كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما"
اختلف العلماء في الأمر بالشيء هل له حكم في ضده إذا لم يقصد ضده
ـــــــ
"باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما"
أي أضداد ما نسبا إليه. وذهب عامة العلماء الذين قالوا بأن موجب الأمر الوجوب من أصحابنا وأصحاب الشافعي, وأصحاب الحديث إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان له ضد واحد كالأمر بالإيمان نهي عن الكفر, وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها يكون الأمر نهيا عن الأضداد كلها. وقال بعضهم يكون نهيا عن واحد منها غير عين. وفصل بعضهم بين أمر الإيجاب والندب فقال أمر الإيجاب يكون نهيا عن ضد المأمور به أو أضداده لكونها مانعة من فعل الواجب, وأمر الندب لا يكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهي عنها لا نهي تحريم, ولا نهي تنزيه.
ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضد المأمور به نهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضده مندوبا كما يكون فعله مندوبا., وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد باتفاقهم كالنهي عن الكفر يكون أمرا بالإيمان والنهي عن الحركة يكون أمرا بالسكون, وإن كان له أضداد فعند بعض أصحابنا وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر وعند عامة أصحابنا وعامة أهل الحديث يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين. وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله لا فرق بين الأمر والنهي في أن لكل واحد منهما ضدا واحدا حقيقة, وهو تركه فالأمر بالشيء نهي عن ضده, وهو تركه والنهي عن الشيء أمر بضده, وهو تركه أيضا غير أن الترك قد يكون بفعل واحد بطريق التعيين كالتحرك يكون تركه بالسكون وقد يكون بأفعال كثيرة كترك القيام يكون بالقعود والاضطجاع والاستلقاء فهذا بيان الاختلاف بين أهل السنة. فأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن عين الأمر لا يكون نهيا عن ضد المأمور به, وكذا النهي عن الشيء لا يكون أمرا بضد المنهي عنه لكنهم اختلفوا في أن كل واحد منهما هل يوجب حكما في ضد ما أضيف

(2/477)


----------------------------------------------------
ـــــــ
إليه فذهب أبو هاشم, ومن تابعه من متأخري المعتزلة إلى أنه لا حكم له في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه, وإليه ذهب الغزالي وإمام الحرمين من أصحاب الشافعي. وذهب بعضهم منهم عبد الجبار وأبو الحسين إلى أن الأمر يوجب حرمة ضده. وقال بعضهم يدل على حرمة ضده. وقال بعضهم يقتضي حرمة ضده هكذا ذكر في الميزان وغيره, وذكر صاحب القواطع فيه الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى, وهذا مذهب عامة الفقهاء وذهبت المعتزلة إلى أنه لا يكون نهيا عن الضد وبين الدلائل ثم قال والمسألة مصورة فيما إذا وجد الأمر وحكمنا أنه على الفور فلا بد من ترك ضده عقيب الأمر كما لا بد من فعله عقيب الأمر, وأما إن قلنا إن الأمر على التراخي فلا يظهر المسألة بهذه الظهور. وإليه أشار أبو اليسر أيضا فقال أبو بكر الجصاص وأبو منصور الماتريدي, وأصحاب الشافعي: الأمر إذا أوجب تحصيل المأمور به على طريق الفور يقتضي النهي عن ضده إلى آخره. وكذا ذكر شمس الأئمة أيضا. وقال عبد القاهر البغدادي إنما يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده إذا كان المأمور به مضيق الوجوب بلا بدل, ولا تخيير كالصوم فأما إذا لم يكن كذلك فلا يكون نهيا عن ضده كالكفارات واحدة منها واجبة مأمور بها غير منهي عن تركها لجواز تركها إلى غيرها, وذكر الشيخ أبو المعين في التبصرة ثم إن أصحابنا مع أوائلهم يعني أوائل المعتزلة اتفقوا أن كل مأمور به كان تركه وهو فعل يضاده منهيا عنه, وكل منهي عنه تركه وهو فعل يضاده مأمور به إذا كان لكل واحد منهما ترك مخصوص وضد متعين, وكذا عندنا في كل ما له أضداد من الجانبين جميعا. وعندهم فيما له أضداد تقسيم يطول ذكره. غير أن عندنا كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعلى القلب; لأن كلام الله تعالى عندنا واحد, وهو بنفسه أمر بما أمر ونهي عما نهى فكان ما هو الأمر بالشيء نهيا عن ضده وعلى العكس وعند المعتزلة كلام الله تعالى هذه العبارات وللأمر صيغة مخصوصة, وكذا للنهي فلا يتصور كون الأمر نهيا لا كون النهي أمرا, ولا شك أن ضد المأمور به منهي عنه وضد المنهي عنه مأمور به فاختلفت عباراتهم فزعم بعضهم أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده والنهي عن الشيء يدل على الأمر بضده وقال بعضهم الأمر بالشيء يقتضي نهيا عن ضده, وكذا على القلب, ومنهم من يطلق ما يتفق له من اللفظ, ولا يفرق بين لفظ الدلالة, ولفظ الاقتضاء.
ثم في تحقيق هذه الأقوال وترجيح بعضها على بعض كلام طويل طوينا ذكره, ومن طلبه في مظانة ظفر به والغرض بيان المذاهب, والتنبيه على أن ما اختار الشيخ في الكتاب خلاف اختيار العامة, وهو اختيار القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة وصدر الإسلام, ومتابعيهم.

(2/478)


بنهي فقال بعضهم لا حكم فيه أصلا وقال الجصاص رحمه الله يوجب النهي عن ضده إن كان له ضد واحد أو أضداد كثيرة, وقال بعضهم يوجب كراهة ضده وقال بعضهم يقتضي كراهة ضده, وهذا أصح عندنا, وأما بالنهي عن الشيء فهل له حكم في ضده فعلى هذا أيضا قال الفريق الأول لا حكم له فيه وقال الجصاص رحمه الله إن كان له ضد واحد كان أمرا به, وإن كان له أضداد لم يكن أمرا بشيء منها وقال بعضهم يوجب أن يكون ضده في معنى ستة واجبة, وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك احتج الفريق الأول بأن كل واحد من القسمين ساكت عن غيره وقد بينا أن السكوت
ـــــــ
قوله "إذا لم يقصد ضده بنهي" احتراز عما إذا قصد الضد بالنهي مثل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} "البقرة: 222". فإن الضد في مثل هذه الصورة حرام بلا خلاف. وقال بعضهم يقتضي كراهة ضده يعني إذا كان الأمر للإيجاب, والفرق بين قوله يقتضي. وقوله يوجب ظاهر فإن الإيجاب أقوى من الاقتضاء; لأنه إنما يستعمل فيما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة أو الإشارة أو الدلالة فيقال النص يوجب ذلك فأما إذا كان ثابتا بالاقتضاء فلا يقال يوجب بل يقال يقتضي على ما عرفت. في معنى سنة واجبة أي سنة مؤكدة قريبة إلى الواجب وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك أي يقتضي كون الضد في معنى سنة مؤكدة يعني إذا كان النهي للتحريم.
قوله "وقد ذكرنا" يعني ذكرنا أن التعليق بالشرط لا يوجب نفي المعلق بالشرط قبل وجود الشرط; لأنه مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل التعليق فكذا الضد هاهنا مسكوت عنه فيبقى على ما كان قبل الأمر والنهي. ألا ترى أنه لا يصلح دليلا لما وضع له أي الأمر بالشيء وضع لطلب ذلك الشيء وإيجابه, ولا دلالة له على ثبوت موجبه فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلأن لا يكون دليلا على ثبوت ما لم يوضع له, وهو التحريم فيما لم يتناوله كان أولى. بيانه في قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة" . أي بيعوا الحنطة فموجبه إيجاب التسوية كيلا وحرمة الفضل فيما تناوله النص, وهو الأشياء الستة, ولا دلالة في ثبوت موجبه في غير هذه الأشياء أصلا إلا بطريق التعليل فلما لم يصلح دليلا في غير ما تناوله لما وضع له كيف يصلح دليلا فيما لم يتناوله لغير ما وضع له. فعلى قول هؤلاء الذم والإثم على تارك الائتمار باعتبار أنه لم يأت بما أمر به لا بمقابلة فعل الكف أو الضد; لأنه ليس بحرام عندهم, وكذا المدح والثواب لمن لم يشرب الخمر أو لم يباشر الزنا باعتبار أنه لم يباشر المنهي عنه القبيح لا بمقابلة فعل الضد أيضا. قالوا ولهذا يذم

(2/479)


لا يصلح دليلا ألا ترى أنه لا يصلح دليلا لما وضع له فيما يتناوله إلا بطريق التعليل فلغير ما وضع له أولى واحتج الجصاص رحمه الله بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده, ولا وجود له مع الاشتغال بشيء من أضداده فصار ذلك من ضرورات حكمه, وأما النهي فإنه للتحريم ومن ضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد كالحركة والسكون فأما إذا تعدد الضد فليس من ضرورة الكف عنه
ـــــــ
العقلاء تارك الصلاة بأنه لم يصل لا بالقيام والأكل والشرب ونحوها مما يضاد الصلاة ويمدحون تارك شرب الخمر بأنه لم يشرب الخمر لا باشتغاله بما يضاده من الأفعال. إلا أن هذا فاسد; لأنه يؤدي إلى استحقاق العقوبة على ما لم يفعله, وهذا مما يرده العقل والسمع; لأن المرء لا يعاقب على عدم الفعل كيف والعدم الأصلي غير مقدور أصلا وقد قال الله تعالى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "السجدة "17".و"الأحقاف 14:" و"الواقعة: 24" و {يَكْسِبُون} "التوبة 82-95". ونحوهما. وأما المدح فليس على العدم الذي ليس في وسعه, وإنما هو على الامتناع الذي هو مقدوره. ولا يلزم عليه قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} "المثر: 43". فإنه رتب العقوبة على عدم الصلاة; لأن ذلك ترتيب العقوبة على الفعل في الحقيقة فإن المراد والله أعلم لم تك من المعتقدين لها وترك الاعتقاد فعلي, وهو كفر فكانت العقوبة بناء على الكفر.
قوله "واحتج الجصاص" يعني في فصل الأمر بكذا. قال شمس الأئمة رحمه الله بنى أبو بكر الجصاص مذهبه على أن الأمر المطلق يوجب الائتمار على الفور فقال من ضرورة وجوب الائتمار على الفور حرمة الترك الذي هو ضده والحرمة حكم النهي فكان موجبا النهي عن ضده بحكمه. يوضحه أن الأمر طلب الإيجاد للمأمور به على أبلغ الجهات والاشتغال بضده بعدم ما وجب بالأمر, وهو الإيجاب فكان حراما منهيا عنه بمقتضى حكم الأمر. ولهذا يستوي فيه ما يكون له ضد واحد, وما يكون له أضداد; لأنه بأي ضد اشتغل يفوت ما هو المطلوب ألا ترى أنه إذا قال لغيره اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود فيها أو الاضطجاع أو القيام يفوت ما أمر به, وهو الخروج.
"وأما النهي فإنه للتحريم" أي النهي لإثبات الحرمة, وإعدام المنهي عنه بأبلغ الوجوه فإذا كان له ضد واحد لا يمكن إعدام المنهي عنه إلا بإتيان ضده فيكون النهي حينئذ أمرا بضده, وإذا كان له أضداد لا يوجب أمرا يوجد منها; لأن الأمر بالضد إنما يثبت هاهنا ضرورة النهي, وإما ترتفع بثبوت الأمر بضد واحد فلا يجعل أمرا بجميع الأضداد ثم لا يمكن إثبات الأمر بضد واحد أيضا; لأن بعض الأضداد ليس بأولى من البعض فلا يثبت. بخلاف جانب الأمر; لأن إتيان المأمور به لا يمكن إلا بترك جميع الأضداد, وترك جميع

(2/480)


إتيان كل أضداده ألا ترى أن المأمور بالقيام إذا قعد أو نام أو اضطجع فقد فوت المأمور به, والمنهي عن القيام لا يفوت حكم النهي بأن يقعد أو ينام أو يضطجع. قال: وأجمع الفقهاء رحمهم الله أن المرأة منهية عن كتمان الحيض بقوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} "البقرة: 228" ثم كان ذلك أمرا بالإظهار; لأن الكتمان ضده واحد, وهو الإظهار واتفقوا أن المحرم منهي عن لبس المخيط ولم يكن مأمورا بلبس شيء متعين من غير المخيط,
ـــــــ
الأضداد متصور فإن ترك أفعال كثيرة من واحد في ساعة واحدة متصور أما هاهنا فيمكن تحقيق حكم النهي بإثبات ضد واحد فإن الساعة الواحدة لا يتصور فيها إثبات أفعال شتى, وإنما يتصور إثبات فعل واحد, ولكن ذلك الفعل غير متعين فلم نجعله أمرا به أيضا.
يوضح الفرق بينهما أن مع التصريح بالنهي فيما له ضد واحد لا يستقيم التصريح بالإباحة فإنه لو قال نهيتك عن التحرك. وأبحت لك السكون أو أنت مخير في السكون كان كلاما مختلا; لأن موجب النهي تحريم المنهي عنه وذلك يوجب الاشتغال بالضد والإباحة والتخيير ينافيانه. فأما إذا كان للمنهي عنه أضداد فيستقيم التصريح بالإباحة في جميع الأضداد بأن يقول لا تسكن, وأبحت لك التحرك من أي جهة شئت أو يقول لا تقم, وأبحت لك ما شئت من القعود والاضطجاع, وكذا فثبت أنه لا موجب لهذا النهي في شيء من الأضداد. ولكن من اختار أنه يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين يقول لما كان النهي مقتضيا أمرا بضده ضرورة تحقيق حكم النهي, ولا يمكنه تحقيقه إلا بترك المنهي عنه إلى ضد واحد يثبت الأمر بضد واحد غير عين, والأمر قد يثبت في المجهول كما في أحد أنواع الكفارة ثم استدل الجصاص على الفرق بين ما له ضد واحد وبين ما له أضداد في النهي بإجماع الفقهاء على ما قرر في الكتاب. وقوله تعالى. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} "البقرة: 228". أي من الحيض والحبل بالإظهار ولهذا وجب قبول قولها فيما تخبر به; لأنها مأمورة بالإظهار. والمحرم منهي عن لبس المخيط بحديث ابن عمر رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "لا يلبس المحرم القباء, ولا القميص, ولا السراويل, ولا الخفين إلا أن لا يجد النعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين1" .
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم رقم 1177 والترمذي في الحج حديث رقم 833 وأبو داود في المناسك حديث رقم 1823 وابن ماجة في المناسك حديث رقم 2929 والإمام أحمد في المسند 2/3و4و8

(2/481)


واحتج الفريق الثالث بأن الأمر على ما قال الجصاص رحمه الله إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به; لأن الثابت لغيره ضرورة لا يساوي المقصود بنفسه, وأما الذي اخترناه فبناء على هذا, وهو إن هذا لما كان أمرا
ـــــــ
ولم يكن مأمورا بلبس شيء معين من غير المخيط; لأن للمنهي عنه, وهو المخيط أضدادا., ولا يقال المنهي عنه المخيط فيكون ضده غير المخيط, وهو شيء واحد فصار نظير الإظهار مع الكتمان; لأنا نقول ليس للإظهار والكتمان أنواع بخلاف المخيط وغير المخيط فإن كل واحد منهما أنواع, وهو كالقيام مع ترك القيام فإن تركه لما كان يحصل بأنواع من الفعل عد القيام مما له أضداد لا مما له ضد واحد. واحتج الفريق الثالث بما احتج به الجصاص إلا أنهم يقولون نحن نثبت بكل واحد من القسمين أي النهي الثابت في ضمن الأمر والأمر الثابت في ضمن النهي.
"أدنى" أي "دون ما يثبت به" أي بكل واحد من الأمر والنهي إذا ورد مقصودا; لأن الثابت ضرورة الغير لا يكون مثل الثابت مقصودا بنفسه فكان هذا النهي بمنزلة نهي ورد لمعنى في غير المنهي عنه فيثبت به الكراهة والأمر بمنزلة أمر ورد لحسن في غير المأمور به فيثبت به كون المأمور به سنة قريبة إلى الواجب. ألا ترى أن النهي عن البيع وقت النداء لما كان لمعنى في غيره, وهو تأخير السعي أو فواته اقتضى كراهة المنهي عنه لا حرمته حتى بقي مباحا في نفسه, ولم يكن فاسدا فكذا هذا النهي; لأنه ثبت ضرورة فوات المأمور به لا مقصودا بنفسه. والدليل عليه أنهم أجمعوا على أنه إذا قضى الفائتة عند ضيق الوقت بحيث لا يسع إلا للوقتية يجوز ويخرج عن العهدة مع أنه منهي عن الاشتغال بها في هذه الحالة إلا أن النهي لما ثبت ضرورة فوات المأمور به لم يؤثر في نفسها بالتحريم, وأوجب الكراهة بخلاف النهي عن أداء الواجب في الأوقات المكروهة فإنه ورد قصدا فلذلك أثبت الحرمة في نفسه. وأوجب الفساد قوله "وأما الذي اخترناه" وهو أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة فبناء على هذا أي على ما ذكر الفريق الثالث أن الثابت بغيره لا يساوي الثابت بنفسه, إلا أنا نقول النهي الثابت بالأمر ثابت بطريق ضرورة الاقتضاء; لأن طلب الوجود بالأمر يقتضي انتفاء ضده فكان ينبغي أن تثبت الحرمة في الضد باقتضاء الأمر إلا أن الضرورة تندفع بإثبات الكراهة فلا يثبت الحرمة فلذلك قلنا بأن الأمر يقتضي كراهة الضد لا إنه يوجبها أو يدل عليها; لأن الثابت بالدلالة مثل الثابت بالنص أو أقوى منه, وكذلك النهي يقتضي سنية الضد إن كان له ضد واحد على قياس الأمر, وإن كان له أضداد يثبت هذا القدر من المقتضي في أي أضداده الذي يأتي به المخاطب كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله. ورأيت في بعض النسخ, وكذا إذا كان له أضداد يوجب ترغيبا في واحد

(2/482)


ضروريا سميناه اقتضاء ومعنى الاقتضاء ههنا أنه ضروري غير مقصود فصار شبيها بما ذكرنا من مقتضيات أحكام الشرع وأما قوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} "البقرة: 228" فليس بنهي بل نسخ له أصلا مثل قوله تعالى: {لا
ـــــــ
من تلك الأضداد غير عين ويجوز مثل هذا على ما بينا في الأمر بأحد الأشياء في الكفارة.
"ومعنى الاقتضاء هاهنا" كذا يعني لا نعني به الاقتضاء الذي هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق إذ لا توقف لصحة المنطوق عليه بل المراد أنه ثابت بطريق ضرورة غير مقصود كما أن المقتضى ثابت بطريق الضرورة فكان شبيها بمقتضيات الشرع من حيث إن كل واحد منهما ثابت بالضرورة فلذلك يثبت موجب النهي والأمر هاهنا بقدر ما تندفع به الضرورة, وهو الكراهة والترغيب كما يجعل المقتضى مذكورا بقدر ما تندفع به الضرورة, وهو صحة الكلام. وبما ذكرنا خرج الجواب عن قول الفريق الأول إن الضد مسكوت عنه; لأنه, وإن كان مسكوتا عنه لكنه ثابت بطريق الاقتضاء, ولا خلاف بيننا وبينهم أن الاقتضاء طريق صحيح لإثبات المقتضى, وإن كان مسكوتا عنه بعد أن يكون الأصل محتاجا إليه, وليس هذا نظير التعليقات فإنها لابتداء الوجود عند وجود الشرط, ومن ضرورة وجود الحكم عند وجود الشرط أن لا يكون موجودا قبله, ولكن عدمه قبل وجود الشرط عدم أصلي والعدم الأصلي غير مفتقر إلى دليل معدوم يضاف إليه فلا يضاف إلى التعليق نصا, ولا اقتضاء فأما وجوب الإقدام على الإيجاد فيقتضي حرمة الترك والحرمة الثابتة بمقتضى الشيء يكون مضافا إليه فلذلك جعلنا قدر ما يثبت من الحرمة مضافا إلى أمر اقتضاء.
وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في التبصرة في مسألة الاستطاعة أن بعض المتأخرين ممن تكلم في أصول الفقه من أهل ديارنا ذكر أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده, ولا أقول إنه نهي عن ضده, ولا أقول إنه بدل, ولست أدري ما إذا كان رأيه أن توجه الوعيد على تارك المأمور به لارتكابه ضد المنهي عنه, وهو الترك الذي هو فعل كما هو مذهب جميع أهل القبلة أم لانعدام ما أمر به من غير فعل ارتكبه كما هو مذهب أبي هاشم فإن كان الوعيد متوجها لانعدام المأمور به كما هو مذهب أبي هاشم فأي حاجة إلى إثبات الكراهة في الضد, والوعيد بدونه متوجه, وإن لم يكن بد لتوجه الوعيد من فعل محظور يرتكبه وذلك فعل الترك فكيف يزعم بتوجه كل الوعيد لتارك الفرائض وثبوت العقوبة له لو لم يتغمده الله برحمته لمباشرة فعل مكروه ليس بمنهي عنه, ولا محظور, وهذا مما يأباه جميع أهل العلم. وإليه أشار صاحب الميزان أيضا فقال, وما قاله بعض

(2/483)


يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} "الأحزاب: 52" فلا يصير الأمر ثابتا بالنهي بل لأن الكتمان لم يبق مشروعا لما تعلق بإظهاره من أحكام الشرع فصار بهذه الواسطة
ـــــــ
المشايخ إنه يقتضي كراهة ضده خلاف الرواية فإن ترك صلاة الفرض والامتناع عن تحصيلها حرام يعاقب عليه والمكروه لا يعاقب على فعله. ويمكن أن يجاب عنه بأن الضد إنما يجعل مكروها إذا لم يكن الاشتغال به مفوتا للمأمور فأما إذا تضمن الاشتغال به تفويته لا محالة فحينئذ يحرم بالنظر إلى التفويت, ويصير سببا لتوجه الوعيد واستحقاق العقوبة, وإن كان في ذاته مباحا كصوم يوم النحر حرام وسبب للعقوبة باعتبار ترك الإجابة, ومباح بل عبادة وسبب للثواب باعتبار قهر النفس على ما مر تحقيقه في باب النهي. وكونه حراما لغيره لا يمنع استحقاق العقوبة كأكل مال الغير.
قوله: "وأما قوله" جواب عن تمسك الجصاص بالإجماع في فصل النهي أي قول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ} . الآية ليس بنهي كما زعم الجصاص حتى يكون الأمر بالإظهار ثابتا به على ما زعم بل هو نسخ له أي رفع لجواز الكتمان أصلا; لأنه صيغة نفي لا نهي. مثل قوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} . فإنه ليس بنهي للنبي عليه السلام عن التزوج بل هو نسخ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} "الأحزاب 50". وللإباحة المطلقة الثابتة للنبي عليه السلام في حق النساء وذلك; لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن لما اخترن الله ورسوله بعد نزول آية التخيير جازاهن من الله عز وجل بقصر النبي عليه السلام عليهن بقوله عز اسمه {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . أي لا يحل لك النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنك من بعدما اخترن الله ورسوله. ثم قالت عائشة رضي الله عنها: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حل له النساء1" يعني أن الآية قد نسخت. وناسخها إما السنة أو قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} "الأحزاب 50". وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف كذا في المطلع. فلا يصير الأمر أي الأمر بالإظهار. ثابتا بالنهي أي النهي عن الكتمان لما ذكرنا أنه ليس ينهي عنه. بل; لأن الكتمان لم يكن مشروعا أي بل ثبت الأمر بالإظهار باعتبار أن كتمان ما في الأرحام لم يكن مشروعا لتعلق أحكام الشرع بإظهاره من حمل القربان وحرمته وانقضاء العدة, وإباحة التزوج بزوج آخر وغيرها. فصار أي هذا النص بواسطة عدم شرعية الكتمان أمرا بالإظهار إذ لا مرجع إلى معرفة ما في أرحامهن إلا إليهن, ولذلك غلظ عليهن في الإظهار بقوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} "البقرة: 228". أي الكتمان
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 32.

(2/484)


أمرا, وهذا مثل قوله: "لا نكاح إلا بشهود" وفائدة هذا أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر فإذا لم يفته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهي عن القعود قصدا حتى إذا قعد ثم قام لم تفسد صلاته بنفس القعود, ولكنه يكره, ولهذا قلنا إن المحرم لما نهي عن لبس المخيط كان من السنة لبس الإزار والرداء ولهذا قلنا إن العدة لما كان معناها النهي عن التزوج
ـــــــ
ليس من فعل المؤمنات لكونه من باب الخيانة والكذب, والإيمان بالله وبعقابه مانع من الاجتراء على مثل هذه الجريمة. وهذا أي قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} "البقرة: 228". مثل قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود" . في أن كل واحد منهما نفي, وليس بنهي.
قوله "وفائدة هذا" الأصل, وهو ما ذكرنا أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده والنهي عن الشيء يقتضي أن يكون ضده في معنى سنة واجبة أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر; لأن الأمر لم يوضع للتحريم, وإنما ثبت التحريم ضرورة على ما بينا. لم يعتبر أي لم يجعل التحريم في الضد ثابتا. إلا من حيث تفويت الأمر أي المأمور به يعني إنما يجعل التحريم ثابتا في الضد إذا أدى الاشتغال به إلى فوات المأمور به فحينئذ يحرم; لأن تفويت المأمور به حرام. فإذا لم يفوته أي لم يفوت الضد المأمور به كان الضد مكروها لا حراما. ثم سياق كلام الشيخ هذا ينزع إلى ما قال الجصاص في التحقيق; لأن الجصاص بنى حرمة الضد على فوات المأمور به أيضا كما بناه الشيخ فلا يظهر الخلاف معه إلا في الأمر المطلق; لأن الواجب المضيق على الفور بالاتفاق مثل الصوم فيفوت المأمور به بالاشتغال بضده في أي جزء من أجزاء الوقت حصل فيحرم بالاتفاق للتفويت والواجب الموسع مثل الصلاة على التراخي بالاتفاق فلا يحرم الضد إلا عند تضيق الوقت بالاتفاق; لأن التفويت لا يتحقق قبله. ويكون مكروها على ما اختار الشيخ وينبغي أن لا يكون مكروها إذا لم يكن التأخير مكروها لعدم تأديته إلى أمر حرام أو مكروه.
والأمر المطلق على التراخي عندنا كالموسع وعلى الفور عنده كالمضيق فلا يحرم الضد عندنا لعدم التفويت ويكره على ما ذكره الشيخ, وكان ينبغي أن تكون الكراهة على تقدير كراهة التأخير كما قلنا وعنده يحرم الضد لفوات المأمور به. فالخلاف في التحقيق راجع إلى أن الأمر المطلق على التراخي أم على الفور, ولم ينكشف لي سر هذه المسألة.
"كالأمر بالقيام" يعني في الصلاة ليس بنهي عن القعود بطريق الأصالة والقصد. "فإذا قعد ثم قام لم تفسد صلاة بنفس القعود"; لأنه لم يفت به ما هو الواجب بالأمر,

(2/485)


لم يكن الأمر بالكف مقصودا حتى انقضت الأعداد منها بزمان واحد بخلاف
ـــــــ
"ولكنه" أي القعود "يكره"; لأن الأمر بالقيام اقتضى كراهته. ولهذا أي; ولأن النهي يقتضي سنية الضد. ولهذا أي, ولما ذكرنا أن النهي عن الضد أمر به بطريق الضرورة لا بطريق القصد قلنا لما كان معنى العدة الثابتة بقوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} "البقرة: 228". النهي عن التزوج أي المقصود منها حرمة التزوج. لم يكن الأمر بالكف عن التزوج الذي هو ضد التزوج انتهى عنه مقصودا فلا يثبت به وجوب الكف بل يثبت به سنيته فلا يمنع تداخل العدتين.
وبيانه أن ركن العدة عندنا حرمات تنقضي والمدة ضربت أجلا لانقضاء هذه الحرمات والكف عن الفعل يجب احترازا عن الوقوع في الحرمة لا أنه ركن العدة, وقال الشافعي رحمه الله الركن كف المرأة نفسها عن التزوج والخروج والبروز, والمدة لتقدير الكف الواجب عليها, وحرمة الأفعال تثبت ضرورة وجوب الكف الذي هو ركن. والمسألة التي تخرج عليها أن العدتين تتداخلان وتمضيان بمدة واحدة عندنا, وهو مذهب معاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وعنده لا تتداخلان, وهو مذهب عمر وعلي رضي الله عنهم.
وصورة المسألة ما إذا تزوجت المعتدة بزوج آخر ووطئها ثم فرق القاضي بينهما يجب عليها عدة أخرى وتحتسب ما ترى من الأقراء من العدتين, وإن كانت حاملا انقضت العدتان بوضع الحمل وعنده يجب استئناف العدة بعد انقضاء الأولى. وإن تزوجت بالزوج الأول في العدة ووطئها فهاهنا تتداخلان بالاتفاق. احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} "البقرة: 228" أي يكففن ويحبسن أنفسهن عن نكاح آخر ووطء آخر هذه المدة. وقال {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} "الأحزاب: 49". وقال {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} فثبت أن العدة فعل استحقها الزوج على المرأة. والدليل عليه أن هذه النصوص تدل على أن العدة مأمور بها, والثابت بالأمر الأفعال لا الحرمات فصار ركن العدة كف النفس عن التزوج وخلط المياه لحق الزوج, وثبوت حرمة الأفعال ضرورة تحقق الكف كما في الصوم وتسميتها أجلا مجاز, وهو في الحقيقة تقدير لركن الكف كتقدير الصوم إلى الليل, وإذا ثبت أن الركن هو الكف لا يتصور كفان من واحد في مدة واحدة لاستحالة صدور فعلين متجانسين من واحد في زمان واحد ولهذا لم يتصور أداء صومين من واحد في يوم واحد. ولعلمائنا قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "الطلاق: 4". وقوله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} "البقرة:234" وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} "البقرة 235". فالله تعالى سمى العدة أجلا والآجال إذا اجتمعت على واحد أو لواحد انقضت بمدة

(2/486)


الصوم; لأن الكف وجب بالأمر مقصودا به ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله إن
ـــــــ
واحدة كمن عليه ديون مؤجلة لا بأس بآجال متساوية ينقضي جميع الآجال بمدة واحدة; ولأنه تعالى لما سماها أجلا, والأجل مدة مضروبة لامتناع شيء وجد سببه كالآجال المضروبة في الديون لامتناع المطالبة مع وجود سببها عرفنا أنها مدة ضربت لامتناع حكم الطلاق إلى زمان انقضائها, وحكم الطلاق حل التزوج والخروج; لأن النكاح قد كان حرمها على سائر الأزواج وحرم عليها الخروج والبروز, والطلاق شرع لإزالة ما أثبته عقد النكاح فكان حكمه الإطلاق, وإزالة تلك الحرمات.
وكان ينبغي أن يثبت حكمه في الحال إلا أن الشرع أدخل الأجل على حكمه فتأخر بعد انعقاد السبب إلى انقضائه كما تأخرت المطالبة في الدين المؤجل إلى انقضاء الأجل, وإذا تأخرت حكمه, وهو إزالة الحرمات كانت الحرمة ثابتة في الحال كما كانت في حالة النكاح فثبت أن الركن فيها الحرمات والدليل على أنه تعالى ذكر ركن العدة بعبارة النهي فقال: {وَلا يَخْرُجْنَ} "النساء 1". وقال: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} "البقرة: 235". والثابت بالنهي الحرمة إلا أن الحرمة لما كانت ثابتة وجب على المرأة التربص في بيت الزوج لا; لأنه ركن لكن لئلا تباشر فعلا حراما كما يجب على الرجل الكف عن الزنا إذا دعت نفسه إليه لا; لأنه ركن إذ الركن حرمة الزنا في نفسه بل لئلا يقع في الحرام. ثم الحرمات قد تجتمع لعدم التضايق فيها كصيد الحرم حرام على المحرم لحرمة الحرم ولحرمة الإحرام, وكخمر الذمي حرام على الصائم الذي حلف لا يشرب خمرا لكونها خمرا ولكونها للذمي ولصومه وليمينه, وإذا كان كذلك جاز أن يثبت حرمة التزوج والخروج مؤجلة إلى انقضاء مدة الأقراء بسبب الزوج حقا له, وإن نثبت بسبب الواطئ بشبهة أيضا حقا له في وقت واحد ثم ينتهي الحرمتان بانقضاء مدة واحدة لحصول مقصود كل واحد من صاحبي العدة بانقضائها, وهو العلم بفراغ رحمها من مائة كمن حلف مرتين لا يكلم فلانا يوما لزمه يمينان, ولو حنث يلزمه كفارتان ثم تنقضي اليمينان بيوم واحد, وكالمرأة تحرم على أزواج بتطليقات ثلاث فإن الحرمات كلها تنقضي بإصابة زوج واحد. وهذا بخلاف الصوم; لأن الركن فيه, وهو كف النفس عن اقتضاء الشهوات ثبت مقصودا بالأمر, وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "البقرة: 185". وقوله عز وجل {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة: 187". والصوم عبارة عن الكف والإمساك, وأنه فعل والمرء لا يتصف في زمان واحد بكفين كما لا يتصف بجلوسين., ومما يدل على صحة ما ذكرنا أنا متى جعلنا الواجب كفا على المرأة عن الخروج والتزوج ثم يحرم الخروج والتزوج ضرورة الكف لم يكن الخروج, ولا النكاح حراما في نفسه; لأنه حرم لغيره. ألا ترى أن الصوم لما كان كفا لم يكن

(2/487)


من سجد على مكان نجس لم تفسد صلاته; لأنه غير مقصود بالنهي, وإنما المقصود بالأمر فعل السجود على مكان طاهر, وهذا لا يوجب فواته حتى إذا أعادها على مكان طاهر جاز عنده ولهذا قال أبو يوسف: إن إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة في مسائل النفل; لأنه أمر بالقراءة ولم ينه عن تركها قصدا فصار الترك حراما بقدر ما يفوت من الفرض, وذلك لهذا الشفع. فأما احتمال شفع
ـــــــ
الأكل, ولا الشرب, ولا جماع الأهل حراما في نفسه, وإذا فعل لا يأثم إثم الأكل والشرب الحرام والجماع الحرام مثل أكل الميتة وشرب الخمر والزنا, وإنما يأثم إثم إفساد الصوم حتى كان إثم الكل واحدا, وهاهنا تأثم المرأة إثم الخروج الحرام, وإثم الجماع الحرام إذا تزوجت وجومعت حتى وجب الحد على أصله فعلم أن الحرام هو الفعل نفسه وعليها عن الفعل الحرام, وإذا لم تكف لم تأثم إثم تارك الكشف فهذا دليل بين على أن المقصود والركن حرمة أفعال لا كف بخلاف الصوم. وأما التربص فمعناه الانتظار والتربص بنفسها أن تحملها على الانتظار, وهو توقف الكينونة أمر في الثاني لا لنفسه كالرجل ينتظر قدوم رجل أو مطر أو إدراك غلة أو نحوها فيكون بمعنى الأجل, وإذا صار المقصود من الانتظار أمرا آخر لا نفسه صلح الواحد لإعداد كيوم واحد ينتظر فيه قدوم أناس وزوال حرمات بأيمان موقتة بيوم وشهر واحد ينتظر فيه حلول ديون فدل صيغة الانتظار على فعل وجب لغيره, وهو زوال الحرمات وقد سلمنا نحن هذا القدر من الفعل, ولكن الواحد يكفي لأداء حرمات كثيرة إقامة لمحظور العدة لا لركنها, والله أعلم, كذا في الأسرار.
قوله "ولهذا" أي; ولأن الأمر بالشيء يوجب كراهة ضده إذا لم يؤد إلى التفويت لا تحريمه قال أبو يوسف رحمه الله إن من سجد على مكان نجس لا تفسد صلاته; لأن السجود على المكان النجس غير مقصود بالنهي; لأن النهي عنه ثابت بالأمر بالسجود على مكان طاهر, وهو قوله تعالى. {وَاسْجُدُوا} . إذ المراد منه السجود على مكان طاهر بالإجماع, وهذا أي السجود على مكان نجس لا يوجب فوات المأمور به; لأنه يمكنه أن يعيده على مكان طاهر فيكون مكروها لا مفسدا. ولهذا أي; ولأن الأمر بالشيء لا يوجب تحريم ضده إلا إذا حصل التفويت به قال أبو يوسف رحمه الله: إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة في مسائل النفل, وهي ثمان مسائل; لأنه مأمور بالقراءة غير منهي عن تركها قصدا بل اقتضاء وضرورة فلا يكون الترك حراما إلا بقدر ما يحصل به تفويت المأمور به, وهو القراءة, وفواتها تحقق في الشفع الأول فيظهر تحريم الترك في حق هذا الشفع حتى فسد أداؤه فأما احتمال أداء شفع آخر بهذه التحريمة فلم ينقطع بهذا الترك فلا يظهر حرمة الترك في حق التحريمة فتبقى صحيحة قابلة لبناء شفع آخر عليها, وإن فسد أداء الشفع

(2/488)


آخر فلا ينقطع به ولا يلزم أن الصوم يبطل بالأكل; لأن ذلك الفرض ممتد فكان ضده مفوتا أبدا ولهذا قلنا إن السجود على مكان نجس يقطع الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ظاهر الجواب; لأن السجود لما كان فرضا صار
ـــــــ
الأول بترك القراءة, وليس من ضرورة فساد الأداء بطلان التحريمة كما إذا فسد الفرض بتذكر الفائتة. ولأن التحريمة صحت قبل الأداء شرطا للأداء فلا تبطل بفساد الأداء بمنزلة الطهارة. ولا يلزم يعني على أبي يوسف أن الصوم يبطل بالأكل بالكلية, وإن لم يوجد الأكل إلا في جزء منه مع أن التحريم لم يثبت مقصودا بل ثبت في ضمن الأمر بالكف; لأن ذلك الفرض, وهو الصوم ممتد حتى كان الكل فرضا واحدا فوجود ضده يكون مفوتا له لا محالة لفوات امتداده به كالإيمان لما كان فرضا دائما كان وجود ضده, وهو الكفر مفوتا له, وإن قل. فأما النفل فكل شفع منه صلاة على حدة ففساد الأداء في أحد الشفعين لا يؤثر في الآخر ولهذا قلنا أي ولما ذكر أبو يوسف رحمه الله أن الفرض الممتد يبطل بوجود الضد في جزء منه قلنا إن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله السجود على مكان نجس يقطع الصلاة حتى لو أعاده لا يعتد به; لأن السجود لما كان فرضا صار الساجد على النجس مستعملا للنجس بحكم الفرضية أي فرضية وضع الوجه على الأرض في السجود بمنزلة حامل النجاسة; لأن السجود يتأدى بالوجه والأرض إذ هو عبارة عن وضع الوجه على الأرض, والأرض إذا اتصلت بالوجه صار ما كان صفة لذلك الموضع بمنزلة الصفة للوجه بحكم الاتصال فيصير الساجد على النجس كالحامل بمنزلة ما لو كانت النجاسة في وجهه ثم الكف عن حمل النجاسة مأمور به في جميع الصلاة بدلالة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} "المثر: 4". أي للصلاة على ما قيل وقد عرف أن تعلق الصلاة بالمكان والبدن أكثر من تعلقها بالثوب فيثبت الكف مطلقا بالسجود على المكان النجس يفوت ذلك الكف فيكون مفسدا كالكف في الصوم لما كان مأمورا به في جميع اليوم يكون الأكل في جزء منه مفسدا له. ثم النجاسة إذا كانت في موضع اليدين أو الركبتين لا يمنع عن الجواز, وقال زفر رحمه الله: يمنع عنه; لأن أداء السجدة بوضع اليدين والركبتين والوجه جميعا فكانت النجاسة في موضع اليدين والركبتين مثلها في موضع الوجه, وأكثر ما في الباب أن له بدا من وضع اليدين والركبتين, وهذا لا يدل على الجواز إذا وضع على مكان نجس كما لو لبس ثوبين في أحدهما نجاسة كثيرة لا يجوز صلاته, وإن كان له منه بد. فالشيخ بقوله صار مستعملا للنجس بحكم الفرضية أشار إلى الفرق, وهو إنما جعلناه حاملا للنجس باعتبار أن وضع الوجه على المكان الطاهر, ووضعه على المكان النجس مانع عن أداء الفرض فيعتبر هذا الاستعمال ويجعل قاطعا فأما وضع اليدين

(2/489)


الساجد على النجس بمنزلة الحامل مستعملا له بحكم الفريضة والتطهير عن حمل النجاسة فرض دائم في أركان الصلاة في المكان أيضا فيصير ضده مفوتا للفرض ولهذا قال محمد رحمه الله: إن إحرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في النفل; لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكما على ما عرف فينقطع الإحرام بانقطاعه بمنزلة أداء الركن مع النجاسة وقال أبو حنيفة رحمه الله الفساد بترك
ـــــــ
والركبتين فليس بفرض فكان وضعها على النجاسة بمنزلة ترك الوضع وذلك لا يمنع من الجواز فلا يكون هذا الوضع بمنزلة حمل النجاسة. بخلاف الثوبين فإن اللابس للثوب مستعمل له حقيقة فإذا كان نجسا كان هو حاملا للنجاسة لا محالة فتفسد صلاته كما لو كان ممسكه بيده فأما المصلي فليس بحامل للمكان حقيقة.
وقوله, "وهو ظاهر الجواب" احتراز عما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن النجاسة في موضع السجود لا تمنع عن الجواز; لأن فرض السجود يتأدى بوضع الأرنبة على الأرض عنده وذلك دون قدر الدرهم فلا يمنع الجواز. والجواب عنه أنه إذا وضع الجبهة والأنف تأدى الفرض بالكل كما إذا طول القراءة والركوع كان مؤديا للفرض بالكل والجبهة والأنف أكثر من قدر الدرهم فلذلك منع الجواز.
قوله "ولهذا" قال محمد أي; ولأن الفرض الممتد يفوت بمطلق وجود الضد قال محمد رحمه الله إن إحرام الصلاة ينقطع بترك القراءة في التنفل, وإن كان في ركعة واحدة; لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكما; لأنها مع كونها ركنا شرط صحة الأفعال لا اعتبار لها بدونها في الشرع قال عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" . ألا ترى أنه لو استخلف أميا بعدما رفع رأسه من السجدة الأخيرة وقد أتى بفرض القراءة في محلها فسدت الصلاة عندنا لفوات القراءة فيما بقي من الصلاة تقديرا; لأن التقدير إنما يصح في حق الأهل لا في حق غير الأهل, والأمي ليس بأهل. وإذا ثبت أنها فرض دائم يتحقق الفوات بالترك في ركعة وتفسد الأفعال ويتعدى الفساد إلى الإحرام بواسطة فساد الأفعال; لأنها حينئذ تصير بمنزلة أفعال ليست من الصلاة فيوجب فساد الإحرام ضرورة. واحتج أبو حنيفة بما احتج به محمد رحمهما الله إلا أنه شرط أن يكون الفساد بترك القراءة ثابتا بدليل مقطوع به ليصير قويا في نفسه ويصلح للتعدي إلى الإحرام وذلك بأن يتركها في الشفع كله فأما إذا وجدت في إحدى الركعتين فهو موضع الاجتهاد; لأن من العلماء من قال تجوز الصلاة بالقراءة في ركعة واحدة وظاهر قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" . يقتضي ذلك أيضا فكان الفساد ثابتا بدليل فيه قصور فلا يتعدى إلى الإحرام فقلنا ببقاء التحريمة حتى صح شروعه في الشفع الثاني وقلنا بفساد الأداء أيضا أخذا بالاحتياط في كل باب, فعلى ما ذكرنا تخرج

(2/490)


القراءة في ركعة ثابت بدليل محتمل فلم يتعد إلى الإحرام, وإذا ترك في الشفع كله فقد صار الفساد مقطوعا به بدليل موجب للعلم فتعدى إلى الإحرام ولهذا قال في مسافر ترك القراءة إن إحرام الصلاة لا ينقطع, وهو قول أبي يوسف رحمه الله; لأن الترك متردد محتمل للوجود لاحتمال نية الإقامة فلم يصح مفسدا فصار هذا الباب أصلا يجب ضبطه يبتنى عليه فروع يطول تعدادها, والله أعلم بالحقائق.
ـــــــ
المسائل. فإذا قرأ في الأولين لا غير أو في الآخرين لا غير أو في الأوليين, وإحدى الأخريين. أو في الأخريين, وإحدى الأوليين كان عليه قضاء ركعتين بالاتفاق. ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير. أو في إحدى الأوليين, وإحدى الأخريين كان عليه قضاء ركعتين عند محمد وقضاء الأربع عندهما. ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير. أو لم يقرأ فيهن شيئا عليه قضاء الأربع عند أبي يوسف وقضاء ركعتين عندهما.
قوله "ولهذا" أي, ولما ذكرنا أن الفساد متى ثبت بطريق محتمل لم يتعد إلى الإحرام قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في مسافر صلى الظهر ركعتين وترك القراءة فيهما لا ينقطع به الإحرام حتى لو نوى الإقامة يتم صلاته أربعا ويقرأ في الأخريين. وقال محمد رحمه الله صلاته فاسدة بكل حال; لأن فساد الصلاة بترك القراءة مؤثر في قطع التحريمة عنده فصار ظهر المسافر كفجر المقيم يفسد بترك القراءة فيهما أو في أحديهما على وجه لا يمكنه إصلاحه فكذا الظهر في حق المسافر إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد. وعندهما لما كان الاحتمال مانعا من تعدي الفساد إلى الإحرام لم تفسد الصلاة فإن صلاة المسافر بعرض أن تصير أربعا بنية الإقامة فكان الترك مترددا محتملا للوجود أي وجود القراءة في الأخريين بنية الإقامة ونية الإقامة في آخر الصلاة مثلها في أولها, ولو كانت في أولها لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين فهاهنا مثله بخلاف فجر المقيم; لأنه ليس بعرض أن تصير أربعا. يبتنى عليه فروع يطول تعدادها. مثل الاعتكاف فإنه يبطل بالخروج من غير ضرورة; لأن اللبث الدائم ينقطع به كالصوم بالأكل. ومثل الصلاة يبطل بالانحراف عن القبلة بالبدن من غير ضرورة; لأن استقبال القبلة فرض دائم فيفوت بالانحراف. وقس عليه ستر العورة, وأما الصلاة بقرب النجاسة فتكره, ولا تفسد; لأن فرض تطهير المكان لا يفوت به, ولكن يقرب إلى الفوات., وكذا أداء النصاب بنية الزكاة إلى فقير واحد يجوز; لأن المأمور به, وهو الإيتاء إلى الفقير لم يفت, ولكن يكره; لأنه أخذ شبها بالأداء إلى الغني لاتصال الغني بالأداء, والله أعلم.
ولما فرغ الشيخ عن بيان المقاصد وتقسيمها, وهي الأحكام شرع في بيان الوسائل إليها, وهي الأسباب فقال:

(2/491)