كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب
بيان أسباب الشرائع"
اعلم أن الأمر والنهي على الأقسام التي ذكرناها إنما يراد
بها طلب الأحكام
ـــــــ
"باب بيان أسباب الشرائع"
أي بيان الطرق التي تعرف بها المشروعات. قال عامة أصحابنا
وبعض أصحاب الشافعي وعامة المتكلمين إن لأحكام الشرع
أسبابا تضاف إليها والموجب للحكم في الحقيقة والشارع له هو
الله تعالى دون السبب; لأن الإيجاب إلى الشرع دون غيره,
وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله فإنه ذكر في مأخذ
الشرائع أن أوقات الصلاة أسباب لوجود العبادات., وقال
جمهور الأشعرية للعقوبات وحقوق العباد أسباب يضاف وجوبها
إليها فأما العبادات فلا تضاف إلا إلى إيجاب الله تعالى
وخطابه.
وأنكر بعضهم الأسباب أصلا, وقالوا الحكم في المنصوص عليه
يثبت بظاهر النص, وفي غير المنصوص عليه يتعلق بالوصف الذي
جعل علة, ويكون ذلك أمارة لثبوت الحكم في الفرع بإيجاب
الله تعالى, وإثباته متمسكين في ذلك بأن الموجب للأحكام
والشارع لها هو الله جل جلاله كما أن موجب الأشياء
المحسوسة وخالقها هو الله سبحانه, وصفة الإيجاب صفة خاصة
له لا يجوز اتصاف الغير بها كصفة التخليق فكان في إضافة
الإيجاب إلى الأسباب قطعه عن الله سبحانه, وذلك لا يجوز
لكنه تعالى جعل بعض أوصاف النص علامة, وأمارة على الحكم في
الفروع فيقال أسباب موجبة أو علل موجبة مجازا لظهور أحكام
الله تعالى عندها. وبأن الأسباب في أفعال العباد بمنزلة
الآلات والجوارح السليمة باعتبار أن قدرة العباد ناقصة لا
يظهر أثرها في المحال إلا بأسباب وآلات فيكون عملها في
تتميم القدرة الناقصة, والله تعالى موصوف بالقدرة التامة
فلا يجوز أن يتعلق وجوب أحكامه ووجودها بالأسباب حقيقة.
وبأن الأسباب كانت موجودة قبل الشرع, ولا أحكام معها, وقد
توجد بغير الشرع أيضا بلا أحكام كما في المجانين والصبيان
وغيرهم, ولو كانت عللا للأحكام لم يتصور انفكاكها عن
الأحكام كما في العلل العقلية فإن الكسر لا يتصور بدون
الانكسار, والدليل على أن العباد لا تجب على من لم تبلغه
الدعوة, وهو الذي أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلينا, ولو
كان الوجوب بالأسباب دون الخطاب لوجب عليه العبادات لتحقق
الأسباب في حقه.
(2/492)
المشروعة,
وأداؤها, وإنما الخطاب للأداء ولهذه الأحكام أسباب تضاف
إليها شرعية وضعت تيسيرا على العباد, وإنما الوجوب بإيجاب
الله تعالى لا أثر
ـــــــ
وتمسك من فرق بين العبادات وغيرها بأن العبادات وجبت لله
تعالى على الخلوص فتضاف إلى إيجابه; لأنا ما عرفنا وجوبها
إلا بالشرع, وأما العقوبات فتضاف إلى الأسباب; لأنها أجزية
الأفعال المحظورة فتضاف إليها تغليظا, وكذا المعاملات تضاف
إلى الأسباب; لأنها حاصلة بكسب العبد فتضاف إليه. وبأن
الواجب في العبادات ليس إلا الفعل ووجوبه بالخطاب بالإجماع
فلا يمكن إضافته إلى شيء آخر فأما المعاملات فالواجب فيها
شيئان المال والفعل فيمكن إضافة وجوب المال إلى السبب,
وإضافة وجوب الفعل إلى الخطاب, وكذا العقوبات فإن الواجب
على الجاني ليس إلا تسليم النفس وتحمل العقوبة, وإنما وجب
الفعل على الولاة فيجوز أن يضاف ما وجب عليه إلى السبب,
وما وجب على الولاة إلى الخطاب إليهم حيث قيل {فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} "المائدة: 38" {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} "النور: 4" {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} "النور: 2". فعلى هذا الطريق
يجوز أن تضاف العبادات المالية إلى الأسباب عندهم أيضا.
وأما العامة فقالوا: إن الله تعالى شرع للعبادات أسبابا
يضاف وجوبها إليها والموجب في الحقيقة هو الله تعالى كما
شرع لوجوب القصاص والحدود أسبابا يضاف الوجوب إليها,
والموجب هو الله تعالى فجعل سبب وجوب القصاص القتل وسبب
وجوب الضمان الإتلاف وسبب ملك الواطئ النكاح, فكذا شرع
لوجوب العبادات أسبابا أيضا. فمن أنكر جميع الأسباب
وعطلها, وأضاف الإيجاب إلى الله تعالى فقط خالف النص
والإجماع وصار جبريا خارجا عن مذهب السنة والجماعة ومن
أنكر البعض, وأقر بالبعض فلا وجه له أيضا; لأنه لما جاز
إضافة بعض الأحكام إلى الأسباب بالدليل فلم لا يجوز أن
يضاف سائرها إلى الأسباب أيضا بالدليل. وقولهم لو أضيف
الوجوب إلى الأسباب لزم أن لا يكون مضافا إلى الله عز وجل
فاسد; لأنا لا نجعل الأسباب موجبة بذواتها إذ الإيجاب
والإلزام لا يتصور إلا من مفترض الطاعة لكن السبب ما يكون
موصلا إلى الحكم وطريقا إليه فإضافة الحكم إلى السبب لا
يمنع من إضافته إلى غيره فإن من قتل إنسانا بالسيف يحصل
القتل حقيقة بالسيف ثم لا يمنع ذلك من إضافته إلى القاتل
حتى يجب القصاص عليه, وكذا الشبع يحصل بالطعام والري
بالماء ثم يضافان إلى المطعم والساقي فكذا هذا. وقولهم
الأسباب كانت, ولا حكم فاسد أيضا; لأنا نجعلها موجبة بجعل
الله تعالى إياها كذلك لا بأنفسها فلا تكون أسبابا قبل ذلك
كأسباب العقوبات وحقوق العباد كانت موجودة قبل الخطاب, ولم
تكن أسبابا ثم صارت أسبابا بجعل الله تعالى.
(2/493)
للأسباب في
ذلك, وإنما وضعت تيسيرا على العباد لما كان الإيجاب غيبا
فنسب الوجوب إلى الأسباب الموضوعة وثبت الوجوب جبرا لا
اختيار للعبد فيه ثم الخطاب بالأمر والنهي للأداء بمنزلة
البيع يجب به الثمن ثم يطالب بالأداء ودلالة صحة هذا الأصل
إجماعهم على وجوب الصلاة على النائم في وقت
ـــــــ
وأما الذي أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلينا فإنما لا
يجب عليه العبادات قبل بلوغ الخطاب; لأنه لا وجه إلى إيجاب
الأداء في حقه تحقيقا, ولا تقديرا إذ لا ثبوت للخطابات في
حقه أصلا, ولا إلى إيجاب القضاء; لأنه مبني على وجوب
الأداء; ولأن في إيجابها عليه حرجا لاجتماع عبادات كثيرة
عليه لطول مدة بقائه في دار الحرب عادة فيسقط عنه دفعا
للحرج والقصير لندرته ملحق بالكثير وباقي الكلام مذكور في
الكتاب.
وقوله "على الأقسام التي ذكرناها" من كون الأمر مطلقا عن
الوقت, ومقيدا به, وكونه إيجابا على سبيل التوسع أو
التضييق والتخيير وغيرها. إنما يراد بها أي بالأقسام
المذكورة طلب الأحكام المشروعة الثابتة قبل الخطاب.
وأداؤها تأكيد يعني الخطاب لطلب أداء المشروعات بأسباب
نصبها الشرع, وإن استقام الإيجاب بمجرد الأمر. لا أثر
للأسباب في ذلك أي في حقيقة الوجوب بخلاف السبب العقلي
والحسي فإن لهما أثرا في إثبات المعلول بحيث لا يتخلف عن
السبب كالكسر مع الانكسار والإحراق مع الاحتراق. وإنما
وضعت الأسباب لأجل التيسير على العباد ليتوصلوا إلى معرفة
الواجبات بمعرفة الأسباب الظاهرة إذ الإيجاب الذي هو فعل
الله تعالى كان غيبا عنا, وفي الوقوف على معرفته حرج خصوصا
عند انقطاع زمان الوحي فوضعت الأسباب ونسب الوجوب إليها
تيسيرا, وهي في الحقيقة أمارات على الإيجاب وثبت الوجوب
جبرا يعني لم يشترط لأصل الوجوب اختيار العبد, وقدرته بل
يثبت بدون اختيار منه كما يثبت السبب بدون اختياره فأما
وجوب الأداء الثابت بالخطاب فلا ينفك عن اختيار العبد عنى
به أنه إنما يثبت في حال لو اختار العبد فيها الأداء لقدر
عليه لا أن وجوب الأداء متوقف على اختياره على معنى أنه إن
اختار وجوبه ثبت, وإلا فلا.
والحاصل أن أصل الوجوب يثبت بالسبب خبرا, ولا يشترط فيه
القدرة على الأداء ووجوب الأداء يثبت بالخطاب جبرا, ولكن
يشترط فيه القدرة على الأداء أعني قدرة الأسباب والآلات,
ووجود الأداء يتوقف على اختياره الفعل. ولا يقال ما ذكرتم
لا يستقيم في النهي; لأن العبد لا يخاطب بأداء المنهي عنه;
لأنا نقول: الواجب بالنهي انتهاء العبد عما نهي عنه
فانتهاؤه وامتناعه عنه يكون أداء لموجب النهي.
قوله "ودلالة صحة هذا الأصل" أي الدليل على صحة هذا الأصل,
وهو أن نفس
(2/494)
الصلاة والخطاب
عنه موضوع ووجوب الصلاة على المجنون إذا انقطع جنونه دون
يوم, وليلة وعلى المغمى عليه كذلك والخطاب عنهما موضوع,
وكذلك الجنون إذا لم يستغرق شهر رمضان كله والإغماء
والنوم, وإن استغرقه لا
ـــــــ
الوجوب بالسبب ووجوب الأداء بالخطاب إجماعهم., وهو جواب
عما يقال نحن لا نعلم إيجابا من الله تعالى إلا بالأمر فبم
عرفتم أن وجوب العبادات بالأسباب. فقال عرفنا ذلك بإجماع
المسلمين على إيجاب الصلاة والصوم على من لا يصلح للخطاب
مثل النائم في وقت الصلاة والصوم فإنه مؤاخذ بالقضاء بعد
الانتباه. وكذا المغمى عليه والمجنون عندنا يؤاخذان
بالقضاء بعد الإفاقة إذا لم يزدد الإغماء والجنون على يوم
وليلة في الصلاة, ولم يستغرق الجنون والقضاء إنما يجب بدلا
عن الفائت من عند من وجد منه التفويت كضمان المتلفات,
ولولا التفويت لما وجب القضاء, ولولا الوجوب لما تصور
التفويت. ولا يقال ذلك ابتداء عبادة تجب بعد الانتباه أو
الإفاقة بخطاب جديد يتوجه عليه; لأنا نقول يجب رعاية شرائط
القضاء فيه كنية القضاء وغيرها, ولو كان ذلك ابتداء فرض
لما روعيت فيه شرائط القضاء بل كان ذلك أداء في نفسه
كالمؤدى في الوقت. ألا ترى أن الصلاة متى لم تجب في الوقت
لا يجب قضاؤها بعد خروجه كالكافر والصبي والحائض إذا أسلم
أو بلغ أو ظهرت بعد خروج الوقت لا يجب عليهم القضاء لعدم
الوجوب في الوقت وحيث وجب هاهنا, ومع الوجوب روعيت شرائط
القضاء دل أن الأمر على ما ذكرنا.
واعلم أن قوله "ووجوب الصلاة على المجنون" ينبغي أن يقرأ
بالرفع على الابتداء أو عطفا على إجماعهم لا بالجر إذ لو
قرئ بالجر كما يدل عليه سوق الكلام لصار معطوفا على الوجوب
المتقدم, ولدخل وجوب الصلاة على المجنون والمغمى عليه تحت
الإجماع أيضا كوجوبها على النائم. وهو ليس بمجمع عليه فإن
عند الشافعي لا تجب الصلاة على المجنون والمغمى عليه إذا
استغرق الجنون والإغماء وقت الصلاة وحينئذ لا يصح
الاستدلال بهاتين المسألتين على الخصم. إلا إذا كان الكلام
مع من أنكر سببية الأوقات للصلوات من أصحابنا فحينئذ
يستقيم أن يقرأ بالجر عطفا على الوجوب المتقدم ويصح
الاستدلال بالمسألتين أيضا ويكون المراد من الإجماع اتفاق
أصحابنا خاصة دون اتفاق الجميع.
وقوله: "وكذلك الجنون إذا لم يستغرق" مذهبنا أيضا دون مذهب
الشافعي, وقد قال الشافعي بوجوب الزكاة على الصبي والمجنون
وبوجوب كفارات الإحرام والقتل مع أن الخطاب عنهما موضوع
بالإجماع, وقالوا أي الفقهاء جميعا بوجوب العشر وصدقة
الفطر على الصبي إذا كان له مال عند تقرر السبب, وهو الأرض
النامية والرأس الذي يمونه
(2/495)
يمتنع بهما
الوجوب ولا خطاب عليهما بالإجماع. وقد قال الشافعي رحمه
الله بوجوب الزكاة على الصبي, وهو غير مخاطب وقالوا جميعا
بوجوب العشر وصدقة الفطر عليه فعلم بهذه الجملة أن الوجوب
في حقنا مضاف إلى أسباب شرعية غير الخطاب.
وإنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه وتعلقه به; لأن الأصل
في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون سببا له حادثا به
ـــــــ
مع أن الخطاب عنه موضوع, وكذلك يجب عليه وعلى المجنون حقوق
العباد عند تحقق الأسباب منهما. ويثبت العتق للقريب عليهما
عند دخوله في ملكهما بالإرث لتقرر السبب, وهو الملك, وإن
كان الخطاب موضوعا عنهما. ألا ترى أن الأداء لما وجب
بالخطاب لم يلزم عليهما, وإنما لزم على المولى. قال شمس
الأئمة رحمه الله, وقد دل على ما بينا قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} "البقرة: 43
و83 و و110" و"الحج: 78" و"النساء: 77" و"النور: 56"
و"المزمل: 20" فالألف واللام دلتا على أن المراد أقيموا
الصلاة التي أوجبتها عليكم بالسبب الذي جعلته سببا لها,
وأدوا الزكاة الواجبة عليكم بسببها كقول القائل: أد الثمن
إنما يفهم منه الخطاب بأداء ثمن الواجب بسببه, وهو البيع.
قوله "وإنما يعرف السبب" ثم بين الشيخ أمارة كون الشيء
سببا فقال: إنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه أي إضافته
إليه كقولك صلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت وحد الشرب,
وكفارة القتل. وتعلقه به أي تعلق الحكم بالسبب بأن لا يوجد
بدونه ويتكرر بتكرره; لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء
أن يكون الشيء المضاف إليه سببا للمضاف, وأن يكون الشيء
المضاف حادثا بالمضاف إليه كقولك كسب فلان أي حدث بفعله
واختياره; لأن الإضافة لما كانت موضوعة للتمييز كان الأصل
فيها الإضافة إلى أخص الأشياء به ليحصل التمييز, وأخص
الأشياء بالحكم سببه; لأنه ثابت به فكانت الإضافة إليه
أصلا فأما الشرط فإنما يضاف إليه; لأنه يوجد عنده فكانت
الإضافة إليه مجازا, والمعتبر هو الحقيقة حتى يقوم دليل
المجاز وتحقيقه أن الإضافة للتعريف فإن المضاف نكرة قبل
الإضافة, وقد تعرف بعدها بالمضاف إليه; لأن الإضافة توجب
الاختصاص, والشيء متى اختص في نفسه تعرف فإذا قلت جاءني
غلام نكرة لشيوعه في الغلمان, ولو قلت جاءني غلام زيد صار
معرفة لاختصاصه به. ثم اختصاص الشيء بغيره قد يكون بمعان
فاختصاص الغلام بزيد بمعنى الملك واختصاص الابن بالأب في
قولك ابن فلان بمعنى النسب واختصاص اليد بزيد في قولك يد
زيد بمعنى الجزئية, وقس عليه. ثم تعرف الصلاة والصوم
بإضافتهما إلى الوقت إما بمعنى السببية بأن يكون كل واحد
منهما واجبا بما أضيف إليه. أو بمعنى الشرطية على معنى أن
الوجوب يثبت
(2/496)
------------------------------------------------------
ـــــــ
عنده. أو بمعنى الظرفية باعتبار أن وجود الواجب يحصل في
هذا الوقت. ثم ترجح معنى السببية على الشرطية والظرفية;
لأن مطلق إضافة الحادث إلى شيء يدل على حدوثه به كقولك عبد
الله وناقة الله, وكفارة القتل, وكسب فلان وتركته والوجوب
هو الحادث فدل على أنه كان بالوقت.
واعترض الشيخ أبو المعين رحمه الله على هذا الكلام فقال
هذا كلام فاسد; لأن أهل اللغة ما وضعوا الإضافة لمعرفة
الحدوث, ولا فهموه منها ألبتة, وإنما وضعوها للتعريف,
وفهموا منها الاختصاص الموجب للتعريف. وكذا الإضافة إلى
غير الله تعالى في اللغة شائع, ولو كان وضع الإضافة دالا
على الحدوث لما جازت إضافة الأشياء إلى غير الله عز وجل
حقيقة لتأديها إلى الشركة في الأحداث. وقد يضاف الأجسام
والجواهر إلى العباد فيقال دار عبد الله, وفرس زيد وسيف
خالد ويقال هذا عبد فلان كما يقال عبد الله فثبت أن
الإضافة لا تدل على الحدوث. وكذا ما استدل به من قولهم كسب
فلان وتركته يوجب بطلان هذا الكلام لا تصحيحه; لأن الكسب
قد يكون عبدا وجارية ودارا وضيعة, وكذا التركة وربما كانت
هذه الأشياء أقدم وجودا من الكاسب والتارك فكيف يتصور
حدوثها به. ولو كان هو أسبق وجودا منها فأنى يتصور حدوثها
به. ولو قيل كان ملكها حادثا بسببه تقول لم يضف إليه الملك
إنما أضيف إليه أعيانها فإذن لم تدل الإضافة على حدوث
المضاف بالمضاف إليه بل دلت على حدوث غير المضاف بالمضاف
إليه فيبطل هذا الكلام. ثم قال في قوله صوم الشهر وصلاة
الظهر لا يمكن أن يجعل حدوث كل واحد منهما بالوقت; لأن
حدوثهما بإحداث الله تعالى عند مباشرة العبد واكتسابه
إياهما, وهما يتعلقان بفعل فاعل مختار فإضافة حدوثهما إلى
الأزمنة محال, ولا يمكن أن يجعل وجوبهما حادثا بالوقت; لأن
الوجوب ليس بمضاف إلى الوقت بل نفس العبادة هي المضافة,
وهي ليست بحادثة بالوقت, ولا يصح إضافة ما يحدث على زعم
هذا القائل بالوقت إلى الوقت فإنك لو قلت وجوب الوقت كان
فاسدا لا يفهم حدوثه به, ولو قلت وجوب الصوم والصلاة لا
يفهم حدوث الوجوب بفعل الصوم والصلاة.
والعجب من قوله والوجوب هو الحادث فدل أنه كان بالوقت كان
ما اتصف بالوجوب ليس بحادث أو كان الوجوب هو المضاف أو ما
اتصف بالوجوب ليس بمضاف وساق كلاما طويلا إلى أن قال:
والوجه الصحيح لترجيح جهة السببية على جهتي الشرط والظرف
أن يقول ثمرة الإضافة التعريف, ولن يحصل هو إلا بالاختصاص,
وهو تميز الشيء عن غيره بما يوجب ذلك من صفة لا يشاركه
فيها غيره أو اسم علم أو نحو ذلك ثم قولك
(2/497)
وكذلك إذا
لازمه فتكرر بتكرره دل أنه مضاف إليه فإذا ثبت هذه الجملة
قلنا : وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو بأسمائه وصفاته
مضاف إلى إيجابه في
ـــــــ
صوم الشهر وصلاة الظهر تعريف لهما فيختص كل واحد منهما
بصفة لا يشاركه فيها غيره من جنسه, وذلك إما وجوده في
الوقت, وإما وجوبه به أو وجوبه فيه وجانب الوجود منتف
لزوال الاختصاص بهذا الوصف فإن في وقت الظهر يوجد غيرها من
الصلوات من القضاء والنذر والنوافل والسنن الرواتب, وكذا
الصوم في وقته غالب الوجود لا متيقن الوجود فإن نية النفل
ممن يعلم أنه من رمضان يصح عند مالك ويقع عن النفل. وكذا
المسافر لو صام عن واجب آخر يقع عنه عند أبي حنيفة رحمه
الله. وكذا يتصور الانفكاك بين الوجود وبين الوقت فإن
الامتناع عن أداء الصلاة والصوم من جملة الناس متصور, وإذا
كان كذلك لم يحصل الاختصاص بطريق اليقين فلم يحصل التعريف
يقينا. فأما الوجوب بالوقت أو فيه فمتيقن فكان صرف مطلق
الكلام إليه أولى. فصار مطلق الإضافة دليل تعلق الصوم به
وجوبا إما بطريق السببية أو بالشرطية. ثم يرجح جانب
السببية على الشرطية; لأن الحكم أقوى اختصاصا وآكد لزوما
بالسبب منه بالشرط; لأن تعلقه بالسبب تعلق الوجود وتعلقه
بالشرط تعلق المجاورة كما في الظرف فكان اتصال الثبوت
والوجود أقوى منه, وكذا تعلق الحكم بالسبب بغير واسطة
وتعلقه بالشرط بواسطة بل لا تعلق للشرط بالحكم فإنه لم
يجعل شرطا لثبوت الحكم بل جعل لانعقاد العلة, ولا شك أن
ذلك الاختصاص بمقابلة هذا عدم, واختصاص الحكم بالسبب حقيقي
وبالشرط جار مجرى المجاز بمقابلة هذا فانصرفت الإضافة في
الدلالة إلى هذا النوع من الاختصاص, والله أعلم.
قوله "وكذلك إذا لازمه" دليل قوله وتعلقه به يعني كما أن
الإضافة تدل على السببية تدل على ملازمة الشيء الشيء
وتعلقه به وتكرره بتكرره على السببية أيضا; لأن الأمور
تضاف إلى الأسباب الظاهرة فلما تكرر الحكم بتكرر شيء دل
على أنه حادث به إذ هو السبب الظاهر لحدوثه. ثم الوجوب
فيما نحن فيه أمر حادث, ولا بد له من سبب يضاف إليه, وليس
هاهنا إلا الأمر أو الوقت, ولا يجوز أن يضاف إلى الأمر;
لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار, ولا يحتمله, وإن تعلق
بوقت أو شرط فإن من قال لعبده تصدق من مالي بدرهم إذا
أمسيت أو إذا دلكت الشمس لا يقتضي التكرار كما لو قال تصدق
من مالي بدرهم مطلقا على ما مر بيانه والتكرار ثابت هاهنا
فتعين أن الوقت هو السبب, وأن أصل الوجوب مضاف إليه, وأن
تكرره بسبب تكرره كسائر الأحكام المتعلقة بالأسباب مثل
الحدود والكفارات فإنها تكرر بتكرر أسبابها. قوله "فإذا
ثبت هذه الجملة" ولما أثبت الشيخ أن للمشروعات أسبابا بين
سبب
(2/498)
الحقيقة لكنه
منسوب إلى حدث العالم تيسيرا على العباد, وقطعا لحجج
المعاندين, وهذا سبب يلازم الوجوب لأنا لا نعني بهذا أن
يكون سببا لوحدانية الله وإنما نعني به أنه سبب لوجوب
الإيمان الذي هو فعل العباد, ولا وجوب إلا
ـــــــ
كل واحد منها وبدأ ببيان سبب وجوب الإيمان; لأنه رأس
العبادات. فقال وجوب الإيمان بالله تعالى كما هو أي
الإيمان الذي هو مطابق للحقيقة بأن يؤمن بوجوده وبوحدانيته
جل جلاله, وبأسمائه مثل العليم والقادر والحكيم وسائر
أسمائه الحسنى, وصفاته مثل العلم والقدرة والحياة وجميع
صفاته العلى. والباء بمعنى مع والأسماء بمعنى التسميات
يعني يصدق بقلبه ويقر بلسانه أنه تعالى واحد لا شريك له,
ولا مثل, وأن له أسماء كاملة أي تسميات يصح إطلاقها على
ذاته على الحقيقة كما يصح إطلاق العالم على زيد مثلا, وهي
قائمة بالواصف ووصف للموصوف, وأن له جل جلاله صفات ثبوتية
قديمة قائمة بذاته ليست عين ذاته, ولا غيره تقدست أسماؤه
وتنزهت صفاته, لا كما زعمت المجسمة أنه جسم, وأن صفاته
حادثة. ولا كما ذهبت المعطلة والفلاسفة إليه من إنكار
الصفات, ولا كما ظن البعض أن بعض الصفات قديم وبعضها حادث
تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فهو معنى قوله
بأسمائه وصفاته.
"مضاف إلى إيجابه" أي إيجاب الله تعالى كسائر الإيجابات.
"لكنه" أي لكن وجوب الإيمان في الظاهر "منسوب إلى حدث
العالم تيسيرا على العباد"; لأن إيجابه غيب عنا فنسب إلى
سبب ظاهر يمكن الوصول إلى معرفة الإيجاب بواسطته تيسيرا
للأمر علينا., "وقطعا لحجج المعاندين" إذ لو لم يوضع له
سبب ظاهر ربما أنكر المعاند وجوبه, ولم يمكن الإلزام عليه
فوضع السبب الظاهر إلزاما للحجة عليه, وقطعا لشبهته
بالكلية; ولأنه لو لم يجعل حدث العالم سببا ربما احتجوا
يوم القيامة, وقالوا ما ثبت لنا دليل الإيمان بك فلذلك لم
نؤمن بك فجعل العالم سببا لوجوب الإيمان قطعا للجاجهم. ثم
حدث العالم يصلح سببا لوجوبه; لأنه يدل على الصنعة
والحدوث, وهما يدلان على الصانع والمحدث فيستدل بهما على
أزله محدثا موصوفا بصفات الكمال منزها عن النقيصة والزوال
فيكون سببا لوجوبه كذا ذكر أبو اليسر. وإليه أشار عمر رضي
الله عنه في قوله البعرة تدل على البعير, وآثار المشي تدل
على المسير, فهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي أما يدلان
على الصانع العليم الخبير. وهذا السبب يلازم الوجوب يعني
لا ينفك عن الوجوب, ولا الوجوب عنه; لأن المراد من كونه
سببا أنه موجب لفعل العبد, وهو التصديق والإقرار, ولا
يتصور وجوب الفعل إلا على من هو أهله إذ الحكم لا يثبت
بدون الأهلية كما لا يثبت بدون السبب., ولا وجود لمن هو
أهل وجوب الإيمان على ما أجرى الله به سنته إلا
(2/499)
على من هو أهل
له , ولا وجود لمن هو أهله على ما أجرى به سنته إلا والسبب
يلازمه; لأن الإنسان المقصود به وغيره ممن يلزمه الإيمان
عالم بنفسه سمي عالما; لأنه جعل علما على وجوده ووحدانيته
ولهذا قلنا إن إيمان الصبي
ـــــــ
والسبب يلازمه إذ لا تصور للمحدث أن يكون غير محدث في شيء
من الأوقات. والإنسان المقصود به أي بخلق العالم أو
بالتكليف وغيره من الملك والجن ممن يجب الإيمان عليهم كل
واحد منهم عالم بنفسه; لأن وجوده يدل على وجود الصانع
ووحدانيته وصفاته الكاملة كما يدل عليه العالم الأكبر فكان
وجوب الإيمان دائما بدوام سببه غير محتمل للنسخ والتبديل ,
وكان الشيخ إنما ذكر قوله; لأنا لا نعني به كذا جوابا عما
يقال كيف يصلح حدوث العالم سببا للإيمان الذي هو مبني على
ثبوت وحدانية الله تعالى , وهي أمر أزلي يستحيل أن يتعلق
بسبب ويلزم منه تقدم المسبب على السبب أيضا. فقال لا نعني
به أنه سبب للوحدانية , وإنما نعني به كذا. وذكر في بعض
الشروح أنه جواب عما يقال الإيمان يوجد بتوفيق الله تعالى
, وهدايته الذي هو غير مخلوق وبفعل العبد , وكسبه الذي هو
مخلوق فلا يستقيم أن يجعل حدث العالم سببا لفعل الله الذي
هو غير مخلوق فقال: إنما نجعله سببا لفعل العبد لا لفعل
الله عز وجل , ولكن على هذا الوجه كان ينبغي أن يقول لا
نعني بهذا أن يكون سببا لتوفيق الله تعالى وهدايته , وإنما
نعني به كذا , والوجه الأول أوفق لنظم الكتاب.
فإن قيل: ما معنى قوله على ما أجرى به سننه , وأنه يذكر
فيما أمكن أن يكون الأمر على خلاف المذكور , وها هنا لا
يمكن أن ينفك السبب عن الوجوب لاستحالة زوال الحدوث عن
المحدث , ولم يذكر هذا اللفظ في عامة الكتب في هذا الموضع.
"قلنا" ذكر في بعض الشروح أن معناه أنه تعالى خلق من هو
أهل لوجوب الإيمان عليه مع وجود أشياء أخر من السموات
والأرض وغيرهما , وكل ذلك سبب لوجوب الإيمان على من هو أهل
له , وإن كان يتصور وجود من هو أهل للوجوب بدون هذه
الأشياء , وهو مع ذلك يكون سببا لوجوب الإيمان عليه لكونه
عالما بنفسه فمع وجود هذه الأشياء يتكثر أسباب وجوب
الإيمان. والأوجه أن يقال معناه أنه تعالى جعل حدث العالم
الذي هو لازم للوجوب سببا , وأمارة على إيجابه الذي هو
فعله مع أنه يمكن أن يجعل شيئا آخر سببا , وأمارة على
إيجابه الإيمان لا يكون ذلك الشيء لازما للوجوب كما فعل
كذلك في حق الصوم والصلاة فإن الوقت الذي هو سبب ليس
بملازم للوجوب فإن الوجوب ثابت بعد مضي الوقت وانقضاء
الشهر , ولكنه جل جلاله أجرى سنته أن يكون سبب الإيمان
شيئا دائما ملازما للوجوب ليدل على دوام الوجوب في جميع
الأحوال.
(2/500)
صحيح, وإن لم
يكن مخاطبا ولا مأمورا; لأنه مشروع بنفسه وسببه قائم في
حقه دائم لقيام دوام من هو مقصود به وصحة الأداء تبتنى على
كون المؤدى مشروعا بعد قيام سببه ممن هو أهله لا على لزوم
أدائه كتعجيل الدين المؤجل, وأما الصلاة فواجبة بإيجاب
الله تعالى بلا شبهة وسبب وجوبها في الظاهر في حقنا الوقت
الذي تنسب وجوبها في الظاهر في حقنا الوقت الذي تنسب إليه
وما بين هذا وبين قول من قال إن الزكاة تجب بإيجابه وملك
المال سببه والقصاص
ـــــــ
قوله "ولهذا قلنا" أي; ولأن السبب يلازم من هو أهل له.
قلنا إن إيمان الصبي العاقل صحيح, وإن لم يكن مخاطبا بأداء
الإيمان في الحال, ولا مأمورا به; لأن الإيمان مشروع بنفسه
لا يحتمل أن يكون غير مشروع, وقد تحقق سببه في حقه, ووجد
ركنه, وهو التصديق والإقرار عن معرفة وتمييز ممن هو أهله,
وهو الصبي فوجب القول بصحته كما إذا ثبت تبعا لأحد أبويه.
أما تحقق السبب فظاهر, وأما وجود الركن فكذلك إذ الكلام في
صبي عاقل مميز يناظر في وحدانية الله تعالى بالحجج, وقد ضم
الإقرار باللسان إلى التصديق بالقلب ولهذا صحت وصيته
بأعمال البشر عند الخصم. وأما الأهلية فلأن الإيمان قد
يتحقق في حقه تبعا لأحد أبويه, ولو لم يكن أهلا لما تحقق
ذلك في حقه أصلا فبعد ذلك امتناع صحة الأداء لا يكون إلا
بحجر شرعي, والقول بالحجر عن الإيمان بالله تعالى محال فلا
يتصور أن يرد الشرع به فوجب القول بصحته ضرورة.
ثم سقوط الخطاب عنه بسبب الصبا يدل على سقوط لزوم الأداء
الذي يحتمل السقوط في بعض الأحوال فإن الكافر إذا أراد أن
يسلم فأكره على أن لا يسلم ولا يتكلم بكلمة الإسلام رخص له
التأخير. والمسلم إذا أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه
رخص له ذلك لكنه لا يدل على عدم صحة الأداء فإن صحة الأداء
يبتنى على كون المؤدى مشروعا بنفسه بعد قيام سببه من أهله
لا على لزوم أدائه أي المؤدى كالدين المؤجل صح أداؤه قبل
حلول الأجل لتقرر سببه, وإن كان الخطاب بالأداء غير متوجه
إليه في الحال, وكالمسافر أو المريض إذا صام في حال السفر
أو المرض صح الأداء لتحقق السبب في حق الأهل, وإن لم يكن
مخاطبا قبل إدراك عدة من أيام أخر.
قوله "وما بين هذا" أي ليس بين قولنا الصلاة واجبة بإيجاب
الله تعالى وسبب وجوبها في الظاهر الوقت وبين قول من قال
الزكاة واجبة بإيجاب الله تعالى, وملك المال النامي سببه
فرق, وغرضه منه رد قول من فرق بين الواجبات البدنية وبين
الواجبات المالية حيث جوز إضافة القسم الثاني إلى الأسباب
دون القسم الأول. وقوله: وليس السبب بعلة
(2/501)
يجب بإيجابه
والقتل العمد سببه فرق, وليس السبب بعلة والدليل عليه أنها
أضيفت إلى الوقت قال الله تعالى {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "الإسراء: 78" فالنسبة باللام أقوى
وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت وكذلك يقال صلاة الظهر
والفجر
ـــــــ
جواب عما قالوا لا تأثير للوقت في إيجاب العبادة ليكون
سببا لها فأما المال فله تأثير في إيجاب المواساة وللجناية
أثر في إيجاب العقوبة فيمكن أن يضاف وجوب الزكاة إلى المال
ووجوب القصاص إلى القتل العمد الذي هو جناية فقال ليس
السبب بعلة عقلية ليشترط التأثير لصحتها كالكسر مع
الانكسار بل هي علة جعلية وضعها الشارع أمارة على الإيجاب
فلا يشترط لصحتها التأثير. وذكر الشيخ رحمه الله في بعض
نسخة في أصول الفقه في هذا الموضع أن الفرق بين العلة
والسبب أن العلة ما يعقل معناه ويظهر تأثيره في الأحكام
والسبب سبب, وإن كان لا يعقل معناه. قال: ومثال هذا أفعال
العباد فإن الأصل في فعل العبد لمولاه أن لا يصلح سببا
لاستحقاق الجزاء على مولاه, ولكن الله تعالى بفضله جعل
أفعالهم سببا لإحراز الثواب في الآخرة فكذا هاهنا.
والدليل عليه أي على أن الوقت سبب وجوب الصلاة أنها أضيفت
إلى الوقت بحرف اللام وبدونها قال الله تعالى {أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "الإسراء 78". نسب الصلاة
إلى وقت الدلوك بحرف اللام والنسبة باللام أقوى وجوه
الدلالة على تعلق الصلاة بالوقت; لأن اللام للتعليل
والاختصاص كما يقال تطهر للصلاة وتأهب للشتاء, ويقال اتخذ
فلان الضيافة لفلان أي بسببه, وخرج فلان لقدوم فلان يعني
قدوم فلان سبب لخروجه كذا قاله أبو اليسر. وأما الإضافة
بدون اللام فإجماعهم على إضافة هذه الصلوات إلى الأوقات
يقال صلاة الفجر وصلاة الظهر ونحوهما, وقد ذكرنا أن الأصل
في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون ثابتا به كإضافة الولد
إلى الوالد إذ الأصل في الإضافة أن تكون بأخص الأوصاف,
وأخص الأوصاف الوجوب; لأن معنى الثبوت بالسبب سابق على
سائر وجوه الاختصاص. ومجموع قوله ويبطل قبل الوقت إلى قوله
لزومها أي لزوم أدائها دليل واحد فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه
سبب. وعبارة شمس الأئمة ولهذا لا يجوز تعجيلها قبل الوقت
ويجوز بعد دخول الوقت مع تأخر لزوم الأداء بالخطاب.
"فإن قيل" لا يفهم من وجوب العبادة شيء سوى وجوب الأداء,
ولا خلاف أن وجوب الأداء بالخطاب فما الذي يكون واجبا بسبب
الوقت.
"قلنا" الواجب بسبب الوقت ما هو المشروع نفلا في غير الوقت
الذي هو سبب الوجوب وبيان هذا في الصوم فإنه مشروع نفلا في
كل يوم وجد الأداء أو لم يوجد, وفي رمضان يكون مشروعا
واجبا بسبب الوقت سواء وجد الخطاب بالأداء لوجود شرطه, وهو
التمكن من الأداء أو لم يوجد.
(2/502)
وعلى ذلك إجماع
الأمة ويتكرر بتكرر الوقت ويبطل قبل الوقت أداؤه ويصح بعد
هجوم الوقت, وإن تأخر لزومها فقد تقدم ذكر أحكام هذا القسم
فيما يرجع
ـــــــ
وذكر الشيخ أبو المعين رحمه الله في طريقة الخلاف أن اللام
في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ,
وقوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته1" ليست للتعليل; لأنها
لا تصلح لذلك إذ هي داخلة على الرؤية دون الوقت, وهي ليست
بعلة بالإجماع فما لم تدخل فيه أولى أن لا تكون علة فإن
قلتم المراد ما يثبت بالرؤية, وهو الشهر. قلنا أتعنون به
أن الوقت الذي وجدت فيه الرؤية سبب لصوم جميع الشهر أم
تعنون أن كل يوم سبب على حدة للصوم.
فإن قلتم بالأول قد أقررتم ببطلانه. وإن قلتم بالثاني فكيف
عبر بالرؤية عن هذه الأوقات, وهل في اللفظ ما ينبئ وضعا أو
دلالة أن تذكر الرؤية ويراد منها جزء من يوم يوجد بعد
ثلاثين يوما أو عشرين من وقت الرؤية. فإن قلتم نعم فقد
ادعيتم ما يعرف كل جاهل بطلانه, وإن قلتم لا فقد أبطلتم
الاستدلال بالخبر. وكذا في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي شئ تعنون بهذا أن العلة هي وقت
الدلوك أم جزء واحد من الزمان هو معدوم عند الدلوك. فإن
قلتم بالأول فقد تركتم مذهبكم, وإن قلتم بالثاني فنقول أي
دلالة في الدلوك الذي هو فعل الشمس في زمان مخصوص على زمان
آخر يوجد بعده من غير تعين بل على أجزاء متجددة يتعين
بعضها سببا عند اتصال الأداء به على ما هو المذهب عندكم
أفيه دليل على ما زعمتم من حيث العقل أم من حيث اللغة فأي
الأمرين ادعيتم كلفتم بيانه, ولن تقدروا عليه. قال ثم ورود
الحديث لبيان أن الصوم المأمور به في الشرع بقوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . يؤدى
في الشهر بعدد أيامه في الزيادة والنقصان ويبنى الأمر فيه
على الرؤية دون العدد إلا إذا تعذر الوصول إلى معرفة العدد
برؤية الهلال فحينئذ تكمل العدة ثلاثين يوما إبقاء لما كان
على ما كان لا بيان العلة الموجبة للصوم, وكذا قوله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . لبيان, وقت أداء
الصلاة الواجبة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} . لا
لبيان السبب., ومجيء اللام للوقت كثير شائع في الشرع
واللغة قال عليه السلام: : "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" .
أي لوقت كل صلاة. وقالت الخنساء:
تذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل مغيب شمس
أي: لوقت مغيبها, ويمكن أن يجاب عنه بأن ورود اللام
للتعليل أكثر من ورودها
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصوم حديث رقم 1081 وابن ماجة في الصيام
حديث رقم 1655.
(2/503)
إلى الوقت.
وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه; لأنه في الشرع
مضاف إلى المال والغناء وتنسب إليه بالإجماع ويجوز تعجيلها
بعد وجود ما يقع به الغنى غير أن الغنى لا يقع على الكمال
واليسر إلا بمال, وهو نام, ولا نماء إلا بالزمان فأقيم
الحول, وهو المدة الكاملة لاستنماء المال مقام النماء وصار
المال الواحد بتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه
فيتكرر الوجوب بتكرر
ـــــــ
بمعنى الوقت, وقد تأيد كونها للتعليل بتكرر الحكم عند
تكرره, وإضافة الواجب إليه شرعا وعرفا فحملت على التعليل,
وما ذكر من الترديدات وارد على تقدير كونها بمعنى الوقت
أيضا; لأن وقت الرؤية ليس بوقت الصوم بالإجماع, وكذا زمان
الدلوك, وهو ساعة لطيفة لم تتعين لوقت الصلاة, ولا دلالة
لها على الزمان الذي يوجد قبيل صيرورة الظل مثلا ومثلين
فكل جواب له عنها فهو جواب لنا.
قوله "وسبب وجوب الزكاة ملك المال الذي هو نصابه" أي نصاب
وجوب الزكاة في ذلك المال مثل عشرين مثقالا في الذهب,
ومائتي درهم في الفضة وخمس ذود في الإبل, وأربعين شاة في
الغنم مضاف إلى المال والغنى قال عليه الصلاة والسلام:
"هاتوا ربع عشور أموالكم" 1., وقال عليه السلام: "لا صدقة
إلا عن ظهر غنى" . والغنى لا يحصل بأصل المال ما لم يبلغ
مقدارا, وأحوال الناس في ذلك مختلفة فقدر بالنصاب في حق
الكل. وينسب إليه بالإجماع فيقال زكاة المال ويتضاعف
بتضاعف النصاب في وقت واحد أيضا. ويجوز تعجيله بعد وجود ما
يقع به الغنى, وهو ملك النصاب فدل أنه سبب; لأن جواز
الأداء لا يثبت قبل السبب ألا ترى أنه لو ملك ما دون
النصاب فعجل الزكاة ثم تم له ملك النصاب وحال الحول لا
ينوب المؤدى عن الزكاة لعدم السبب. وقوله غير أن الغنى
جواب عما يقال لما تحقق السبب بملك النصاب وثبت الغنى
ينبغي أن يجب الأداء في الحال, ولا يتأخر إلى مضي الحول.
فقال أصل الغنى, وإن كان يثبت بملك النصاب إلا أن تكامله
متوقف على النماء; لأن الحاجة إلى المال يتجدد زمانا
فزمانا, والمال إذا لم يكن ناميا تفنيه الحوائج لا محالة
عن قريب, وإذا كان ناميا تعين النماء لدفع الحوائج فبقي
أصل المال فاضلا عن الحاجة فيحصل به الغنى, ويتيسر عليه
الأداء منه فشرط النماء لوجوب الأداء تحقيقا للغنى واليسر
اللذين بنيت هذه العبادة عليهما, ولا نماء إلا بالزمان
فأقيم الحول مقام النماء; لأنه مدة مستجمعة للفصول الأربعة
المختلفة التي لها تأثير في حصول النماء
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1572، والترمذي في
الزكاة حديث رقم 620، وابن ماجه في الزكاة حديث رقم 1790.
(2/504)
الحول على أنه
متكرر بتكرر المال في التقدير.
وسبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان قال الله تعالى {فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "البقرة: 185"أي
فليصم في أيامه والوقت متى جعل سببا كان ظرفا صالحا للأداء
والليل لا يصلح له فعلم أن اليوم سببه بدلالة نسبته إليه
وتعلقه به وتعليق الحكم بالشيء شرعا دليل على أنه سببه
ـــــــ
من عين السائمة بالدر والنسل, ومن أموال التجارة بالربح
بزيادة القيمة لرغبات الناس في كل فصل إلى ما يناسبه فصار
مضي الحول شرطا لوجوب الأداء. ثم يلزم على ما ذكرنا أن
بتكرر الشرط لا يتكرر الواجب, وقد يتكرر الوجوب هاهنا في
مال واحد باعتبار الأحوال المتكررة فأشار إلى الجواب عنه,
وقال المال الواحد يتجدد النماء فيه بمنزلة المتجدد بنفسه;
لأن المال بوصف النماء صار سببا للوجوب فيكون تجدده بمنزلة
تجدد المال كالرأس في صدقة الفطر لما صار سببا بوصف المؤنة
صار بمنزلة المتجدد بتجدد المؤنة فعرفنا أن تكرر الوجوب
باعتبار تكرر السبب تقديرا.
قوله "وسبب وجوب الصوم" يعني صوم شهر رمضان واللام للعهد
أيام شهر رمضان. اتفق المتأخرون من مشايخنا مثل القاضي
الإمام أبي زيد وشمس الأئمة والشيخ المصنف وصدر الإسلام
أبي اليسر, ومن تابعهم على أن سبب وجوب الصوم الشهر; لأنه
يضاف إليه ويتكرر بتكرره ويصح الأداء بعد دخول الشهر, ولا
يصح قبله لكنهم اختلفوا بعد ذلك. فذهب الإمام شمس الأئمة
السرخسي رحمه الله إلى أن السبب مطلق شهود الشهر حتى استوى
في السببية الأيام والليالي متمسكا بأن الشهر اسم لجزء من
الزمان مشتمل على الأيام والليالي, وإنما جعله الشرع سببا
لإظهار فضيلة هذا الوقت, وهي ثابتة للأيام والليالي جميعا
والدليل عليه أن من كان مفيقا في أول ليلة من الشهر ثم جن
قبل أن يصبح, ومضى الشهر, وهو مجنون ثم أفاق يلزمه القضاء,
ولو لم يتقرر السبب في حقه بما شهد من الشهر في حال
الإفاقة لم يلزمه القضاء, وكذلك المجنون إذا أفاق في ليلة
ثم جن قبل أن يصبح ثم أفاق بعد مضي الشهر يلزمه القضاء.
وكذا نية أداء الفرض تصح بعد وجود الليلة الأولى بغروب
الشمس قبل أن يصبح, ومعلوم أن نية أداء الفرض قبل تصور سبب
الوجوب لا تصح ألا ترى أنه لو نوى قبل غروب الشمس لا تصح
نيته. ويؤيده قوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته" . فإنه
نظير قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
"الإسراء: 78". ولا معنى لقول من قال لو كان سببا لجاز
الأداء فيه; لأن صحة السبب لا يتوقف على تمكن الأداء فيه
فإن من أسلم في آخر الوقت يلزمه فرض الوقت, وإن لم يثبت
التمكن من الأداء فيه بل الشرط احتمال الأداء في الوقت,
وهو ثابت ولهذا لو أسلم في آخر
(2/505)
هذا هو الأصل
في الباب, وقد تكرر بتكرره ونسب إليه فقيل صوم شهر رمضان
وصح الأداء بعده من المسافر وقد تأخر الخطاب به ولهذا وجب
على صبي يبلغ في بعض شهر رمضان, وكافر يسلم بقدر ما أدركه;
لأن كل يوم سبب لصومه بمنزلة كل من أوقات الصلاة, وقد مرت
أحكام هذا القسم.
سبب
ـــــــ
يوم من رمضان بعد الزوال أو قبله لم يلزمه الصوم, وإن أدرك
جزءا من الشهر لانقطاع احتمال الأداء في الوقت. وذهب
القاضي الإمام أبو زيد والشيخ المصنف وصدر الإسلام أبو
اليسر إلى أن سبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان دون الليالي
أي الجزء الأول الذي لا يتجزأ من كل يوم سبب لصوم ذلك
اليوم فيجب صوم جميع اليوم مقارنا إياه; لأن الواجب في
الشهر أشياء متغايرة إذ صوم كل يوم عبادة على حدة غير
مرتبط بغيره لاختصاصه بشرائط وجوده, وانفراده بالارتفاع
عند طروء الناقض كالصلوات في أوقاتها بل التفرق في الصيام
أكثر منه في الصلوات فإن التفرق في الصلوات باعتبار أن
أداء الظهر لا يجوز في وقت الفجر ويفوت بمجيء وقت العصر
قبل أداء الظهر, وهذا المعنى فيما نحن فيه موجود وزيادة,
وهي أن بين كل يومين وقتا لا يصلح للصوم لا أداء, ولا قضاء
لما مضى, ولا نفلا, وإذا كان كذلك كان كل عبادة متعلقة
بسبب على حدة وذلك بالطريق الذي قلنا; ولأن الله تعالى إذا
جعل وقتا سببا لعبادة فذلك بيان شرف ذلك الوقت لحق تلك
العبادة والعبادة في الأداء دون الإيجاب فإنه صنع الله
تعالى فلم يستقم الوقت المنافي للأداء شرعا سببا لوجوبه
فعلمنا أن الأسباب هي الأيام دون الليالي, وهو معنى قول
الشيخ والوقت متى جعل سببا كان ظرفا للأداء أي محلا له
كوقت الصلاة لما جعل سببا لوجوبها كان محلا لأدائها.
والمراد من كونه ظرفا هاهنا أن الواجب يؤدى فيه لا أن
الوقت يفضل عن الأداء.
وأما الجواب عن كلام شمس الأئمة فهو أن شرف الليالي
باعتبار شرعية الصوم في أيامها فكان شرفها تابعا لشرف
الأيام أو شرفها باعتبار كونها أوقاتا لقيام رمضان,
وكلامنا في شرف يحصل باعتبار السببية, وذلك بأن يكون محلا
لأداء مسببه. وأما عدم سقوط الصوم عن المجنون الذي لم يفق
إلا في جزء من الليلة فلأنه أهل للوجوب مع الجنون إلا أن
الشرع أسقط عنه عند تضاعف الواجبات دفعا للحرج واعتبر
الحرج في حق الصوم باستغراق الجنون جميع الشهر, ولم يوجد.
وأما جواز النية في الليل فباعتبار أن الليل جعل تابعا
لليوم في حق هذا الحكم ضرورة تعذر اقتران النية بأول أجزاء
الصوم الذي هو شرط على ما بينا في مسألة التبييت فأقيمت
النية في الليل مقام النية المقترنة بأول الصوم, ولا ضرورة
فيما نحن فيه, والله أعلم. هذا هو الأصل احتراز عن الشرط
فإن الحكم قد يتعلق به وجودا ولهذا أي; ولأن كل يوم سبب
لوجوب صومه, وقد مرت أحكام هذا القسم أيضا كأحكام الصلاة
في باب تقسيم المأمور به في حق الوقت.
(2/506)
وجوب صدقة
الفطر على كل مسلم غني رأس يمونه بولايته عليه ثبت ذلك
بقول النبي عليه السلام: "أدوا عن كل حر وعبد" بقوله عليه
السلام "أدوا عمن تمونون" وبيانه أن كلمة "عن" لانتزاع
الشيء فدل على أحد وجهين إما أن يكون سببا ينتزع الحكم عنه
أو محلا يجب الحق عليه فيؤدي عنه وبطل
ـــــــ
قوله "وسبب وجوب صدقة الفطر" رأس يمونه أي يقوم المكلف
بكفايته ويتحمل مؤنته بولايته أي بسبب ولايته عليه مثل
التزويج والإجارة وغير ذلك. إذ الباء بمعنى مع, ومعنى
الولاية تنفيذ القول على الغير شاء الغير أو أبى. وحاصله
أن الرأس بصفة المؤنة والولاية جعل سببا لصدقة الفطر
عندنا, وعند الشافعي رحمه الله السبب رأس يلزمه مؤنته
ويعقبه كذا ذكر أبو اليسر. وذكر غيره أن السبب هو الوقت
عند الشافعي بدليل إضافتها إليه يقال صدقة الفطر وبدليل
تكررها بتكرر الوقت في رأس واحد. ولكنا نقول الأصل في هذا
الباب رأسه والصدقة جعلت مؤنة شرعية, والمؤنة الأصلية
تتعلق بكونه مالك رأسه ووليه فكذا الصدقة, وكذا رأس غيره
يلتحق برأسه بمؤنة الرأس بسبب المالكية والولاية ليصير
كرأسه كذا في الأسرار. فإذا عدمت الولاية في حق المرأة
والابن الزمن البالغ المعسر لم يجب الصدقة على الزوج
والأب, وإن وجدت المؤنة, وإذا عدمت المؤنة بأن كان للصغير
مال حتى وجبت نفقته فيه لم تجب صدقته على الأب أيضا عند
أبي حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله, وإن وجدت الولاية. قال
نهج الإسلام خواهر زاده رحمه الله, وإنما اعتبرنا المعنيين
جميعا بالشرع وبدلالة من المعنى. أما الشرع فلأنه عليه
السلام. قال: "أدوا عمن تمونون" . فقد اعتبر المؤنة, وأما
الولاية فلأنه عليه السلام لما أوجب في الصغار والمماليك
فقد اعتبر الولاية أيضا فدل أنه لا بد من اعتبار المعنيين
جميعا., وأما المعنى فلأن الأصل في الوجوب رأس الإنسان,
وإنما يلحق رأس غيره به إذا كان في معناه إلى آخر ما
ذكرنا. ثبت ذلك أي كون الرأس سببا بقوله عليه السلام كذا.
وبيانه أي بيان ثبوت كون الرأس سببا بهذين الحديثين أن
كلمة عن لانتزاع الشيء أي لانفصال الشيء عن الشيء وتعديه
منه يقال رميت عن القوس, وأخذت عنه حديثا أي انفصل عنه إلي
وبلغني عنه كذا أي تعدى وتجاوز عنه إلي وأخذت الدرة عن
الحقة أي نزعتها عنها. فيدل أي حرف عن أو الحديث. على أحد
الوجهين بالاستقراء. إما أن يكون ما دخل عليه عن. سببا
ينتزع الحكم عنه أي عن السبب كما يقال أد الزكاة عن ماله,
وأد الخراج عن أرضه أي بسببهما ويقال سمن عن أكل وشرب أي
بسببهما, وكقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}
"الذاريات: 9". إذا جعل الضمير راجعا إلى قول مختلف أي
يصدر إفكهم عن القول المختلف فيكون معناه أدوا الصدقة
الواجبة الناشئة عن كذا. أو
(2/507)
الثاني
لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير فعلم به أنه
سبب ولذلك يتضاعف الوجوب بتضاعف الرءوس , وأما وقت الفطر
فشرطه حتى لا يعمل السبب إلا لهذا الشرط وإنما نسبت إلى
الفطر مجازا والنسبة تحتمل الاستعارة فأما تضاعف الوجوب
فلا يحتمل الاستعارة وبيان قولنا إن الإضافة تحتمل
ـــــــ
محلا يجب الحق عليه فيؤدى عنه كالدية تجب على القاتل ثم
يتحمل العاقلة عنه لاستحالة الوجوب على العبد; لأنه لما لم
يتصور أن يكون مالكا لشيء; لأنه مملوك استحال تكليفه بما
ليس في وسعه ذلك. والكافر; لأنها قربة , وهو ليس من أهلها.
والفقير; لأنه ليس على الجراب خراج فتعين أن المراد انتزاع
الحكم عن سببه , وأن ما دخل عليه كلمة عن سبب. وذكر في
الأسرار في مثلية وجوب صدقة الفطر عن عبده الكافر أن
الوجوب على العبد على أصل الشافعي والمولى ينوب عنه
كالنفقة; لأن النبي عليه السلام لما قال: "أدوا عن كل حر
وعبد" . علم أن الوجوب على العبد إذا لو لم يكن كذلك لكان
أداء المولى عن نفسه لا عن العبد ألا ترى أنه لا يقال في
الزكاة أد عن الشاة أو أد عن العبد , وإنما يقال أدوا من
أموالكم. ثم ذكر في الجواب عنه أن الوجوب ليس على العبد;
لأنه صار كالبهيمة في باب الولاية والمؤنة فلا يتحقق السبب
في حقه , ومعنى قوله عليه السلام أدوا عنه. على سبيل
المجاز فإنه من حيث إنه إنسان مخاطب , وهذه صدقة فالظاهر
أنها عليه كالنفقة والمولى ينوب عنه , ولكن في باطن المعنى
فلا وجوب عليه; لأنه التحق بالبهيمة فيما ملك عليه
والأجزاء التي تحتاج إلى النفقة مملوكة والصدقة كذلك تجب
بسبب الرأس كالنفقة فعلى اعتبار أصل الخلقة الوجوب على
العبد وعلى اعتبار العارض على المولى فصحت العبارة بكلمة
عن إشارة إلى المعنى الأصلي.
ولذلك أي ولكون الرأس سببا تضاعف وجوب صدقة الفطر بتضاعف
الرءوس في وقت واحد , ولو كان الوقت سببا لما تضاعف بتعدد
الرأس فدل أن الرأس هو السبب دون الوقت , ولكن الوقت شرطه.
حتى لا يعمل السبب أي لا يجب الأداء إلا بهذا الشرط , وهو
الوقت كالنصاب لا يظهر عمله في إيجاب أداء الزكاة إلا عند
مضي الحول.
قوله "وإنما نسبت إلى الفطر" جواب عما قال الشافعي رحمه
الله إن إضافتها إلى الوقت تدل على أنه سبب فقال إنما نسبت
إلى الفطر مجازا باعتبار أنه زمان الوجوب فلا يدل على كونه
سببا. , وإنما حملناها على المجاز; لأن الإضافة تحتمل
المجاز فإن الشيء قد يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة وأضيفت
الحجة إلى الإسلام الذي هو شرطها فقيل حجة الإسلام ويقال
بنو فلان لنوافله على سبيل المجاز فأما تضاعف الوجوب
بتضاعف الرءوس فأمر حقيقي لا يقبل الاستعارة; لأنها من
أوصاف اللفظ , وهذا ليس بلفظ فكان
(2/508)
الاستعارة
ظاهر; لأن الشيء يضاف إلى الشرط مجازا فأما تضاعف الوجوب
فلا يحتمل الاستعارة; لأن الوجوب إنما يكون بسبب أو علة لا
يكون بغير ذلك وهذا لا يتصور فيه الاستعارة وكذلك وصف
المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا, وقد بينا معنى المؤنة فيه
في موضعه.وسبب وجوب الحج البيت; لأنه ينسب
ـــــــ
التضاعف بمنزلة المحكم في كونه دليلا على السببية فإن
الحكم لا يحتمل أن يتكرر بتكرر الشرط بوجه., وإنما يكون أي
الوجوب بسبب أو علة, وقد ذكرنا الفرق بين السبب والعلة
فلذلك جعلنا الرأس سببا والوقت شرطها فإن قيل أليس يتكرر
هذا الواجب بتكرر الوقت مع اتحاد السبب؟. قلنا لم يتكرر
بتكرر الوقت بل بتكرر الحاجة والمؤنة أبدا يتكرر وجوبها
بتكرر الحاجة فالشرع جعل يوم الفطر وقت الحاجة فإذا جاء
يوم الفطر تجددت الحاجة فتجدد الوجوب لأجله. وذكر الشيخ في
شرح التقويم أن الإضافة قد تحققت إلى الرأس والوقت فيجب أن
يكون لكل واحد منهما حظ من الوجوب بحكم الإضافة وذلك إذا
جعلنا الرأس سببا والوقت زمان الوجوب فيثبت لكل واحد منهما
اتصال بالوجوب لأحدهما من حيث إنه سبب وللآخر من حيث إنه
شرط فأما إذا جعلنا الفطر سببا فلا يبقى للرأس اتصال
بالواجب; لأنه لا يجب على العبد والكافر شيء ليجعل الرأس
شرطا باعتبار المحلية بل يجب على المولى لأجله فإذا أضيفت
إلى رأس العبد فأي اتصال يبقى له بالواجب فلا وجه لهذا
فثبت أن الرأس سبب.
"فإن قيل" نجعل الرأس شرطا من حيث الوجوب على المولى لا من
حيث الوجوب على العبد كما جعلتم الوقت شرطا للوجوب على
المولى بسبب الرأس.
"قلنا" حينئذ لا يتكرر بتكرر الشرط, وهو الرأس, وإنما
يتكرر بتكرر السبب, وإن اتحد الشرط, وقد تكرر بتكرر الرأس
بالاتفاق فدل أن السبب هو الرأس, والوقت شرط الوجوب كوقت
الحج. وكذلك وصف المؤنة يرجح الرأس في كونه سببا; لأن هذه
الصدقة وجبت وجوب المؤن فإن النبي عليه السلام أجراها مجرى
المؤن في قوله: "أدوا عمن تمونون" . أي تحملوا هذه المؤنة
عمن وجب عليكم مؤنتهم. والأصل في وجوب المؤن رأس يلي عليه
لا الوقت فإن نفقة العبيد والدواب تجب بالرأس لا بالوقت إذ
الرأس هو المحتاج إلى المؤنة دون الوقت, وكذلك مؤنة الشيء
سبب لبقائه وذلك يتصور في الرأس دون الوقت فكان الرأس سبب
الوجوب كما هو سبب وجوب النفقة, والفطر عن رمضان شرطه
كالإقامة في حق المسافر والمراد بالفطر اليوم لا الفطر عن
الصوم فإنه يكون كل ليلة فيكون المراد فطرا مخصوصا, وهو
الفطر في وقت الصوم فإنه يتصف بهما والليل لا يتصف بالصوم
شرعا والفطر بناء عليه فكان اليوم وقتا له. وقد بينا معنى
المؤنة منه أي من هذا
(2/509)
إليه ولم يتكرر
قال الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ} "آل عمران: 97", وأما الوقت فهو شرط الأداء
بدلالة أنه لا يتكرر بتكرره غير أن الأداء شرع متفرقا
منقسما على أمكنة وأزمنة يشتمل عليها جملة وقت الحج فلم
يصلح تغير الترتيب كما لا يصلح السجود قبل الركوع فلذلك لم
يجز طواف الزيارة قبل يوم النحر والوقوف قبل يوم عرفة.
ـــــــ
الواجب في موضعه. وذكر الشيخ في نسخة من نسخ أصول الفقه
التي صنفها أن الإنسان يحتاج إلى صيانة دينه, وإصلاحه كما
يحتاج إلى صيانة نفسه بالإنفاق عليها, وهذه الصدقة مؤنة
شرعية وجبت لإصلاح عبادة الصوم حيث قال عليه السلام: "صدقة
الفطر طهرة للصائم عن اللغو والرفث" 1. والنفقة لإصلاح
البدن والعبد محتاج إليهما جميعا فهذا هو معنى المؤنة
فيها. وذكر الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه الله في إشارات
الأسرار أن السبب رأس يمونه ويلي عليه والدليل عليه قوله
عليه السلام: "صدقة الفطر طهرة للصائمين وطعمة للمساكين"
فقوله طهرة إشارة إلى معنى العبادة, وقوله طعمة إشارة إلى
معنى المؤنة فكانت الصدقة مشتملة على الوصفين معنى العبادة
والمؤنة فتعلقت برأس يمونه ويلي عليه; لأن الولاية من باب
العبادة والمؤنة من باب الغرامة ليكون الحكم على وفاق
السبب ولهذا تضاف إلى الرأس فيقال زكاة الرأس وتضاف إلى
الوقت أيضا فيقال زكاة الفطر والمراد به وقته فكانت
الإضافة إلى الرأس إضافة الأحكام إلى أسبابها, والإضافة
إلى الوقت على سبيل الشرطية; لأنه ظرف إذ لو قلت الوقت سبب
لكانت الإضافة إلى الرأس لغوا. قال وذكر القاضي الإمام أبو
نصر الزوزني رحمه الله: أن السبب كلاهما الرأس والوقت فكان
حكما معلقا بعلة ذات وصفين ثم قال والمسائل تستغني عن هذا
الأصل.
قوله "وسبب وجوب الحج البيت" دون الوقت; لأنه نسب إليه,
ولو يتكرر أي لم يجب إلا مرة; لأن السبب, وهو البيت غير
متجدد. قال أبو اليسر إن للبيت حرمة شرعا فيجوز أن يصير
سببا لزيارته شرعا فإن المكان المحترم قد يزار تعظيما له
واحتراما إلا أن احترامه لله تعالى فيكون زيارته تعظيما
لله عز وجل لا له; ولأن هذا البيت لحرمته أمان للخلق فكان
نعمة في نفسه فصار سببا لكونه نعمة., وأما الوقت فهو شرط
الأداء أي شرط جواز الأداء لعدم صحة الأداء بدونه, وليس
بسبب للوجوب بدليل أنه لا يتكرر بتكرره, ولم ينسب إليه
أيضا. وتوقف صحة الأداء عليه مع انتفاء التكرر بتكرره دليل
الشرطية, غير أن الأداء أي لكن الأداء جواب عما يقال: وقت
الحج أشهر الحج, وهي شوال وذو القعدة وعشر
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الزكاة حديث رقم 1609، وابن ماجه في
الزكاة، حديث رقم 1827.
(2/510)
وأما الاستطاعة
بالمال فشرط لا سبب لما ذكرنا أنه لا ينسب إليه, ولا يتكرر
بتكرره ويصح الأداء دونه من الفقر ألا ترى أنها عبادة
بدنية فلا يصلح المال سببا لها, ولكنها عبادة هجرة وزيادة
فكان البيت سببا لها.وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة
الخارج; لأن العشر ينسب إلى الأرض, وفي العشر
ـــــــ
من ذي الحجة, والأداء غير جائز لأول شوال فكيف يقال إنه
شرط الأداء فعلم أنه سبب الوجوب إذ لو لم يكن سببا له لم
يكن إضافة الوقت إليه مفيدة, وقد يقال أشهر الحج كما يقال
وقت الصلاة فدل أنه سبب. فقال: الوقت شرط الأداء كما ذكرنا
ويجوز الأداء بعد دخوله لكن هذه عبادة ذات أركان شرع
أداؤها متفرقا منقسما على أمكنة, وأزمنة واختص كل ركن بوقت
على حدة كما اختص بمكان مخصوص فلم يجز قبل وقته الخاص كما
لا يجوز في غير مكانه فلذلك لم يجز طواف الزيارة يوم عرفة
مع أنه وقت أداء الركن الأعظم, وهو الوقوف, ولم يجز رمي
اليوم الثاني في اليوم الأول, ولا قبل الزوال حتى أن ما
كان منها غير موقت بوقت خاص يتأدى في جميع وقت الحج كالسعي
فإن من طاف وسعى في رمضان لم يكن سعيه معتدا به من سعي
الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر يلزمه السعي, ولو كان
طاف وسعى في شوال كان سعيه معتدا به حتى لم يلزمه إعادته
يوم النحر; لأن السعي غير موقت بوقت خاص فجاز أداؤه في
أشهر الحج. وأما الاستطاعة بالمال فشرط أي شرط لوجوب
الأداء لا لجوازه فإن الأداء صحيح من الفقير, وإن كان لا
يملك شيئا, ولكنها شرط وجوب الأداء فإن السفر الذي يوصله
إلى الأداء لا يتهيأ له بدون الزاد والراحلة إلا بحرج
عظيم, وهو مدفوع فعرفنا أن المال شرط وجوب الأداء لا أنه
سبب. والدليل عليه أن تفسير الاستطاعة ملك الزاد والراحلة,
والأداء قبل ملكهما جائز كما ذكرنا لوجود السبب كما يجوز
للمسافر أن يصوم قبل الإقامة; لأن السبب قد وجد, وكذلك لا
يتجدد الوجوب بتجدد الاستطاعة, ولا يضاف إليها كما لا يضاف
إلى الوقت, ولا يتجدد بتجدده فعلم أن الاستطاعة شرط كالوقت
فصار تأويل الآية - والله أعلم – {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ} المستطيعين {حَجَّ الْبَيْتَ} حقا واجبا بسببه
إذا جاء وقت الأداء كذا في التقويم.
قوله "وسبب وجوب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج" الباء
يتعلق بالنامية, وهو احتراز عن الخراج فإن سببه الأرض
بالنماء التقديري, وعند الشافعي الخارج سبب وجوب العشر,
والأرض سبب وجوب الخراج حتى أنهما يجتمعان في أرض واحدة إن
كانت الأرض خراجية; لأن العشر يتعلق بالخارج ويتكرر بتكرره
ولهذا لا يجوز تعجيله, ولو كان الأرض هي السبب لجاز تعجيله
كالخراج, وكالزكاة قبل الحول. ولنا أنه ينسب إلى الأرض
(2/511)
معنى مؤنة
الأرض; لأنها أصل, وفيه معنى العبادة; لأن الخارج للسبب
وصف وصار السبب بتجدد وصفه متجددا في التقدير فلم يجز
التعجيل قبل الخارج; لأن الخارج بمعنى السبب لوصف العبادة
فلو صح التعجيل لخلص معنى
ـــــــ
يقال عشر الأراضي, والأرض توصف به فيقال أرض عشرية, والشيء
يضاف إلى سببه في الأصل, ويتصف السبب بحكمه, والدليل عليه
أن هذا حق مالي وجب لله تعالى فكان سببه مالا ناميا,
والخارج غير موصوف بصفة النماء بل معد للانتفاع والإتلاف
إنما الأرض هي الموصوفة به إلا أن نماء الأرض على وجهين
نماء حقيقي, وهو الخارج ونماء حكمي, وهو التمكن من
الانتفاع والزراعة, وكل واحد منهما يصلح سببا لوجوب حق
الله تعالى كما في الزكاة فإنها تارة تجب بنماء حقيقي, وهو
نماء الإسامة من الدر والنسل وتارة تجب بالنماء الحكمي,
وهو كون المال معدا للتجارة فالعشر يتعلق بالنماء الحقيقي;
لأنه مقدر بجزء من الخارج فلا يمكن أداؤه إلا بعد تحقق
الخارج, والخراج مقدر بالدرهم فجاز أن يكون متعلقا بالنماء
الحكمي.
"وفي العشر معنى المؤنة" أي وجوب العشر معنى مؤنة الأراضي;
لأنها أي الأراضي أصل في وجوبه يعني إذا وجب العشر يجب
مؤنة للأرض حتى لا يشترط فيه الأهلية الكاملة; لأن الله
تعالى حكم ببقاء العالم إلى الحين الموعود, وسبب بقائه هو
الأرض فإن القوت منها يخرج فوجب العشر, والخراج عمارة لها
ونفقة عليها كما وجب على الملاك مؤنة عبيدهم ودوابهم
وعمارة دورهم وعمارة الأراضي وبقاؤها بجماعة المسلمين;
لأنهم يذبون عن الدار ويصونونها عن الأعداء فوجب الخراج
للمقاتلة كفاية لهم ليتمكنوا من إقامة النصرة. والعشر
للمحتاجين كفاية لهم; لأنهم هم الذابون عن حريم الإسلام
معنى كما قال عليه السلام يوم بدر: "إنكم تنصرون
بضعفائكم1" . فكان الصرف إليهم صرفا إلى الأرض وإنفاقا
عليها فهذا هو معنى المؤنة فيه. وفيه معنى العبادة أيضا
باعتبار كون الواجب جزءا من النماء قليلا من كثير كالزكاة
تتعلق بالمال النامي بهذه الصفة فاشتمل على معنى المؤنة
والعبادة, ولما كانت الأرض التي هي سبب لوجوبه أصلا
والنماء الذي تعلق به معنى العبادة وصفا لها كان معنى
المؤنة فيه أصلا, ومعنى العبادة فيه تبعا, وقوله: وصار
السبب بتجدد وصفه متجددا جواب عن استدلال الخصم يعني تكرر
الواجب عند تكرر الخارج باعتبار تجدد الأرض به تقديرا لا
باعتبار أن الخارج سبب كما
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الجهاذ حديث رقم 1702 وأبو داود في
الجهاد حديث رقم 2594 والإمام أحمد في المسند 1/173 و
5/198.
(2/512)
المؤنة فلما
صارت الأرض نامية أشبه تعجيل زكاة السائمة والإبل العلوفة
ثم أسامها.
وكذلك سبب الخراج إلا أن النماء معتبر في الخراج تقديرا لا
تحقيقا بالتمكن به من الزراعة فصار مؤنة باعتبار الأصل
وعقوبة باعتبار الوصف; لأن الزراعة عمارة الدنيا, وإعراض
عن الجهاد فكان سببا لضرب من المذلة ولذلك لم
ـــــــ
قلنا في النصاب الواحد بتكرر الحول والرأس الواحد بتجدد
الفطر, ولا يتكرر الخراج في سنة واحدة; لأن النماء
التقديري غير متكرر. ولم يجز التعجيل أي تعجيل العشر قبل
الخارج; لأن الخارج لما جعل بمعنى السبب لوصف العبادة في
العشر كان التعجيل قبل الخارج مفوتا لمعنى العبادة عنه,
ومبطلا له لاستحالة حصول المسبب قبل السبب, وإذا بطل معنى
العبادة عنه بقي مؤنة خالصة متعلقة بالأرض وحدها, وهذا
تغيير له فلا يجوز فصار تعجيل العشر قبل الخارج كتعجيل
الزكاة في الإبل الحوامل والعلوفة قبل الإسامة بخلاف
الخراج فإن تعجيله يجوز; لأنه مؤنة محضة, ولا يؤدي التعجيل
فيه إلى تغيير كما يجوز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب
النامي; لأنه لا يؤدي إلى التغيير.
قوله "وكذلك سبب الخراج" أي, وكما أن سبب العشر الأرض فإن
سبب الخراج الأرض النامية أيضا لكن النماء معتبر في الخراج
تقديرا لا تحقيقا بالتمكن من الزراعة لما قلنا إن الواجب
من غير جنس الخارج فلم يتعلق بحقيقة الخارج وعلق بالتمكن
من الزراعة لئلا يتعطل حق المقاتلة. فصار مؤنة باعتبار
الأصل أي باعتبار تعلقه بأصل الأرض كما بينا في العشر,
وعقوبة باعتبار الوصف, وهو التمكن من طلب النماء بالزراعة;
لأن الاشتغال بالزراعة عمارة الدنيا, وإعراض عن الجهاد
فيصلح سببا للمذلة التي هي نوع عقوبة; لأن عمارة الأرض من
صنيع الكفار وعادتهم, وقد ذمهم الله تعالى بذلك في قوله عز
اسمه: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ
مِمَّا عَمَرُوهَا} "الروم: 9". وقال عليه السلام: "إذا
تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم
عدوكم1" : "ورأى النبي عليه السلام شيئا من آلات الزراعة
في بيت فقال "ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا" ولهذا كان أصل
الخراج على الكافر حيث لم يقبل الإسلام واشتغل بعمارة
الدنيا فوضع عليهم الخراج لضرب من المذلة كما وضعت الجزية
على رءوسهم لذلك, والخراج في الأراضي أصل; لأنه كان موجودا
قبل الإسلام إلا أن الشرع نقل عنه إلى العشر في حق المسلم,
وأوجب الصرف إلى مصارف الزكاة ليتصل به نوع عبادة تكرمة
للمسلمين; ولهذا ل يبتدأ الخراج على المسلم; لأن فيه نوع
صغار, ومذلة وجاز البقاء باعتبار المؤنة. ولا يقال بأن
وجود الخارج لا
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود فلي البيوع حديث رقم 3462 والإمام أحمد
في المسند 2/84.
(2/513)
يجتمعا عندنا.
وسبب وجوب الطهارة الصلاة; لأنها تنسب إليها وتقوم بها,
وهو شرطها فتعلق بها حتى لم يجب قصدا لكن عند إرادة الصلاة
والحدث شرطه بمنزلة سائر شروط الصلاة, ومن المحال أن يجعل
الحدث سببا ألا يرى أنه إزالة
ـــــــ
ينفك عن الزراعة, ومع ذلك يجب العشر; لأنه اعتبر في حق
وجوب العشر اكتساب المال فقط كاكتساب مال تجب فيه الزكاة;
لأن عمارة الدنيا والاشتغال بها في حق الكفار أصل, وفي حق
المسلم عارض فلا يعتبر العارض في جعل العشر عقوبة.; ولأن
الاشتغال بالزراعة مع الإعراض عن الدين والجهاد سبب للمذلة
لا نفس الزراعة قال عليه السلام: "اطلبوا الرزق في خبايا
الأرض" ,ولا يتحقق الإعراض في حق المسلم فكانت اكتسابا;
ولأن معنى الزراعة غير معتبر في العشر حتى وجب العشر إن
خرج من الأرض شيء من غير أن يزرع, ولذلك لم يجتمعا عندنا
أي; ولأن سبب كل واحد منهما الأرض النامية لا يجتمع العشر
والخراج في أرض واحدة وجوبا; لأن كل واحد مؤنة, وفي العشر
معنى العبادة, وفي الخراج معنى المذلة والعقوبة وبسبب واحد
لا يجب حكمان مختلفان. وقولهم: محل كل واحد مختلف لا يغني
عنهم شيئا; لأن المحل قد يكون متحدا أيضا إذ الخراج قد
يكون مقاسمة, وقد روى الإملي في مسنده عن أبي حنيفة عن
حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع في أرض مسلم عشر
وخراج" . وكذلك أئمة العدل والجور لم يشتغلوا بذلك مع كثرة
احتيالهم لأخذ المال.
قوله "وسبب وجوب الطهارة الصلاة" اختلفوا في سبب وجوب
الوضوء فقيل سببه الحدث لا الصلاة; لأن النبي عليه السلام:
"لا وضوء إلا عن حدث" . وحرف عن في مثل هذا الموضع يدل على
السببية كما قلنا في قوله عليه السلام: "أدوا عمن تمونون"
. ولأنه يتكرر بتكرر الحدث وتكرر الصلاة بتكرر الوقت, ولا
يتكرر بتكرر الصلاة فإنه متى قام إلى الصلاة, وهو طاهر لا
يجب عليه الوضوء فعلمنا أن السبب هو الحدث., ولا معنى لقول
من قال إنه لا يجتمع مع الوضوء فكيف يجعل سببا له; لأنا
إنما جعلناه سببا لوجوب الوضوء لا لحصوله, ولا نسلم أنه لا
يجتمع مع وجوبه. والصحيح أن سبب وجوب الطهارة الصلاة أعني
وجوب الصلاة أو إرادة الصلاة; لأنها أي الطهارة تضاف إلى
الصلاة شرعا وعرفا يقال طهارة الصلاة وتطهر للصلاة
والإضافة دليل السببية في الأصل. وتقوم بها أي تثبت
الطهارة بالصلاة حتى وجبت بوجوب الصلاة وسقطت بسقوطها,
وهذا التعلق دليل السببية أيضا, وهي أي الطهارة شرط
الصلاة, وما يكون شرطا للشيء كان وجوبه بوجوب الأصل
كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب في الصلاة فإن
وجوبها متعلق
(2/514)
له وتبديل فلا
يصلح سببا له, وأما أسباب الحدود والعقوبات فما نسب إليه
من قتل وزنا وسرقة.
وسبب الكفارات ما نسب إليه من أمر دائر بين حظر, وإباحة
مثل
ـــــــ
وجوب الصلاة, وكالشهادة في النكاح ثبوتها بثبوت النكاح.,
وهذا; لأن الشرط تبع للمشروط فيتعلق به فلو تعلق بسبب آخر
كان تبعا له فلا يبقى تبعا للمشروط. ولا نسلم أن وجوب
الوضوء يتكرر بتكرر الحدث بل يتكرر بتكرر الصلاة إلا أن
الحدث شرط وجوبه كالاستطاعة في الحج; لأن الغرض منه تحصيل
صفة الطهارة لحل الصلاة فإذا كانت هذه الصفة حاصلة لا يؤثر
السبب في إيجابه كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب
إذا كانت حاصلة لا يجب تحصيلها, وإن وجد السبب فكذا هاهنا.
والدليل على أن الحدث ليس بسبب أن الوضوء على الوضوء مشروع
حتى كان نورا على نور وبعد تحقق الحدث لا يجب بدون وجوب
الصلاة فإن الجنب إذا حاضت لا يجب عليها الاغتسال ما لم
تطهر. حتى لم تجب قصدا لكنها عند إرادة الصلاة حتى قيل إن
من توضأ, ولم يصل بذلك الوضوء خاصمه ذلك الوضوء يوم
القيامة وروي في ذلك حديث. ألا يرى أنه أي الحدث إزالة له
أي للوضوء وتبديل لصفة الطهارة بصفة النجاسة, وما يكون
رافعا للشيء, ومزيلا له لا يصلح سببا له. ولا يتخالجن في
وهمك أن الطهارة شرط الصلاة بالاتفاق فيمنع ذلك من إضافتها
إلى الصلاة; لأن كونها شرطا لها يقتضي تقدمها, وكونها
مضافة إلى الصلاة وحكما لها يقتضي تأخرها فلا يمكن
اجتماعهما فيضاف إلى الحدث; لأن وجودها شرط صحة أداء
الصلاة لا وجوب الصلاة فكونها شرطا للأداء لا يمنع من
إضافة وجوبها إلى وجوب الصلاة لتغايرهما. ولا يقال لو كان
وجوبها مضافا إلى الصلاة ينبغي أن لا يجوز التوضؤ قبل
الوقت; لأنه يؤدي إلى تقديم الحكم على السبب; لأنا نقول
وجوب الصلاة, وإرادتها سبب لوجوب الطهارة لا لشرعيتها
ووجوبها لا يثبت قبله إلا أنه لما توضأ قبل ودام وصف
الطهارة إلى حال الأداء لا يجب عليه إعادة الوضوء لحصول
الشرط كما إذا ستر العورة أو استقبل القبلة قبل الوقت
واستدام إلى حال الأداء إذ الشرط يراعى وجوده لا وجوده
قصدا.
قوله "وسبب الكفارات" أي سبب وجوبها ما أضيفت الكفارات
إليه من أمر دائر أي متردد بين حظر, وإباحة. مثل الفطر في
رمضان بصفة الجنابة فإنه من حيث إنه يلاقي فعل نفسه الذي
هو مملوك له مباح, ومن حيث إنه جناية على العبادة محظور,
كذا في شرح التقويم, وفيه وجه آخر يعرف في باب معرفة
الأسباب. "وقتل الخطأ"; لأنه دائر بين الحظر والإباحة فمن
حيث إنه لم يقصد القتل بل قصد الصيد ونحوه مباح, ومن حيث
(2/515)
الفطر, وقتل
الخاطئ وقتل الصيد واليمين ونحوها, وقتل العمد واليمين
الغموس
ـــــــ
إنه مقصر محظور, "وقتل الصيد" فإنه مباح من حيث إنه
اصطياد, ومحظور من حيث إنه جناية على الإحرام. وكذا
الارتفاق باللبس والطيب والأهل فإن هذه الأشياء حلال في
ذواتها إلا أنها حرمت عليه لمعنى في غيرها, وهو تحقيق معنى
السفر فإن العادة جرت أن المسافر لا يتمتع بأهله, وماله
إلا بعد بلوغه بما له فالله تعالى حرم التمتع بهذه الأشياء
في هذا السفر لتحقيق معنى السفر فكانت حراما لمعنى في
غيرها فدارت بين الحظر والإباحة فصلحت سببا للكفارة ولهذا
لا يجب شيء من الكفارات على الصبي فإنها لما كانت دائرة
بين العبادة والعقوبة, والعبادات شرعت ابتلاء, والصبي ليس
من أهل الابتلاء, والعقوبات شرعت جزاء فعل محظور, وفعله لا
يوصف بالحظر فلا يجب الكفارة عليه, كذا ذكر الشيخ رحمه
الله.
واليمين. اليمين سبب للكفارة بلا خلاف لإضافة الكفارة
إليها شرعا وعرفا قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ} "المائدة 89". ويقال كفارة اليمين إلا أنها
سبب بصفة كونها معقودة عندنا وشرط وجوبها فوات البر,
وموجبها الأصلي وجوب البر والكفارة وجبت خلفا عنه عند
فواته ليصير باعتبارها كأنه تم على بره. وعند الشافعي رحمه
الله هي سبب بصفة كونها مقصودة ويجب الكفارة بها أصلا لا
خلفا عن البر, وشرطها فوت الصدق من الخبر الذي عقد عليه
اليمين فيجب الكفارة في الغموس لوجود الشرط. هو يقول
الكفارة مؤاخذة شرعت سترا للذنب, ومحوا للإثم فيتعلق
بارتكاب محظور, وهو هتك حرمة اسم الله جل جلاله كالتوبة
تجب بارتكاب الذنب محوا له ثم الهتك لا يحصل إلا عن قصد
فأخرج الشرع اللغو عن السببية لعدم القصد وبقيت الغموس
والمنعقدة سببين للكفارة باعتبار صفة القصد, وإليه أشير في
قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ} "البقرة 225",وقلنا نحن لما كانت الكفارة
مشتملة على صفة العبادة والعقوبة لكونها عبادة في ذاتها,
وكونها أجزية استدعت سببا دائرا بين الحظر والإباحة كما
قلنا, ولم يوجد ذلك إلا في المنعقدة فيكون اليمين بصفة
كونها معقودة سببا للكفارة ثم إن الحالف لما أكد المحلوف
عليه بذكر اسم الله تعالى حرم عليه هتك حرمته, والاحتراز
عن الهتك لا يحصل إلا البر فوجب البر باليمين احترازا عن
الوقوع في المحرم كما وجب الكف عن الزنا فرارا عن الوقوع
في المحرم فإذا فات البر وحصل الهتك وجبت الكفارة خلفا عن
البر ليصير كأن لم يفت بأداء الكفارة ودفع الهتك فهذا هو
تحقيق معنى الخلافة فيها. فإن قيل الخلف يجب بالسبب الذي
وجب به الأصل فلا بد من أن يكون قائما ليثبت الخلف به أولا
ثم يقام مقام الأصل.
(2/516)
, وأشباه ذلك
لا يصلح سببا للكفارة ويفسر ذلك في موضعه إن شاء الله عز
وجل.وسبب المعاملات تعلق البقاء المقدور بتعاطيها, والبقاء
معلق
ـــــــ
وهاهنا اليمين قد انحلت بالحنث وصارت معدومة فكيف يجعل
سببا للكفارة. قلنا هذا يلزمك أيضا فإنك تجعلها موجبة
للكفارة عند الحنث لا قبله فكيف تقول بالوجوب حالة
الانحلال. ثم تقول إنها قد انحلت في حق البر لفواته وصارت
سببا للكفارة الآن فهي منحلة معدومة في حق الحكم الأصلي,
وهو البر, وهي قائمة لتصير سببا للكفارة فكانت واجبة بذلك
السبب بعينه لكنه بطل في حق البر وانقلب سببا للكفارة إلا
أن من شرط انعقاده سببا للكفارة أن يكون منعقدا لوجوب البر
ابتداء; لأن الكفارة خلف عنه فيصير البر بعد فواته مبقى
بالكفارة, وباقي الكلام مذكور في إشارات الأسرار.
قوله "ونحوها" مثل الظهار فإنه من حيث إنه كان طلاقا مباح,
ومن حيث إنه منكر من القول محظور فيصلح سببا للكفارة. وذكر
الشيخ أن الظهار مع العود سبب للكفارة فإن الظهار محظور
والعود مباح فإذا اجتمعا صار السبب دائرا بين الحظر
والإباحة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} "المجادلة:
3". الآية أضاف إليهما, وإنما ذكر بكلمة ثم, وهي كلمة
التراخي; لأن المظاهر عزم على التحريم, والظاهر أن من عزم
على شيء لا يرجع من ساعته فأدخل كلمة التأخير بناء على
العادة, وتفسير ذلك أي بيان كون هذه الأشياء دائرة بين
الحظر والإباحة أو بيان أن العمد والغموس, وأشباههما لا
يصلح سببا. نذكره في موضعه أي في المبسوط إن كان تصنيفه
بعد تصنيف هذا الكتاب أو في هذا الكتاب بعد باب القياس.
قوله "وسبب المعاملات" أي سبب شرعيتها "تعلق البقاء
المقدور" أي المحكوم من الله تعالى واللام للعهد. بتعاطيها
أي بمباشرتها من قولك فلان يتعاطى كذا أي يخوض فيه
ويتناوله. فإن قيل لما كان البقاء متعلقا بها كانت هي سببا
للبقاء فكيف يكون البقاء سببا لها ؟. قلنا: وجودها سبب
للبقاء, ولكن تعلق البقاء وافتقاره إليها سبب لشرعيتها,
وهو أمر سابق على شرعيتها فيصلح سببا. وبيانه ما ذكر
المشايخ الثلاثة القاضي الإمام أبو زيد وشمس الأئمة والشيخ
المصنف رضي الله عنهم أن الله تعالى خلق هذا العالم, وقدر
بقاءه إلى قيام الساعة, وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس
وبقاء النفس, فبقاء الجنس بالتناسل, وذلك بإتيان الذكور
الإناث في مواضع الحرث فشرع له طريق يتأدى به ما قدر الله
عز وجل من غير أن يتصل به فساد, ولا ضياع, وهو طريق
الازدواج بلا شركة; لأن في التغلب فسادا, وفي الشركة ضياعا
فإن الأب متى اشتبه يتعذر إيجاب المؤنة عليه, وليس للأم
قوة كسب الكفايات في أصل الجبلة. وكذا لا طريق لبقاء النفس
إلى أجله غير إصابة
(2/517)
بالنسل,
والكفاية وطريقها أسباب شرعية موضوعة للملك والاختصاص.
ـــــــ
المال بعضهم من بعض, وما يحتاج إليه كل نفس لكفايتها لا
يكون حاصلا في يدها, وإنما يتمكن من تحصيله بالمال فشرع
سبب اكتساب المال وسبب اكتساب ما فيه كفاية لكل أحد, وهو
التجارة عن تراض لما في التغالب من الفساد والله لا يحب
الفساد.
هذا الذي ذكرنا هو طريقة القاضي الإمام أبي زيد وتابعه
فيها عامة المتأخرين من المشايخ.
فأما المتقدمون من أصحابنا فقالوا سبب وجوب العبادات نعم
الله تعالى على كل واحد من عباده فإنه تعالى أسدى إلى كل
واحد منا من أنواع النعم ما يقصر العقول عن الوقوف على
كنهها فضلا عن القيام بشكرها, وأوجب هذه العبادات علينا
بإزائها, ورضي بها شكرا لسوابغ نعمه بفضله وكرمه, وإن كان
بحيث لا يمكن لأحد الخروج عن شكر نعمه, وإن قلت مدة عمره
وإن طالت, وهذا; لأن شكر النعمة واجب بلا شك عقلا أو نصا
على ما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}
"لقمان: 14",وقال عليه السلام: "من أنزلت عليه نعمة
فليشكرها" . في نصوص كثيرة وردت فيه وكل عبادة صالحة
لكونها شكرا لنعمة من النعم. وقد ورد النص الدال على كون
العبادة شكرا, وهو ما روي: "أنه عليه السلام صلى حتى تورمت
قدماه فقيل له إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك, وما
تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا1" . أخبر أنه يصلي لله
تعالى شكرا على ما أنعم عليه. ثم نعم الله تعالى على عباده
أجناس مختلفة, منها إيجاده من العدم وتكريمه بالعقل
والحواس الباطنة. ومنها الأعضاء السليمة, وما يحصل له بها
من التقلب والانتقال من حالة إلى ما يخالفها من نحو القيام
والقعود والانحناء. ومنها ما يصل إليه من منافع الأطعمة
الشهية والاستمتاع بصنوف المأكولات. ومنها صنوف الأموال
التي بها يتوصل إلى تحصيل منافع النفس ودفع المضار عنها
فعلى حسب اختلافها وجبت العبادات. فالإيمان وجب شكرا لنعمة
الوجود, وقوة النطق, وكمال العقل الذي هو أنفس المواهب
التي اختص الإنسان بها من بين سائر الحيوانات وغيرها من
النعم فالوجوب بإيجاب الله تعالى لكن بالعقل يعرف أن شكر
المنعم واجب فكان النعم معرفا له وجوب شكر المنعم بواسطة
آلة المعرفة, وهي العقل, وهذا معنى قول الناس العقل موجب
أي دليل, ومعرف لوجوب الإيمان بالنظر في سببه
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الرقاق ومسلم في صفات المنافقين حديث
رقم 2819 والترمذي في الصلاة حديث رقم 412 وابن ماجة في
إقامة الصلاة حديث رقم 1741 والإمام أحمد في المسند 6/115.
(2/518)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وهو النعم بالعقل. ووجبت الصلاة شكرا لنعمة الأعضاء
السليمة فيعرف بما يلحقه من المشقة قدر الراحة التي ينالها
بالتقلب على حسب إرادته إذ النعمة مجهولة فإذا فقدت عرفت.
ووجب الصوم شكرا لنعمة اقتضاء الشهوات والاستمتاع بها مدة
فيعرف بما يقاسي من مرارة الجوع وشدة الظمأ في الهواجر قدر
ما يتناول من صنوف الأطعمة الشهية والأشربة الباردة. ووجبت
الزكاة شكرا لنعمة المال فيعرف بما يجد طبيعته من المشقة
في زوال المحبوب إلى من لا يتحمل له منه, ولا تكثر له
عددا, ولا يطمع منه مكافأة قدر ما حول من أصناف المال
وأوتي من النشطة في فنونها. ووجب الحج شكرا للنعمة أيضا
فإن الله تعالى لما أضاف البيت إلى نفسه كرامة له, وإظهارا
لشرفه صار أمان الخلق لحرمته فوجب زيارته أداء لشكر هذه
النعمة وتحصيلا للأمان من النيران وليعرف بمقاساة شدائد
السفر قدر التقلب في النعم في حالة الإقامة بين الأهل
والأولاد.
فثبت بما ذكرنا أن أسباب هذه العبادات النعم. وإلى هذا
الطريق مال صدر الإسلام أبو اليسر وشيخ الإسلام علاء الدين
صاحب الميزان من المتأخرين, والله أعلم. وإذ قد فرغنا عن
شرح القسم الأول من الكتاب بتوفيق الملك العزيز الوهاب,
كاشفين للحجب عن حقائق معانيه, رافعين للأستار عن دقائق
مبانيه, فلننتقل إلى تحقيق القسم الثاني وتقريره, مستمدين
للتوفيق من الله عز وجل على تهديته وتنقيره, شاكرين له على
نعمه, وأفضاله, ومصلين على خير البرية محمد وآله, والحمد
لله أولا وآخرا.
(2/519)
|