانة أو حمار فقال هذا حر أو هذا أو قال أحدكما حر لا يعتق عبده في قول أبي يوسف ومحمد إلا أن يعينه لأنه ردد الكلام بين عبده وغيره فلا يتعين عبده إلا بنيته كما لو جمع بين عبده وعبد غيره وقال أحدكما حر وهذا لأنه لما ضم إليه ما لا يتحقق فيه العتق صار كأنه قال لعبده أنت حر أو لا ولو قال ذلك لم يعتق إلا بالنية فكذا ههنا قوله "وقال أبو حنيفة" نعم هو كذلك أي سلم أبو حنيفة رحمه الله أن هذا الإيجاب يتناول أحدهما بغير عينه وأن غير العين ليس بمحل للعتق في مسألتنا ولكن لا يسلم أنه لا يحتمل التعين بل يقول يحتمله فإن المذكورين لو كانا عبدين له يتناول الإيجاب أحدهما على احتمال التعيين حتى وجب عليه التعيين وأجبر عليه كما في الإقرار ولو لم يكن محتمل كلامه لما أجبر عليه وكذا إذا مات أحدهما أو باع أحدهما يتعين الآخر للعتق فعلم أن التعيين يحتمله وإذا كان كذلك يحمل عليه عند تعذر العمل

(2/227)


في مسألة العبدين والعمل بالمحتمل أولى من الإهدار فجعل ما وضع لحقيقته مجازا عما يحتمله وإن استحالت حقيقته كما ذكرنا من أصله فيما مضى وهما ينكران الاستعارة عند استحالة الحكم لأن الكلام للحكم وضع على ما سبق ولهذا قلنا فيمن قال هذا حر أو هذا وهذا إن الثالث يعتق ويخير بين الأولين لأن صدر الكلام تناول أحدهما عملا بكلمة التخيير والواو توجب الشركة فيما
ـــــــ
بحقيقته كما في قوله لأكبر سنا منه هذا ابني لأن العمل بالمحتمل أولى من الإلغاء ويلغو ذكر ما ضم إليه وصار كأنه قال لعبده هذا حر وسكت كما إذا أوصى بثلث ماله لحي وميت كانت الوصية كلها للحي بمنزلة ما لو قال ثلث مالي لفلان وسكت وهذا بخلاف عبد الغير لأنه محل لإيجاب العتق. ولكنه موقوف على إجازة المالك فلهذا لا يعتق عبده هناك وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه إذا جمع بين عبده وأسطوانة فقال أحدكما حر عتق عبده لأن كلامه إيجاب للحرية ولو قال هذا حر وهذا لم يعتق عبده لأن هذا اللفظ ليس بإيجاب للحرية بمنزلة قوله لعبده هذا حر أو لا.
قوله "ولهذا الأصل" وهو أن أو لإيجاب أحد الشيئين قلنا إذا قال لعبيده الثلاثة هذا حر أو هذا وهذا أنه يخير في الأولين ويعتق الثالث في الحال. وكذا الحكم في الطلاق إذا قال هذه طالق أو هذه وهذه وعند الفراء يخير بين الأول وبين الثاني والثالث إن شاء أوقع العتق على الأول وإن شاء على الثاني والثالث ولا يعتق أحد في الحال لأن الجمع بحرف الواو في مختلفي اللفظ كالجمع بكناية الجمع في متفقي اللفظ فصار كأنه قال هذا حر أو هذان ألا ترى أنه لو قال والله لا أكلم هذا أو هذا وهذا كان بمنزلة قوله لا أكلم هذا أو هذين حتى أنه إن كلم الأول حنث وإن كلم الآخرين حنث وإن كلم الثاني وحده أو الثالث وحده لم يحنث كذا في الجامع وعلى قياس ما ذكرتم يقتضي أنه لا يحنث إلا بأن يجمع في التكلم بين أحد الأولين وبين الثالث بمنزلة قوله لا أكلم أحد هذين وهذا. ولكنا نقول سوق الكلام لإيجاب العتق في أحدهما والعطف لإثبات الشركة فيما سبق له الكلام فصار قوله وهذا معطوفا على المقصود وهو المعتق منهما لا على الأول بعينه ولا على الثاني إذ ليس لكل واحد منهما عينا حظ من الإيجاب فلم يصلح العطف عليه وإنما الحظ لأحدهما غير عين فصار عطفا عليه كأنه قال أحدكما حر وهذا.
فأما مسألة اليمين فالقياس فيها ما ذكرنا وهو قول زفر رحمه الله ولكنا اخترنا الجواب الذي ذكرنا لأن الثابت بكلمة أو هنا نكرة في موضع النفي فأوجبت العموم على طريق الإفراد فكان تقدير صدر الكلام لا أكلم هذا ولا هذا فلما قال وهذا فقد عطف بواو

(2/228)


سيق له الكلام فيصير عطفا على المعتق من الأولين كقوله أحدكما حر وهذا ثم يستعار هذه الكلمة للعموم بدلالة تقترن فيصير شبيها بواو العطف لا عينه فمن ذلك إذا استعملت في النفي صارت بمعنى العموم قال الله تعالى {وَلا
ـــــــ
الجمع وقضيتها الجمع فصار جامعا له إلى الثاني بنفي واحد فشارك الثاني وصار كأنه قال لا أكلم هذا ولا هذين والجمع في النفي يوجب الاتحاد في الحنث والتفريق يوجب الافتراق تقول والله لا أكلم فلانا وفلانا فلا تحنث حتى تكلمهما وتقول والله لا أكلم فلانا ولا فلانا فأيهما كلمته وجب الحنث فلذلك صار الجواب ما ذكرنا كذا في شرح الجامع للمصنف.
وذكر شمس الأئمة أنه لا وجه لتصحيح ما قاله الفراء لأن خبر المثنى غير خبر الواحد لفظا يقال للواحد حر وللاثنين حران والمذكور في كلامه من الخبر قوله حر وهو لا تصلح خبرا للاثنين ولا وجه لإثبات خبر آخر لأن العطف للاشتراك في الخبر المذكور أو لإثبات خبر مثل الأول لفظا لإثبات خبر آخر مخالفا له لفظا بخلاف مسألة اليمين لأن الخبر المذكور يصلح للمثنى كما يصلح للواحد فإنه يقول لا أكلم هذا لا أكلم هذين فلذلك صار كأنه قال لا أكلم هذا أو هذين. ولا يخلو هذا الكلام عن اشتباه والاعتماد على كلام الشيخ.
قوله "بدلالة تقترن" أي إنما يحمل على العموم بدليل يقترن بالكلام وقوله "فيصير شبيها بواو العطف" تفسير لذلك العموم أي يصير حرف شبيها بواو العطف من حيث إن كل واحد من المذكورين مراد من الكلام لا عينه أي عين الواو من حيث إن كل واحد على الانفراد مقصود والاجتماع ليس بحتم فيه بخلاف الواو فبقي فيه شبه الحقيقة من هذا الوجه وهو معنى قول الزجاج إن أو في النهي آكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا جاز للمنهي أن يطيع أحدهما ولو قلت لا تطع زيدا أو عمرا لم يجز له أن يطيع أحدهما كما لا يجوز له أن يطيعهما فمن ذلك أي من المذكور يعني من الدلالات المقترنة بها التي تدل على عمومها استعمالها في موضع النفي قال الله تعالى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} "الإنسان: 24" أي ولا كفورا فحرم على النبي عليه السلام طاعتهما جميعا ولكن بصفة الانفراد. فإن قيل كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله {آثِماً أَوْ كَفُوراً} قلنا معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم إلى فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث وقيل الآثم عتبة والكفور الوليد لأن

(2/229)


تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} "الإنسان: 24" أي لا هذا ولا هذا وقال أصحابنا في الجامع في رجل قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا إن معناه فلانا ولا فلانا حتى إذا كلم أحدهما يحنث ولو كلمهما لم يحنث إلا مرة واحدة ولا خيار له في ذلك حتى أنه لو استعمل هذا في الإيلاء بانتا جميعا ووجه ذلك أن كلمة أو لما تناولت أحد المذكورين كان ذلك نكرة وقد قامت فيها دلالة العموم وهو النفي
ـــــــ
عتبة كان ركابا للمأثم متعاطيا لأنواع الفسوق وكان الوليد غالبا في الكفر شديد الشكيمة في العتو كذا في الكشاف وإنما يعم في النفي لأن أو لما تناول أحد المذكورين غير عين كان من ضرورة صدق الكلام إذ نفاه انتفى الجميع إن كان خبرا كما مر تحقيقه وإن كان نهيا وليس في وسع العبد الانتهاء عن أحدهما غير عين كان من ضرورة حصول الانتهاء عن المنهي عنه وجوب الانتهاء عنهما ولهذا عمت في الإباحة أيضا لأنه لما أطلق المجالسة مثلا في قوله جالس الفقهاء أو المحدثين مع أحد الفريقين ومجالسة أحدهما غير عين لا يتصور ثبت العموم ضرورة تمكنه من العمل بحكم الإطلاق.
قوله "حتى إذا كلم أحدهما يحنث" بخلاف الواو فإنه في قوله وفلانا لا يحنث ما لم يكلمهما ولو كلمهما لم يحنث إلا مرة واحدة كما في الواو وكأنه جواب سؤال وهو أن يقال لما دخل كلام كل واحد منهما في اليمين على سبيل الانفراد ينبغي أن يكون يمينين فيحنث بالكلام معهما مرتين فقال لا يكون كذلك لأن تعدد الحنث بتعدد هتك حرمة اسم الله تعالى ولم يوجد إلا هتك واحد. وقوله "ولا خيار له في ذلك" بيان العموم يعني لو لم يكن للعموم بقي له الخيار كما في قوله لأكلمن اليوم فلانا أو فلانا فإن له أن يختار تكلم أحدهما للبر ولا يجب عليه التكلم مع الآخر ولو قال لا أكلم اليوم فلانا أو فلانا ليس له أن يختار الامتناع عن تكلم أحدهما مقتصرا عليه بل يجب عليه الامتناع عن تكلمهما جميعا.
قوله "لو استعمل هذا" أي الحرف أو في الإيلاء بأن قال لا أقرب هذه أو هذه أربعة أشهر يصير موليا منهما حتى لو لم يقربهما في المدة بانتا جميعا.
"فإن قيل" لما كانت كلمة أو لأحد المذكورين كان هذا بمنزلة قوله لا أقرب أحديكما كما في قوله هذه طالق أو هذه ولو قال والله لا أقرب أحديكما كان موليا من أحديهما لا منهما جميعا وإن كان في موضع النفي حتى لو مضت المدة ولم يقربهما بانت أحديهما والخيار إليه في التعيين والمسألة في إيمان الجامع فينبغي أن لا يتعمم ههنا أيضا

(2/230)


على ما سبق فلذلك صار عاما إلا أنها أوجبت العموم على الإفراد لما أن الإفراد أصلها حتى أن من قال لا تطع فلانا أو فلانا فأطاع أحدهما كان عاصيا ولو قال وفلانا لم يكن عاصيا حتى يطيعهما وإذا حلف رجل لا يكلم فلانا وفلانا لم يحنث حتى يكلمهما ولو قال أو فلانا حنث إذا كلم أحدهما لأن الواو للعطف على سبيل الشركة والجمع دون الإفراد ومن ذلك إذا استعملت
ـــــــ
"قلنا" كان القياس في تلك المسألة أن يكون موليا منهما أيضا لأن إحدى كلمة تنبئ عن غير المعينة فكانت في معنى النكرة وقد وقعت في موضع النفي فيوجب التعميم كما لو قال والله لا أقرب واحدة منكما إلا أنها كلمة خاصة صيغة ومعنى لأنها لا تعم بسائر دلائل العموم فكذا بوقوعها في موضع النفي ألا ترى أنه لا تدخل عليها كلمة الإحاطة والعموم فلا يقال كل أحديكما وأنها لا توصل بكلمة التبعيض فلا يقال إحدى منكما فكانت في حكم المعارف فلا يتحقق فيها التعميم بالنفي أيضا بخلاف كلمة أو فإنها توجب العموم في موضع الإباحة فكذلك توجبه في موضع النفي وبخلاف الواحدة فإنها تعم بكلمة الإحاطة فكذلك بالنفي كذا في شرح الجامع للمصنف رحمه الله.
"على ما سبق أي" في باب ألفاظ العموم أن النفي من دلائل العموم في النكرة لما أن الإفراد أصلها لأنها في الأصل لتناول أحد المذكورين والعموم إنما يثبت فيه بعارض يقترن به وليس من ضرورة العموم الاجتماع بل يثبت العموم بصفة الإفراد أيضا كما في كلمة كل وكلمة من وهو أقرب إلى الحقيقة فيجب القول به رعاية للحقيقة بقدر الإمكان.
قوله "ومن ذلك إذا استعملت في موضع الإباحة" أي من القرائن التي تدل على عمومها استعمالها في موضع الإباحة لأن الإباحة دليل العموم لما ذكرنا أن الإباحة هي الإطلاق ورفع المانع وذلك في شيء غير معين يوجب العموم ضرورة التمكن من العمل به فإذا قيل جالس الفقهاء أو المحدثين يفهم منه جالس أحد الفريقين أو كليهما إن شئت ألا ترى إلى قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} "الأنعام: 146" أن الاستثناء لما كان من التحريم حتى أوجب الإباحة تثبت الإباحة في جميع هذه الأشياء كما ثبتت في كل واحد منها وإلى قوله عز اسمه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} "النور: 31" أن الاستثناء لما كان موجبا للإباحة جاز لهن إبداء مواضع الزينة لجميع المستثنيين كما جاز ذلك لكل واحد منهم فعرفنا أن موجبها في الإباحة العموم بمنزلة واو العطف.

(2/231)


في موضع الإباحة تصير عامة لأن الإباحة دليل العموم فعمت بها النكرة كما يقال: جالس الفقهاء أو المحدثين. أي أحدهما أو كليهما إن شئت وفرق ما بين التخيير والإباحة أن الجمع بين الأمرين في التخيير يجعل المأمور مخالفا وفي الإباحة موافقا وإنما يعرف الإباحة من التخيير بحال تدل عليه وعلى هذا قال أصحابنا في الجامع فيمن حلف لا يكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا إن له أن يكلمهما جميعا وكذلك قال لا أقربكن إلا فلانة أو فلانة فليس بمول منهما
ـــــــ
قال الإمام عبد القاهر إن أو في قولك جالس الحسن أو ابن سيرين للإباحة ومعناه أبحت لك هذا النوع وهو بمنزلة الواو من وجه ومفارق له من وجه آخر. أما موافقته للواو فمن حيث إن مجالستهما جميعا مما لا يكون فيه عصيان كما أنك إذا قلت جالس الحسن وابن سيرين كان كذلك وأما مفارقته للواو فهو أنه لو جالس واحدا منهما ولم يجالس الآخر كان جائزا ولو قال جالس الحسن وابن سيرين لم يجز إلا أن يجالس كل واحد منهما فأو يفيد إباحة الجمع والواو يوجبه.
قوله "وفرق ما بين الإباحة والتخيير" أي الفرق بين وقوع هذه الكلمة في موضع الإباحة وبين وقوعها في موضع التخيير أن الجمع بين الأمرين في الإباحة يجوز كما ذكرنا وفي التخيير لا يجوز ففي قولك اضرب زيدا أو عمرا لو ضربهما جميعا لم يجز ولو جمع بين خصال الكفارة كان ممتثلا بأحدها لا بالجميع لأنها لا يوجب العموم في موضع التخيير.
قوله "وإنما يعرف الإباحة من التخيير بحال تدل عليه" أي على أحد الأمرين وفي بعض النسخ عليها أي على الإباحة "وعلى هذا" أي على أن الإباحة عرفت بدلالة الحال قال أصحابنا أنها توجب العموم في هذه الأمثلة المذكورة لأن صدر الكلام في قوله لا أكلم أحدا وقوله لا أقربكن للحظر والاستثناء من الحظر إباحة فكانت كلمة أو في قوله إلا فلانا أو فلانا وإلا فلانة أو فلانة واقعة في موضع الإباحة فأوجبت العموم كما في قوله لا آكل طعاما إلا خبزا أو لحما كان له أن يأكلهما فكذلك ههنا. قال الشيخ في شرح الجامع الاستثناء نفي في اللغة ولكنه إن كان من الإثبات كان نفيا وإن كان من النفي كان إثباتا لأن نفي النفي إثبات والنفي من دلالات العموم فيعم بهذه الدلالة أيضا. وكذا في قوله قد برئ فلان من كل حق لي قبله يوجب حط الدعوى في جميع الحقوق فكان قوله إلا دراهم أو دنانير استثناء من الحظر معنى فيصلح دلالة على العموم.
قوله "وقال محمد" إلى آخره ذكر محمد رحمه الله في شروط الأصل إذا أراد

(2/232)


وقالوا فيمن قال برئ فلان من كل حق لي قبله إلا دراهم أو دنانير إن له أن يدعي المالين جميعا لأن هذا موضع الإباحة فصار عاما ألا ترى أنه استثنى من الحظر فكان إباحة وقال محمد رحمه الله بكل قليل أو كثير على معنى الإباحة أي بكل شيء منه قليلا كان أو كثيرا وكذلك داخل فيها أو خارج أي داخلا أو خارجا ويجوز الواو فيهما وكذلك أحكام هذه الكلمة في الأفعال إن دخلت في
ـــــــ
الرجل أن يشتري دارا كتب هذا ما اشترى فلان بن فلان وساق الكلام إلى أن قال اشتراها بحدودها ومرافقها وطريقها وكل قليل وكثير هو فيها أو منها وكل حق هو فيها داخل فيها وخارج منها بكذا كذا درهما. قال شمس الأئمة ثم في هذا الكتاب يعني كتاب الشروط يقول بكل قليل وكثير وفي كتاب الوقف والشفعة قال بكل قليل أو كثير والذي ذكر ههنا أحسن لأن أو للشك وإنما يدخل عند ذكر حرف أو أحد المذكورين لا كلاهما فأشار الشيخ إلى أنهما سواء لأنها توجب العموم ههنا لأنها للإباحة في هذا الموضع إذ الأصل حرمة التصرف في حق الغير وهذا الكلام لإطلاق التصرف في الحقوق وإباحته فلذلك أوجبت العموم وهو معنى قوله على معنى الإباحة أي ذكر هذا اللفظ على معنى إباحة التصرف ومعناه بكل شيء منه أي من المبيع قليلا كان أو كثيرا فيوجب العموم ضرورة ألا ترى أن هذا الكلام يذكر على سبيل المبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع وعما هو متصل به حتى دخل فيه الثمرة والزرع وكذا يدخل فيه الأمتعة إن كان قال أو فيها ولذلك قال أبو يوسف لا يكتب هذا اللفظ يعني قوله بكل قليل أو كثير لأنه إذا كتب هذا دخل فيه الأمتعة الموضوعة فيها لأن ذلك كله مما يحتمل البيع. وقال محمد أرى أن يقيد ذلك الكتاب فيقول هو فيها أو منها من حقوقها وإذا كان كذلك كان حرف أو مساويا للواو في هذا الموضع ولا يقال لو ثبت الملك للمشتري في الطريق والشرب بطريق الإباحة لأمكن للبائع الرجوع فيها لأنا نقول لا يمكن الرجوع لأنها يثبت في ضمن عقد لازم وهو البيع فأعطى لها حكم المتضمن في اللزوم .
"قوله وكذلك داخل فيها أو خارج" يعني أو للعموم في هذا الكلام كهو في الكلام الأول فكان مساويا للواو قال الطحاوي المختار عندنا أن يكتب بكل حق هو لها داخل فيها وكل حق هو لها خارج منها لأنه إذا قال وخارج منها فإنما يتناول هذا شيئا واحدا منعوتا بالنعتين جميعا وهذا لا يتصور والمشروط في العقد بنعتين لا يدخل في العقد بأحد النعتين خاصة فالأحسن أن يقول بكل حق هو لها داخل فيها وكل حق هو لها خارج منها بخلاف قوله وكل قليل وكثير لأن القليل جزء من الكثير فلا حاجة إلى أن يقول وكل قليل وكل كثير وههنا الحقوق الداخلة غير الحقوق الخارجة فلهذا يذكرهما

(2/233)


الخبر أفضت إلى الشك وإن دخلت في الابتداء أوجبت التخيير مثل قول الرجل والله لأدخلن هذه الدار أو لأدخلن هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار إن له الخيار ولها وجه آخر هنا وهو أن يجعل بمعنى حتى أو إلا أن وموضع ذلك أن يفسد العطف لاختلاف الكلام ويحتمل ضرب الغاية
ـــــــ
جميعا على نحو ما بينا ويمكن أن يجاب عما ذكر الطحاوي بأنه لما لم يتصور اجتماع الوصفين بشيء واحد اقتضى الكلام إضمار منعوت آخر بدلالة العطف كما في قولك جاء زيد وعمرو لما لم يتصور اشتراكهما في مجيء واحد اقتضى إعادة الفعل حتى كان التقدير جاء زيد جاء عمرو فلا يحتاج إلى التكلف المذكور.
قوله "وإن دخلت في الابتداء أوجبت التخيير" يعني كان له أن يختار أحد المذكورين تحقيقا لموجب الكلام حتى كان له في قوله والله لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار أن يختار دخول أيهما شاء للبر ولا يشترط دخولهما لأنه التزم دخول أحديهما فلو لم يبر بدخول أحديهما لصار ملتزما دخولهما وليس ذلك موجب هذه الكلمة في الإثبات فأما في النفي بأن قال والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار فلا يوجب التخيير حتى لا يكون له أن يختار عدم دخول إحدى الدارين للبر بل يوجب العموم على سبيل الإفراد حتى يشترط للبر عدم دخولهما جميعا ويحنث بدخول أيتهما وجد إذ لو لم يحنث بدخول أحديهما لصارت اليمين واقعة عليهما جميعا وذلك باطل كذا في شروح الجامع فتبين بما ذكرنا أن قوله وإن دخلت في الابتداء أوجبت التخيير مختص بحالة الإثبات وأن. قوله أن له الخيار حكم المسألة الأولى دون الثانية.
قوله "ولها" أي لهذه الكلمة وجه آخر ههنا أي معنى آخر في الأفعال لا يوجد ذلك في الأسماء وهو أن يجعل بمعنى حتى أو إلا أن اعلم أن أو حرف عطف كما مر بيانه فإذا وجد الفعل بعده منصوبا من غير أن يوجد معطوف عليه منصوب كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي فذلك بإضمار أن كأنك قلت لألزمنك أو أن تعطيني حقي وذلك أنك لو قلت لألزمنك أو تعطيني بالرفع عطفا على الأول لكنت قد أثبت الإعطاء كما أثبت اللزوم ولم تقدر أن اللزوم لأجل الإعطاء ونزول قولك منزلة قول الرجل اضرب زيدا أو عمرا فلما كان القصد أن اللزوم لأجل الإعطاء حتى كأنه قيل لألزمنك لتعطيني وجب إضمار أن ليعلم أن الثاني لم يدخل في حكم الأول وقدر ما قبل أو تقدير المصدر كأنه قيل ليكونن لزوم مني أو إعطاء منك وينزل الكلام منزلة قولك لألزمنك إلى أن تعطيني وحتى تعطيني ويكون حرف الجار أعني إلى أو حتى داخلا على الاسم في المعنى لا على الفعل وإن جعلت أو بمعنى إلا وجب إضمار أن أيضا لأن الاستثناء حينئذ من عام الظرف الزماني

(2/234)


وذلك مثل قول الله عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} "آل عمران: 128" أي حتى يتوب عليهم, أو إلا أن في بعض الأقاويل, لأن العطف لم يحسن الفعل على الاسم وللمستقبل على الماضي فسقطت حقيقته واستعير لما يحتمله وهو الغاية لأن كلمة أو لما تناولت أحد المذكورين كان احتمال كل واحد منهما متناهيا بوجود صاحبه فشابه الغاية من هذا الوجه فاستعير
ـــــــ
فيلزم أن يكون المثنى ظرفا زمانيا أيضا ولا يمكن ذلك إلا إذا كان ما بعد إلا مصدرا مضافا إليه الزمان على نحو إلا وقت إعطائك فوجب إضمار أن ليكون المضارع في تقدير المصدر وكان المعنى لزومي إياك واقع في كل الأوقات إلا وقت إعطائك وموضع ذلك أي موضع أن يجعل أو بمعنى حتى أو إلا أن أن يفسد العطف لاختلاف الكلام بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا أو يكون أحدهما ماضيا والآخر مستقبلا ويحتمل ضرب الغاية بأن كان محتملا للامتداد. وذلك أي الموضع الذي جعل أو فيه بمعنى حتى أو إلا أن مثل قوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فإن أو هنا بمعنى حتى أو إلا أن في بعض الأقاويل ومعناه على هذا القول ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيء حتى يقع توبتهم أو تعذيبهم وما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتجاهد حتى تظهر الدين وذلك لأن العطف لما لم يحسن لأن قوله أو يتوب إما إن كان معطوفا على شيء أو ليس على هذا القول فيلزم عطف الفعل على الاسم أو المستقبل على الماضي. سقطت حقيقته أي حقيقة أو ووجب العمل بمجازه فاستعير لما يحتمله وهو الغاية لأن معنى أو يناسب معنى الغاية لأنه لما تناول أحد المذكورين كان تعيين كل واحد منهما باعتبار الخيار قاطعا لاحتمال الآخر وهذا يناسب معنى الغاية. وكذا يناسب معنى الاستثناء لما قلنا فلذلك جعل بمعنى حتى أو إلا
وذكر في الكشاف أن قوله تعالى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عطف على ما قبله وليس لك من الأمر شيء اعتراض والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وقيل أو يتوب منصوب بإضمار أن وأن يتوب في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أو على شيء أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم وقيل أو بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو تعذيبهم فيتشفى منهم.

(2/235)


للغاية والكلام يحتمله لأنه للتحريم وهو يحتمل الامتداد وكذلك يقال والله لا أفارقك أو تقضيني حقي معناه حتى تقضيني حقي أو إلا أن تقضيني حقي وهذا كثير في كلام العرب لا يحصى وعلي هذا قال أصحابنا فيمن قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخري أن معناه حتي أدخل هذه فإن دخل الأولي
ـــــــ
قوله "والكلام يحتمله" أي تقبل معنى الغاية لأنه للتحريم فإنه روي في سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن أن يدعو عليهم فنهي عن ذلك وروي أنه لما شج وجهه عليه السلام يوم أحد سأله أصحابه أن يلعنهم ويدعو بهلاكهم فقال عليه السلام: "ما بعثني الله لعانا ولا طعانا ولكن بعثني داعيا ورحمة اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" فنزلت الآية ونهي عن سؤال الهداية لهم فلما كان الكلام للتحريم كان محتملا للغاية. "وهذا كثير في كلام العرب" يعني أو بمعنى حتى وإلا أن كثير في كلامهم مثل قول امرئ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
ومثل قول الآخر:
لا أستطيع نزوعا عن مودتها ... أو يصنع البين بي غير الذي صنعا
قوله "وعلى هذا" أي على أن أو يحتمل معنى الغاية قال أصحابنا إذا قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى أن أو في هذه المسألة بمعنى حتى فيحنث بدخول الأولى أولا وإن دخل الأخرى أولا بر في يمينه لأنه لما لم يكن بين النفي والإثبات ازدواج تعذر العطف والكلام يحتمل الغاية لأنه تحريم فتركت الحقيقة وحملت على الغاية مجازا فإذا دخل الأولى قبل الأخرى فقد باشر المحظور بيمينه فحنث وإذا دخل الثانية أولا فقد أصر على البر إلى وجود الغاية فصار بارا كما لو. قال والله لا أدخلها اليوم فلم يدخل حتى غربت الشمس كذا ذكر في عامة شروح الجامع إلا أن تعذر العطف باعتبار النفي والإثبات غير مسلم عند النحاة فإن النفي يعطف على الإثبات وعلى العكس يقال جاءني زيد وما جاءني عمرو وما رأيت عمرا لكن رأيت بشرا قال الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} "الأنعام: 82" فالأولى أن يقال تعذر العطف باعتبار عدم تقدم فعل منصوب يعطف الثاني عليه حتى لو قال أو أدخل بالرفع ينبغي أن يصح العطف ويثبت التخيير أو يقال تعذره باعتبار أن الفعل المضارع مع أن في حكم الاسم وانتصابه ههنا لا يصح إلا بإضمار أن فيلزم منه عطف الاسم على الفعل وهو فاسد فلذلك جعل بمعنى الغاية.

(2/236)


أولا حنث وإن دخل الأخيرة أولا انتهت اليمين وتم البر لما قلنا إن العطف متعذر لاختلاف الفعلين من نفي وإثبات والغاية صالحة لأن أول الكلام حظر وتحريم فلذلك وجب العمل بمجازه والله أعلم
ـــــــ
وقوله والغاية صالحة احتراز عن قوله والله لا أدخل هذه الدار أبدا أو لأدخلن هذه الدار الأخرى اليوم فإن أو في هذه المسألة ليس بمعنى الغاية لأنه وإن جمع بين النفي والإثبات والازدواج بينهما لكن النفي مؤبد والإثبات موقت والموقت لا يصلح غاية للمؤبد لأن المؤبد لا ينتهي إلا بالموت وإذا تعذر جعله غاية وجب العمل بالتخيير فيصير ملتزما الكفارة بإحدى اليمينين كأنه قال: إن حنثت في هذه اليمين أو في هذه اليمين فعلي كفارة وشرط الحنث في اليمين الأولى الدخول في الدار الأولى وفي الثانية ترك الدخول في الدار الثانية في اليوم فإذا دخل الأولى حنث في اليمين الأولى وبطلت اليمين الثانية لأنه خير نفسه في التزام الحنث بإحدى اليمين فإذا لزمه الحنث بأحديهما بطلت الأخرى كما لو قال لامرأته أنت طالق إن دخلت هذه الدار أو لم أدخل هذه الدار اليوم فحنث في أحدهما لزمه جزاؤه وبطل الآخر. ولو لم يدخل الأولى ودخل الدار الثانية اليوم بر في اليمين الثانية وبطلت الأولى لأنه اختار يمين الإثبات وإن لم يدخلهما حتى مضى اليوم حنث في الثانية لأن شرط البر فيها الدخول في الدار الثانية في اليوم وقد فات فيحنث فيها وتبطل الأولى لما قلنا كذا في شرح الجامع لشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله.

(2/237)


"باب حتى"
هذه كلمة أصلها للغاية في كلام العرب هو حقيقة هذا الحرف لا يسقط ذلك عنه إلا مجازا ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه وقد وجدناها تستعمل
ـــــــ
"باب كلمة حتى"
كلمة حتى من الحروف الجارة كما هي من الحروف العاطفة فأفردها الشيخ بباب على حدة وأورد الباب بين باب حروف العطف وباب حروف الجر رعاية للتناسب, "هذه كلمة أصلها للغاية" أي هي في أصل الوضع للغاية في كلامهم, "هو حقيقة هذا الحرف" أي معنى الغاية هو المعنى الحقيقي لهذا الحرف لا يسقط معنى الغاية عنه أي عن هذا الحرف, "إلا مجازا" أي إلا إذا استعملت مجازا كما إذا استعملت للعطف المحض في الأفعال فإن معنى الغاية غير مراد حينئذ كسائر الحقائق إذا استعملت في غير موضوعاتها ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه اللام متعلقة بقوله هو حقيقة هذا الحرف والضمير المستكن في يخصه إما أن يكون راجعا إلى الحرف والبارز إلى معنى أو على العكس أي إنما قلنا معنى الغاية حقيقة هذا الحرف ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخص ذلك الحرف بذلك المعنى فينتفي الاشتراك أو يخص ذلك المعنى بذلك الحرف فينتفي الترادف.
فإن قيل: كيف ينتفي الترادف وقد وضع للغاية حرف إلى أيضا. قلنا قد ثبت الفرق المانع من الترادف بينهما وذلك أن الغاية في حتى يجب أن تكون موضوعة بأن تكون شيئا ينتهي به المذكور أو عنده كالرأس للسمكة والصباح للبارحة ولا يشترط ذلك في إلى فامتنع قولك نمت البارحة حتى نصف الليل وصح نمتها إلى نصف الليل قال الله تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} "المائدة: 6". واليد من رءوس الأصابع إلى المنكب ومن ذلك لا يدخل حتى على مضمر فلا يقال حتاه بخلاف إلى فإنه يدخل على المضمر والمظهر جميعا لأن الغاية في "حتى" لما وجب أن يكون آخر جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء منه والمضمر لا يمكن أن يكون جزءا من الشيء بل هو نفسه امتنع دخوله على المضمر ولما لم يشترط ذلك في إلى لم يمتنع دخوله على المضمر. وذكر في كتاب

(2/238)


للغاية لا يسقط عنها ذلك فعلمنا أنها وضعت له فأصلها كمال معنى الغاية فيها وخلوصها لذلك بمعنى إلى كقول الله عز وجل {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} "القدر: 5" وتقول أكلت السمكة حتى رأسها أي إلى رأسها فإنه بقي أي بقي الرأس وهذا
ـــــــ
بيان حقائق الحروف أن إلى لانتهاء له ابتداء فيما يدل عليه على نقيض من تقول خرجت من البصرة إلى الكوفة فمن لابتداء الغاية وإلى لانتهاء بها ولا يجوز أن يستعمل حتى في مقابلة من لا يقال خرجت من البصرة حتى الكوفة وذلك لأن إلى أصل في الغاية لا تخرج من معناها إلى معنى آخر وحتى ضعيف في معنى الغاية فإنها تخرج إلى غيرها من المعاني.
قوله "وقد وجدناها تستعمل للغاية" جواب عما يقال قد سلمنا أن الأصل في الكلمة أن تكون موضوعة لمعنى خاص ولكن لا نسلم أن ذلك المعنى هو الغاية هاهنا بل يحتمل أن يكون غيره لكونها مستعملة في غيره. فقال قد وجدناها مستعملة في الغاية بحيث لا تسقط معنى الغاية عنها وإن استعملت في معان أخر كما سنبين فعرفنا أن معنى الغاية هو المعنى الأصلي لهذا الحرف وأنه موضوع لهذا المعنى.
قوله "فإنه بقي" اعلم أن مذهب أكثر النحاة أن ما بعد حتى ليس بداخل فيما قبلها كما في إلى ففي قولهم أكلت السمكة حتى رأسها ونمت البارحة حتى الصباح لم يؤكل الرأس وما نيم الصباح وذلك لأن الأصل في الغاية أن لا تكون داخلة في المغيا لما عرف. ويؤيده قوله تعالى {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} "القدر: 5". فإنه إن وقف على سلام لم يدخل مطلع الفجر تحت حكم الليلة. وكذا إن لم يقف لأن سلام الملائكة ينتهي عند طلوع الفجر على ما روي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن جبريل عليه السلام ينزل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر يركزه فوق الكعبة ثم يتفرق الملائكة في الناس حتى تسلموا على كل قائم وقاعد وذاكر وراكع وساجد إلى أن يطلع الفجر" . وقد صرح في شرح الملحمة فقيل ما أكل الرأس وما نيم الصباح في مسألتي السمكة والبارحة.
وذهب الإمام عبد القاهر إلى أن ما بعد حتى داخل فيما قبلها نص عليه في "المقتصد" فقال ويكون ما بعد حتى داخلا فيما قبله ألا ترى أنك إذا قلت أكلت السمكة حتى رأسها كان المعنى أن الأكل قد اشتمل على الرأس. وكذا قولك ضربت القوم حتى زيدا لمعنى أن زيدا قد ضربته. قال وإذا كانت عاطفة كان مجراها مجرى الجارة في تضمن معنى الغاية تقول ضربت القوم حتى زيدا ومررت بالقوم حتى زيد وجاءني القوم

(2/239)


على مثال سائر الحقائق ثم قد يستعمل للعطف لما بين العطف والغاية من المناسبة مع قيام معنى الغاية تقول جاءني القوم حتى زيد ورأيت القوم حتى
ـــــــ
حتى زيد. وقد صرح بأن في مسائل السمكة الثلاث ومسائل البارحة الثلاث قد أكل الرأس ونيم الصباح. وتابعه في ذلك جار الله فقال في المفصل ومن حقها أن يدخل ما بعدها فيما قبلها ففي مسألتي السمكة والبارحة قد أكل الرأس ونيم الصباح. وذلك لأن الغرض أن ينقضي الشيء الذي تعلق به الفعل شيئا فشيئا حتى يأتي الفعل على ذلك الشيء كله فلو انقطع الأكل عند الرأس لا يكون فعل الأكل آتيا على السمكة كلها ولذلك امتنع أكلت السمكة حتى نصفها لأن الغرض لما كان ما ذكرنا وهو قد فات في الغاية الجعلية خلا الكلام عن الفائدة فلم يصح.
ورأيت في نسخة من شروح النحو أن كلمة حتى إذا كانت للغاية لا تدخل الغاية تحت ما ضربت له الغاية وهكذا قال ابن جني1 وإليه كان يميل الشيخ أبو منصور السفار والشيخ الإمام علي البزدوي ولكن لا يستقيم هذا على الإطلاق بل نقول إن كان المذكور بعد حتى بعضا للمذكور قبله يدخل تحت ما ضربت له الغاية وإن لم يكن لا يدخل على هذا نص المبرد2 في كتاب المقتضب وابن الوراق في الفصول3 والفراء في المعاني وهكذا ذكر السيرافي4 أيضا.
مثال الأول زارني أشراف البلدة حتى الأمير وسبني الناس حتى العبيد. ومثال الثاني قرأت القرآن حتى الصباح فالصباح لا يكون داخلا لأنه ليس بعض الليل وكان حتى هاهنا بمعنى إلى. فتبين بما ذكرنا أن ما ذكر الشيخ في الكتاب هو اختيار مذهب الأكثر وعرفت به أيضا أن ما وقع عند البعض أن ما ذكره الشيخ سهو لأنه خلاف ما في الكتب المشهورة أو تصحيف فإنه من النفي لا من البقاء ومعناه أكل وهم بين وتكلف ظاهر.
قوله "ثم قد يستعمل" أي حرف حتى للعطف أي فيه أو يضمن يستعمل معنى يستعار لما بين الغاية والعطف من المناسبة من حيث إن المعطوف يتصل بالمعطوف عليه ويتوقف عليه والغاية تتصل بالمغيا وتترتب عليه ولكن مع قيام معنى الغاية.
ـــــــ
1 هو عثمان بن جني الموصلي أبو القتح توفي سنة 392ه أنظر وفيات العيان 3/246-248.
2 هو العباس محمد بن يزيد بن عبدالأكبر بن عمير بن حسان الأزدي ولد سنة 210ه توفي سنة 285ه أنظر وفيات الأعيان 4/313-322.
3 ابن الوراق هو محمد بن عبدالله بن العباس البغدادي أبو الحسن هدية العارفين 2/52.
4 هو أبو سعيد السرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان ولد سنة 280ه توفي سنة 368ه أنظر معجم الأدباء 8/145-232.

(2/240)


زيدا فزيدا إما أفضلهم وإما أرذلهم ليصلح غاية ألا ترى إلى قولهم استنت الفصال حتى القرعى فجعل عطفا هو غاية فكانت حقيقة قاصرة وعلى هذا أكلت السمكة حتى رأسها بالنصب أي أكلته أيضا وقد تدخل على جملة مبتدأة على مثال واو العطف إذا استعملت لعطف الجمل وهي غاية مع ذلك فإن
ـــــــ
قال الإمام عبد القاهر وإذا كانت هذه الكلمة عاطفة كانت مجراها مجرى الجارة في تضمن معنى الغاية تقول ضربت القوم حتى زيدا ومررت بالقوم حتى زيد وجاءني القوم حتى زيد بذلك على تضمنه معنى العطف إنك لو حررت كان المعنى صحيحا وإنما يتغير بالعطف الحكم وهو أنها تتبع الثاني الأول كالواو. ويكون لتعظيم نحو قولهم مات الناس حتى الأنبياء. أو تحقير مثل قولهم قدم الحاج حتى المشاة. وحتى هذه مخالفة لسائر حروف العطف في أن ما بعدها يجب أن يكون مجانسا لما قبلها فلا تقول ضربت القوم حتى حمارا وضربت الرجال حتى امرأة كما تقول ضربت القوم وحمارا وذلك لأنها للغاية والدلالة على أحد طرفي الشيء ولا يتصور أن يكون طرف الشيء من غيره فلو قلت رأيت القوم حتى حمارا كنت جعلت الحمار طرفا للقوم منقطعا لهم ولهذا كان فيها التعظيم والتحقير لأن الشيء إذا أخذ من أدناه فأعلاه غاية له وطرف فالأنبياء غاية جنس الناس إذا أخذنا من المراتب واستقويناها صاعدين. وإذا أخذ من أعلى الشيء فأدناه طرف له وذلك كالمشاة في الحاج تأخذ من الأقوياء الراكبين وتنزل فتنتهي إلى المشاة وهي منقطع الجنس كما كان الأنبياء في الوجه الأول.
وعلى هذا قالوا لو قال أعتقت غلماني حتى فلانة أو أعتقت إمائي حتى سالما لم يعتق ما دخل عليه كلمة حتى لأن الغلمان والإماء جنسان مختلفان. ولو قال أعتقت سالما حتى مباركا أو حتى مبارك لا يعتق مبارك لأنه ليس بجزء لسالم. بخلاف ما لو قال إلى مكان حتى في هذه المسائل فإنهم يعتقون جميعا لإمكان حمل إلى على معنى مع كما في قوله تعالى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} "النساء: 2". كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قولهم استنت الفصال حتى القرعى. الاستنان هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا وذلك في حالة العدو. والقرعى جمع قريع وهو الذي به قرع وهو بثر أبيض يخرج بالفصال. هذا مثل يضرب لمن يتكلم مع من لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه لعلو قدره. فجعل عطفا هو غاية لانتهاء الاستنان باستنانها فكانت حقيقة قاصرة من حيث إنها لم تخلص للغاية. "وعلى هذا" أي على أنها تستعمل للعطف مع رعاية معنى الغاية. "وقد تدخل" أي هذه الكلمة على جملة لا للعطف بل تستأنف بعدها كما تستأنف بعد أما وإذا تقول خرجت

(2/241)


كان خبر المبتدأ مذكورا فهو خبره وإلا فيجب إثباته من جنس ما قبله تقول ضربت القوم حتى زيد غضبان فهذه جملة مبتدأة هي غاية معنى ومن ذلك أكلت السمكة حتى رأسها إلا أن الخبر غير مذكور هنا فيجب إثباته من جنس ما سبق على احتمال أن ينسب إليه أو إلى غير أعني حتى رأسها مأكولي أو مأكول غيري ومواضعها في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى أو غاية هي جملة مبتدأة وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد وأن يصلح الآخر دلالة على الانتهاء.
ـــــــ
النساء حتى هند خارجة ولهذا جاز إدخال واو العطف عليها كما في قول امرئ القيس:
مطوت بهم حتى يكل غريمهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان.
فالجياد مبتدأ وما يقدن خبره والواو داخلة عليه لأن حتى هذه ليست بعاطفة ولو كانت حرف عطف لم يجز دخول حرف آخر عليها كما لم يجز إذا كان حرف عطف قطعا في قولك ضربت القوم حتى زيدا ألا تراك لا تقول ضربت القوم وفعمرا فقوله وحتى الجياد بمنزلة قوله وأما الجياد في كون ما بعدهما مبتدأ. على مثال واو العطف إذا استعملت لعطف الجمل فإنها في هذا المحل للابتداء لا للعطف عند البعض ولهذا سموها واو الاستئناف والابتداء "فهذه جملة هي غاية" أي للضرب فإنه ينتهي بها على احتمال أن ينسب أي ذلك الخبر المثبت من جنس ما قبله. إليه أي إلى المتكلم
قوله "ومواضعها" أي مواضع كلمة حتى في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى من غير أن تكون جملة, مبتدأة كقوله سرت حتى أدخلها. أو غاية هي جملة مبتدأة كقولك خرج النساء حتى خرجت هند وذلك لأن هذه الكلمة في الأصل للغاية فوجب العمل به ما أمكن.
فإن قيل لما جعلت بمعنى إلى كيف جاز دخولها على الفعل لأنها إذ ذاك حرف جر. قلنا إنما جاز ذلك لكون أن مقدرا في ذلك الفعل وأن مع الفعل في حكم الاسم فتكون داخلة على الاسم تقديرا ويكون ما دخل عليه مجرور المحل بها. وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد بأن صلح فيه ضرب المدة. وأن يصلح الآخر دلالة على الانتهاء كالصياح في قوله إن لم أضربك حتى تصيح فإن لم يوجد أحد المعنيين لا يمكن جعلها للغاية. فإذا قال عبدي حر إن لم نخبر فلانا بما صنعت حتى يضربك لا يمكن أن يجعل حتى هاهنا للغاية لأن الإخبار مما لا يمتد فيجعل بمعنى لام كي فإذا أخبره ولم يضربه بر في يمينه لأن شرط البر الإخبار لا غير وقد وجد. ولو قال عبده حر إن لم أضربك حتى تضربني أو تشتمني فضربه ولم يضربه المضروب بر أيضا لأن الضرب وإن كان فعلا ممتدا

(2/242)


فإن لم يستقم فللمجازاة بمعنى لام كي وهذا إذا صلح الصدر سببا ولم يصلح الآخر غاية وصلح جزاء وهذا نظير قسم العطف من الأسماء فإن تعذر هذا جعل مستعارا للعطف المحض وبطل معنى الغاية وعلى هذا مسائل أصحابنا في
ـــــــ
لكن الضرب والشتم من المضروب لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى زيادة الضرب فلا يمكن أن يجعل غاية فيحمل على الجزاء. قال شمس الأئمة رحمه الله مراده إظهار عجزه عن الضرب لا وجود فعل الضرب منه ومعناه أنا أضربك حتى تضربني إن قدرت على ذلك ولكنك لا تقدر فتبين للناس عجزك وضعفك بضربي إياك فإذا كان المقصود نفي فعل الضرب لا يمكن أن يجعل غاية. فإن لم يستقم "فللمجازاة" أي إن لم يستقم أن يجعل غاية لفوات المعنيين المذكورين أو أحدهما يحمل على المجازاة بمعنى لام كي لمناسبة بين المجازاة وبين الغاية لأن الفعل الذي هو سبب ينتهي بوجود الجزاء عادة كما ينتهي بوجود الغاية. "وهذا" أي الحمل على المجازاة إنما يكون إذا صلح الصدر سببا ولم يصلح الآخر غاية حتى لو صلح الآخر غاية مع كون الصدر صالحا للسببية يجعل للغاية كقوله إن أضربك حتى تصبح فعبدي حر. وهذا نظير قسم العطف من الأسماء أي حتى التي للمجازاة في الأفعال نظير حتى العاطفة في الأسماء من حيث إن معنى الغاية باق فيها من وجه.
"فإن تعذر هذا" أي جعلها للمجازاة يجعل للعطف المحض. "وعلى هذا" أي على المعاني الثلاثة التي ذكرناها لها في الأفعال ثبت مسائل أصحابنا في الزيادات. وحاصله ما ذكر في الذخيرة أن كلمة حتى في الأصل للغاية فيحمل عليها إذا أمكن وشرط الإمكان أن يكون الفعل المغيا ممتدا وأن يكون ما دخلت عليه مؤثرا في إنهاء المحلوف عليه. فإن تعذر حملها على الغاية تحمل على لام السبب إن أمكن وشرط الإمكان أن يكون الحلف معقودا على فعلين أحدهما من شخص والأخر من شخص آخر لأن فعل نفسه لا يصلح جزاء لفعله عادة إذ الجزاء مكافأة الفعل وهو لا يكافئ نفسه عادة. فإن تعذر ذلك يحمل على العطف. ومن حكم الغاية أن يشترط وجودها للبر فإن أقلع قبل الغاية يحنث في يمينه. ومن حكم لام السبب أن يشترط وجود ما يصلح سببا لا وجود المسبب. ومن حكم العطف أن يشترط وجودهما للبر قوله. قال الله تعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} و {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} و {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . كلمة حتى في هذه الآيات بمعنى إلى لأن صدر الكلام وهو قوله عز اسمه {قَاتِلُوا} "التوبة: 29". وقوله {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} "النساء: 43". وقوله. {لا تَدْخُلُوا} ."النور: 27" يحتمل الامتداد إذ المقاتلة تمتد يوما ويومين وأكثر

(2/243)


الزيادات ولهذه الجملة ما خلا المستعار المحض ذكر في كتاب الله تعالى قال الله تعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} "التوبة: 29" {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} "النساء: 43" هي بمعنى إلى وكذلك {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} "النور: 27" ومثله كثير {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} "البقرة: 193"
ـــــــ
وقبول الجزية يصلح منهيا لها. وكذا المنع من أداء الصلاة جنبا ممتد والاغتسال يصلح منهيا لها. وكذا المنع من دخول بيت الغير ممتد والاستئناس وهو الاستئذان يصلح منهيا له
قوله قال الله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي كي لا يكون فتنة أي محاربة. وإنما جعلت حتى هذه بمعنى لام كي لأن آخر الكلام لا يصلح لانتهاء الصدر إذ القتال واجب مع عدم المحاربة فإنهم وإن لم يبدؤنا بالقتال وجب علينا محاربتهم وصدر الكلام يصلح سببا لانتفاء الفتنة فوجب الحمل على لام كي. وهذا إذا فسرت الفتنة بالمحاربة فإن فسرت بالشرك يكون حتى بمعنى إلى على ما ذكر في الكشاف {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلى أن يوجد منهم شرك قط {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} ويضمحل عنهم كل دين باطل. ويبقى فيهم دين الإسلام وحده قوله قال الله تعالى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} أول الآية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} "البقرةى 214" أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات. ولما فيها معنى التوقع أي إتيان ذلك متوقع منتظر أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة من غير بلاء ولا مكروه {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ} "البقرة: 214". أي حالهم التي هي مثل في الشدة. ثم بين المثل فقال {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} "البقرة: 214" الشدة {وَالضَّرَّاءُ} "البقرة: 214" المرض والجوع {وَزُلْزِلُوا} "البقرة: 214" وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} "البقرة: 214" قرئ بالنصب والرفع وللنصب وجهان. أحدهما أن تكون حتى بمعنى إلى أي حركوا بأنواع البلايا إلى الغاية التي قال الرسول وهو اليسع أو شعيب {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمن الشدة {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} "البقرة: 214". على إرادة القول يعني فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر فعلى هذا الوجه لا يكون فعلهم أي زلزلتهم وامتحانهم بالبلايا سببا لمقالة الرسول بل ينتهي فعلهم عند مقالته.
ولا يقال ليس لهم فعل بل وقع الزلزال عليهم فكيف جعل ذلك فعلهم.
لأنا نقول لما زلزلوا كان التزلزل موجودا منهم لأنهم إذا حركوا كان التحرك موجودا

(2/244)


و"الأنفال: 39" وقال {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} "البقرة: 214" بالنصب وجهين أحدهما إلى أن يقول الرسول فلا يكون فعلهم سببا لمقالة الرسول وينتهي فعلهم عند مقالته على ما هو موضوع الغايات أنها إعلام الانتهاء من غير أثر والثاني وزلزلوا لكي يقول الرسول فيكون فعلهم سببا لمقالته وهذا لا يوجب الانتهاء وقرئ حتى يقول بالرفع على معنى جملة مبتدأة أي حتى الرسول يقول ذلك فلا يكون فعلهم سببا ويكون متناهيا به وقال محمد في الزيادات في رجل قال لرجل عبدي حر إن لم أضربك حتى تصبح أو حتى تشكي يدي أو حتى يشفع فلان أو حتى يدخل الليل أن هذه غايات حتى إذا أقلع قبل الغايات حنث لأن الفعل بطريق التكرار يحتمل الامتداد في حكم البر
ـــــــ
منهم خصوصا على اصطلاح أهل النحو فإنهم هم الفاعلون بسبب أن الزلزال أسند إليهم على بناء المفعول. "على ما هو موضوع الغايات أنها أعلام الانتهاء من غير أثر" يعني أن الغاية علامة على انتهاء المغيا من غير أن يكون لها أثر في انتهائه كالميل للطريق والمنارة للمسجد والإحصان للرجم فإنها أعلام على هذه الأشياء من غير أن يضاف إليها وجود تلك الأشياء. أو معناه من غير أن يكون للمغيا أثر في إيجاد الغاية وإثباتها كحدود الدار أعلام على انتهائها من غير أن يكون للدار أثر في إيجادها.
والوجه الثاني أن يكون بمعنى لام كي كقولك أسلمت حتى أدخل الجنة أي وزلزلوا لكي يقول الرسول ذلك القول. فعلى هذا يكون فعلهم أي زلزلتهم سببا لمقالته وهو لا يوجب الانتهاء بل يكون داعيا إليه. ووجه الرفع أن يكون الفعل بعده بمعنى الحال كقولهم شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه إلا أنها حال ماضية محكية فعلى هذا الوجه بقي فيه معنى الغاية ويكون هذا نظير قوله أو غاية وهي جملة مبتدأة قوله "لأن الفعل" أي الفعل المحلوف عليه وهو الضرب. يحتمل الامتداد بطريق التكرار يعني لا امتداد لفعل ما حقيقة لأنه عرض لا يبقى فلا يتصور امتداده لكن بعض الأفعال قد يحتمل الامتداد بتجدد الأمثال من غير فصل كالجلوس والركوب. والضرب من هذا القبيل فكان شرط البر وهو المد إلى الغاية المضروبة له متصورا وإذا كان محتملا للامتداد بالطريق الذي قلنا كان الكف عنه أي عن الفعل المحلوف عليه بأن يقلع قبل الغاية محتمل هذا الفعل لا محالة فيكون شرط الحنث متصورا أيضا ولا بد من تصور شرط الحنث لانعقاد اليمين حتى لو قال والله لأقتلن فلانا. وفلان ميت وهو لا يعلم بموته لا يحنث لأن شرط الحنث غير متصور هنا كشرط البر كذا في بعض الشروح.

(2/245)


والكف عنه محتمله في حكم الحنث لا محالة وهذه الأمور دلالات الإقلاع عن الضرب فوجب العمل بحقيقتها فصار شرط الحنث الكف عنه قبل الغاية ولو قال عبدي حر إن لم آتك حتى تغديني فأتاه فلم يغده لم يحنث لأن قوله حتى تغديني لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى زيادة الإتيان والإتيان يصلح سببا والغداء يصلح جزاء فحمل عليه لأن جزاء السبب غايته فاستقام العمل به فصار شرط بره فعل الإتيان على وجه يصلح سببا للجزاء بالغداء وقد
ـــــــ
وهذه الأمور أي الأفعال المذكورة من الصيام واشتكاء اليد أي تألمها وشفاعة فلان ودخول الليلة دلالات الإقلاع أي الإمساك والكف عن الضرب لأن الإنسان يمتنع عن الضرب بها. فوجب العمل بحقيقتها أي بحقيقة الغاية وحمل حتى عليها فإذا أقلع قبل الغاية كان حانثا.
فإن قيل شرط البر متصور الوجود في الزمان الثاني فلماذا يحنث في الحال. قلنا اليمين تقع على أول الوهلة لأن الحامل على اليمين غيظ لحقه من جهته في الحال هذا هو العادة فيتقيد به اليمين. وهذا الذي ذكرنا إذا لم يغلب على الحقيقة عرف كما في الأمثلة المذكورة فإن غلب عليها عرف ظاهر وجب العمل به لأن الثابت بالعرف بمنزلة الحقيقة حتى لو قال إن لم أضربك حتى أقتلك أو حتى تموت كان هذا على الضرب الشديد لا على حقيقة القتل والموت للعرف فإنه متى كان قصده القتل لا يذكر لفظة الضرب وإنما يذكر ذلك إذا لم يكن قصده القتل وجعل القتل غاية لبيان شدة الضرب معتاد متعارف. ولو قال حتى يغشى عليك أو حتى تبكي كان على حقيقة الغاية لأن الضرب إلى هذه الغاية معتاد كذا قال شمس الأئمة رحمه الله
قوله "حتى تغذيني لا يصلح دليلا على الانتهاء" التغذية لا تصلح دليلا على انتهاء الإتيان وكذا الإتيان ليس بمستدام أيضا. ألا ترى أنه لا يصح ضرب المدة فيه ففات شرطا الغاية جميعا ولكنه يصلح سببا للتغذية لأن الإتيان على وجه التعظيم والزيارة إحسان بدني إلى المزور فيصلح سببا لإحسان مالي منه إلى الزائر وعن هذا قيل من زار حيا ولم يذق عنده شيئا فكأنما زار ميتا. والتغذية صالحة للجزاء لأنها إحسان أيضا فيصلح مكافأة للإحسان.
وقوله "على وجه يصلح سببا للجزاء" بأن يكون على وجه التعظيم والزيارة احتراز عن الإتيان على وجه التحقير بأن أتاه ليضربه أو يشتمه أو يؤذيه فإنه لا يصلح سببا للتغذية فلا يكون شرطا للبر. وكذا الحكم في قوله إن لم تأتني حتى أغذيك. ولو قال:

(2/246)


وجد ولو قال عبدي حر إن لم آتك حتى أتغدى عندك كان هذا للعطف المحض لأن هذا الفعل إحسان فلا يصلح غاية للإتيان ولا يصلح إتيانه سببا لفعله ولا فعله جزاء لإتيان نفسه فإذا كان كذلك حمل على العطف المحض وكذلك إن لم آتك حتى أغديك فصار كأنه قال إن لم آتك فأتغدى عندك حتى
ـــــــ
عبدي حر إن لم آتك حتى أتغذى عندك أو قال إن لم تأتني حتى تغذيني فعبدي حر كان حتى للعطف المحض من غير رعاية معنى الغاية فيه. لأن هذا الفعل أي التغذي من غذاء الغير عند الإباحة إحسان قال عليه السلام: "لو دعيت إلى كراع لأجبت" . ألا ترى أن ترك الأكل عند الإباحة إساءة ودليل على العداوة حتى أوجس الخليل صلوات الله عليه خيفة في نفسه من الضيف إذ لم يأكلوا من ضيافته وإذا كان كذلك لا يصلح منهيا للإتيان. أو المراد من الفعل التغذية أي التغذية التي يبتنى عليها الغذي إحسان لما ذكرنا فلا تصلح غاية للإتيان بل هي داعية إليه إذ الإنسان عبيد الإحسان فلا يمكن حمل حتى على الغاية ولا يصلح إتيانه سببا لفعله أي الفعل نفسه كما أن فعله لا يصلح جزاء لإتيانه فتعذر حمله على المجازاة أيضا فحمل على العطف بمعنى الفاء أو بمعنى ثم لأن التعقيب يناسب معنى الغاية فيتوقف البر على وجود الفعلين بوصف التعقيب كما لو قال إن لم آتك فأتغذى عندك.
قوله "حتى إذا أتاه فلم يتغذ" إلى آخره. اعلم أن هذه المسألة على وجهين. أما إن وقت باليوم بأن قال إن لم آتك اليوم حتى أتغذى عندك. أو لم يوقت. فإن وقت فشرط البر وجود الفعلين في اليوم وشرط الحنث عدم أحدهما فيه حتى إذ أتاه في اليوم وتغذى عنده في ذلك اليوم متصلا بالإتيان أو متراخيا عنه كان بارا لوجود شرط البر. إلا إذا عنى الفور فيشترط وجود الفعلين بصفة الاتصال. وإن لم يوقت كان شرط البر وجود الفعلين في العمر بصفة الاتصال أو التراخي إذا لم ينو الفور وشرط الحنث عدم أحدهما في العمر هذا حاصل ما ذكر في عامة نسخ الزيادات. وهكذا ذكر الشيخ في شرح الزيادات أيضا فقال إذا قال إن لم آتك حتى أتغذى عندك اليوم أو إن لم تأتني حتى تتغذى عندك اليوم فكذا فأتاه ثم لم يتغذ عنده في ذلك اليوم حنث لأن شرط البر وجود الأمرين في اليوم ولم يوجد. وإن لم يوقت باليوم لا يحنث لأنه يرجى البر وهو التغذي في وقت آخر وهكذا ذكر شمس الأئمة في شرح الزيادات أيضا.
وإذا تحققت هذا علمت أن في قوله في الكتاب حتى إذا أتاه فلم يتغذ ثم تغذى من بعد غير متراخ فقد بر نوع اشتباه لأن لقوله فلم يتغذ مع قوله تغذى من بعد غير متراخ نوع منافاة. وظني أن المسألة كانت موضوعة في الكتاب في اليوم مثلها في أصول شمس

(2/247)


إذا أتاه فلم يتغد ثم تغدى من بعد غير متراخ فقد بر وإن لم يتغذ أصلا حنث وهذه استعارة لا يوجد لها ذكر في كلام العرب ولا ذكرها أحد من أئمة النحو واللغة فيما أعلم لكنها استعارة بديعة اقترحها أصحابنا على قياس استعارات العرب لأن بين العطف والغاية مناسبة من حيث يوصل الغاية بالجملة كالمعطوف وقد استعملت بمعنى العطف مع قيام الغاية بلا خلاف فاستقام أن يستعار لعطف المحض إذا تعذرت حقيقته وهذا على مثال استعارات أصحابنا في غير هذا الباب وينبغي أن يجوز على هذا جاءني زيد حتى عمرو
ـــــــ
الأئمة وعامة نسخ الزيادات فسقط لفظ اليوم عن قلم الكاتب. وعلى ذلك التقدير كان معنى ما ذكر في الكتاب حتى إذا أتاه أي في اليوم. فلم يتغذ عنده أي على فور الإتيان. ثم تغذى من بعد أي من بعد إن لم يتغذ على الفور. غير متراخ أي عن اليوم فقد بر. وإن لم يتغذ في اليوم أصلا حنث. فأما إذا أجريناها على إطلاقها كما هو المذكور في الكتاب فأنا لا أدري معنى قوله غير متراخ إذ لو قدرت غير متراخ عن الإتيان لا يستقيم ذلك مع قوله فلم يتغذ ولو قدرت غير متراخ عن العمر لا فائدة فيه إذ لا يتصور التغذي متراخيا عن العمر. وفي بعض الحواشي ثم تغذى من تغذى غير متراخ أي قبل الافتراق عن ذلك المجلس ولا أعرف صحته.
قوله "وهذه استعارة" أي استعارة حتى لمعنى العطف المحض من غير اعتبار معنى الغاية فيه بوجه استعارة لم توجد في كلامهم فإنهم لا يقولون رأيت زيدا حتى عمرا كما يقولون رأيت زيدا فعمرا أو ثم عمرا وكان ينبغي أن لا يجوز لأنها من باب اللغة ولم يوجد في لغتهم لكن هذه استعارة اقترحها محمد أي استخرجها بقريحته على طريقة استعاراتهم مع أن قوله مستغن عن الدليل فإن أئمة اللغة مثل أبي عبيد وغيره كانوا يحتجون بقوله فكان مستغنيا عن الدليل:
إذا قالت حذام فصدقوها. ... فإن القول ما قالت حذام.
وذكر ابن السراج1 أن المبرد سئل عن معنى الغزالة فقال هي الشمس كذا قاله محمد بن الحسن على أن في الاستعارة لا يشترط السماع بل يشترط المعنى المناسب الصالح للاستعارة على ما مر بيانه وقد وجد لما ذكر في الكتاب. "وهذا" أي ما ذكرنا من
ـــــــ
1 هو محمد السري بن سهل البغدادي أبو بكر توفي سنة 316ه أنظر الوافي بالوفيات 3/86-88.

(2/248)


وهذا غير مسموع من العرب وإذا استعير للعطف استعير لمعنى الفاء دون الواو لأن الغاية تجانس التعقيب
ـــــــ
استعارة حتى للعطف المحض على مثال استعارات أصحابنا. "في غير هذا الباب" أي باب حتى مثل استعارتهم البيع للنكاح والعتاق للطلاق والحوالة للوكالة ونحوها. "وإذا استعير" أي حتى للعطف "استعير بمعنى الفاء" أي بمعنى حرف يوجب التعقيب مثل الفاء أو ثم دون الواو لأن التعقيب أشد مناسبة ومجانسة للغاية من مطلق الجمع لوجود الترتيب فيهما. والإمام العتابي جعله بمعنى الواو فقال وإن تعذر الحمل على الجزاء يحمل على العطف كقولك جاءني القوم حتى زيد أي وزيد ثم قال في قوله إن لم آتك اليوم حتى أتغذى عندك تقديره إن لم آتك اليوم وأتغذى عندك والله أعلم.

(2/249)


"باب حروف الجر"
أما الباء فللإلصاق هو معناه بدلالة استعمال العرب وليكون معنى تخصه هو له حقيقة ولهذا صحبت الباء الأثمان فيمن قال اشتريت منك هذا العبد
ـــــــ
"باب حروف الجر"
سميت حروف الجر لأنها تجر فعلا إلى اسم نحو مررت بزيد أو اسما إلى اسم نحو المال لزيد. وسميت حروف الإضافة لأن وضعها على أن تفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء.
"الباء"
للإلصاق هو معناها بدلالة استعمال العرب وهو أقوى دليل في اللغة كالنص في أحكام الشرع. وليكون عطف على الدليل الأول معنى أي للاستعمال ولأجل أن يكون للباء معنى يختص الباء بذلك المعنى نفيا للاشتراك. "هو له حقيقة" أي يكون ذلك المعنى للباء معنى حقيقيا. ثم الإلصاق يقتضي طرفين ملصقا وملصقا به فما دخل عليه الباء فهو الملصق به والطرف الآخر هو الملصق ففي قولك كتبت بالقلم. الكتابة ملصق والقلم ملصق به ومعناه ألصقت الكتابة بالقلم. ولما كان المقصود في الإلصاق إيصال الفعل بالاسم دون عكسه إذ المقصود من قولك كتبت بالقلم ونحرت بالقدوم وقطعت بالسكين وضربت بالسيف ونحوها إلصاق هذه الأفعال بهذه الأشياء دون العكس كان الملصق أصلا والملصق به تبعا بمنزلة الآلة للشيء.
"ولهذا صحبت الباء الأثمان" أي لما ذكرنا أنها للإلصاق وأن الإلصاق يقتضي طرفين ملصقا وملصقا به والملصق هو الأصل والملصق به هو التبع صحبت الباء الأثمان لأن الثمن ليس بمقصود في البيع بل هو تبع بمنزلة الآلة. ألا ترى أن الغرض الأصلي في البيع الانتفاع بالمملوك وذلك يحصل بما هو مبيع لا بما هو ثمن لأنه في الغالب من النقود وهي ليست بمنتفع بها في ذواتها وإنما هي وسيلة إلى حصول المقاصد كالآلة

(2/250)


بكر من حنطة ووصفها أن الكر ثمن يصح الاستبدال به بخلاف ما إذا أضاف العقد إلى الكر فقال اشتريت منك كر حنطة ووصفها بهذا العبد أنه يصير سلما لا يصح إلا مؤجلا ولا يصح الاستبدال به لأنه إذا أضاف البيع إلى العبد جعله أصلا وألصقه بالكر فصار الكر شرطا يلصق به الأصل وهذا حد الأثمان التي هي شروط واتباع ولذلك قلنا في قول الرجل إن أخبرتني بقدوم فلان فعبدي حر أنه يقع على الحق لأن ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر ولكن مفعول الخبر محذوف بدلالة حرف الإلصاق كما يقول بسم الله أي بدأت به فيكون
ـــــــ
للشيء ولهذا يجوز البيع وإن لم يملك الثمن ولا يجوز بيع ما ليس عنده. إذا أدخل الباء في الكر الموصوف صار ثمنا بدلالة الباء وينعقد البيع مساومة ووجب الكر في الذمة حالا كما إذا سمي دراهم أو دنانير لأن المكيل والموزون مما يجب في الذمة ويصح التصرف فيهما قبل القبض بالاستبدال كما في سائر الأثمان. وإن أدخل الباء في العبد المشار وأضاف العقد إلى الكر الموصوف انعقد سلما ويصير العبد رأس مال السلم بدلالة الباء لأن رأس المال هو الثمن في السلم ويصير الكر مبيعا لإضافة العقد إليه فيعتبر شرائط السلم من التأجيل وقبض رأس المال في المجلس وعدم صحة الاستبدال به قبل القبض وبيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة رحمه الله.
قوله "إن أخبرتني بقدوم فلان" إلى آخره قال الشيخ رحمه الله في شرح الجامع الإخبار يقتضي مفعولين أحدهما الذي يبلغه والثاني الكلام الذي يصلح دليلا على المعرفة فإذا قال إن أخبرتني بقدوم فلان كان القدوم مشغولا بالخافض فلم يصلح مفعول الخبر لا حقيقة ولا مجازا لأن المشغول لا يشغل فاحتيج إلى مفعول آخر هو كلام كأنه قال إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدومه فبقي القدوم واقعا على حقيقته فعلا وإلصاق الخبر بالقدوم لا يتصور قبل وجوده والباء للإلصاق فلذلك اقتضى وجوده. فأما إذا قال إن أخبرتني أن فلانا قدم فالمخبر به هو القدوم وهو المفعول والقدوم بحقيقته لا يصلح مفعول الخبر فصار عبارة عن التكلم به فصار التكلم به شرطا للحنث كأنه قال إن تكلمت بهذا فعبدي حر. ولا يلزم عليه قوله إن كنت تحبيني بقلبك فكذا فقالت كاذبة أحبك حيث تطلق خلافا لمحمد مع أن محبته لم تلتصق بقلبها لأن اللسان جعل خلفا عن القلب لعدم إمكان الاطلاع على ما في القلب فلم يلتفت إليه فأما القدوم فأمر محسوس فاعتبر الإلصاق به. وهذا أيضا بخلاف قوله إن أعلمتني أن فلانا قدم فعبدي حر فأعلمه حيث لم يحنث إلا أن يكون حقا كما لو قال إن أعلمتني بقدومه لأن الإعلان ما يفيد

(2/251)


معناه إن أخبرتني أن فلانا قدم فإنه يتناول الكذب أيضا لأنه غير مشغول بالباء فصلح مفعولا وأن ما بعدها مصدر ومعناه إن أخبرتني خبرا ملصقا بقدومه والقدوم اسم لفعل وجود بخلاف قوله إن أخبرتني قدومه ومفعول الخبر كلام لا فعل فصار المفعول الثاني التكلم بقدومه وذلك دليل الوجود لا موجب له
ـــــــ
العلم, والباطل لا يسمى علما وإنما العلم اسم للحق فلم يكن الإخبار بالباطل إعلاما. فإن قيل الإخبار الإعلام والخبر العلم قال تعالى إخبارا {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} "الكهف: 68". أي علما ألا ترى أن الخبير من أسماء الله تعالى كالعليم بل أبلغ منه لأنه اسم للعليم بالأسرار الخفية ولهذا سمي الأكار خبيرا لعلمه بخبايا الأرض ومنه سمي الامتحان اختبارا فكان الإخبار والإعلام سواء فينبغي أن يقع على الحق في الصورتين كما في الإعلام. قلنا الحقيقة ما ذكرت لكن الخبر قد استعمل في العرف لما يصلح دليلا على المعرفة فصار ينطلق على الحق والكذب ألا ترى أنه يقال هذا خبر باطل وزور وكذب ولا يقال مثل ذلك في العلم فلهذا افترقا
قوله "لأن ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر" أي الإخبار لكونه معمول الباء فلا يصلح معمولا لشيء آخر. ولقائل أن يقول قد سلمنا أنه لا يصح معمولا لعامل آخر في الظاهر ولكن لا نسلم أنه لا يصح معمولا لشيء آخر من حيث المعنى والمحل فيكون مجرورا بالباء ومنصوب المحل بالفعل ألا ترى أن في قوله أخبرني بهذا الخبر زيد كان الطرف وهو الجار والمجرور المفعول الثاني من غير إضمار بشيء آخر إذ لا يستقيم فيه أخبرني خبرا ملصقا بهذا الخبر زيد فكذا هذا.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الباء للإلصاق حقيقة وقد يجيء للتعدية بمعنى الهمزة كقولك ذهب به وخرج به أي أذهبه وأخرجه والإخبار مما يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء ففيما أمكن جعله متعديا بنفسه وجب القول به لتبقى الباء على حقيقتها وإن لم يمكن ذلك جعل متعديا بالباء فمسألة الكتاب من القسم الأول وما ذكرت من القبيل الثاني فلذلك افترقا.
"وأن مع ما بعدها مصدر" أي في تأويل المصدر كما في قولك أعجبني أن زيدا قام أو قائم وبلغني أن عمرا منطلق معناه أعجبني قيام زيد وبلغني انطلاق عمرو وإذا كان في معنى المصدر صار في تأويل المفرد فصلح مفعولا ومفعول الخبر أي الإخبار كلام وهو أن يقول قدم فلان لا حقيقة فعل القدوم لأن الإخبار قول والقدوم فعل والفعل لا يصلح مفعول القول. يوضحه أن في قولك ضربت زيدا لا يكون مسمى زيد مفعولا لضربت لأن الشخص

(2/252)


لا محالة ولهذا قالوا في قول الرجل أنت طالق بمشيئة الله وبإرادته أنه بمعنى الشرط لأن الإلصاق يؤدي معنى الشرط ويفضي إليه وكذلك أخواتها على ما قال في الزيادات وقال الشافعي الباء للتبعيض في قول الله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}
ـــــــ
لا يتأثر بالقول حقيقة بل مفعوله لفظ زيد فكذلك حقيقة القدوم لا تصلح مفعول أخبرتني لأنه قول والقدوم فعل إلا أن مسمى زيد يصلح أن يكون متأثرا بمدلول ضربت وهو حقيقة الضرب وفعل القدوم هاهنا لا يصلح أن يكون متأثرا بمدلول أخبرتني وهو حقيقة الإخبار لأن حقيقته التكلم بالخبر وذلك لا يعدو إلى القدوم بوجه فلذلك لا يصلح مفعولا له. وإذا ثبت هذا كان معنى قوله إن أخبرتني أن فلانا قدم إن تكلمت بخبر قدوم فلان والخبر ما يصلح دليلا على وجود المخبر به لا ما يوجب وجوده لا محالة فصار شرط الحنث كلاما يصلح دليلا على القدوم وقد وجد ذلك في الإخبار كاذبا فيحنث
قوله "ولهذا" أي ولأن الباء للإلصاق. "قالوا" يعني أصحابنا في قول الرجل أنت طالق بمشيئة الله وبإرادته أنها لا تطلق أصلا لأن الإلصاق يؤدي معنى الشرط أي يفضي إليه. وذلك لأنه لما جعل الطلاق ملصقا بالمشيئة لا يقع قبل المشيئة إذ لا يتحقق الإلصاق بدون الملصق به وهذا هو معنى الشرط إذ لا وجود للمشروط بدون الشرط غير أن التعليق بمشيئة الله إبطال للإيجاب لما عرف فلهذا لا يقع شيء كما لو قال إن شاء الله.
ولو أضاف المشيئة إلى العبد بأن قال بمشيئة فلان كان تعليقا وتمليكا بمنزلة قوله إن شاء فلان فيقتصر على مجلس العلم. "وكذلك أخواتها" أي أمثال المشيئة كالرضا والمحبة. على ما ذكر في الزيادات... المذكور فيها عشرة ألفاظ المشيئة والإرادة والرضاء والمحبة والأمر والحكم والإذن والقضاء والقدرة والعلم وأنها قد تضاف إلى الله تعالى وتضاف إلى العبد أيضا ففي الأربعة الأول إن أضيفت إلى الله تعالى لا يقع شيء وإن أضيفت إلى العبد كان تمليكا فيقتصر على مجلس العلم وفي الستة الباقية يقع الطلاق في الحال سواء أضيفت إلى الله عز وجل أو إلى العبد. وذلك لأن معنى قوله بأمر فلان أو بحكمه أو بإذنه أو بعلمه بأمر فلان إياي أو بحكم فلان علي بذلك أو يأذن فلان لي بذلك أو يعلم فلان مني ذلك فيكون هذا كله تحقيقا للإيقاع ولا يمكن أن يجعل ذلك بمعنى الشرط لأنه لو قال لفلان احكم وأمر واعلم وأذن لا يكون شيء منه تخييرا بل يكون قوله احكم إلزاما له ذلك وفيما تقدم لو قال شاء كان تخييرا فكذلك قوله بمشيئة فلان يكون تخييرا منه لفلان كذا في زيادات شمس الأئمة.

(2/253)


"المائدة: 6" حتى أوجب مسح بعض الرأس وقال مالك رحمه الله الباء صلة لأن المسح فعل متعد فيؤكد بالباء كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20" فيصير تقديره وامسحوا رءوسكم وقلنا: أما القول بالتبعيض فلا أصل له في اللغة والموضوع للتبعيض كلمة "من" وقد بينا أن التكرار والاشتراك لا يثبت في
ـــــــ
فإن قيل هلا حملت الباء في مسألة المشيئة و أخواتها على السببية لأنها قد تستعمل بمعنى السبب قال تعالى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} "المائدة: 38" {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} "البقرة: 61" {جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} "الأنعام: 146". وإذا حملت على السبب تطلق في الحال كما لو قال أنت طالق لمشيئة الله أو لمشيئة فلان لأن التعليل يدل على تحقيق الإيقاع لا على انتفائه.
قلنا الحمل على ما ذكرنا من الشرط أولى لأنه أقرب إلى الإلصاق لأن في الإلصاق معنى الترتب لأنه يقتضي ملصقا به متقدما على الملصق زمانا ليمكن الإلصاق به والترتب الزماني في الشرط والمشروط موجود بخلاف العلة مع المعلول لأن العلة مقارن للمعلول زمانا.
قوله "وقال الشافعي" إلى آخره. ذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن الباء في قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} للتبعيض لأن الباء إذا دخلت في المحل أفادت. التبعيض لغة يقال مسحت الرأس إذا استوعبته ومسح بالرأس أي ببعضه هذا هو المفهوم منه في عرف الاستعمال. ولأن الاستيعاب ليس بشرط باتفاق بيننا وبينكم فثبت أن المراد بعض الرأس وإذا ثبت البعض مرادا يتأدى الواجب بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما لو قال امسحوا بعض رءوسكم فيكون تقدير الواجب بثلاثة أصابع أو بربع الرأس زيادة على النص بالرأي أو بخبر الواحد فيكون مردودا. ولا معنى لقول من يقول مطلق مسح البعض ليس بمراد لأن ذلك يحصل بغسل الوجه ولا يتأدى به الفرض بالاتفاق فعرفنا أن المراد بعض مقدر وذلك مجمل لعدم أولوية بعض على بعض فكان فعل النبي وهو: "ما روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته بيانا له. لأنه يقول عدم الجواز لفوات الترتيب الواجب عندي إلا لعدم حصول مسح البعض فإنه لو استوعب رأسه بالمسح بعد غسل الوجه قبل غسل اليدين لا يعتد به عندي لفوات الترتيب فكذا هاهنا1".
"وقال مالك رحمه الله الباء صلة" أي مزيدة زيدت للتأكيد كما في قوله تعالى:
ـــــــ
1 أخرجه م في الطهارة حديث رقم 81 والنسائي في الطهارة باب رقم 86 وأبو داود في الطهارة حديث رقم 15 والإمام أحمد في المسند 4/244.

(2/254)


الكلام أصلا وإنما هو من العوارض فلا يصار إلى إلغاء الحقيقة والاقتصار على التوكيد إلا بضرورة بل هذه الباء للإلصاق وبيان هذا أن الباء إذا دخلت في آلة المسح كان الفعل متعديا إلى محله كما تقول مسحت الحائط بيدي فيتناول كله لأنه أضيف إلى جملته ومسحت رأس اليتيم بيدي وإذا دخل حرف الإلصاق في محل المسح بقي الفعل متعديا إلى الآلة وتقديره وامسحوا أيديكم برءوسكم أي ألصقوها برءوسكم فلا تقتضي استيعاب الرأس وهو غير مضاف إليه لكنه
ـــــــ
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20". وقوله عز اسمه {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} "البقرة: 195". أي لا تلقوا أيديكم كذا قاله عبد القاهر وإذا كانت مزيدة وجب مسح الكل كما لو قيل وامسحوا رءوسكم. قال وما قلناه وإن كان فيه عمل بالمجاز لكنه أحوط لأن فيه الخروج عن العهدة بيقين فكان الأخذ به أولى على أنا إن عملنا بحقيقتها فذلك يوجب الاستيعاب أيضا لأن الباء للإلصاق حقيقة وقد ألصق المسح بالرأس وهو اسم لكله لا لبعضه فيقتضي مسح جميع الرأس.
قوله "وقلنا نحن أما القول بالتبعيض فلا أصل له" أي القول بالتبعيض كلام عن تشه لا دليل عليه إذ لم يثبت عن أحد من نقلة اللغة أنها للتبعيض إنما الموضوع للتبعيض كلمة من فلو أفادت الباء التبعيض لوجب التكرار أي الترادف لدلالة اللفظين على معنى واحد. والاشتراك أيضا لأن الباء للإلصاق بالاتفاق فلو أفادت التبعيض لكان لفظ واحد دالا على معنيين مختلفين وكل منهما خلاف الأصل لما مر غير مرة. هذا رد لكلام القائلين بالتبعيض وقوله ولا يصار إلى إلغاء الحقيقة رد لقول مالك أي إذا أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى إلغائها من غير ضرورة ولا ضرورة هاهنا فوجب العمل بالحقيقة وبأن جاز ترك الحقيقة في موضع لقيام الدليل لا يلزم منه تركه في موضع لا دليل عليه فكانت الباء على حقيقتها في هذه الآية كما هو أصلها.
"وبيان هذا" أي بيان أنها للإلصاق في الآية وأن التبعيض ثبت بطريق آخر لا بالباء أن المسح لا بد له من آلة ومحل فإذا دخلت الباء في الآلة كان الفعل متعديا إلى المحل ويصير المحل مفعول فعله فيتناول جميع المحل كقولك مسحت الحائط بيدي أو مسحت بيدي الحائط وإذا دخلت في المحل كان الفعل متعديا إلى الآلة ولهذا ظهر عمله فيها حتى انتصبت بذلك الفعل بالمفعولية فهذا لا يقتضي الاستيعاب وإنما يقتضي إلصاق الفعل بالمحل كله أو بعضه لكن بهذه الآلة. وإذا تقرر هذا صار تقدير الآية وامسحوا أيديكم برءوسكم فلا يقتضي هذا الكلام استيعاب الرأس بالمسح كما ظنه مالك. لأنه أي المسح غير مضاف إلى الرأس بل أضيف إلى اليد.

(2/255)


يقتضي وضع آلة المسح وذلك لا يستوعبه في العادات فيصير المراد به أكثر اليد فصار التبعيض مرادا بهذا الشرط فأما الاستيعاب في التيمم مع قوله {فَامْسَحُوا
ـــــــ
والواو في قوله "وهو غير مضاف" للحال والجملة في معنى التعليل. لكنه أي لكن هذا الكلام يقتضي وضع آلة المسح على الرأس وإلصاقها به. وذلك أي وضع الآلة لا يستوعب الرأس في العادات أيضا لأن اليد لا تستوعب الرأس عادة. إلا أن على هذا التفسير لا يصلح.
قوله "فصار المراد به أكثر اليد" نتيجة له فيجعل الضمير المنصوب في لا يستوعبه عائدا إلى الآلة على تأويل المذكور أي الوضع لا يستوعب الآلة في العادات يعني هذا التقدير وإن اقتضى أن يكون المسح متناولا لكل الآلة لكن في العادة لا توضع الآلة بجميع أجزائها على الرأس فإن ما بين الأصابع وظهر الكف لا يستعملان في المسح عادة فيكتفى فيه بالأكثر الذي يحكى حكاية الكل وهو ثلاثة أصابع. فصار التبعيض مرادا بهذا الشرط أي صار التبعيض مرادا بشرط أن يكون ذلك البعض مقدرا بآلة المسح أو بأكثرها لا أن يكون مطلق التبعيض مرادا عملا بالباء كما قال الشافعي رحمه الله.
وعبارة شمس الأئمة أوضح فإنه قال وإذا قرنت الباء بمحل المسح يتعدى الفعل إلى الآلة فلا يقتضي الاستيعاب وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل وذلك لا يستوعب الكل عادة ثم أكثر الآلة ينزل منزلة الكل فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل المسح ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق لا بحرف الباء. وذكر في بعض نسخ أصول الفقه لمشايخنا بهذه العبارة قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} "المائدة: 6". أدخل حرف الباء في المحل فيتعدى الفعل إلى الآلة وهي اليد كأنه قيل وامسحوا برءوسكم أيديكم والأصل أن الجمع متى قوبل بالجمع ينقسم آحاد هذا على آحاد ذلك فيصير كأنه سبحانه قال وليمسح كل واحد منكم برأسه يده فإذا وضع اليد على الرأس جاز لأنه وجد المسح. ولو مسح بثلاثة أصابع جاز لأنها أكثر الآلة فيقوم مقام الكل فيجوز التبعيض بإقامة الأكثر لا بحرف الباء.
وذكر الشيخ رحمه الله في بعض مصنفاته في أصول الفقه أن الباء للإلصاق هاهنا كما في قوله كتبت بالقلم إلا أن كلمة الباء متى دخلت محل الفعل كان المراد إلصاق الفعل بالمحل لا إلصاق المحل بالفعل لأن الفعل معدوم لا يتصور إلصاق المحل به قبل الوجود وبعد الوجود لا يتصور الإلصاق به لأنه ينعدم كما وجد وإنما يتصور إلصاقه بالمحل فكان المقصود إلصاق الفعل بالمحل فيكون المراد منه إثبات وصف في الفعل هو الإلصاق فيصير الفعل هو المقصود لإثبات صفة الإلصاق فيه والمحل إنما يراعى لتصور

(2/256)


بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} "النساء 43" فثابت بالسنة المشهورة أن النبي عليه السلام قال فيه ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين فجعلت الباء صلة وبدلالة الكتاب لأنه شرع خلفا عن الأصل وكل تنصيف يدل على بقاء الباقي على ما كان وعلى هذا قول الرجل إن خرجت من الدار إلا بإذني أنه يشترط
ـــــــ
هذا المقصود لا أن يكون مقصودا بنفسه وما يراعى لتحصيل المقصود إنما يراعى بقدر ما يحصل به المقصود وهو إلصاق الفعل بالرأس وذلك يتحقق ببعض الرأس فيكون المراد منه البعض بهذا الطريق لا أن يكون المراد منه البعض لغة.
واعلم أن لمشايخنا رحمهم الله في تقدير فرض المسح طريقين. أحدهما ما ذكره الشيخ في الكتاب والثاني أن مطلق البعض لما لم يكن مرادا لأن المفروض في عامة الأعضاء بعض مقدر فينبغي أن يكون كذلك هاهنا ولهذا لو زاد على المقدار الذي قدر به لا يكون الزائد فرضا بالإجماع ولو كان الداخل تحت الأمر بعضا مطلقا لوقع الزائد فرضا كالزائد على الآيات الثلاث في فرض القراءة صار البعض مجملا فيتعرف بالسنة وهي توجب أن يقدر بالربع على ما عرف إلا أن في إثبات الإجمال بهذا الطريق نوع ضعف فإن الخصوم لم يسلموا الإجمال في الآية وقالوا بل مطلق المسح هو الثابت بالنص وهو معلوم فلذلك اختار الشيخ هاهنا الطريق الذي بينا لأنه أسلم
قوله "وأما الاستيعاب" إلى آخره جواب عما يقال قد دخلت الباء في قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} . في المحل وقد شرط فيه الاستيعاب كما في الوضوء فقال لم يثبت الاستيعاب بدخول الباء في المحل ولكنه ثبت بالسنة المشهورة وهي: قوله عليه السلام لعمار " يكفيك ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين" . وبمثلها يزاد على الكتاب فجعلت الباء صلة أي زائدة بهذه الدلالة مثلها في قوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20" فصار كأنه قيل فامسحوا وجوهكم وأيديكم فيجب الاستيعاب. "وبدلالة الكتاب" أي الكتاب دل على اشتراط الاستيعاب أيضا لأن التيمم شرع خلفا عن الأصل الوضوء بأن أقيم المسح بالصعيد في العضوين مقام الغسل والمسح بالماء في الأعضاء الأربعة فنصف الحلف تخفيفا وكل تنصيف يدل على بقاء الباقي على ما كان كصلاة المسافر وعدة الإماء وحدود العبيد وكمن له على آخر عشرة دراهم فصالحه على خمسة أو أبرأه عن خمسة يجب الباقي بصفة الأصل في الجودة والرداءة ثم الاستيعاب في غسل في هذين العضوين واجب بالنص فكذا فيما قام مقامهما على أن في رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يشترط الاستيعاب بل الأكثر يقوم مقام الكل لأن في الممسوحات الاستيعاب ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس

(2/257)


تكرار الإذن لأن الباء للإلصاق فاقتضى ملصقا به لغة وهو الخروج فصار الخروج المصلق بالإذن الموصوف به مستثنى فصار عاما فأما قوله إلا أن آذن لك فإنه جعل مستثنى بنفسه وذلك غير مستقيم لأنه خلاف جنسه فجعل مجازا عن
ـــــــ
قوله "وعلى هذا" أي يبتنى على أن الباء للإلصاق. قول الرجل لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فكذا أنه يشترط تكرار الإذن حتى لو خرجت بإذنه ثم خرجت بغير إذنه حنث لأن قوله إن خرجت يتناول المصدر لغة وهو نكرة في موضع النفي لأن معناه لا تخرجي خروجا فصار عاما واستثنى منه خروجا موصوفا بصفة الإذن فبقي سائر أنواع الخروج داخلا في الحظر فإذا فعلت وجب الجزاء كما لو قال إن خرجت إلا بقناع أو بملاءة فأنت طالق فمتى خرجت بقناع أو بملاءة لم تطلق ولم يسقط الخطر حتى لو خرجت بغير قناع أو ملاءة طلقت فكذا هذا
قوله "فاقتضى ملصقا به" أي شيئا يلتصق بالإذن إذ لا بد للجار والمجرور من متعلق. وهو أي الشيء الملصق بالإذن هو الخروج لدلالة الكلام عليه. فصار عاما أي صار الخروج الموصوف المستثنى عاما حتى تناول كل خرجة وصفت بالإذن وإن كان الخروج المستثنى نكرة في الإثبات لعموم صفته كما مر تقريره في قوله لا أتزوج إلا امرأة كوفية. وذلك أي جعله مستثنى بنفسه غير مستقيم. لأنه أي المستثنى وهو الإذن خلاف جنسه أي جنس المستثنى منه وهو الخروج. ألا ترى أنه لا يستقيم إظهار الخروج هاهنا بخلاف قوله إلا بإذني فإنه يستقيم أن يقول إلا خروجا بإذني ولو قال إلا خروجا أن آذن لك كان كلاما مختلا. قال الشيخ رحمه الله في شرح الجامع ولو قال إلا أن آذن فهو بمنزلة حتى عندنا حتى لو أذن في الخروج ثم نهى عنه ثم خرجت بغير إذنه لم يحنث وقال الفراء بل يحنث وهو بمنزلة قوله إلا بإذني. واحتج بقول الله تعالى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} "الأحزاب: 53". وقد كان تكرار الإذن شرطا. ولأن كلمة أن مع الفعل مصدر ولا اتصال له بما تقدم إلا بصلة فوجب تقدير الصلة فيه وهي الباء فيصير بمنزلة قوله إلا بإذني. قال وفيما قلنا تحقيق الاستثناء والعمل به واجب ما أمكن لأنه حقيقة والغاية مجاز. واحتج أصحابنا بقول الله تعالى {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} "البقرة 267". و إلا أن يحاط بكم ومعناه الغاية. ولأن الكلام إذا بطلت حقيقته تعين مجازه وحقيقة الاستثناء متعذرة هاهنا لأن أن مع الفعل مصدر فيصير مستثنيا للإذن من الخروج وذلك باطل فعمل بمجازه وهو أن يجعل غاية لأن كل استثناء يناسب الغاية من حيث أن حكم ما وراء الغاية على خلاف المغيا كما أن حكم ما وراء الاستثناء على خلاف المستثنى منه فإن من قال لفلان علي ألف درهم إلا مائة كان الحكم فيما وراء

(2/258)


الغاية لأن الاستثناء يناسب الغاية
وأما "على" فإنها وضعت لوقوع الشيء على غيره وارتفاعه وعلوه فوقه فصار هو موضوعا للإيجاب والإلزام في قول الرجل لفلان علي ألف درهم أنه دين إلا أن يصل به الوديعة فإن دخلت في المعاوضات
ـــــــ
تسعمائة على خلاف الحكم الثابت في تسعمائة فيجعل غاية بمنزلة حتى وليس كذلك قوله إلا بإذني لأن حرف الإلصاق يقتضي ملصقا في كلام العرب وحذفه سائغ لقيام الدلالة عليه وهو حرف الإلصاق كما في {بِسْمِ اللَّه} أي بدأت أو أبدأ به فكذلك هاهنا صح الحذف لقيام الباء وذلك المحذوف هو الخروج الذي به تحقيق الاستثناء فكأنه قال إلا خروجا بإذني فصح الاستثناء فأما هاهنا فليس في الكلام ذكر الباء فلم يصح حذف الخروج من غير دليل فلذلك تعذرت حقيقته فتعين مجازه. ولا يلزم على ما ذكرنا قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} "الأحزاب: 53". لأن التكرار ثمة ما جاء من لفظ إلا أن لأنه لو ذكر بحرف حتى كان الحكم هكذا أيضا كما في قوله تعالى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} "النور: 27". بل التكرار عرف بقوله تعالى. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} "الأحزاب: 53". فإن نوى بقوله إلا أن آذن إلا بإذني صحت نيته قضاء وديانة لأنه نوى محتمل كلامه لأن حذف حرف الالتصاق سائغ وفيه تشديد عليه فيصدق. وإن نوى في قوله إلا بإذني الإذن مرة صحت أيضا لأن الاستثناء يفيد ما يفيد الغاية وهو إخراج بعض ما تناوله اللفظ لولا الاستثناء فكان بينهما مشابهة في المعنى فيصدق ديانة لا قضاء لأن فيه تخفيفا عليه كذا في الجامع البرهاني وغيره.
قوله "وأما على" إلى آخره كلمة على وضعت للاستعلاء ومنه يقال فلان علينا أمير لأن للأمير علوا وارتفاعا على غيره ولهذا يخاطب بالمجلس العالي والرفيع ويقال زيد على السطح لتعليه عليه. ومنه قولهم على فلان دين لأن الدين يستعلي من يلزمه ولذا يقال ركبه دين. وهو معنى قوله فصار موضوعا للإيجاب والإلزام في قوله لفلان علي ألف درهم يعني لما كانت هذه الكلمة موضوعة للاستعلاء والاستعلاء في لفلان علي كذا في الإيجاب دون غيره كانت في مثل هذا الموضع للإيجاب باعتبار أصل الوضع. أنه دين أي الثابت به دين لا غير لأن الاستعلاء فيه. "إلا أن يصل به الوديعة" فيقول لفلان علي ألف وديعة فحينئذ لا يثبت الدين لأن على يحتمل معنى الوديعة من حيث إن في الوديعة وجوب الحفظ فيحمل عليه بهذه الدلالة. وقوله إنه دين كلام مستأنف ولو قيل بالواو لكان أحسن. وعبارة شمس الأئمة أوضح فإنه قال وأما على فللإلزام باعتبار أصل الوضع لأن معنى حقيقة الكلمة من علو الشيء على الشيء وارتفاعه فوقه وذلك قضية الوجوب واللزوم ولهذا لو قال لفلان علي ألف درهم أن مطلقه محمول على الدين إلا أن

(2/259)


المحضة كانت بمعنى الباء إذا استعملت في البيع والإجارة والنكاح لأن اللزوم يناسب الإلصاق فاستعير له وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن من قالت له امرأته طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة لم يجب شيء وعندهما يجب ثلث الألف كما في قولها بألف درهم وقال أبو حنيفة رحمه الله كلمة "على" للزوم على ما قلنا وليس بين الواقع وبين ما لزمها مقابلة بل بينهما معاقبة وذلك معنى الشرط
ـــــــ
يصل بكلامه وديعة لأن حقيقة اللزوم في الدين. ثم أنها قد تستعار للباء لأن اللزوم يناسب الإلصاق فإن الشيء إذا لزم الشيء كان ملتصقا به لا محالة ولأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض لأن كل واحد منها يوصل الفعل إلى الاسم. قال الإمام عبد القاهر على في قولك مررت على زيد أوصل الفعل الذي هو مررت إلى الاسم الذي هو زيد كما يفعل الباء كذلك في قولك مررت بزيد فكان بينهما مناسبة من هذا الوجه. وتستعمل بمعنى الشرط باعتبار أن الجزاء يتعلق بالشرط فيكون لازما عند وجوده فكان استعمالها في الشرط بمنزلة الحقيقة. فإذا استعملت في المفاوضات المحضة وهي التي تخلو عن معنى الإسقاط كالبيع فإنه معاوضة مال بمال. والإجارة فإنها معاوضة مال بمنفعة. والنكاح فإنه معاوضة مال بما ليس بمال كانت بمعنى الباء التي تصحب الأعواض لأن العمل لما تعذر بحقيقتها تحمل على ما يليق بالمعاوضات وهو الباء لما بين العوض والمعوض من اللزوم والاتصال في الوجوب ولا تحمل على الشرط لأن المعاوضات المحضة لا تحتمل التعليق بالخطر لما فيه من معنى القمار فتحمل على ما تحتمله تصحيحا للكلام. وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله.
واعلم أن ما ثبت بطريق المقابلة يثبت مع مقابله بطريق المقارنة كالأخ مع الأخ والجار مع الجار إذ يستحيل أن يكون الشيء مقابلا لشيء قبل مقابلة ذلك الشيء إياه وثبوت العوض مع المعوض من هذا الباب وما ثبت بطريق المعاقبة يكون متأخرا عن صاحبه وصاحبه مقدما عليه كالمشروط مع الشرط لأن المشروط متوقف على الشرط فلا بد أن يثبت أولا ثم يتعقبه المشروط ثم إن أجزاء العوض يتوزع على أجزاء المعوض بالاتفاق لأن ثبوتهما بطريق المقابلة فيقابل كل جزء من العوض جزءا من المعوض وأجزاء الشرط لا يتوزع على أجزاء المشروط بالاتفاق أيضا لأن ثبوت المشروط والشرط بطريق المعاقبة فلو ثبت الانقسام لزم تقدم جزء من المشروط على الشرط فإنه إذا قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثنتين تعلقت الطلقتان بدخول الدارين فلو ثبت الانقسام تقع تطليقة بدخول إحدى الدارين ودخول الدارين شرط واحد فيكون بعض

(2/260)


والجزاء فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة وقد أمكن العمل به لأن الطلاق وإن دخله المال فيصلح تعليقه بالشروط حتى إن جانب الزوج يمين فيصير هذا منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلث فإذا خالف لم يجب وفي المعاوضات
ـــــــ
المشروط متقدما على الشرط وأنه فاسد. إذا عرفت هذا قلنا إذا قالت لزوجها طلقني ثلاثا على ألف درهم يحتمل على الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لو طلقها واحدة لا يلزمها شيء وكان الطلاق رجعيا. وعندهما تحمل على الباء حتى لو طلقها واحدة يجب عليها ثلث الألف وكان الطلاق بائنا كما لو قالت طلقني ثلاثا بألف لأن الطلاق على مال معاوضة من جانب المرأة ولهذا كان لها أن ترجع قبل كلام الزوج وإنما يجب المال عليها عوضا عن الطلاق وكلمة على تحتمل معنى الباء أو قد صدرت من جانبها فتحمل على المعاوضة لاحتمال الطلاق إياها ودلالة الحال عليها وصار كقوله احمل هذا الطعام إلى منزلي على درهم فإنها تحمل على الباء وكما لو قالت طلقني وضرتي على ألف درهم فطلقها وحدها لزمها بقدر ما يخصها من الألف كما لو قالت بألف. وقال أبو حنيفة رحمه الله كلمة على للزوم كما بينا وليس بين الواقع وهو الطلاق وبين ما لزمها وهو الألف مقابلة لينعقد معاوضة فتحمل على الباء بل بينهما معاقبة لأنه يقع الطلاق أولا ثم يجب المال أو يجب المال ثم يقع الطلاق.
"وذلك" أي التعاقب معنى الشرط والجزاء لا معنى المعاوضة فصار معنى الشرط بمنزلة حقيقة هذه الكلمة لأن هذه الكلمة للزوم وبين الشرط والجزاء ملازمة فكان الحمل عليه لكونه أقرب إلى التحقيق أولى من الحمل على الباء. وقد أمكن العمل به أي بمعنى الشرط هاهنا. لأن الطلاق وإن دخله المال والمال غير قابل للتعليق بالشرط يصلح تعليقه بالشروط مثل أن يقول إن قدم فلان فأنت طالق على ألف صح ولم يمنع معنى المعاوضة عن صحة التعليق لأنه تابع. والفاء في قوله فيصلح زائدة وقعت غير موقعها لأنها لا تدخل في خبران. "حتى إن جانب الزوج يمين" يعني لو ابتدأ الزوج فقال طلقتك ثلاثا على ألف كان بمنزلة اليمين حتى لا يمكنه الرجوع قبل كلام المرأة ولا يقتصر على مجلس الزوج ولا يكون يمينا إلا بأن قدر معنى التعليق فيه كأنه قال إن التزمت ألفا فأنت طالق ثلاثا فعرفنا أن دخول المال في الطلاق لا يمنع معنى التعليق. وإذا كان كذلك يجعل قولها طلقني ثلاثا على ألف تعليقا لوجوب المال بإيقاع الثلاث كأنها قالت إن طلقتني ثلاثا فلك ألف وطلبا من الزوج إيجاد هذا الشرط وهو الثلاث.
"فإذا خالف" أي الزوج أمرها لم يجب المال كله لعدم الشرط وهو الثلاث ولا بعضه

(2/261)


المحضة يستحيل معنى الشرط فوجب العمل بمجازه قال الله تعالى {حَقِيقٌ
ـــــــ
لعدم صحة انقسام المشروط على أجزاء الشرط هذا تقرير ما في الكتاب على وجه التقريب. وفي لفظ الشيخ نوع اشتباه فإنه قال فيصير هذا أي قولها طلقني ثلاثا على ألف منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلاث وليس كذلك بل هو تعليق الالتزام بالطلقات الثلاث منها من حيث المعنى والغرض فإن مقصودها تحصيل الثلاث بالمال فصار كأنها قالت إن طلقتني ثلاثا فلك ألف. فينبغي أن يقال فيصير هذا تعليقا للزوم المال بالثلاث. ولا مطابقة أيضا بينه وبين قوله "لأن الطلاق وإن دخله المال يصح تعليقه بالشروط". وفي التحقيق لا حاجة إلى ذكر هذا الكلام لأن ما نحن فيه ليس تعليق الطلاق الداخل فيه المال بشرط بوجه بل هو تعليق التزام المال بالثلاث وطلب إيجاد الشرط من الزوج فكان المناسب أن يقال وقد أمكن العمل به لأن تعليق التزام المال من المرأة بشرط الطلاق يصح لتأديته إلى معنى المعاوضة في الآخرة فيصير هذا منها تعليقا للمال بشرط الثلاث في ضمن الطلب فإذا خالف لم يجب. وذكر الشيخ في شرح الجامع الصغير ولأبي حنيفة رحمه الله أن على بمعنى الشرط لأن أصلها اللزوم فاستعيرت للشرط لأنه يلازم الجزاء فصارت طالبة للثلاث بألف بكلمة هي للشرط وصار بحكم الاتحاد دخولها على المال مثل دخولها على الطلاق بأن قالت لك علي ألف على أن تطلقني ثلاثا وهناك لا يجب شيء إلا بإيقاع الثلاث فكذلك هاهنا. وذكر في الأسرار أن حقيقة كلمة على لإثبات الجزاء إذا خرج مخرج الجواب لا لإثبات العوض كقولك أكرمني على أن أكرمك معناه إن أكرمتني أكرمك فإذا دخلت على الإيجابات أو العدات لا تقتضي مقابلة فلا يجب المال به وجوب الأعواض بل يجب به وجوب الأجزئة مع الشروط لأن الكلمة للشرط بمنزلة الحقيقة وإذا كان كذلك اقتضى تعلق وجوب المال بالطلاق على سبيل المعاقبة كما لو قالت إن طلقتني فلك ألف لا على سبيل المقابلة فلذلك لم يتوزع. بخلاف الباء فإنها للمقابلة فإن لم يثبت المقابلة بينهما باعتبار أن المبدل وهو الطلاق ليس بصالح لكن يثبت التوزيع كي لا يبطل العمل به أصلا. وإنما حملناها على المقابلة في مسألة طلاق الضرة معها على ألف لأنا إن حملناها على الجزاء والمعاقبة كان البدل كله عليها كما لو قالت إن طلقتنا فلك ألف وإن حملناها على المقابلة وجب بعض البدل عليها إذا قبلت ولا يكون عليها إلا النصف فدل الظاهر من حالها على إرادة المقابلة لتستفيد بهذا الطلب نقصان البدل إذ لا فائدة لها في طلاق الضرة بعد طلاقها فأما هاهنا فالفائدة لها أكثر في أن يجعل الألف جزاء حتى لا يلزمها شيء ببعض الطلاق. ومما يؤيد مذهب أبي حنيفة رحمه الله ما ذكر في السير الكبير ولو أن مسلما وادع أهل الحرب سنة على ألف دينار جازت الموادعة. فإن رأى الإمام المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم

(2/262)


عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} "الأعراف: 105" وقال {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} "الممتحنة: 12" وأما "من" فللتبعيض هو أصلها ومعناها
ـــــــ
وقاتلهم. وإن كان مضى نصف السنة ففي القياس يرد نصف المال ويمسك النصف للمسلمين اعتبارا بالإجارة بعوض معلوم. وفي الاستحسان يرد الكل لأنهم التزموا المال بشرط أن يسلم لهم الموادعة في جميع المدة والجزاء إنما يثبت باعتبار الشرط جملة ولا يتوزع على أجزائه وكلمة على للشرط في الحقيقة والموادعة في الأصل ليست من عقود المعاوضات فجعلنا هذه الكلمة عاملة فيها بحقيقتها فإذا لم يسلم لهم الموادعة سنة كاملة وجب رد المال كله عليهم. وإن كان وادعهم ثلاث سنين كل سنة بألف دينار وقبض المال كله ثم أراد الإمام نقض الموادعة بعد مضي سنة فإنه يرد عليهم الألفين لأن الموادعة كانت هاهنا بحرف الباء وهي تصحب الأعواض فينقسم العوض على المعوض باعتبار الأجزاء وفي المعاوضات المحضة يستحيل معنى الشرط لما فيه من تعليق التمليك بالخطر وهو فاسد بخلاف تعليق المال بالطلاق لأن المال وجب في ضمن ما يصح فيه التعليق وما ثبت في ضمن شيء لا يعطي لها حكم نفسه وإنما يعطي له حكم المتضمن كذا قيل. فوجب العمل بمجازه وهو أن يجعل بمعنى الباء
قوله "قال الله تعالى" متصل بقوله فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} . أي أني جدير بأمر الرسالة بشرط أن لا أقول على الله إلا الحق. وقال تعالى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} . أي بشرط عدم الإشراك بالله هذا هو المذكور في كتب الفقه. فأما أئمة التفسير فلم يذكروا معنى الشرط فيه فقالوا معناه جدير بأن لا أقول على الله إلا الحق. أو ضمن حقيق معنى حريص فاستقام على صلة له. أو هو مبالغة من موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فإنه روي أن فرعون قال له لما قال {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحق أي واجب علي قول الحق أن أكون قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به. وكذا قالوا في قوله تعالى. {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} . أن على صلة المبايعة يقال بايعه على كذا إلا أنه لما أدى إلى معنى الشرط إذ المبايعة توكيد كالشرط, توسع الفقهاء في ذلك وقالوا إنه بمعنى الشرط.
قوله "فأما من فللتبعيض" ذكر النحاة أنها لابتداء الغاية يقال سرت من الكوفة إلى البصرة وهذا الكتاب من فلان إلى فلان. وقد تكون للتبعيض كقولهم أخذت من الدراهم وزيد من القوم. وللتبيين كقوله تعالى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} "الحج: 30". وكقولهم: خاتم من فضة وباب من ساج. وقد تكون مزيدة كقولك ما جاءني من

(2/263)


الذي وضعت له لما قلنا وقد ذكرنا مسائلها في قوله أعتق من عبيدي من شئت وما يجري مجراه ومسائله كثيرة.وأما إلى فلانتهاء الغاية لذلك وضعت ولذلك استعملت في الآجال وإذا دخلت في الطلاق في قول الرجل أنت طالق إلى شهر فإن نوى التنجيز وقع وإن نوى الإضافة تأخر وإن لم يكن له نية وقع
ـــــــ
أحد وقال المحققون منهم الكل راجع إلى معنى ابتداء الغاية فإن قولك أخذت من الدراهم دال على أن الدراهم موضع أخذك وابتداء غايته كما أن قولك سرت من البصرة يدل على أن البصرة منشأ سيرك غير أنها في الدراهم أفادت التبعيض لأنه ممكن فيها ولم تفده في قولك سرت من البصرة لأنك إذا فارقتها فقد فارقت جميع نواحيها إذ لا يصح أن يكون خارجا منها وغير خارج. وكذا في قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} "الحج: 30" إذ الرجس من الأوثان وغيرها فلما قال من الأوثان بين ما هو المقصود وجعل مبدأ الاجتناب الأوثان. وكذا قولك ما جاءني من أحد معناه من واحد هذا الجنس إلى إقصاء فيكون معنى ابتداء الغاية مستفادا من الجميع كما ترى. ولهذا قال أبو العباس معناها ابتداء الغاية فقط. وذكر الشيخ في جامعه أيضا أن كلمة من ليست عينها بمعنى التبعيض وللانتزاع وابتداء الغاية فصارت للتبعيض. وهذا هو المختار إلا أن بعض الفقهاء لما وجدها أكثر استعمالا في التبعيض جعلوها فيه أصيلا وفيما سواه دخيلا وإليه مال الشيخ هاهنا فقال هو أصلها ومعناه الذي وضعت له لما قلنا إن الاشتراك خلاف الأصل فجعلناها للتبعيض ليكون له معنى يخصه. ورأيت في بعض نسخ أصول الفقه أنها للتبعيض وابتداء الغاية جميعا عند الفقهاء وكل واحد من موضعه حقيقة.
"ومسائله كثيرة". منها ما ذكر في الجامع: رجل قال إن كان ما في يدي من الدراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة فجميع ما في يدي صدقة في المساكين فإذا في يده أربعة دراهم أو خمسة دراهم لزمه أن يتصدق بذلك كله. ولو قال إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة, والمسألة بحالها لا شيء عليه لأنه جعل شرط حنثه في المسألة الأولى أن يكون في يده غير الثلاثة ما يكون من الدراهم والدرهم والدرهمان من الدراهم وجعل شرط حنثه في المسألة الثانية أن يكون في يده غير الثلاثة مما ينطلق عليه اسم الدراهم ولم يوجد لأن اسم الدراهم لا ينطلق على الدرهم والدرهمين.
قوله "وأما إلى فلانتهاء الغاية" هذه الكلمة لانتهاء الغاية على مقابلة من يقال سرت من البصرة إلى الكوفة فالكوفة منقطع السير كما كانت البصرة مبتدأ. ويقول الرجل إنما أنا إليك أي أنت غايتي وتقول قمت إلى فلان فتجعله منتهاك من مكانك هذا هو الحقيقة في اللغة. وقد يجيء لمعنى المصاحبة كقوله تعالى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى

(2/264)


للحال عند زفر رحمه الله لأن إلى للتأجيل والتأجيل لا يمنع الوقوع وقلنا إن التأجيل لتأخير ما يدخله وهنا دخل على أصل الطلاق فأوجب تأخيره
ـــــــ
"النساء: 20". وقولهم الذود إلى الذود إبل لكنه راجع في التحقيق إلى معنى الانتهاء أيضا فإن الأكل في الآية ضمن معنى الضم إذ النهي لا يختص بالأكل فعدي بإلى أي لا تضموها إلى أموالكم في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم, قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بينه وبين الحلال. أو المعنى لا ينته أكل أموالهم إلى أموالكم فيكون إلى صلة فعل الانتهاء. وكذلك معنى قولهم الذود إلى الذود إبل الذود منضما إلى الذود إبل. ولذلك أي ولأنها وضعت لانتهاء الغاية استعملت في آجال الديون لأن آجال الديون غاياتها. واعلم أن كلمة إلى إذا دخلت في الأزمنة قد تكون للتوقيت وهو الأصل وقد تكون للتأجيل والتأخير. ومعنى التوقيت أن يكون الشيء ثابتا في الحال وينتهي بالوقت المذكور ولولا الغاية لكان ثابتا فيما ورائها أيضا كقولك والله لا أكلم فلانا إلى شهر كان ذكر الشهر لتوقيت اليمين إذ لولاه لكانت مؤبدة وكذلك قولك آجرتك هذه الدار إلى شهر. ومعنى التأخير والتأجيل أن لا يكون الشيء ثابتا في الحال مع وجود ما يوجب ثبوته ثم يثبت بعد وجود الغاية ولولا الغاية لكان ثابتا في الحال أيضا كالبيع إلى شهر فإنه لتأخير المطالبة إلى مضي الشهر ولولاه لكانت المطالبة ثابتة في الحال وبعد الشهر أيضا ما لم يسقط الدين بالأداء أو الإبراء فإذا قال أنت طالق إلى شهر ونوى التنجيز تطلق في الحال ويلغو آخر كلامه لأنه نوى حقيقة كلامه فإنه أراد أن يقع الطلاق في الحال وينتهي بمضي الشهر والطلاق لا يقبل التوقيت لأنه مما لا يمتد فيقع الطلاق ويلغو التوقيت. وإن نوى التأخير يتأخر الوقوع إلى مضي الشهر لأنه نوى محتمل كلامه إذ الطلاق يقبل الإضافة كقوله أنت طالق غدا وإلى تستعمل في التأخير كما تستعمل في التوقيت فصار تقدير كلامه أنت طالق مؤخرا إلى شهر. وإن لم يكن له نية وقع للحال عند زفر وهو رواية عن أبي يوسف رحمهما الله لأن إلى للتأجيل أو للتوقيت وكل ذلك صفة لوجود فلا بد من الوجود للحال ثم يلغو الوصف لأنه لا يقبله ألا ترى أنه لو باع عبده بألف إلى شهر يثبت الألف للحال ويتأجل بعد الثبوت. وعندنا يتأخر الوقوع إلى مضي الشهر لأن إلى كما تدخل في الشيء لتوقيته تدخل لتأجيل الثبوت أيضا فيصير كالمتعلق به والطلاق بعد وقوعه لا يقبل التأجيل والتأخير فأما الإيقاع فيقبله فانصرف الأجل إليه كي لا يكون إبطالا له وهو كالنصاب علة لوجوب الزكاة ولما أجل بحول تأجل الوجوب لا الزكاة الواجبة لأنها بعد الوجوب لا تقبل الأجل والوجوب نفسه يقبله فعمل الأجل عمله فيما يقبله. بخلاف البيع بألف إلى شهر لأن الألف مما يتأجل قبضه فانصرف إليه ولم ينصرف إلى الوجوب.

(2/265)


والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم مثل قول الرجل من هذا البستان إلى هذا البستان وقول الله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة فيكون الغاية
ـــــــ
وبخلاف اليمين الموقتة إلى شهر لأن اليمين ثابتة للحال وتقبل التوقيت فتتوقت كالإجارة فأما انعقاد اليمين فلا يقبل التأجيل فلم ينصرف إليه وانعقد للحال كذا في الأسرار. وبيان ما ذكر في الكتاب أن التأجيل لتأخير ما يدخل فيه كتأجيل الدين وهاهنا دخل على أصل الطلاق لأن قوله إلى شهر دخل في قوله أنت طالق كما دخل قوله بعتك بألف إلى شهر في الألف إلا أن ثبوت نفس الدين لا يقبل التأجيل فانصرف إلى المطالبة وثبوت الطلاق يقبله فانصرف التأجيل إليه فأوجب تأخيره
قوله "والأصل في الغاية" إلى آخره لما كان بعض الغايات الثابتة بهذه الكلمة غير داخلة في حكم المغيا كالليل في الصيام وبعضها داخلة فيه كالمرفق في غسل اليد لا بد من ضابط لذلك. فقال الأصل فيها أنها إذا كانت قائمة بنفسها بأن تكون موجودة قبل التكلم ولا تكون مفتقرة في وجودها إلى المغيا لم تدخل تحت الحكم الثابت له لأنها إذا كانت قائمة بنفسها لا يمكن أن يستتبعها المغيا مثل قوله بعت من هذا البستان إلى هذا البستان. وقوله لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط فإن الغايتين لا تدخلان في البيع والإقرار. ولا يلزم على هذا قوله سبحانه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} "الإسراء: 1". حيث دخل المسجد الأقصى تحت الإسراء فقد ثبت أن النبي عليه السلام دخل المسجد الأقصى. لأنا نقول ثبت ذلك بالأحاديث المشهورة لا بموجب هذا الكلام.
إلا أن يكون استثناء من قوله لم يدخل في الحكم أي لا تدخل الغاية تحت حكم المغيا إذا كانت قائمة بنفسها إلا إذا كان صدر الكلام واقعا على الجملة أي المغيا والغاية جميعا فحينئذ تدخل لأن صدر الكلام لما كان واقعا على الجملة قبل ذكر الغاية وبعد ذكرها لا يتناول إلا البعض منها كان المقصود من ذكر الغاية إسقاط ما وراءها ضرورة والاسم يتناول موضع الغاية فبقي داخلا تحت صدر الكلام لتناول الاسم إياه. مثل ما قلنا في المرافق أنها داخلة تحت الغسل وهو مذهب عامة العلماء لأن المقصود من ذكر المرافق إسقاط ما ورائها إذ لولا ذكرها لاستوعبت الوظيفة كل اليد فلا تدخل تحت الإسقاط بل بقيت داخلة تحت الوجوب بمطلق اسم اليد ولهذا فهمت الصحابة من إطلاق الأيدي في التيمم الأيدي إلى الإباط كذا في بيوع المبسوط.

(2/266)


لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم مثل ما قلنا في المرافق ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في الغاية في الخيار أنه يدخل وكذلك في الآجال
ـــــــ
فإن قيل لا بد للجار والمجرور من متعلق وهو قوله {فَاغْسِلُوا} "المائدة: 6" في هذه الآية فكيف يمكن جعله غاية للإسقاط وأنه ليس بمذكور ولا مضمر.
قلنا تعلق الجار والمجرور بالغسل ظاهرا ولكن المقصود هو الإسقاط دون مد الحكم كما قال زفر رحمه الله فالمرفق غاية للغسل لفظا وظاهرا وغاية للإسقاط معنى ومقصودا والعبرة للمعاني دون الظواهر. وذكر صاحب الكشاف فيه في تفسير هذه الآية أن كلمة إلى تفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم وخروجها منه فأمر يدور مع الدليل. فما فيه دليل على الخروج قوله تعالى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} "البقرة: 280". لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسرا أو موسرا فتبطل الغاية. وكذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . إذ لو دخل لوجب الوصال.
ومما يدل على الدخول قولك قرأت القرآن من أوله إلى آخره لأن الكلام سيق لحفظ القرآن كله فقوله إلى المرافق وإلى الكعبين لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ عامة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. ولهذا أي ولما ذكرنا أن الصدر إذا كان متناولا للجملة تدخل الغاية قال أبو حنيفة رحمه الله إذا باع بشرط الخيار إلى الغد أو إلى الليل أو إلى الظهر تدخل الغاية في مدة الخيار لأن الغاية هاهنا حد الإسقاط فإنه لو شرط الخيار مطلقا يثبت الخيار مؤبدا ولهذا فسد العقد ألا ترى أنه لو أسقط الخيار في الثلاث عنده وبعد أي مدة كانت عندهما ينقلب جائزا فعرفنا أنه منعقد بصفة الفساد وإذا كان كذلك كان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها فتبقى داخلة تحت الجملة كالمرافق في الوضوء. بخلاف الأجل في الدين لأن الغاية فيه لمد الحكم إلى موضع الغاية لأن الأجل للترفية فمطلق الاسم يتناول أدنى ما يحصل به الترفية. وبخلاف الإجارة فإن الغاية فيها لا تدخل في مدة الإجارة أيضا لأنها عقد تمليك المنفعة بعوض فمطلقها لا يوجب إلا أدنى ما يتناوله الاسم وذلك مجهول ولأجل الجهالة يفسد العقد فكان ذكر الغاية لبيان مقدار المعقود عليه وذلك بمد الحكم إلى موضع الغاية. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا تدخل الغاية في مدة الخيار لأن الغد جعل غاية والأصل أن الغاية لا تدخل في الصدر إلا بدليل ولهذا سميت غاية لأن الحكم ينتهي إليها دل عليه الصوم إلى الليل والأكل إلى الفجر ولهذا لو آجر داره إلى رمضان أو باع بأجل إلى رمضان أو حلف لا يكلمه إلى رمضان لم يدخل رمضان تحت الجملة لأنه غاية. ولا يلزم علينا

(2/267)


في الأيمان في رواية حسن بن زياد عنه وقال في قوله لفلان علي من درهم إلى
ـــــــ
المرافق فإنها دخلت تحت الجملة لأن ذلك ثبت بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين علم الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به غسل المرافق هكذا حكى الحاكي الوضوء كذا في المبسوط والأسرار. وذكر القاضي الإمام في آخر هذه المسألة أن مذهبهما أوضح لأن قوله إلى غد قرن بالخيار فصار مدا للخيار إليه وكذلك المرفق قرن بالغسل والكلام إذا قرن به غاية أو استثناء أو شرط لا يعتبر بالمفصول عن القيد ثم التعبير بالقيد عن حال الإطلاق بل يعتبر مع القيد جملة واحدة لما عرف في مسألة تعليق الطلاق للشرط ومتى جعل كلاما واحدا للإيجاب إلى غد لا الإيجاب والإسقاط لأنهما ضدان فلا يثبتان إلا بنصين والنص مع الغاية نص واحد. ولأن مسألة اليمين لازمة على طريق أبي حنيفة والاعتماد على رواية الأصل دون رواية الحسن
قوله "وكذلك في الآجال في الأيمان" أي وكما تدخل الغاية في الجملة في مسألة الخيار عنده لما ذكرنا من المعنى تدخل الآجال المذكورة في الأيمان أيضا بأن حلف لا يكلم فلانا إلى رجب أو إلى رمضان أو إلى الغد في الجملة عنده أيضا في رواية الحسن عنه لذلك المعنى فإن مطلق كلامه يقتضي التأبيد فيكون ذكر الغاية لإخراج ما ورائها. ولا تدخل في ظاهر الرواية عنه وهو قولهما لأن في حرمة الكلام ووجوب الكفارة بالكلام في موضع الغاية شكا كذا قال شمس الأئمة رحمه الله ولأن الكلام في أصل الوضع لا يقتضي العموم والتأبيد بل مطلقه يتناول أدنى ما ينطلق عليه الاسم كاسم الصيام يتناول أدنى الإمساك واقتضاؤه للتأبيد في قوله لا أكلم بالعارض وهو وقوعه في موضع النفي لا بأصل الوضع فكان عندنا في حكم الغاية لأن كون الغاية للمد أو للإسقاط بالنظر إلى أصل الوضع لا باعتبار العوارض فكان ذكر الغاية لمد الحكم بالنظر إلى أصل الوضع لا للإسقاط فلا تدخل الغاية تحت الجملة كما لو قال والله لأكلمن فلانا إلى الليل أو إلى الغد بخلاف اسم اليد فإنه يتناول جميع العضو المعلوم بأصل الوضع فيكون ذكر الغاية للإسقاط. ووقع في بعض النسخ وكذلك في الآجال والأيمان وفي بعضها في الآجال وفي الأيمان وفي بعضها وفي الأثمان بالثاء المثلثة وكل ذلك سهو لأن قوله في رواية الحسن إن اتصل بالجميع يقتضي أن يكون في الآجال روايتان وإن اتصل بالأخير يقتضي أن يكون الآجال داخلة في الجملة عند رواية واحدة وكل ذلك فاسد لأن الأجل في الدين والبيع المؤجل والإجارة لا يدخل في الجملة بالاتفاق.
قال شمس الأئمة وفي الآجال والإجارات لا يدخل الغاية لأن المطلق لا يقتضي

(2/268)


عشرة لم يدخل العاشر لأن مطلق الاسم لا يتناوله وقالا يدخل لأنه ليس بقائم بنفسه وكذلك هذا في الطلاق وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة.وأما "في"
ـــــــ
التأبيد وفي تأخير المطالبة وتمليك المنفعة في موضع الغاية شك فثبت أن الصحيح من النسخ ما ذكرناه أولا
قوله "وقال" أي أبو حنيفة رحمه الله في قوله لفلان علي من درهم إلى عشرة لم يدخل الدرهم العاشر في الوجوب فيلزمه تسعة لأن مطلق اسم الدرهم لا يتناول العاشر فيكون ذكره لمد الوجوب إليه فلا يدخل. وقالا تدخل الغاية الأخيرة كالأولى. لأنه أي العاشر ليس بقائم بنفسه إذ لا تحقق للعاشر إلا بوجود تسعة أخرى قبله كما لا تحقق للأول إلا بوجود ثان بعده فلا يكون كل واحد منهما غاية ما لم يكن ثابتا وذلك بالوجوب. وكذلك هذا في الطلاق يعني ما ذكرنا من دخول الغاية الأولى دون الأخيرة عنده ودخول الغايتين عندهما ثابت في قوله أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لما ذكرنا من الدليل من الجانبين.
وذكر الشيخ في بعض نسخة في هذه المسألة هما يقولان أنه جعل المشروع غاية فلا بد من وجوده ليصلح غاية ووجوده بوقوعه وثبوته. وتحقيق ذلك أنه أوقع طلاقا موصوفا بوصف أنه بين الأولى والثالثة فلا يقع حتى يوجد إذ وجودهما بوقوعهما فإذا وقعا لم يرتفعا بعد ذلك فلهذا اقتضى دخولهما في المغيا وإنما دخلت الأولى أي الغاية الأولى عند أبي حنيفة للضرورة وهي أنه إنما أوقع ما بين الأولى والثالثة بنصه فيكون ثانية والثانية على حقيقتها لا يتصور إلا بالأولى فاقتضى ذلك دخول الأولى لتصير هي ثانية ولم يقتض دخول الثالثة لأن الثابتة ثانية بلا ثالثة فعملنا بالغاية الأولى على مجازها عملا بحقيقة الثانية لأنها هي الواقعة والحكم المطلوب بهذا الإيجاب فكان طلب حقيقته أولى من طلب حقيقة الغاية بخلاف ما إذا قال أنت طالق ثانية فإنها تقع واحدة لأن الثانية تلغو ولم يمكن إثباتها بالواحدة قبلها لأنه لم يجر لها ذكر يحتمل الثبوت والطلاق لا يثبت إلا بلفظ وقد جرى في مسألة الغاية ما يحتمل الثبوت لأن الغاية قد تدخل في الجملة إذا قام دليله ألا ترى أن رجلا لو قال لآخر كل من هذا الطعام إلى عشر لقمات كان له أن يأكل اللقمة العاشرة ولو قال اشتر لي عبدا إلى ألف درهم دخل الألف وكذلك الكفالة عن رجل إلى ألف لأن دلالة الحال دلت عليه فإن الإنسان لا يكفل إلى ألف درهم إلا وهو راض بتمامها وكذا الشراء وكذا إباحة الطعام فإنه قل ما يجري الضمن بلقمة واحدة فأما الطلاق فدلالة الحال تمنع الدخول لأن الرجل يحترز عن الثالثة أشد الاحتراز. وكذا الإقرار لأنه إخبار فينتهي صحته على ثبوت المخبر عنه وثبوت تسعة لا يدل على ثبوت العاشر ليدخل تحته بدلالة الحال فبقي الأمر على ظاهره كذا في الأسرار.

(2/269)


فللظرف وعلى ذلك مسائل أصحابنا رحمهم الله ولكنهم اختلفوا في حذفه وإثباته في ظروف الزمان وهو أن تقول أنت طالق غدا أو في غد وقالاهما سواء وفرق أبو حنيفة بينهما فيما إذا نوى آخر النهار على ما ذكرنا في موضعه
ـــــــ
قوله "وأما في فللظرف" هذه الكلمة تجعل ما تدخل هي عليه ظرفا لما قبلها ووعاء له فإذا قلت الخروج في يوم الجمعة فقد أخبرت أن اليوم قد اشتمل على الخروج وصار وعاء له وكذلك قولك الركض في الميدان وزيد في الدار هذا أصل هذه الكلمة ثم قيل زيد ينظر في العلم وأنا في حاجتك مجازا على معنى أن العلم جعل وعاء لنظره وتأمله وعلى معنى أنه لما صرف العناية إلى حاجته صارت كأنها قد اشتملت عليه لغلبتها على قلبه وهمه وعلى ذلك مسائل أصحابنا أي على أنها للظرف بنيت مسائل أصحابنا فإذا قال غصبتك ثوبا في منديل أو تمرا في قوصرة يلزمه كلاهما لأنه أقر بغصب مظروف في ظرف ولا يتحقق ذلك إلا بغصبه إياهما. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هما سواء أي قوله أنت طالق غدا وأنت طالق في غد سواء في الحكم حتى لو نوى آخر النهار في قوله في غد لا يصدق قضاء لأن حذف حرف في وإثباته في الكلام سواء إذ لا فرق بين قوله خرجت يوم الجمعة وقوله خرجت في يوم الجمعة وسكنت الدار وسكنت في الدار وقد أجمعنا أنه لو قال غدا ونوى آخر النهار يصدق ديانة لا قضاء فكذا إذا قال في غد ألا ترى أن قوله غدا معناه في غد إلا أنه حذف عنه حرف الظرف اختصارا فكان كالمصرح به في الحكم.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين المسألتين فيما إذا نوى آخر النهار فقال في قوله في غد يصدق ديانة وقضاء وفي قوله غدا يصدق ديانة لا قضاء. على ما ذكرنا في موضعه أي من شرح الجامع الصغير والمبسوط أن الظرف إذا اتصل به الفعل بغير واسطة اقتضى استيعابه إن أمكن لأنه حينئذ شابه المفعول به من حيث إنه صار معمولا للفعل ومنصوبا به ألا ترى أنه إذا اتسع في مثل هذا الظرف ولم يقدر فيه حرف في أخذ حكم المفعول به حتى إذا أخبرت عنه بالذي عملت به ما عملت بالمفعول به فقلت في مثل قولك متسعا سرت يوم الجمعة الذي سرته يوم الجمعة كما تقول الذي ضربته زيد ولم يقل الذي سرت فيه يوم الجمعة. وإذا اتصل به الفعل بواسطة حرف الظرف اقتضى وقوعه في جزء منه إذ ليس من ضرورة الظرفية الاستيعاب. وإذا ثبت ذلك قلنا إذا قال غدا ونوى آخر النهار لم يصدق قضاء لأن الطلاق اتصل بالغد بلا واسطة فاقتضى استيعاب الغد أعني كونها موصوفة بالطلاق في جميع الغد فلا بد من أن يكون واقعا في أوله ليحصل الاستيعاب فإذا نوى آخر النهار فقد غير موجب كلامه إلى ما هو تخفيف عليه فلا يصدق

(2/270)


أن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة فيقع في كله فيتعين وله فلا يصدق في التأخير وإذا لم يسقط حرف الظرف صار مضافا إلى جزء منه مبهم فيكون نيته بيانا لما أبهمه فيصدقه القاضي وذلك مثل قول الرجل إن صمت الدهر فعلي كذا أنه يقع على الأبد وإن صمت في الدهر يقع على ساعة
ـــــــ
قضاء ولكنه يصدق ديانة لأنه نوى محتمل كلامه. وأما إذا قال في غد فموجب كلامه الوقوع في جزء من الغد مبهم وإليه ولاية التعيين كما لو طلق إحدى نسائه فإذا نوى آخر النهار كانت نيته تعيينا لما أبهمه لا تغييرا للحقيقة فيصدق قضاء كما يصدق ديانة وإذا لم ينو شيئا كان الجزء الأول أولى لعدم المزاحم والسبق فلذلك يقع فيه. ثم استوضح ما ذكر من الفرق فقال وذلك أي الفرق الذي ذكرنا مثل الفرق بين هاتين المسألتين فإنه إذا قال: إن صمت الدهر فكذا. كان شرط الحنث صوم جميع العمر ولو قال: إن صمت في الدهر كان شرط الحنث صوم ساعة معناه أن ينوي الصوم إلى الليل في وقته ثم يفطر بعد ذلك.
قوله "وإذا أضيف" أي قوله أنت طالق إلى المكان بأن قيل أنت طالق في الدار أو في الظل أو في الشمس طلقت في الحال حيثما كانت لأن المكان لا يصلح ظرفا للطلاق إذ الظرف للشيء بمنزلة الوصف له وما كان وصفا للشيء لا بد من أن يكون صالحا للتخصيص والمكان لا يصلح مخصصا للطلاق بحال لأنه إذا وقع في مكان كان واقعا في الأمكنة كلها وكذا المرأة إذا اتصفت به في مكان توصف به في جميع الأمكنة وإذا لم يصلح مخصصا لا يمكن أن تجعل بمعنى الشرط. ألا ترى أنه لو جعل بمعنى الشرط وهو موجود كان تنجيزا أيضا لأن التعليق بأمر كائن تنجيز. بخلاف إضافته إلى الزمان لأن الزمان يصلح مخصصا له إذ الطلاق يكون واقعا في زمان دون زمان فإذا أضافه إلى زمان معدوم في الحال يمكن أن يجعل بمعنى المعلق به فلا يقع في الحال. ألا أن يراد به أو بقوله في الدار مثلا إضمار الفعل بأن أريد به في دخولك الدار فحينئذ لا تطلق في الحال لأنه ذكر المحل وإرادته الفعل الحال فيه. أو ذكر المسبب وأراد به السبب إذ الدخول في الدار سبب كينونتها فيها وكل ذلك من أنواع المجاز فكان ما نوى محتمل كلامه فيصح إرادته وصار الدخول مضمرا في الكلام وإذا صار مضمرا كان في معنى الشرط لما سنذكره. إذا قال أنت طالق في دخولك الدار لم تطلق قبل الدخول لأن الفعل لا يصلح ظرفا للطلاق على معنى أن يكون شاغلا له لأنه عرض لا يبقى فتعذر العمل بحقيقة في فيجعل مستعارا لمعنى المقارنة لأن في الظرف معنى المقارنة إذ من قضيته الاحتواء على المظروف فيقارنه بجوانبه الأربعة فصار بمعنى مع فيتعلق وجود الطلاق بوجود الدخول لأن قران الشيء بالشيء يقتضي وجوده ضرورة فكان من ضرورته تعلقه بوجود الدخول إلا أنه لا يكون شرطا

(2/271)


وإذا أضيف إلى المكان فقيل أنت طالق في مكان كذا وقع للحال إلا أن يراد به إضمار الفعل فيصير بمعنى الشرط وقد يستعار هذا الحرف للمقارنة إذا نسب إلى الفعل فقيل أنت طالق في دخول الدار لأنه لا يصلح ظرفا وفي الظرف معنى المقارنة فجعل مستعارا بمعناه فصار بمعنى الشرط وعلى هذا مسائل
ـــــــ
محضا لأنه يقع الطلاق مع الدخول لا بعده فلهذا قال بمعنى الشرط. وقال بعضهم يجعل مستعارا لمعنى الشرط لمناسبة بينهما من حيث إن كل واحد من الظرف والشرط ليس بمؤثر فيتعلق الجزاء به فعلى هذا يقع الطلاق متأخرا عن الدخول كما لو قال إن دخلت الدار ولكن الأول أصح فإنه لو قال لأجنبية أنت طالق في نكاحك فتزوجها لا تطلق كما لو قال مع نكاحك ولو جعل مستعارا للشرط لطلقت كما لو قال أنت طالق إن تزوجتك إليه أشار القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله.
والضمير في قوله بمعناه راجع إلى ما يرجع إليه ضمير جعل وهو حرف في والباء للسببية أي جعل حرف في مستعارا لمعنى المقارنة باعتبار معناه. أو الضمير راجع إلى المقارنة بتأويل القرآن والباء بمعنى اللام أي جعل حرف في مستعارا لمعنى المقارنة. "وعلى هذا" أي على أن في تصير بمعنى الشرط بنيت مسائل في الزيادات. قال شيخ الإسلام صاحب الهداية في شرح الزيادات إذا قال أنت طالق في مشيئة الله أو في إرادته أو في رضاه أو في محبته أو في أمره وفي إذنه أو في حكمه أو في قدرته لا يقع الطلاق أصلا إلا في علم الله فإنه يقع الطلاق فيه في الحال لأن كلمة في للظرفية حقيقة إلا إذا تعذر حملها على الظرفية بأن صحبت الأفعال فيحمل على التعليق لمناسبة بينهما من حيث الاتصال والمقارنة غير أنه إنما يصح حملها على التعليق إذا كان الفعل مما يصح وصفه بالوجود وبضده ليصير في معنى الشرط فيكون تعليقا والمشيئة والإرادة والرضاء والمحبة مما يصح وصف الله تعالى به, وبضده فإنه يصح شاء الله كذا ولم يشأ كذا وأراد ولم يرد وأحب ولم يحب وكذا الأمر والرضاء والحكم والإذن فكان إضافة الطلاق إليها تعليقا والتعليق بها بحقيقة الشرط إبطال للإيجاب فكذا هذا, أما العلم فلا يصح وصف الله تعالى بضده لأن علمه محيط بجميع الأشياء {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} فكان التعليق به تحقيقا وتنجيزا فيقع الطلاق في الحال. ويشكل على ما ذكرنا القدرة فإنه لا يصح وصفه تعالى بضدها ومع ذلك لم يقع الطلاق لكن الجواب عنه أن القدرة هاهنا بمعنى التقدير وقرئ قوله تعالى. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} "المرسلات: 23". بالتخفيف والتشديد وكذا قوله تعالى {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} "النمل: 57"

(2/272)


الزيادات أنت طالق في مشيئة الله وإرادته وأخواتهما فإن الطلاق لا يقع كأنه قال إن شاء الله إلا في علم الله لأنه يستعمل في المعلوم ولا يصلح شرطا بل يستحيل وإذا قال أنت طالق في الدار وأضمر الدخول صدق فيما بينه وبين الله تعالى فيصير بمعنى ما قلنا وعلى هذا قال لفلان علي عشرة دراهم يلزمه عشرة
ـــــــ
والتقدير مما يصح وصف الله تعالى به وبضده لأنه لا يصح أن يقال قدر الله كذا ولا يقدر كذا فيكون بمنزلة المشيئة والإرادة فلا يقع الطلاق بإضافته إليها.
قوله "إلا في علم الله" استثناء من قوله لا يقع. "لأنه" أي العلم يستعمل في المعلوم استعمالا شائعا يقال اغفر اللهم علمك فينا أي معلومك ويقال علم أبي حنيفة ويراد معلومه ولهذا لو حلف بعلم الله لا يكون يمينا وإذا كان مستعملا بمعنى المعلوم يستحيل أن يجعل بمعنى الشرط لأن الشرط ما يكون على خطر الوجود ومعلوم الله تعالى متحقق لا محالة وإذا كان كذلك كان واقعا في الحال لأنه جعل معلوم الله تعالى ظرفا للطلاق وإنما يكون الطلاق في معلومه أن لو كان واقعا في الحال لأنه لو لم يكن واقعا لكان عدمه في معلومه. قال شمس الأئمة في أصول الفقه. فإن قيل لو قال في قدرة الله لم يطلق وقد يستعمل القدرة بمعنى المقدور فقد يقول من يستعظم شيئا هذا قدرة الله. قلنا معنى هذا استعمال أنه أثر قدرة الله إلا أنه قد يقام المضاف إليه مقام المضاف ففهم المقدور من المضاف المحذوف لا من المضاف إليه ومثله لا يتحقق في العلم إذ القدرة من المؤثرات بخلاف العلم ألا ترى أنه يجوز أن يقال الله تعالى معلوم لنا ولا يجوز أن يقال الله مقدورنا.
قوله "وعلى هذا" أي على أن هذا الحرف يستعار للمقارنة حمل على مع في هذه المسألة عند النية فإذا قال لفلان علي عشرة دراهم في عشرة دراهم يلزمه عشرة دراهم عندنا إلا أن يعني معنى مع فيلزمه عشرون. وقال زفر رحمه الله يلزمه عشرون بكل حال. وقال الحسن يلزمه مائة ; لأن العشرة في العشرة في متعارف الحساب مائة فيحمل عليها. إلا أنا نقول أثر الضرب في تكثير الأجزاء إلا في زيادة المال وعشرة دراهم وزنا وإن تكثر أجزاؤها لا تصير أكثر من عشرة. وزفر رحمه الله يقول لما تعذر العمل بحقيقة هذا الحرف لأن العدد لا يكون ظرفا لمثله بلا شبهة حمل على مع أو واو العطف لما ذكرنا أن في الظرف معنى المقارنة والجمع قال الله تعالى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} "الفجر: 29" أي معهم. وإنا نقول جهة المجاز هاهنا متعددة فإن في قد يكون بمعنى على وبمعنى من كما يكون بمعنى مع قال تعالى إخبارا {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "طه: 71". أي عليها وقال

(2/273)


دراهم لأنه لا يصلح للظرف فلغو إلا أن ينوي به معنى مع أو واو العطف فيصدق لما قلنا إن في الظرف معنى المقارنة فيصير من ذلك الوجه مناسبا لمع وللعطف فيلزمه عشرون وكذلك قوله أنت طالق واحدة في واحدة فهي واحدة وإن نوى معنى مع وقعا قبل الدخول وإن نوى الواو وقعت واحدة.
ـــــــ
عز اسمه {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} "النساء: 5". أي منها وليس أحد الوجوه أولى من الباقي فيعتبر أول كلامه فيلزمه عشرة ويلغو آخره. إلا أن يقول عنيت هذه وهذه فحينئذ يعمل بيانه لأنه بين أنه استعمله بمعنى مع أو بمعنى الواو وفيه تشديد عليه فيصدق. ولا يقال معنى على أو من لا يستقيم هاهنا إذ لا يقال علي عشرة علي عشرة ولا علي عشرة من عشرة فكان معنى المقارنة متعينا فوجب الحمل عليه من غير نية كما قال زفر. لأنا نقول المال لا يجب بالشك لأن البراءة أصل وقد أمكن حمل كلامه على تكثير الأجزاء فلا وجه للمصير إلى المجاز وإيجاب الزيادة من غير قصد.
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله لفلان علي عشرة في عشرة قوله أنت طالق واحدة في واحدة في أنه يعتبر المذكور الأول عند عدم النية فيقع واحدة سواء كانت المرأة مدخولا بها أو لم تكن ويصح إرادة مع أو الواو إلا أنه إذا أراد مع لا يفترق الحال بين المدخول بها وغير المدخول بها فتقعان جميعا وإن أراد الواو يقع ثنتان في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها كما لو صرح بالواو فقال أنت طالق واحدة وواحدة.

(2/274)


"حروف القسم"
ومن ذلك حروف القسم وهي الباء والواو والتاء وما وضع لذلك وهو ايم الله تعالى وما يؤدي معناه وهو لعمر الله فأما الباء فهي للإلصاق وهي دالة على فعل محذوف معناه أقسم له أو أحلف بالله وكذلك في سائر الأسماء والصفات وكذلك في الكنايات تقول بك لأفعلن كذا وبه لأفعلن كذا فلم يكن لها اختصاص القسم.
وأما الواو فإنها استعيرت بمعنى الباء لأنها تناسب صورة ومعنى أما الصورة فإن صورتها وجودها من مخرجها بضم الشفتين مثل الباء وأما المعنى فإن عطف الشيء على غيره نظير إلصاقه به فاستعير له إلا أنه لا يحسن إظهار
ـــــــ
"حروف القسم"
قوله "ومن ذلك" أي ومن باب حروف الجر ومن باب حروف المعاني حروف القسم. والقسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى ولهذا لم يجز السكوت عليه فلا تقول أحلف بالله وتسكت بل يجب أن تأتي بالمقسم عليه فتقول أحلف بالله لأفعلن لأنك لم تقصد الإخبار بالحلف وإنما قصدت أن تخبر بأمر آخر نحو لأفعلن إلا أنك أكدته ونفيت عنه الشك بأن أقسمت عليه. وهي الباء والواو والتاء فإنها مستعملة في القسم وإن لم توضع له في أصل الوضع ألا ترى أنها تستعمل في غيره أيضا. وما وضع لذلك أي للقسم وهو ايم الله فإنه لم يوضع إلا للقسم ولهذا لم يستعمل في غيره. وما يؤدي معنى القسم كما سنبينه. وأما الباء فهي التي للإلصاق أي الباء التي في القسم ليست بحرف موضوع للقسم بل هي الباء التي للإلصاق فإنهم لما احتاجوا إلى إلصاق فعل الحلف بما يقسمون به استعملوها فيه استعمالهم إياها في قولهم كتبت بالقلم إلا أنهم حذفوا الفعل لكثرة القسم في كلامهم اكتفاء بدلالة الباء عليه كما حذفوا في بسم الله فقالوا بالله لأفعلن مريدين أحلف بالله أو أقسم به فكانت الباء دالة على فعل محذوف. وكذلك في سائر الأسماء أي كما تدل الباء على فعل محذوف في بالله لأفعلن تدل على فعل محذوف في الحلف بسائر الأسماء مثل قوله بالرحمن وبالرحيم بالقدوس لأفعلن. والصفات مثل قوله بعزة الله وبجلاله وبعظمته وبكبريائه. فلم يكن لها أي للباء اختصاص بالقسم يعني لما كان دخولها في القسم باعتبار معنى الإلصاق لا أنها موضوعة له لم تكن مختصة بالقسم لأن الإلصاق لا يختص به.

(2/275)


الفعل ها هنا تقول والله ولا تقول أحلف والله لأنه استعير للباء توسعة لصلات القسم فلو صح الإظهار لصار مستعارا بمعنى الإلصاق فتصير الاستعارة عامة في بابها وإنما الغرض بها الخصوص لباب القسم الذي يدعو إلى التوسعة ويشبه قسمين ولا يدخل في الكناية أعني الكاف ثم استعير التاء بمعنى الواو توسعة
ـــــــ
وأما الواو فإنها أستعيرت في القسم بدلا من الباء لمناسبة بينهما صورة ومعنى كما ذكر في الكتاب. وشرط إبدالها حذف الفعل ولهذا قيل إنها عوض عن الفعل ومن ثمة جاز أقسمت بالله وامتنع أقسمت والله كذا في بعض شروح المفصل فتبين أن معنى قوله لا يحسن إظهار الفعل لا يجوز. "لأنه" أي الواو "استعير للباء توسعة لصلات القسم" إذ الحاجة دعت إلى الاستعارة في باب القسم لكثرة دوره على الألسنة لا لمعنى الإلصاق فلو صح إظهار الفعل مع الواو لصار الواو مستعارا لمعنى الإلصاق إذ لا معنى له عند ظهور الفعل إلا الإلصاق كالباء. فتصير الاستعارة عامة في بابها في باب استعارة الواو للباء لأنه يلزم صحة استعماله مكان الباء في غير القسم أيضا فيقال مررت وزيد بالجر بمعنى بزيد وبعت هذا العبد وألف درهم بمعنى بألف درهم وفساده ظاهر إذ لم يسمع ذلك من أحد. ولأنه خروج عن الغرض إذ الغرض لها أي لاستعارة الواو للباء الخصوص لباب القسم إذ الداعي إليها وهو الحاجة إلى التوسعة مختص به.
قوله "ويشبه قسمين" يجوز أن يكون كلاما مستأنفا يعني لا يجوز إظهار الفعل مع الواو فلو أظهر مع ذلك كان في معنى قسمين لأن قوله أحلف بانفراده يمين. وكذا قوله والله فإذا جمع بينهما ولم يصلح الواو رابطة صار كأنه قال أحلف بالله ثم قال والله بخلاف الباء لأنها للإلصاق فيكون الكل كلاما واحدا فيكون يمينا واحدة. ويجوز أن يكون معطوفا على فيصير أي لو صح إظهار الفعل صارت الاستعارة عامة وأشبه كلامه قسمين لأنه لما قال أحلف والله بمعنى بالله كان بظاهره قسمان لما ذكرنا وغرضه قسم واحد فكان هذا الكلام بظاهره مخالفا لغرضه فلم يكن خاليا عن خلل فكان الاحتراز عنه أولى. وكأن الشيخ رحمه الله إنما قال لا يحسن إظهار الفعل فلم يقل لا يجوز إشارة منه إلى أن الكلام لا يلغو عند إظهار الفعل ولكنه يشبه قسمين وذلك مخالف للغرض. ولا تدخل أي واو القسم في الكناية أي في المضمر لا يقال وكلأفعلن ولما كان لفظ الكناية في اصطلاح الأصوليين متناولا للضمائر وغيرها احترز بقوله أعني الكاف عن غير الضمائر. ثم استعير التاء بمعنى الواو أي أبدل التاء عنها على طريقة الإبدال في نحو تراث, وتورية, وتجاه, وتخمة, وتهمة, إذ الأصل فيها وارث فعال من ورث وراثة, وووراة فوعلة من وري

(2/276)


لشدة الحاجة إلى القسم لما بين الواو والتاء من المناسبة فإنهما من حروف الزوائد في كلام العرب مثل التراث لغة في الوارث والتورية وما أشبه ذلك ولما صار ذلك دخيلا على ما ليس بأصل انحطت رتبته عن رتبة الأول والثاني فقيل لا تدخل إلا في اسم الله لأنه هو المقسم به غالبا فجاز تالله ولم يجز تالرحيم وقد يحذف حرف القسم تخفيفا فيقال الله لأفعلن كذا لكنه بالنصب عند
ـــــــ
الزند يري وريا, إذا أخرج ناره ووجاه من الوجه, ووخمة من وخم الرجل وخامة إذا لم يهنأ الطعام له, وهمة من الوهم لأنه أمر يقع في قلب الإنسان كالظن.
وذكر في شرح "القصيدة الشاطبية" أن الناس اختلفوا في التورية فذهب البصريون إلى أنها مشتقة من وري الزند وهو الضوء الذي يظهر منه عند القدح فكأنها ضياء ونور ووزنها فوعلة كدوحلة وحوقلة فأبدلت واوها تاء على حد تجاه وتخمة وقلبت ياؤها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الكوفيون وزنها تفعلة كتنفل في تنفل وضعف ذلك لقلة هذا البناء وشذوذه. وقال بعضهم هي تفعلة كتوصية ففتحت عينها وقلبت تاؤها ألفا وقد فعل ذلك في ناصية وجارية فقيل ناصاة وجاراة في لغة طيئ وضعف ذلك أيضا لعدم إطراده في توصية وتوقية. وقال صاحب الكشاف فيه التوراة والإنجيل اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ووزنهما بفوعلة وإفعيل إنما يصح بعد كونهما عربيتين. قال وقرأ الحسن والإنجيل بفتح الهمزة وهو دليل على العجمة على أفعيل بفتح الهمزة عديم أوزان العرب فتبين بهذا أن الاستشهاد في الكتاب إنما يصح على القول الأول فقط.
ثم الشيخ ذكر أن المعنى المجوز للمجاز كونهما من حروف الزوائد وذكر الجوهري في الصحاح وجها آخر فقال اتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته وأصله اوتكلت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ثم أبدلت منها التاء فأدغمت في تاء الافتعال ثم بنيت على هذا الإدغام أسماء من المثال وإن لم يكن فيها تلك العلة توهما أن التاء أصلية لأن هذا الإدغام لا يجوز إظهاره في حال فمن تلك الأسماء التكل والتكلان والتخمة والنجاة والتراث والتقوى وإذا صغرت قلت تكيلة وتخيمى ولا تعيد الواو لأن هذه حروف ألزمت البدل فتثبت في التصغير والجمع. وذكر الشيخ عبد القاهر أن الواو في اتعد قلبت تاء لأن الواو قريبة من التاء وقد وقع بعدها تاء الافتعال وهي تقلب تاء بغير سبب كثيرا نحو تخمة وتجاه وتراث فلما كان كذلك صار بمنزلة اجتماع متقاربين ينقلب أحدهما إلى صاحبه ليقع الإدغام. ولا يجوز تالرحمن وتالرحيم قد حكى أبو الحسن الأخفش ترب الكعبة ولكنه شاذ لا يؤخذ به.

(2/277)


أهل البصرة وهو مذهبنا وبالخفض عند أهل الكوفة وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل مثل قول الرجل والله الله والله الرحمن والرحيم على ما ذكرنا في الجامع. وأما أيم الله فأصله أيمن الله وهو جمع يمين وهذا مذهب أهل
ـــــــ
قوله "لكنه" أي المقسم به بالنصب عند أهل البصرة. حاصله أن الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض جائز عند أهل الكوفة وعند أهل البصرة لا يجوز إلا بعوض نحو همزة الاستفهام وهاء التنبيه في قولهم ءالله ما فعلت كذا وقولهم لا ها الله. احتج الكوفيون بما تقول العرب الله لتفعلن فيقول المجيب الله لأفعلن بهمزة واحدة مقصورة في الثانية فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفا. وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف فقد حكى يونس بن حبيب1 أن من العرب من يقول مررت برجل صالح إلا صالح فطالح أي إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح.
وروي عن رؤبة العجاج أنه إذا قيل له كيف أصبحت كان يقول: خير. عافاك الله أي بخير وفي الشواهد على ذلك من الأشعار كثيرة. وأما البصريون فقالوا أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف وإنما تعمل مع الحذف في بعض الماضي إذا كان عنها عوض فبقيت فيما عداه على الأصل. ولا تمسك لهم فيما ذكروا لأن الجواز في قوله الله لأفعلن ثبت مخالفا للقياس لكثرة استعماله كما ثبت دخول حرف النداء عليه مع الألف واللام فلا يدل على الجواز في غيره لشذوذه وقلته. وكذا ما حكى يونس وما روي عن رؤبة وما نقل من الأشعار في ذلك كلها من الشواذ التي لا يعتد بها فلا يصح التمسك بها كذا في كتاب الإنصاف للأنباري2. وذكر الإمام عبد القاهر في المقتصد وأما حذف حرف الجر الذي هو الباء في بالله فعلى وجهين أحدهما أن يحذف ويوصل الفعل إلى الاسم فينصبه فيقال الله لأفعلن كأنه قال حلفت الله لأفعلن وعلى ذلك ثبت الكتاب:
ألا رب من قلبي له الله ناصح ... ومن قلبه لي في الظباء السوانح.
التقدير ألا رب من قلبي له ناصح بالله
والوجه الثاني أن تضمر ويبقى الجر فيقال الله لأفعلن والأكثر النصب لأن الجار لا
ـــــــ
1 هو يونس بن حبيب أبو عبدالرحمن النحوي توفي سنة 182ه أنظر وفيات الأعيان 7/244-249.
2 هو أبو البركات كمال الدين عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله الأنباري توفي سنة 577ه أنظر شذرات الذهب 4/259.

(2/278)


الكوفة وأما مذهب أهل البصرة وهو قولنا إن ذلك صلة وضعت للقسم لا
ـــــــ
يضمر إلا قليلا وإليه مال صاحب المفصل أيضا. فعلى هذا لا خلاف في المسألة إذ الخلاف في الأولوية لا في الجواز.
قوله "وقد ذكر في الجامع ما يتصل بهذا الأصل" وهو أن حذف حرف القسم جائز فقيل إذا قال والله الله لا أكلمك فكلمه فعليه كفارة واحدة لأن اسم الله إن لم يكن مشتقا كما ذهب إليه الجمهور كان قوله الله بمنزلة البدل عن الأول لأن غير المشتق لا يصلح نعتا فصار كأنه سكت واستأنف الحلف بقوله الله لا أفعل كذا والقسم بغير حرف صحيح وإن اختلف في إعرابه كما ذكرنا وإن كان مشتقا كما ذهب إليه البعض كان نعتا للأول فصار كأنه قال والله المعبود الحق المقصود لا أكلمك فلا يلزمه على التقديرين إلا كفارة واحدة لأنه يمين واحدة.
ولو قال والله الرحمن لا أكلمك فكلمه فعليه كفارة واحدة أيضا لأنه جعل الرحمن خارجا مخرج النعت للأول فصار الاستشهاد واحدا في كلام المتكلم وتسميته فلا يتعدد الهتك. ولو قال والله والرحمن لا أكلمك فكلمه لزمته كفارتان وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله لزمته كفارة واحدة لاتحاد المقسم عليه فإن قوام اليمين فعمرك به فعمرك عليه واتحاد الأول مع تعدد الثاني يوجب كونه يمينا واحدة فكذا عكسه. وقلنا إن قوله والله عمرك به. وقوله والرحمن معطوف عليه فكان غيره في تسمية الحالف فتعدد الاستشهاد فتعدد الهتك فتعددت الكفارة لأنها جزاء الهتك وصار في حق المقسم به بمنزلة اليمينين وإن كان البر واحدا. إلا أن ينوي بالواو في والرحمن واو القسم فيكون يمينا واحدة لأنه إذا نوى واو القسم انقطع الكلام وصار كأنه سكت ثم استأنف فقال والرحمن لا أكلمك ولم يحمل عليه بغير نية لأن الواو للوصل في الأصل وعلى اعتبار الوصل يصير واو القسم مدرجا كما تقول مررت بزيد وعمرو أي وبعمرو. وبخلاف قوله والله والله لا أكلمك فكلمه حيث يحمل على واو القسم من غير نية حتى تلزمه كفارة واحدة في ظاهر الرواية لأن عطف الشيء على نفسه قبيح فيجعل الواو للقسم فكان رد الأول كأنه سكت عليه واستأنف الكلام فكان يمينا واحدة فلا يلزمه بالهتك إلا كفارة واحدة.
قوله "وأما ايم الله" إلى آخره. اعلم أن قولهم في القسم أيمن الله لأفعلن اسم مفرد عند البصريين وليس بجمع يمين وعند الكوفيين هو جمع يمين لأن وزن أفعل مختص بالجمع ولا يكون في المفرد. يدل عليه أن التقدير في قولهم أيمن الله علي أيمن الله أي أيمان الله أو أيمن الله يميني. وقد جاء جمع يمين على أيمن كقوله:
يأتي لها من أيمن وأشمل.

(2/279)


اشتقاق لها مثل صه ومه وبخ والهمزة للوصل ألا ترى أنها توصل إذا تقدمه حرف مثل سائر حروف الوصل ولو كان لبناء الجمع وصيغته لما ذهب عند الوصل والكلام فيه يطول وأما لعمر الله فإن اللام فيه للابتداء والعمر البقاء ومعناه لبقاء
ـــــــ
وكقول زهير:
فيجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمه تمور بها الدماء.
والأصل في همزتها أن تكون مقطوعة لأنها جمع إلا أنها وصلت لكثرة الاستعمال وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل ولو كانت همزة وصل لكانت مكسورة. واحتج البصريون بأنه لو كان جمعا لوجب قطع الهمزة فيه ولما سقطت في بيد كما في أحرف وأكلب ولما سقطت علمنا أنه ليست بجمع. يؤيده أنهم قالوا في أيمن الله م الله ولو كان جمعا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفا واحدا إذ لا نظير له في كلامهم. ولا نسلم أن هذا الوزن مختص بالجمع فقد جاء في المفرد أيضا مثل آنك وآسد. ولا معنى لقولهم أن الأصل في الهمزة القطع ولكنها وصلت لكثرة الاستعمال لأنه لو كان كذلك لما جاز كسرها وقد جاز ذلك بالإجماع فدل أن الوصل في الهمزة أصل وأنه ليس بجمع كذا في الإنصاف. وذكر الإمام عبد القاهر في المقتصد أن الأصل في همزة أيمن القطع لأنها جمع يمين ولكنهم وصلوها لكثرة الاستعمال وكذا إذا قيل ايم الله لأن اللام محذوفة من أيمن وقد دعاهم الحرص على التخفيف بكثرة تصرف هذه الكلمة على ألسنتهم إلى أن احتجفوا بها فردوها إلى حرف واحد فقالوا م الله فمال إلى قول الكوفيين في هذه المسألة. وذكر في الإقليد أنها أي كلمة أيمن عند سيبويه اشتقت من اليمن, ساكنة الأول فاجتلبت الهمزة للابتداء كما اجتلبت في ابن وأشباهه. وحاصل هذه الأقوال أن الأصل في ايم الله أيمن الله بالاتفاق إلا أن الأيمن جمع يمين عند البعض واسم مفرد مشتق من اليمن عند آخرين فتبين أن ما ذكر الشيخ أن ذلك أي ايم الله. صلة وضعت للقسم أي كلمة بنفسها يوصل بها القسم بمنزلة الباء في بالله لا اشتقاق لها أي لا أصل لها ترجع إليه قول آخر خارج عن هذه الأقوال ظفر الشيخ به واختاره. قوله "وأما العمر" إذا قلت لعمرك لأفعلن فعمرك مبتدأ وخبره محذوف والتقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به فهذا يجري مجرى قولك أقسمت بعمرك وإذا قلت لعمر الله كان بمنزلة قوله والله الباقي. وإضمار هذا الخبر لازم كإضمار خبر المبتدأ بعد لولا فلا يقال لعمر الله قسمي كما لا يقال لولا زيد موجود لكان كذا فإن لم تأت باللام نصبته

(2/280)


الله هو الذي أقسم به فيصير تصريحا لمعنى القسم بمنزلة قول الرجل جعلت هذا العبد ملكا لك بألف درهم أنه تصريح لمعنى البيع فيجري مجراه فكذلك هذا
ـــــــ
نصب المصادر وهو القسم أيضا وقلت عمرك ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت كذا أي بتعميرك الله وإقرارك له بالبقاء. والعمر والعمر وإن كانا متفقين في المعنى وهو البقاء لم يستعمل في اليمين إلا الفتح لأن ذلك يجري مجرى المثل وفي الاختصاص ضرب من تغيير اللفظ لتغيير المعنى. وهو في الأصل مصدر عمر الرجل من حد علم أي بقي عمرا وعمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك.

(2/281)


"أسماء الظروف"
ومن هذا الجنس أسماء الظروف وهي مع وبعد وقبل وعند أما مع فللمقارنة
ـــــــ
"أسماء الظروف"
قوله "ومن هذا الجنس" أي من قسم حروف المعاني أسماء الظروف. ألحقها بحروف المعاني لمشابهتها بالحروف من حيث إنها لا تفيد معانيها إلا بإلحاقها بأسماء أخر كالحروف. أما مع فللمقارنة هذا معنى أصلي له لا ينفك عنه في أصل الوضع ألا ترى أن قولك جاء زيد مع عمرو يقتضي مجيئهما معا فلذلك وقعت تطليقتان في قوله أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة دخل بها أو لم يدخل. وكذا لو قال لفلان علي عشرة مع كل درهم من هذه الدراهم العشرة درهم يلزمه عشرون درهما. وذكر في الهادي للشادي أن مع إذا كانت ساكنة العين فهي حرف وإن كانت متحركة العين فهي اسم وكلاهما بمعنى المصاحبة. وذكر في الصحاح قال محمد بن السدي الذي يدل على أن مع اسم حركة آخره مع تحرك ما قبله وقد يسكن وينون نقول جاءوا معا. وأما كونه من الظروف فمذكور في بعض كتب النحو. ويجوز أن يكون كذلك كعند لأن انتصاب العين فيه ليس للبناء بدليل أنه يقال جاء فلان من معهم بخفض العين كما يقال جاء من عندهم فدل أن انتصابه على الظرف كانتصاب عند وكذا يمكن أن يقدر فيه معنى في فإن قولك زيد مع عمرو معناه في مصاحبة عمرو كما يمكن تقديره في عند في قولك زيد عند عمرو أي في حضرته. وقبل للتقديم والسبق فإذا وصف الطلاق بالقبلية المطلقة كان إيقاعا في الحال ولا يقتضي وجود ما بعده فإن صحة التكفير في قوله تعالى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} "المجادلة: 3". لا يتوقف على وجود المسيس بعده. وصحة الإيمان في قوله تعالى {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} "النساء: 47". لا يتوقف على وجود الطمس بعده بل يستفاد به الأمن عنه. فإذا قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار أو قبل قدوم فلان طلقت للحال دخلت الدار بعد أو لم تدخل قدم فلان أو لم يقدم. إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق واحدة قبل واحدة تقع

(2/282)


في قول الرجل أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة أنه يقع ثنتان معا قبل الدخول وقبل للتقديم حتى إن من قال لامرأته أنت طالق قبل دخولك الدار طلقت للحال ولو قال لامرأته قبل الدخول أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان ولو قال قبل واحدة تقع واحدة وبعد للتأخير وحكمهما في الطلاق ضد
ـــــــ
واحدة. ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة وقعت ثنتان. ولو قال أنت طالق واحدة بعد واحدة تقع ثنتان. ولو قال بعدها واحدة تقع واحدة وهو معنى قوله وحكمها أي حكم كلمة بعد في الطلاق ضد كلمة قبل يعني في الصورتين.
والأصل في تخريج هذه المسائل شيئان. أحدهما أن الظرف إذا أدخل بين اسمين ولم يتصل به كناية كان صفة للمذكور أولا وإن اتصل به كناية كان صفة للمذكور آخرا فإذا قال جاءني زيد قبل عمرو كانت القبلية صفة لزيد وإذا قال قبله عمرو كانت القبلية صفة لعمرو والمراد بكون القبلية صفة لكذا كونها صفة من حيث المعنى أي التقدم الذي هو مدلول هذه الكلمة صفة معنوية لكذا فأما اللفظ فمنصوب على الظرف ولو كانت صفة لفظا لم يكن إلا للمذكور أولا.
والأصل الثاني من أقر بطلاق سابق يكون ذلك إيقاعا منه في الحال لأن من ضرورة الإسناد الوقوع في حال وهو مالك للإيقاع في الحال غير مالك للإسناد فيثبت الإيقاع في الحال تصحيحا لكلامه. فإذا قال أنت طالق واحدة قبل واحدة كانت القبلية صفة للواحدة الأولى ولو لم يقيدها بهذا الوصف لكن قال وواحدة لوقعت الأولى سابقة ولغت الثانية لعدم المحل فعند التأكيد به أولى وصار معناه قبل واحدة تقع عليك. وإذا قال واحدة قبلها واحدة كانت القبلية صفة للثانية وليس في وسعه تقديم الثانية وفي وسعه القران كما إذا قال معها واحدة فيثبت من قصده قدر ما كان في وسعه وصار كأنه قال قبلها واحدة وقعت عليك. وكذا إذا قال بعد واحدة وقعت ثنتان لأن البعدية تصير صفة للأولى فتقتضي تأخير الأولى وليس في وسعه ذلك بعدما أوجبها وفي وسعه الجمع فيثبت من قصده ذلك وصار معنى كلامه بعد واحدة تقع عليك. وإذا قال بعدها واحدة وقعت لأن البعدية صفة للثانية فلا تقع لأنه لو لم يؤكد الثانية بالبعدية لا تقع الثانية لما ذكر فعند التأكيد أولى وصار كأنه قال أنت طالق بعد الأولى التي وقعت عليك.
وعلى هذا الأصل لو قال له علي درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبلا نعت للمذكور أولا فكأنه قال درهم قبل درهم آخر يجب علي. ولو قال قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي. ولو قال درهم بعد درهم

(2/283)


حكم قبل لما ذكرنا أن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله هذا الحرف أصل هذه الجملة وعند للحضرة حتى إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان وديعة لأن الحضرة تدل على الحفظ دون اللزوم والوقوع عليه على هذا قلنا وإذا قال أنت طالق كل يوم طلقت واحدة ولو قال
ـــــــ
أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن معناه بعد درهم قد وجب أو بعد درهم قد وجب لا يفهم من الكلام إلا هذا. وفي قوله بعده درهم الإقرار مخالف للطلاق قبل الدخول لأن الطلاق بعد الطلاق هناك لا يقع والدرهم بعد الدرهم يجب دينا كذا في المبسوط. فتبين بهذا أن التقييد بالطلاق في قوله وحكمها في الطلاق ضد حكم قبل احتراز عن الإقرار وقوله لما ذكرنا إشارة إلى المذكور في شرح الجامع الصغير والمبسوط. لأن الحضرة تدل على الحفظ كما إذا قال لآخر وضعت هذا الشيء عندك يفهم منه الاستحفاظ وكما لو قال لناشد الضالة لا تطلب ضالتك فإنها عندي يفهم منه الحفظ أي هي محفوظة عندي. وكما لو كان رجلان في مجلس فخرج أحدهما وترك متاعه وجب على الآخر الحفظ حتى لو تركه صار ضامنا بترك الحفظ فثبت أن الحضرة تدل على الحفظ.
وفي "المبسوط" إذا قال لفلان عندي ألف درهم كان إقرارا الوديعة لأن هذه الكلمة عبارة عن القرب وهي تحتمل القرب من يده فيكون إقرارا بالأمانة ومن ذمته فيكون إقرارا بالدين فلا يثبت به إلا الأقل وهو الوديعة ولو قال عندي ألف درهم دين فهي دين لأن قوله عندي محتمل فسره بأحد المحتملين فكان تفسيره صحيحا. وعلى هذا قلنا أي على أن هذه الألفاظ تدل على الظرف على تفاوت معانيها قلنا إذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كل يوم وليس له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا وإذا ذكر الألفاظ المذكورة تطلق ثلاثا وقال زفر رحمه الله تطلق ثلاثا في ثلاثة أيام في المسألة الأولى أيضا لأن قوله أنت طالق إيقاع وكلمة كل تجمع الأسماء فقد جعل نفسه موقع الطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع إلى أن تطلق ثلاثا كما لو قال أنت طالق في كل يوم. ولكننا نقول صيغة كلامه وصف قد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة يتصف به في الأيام كلها وإنما جعلنا كلامه إيقاعا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة ألا ترى أنه لو قال أنت طالق أبدا لم تطلق إلا واحدة. بخلاف قوله في كل يوم لأن حرف في للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفا له لا يصلح الغد ظرفا له فتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف في كذا في المبسوط وفي قوله كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى وتطلق ثلاثا في ثلاثة أيام لأنه أضمر حرف في. وكذا قوله أنت علي كظهر أمي كل يوم ينبغي أن

(2/284)


عند كل يوم أو مع كل يوم طلقت ثلاثا وكذلك إذا قال أنت طالق في كل يوم ولو قال أنت علي كظهر أمي كل يوم فهو ظهار واحد ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم يجدد عند كل يوم ظهار وهذا لما قلنا أنه إذا حذف اسم الظرف كان الكل ظرفا واحدا فإذا أثبته صار كل فرد بانفراده ظرفا على نحو ما قلنا في مسألة الغد
ـــــــ
يكون على الخلاف فيتجدد في كل يوم ظهار عنده وعندنا وهو ظهار واحدة ويدخل فيه الليل والنهار كما لو قال أنت علي كظهر أمي أبدا. ولو قال في كل يوم أو مع كل يوم أو عند كل يوم تجدد عند كل يوم ظهار لكن لا يدخل الليل في الظهار حتى كان له أن يقربها بالليل لأن توقيت الظهار عندنا صحيح فصار كأنه قال في كل يوم أنت علي كظهر أمي هذا اليوم فلا يدخل فيه الليل.
"وهذا" أي التفرقة التي ذكرنا بين حذف الظرف وإثباته. "لما قلنا" في موضعه من المبسوط أنه إذا حذف لفظ الظرف "كان الكل" أي كل الأيام ظرفا واحدا للطلاق والظهار فلا يقع إلا تطليقة واحدة وظهار واحد. فإذا أثبته أي لفظ الظرف بأن قال عند كل يوم مثلا صار كل فرد أي كل يوم بانفراده ظرفا على حدة لأن الظرف حينئذ كلمة عند مضافة إلى كل يوم فيستدعي مظروفا على حدة فيتجدد الطلاق والظهار على نحو ما قلنا في مسألة الغد من التفرقة بين حذف في وإثباته على مذهب أبي حنيفة رحمه الله. وهذه المسألة تؤيد مذهبه في مسألة الغد. فإن قيل إن أبا يوسف ومحمدا لم يفرقا في مسألة الغد بين حذف في وإثباته وهاهنا فرقا بين حذف الظرف وإثباته فما وجه الفرق لهما بين الموضعين. قلنا وجهه أن الغد ظرف واحد بلا شبهة لا يتعدد بإثبات في وحذفه فاستوى فيه الحذف والإثبات فأما قوله كل يوم فيجوز أن يكون ظرفا واحدا نظرا إلى لفظ كل فإنه هو المنتصب بالظرفية وهو لفظ واحد. ويجوز أن يكون ظروفا متعددة نظرا إلى ما أضيف إليه كل فإنه متعدد وإنه أبدا يأخذ حكم المضاف إليه فإذا لم يذكر حرف في أو ظرف آخر ووقع عليه الفعل جعل ظرفا واحدا كالأبد وإذا ذكر حرف في أو ظرف آخر وانتقل عمل الفعل عنه إليه ثم أضيف ذلك الظرف إلى كل جعل ظروفا متعددة عملا بالشبهين.

(2/285)


حروف الإستثناء"
ومن هذا الباب حروف الاستثناء وأصل ذلك إلا ومسائل الاستثناء من جنس البيان فنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ومن ذلك غير وهو من الأسماء يستعمل صفة للنكرة ويستعمل استثناء تقول لفلان علي درهم غير دانق بالرفع
ـــــــ
حروف الإستثناء"
قوله "ومن هذا الباب" أي من باب حروف المعاني حروف الاستثناء. سماها حروفا لأن الأصل فيها كلمة إلا وهي حرف فيكون البواقي جارية مجرى التبع لها وهي عشرة: إلا , وغير , وسوى , وسواء , ولا يكون , وليس , وخلا , وعدا , وما خلا , وما عدا , وحاشا. وزاد أبو بكر بن السراج لا سيما , وضم بعضهم إليها بيد بمعنى غير. وزاد بعضهم بله بمعنى دع. وإنما يدخل ليس ولا يكون في هذا الباب إذا تقدمها كلام فيه عموم كما يكون فيما قبل إلا لما فيهما من معنى النفي على اختلافهما في الأصل فإن ليس ولا دخلتا على ما هو مثبت فصيرتاه نفيا. فإذا قال أعتقت عبيدي ليس سالما أو لا يكون سالما لا يعتق سالم لأن معناه إلا سالما والتقدير ليس بعضهم سالما أو لا يكون بعضهم سالما كذا ذكر في كتاب بيان حقائق الحروف.
"وأصل ذلك إلا" أي الأصل في الاستثناء والحقيقة فيه كلمة إلا لأنها لازمة للاستثناء في أصل الوضع وما عداها قد يكون استثناء وغير استثناء. ولأن الموضوع لنقل الكلام من معنى إلى معنى في سائر الأبواب هو الحروف لا الأسماء والأفعال كحروف الاستفهام وحروف النفي وحروف الشرط فكذا في هذا الباب.
"ومن ذلك" أي ومما يستثنى به غير. وهو من الأسماء للحوق علامات الاسم به من التنوين والألف واللام والإضافة. يستعمل صفة للنكرة لأنه نكرة بحيث لا تتعرف بالإضافة وإن أضيف إلى المعارف. وإنما وقع صفة للذين أنعمت عليهم في قوله عز اسمه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} "الفتحة: 7". على أحد التأويلين لأن الذين أنعمت عليهم في معنى النكرة إذ هو غير مقصور على معنيين ومثله بمنزلة النكرة كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. ويستعمل استثناء لمشابهة بينه وبين إلا من حيث إن بعد كل واحد منهما مغاير لما قبله. ولهذه المشابهة تقع إلا مقام غير أيضا قليلا وتستحق إعراب المتبوع مع امتناعها عنه فيعطي ما بعدها وعليه قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "الأنبياء: 22". وقوله عليه السلام: "الناس كلهم موتى إلا العالمون" . وقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان.

(2/286)


صفة للدرهم فيلزمه درهم تام ولو قال غير دانق بالنصب كان استثناء يلزمه درهم إلا دانقا وكذلك قال لفلان علي دينار غير عشرة بالرفع لزمه دينار ولو نصبه فكذلك عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يلزمه دينار إلا
ـــــــ
أي غيرهما. ولهذا قالوا إذا قال له علي مائة إلا درهمان بالرفع يلزمه مائة لأن إلا هاهنا بمعنى غير فصار كأنه قال علي مائة هي غير درهمين. وعند من لا يعتبر الإعراب باعتبار أن العوام لا يميزون بين صحيح الإعراب وفاسده يلزمه ثمانية وتسعون كما لو قال إلا درهمين بالنصب. ولما استعمل استثناء ولا بد له من إعراب لأنه اسم جعل إعرابه كإعراب الاسم الواقع بعد إلا ليعلم أنه استثناء. والفرق بين كونه صفة واستثناء أنه لو قال جاءني رجل غير زيد لم يكن فيه دلالة أن زيدا جاء ولم يجئ بل كان خبرا أن غيره جاء ولو قال جاءني القوم غير زيد كان اللفظ دالا أن زيدا لم يجئ. والثاني أن استعماله صفة يختص بالنكرة على ما قلنا واستعماله استثناء لا يختص بالنكرة. وقد يقع بمعنى لا أيضا فينتصب على الحال كقوله تعالى. {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} "البقرة: و173"الأنعام: 145" و"النحل: 115". أي فمن اضطر جائعا لا باغيا ولا عاديا. وكذا {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} "الأحزاب: 53" {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} "المائدة: 1". لفلان علي درهم غير دانق أي درهم مغاير للدانق وقد كان في ذلك الزمان درهم على وزن دانق فأكد المقر أن الواجب علي ليس ذلك الدرهم وإنما هو درهم مطلق فيلزمه درهم تام وهو الذي وزنه وزن سبعة. والدانق بالفتح والكسر قيراطان والجمع دوانق ودوانيق.
"وما يقع من الفصل" إلى آخره يعني جعل محمد استثناء الدراهم من الدنانير من الاستثناء المنقطع وهو بطريق المعارضة كاستثناء الثوب منها. وجعل أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله ذلك من الاستثناء المتصل وذلك بطريق البيان وتبين الفرق بين المعارضة والبيان في ذلك الباب. والحاصل أن بيان هذا الفصل يأتي في باب البيان.
قوله "وسوى مثل غير" يعني في أنه يستثنى به. قال سيبويه كل موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بسوى ولذلك لا يكون استثناء إذا وقع بعد اسم مفرد نحو مررت برجل سواك لأنه لا يجوز فيه الاستثناء بإلا. والفرق بين غير وسوى أن غيرا لا يكون ظرفا وأصله أن يكون صفة بمنزلة مثل لأنه نقيضه تقول مررت برجل غيرك كما تقول برجل مثلك وسوى ظرف مكان منصوبا أبدا على الظرفية ولا يكون صفة تابعة لتضمنه معنى الظرف وإن كان فيه معنى غير.
وبيان ظرفيته أن العرب تجري الظروف المعنوية مجرى الظروف الحقيقة فيقولون

(2/287)


قدر قيمة عشرة دراهم منه وما يقع من الفصل بين البيان والمعارضة نذكره في باب البيان إن شاء الله وسوى مثل غير وذلك في الجامع إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة على ما ذكرنا.
ـــــــ
جلس فلان مكان فلان ولا يعنون إلا منزلة في الذهن مقدرة فينصبونه نصب الظرف الحقيقة ويستعملون سوى أيضا في هذا الموضع فيقولون مررت برجل سواك ويعنون مكانك وعوضا منك من حيث المعنى فلزم أن ينتصب انتصاب المكان للظرفية.
ومما يدل على ظرفيته وقوعه صلة نحو جاءني الذي سواك بخلاف غير. قال الإمام عبد القاهر ومما لا يستعمل إلا ظرفا سوى لا تقول في السعة هذا لسواك ولا على سواك وإنما تقول بمن سواك وبرجل سواك فتجريه مجرى قولك مررت برجل مكانك فيكون منصوبا في تقدير في مكانك قلت قام مقامك ونزل مكانك كما تقول أخذت هذا بدل ذلك. هذا الذي ذكرنا هو مذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين. وذهب الكوفيون إلى أنه كما يستعمل ظرفا يستعمل اسما بمعنى غير فيعرب كغير متمسكين بالبيت الحماسي:
ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا.
بقول الآخر:
ولا ينطق المكروه من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا.
فلو لزم ظرفية سوى وسواء لما ارتفع الأول ولما انجر الثاني. والجواب أن إخراجه عن الظرفية لضرورة الشعر جائز عندنا والكلام في حالة الاختيار وأنهم لم يستعملوه في هذه الحالة إلا ظرفا. فعلى قول هؤلاء يجوز أن يقع سوى صفة مثل غير. قال الأخفش إذا كان سوى بمعنى غير ففيه ثلاث لغات كسر السين وضمها مع القصر وفتحها مع المد تقول مررت برجل سواك وسواك وسواءك أي غيرك كذا في الصحاح. وقد ذكرنا مسائل الجامع في فصل من فلا نعيدها.

(2/288)


"حروف الشرط"
ومن ذلك حروف الشرط وهي إن وإذا وإذا ما ومتى ومتى ما وكل وكلما ومن وما وإنما نذكر في هذا الكتاب من هذه الجمل ما يبتني عليه مسائل أصحابنا على الإشارة وأما حرف إن فهو الأصل في هذا الباب وضع للشرط وإنما يدخل على كل أمر معدوم على خطر ليس بكائن لا محالة تقول إن زرتني أكرمتك ولا يجوز إن جاء غد أكرمتك وأثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلا حتى يبطل
ـــــــ
"حروف الشرط"
قوله "ومن ذلك" أي من باب حروف المعاني حروف الشرط أي كلمات الشرط أو ألفاظ الشرط وتسميتها حروفا باعتبار أن الأصل فيها كلمة , إن وهو حرف فهو الأصل في هذا الباب لأنه اختص بمعنى الشرط ليس له معنى آخر سواه بخلاف سائر ألفاظ الشرط فإنها تستعمل في معان أخر سوى الشرط. وضع للشرط أي هو موضوع للدلالة على كينونة ما بعده شرطا. قالوا معنى كلمة "إن" ربط أحد الجملتين بالأخرى على أن تكون الأولى شرطا والثانية جزاء يتعلق وقوعها بوقوع الأولى كقولك إن تأتني أكرمك يتعلق الإكرام بالإتيان. وإنما تدخل أي حرف إن على كل أمر أي شأن معدوم لأنه للمنع أو للحمل ومنع الموجود والحمل عليه لا يتحقق.
"على خطر" أي تردد بين أن يوجد وبين أن لا يوجد وهو احتراز عن المستحيل وعن الفعل المتحقق لا محالة كمجيء الغد بالنظر إلى العادة قال الإمام عبد القاهر ما كان متحقق الوجود لا يجوز فيه إن ولا الأسماء الجازمة لا يقال إن طلعت الشمس خرجت ومتى تطلع الشمس أخرج لأنها طالعة خرجت أو لم تخرج والجزاء بإن موضوع على أن أحد الأمرين مفتقر إلى صاحبه في وجوده , وانتفاء أحدهما يوجب انتفاء الآخر. وقوله ليس بكائن لا محال تأكيد. قال شمس الأئمة رحمه الله الشرط فعل منتظر في المستقبل هو على خطر الوجود بقصد نفيه أو إثباته ولا يتعقب الكلمة اسم لأن معنى الخطر في الأسماء لا يتحقق ودخول هذا الحرف في الاسم في نحو قوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} "النساء: 176" {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} "النساء: 128". من قبيل الإضمار على شرطية التفسير أو من باب التقديم والتأخير لأن أهل اللغة مجمعون على أن الذي يتعقب حرف الشرط هو الفعل دون الاسم. وأثره أي أثر حرف إن أن يمنع العلة عن الحكم أي يمنعها عن انعقادها علة للحكم. "حتى يبطل التعليق" أي إلى أن يبطل التعليق بوجود الشرط فحينئذ يصير ما ليس بعلة علة. وعند الشافعي أثره أن يمنع الحكم عن العلة ولا يمنع العلة عن الانعقاد وسيأتيك الكلام فيه مشروحا بعد إن شاء الله تعالى.

(2/289)


التعليق وهذا يكثر أمثلته وعلى هذا قلنا إذا قال الرجل لامرأته إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثا أنها لا تطلق حتى يموت الزوج فتطلق في آخر حياته لأن العدم لا يثبت إلا بقرب موته وكذلك إذا ماتت المرأة طلقت ثلاثا قبل موتها في أصح
ـــــــ
"وعلى هذا" أي على أن إن للشرط المحض قلنا إذا قال لامرأته إن لم أطلقك فأنت طالق ثلثا لم تطلق حتى يموت أحدهما قبل أن يطلقها لأن إن للشرط وأنه جعل عدم إيقاع الطلاق عليها شرطا ولا يتيقن بوجود هذا الشرط ما بقيا حيين فهو كقوله إن لم آت البصرة فأنت طالق. ثم إن مات الزوج وقع الطلاق عليها قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف ولكن قبيل موته يتحقق عجزه عن إيقاع الطلاق عليها فيتحقق شرط الحنث. فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث بحكم الفرار.
ولا يقال المعلق بالشرط كالملفوظ به لدى الشرط وقد تحقق العجز عن التكلم قبل الموت حين حكمنا بوجود الشرط فكيف يستقيم أن يجعل متكلما بالطلاق في هذه الحالة.
لأنا نقول هو أمر حكمي فلا يشترط فيه ما يشترط لحقيقة التطليق من القدرة وإنما يشترط ذلك عند التعليق ألا ترى العاقل إذا علق الطلاق أو العتق ثم وجد الشرط وهو مجنون فإنه ينزل الجزاء وإن لم يتصور منه حقيقة التطليق والإعتاق في هذه الحالة شرعا. وإن ماتت المرأة وقع الطلاق أيضا قبل موتها. وذكر في النوادر أنه لا يقع لأنها ما لم تمت ففعل التطليق فيتحقق من الزوج وإنما عجز بموتها فلو وقع الطلاق لوقع بعد الموت بخلاف جانب الزوج فإنه كما أشرف على الهلاك فقد وقع اليأس عن فعل التطليق.
وجه الظاهر أن الإيقاع من حكمه الوقوع وقد تحقق العجز عن الإيقاع قبيل موتها لأنه لا يعقبه الوقوع كما لو قال أنت طالق مع موتك فيقع الطلاق قبيل موتها بلا فصل. ولا ميراث للزوج لأن الفرقة وقعت بينهما قبل موتها بإيقاع الطلاق عليها كذا في "المبسوط".
واعلم أن "إذا" من الظروف اللازمة ظرفيتها وهو مضاف أبدا إلى جملة فعلية وفيه معنى المجازاة لأنه للاستقبال وفيه إبهام فناسب المجازاة إذ الشرط لا يكون إلا مستقبلا مجهول الشأن لتردده بين أن يكون وبين أن لا يكون ولهذا اختص إذا بالجملة الفعلية. وأنه

(2/290)


الروايتين وأما إذا فإن مذهب أهل اللغة والنحو من الكوفيين فيها إنها تصلح للوقت وللشرط على السواء فيجازى بها مرة ولا يجازى بها أخرى فإذا جوزي بها فإنما يجازى بها على سقوط الوقت عنها كأنها حرف شرط وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وأما البصريون من أهل اللغة والنحو فقد قالوا إنها للوقت وقد تستعمل
ـــــــ
قد يكون ظرفا غير متضمن للشرط كما في قوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} "الليل: 1". وذكر الإمام عبد القاهر أن إذا لا يجازى بها إلا في ضرورة الشعر: كبيت الكتاب:
ترفع لي خندف والله يرفع لي ... نارا إذا خمدت نيرانهم تقد
قال والاختيار أن لا يجزم بها لأنهم وضعوها على ما يناسب التخصيص ويبعد من الإبهام الذي يقتضيه إن الأتراك تقول آتيك إذا احمر البسر بمنزلة قولك آتيك الوقت الذي يحمر فيه البسر ولو قلت آتيك إن احمر البسر لم يستقم لأن احمرار البسر ليس بعلة للإتيان وإذا قلت أخرج إذا خرجت كان بمنزلة قولك أخرج الوقت الذي تخرج فيه ولا تكون موضوعة على تعليق خروج هذا بخروج ذلك كما في قولك أخرج إن خرجت. قال ومن جازى بها فالحمل على ظاهر الحال وهو أن خروجك لما تعلق بوقت خروج الآخر صار كأن هذا سبب له فدخله معنى الجزاء. ونظير إذا في أن معنى المجازاة دخله ولا يجزم به الذي فإنك تقول الذي يفعل كذا فله درهم بمعنى أن يفعل إنسان فله درهم ثم لا تجزم به.
"قوله فيجازي بها" أي بكلمة إذا مرة ولا يجازي بها أخرى أي تستعمل مرة للشرط ويرتب عليها الجزاء وتستعمل للوقت مرة. والحاصل أن كلمة إذا مشتركة بين الوقت والشرط عند الكوفيين فإذا استعملت في الشرط لم يبق فيها معنى الوقت وصارت بمعنى إن كما في سائر الألفاظ المشتركة إذا استعملت في أحد المعاني لم يبق فيها دلالة على غيره وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله. وعند البصريين هي موضوعة للوقت وتستعمل في الشرط من غير سقوط معنى الوقت كمتى وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. والخلاف المذكور في قوله إذا لم أطلقك فأنت طالق فيما إذا لم ينو شيئا فأما إذا نوى الشرط أو الوقت فهو على ما نوى بالاتفاق. والمجازاة بها أي بكلمة متى لازمة في غير موضع الاستفهام. وموضع الاستفهام مثل قولك متى القتال أو متى خرج زيد وذلك لأن الجزاء في مقابلة الشرط والاستفهام ليس بشرط لأنه طلب الفهم عن وجود شيء. وحاصل

(2/291)


للشرط من غير سقوط الوقت عنها مثل متى فإنها للوقت لا يسقط عنها ذلك بحال والمجازة بها لازمة في غير موضع الاستفهام والمجازاة بإذا غير لازمة بل هي في حيز الجواز وإلى هذا الطريق ذهب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بيانه فيمن قال لامرأته إذا لم أطلقك فأنت طالق في قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما مثل قوله إن لم أطلقك وقال أبو يوسف يقع كما فرغ من اليمين مثل متى لم أطلقك لأن إذا اسم للوقت بمنزلة سائر الظروف وهو للوقت المستقبل وقد استعملت للوقت خالصا فقيل كيف الرطب إذا اشتد الحر أي حينئذ. ولا يصلح إن هنا ويقال آتيك إذا اشتد الحر ولا يجوز إن اشتد الحر لأن الشرط يقتضي خطرا أو ترددا هو أصله وإذا تدخل للوقت على أمر كائن أو منتظر لا محالة كقوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} "النكوير: 1" وتستعمل للمفاجأة قال الله تعالى {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} "الروم: 36" وإذا كان
ـــــــ
المعنى أن استعمال إذا للشرط لا يوجب سقوط معنى الوقت عنه لأن المجازاة في متى ألزم منها في إذا لأنها في متى لازمة في غير موضع الاستفهام وفي إذا جائزة ثم لم يسقط معنى الوقت عن متى في المجازاة فأولى أن لا يسقط عن إذا فيها. وإذا تدخل للوقت أي لإفادة الوقت الخالص. على أمر كائن أي موجود في الحال كقوله:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب.
أو منتظر. لا محالة كقوله تعالى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . لأن ذلك سيوجد قطعا.
"وتستعمل للمفاجأة". إذا المفاجأة هي الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها وتلك الجملة مركبة من مبتدأ وخبر والعامل في إذا هذه معنى المفاجأة وهو عامل لا يظهر لاستغنائهم عن إظهاره بقوة ما فيه من الدلالة عليه. والذي يدل على ذلك قولك خرجت فإذا زيد بالباب إذ لو كان العامل خرجت يلزم الفصل بين العامل ومعموله بالفاء وهو باطل. وغرض الشيخ أنها استعملت للمفاجأة والمفاجأة لا يحتمل معنى الشرط بوجه. قال الإمام عبد القاهر ومما يجاب به الشرط إذا في قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} "الروم: 36". فهم مبتدأ ويقنطون خبره وإذا بمنزلة الفاء في تعليقه الجملة بالشرط وذلك أن إذا المفاجأة دالة على التعقيب الذي يدل عليه الفاء فإنك إذا قلت مررت به إذا هو عبد معناه مررت فبحضرتي هو عبد فإذا بمنزلة قولك فبحضرتي ومتضمن لمعنى التعقيب الذي هو

(2/292)


كذلك كان مفسرا من وجه ولم يكن مبهما فلم يكن شرطا إلا أنه قد يستعمل فيه مستعارا مع قيام معنى الوقت مثل متى الزم ومع هذا لم يسقط عنه حقيقته وهو الوقت فهذا أولى فصار الطلاق مضافا إلى زمان خال عن إيقاع الطلاق ألا ترى أن من قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس مثل متى بخلاف إن ولا يصح طريق أبي حنيفة رحمه الله عليه إلا أن يثبت أن إذا قد يكون حرفا بمعنى الشرط مثل إن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة واحتج الفراء لذلك بقول الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
ـــــــ
في الفاء وإذا كان كذلك كان قوله عز وجل {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} . في موضع جزم لوقوعه موقع يقنطوا إذا قيل وإن تصبهم سيئة يقنطوا. وإذا كان كذلك أي وإذا كان إذا مستعملا فيما ذكرنا من المعاني كان مفسرا أي معلوما من وجه من حيث إن وجوده في المستقبل معلوم للمتكلم وإن لم يعلم وقت وجوده عينا فلا يصلح شرطا لأن الشرط ما هو متردد الوجود في المستقبل على ما مر.
"إلا أنه" أي لكنه قد يستعمل في الشرط. مستعارا أي مجازا لما ذكرنا من المناسبة مع قيام معنى الوقت. ولا يقال حينئذ يصير جمعا بين الحقيقة والمجاز. لأنا نقول لا تنافي بينهما في هذه الصورة لأن الوقت يصلح شرطا وعدم جواز الجمع باعتبار التنافي. وإذا ثبت ما ذكرنا كان الطلاق مضافا إلى زمان خال عن الإيقاع وكما سكت وجد ذلك الوقت فتطلق. ثم استدل بالحكم فقال ألا ترى أن من قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لم يتقدر بالمجلس كما لو قال متى فلو كان إذا للشرط لبطلت المشيئة إذا قامت عن المجلس كما لو قال أنت طالق إن شئت بطلت مشيئتها بالقيام عن المجلس فعلم أنه للوقت حقيقة.
"قد يكون حرفا بمعنى الشرط" لأن كونه اسما باعتبار دلالته على الوقت فإذا سقط عنه معنى الوقت عندهم بإرادة معنى الشرط كان حرفا كإن ويجوز أن يكون اللفظ الواحد اسما وحرفا كعن وعلى والكاف ونحوها واحتج الفراء وهو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء لذلك أي لكونه للشرط المحض بقول الشاعر والشعر لواحد من الفضلاء يوصى ابنه وأوله:
أجميل إني كنت كارم قومه ... فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
أوصيك يا ابني إنني لك ناصح ... طبن بريب الدهر غير مغفل

(2/293)


وإنما معناه وإن تصبك خصاصة بلا شبهة وإذا ثبت هذان الوجهان في إذا على التعارض أعني معنى الشرط الخالص ومعنى الوقت وقع الشك في وقوع الطلاق فلم يقع بالشك ووقع الشك في انقطاع المشيئة بعد الثبوت فيما استشهد به فلا تبطل بالشك وكذلك إذ.
فأما متى فاسم للوقت المبهم
ـــــــ
الله فاتقه وأوف بنذره ... وإذا حلفت مماريا فتحلل
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
وإذا تجاسر عند عقلك مرة ... أمران فاعمد للأعسف الأجمل
وفي بعض الروايات. أبني إن أباك كارب يومه من كرب الشيء إذا دنا أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح طبن بريب الدهر غير معقل من عقلت الإبل أي شددت عقالها والطبن الحاذق يقول إن أباك قريب يوم موته أو كريم قومه فاعمل بنصيحتي فإني بصروف الدهر عالم غير عاقل أو غير ممنوع عن العلم بها. فمن نصائحي أن تعد نفسك غنيا بالغنى وتظهر ذلك ما أغناك الله وإذا أصابتك مسكنة وفقر فتكلف بالصبر على الفعل الجميل أي اصبر صبرا جميلا من غير جزع وشكوى. أو معنى تجمل أظهر الغنى من نفسك بالتجمل والتزين كي لا يقف الناس على حالك. أو معناه كل الجميل وهو الشحم المذاب تعففا. إنما معناه إن تصبك خصاصة بلا شبهة لأن إصابة الخصاصة من الأمور المترددة وكلمة إذا إذا كانت بمعنى الوقت إنما تستعمل في الأمر الكائن أو المنتظر الذي لا ريب فيه عادة أو شرعا نحو مجيء الغد والقيام إلى الصلاة فلو لم تصر كلمة إذا هاهنا بمعنى الشرط وبقي معنى الوقت فيها لما جاز استعمالها في الأمر المتردد بخلاف متى لأنها لا تستعمل في الأمور الكائنة لا محالة فاستعمالها للشرط لا يدل على سقوط معنى الوقت عنها. فإن قيل ينبغي أن تحمل على متى حتى يبقى الوقت فيها معتبرا أو إن جوزي بها كما في متى. قلنا لو فعلنا ذلك يلزم منه ترك خاصيته وهي الدخول في الأمور الكائنة إذا كان بمعنى الوقت كما ذكرنا.
وذكر في بعض الحواشي أن الجزم به ودخول الفاء في جوابه دال على أنه بمعنى إن لكن للخصم أن يقول أنا أسلم أنه قد يجيء بمعنى الشرط إلا أن النزاع في سقوط معنى الوقت عنه وليس في البيت دليل على ذلك ألا ترى أنه لو قيل ومتى تصبك خصاصة فتجمل لاستقام اللفظ والمعنى أيضا من غير سقوط معنى الوقت.
قوله "وكذلك إذا ما" يعني لا يفترق الحال بين دخول ما على إذا وبين عدمه فيما ذكرنا من الأحكام. إلا أن دخول ما تحقق معنى المجازاة باتفاق بين البصريين والكوفيين.

(2/294)


بلا اختصاص فكان مشاركا لأن في الإبهام فلزم في باب المجازاة وجزم بها مثل إن لكن مع قيام الوقت لأن ذلك حقيقتها فوقع الطلاق بقوله أنت طالق متى لم أطلقك عقيب اليمين وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس وكذلك متى ما وقد سبق تفسير كلما وكذلك من وما يدخلان في هذا الباب لإبهامهما والمسائل فيهما كثيرة خصوصا في من وقد روي عن أبي يوسف ومحمد فيمن
ـــــــ
وما هذه تسمى المسلطة ومعنى المسلطة أن تجعل الكلمة التي لا تعمل فيما بعدها عاملة فيه تقول إذا ما تأتني أكرمك فما هي التي سلطت إذا على الجزم لأنه كان اسما يضاف إلى الجمل غير عامل فجعلته ما حرفا من حروف المجازاة عاملة بمنزلة متى وعند بعضهم ما في إذا صلة كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قوله "وأما متى" إلى آخره متى من الظروف أيضا وهو اسم للوقت المبهم وأنه يتضمن معنى الاستفهام والشرط وكأن المتكلم به في الاستفهام أراد أن يقول أكان ذلك يوم الجمعة أو يوم السبت أو يوم كذا وكذا إلى ما يطول ذكره فأتى بمتى للإيجاز فاشتمل على الأزمنة كلها وهو معنى قوله "هو اسم للوقت المبهم". ولهذا المعنى جعل نائبا عن إن في الشرط إذا كان اللازم في قولك متى تأتني أكرمك أن تقول إن تأتني يوم الجمعة أكرمك وإن تأتني يوم السبت أكرمك إلى حد يوجب الإطالة فجئت بمتى فحصل المقصود والفصل. بين إذا ومتى أن إذا للأمور الواجب وجودها ومتى لم يتوقع بين أن يكون وبين أن لا يكون تقول إذا طلعت الشمس خرجت وإذا أذن للصلاة قمت ولا يصلح في مثل هذا متى وتقول متى تخرج أخرج مع من لا يتيقن بخروجه فتبين بما قلنا إن معنى قوله بلا اختصاص أنه لا يختص وقتا دون وقت فلذلك كان مشاركا لأن في الإبهام لتردد ما دخل عليه متى بين أن يوجد وبين أن لا يوجد كما في كلمة إن. فلزم في باب المجازاة يعني فلهذه المشاركة لزم متى في باب المجازاة أي المجازاة به لازمة يعني في غير موضع الاستفهام مثل إن إلا أن التفاوت بينهما في قيام معنى الوقت وانتفائه. وأما في موضع الاستفهام فإنما لا يستعمل استعمال الشرط لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل فلا يستقيم إضمار حرف إن فوقع الطلاق عقيب اليمين بلا فصل لوجود شرط الحنث وهو الوقت الخالي عن الإيقاع. وقوله متى شئت لم يقتصر على المجلس لأنه باعتبار إبهامه يعم الأزمنة وكذلك متى ما يعني كما عرفت حكم متى في الشرط فكذلك حكم متى ما بل أولى لأنه إذا دخل ما عليه يصيره للجزاء المحض ولا يصلح للاستفهام. ومن وما يدخلان في هذا الباب أي باب الشرط لإبهامهما فإن كل واحد منهما لا يتناول عينا. وتحقيقه أن من وما لإبهامهما دخلا في باب العموم على ما مر فلما كان

(2/295)


قال أنت طالق لو دخلت الدار أنه بمنزلة قوله إن دخلت الدار لأن فيها معنى
ـــــــ
يؤديان هذا المعنى مع الإيجاز وحصول المقصود نابا مناب إن فقيل من تأتني أكرمه وما تصنع أصنع. والمسائل فيهما كثيرة مثل قوله من شاء من عبيدي عتقه فهو حر. من دخل هذا الحصن فله رأس. ومن دخل منكم الدار فهو حر.
وأما إذا كان للشرط فهو اسم بمعنى أي تقول ما تصنع اصنع وفي التنزيل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "البقرة 106" {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} "فاطر: 2". ولا يتعلق به من مسائل الفقه شيء ولم يستعمله الفقهاء في الفقه كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
قوله "وقد روي عن أبي يوسف" إلى آخره. اعلم أن لو فيه معنى الشرط لأن معناه تعليق إحدى الجملتين المتباينتين بالأخرى على أن يكون الثانية جوابا للأولى كان ولهذا يتعقبه الفعل تحقيقا أو تقديرا. إلا أن لو للماضي تقول جئتني لأكرمتك وهو معنى قولهم لو لامتناع الشيء لعدم غيره لأن الفعل الثاني لما تعلق وقوعه بوجود الأول وامتنع الأول لأن الفعل في الزمان الماضي إذا عدم استحال إيجاده فيه بعد كان الثاني أيضا ممتنعا ضرورة تعلقه به فعلى هذا لو قال لعبده لو دخلت الدار لعتقت ولم يدخل العبد الدار في الزمان الماضي ودخلها بعد كان ينبغي أن لا يعتق لأن معناه لو كنت دخلت الدار أمس لصرت حرا ولا تعلق لهذا الكلام بالمستقبل كما ترى إلا أن الفقهاء علقوا العتق بالدخول الذي يوجد في المستقبل لأن لو لمواخاتها كلمة إن في معنى الشرط يستعمل في الاستقبال كأن يقال لو استقبلت أمرك بالتوبة لكان خيرا لك أي إن استقبلت. وقال تعالى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} "البقرة: 221". أي وإن أعجبكم {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} "التوبة: 32" {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} "التبة: 32". كما أن إن استعمل بمعنى لو قال تعالى إخبارا {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} "اىلمائدة 116". وعليه يخرج ما ذكر في الكتاب أنت طالق لو دخلت الدار فإن الطلاق لا يقع حتى تدخل الدار رواه ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف قال ولو بمنزلة إن كذا في كتاب بيان حقائق الحروف.
وليس فيه ذكر محمد وكذا لم يذكره شمس الأئمة في أصول الفقه وليس في هذه المسألة نص عن أبي حنيفة رحمه الله. وإلى أن هذه المسألة من النوادر أشار الشيخ بقوله وقد روي. وقوله لأن فيها معنى الترقب أي الانتظار معناه إذا كان الفعل الذي بعده بمعنى المستقبل لأنه حينئذ يصير مترددا فيتصور فيه الترقب. ثم اللام تدخل في جواب

(2/296)


الترقب فعمل عمل الشرط وكذلك قول الرجل أنت طالق لولا صحبتك وما أشبه ذلك غير واقع لما فيه من معنى الشرط وذكر في السير الكبير بابا بناه
ـــــــ
لو لتأكيد ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى قال الله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "الأنبياء: 22". ويجوز حذفها كقوله تعالى. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} "الواقعة: 70". ولا تدخل الفاء في جوابه لأن الفاء إنما تدخل في جملة لو كان مكانها الفعل المضارع انجزم وكلمة لولا تعمل في الجزم أصلا لأنها للماضي والجزم يختص بالمضارع على ما عرف ولهذا قال أبو الحسن الأهوازي1 إذا قال لامرأته لو دخلت الدار فأنت طالق يقع الطلاق في الحال كما لو قال إن دخلت الدار وأنت طالق لأن الفاء لا تدخل في جواب لو كما أن الواو لا تدخل في جواب إن قال صاحب كتاب بيان حقائق الحروف هو كما قال الأهوازي أن الفاء لا تدخل في جواب لو عند النجاة بلا خلاف فأما عند الفقهاء فليس كذلك لأني سألت القاضي الإمام أبا عاصم العامري2 عن هذه المسألة فقلت لو أن رجلا قال لامرأته لو دخلت الدار فأنت طالق فقال لا تطلق ما لم تدخل الدار وما سألته عن العلة والعلة فيه أن لو شرط صحيح كان وقد جاء كل واحد منهما بمعنى الآخر كما ذكرنا فيجوز أن يقع موقع أن في جواز دخول الفاء في جوابه. قال ولأن الفقهاء لا يعتبرون الإعراب لأن العامة تخطئ وتصيب فيه ألا ترى أن رجلا لو قال لرجل زنيت بكسر التاء أو لامرأته زنيت بفتح التاء يجب حد القذف في الصورتين لما ذكرنا.
قوله "وكذلك قول الرجل أنت طالق لو صحبتك". لولا لامتناع الشيء لوجود غيره زيدت على لو كلمة لا لتخرجه من امتناع الشيء لامتناع غيره. وتسمى لا هذه المغيرة لمعنى الحرف. ولا يقع بعدها إلا الاسم المتبدأ فإذا قلت لولا زيد كان مرفوعا بالابتداء أو خبره محذوف والتقدير لولا زيد موجود لكان كذا وحذف هذا الخبر حذفا لازما لطول الكلام بالجواب الذي هو قولك لكان كذا ولأن الحال يدل عليه. ويدخل في جوابها اللام للتأكيد أيضا فإذا قال أنت طالق لولا صحبتك أو لولا حسنك أو لولا حبك إياي لا يقع لما فيه من معنى الشرط وهو ربط إحدى الجملتين المتباينتين بالأخرى وامتناع الجزاء وأثر الشرط هو الربط والمنع إلا أن في الشرط الحقيقي يتوقع وقوع الجزاء بوجود الشرط وفي لولا لا توقع للجزاء أصلا لأنه لا يستعمل في المستقبل. ولهذا قالوا إنه بمنزلة الاستثناء نص عليه شمس الأئمة في أصول الفقه لأن الاستثناء وهو قوله إن شاء الله يخرج الكلام عن الإيجاب والاعتبار حتى لا يتعلق به حكم فكذلك هذه الكلمة ألا ترى أنه لو زال حسنها
ـــــــ
1 هو علي بن مهزيار الأهوازي الذورقي أبو الحسن فقيه شيعي أنظر معجم المؤلفين 7/247.
2 هو محمد بن أحمد القاضي أبو عاصم العامري. أنظر الفوائد البهية 160.

(2/297)


على معرفة الحروف التي ذكرنا آمنوني على عشرة من أهل الحصن قال ذلك رأس الحصن ففعلنا وقع عليه وعلى عشرة غيره والخيار إليه ولو قال آمنوني وعشرة فكذلك إلا أن الخيار إلى إمام المسلمين ولو قال بعشرة فمثل قوله
ـــــــ
أو مات زيد في قوله أنت طالق لولا حسنك أو لولا زيد لا تطلق. وقد روى إبراهيم بن رستم1 عن محمد رحمهما الله في قوله أنت طالق لولا أبوك أو أخوك أو لولا حسنك أنها لا تطلق وهو استثناء. وكذا ذكر أبو الحسن الكرخي في مختصره عن محمد في قوله أنت طالق لولا دخولك الدار أنها لا تطلق ويجعل هذه الكلمة بمنزلة الاستثناء.
قوله "وذكر" أي محمد. في "السير الكبير بابا". إلى آخره. قال شمس الأئمة رحمه الله في شرح السير الكبير إذا حاصر المسلمون حصنا فأشرف عليهم رأس الحصن فقال آمنوني على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه لكم فقالوا لك ذلك ففتح الحصن فهو آمن وعشرة معه لأنه استأمن لنفسه نصا بقول آمنوني والنون والياء يكني بهما المتكلم عن نفسه وكلمة على للشرط في قوله على عشرة وقد شرط أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه فعرفنا أن العشرة سواه.
ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم لأن على للاستعلاء وهو ليس بذي حظ باعتبار أنه داخل في أمانهم فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة وليس بذي حظ باعتبار أنه مباشر لأمانهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون معينا لمن تناوله الأمان منهم باعتبار أن التعيين في المجهول كالإيجاب المتبدأ من وجه.
ولو قال أمنوني وعشرة على أن أفتح لكم فالأمان له ولو عشرة سواه لأن حرف الواو للعطف وإنما يعطف الشيء على غيره لا على نفسه ففي كلامه تنصيص على أن العشرة سواه. فإن لم يكن في الحصن إلا ذلك العدد أو أقل فهم آمنون كلهم لأن الأمان بذكر العدد بمنزلة الأمان لهم بالإشارة إلى أعيانهم. وإن كان أهل الحصن كثيرا فالخيار في تعيين العشرة إلى الإمام لأن المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة وإنما عطف أمانهم على أمان نفسه فكان الإمام هو الموجب لهم للأمان فإليه التعيين. وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك لأنهم من أهل الحصن إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال
ـــــــ
1 هو إبراهيم بن رستم أبو بكر المروزي من فقهاء الحنفية توفي سنة 211ه أنظر معجم المؤلفين 1/31.

(2/298)


وعشرة ولو قال في عشرة وقع على تسعة سواه والخيار إلى الإمام ولو قال آمنوا لي عشرة على عشرة لا غير ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم والخيار فيهم
ـــــــ
ولو قال أمنوني بعشرة من أهل الحصن كان هذا. وقوله وعشرة سواه لأن الباء للإلصاق فقد ألصق أمان العشرة بأمانه وإنما يتحقق ذلك إذا كانت العشرة سواه قال شمس الأئمة رحمه الله ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح ما ذكر في بعض النسخ العتيقة أمنوني فعشرة لأن الفاء من حروف العطف وهو يقتضي الوصل والتعقيب فيستقيم عطفه على قوله أمنوني فعشرة فأما الباء فيصحب الأعواض فيكون قوله أمنوني بعشرة بمعنى عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضا عن أماني وهذا لا معنى له في هذا الجنس من المسائل فعرفنا أن الصحيح قوله أمنوني فعشرة
ولو قال أمنوني ثم عشرة كان هذا والأول سواء والعشرة سواه لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي وبهذا تبين أيضا أن الصحيح في الأول قوله فعشرة لأنه بدأ بما هو للعطف مطلقا ثم بما هو للعطف على وجه التعقيب بلا مهلة ثم بما هو للتعقيب مع التراخي. ورأيت مكتوبا على حاشية شرح السير الكبير عند تقرير هذا الغلط قيل ولا يتمخض هذا غلطا لأنه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه عند عدم الالتباس والتقدير أمنوني بأمان عشرة ولما كان لفظ الأمان مفهوما بقوله أمنوني استغنى عن ذكره ثانيا والباء حينئذ تفيد معنى الالتباس والامتزاج كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} "المؤمنون: 20". وكقولهم خرج زيد بسلاحه. ومثل هذا الحذف في قولهم اضرب السارق كالحداد أي كضرب الحداد ولما كان معنى الضرب مفهوما بقولهم اضربوا استغنى عن ذكره والباء غير مقصورة على معنى العوض بل هي لمعاني جمة فافهم. ولكن الموجب للقول بالغلط ما ذكر أن تخلل الباء بين حروف العطف غير مناسب لأن الظاهر نسق المتجانسات أما المعنى بالنظر إلى تلك المسألة وحدها فغير فاسد على ما ذكرنا.
ولو قال: أفتح لكم على أني آمن في عشرة من أهل الحصن أو على أن يؤمنوني في عشرة فهو آمن وتسعة معه لأن حرف في للظرف وقد جعل نفسه في جملة العشرة الذين التمس الأمان لهم فلا يتناول ذلك إلا تسعة معه لأنه لو تناول عشرة سواه كان هو آمنا في أحد عشر بخلاف الأول فهناك ما جعل نفسه في جملة العشرة. فإن قيل فقد جعل العشرة هنا ظرفا لنفسه والمظروف غير الظرف. قلنا هو كذلك فيما يتحقق فيه الظرف ولا يتحقق ذلك في العدد إلا بالطريق الذي قلنا وهو أن يكون هو أحدهم ويجعل كأنه قال اجعلوني أحد العشرة الذين تؤمنونهم.
فإن قيل فإذا لم يمكن حمله على معنى الظرف حقيقة ينبغي أن يجعل بمعنى

(2/299)


إليه وذلك يخرج على هذه الأصول.ومن ذلك كيف وهو سؤال عن الحال وهو اسم للحال فإن استقام, وإلا بطل ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله
ـــــــ
مع كقوله تعالى {فادخلي في عبادي} "الفجر: 29" أو بمعنى كقوله عز اسمه. إخبارا {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} "طه: 71". وباعتبار الوجهين يثبت الأمان لعشرة سواه.
قلنا الكلمة للظرف حقيقة فيجب حملها على ذلك بحسب الإمكان وذلك في أن يكون هو أحدهم داخلا في عددهم فلهذا لا تحملها على المجاز ثم الخيار في التسعة إلى الإمام لا إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه أحد العشرة فكما لا خيار لمن سواه من العشرة في التعيين لا خيار له وهذا لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة على أن يتناوله حكم أمانهم لا على أن يكون هو معينا لهم وقد نال ما سأل بقي الإمام موجبا الأمان لتسعة بغير أعيانهم فإليه بيانهم.
ولو قال آمنوا لي عشرة من أهل الحصن فله عشرة يختار أي عشرة شاء فإن اختار عشرة هو أحدهم فذلك له جائز وإن اختار عشرة سواه فالعشرة آمنون وهو فيء لأنه ما استأمن لنفسه عينا وإنما استأمن من لعشرة منكرة ولكن بقوله لي شرط لنفسه أن يكون ذا حظ ولا يمكن أن يجعل ذا حظ على وجه مباشرة الأمان لهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون هو المعين للعشرة ونفسه فيما وراء ذلك كنفس غيره إذا لم يتناوله الأمان نصا فإن عين نفسه في جملة العشرة صار آمنا بمنزلة التسعة الذين عينهم مع نفسه وإن عين عشرة سواه فقد تعين حكم الأمان فيهم وصار هو فيئا كغيره من أهل الحصن وكان معنى كلامه أمنوا لأجلي عشرة وأوجبوا لي حق تعيين عشرة تؤمنونهم. وروي أن مثل هذا وقع في زمان معاوية وكان الذي يسعى في طلب الأمان للجماعة قد آذى المسلمين فقال معاوية اللهم أغفله عن نفسه فطلب الأمان لقومه وأهله ولم يتذكر نفسه بشيء فأخذ وقتل. وقيل صاحب القصة أبو موسى الأشعري وذلك زمن عمر رضي الله عنهما استأمن إليه سابور ملك السوسي لعشرة من أهل بيته ونسي نفسه فقدمه أبو موسى وضرب عنقه. هذا كله من لطائف تقرير شمس الأئمة رحمه الله. وذلك أي ذلك الباب يخرج على هذا الأصل الذي ذكرنا في بيان الحروف في هذا الباب.
قوله "ومن ذلك" أي من باب حروف المعاني كلمة كيف كيف اسم مبهم غير متمكن وحرك آخره لالتقاء الساكنين وهي على الفتح دون الكسر لمكان الياء, وهو للاستفهام عن الأحوال وأنه وإن لم يكن ظرفا حقيقة ; لأنه لا يتضمن معنى في ولكنه جار

(2/300)


الرجل: أنت حر كيف شئت أنه إيقاع وفي الطلاق أنه يقع الواحدة ويبقى الفضل في الوصف والقدر وهو الحال مفوضا بشرط نية الزوج, وقالا ما لا يقبل
ـــــــ
مجرى الظروف لتضمنه معنى على, فإذا قلت: كيف زيد ؟ كان معناه على أي حال هو أصحيح أم سقيم قاعد أم قائم إلى آخر ماله من الأوصاف. وإنما قلنا: إنه بما ذكرنا من التقدير جار مجرى الظرف; لأنه متضمن للحال, والحال جارية مجرى الظرف لأنها مفعول فيها على ما عرف. قال سيبويه كان القياس أن يكون شرطا; لأنه يدل على الحال والأحوال شروط, إلا أنه يدل على أحوال وصفات ليست في يد العبد كالصحة والسقم والشيخوخة والكهولة فلم يستقم أن تقول فيه كيف تكن أكن; لأنك بهذا اللفظ تضمن أن تكون على أحوال المخاطب وهو متعذر الوقوع منك, بخلاف متى تجلس اجلس وأين تكن أكن; لأنك شرطت على نفسك أن تساويه في الجلوس والحلول في المكان وهذا معنى يتصور وقوع الشرط عليه. وذكر في الصحاح إذا ضمت إليه ما صح أن يجازى به كقولك كيفما تفعل أفعل., وإذا ثبت أنه للسؤال عن الحال قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله لامرأته أنت طالق كيف شئت أنها تطلق قبل المشيئة تطليقة, ثم إن لم تكن مدخولا بها فقد بانت لا إلى عدة ولا مشيئة لها, وإن كانت مدخولا بها فالتطليقة الواقعة رجعة والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك. فإن شاءت البائنة, وقد نواها الزوج كانت بائنة, أو إن شاءت ثلاثا, وقد نواها الزوج تطلق ثلاثا, وإن شاءت واحدة بائنة, وقد نوى الزوج ثلاثا فهي واحدة رجعية, وإن شاءت ثلاثا, وقد نوى الزوج واحدة بائنة فهي واحدة رجعية لأنها شاءت غير ما نوى ووقعت غير ما فوض إليها فلا يعتبر. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يقع عليها شيء ما لم تشأ فإذا شاءت فالتفريع كما قال أبو حنيفة. وعلى هذا لو قال لعبده أنت حر كيف شئت عتق عند أبي حنيفة رحمه الله ولا مشيئة له وهو معنى قول الشيخ, وإلا بطل ولا يقع عندهما ما لم يشأ في المجلس, كذا في المبسوط. فلو شاء عتقا على مال أو إلى أجل أو بشرط أو شاء التدبير فذلك باطل عنده وهو حر. وعلى قياس قولهما ينبغي أن يثبت ما شاء بشرط إرادة المولى ذلك وما رأيته في كتاب. هما يقولان: إنه جعل الطلاق مفوضا إلى مشيئتها فلا يقع بدون مشيئتها كقوله أنت طالق إن شئت أو كم شئت أو حيث شئت لا يقع شيء ما لم تشأ وهذا لأنه لما فوض وصف الطلاق إليها يكون ذلك تفويضا لنفس الطلاق إليها ضرورة أن الوصف لا ينفك عن الأصل. يوضحه أن الرجعية من أوصاف الطلاق فتكون متعلقة بالمشيئة كالبينونة والعدد, وإذا تعلقت بالمشيئة فمن ضرورته تعلق الطلاق; لأن الطلاق بدون وصف لا يوجد, وهو معنى قول الشيخ فيتعلق الأصل بتعلقه فصار الطلاق على أي وصف شاءت مفوضا إليها.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إنما يتأخر إلى مشيئتها ما علقه الزوج بمشيئتها دون

(2/301)


الإشارة فحاله ووصفه بمنزلة أصله فتعلق الأصل بتعلقه وأما كم فاسم للعدد
ـــــــ
ما لم يعلق وكلمة كيف لا ترجع إلى أصل الطلاق فيكون هو منجزا أصل الطلاق ومفوضا للصفة إلى مشيئتها بقوله كيف شئت, إلا أن في غير المدخول بها وفي العتق لا مشيئة له في الصفة بعد إيقاع الأصل فيلغو تفويضه الصفة إلى مشيئتها بعد إيقاع الأصل وفي المدخول بها لها المشيئة في الصفة بعد وقوع الأصل عند أبي حنيفة بأن يجعله بائنا أو ثلاثا على ما عرف فيصح تفويضه إليها. فإن قيل: الطلاق بعد الوقوع يحتمل وصف البينونة بعد انقضاء العدة فيمكن أن يدخل في تصرف المرأة بتفويض الزوج, لكنه لا يحتمل الوصف بالثلاثة; لأنه يستحيل أن يصير الواحد ثلاثا فينبغي أن لا يدخل في تصرف المرأة بقوله كيف شئت قلنا:
يحتمل أن يصير ثلاثا بضم الثنتين إليه وإن كان الواحد لا يتبدل في نفسه حقيقة, ثم بانضمام الثنتين إليه بتغير حكمه بأن لا يبقى موجبا للرجعة وصار مؤثرا في الحرمة الغليظة فصار في معنى الصفة له فيصح تفويض الزوج إليها بلفظ كيف. يوضحه أن الاستخبار عن وصف الشيء وحاله لما كان من ضرورته وجود أصله يقدم وقوع أصل الطلاق في ضمن تفويضه المشيئة إليها فإن الاستخبار عن وصف الشيء قبل وجود أصله محال كما قال الشاعر:
يقول خليلي كيف صبرك بعدنا ... فقلت وهل صبر فيسأل عن كيف ؟
بخلاف قوله: كم شئت; لأن الكمية استخبار عن العدد فتقتضي تفويض العدد إلى مشيئتها, وأصل العدد في المعدودات الواحد, ألا ترى أن من قال لآخر: كم معك استقام الجواب عنه بالواحد. وبخلاف قوله حيث شئت أو إن شئت; لأنه عبارة عن المكان والطلاق إذا وقع في مكان يكون واقعا في الأمكنة كلها فكان ذلك تعليق أصل الطلاق بمشيئتها كأنه قال أنت طالق في أي مكان شئت الطلاق. فإن قيل كيف قد تضاف إلى موجود فيصير استيضافا, وقد يضاف إلى معدوم فيكون لتعليق الأصل بأوصافه بالمشيئة كما في قولك افعل كيف شئت, وطلقي كيف نفسك شئت فيكون كيف في قوله أنت طالق كيف شئت دالا على أن ذلك الطلاق بحيث يوجد بمشيئته كما أنه في قوله افعل كيف شئت يدل على أن الفعل يتكون منه بمشيئته. قلنا: إنا لا ننكر دخول كيف على معدوم سيوجد ولكن نقول: إنه لا يتعرض لأصل ما دخل عليه وإنما يتعرض لوصفه فقوله افعل وطلقي لطلب الفعل, والتفويض قبل دخول كيف عليه ولا يوجب وجود الفعل والطلاق في الحال فكذا بعد دخوله, وقوله أنت طالق يوجب وقوع الطلاق في الحال قبل دخول كيف عليه, فكذلك بعد دخوله; لأنه لا يتعرض للأصل.

(2/302)


الذي هو الواقع وحيث اسم لمكان مبهم دخل على المشيئة, والله أعلم
ـــــــ
فما قاله أبو حنيفة رحمه الله حقيقة الكلام وما قالاه معاني كلام الناس عرفا واستعمالا, كذا في الأسرار "والمبسوط".
واعلم أن معنى الاستفهام قد يسلب عن كيف فيبقى دالا على نفس الحال كما حكى قطرب عن بعض العرب انظر إلى كيف يصنع أي إلى الحال صنعته, وإليه أشار الشيخ بقوله وهو اسم للحال بعد قوله وهو سؤال عن الحال, أي أنه قد يكون اسما للحال من غير معنى السؤال فيه كما في مسألتنا هذه فإنه يدل على الحال من غير معنى السؤال حتى لم يصح تقدير السؤال فيه وصح التعليق بالمشيئة, ولو بقي فيه معنى السؤال لوقع الطلاق في الحال من غير تعليق الوصف بمشيئتها أنه إيقاع لأنه لا وصف للحرية بعد الوقوع ليتعلق بالمشيئة ويبقى الفضل على أصل الطلاق في الوصف أي البينونة, والقدر أي العدد وهو الحال أي الفضل هو الحال التي تدل عليها كيف مفوضا إلى المرأة. بشرط نية الزوج يعني في حق المدخول بها; لأنه لا يبقى فضل بعد الوقوع في حق غير المدخول بها ليتعلق بالمشيئة كما في الحرية.
ولا يقال: ينبغي أن لا يحتاج إلى نية الزوج; لأنه لما فوض الأمر إليها يجب أن تستقل بإثبات ما فوض إليها اعتبارا بعامة التفويضات.
لأنا نقول: إنما فوض إليها حال الطلاق بكلمة كيف والحال مشتركة بين البينونة والعدد فيحتاج إلى النية لتعيين أحد المحتملين. وعن أبي بكر الرازي أن نية الزوج ليست بشرط. وذكر الطحاوي في مختصره أن لها أن يجعل الطلاق بائنا وثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله فقد جعل الطحاوي المشيئة إليها في إثبات وصف البينونة والثلاث حتى قال بعض مشايخنا: إنه إذا لم ينو الزوج شيئا وشاءت المرأة ثلاثا أو واحدة بائنة يقع ما أوقعت بالاتفاق. أما على أصل أبي حنيفة فلأن الزوج أقام امرأته مقام نفسه في إثبات الوصف. والزوج متى أوقع طلاقا رجعيا يملك أن يجعله بائنا وثلاثا عنده فكذا المرأة. وأما على قولهما, فكذلك تملك إيقاع البائن وإيقاع الثلاث; لأنه فوض الطلاق إليها على أي وصف شاءت, كذا في الفوائد الظهيرية.
وقالا ما لا يقبل الإشارة أي ما لا يكون محسوسا يشار إليه مثل التصرفات الشرعية من الطلاق والعتاق والبيع والنكاح ونحوها. فحاله مثل كون الطلاق مثلا بائنا ورجعيا. ووصفه مثل كونه سنيا وبدعيا, وإلا ظهر أنه ترادف بمنزلة أصله; لأن وجوده لما لم يكن معاينا محسوسا كان معرفة وجوده بآثاره وأوصافه كوجود النكاح يعرف بأثره وهو ثبوت الحل ووجود البيع بأثره وهو الملك, وإذا كان كذلك كان معرفة وجوده مفتقرا إلى وصفه

(2/303)


--------------------------------------------------------
ـــــــ
كافتقار وصفه في وجوده إليه فكان وصفه بمنزلة الأصل من هذا لوجه فإذا تعلق الوصف تعلق الأصل الذي هو بمنزلة التبع من وجه يتعلقه أيضا.
قوله "وأما كم فاسم" لكذا كم اسم غير متمكن موضوع للكناية عن الأعداد وفي الصحاح كم اسم ناقص مبهم مبني على السكون وإن جعلته اسما تاما شددت آخره وصرفته فقلت أكثرت من الكم والكمية. فإذا قال أنت طالق كم شئت لم تطلق قبل المشيئة ويتقيد بالمجلس وكان لها أن تطلق نفسها واحدة أو ثنتين أو ثلاثا بشرط مطابقة إرادة الزوج كذا رأيت بخط شيخي رحمه الله معلما بعلامة البزدوي.
وذلك لأن كلمة كم اسم للعدد المبهم كما ذكرنا والعدد هو الواقع في الطلاق إما مقتضى كما في قوله أنت طالق إذا التقدير أنت طالق طلقة أو تطليقة واحدة وإما مذكورا كما في قوله أنت طالق ثلاثا أو ثنتين أو واحدة وهو معنى قول الشيخ كم اسم للعدد الذي هو الواقع ولما كان كذلك, وقد دخلت المشيئة على نفس الواقع الذي هو العدد تعلق أصله بالمشيئة بخلاف كيف كأنه قال أنت طالق أي عدد شئت. ولما كان هذه الكلمة للعدد المبهم صارت عامة فكان لها أن تشاء الواحدة والثنتين والثلاث. ولما لم يكن في كلامه دلالة على الوقت تقيدت المشيئة بالمجلس إلى ما ذكرنا أشار الشيخ في شرح الجامع الصغير.
قوله "وأما حيث, فاسم لمكان مبهم" حيث اسم مبني من ظروف المكان كأين وحرك آخره لالتقاء الساكنين وبني على الضم تشبيها له بالغايات; لأنها لم تجئ الإضافة إلى جملة كذا قبل. ومنهم من يبنيها على الفتح استثقالا للكثرة مع الياء. ومنهم من كسر لالتقاء الساكنين. وحيث بالضم والفتح لغة فيه أيضا ولا يصح إضافته إلى المفرد وأما ما يقوله الناس من حيث اللغة بالكسر فخطأ وإنما الصواب هو الرفع على أن يكون مبتدأ والخبر مضمر أو هو ثابت أو نحوه. فإذا قال: أنت طالق حيث شئت لا تطلق قبل المشيئة ويتوقف بالمجلس لما بينا أنه من ظروف المكان ولا اتصال للطلاق بالمكان فيلغو ذكره ويبقى ذكر المشيئة في الطلاق فيقتصر على المجلس. فإن قيل: إذا لغا ذكر المكان بقي قوله أنت طالق إن شئت فينبغي أن يقع للحال كما في قوله أنت طالق إن دخلت الدار والمسألة في التجريد والكفاية. قلنا: لما تعذر العمل بالظرفية جعلناه مجازا لحرف الشرط لمشاركتهما في الإبهام فصار بمنزلة قوله إن شئت والاستعارة أولى من الإلغاء.
فإن قيل لم لم يجعل بمنزلة إذا ومتى حتى لا يبطل بالقيام عن المجلس وفيه رعاية معنى الظرفية. قلنا: جعله مجازا لحرف إن أولى إذ هو الأصل في باب الشرط وما وراءه ملحق به, كذا في الفوائد الظهيرية والله أعلم.

(2/304)