كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"وهذا باب الكتابة والخط"
وهذا يتصل بما سبق ذكره من باب الضبط. وهو نوعان ما يكون مذكرا, وهو الأصل الذي انقلب عزيمة وما يكون إماما لا يفيد تذكره.
ـــــــ
"باب الكتابة والخط": وهما واحد وهذا أي هذا القسم أو هذا الباب يتصل بباب الضبط; لأنه قد يكون بالحفظ, وقد يكون بالكتابة, "وهو نوعان" أي الحاصل بالكتابة والخط, وهو الكتاب نوعان "ما يكون مذكرا" وهو ما يتذكر بالنظر فيه ما كان مسموعا له وما لم يكن كذلك; لأن المقصود هو الذكر فلا يبالي بعد حصوله بأن حصل بالتفكر أو بالنظر في الكتاب والنسيان الواقع قبل التذكر معفو; لأنه لو اعتبر في حق عدم جواز الرواية أدى إلى تعطيل الأخبار والأحاديث كيف والنسيان مركب في الإنسان ولا يمكنه الاحتراز عنه إلا بحرج بين وذلك مدفوع وبعد النسيان النظر في الكتاب طريق للتذكر وعود إلى ما كان عليه من الحفظ, وإذا عاد كما كان فالرواية تكون عن حفظ تام "وإنما كان دوام الحفظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني أنه كان مخصوصا بالحفظ الدائم لقوة نور قلبه ومع ذلك كان النسيان متصورا في حقه بدليل الاستثناء في قوله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6-7], وقد "وقع له عليه السلام تردد في قراءة سورة المؤمنين في صلاة الفجر حتى قال لأبي رضي الله عنه "هلا ذكرتني" 1, وإذا تصور في حقه فكيف لا يتصور في حق غيره قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6-7]، أي نعلمك القرآن ونجعلك قارئا له فلا تنسى منه شيئا إلا ما شاء الله أن ينسخه فيزيل حفظه عن القلوب وقيل: معناه فلا تنسى إلا أن يريد الله إنساءك; فإنه قادر على ما شاء ثم هو لا ينسيك وإن كان قادرا عليه كما قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86], وهو لم يشأ ذلك فكان هذا من قبيل قولك لأعطينك كل ما سألت إلا أن أشاء أن أمنعك وأنت لا تريد أن تمنعه كذا في "التيسير".
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود بنحوه برقم 907، والإمام أحمد في المسند، 4/74.

(3/76)


أما الذي يكون مذكرا فهو حجة سواء كان خطه أو خط رجل معروف أو مجهول; لأن المقصود هو الذكر والاحتراز عن النسيان غير ممكن وإنما كان دوام الحفظ لرسول الله عليه السلام مع قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الأعلى[: 6-7], وأما إذا كان الخط أماما لا يذكره شيئا; فإن أبا حنيفة كان يقول لا يحل الرواية بمثله بحال; لأن الخط للقلب بمنزلة المرآة للعين والمرآة إذا لم تفد للعين دركا كان عدما فالخط إذا لم يفد للقلب ذكرا كان هدرا, وإنما يدخل الخط في ثلاثة فصول فيما يجد القاضي في ديوانه مما لا
ـــــــ
قوله "وأما إذا كان الخط إماما لا يذكره شيئا" بأن وجد سماعا مكتوبا بخطه أو بخط أبيه أو بخط رجل معروف ولم يتذكر السماع; "فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يجوز الرواية بمثله بحال" أي بمثل هذا الخط الذي لا يذكر شيئا سواء كان خطه أو خط غيره; لأن المقصود من الكتاب أن يتذكر إذا نظر فيه; لأن الكتاب للقلب كالمرآة للعين وإنما يعتبر المرآة ليحصل الإدراك بالعين, وإذا لم يحصل كان وجودها كعدمها, فكذا الخط للتذكر بالقلب عند النظر فيه فإذا لم يتذكر كان وجوده كعدمه, ومعنى كون الخط إماما أن الراوي إذا لم يستفد التذكر به كان اعتماده على الخط لا غير كاعتماد المقتدي على الإمام فكان الخط إمامه دون الحفظ.
وذكر أبو الحسين في "المعتمد" إذا روى الراوي الحديث من كتابه, فإن علم أنه قرأه على نهجه أو حدثه به وتذكر ألفاظ قراءته ووقتها أو لم يتذكر جازت الرواية والأخذ بها; لأنه عالم في الحال بأنه قرأ جميع ما في الكتاب أو سمعه منه وإن علم أنه لم يسمع ذلك الكتاب أو يظن ذلك أو يجوز الأمرين تجويزا على السوية فلا يجوز له روايته; لأنه ليس له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك وإن لم يتذكر سماعه لما في الكتاب ولا قراءته ولكن يغلب على ظنه ذلك لما يرى من خطه فهذا هو الذي ينبغي أن يكون محل الخلاف فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز له أن يروي ولا يجوز العمل بروايته وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز له الرواية ويجب العمل بها; لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون على كتب النبي عليه السلام نحو كتابه لعمرو بن حزم من غير أن راويا روى ذلك الكتاب لهم بل عملوا لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز مثله لغيرهم.
قوله "وإنما يدخل الخط في ثلاثة فصول" أي يتحقق الاعتماد على الخط وعدمه

(3/77)


يذكره وما يكون في السنن والأحاديث وما يكون في الصكوك وروى بشر بن الوليد عن أبي حنيفة رحمهما الله عن أبي يوسف أنه لم يعمل به في ذلك كله وروي عن أبي يوسف أنه يعمل به في ديوان القاضي وروى ابن رستم عن محمد أنه يعمل بالخط في الكل والعزيمة في هذا كله ما قاله أبو حنيفة ولهذا قلت رواياته والرخصة فيما قالا فصارت الكتابة للحفظ عزيمة وبلا حفظ رخصة والعزيمة نوع واحد والرخصة أنواع:
ـــــــ
في ثلاثة مواضع فيما يجد القاضي في ديوانه من صحيفة فيها شهادة شهود لا يتذكر أنهم شهدوا بذلك أو سجل بخطه من غير أن يتذكر الحادثة.
وما يكون في الأحاديث كما بينا.
وما يكون في الصكوك بأن يرى الشاهد خطه في صك ولا يتذكر الحادثة.
"والعزيمة" أي الأصل في هذا كله ما قاله أبو حنيفة رحمه الله إنه لا يعتمد على الخط من غير تذكر; لأن الرواية والشهادة وتنفيذ القضاء لا يكون إلا بعلم والخط يشبه الخط شبها لا يمكن التمييز بينهما فبصورة الخط لا يستفيد علما من غير تذكر بل يقع بالبناء عليه ضرب شبهة يمكن الاحتراز عنها بالجد في الحفظ فلا يلغو اعتبار تلك الشبهة بنسيان يكون بالتقصير في الحفظ, وما فسد دين من الأديان إلا بالبناء على الصور دون المعاني, ألا ترى أنا لا نقبل رواية الأخرس وإن كانت له إشارة معقولة لضرب شبهة فيها يقع الاحتراز عنها بغيرها فاعتبرناها ولم نعتبر فيما يتصرف لنفسه وعليها فيثبت بها النكاح والطلاق والعتاق; لأنه لا يمكن الاحتراز عنها في حقه.
"والرخصة فيما قالاه" يعني ما قاله أبو حنيفة رحمه الله وإن كان هو العزيمة إلا أن ما قالاه ليس بفاسد أيضا بل هو رخصة وللرخصة مجال في هذا الباب; فإن اشتراط دوام الحفظ من وقت السماع إلى وقت التبليغ قد سقط وذلك بطريق الرخصة. وكذا الرواية بناء على الكتاب والرسالة, والإجازة والمناولة من باب الرخصة فلما كان للرخصة مدخل في هذا الباب وجب العمل بها "فصارت الكتابة للحفظ" أي مع الحفظ أو لأجل الحفظ عزيمة ويجوز أن يكون اللام للعاقبة أي صارت الكتابة التي عاقبتها الحفظ والتذكر عزيمة الضمير في بيده في المواضع الثلاثة راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في بخطه "وذلك كله ثلاثة أنواع" أي جميع ما ذكرنا من الأقسام يوجد في ثلاثة مواضع, "وأما أبو يوسف فقد عمل به" أي بالخط الذي لا يفيد تذكرا في ديوان القاضي الديوان الجريدة, من دون الكتب إذا جمعها; لأنها قطع من القراطيس مجموعة ويروى أن عمر رضي الله عنه

(3/78)


ما يكون بخط موثقا بيده لا يحتمل تبديلا وكذلك ما يوجد بخط معروف لرجل ثقة موثق بيده وما يكون بخط مجهول وذلك كله ثلاثة أنواع في الحديث والصكوك وديوان القاضي, أما أبو يوسف فقد عمل به في ديوان القاضي إذا كان تحت يده للأمن عن التزوير وعمل به في الأحاديث إن كان لهذا الشرط, وأما إذا لم يكن في يده لم يحل العمل به في الديوان; لأن التزوير في بابه غالب لما يتصل بالمظالم وحقوق الناس, وأما في باب الحديث; فإن العمل به جائز إذا كان خطا معروفا لا يخاف عليه التبديل في غالب العادة ويؤمن فيه الغلط; لأن التبديل فيه غير متعارف والمحفوظ بيد الأمين مثل المحفوظ بيده, وأما في الصكوك فلا يحل العمل به; لأنه تحت يد الخصم إلا أن يكون في يد الشاهد, وكذلك قول محمد رحمه الله إلا في الصكوك; فإنه جوز العمل به وإن
ـــــــ
أول من دون الدواوين أي رتب الجرائد للولاة والقضاة إذا كان تحت يده أي محفوظا بيده مختوما بخاتمه سواء كان بخطه أو بخط معروف; لأن القاضي لكثرة اشتغاله يعجز عن أن يحفظ كل حادثة, ولهذا يكتب وإنما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد عليه عند النسيان; فإن الإنسان ليس في وسعه التحرز عن النسيان فلو لم يجز له الاعتماد على الكتاب عند النسيان أدى إلى الحرج وتعطيل أحكام الشرع فإذا كان الكتاب في قمطرة مختوما بخاتمه محفوظا بيده أو بيد أمينة فالظاهر أنه حق وأنه لم يصل إليه يد مغيرة ولا زائدة فيه والقاضي مأمور باتباع الظاهر فجاز له العمل به وإن لم يحصل التذكر "وعمل به" أي بالخط من غير تذكر في الأحاديث أيضا إن كان الخط بهذا الشرط, وهو أن يكون تحت يده; لأن الناس يتفاوتون في التذكر والحفظ فلو شرطنا التذكر لصحة الرواية لا محالة أدى إلى تعطيل الأحاديث; "لأن التزوير في بابه" أي ديوان القاضي غالب "لما يتصل" أي لاتصاله وما مصدرية يعني ديوان القاضي يتعلق بالمظالم وهي جمع مظلمة بكسر اللام وهي ما تطلبه عند الظالم. "وأما في باب الحديث فإن العمل به" أي بالخط "جائز" وإن لم يكن في يده "إذا كان خطا معروفا" مأمونا عن التبديل والغلط في غالب العادة; لأن التبديل فيه غير متعارف; لأنه من أمور الدين ولا يعود بتغييره نفع إلى من يغيره فكان المحفوظ منه بيد أمين مثل المحفوظ بيده فيجوز الرواية عنه.
فأما في الصكوك فلا يجب العمل بالخط من غير تذكر; لأن الصك تحت يد الخصم فلا يحصل الأمن من التبديل والتغيير فيه فلا يحصل الشهادة ما لم يتذكر الحادثة حتى لو كان الصك في يد الشاهد جاز له الشهادة أيضا من غير تذكر لوقوع الأمن حينئذ عن التبديل

(3/79)


لم يكن في يده استحسانا توسعة على الناس إذا أحاط علما بأنه خطه ولم يلحقه شك وشبهة والغلط في الخط نادر بقي فصل, وهو ما يحدث بخط أبيه أو بخط رجل معروف في كتاب معروف فيجوز أن يقول وجدت بخط أبي أو بخط
ـــــــ
كالسجل الذي في يد القاضي, "وكذلك قول محمد" أي ومثل قول أبي يوسف قول محمد رحمهما الله في جميع ما ذكرنا إلا في الصكوك; فإنه جوز العمل فيها بالخط وإن لم يكن الصك في يد الشاهد; لأنه لا يجري فيه التبديل والتغيير; فإنه لو ثبت يثبت بالخط والخط قلما يشبه الخط; لأن الله تعالى كما خلق الأجسام متفاوتة إظهارا لقدرته خلق الأفعال كذلك فالخط لا يشبه الخط إلا نادرا والنادر لا حكم له ولا اعتبار لتوهم التغيير; فإن له أثرا يوقف عليه فإذا لم يظهر ذلك جاز الاعتماد عليه.
قوله "بقي فصل" يعني بقي فصل لم يدخل في الأقسام المذكورة, وهو أنه إذا وجد كتابا بخط أبيه أو بخط رجل إلى آخره قال أبو الوفاء ونوع من الروايات الوجادة وتلك طريقة مسلوكة في الرواية أيضا فإذا احتاج إلى رواية شيء في تصنيف له وليس له فيه سماع, وهو موجود في كتاب صحيح أو سماع شيخ ثقة معروف بخطه أو بخط غيره ولكنه سماعه الثابت ويجب أن يرويه عنه أو يورده في كتابه وروايته يقول وجدت في كتاب فلان بخطه وسماعه أن فلان بن فلان أخبره أو حدثه أو وجدت في سماع فلان بن فلان أن فلان بن فلان أخبره أو حدثه ثم الفرق بين هذا القسم وبين ما تقدم أن ذلك في وجدان سماع نفسه بخطه أو بخط غيره وهذا في وجدان سماع الغير وعند بعض أهل الحديث حل له أن يقول في هذا القسم أخبرنا فلان عن فلان; لأن الكتاب إذا كان بخط أبيه أو بخط رجل معروف لا يتخلف عن الكتاب المبعوث إليه ولو بعث إليه كتابا حل له أن يروي ويقول أخبرنا فلان فهنا كذلك والأصح أنه لا يزيد على قوله وجدت بخط أبي أو بخط فلان أو في كتاب فلان ليكون أبعد عن التهمة هكذا في بعض مصنفات الشيخ رحمه الله.
وذكر شمس الأئمة رحمه الله أن الكتب المصنفة التي هي مشهورة في أيدي الناس لا بأس لمن نظر فيها وفهم شيئا منها وكان متقنا في ذلك أن يقول قال فلان كذا أو مذهب فلان كذا من غير أن يقول حدثني أو أخبرني; لأنها مستفيضة بمنزلة الخبر المشهور يوقف به على مذهب المصنف وإن لم يسمع منه فلا بأس بذكره على الوجه الذي ذكرنا بعد أن يكون أصلا معتمدا يؤمن فيه التصحيف والزيادة والنقصان.
وذكر الغزالي رحمه الله في المستصفى إذا رأى مكتوبا بخط ثقة أني سمعت عن فلان كذا لا يجوز له أن يروي عنه; لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا

(3/80)


فلان لا يزيد عليه فأما الخط المجهول فعلى وجهين إما أن يكون مفردا وذلك باطل وإما أن يكون مضموما إلى جماعة لا يتوهم التزوير في مثله والنسبة تامة
ـــــــ
نعم يجوز أن يقول رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان; فإن الخط قد يشبه الخط, أما إذا قال هذا خطي فيقبل قوله ولكن لا يروى عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو بقرينة حاله كالجلوس لرواية الحديث, أما إذا قال عدل هذه نسخة صحيحة من نسخ صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه ولكن هل يلزمه العمل به إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز العمل به ما لم يسمعه. وقال قوم إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز له العمل; لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حاملي الصحف بصحتها دون أن يسمعها كل واحد منه; فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمع ولم يتغير منه حرف فإن شك في شيء فليترك الرواية فإذا كان في مسموعاته من الزهري مثلا حديث واحد شك في أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز أن يقول سمعت الزهري ولا أن يقول قال الزهري; لأن قوله قال الزهري شهادة عليه ولا تجوز إلا عن علم فلعله سمعه من غيره فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد أم عمرو لا يجوز له أن يشهد على زيد بل يقول إنه لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه ولكنه التبس عليه عينه فليس له رواية شيء من تلك الأحاديث عنه إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه. ولو غلب ظنه في حديث أنه سمعه من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن, وقال قوم: يجوز; لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن, وهو بعيد; لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن يجوز ولكن في حق الحاكم; فإنه لا يعلم صدق الشاهد أما الشاهد فينبغي أن يتحقق; لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما يمكن فيه المشاهدة ممكن وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بالصدق محال فكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع فإذا لم يتحقق ينبغي أن لا يروى".
قوله: "وأما أن يكون مضموما إلى جماعة" يحتمل أن يكون معناه أنه وجد سماعه مكتوبا بخط لا يعرف كاتبه في طبقة سماع; فإن من دأب أهل الحديث أنهم يكتبون في آخر ما سمعوه من كتاب على شيخ سمع هذا الكتاب من الشيخ فلان أو على الشيخ فلان فلان بن فلان وفلان بن فلان إلى أن يأتوا على أسماء السامعين أجمع فإذا وجد سماعه مكتوبا بخط مجهول مضموما إلى سماع جماعة حل له أن يروي لانتفاء تهمة التزوير عنه

(3/81)


يقع بها التعريف فيكون كالمعروف, والله أعلم. وأما طرف التبليغ فقسمان أيضا عزيمة ورخصة أما العزيمة فالتمسك باللفظ المسموع, وأما الرخصة فالنقل إلى اللفظ يختاره الناقل وهذا.
ـــــــ
لأن الكاتب يخاف في مثله أن المكتوب لو عرض عليهم لأنكروا عليه ولظهر كذبه إذ النسيان وعدم التذكر على الجماعة نادر فيحترز عنه بخلاف ما إذا وجد مفردا, ويجوز أن يكون معناه أنه وجد سماعه مكتوبا بخطوط مختلفة مجهولة بأن وجده مكتوبا بخط لا يعرف كاتبه, وقد انضم إليه خطوط أخر تشهد بصدق ما تضمنه ذلك الخط ويؤيد هذا الوجه ما ذكر الشيخ في بعض مصنفاته فيما أظن أن الراوي إذا وجد سماعه مكتوبا مجهولا مفردا لا يحل له أن يروي إلا إذا كان مكتوبا بخطوط كثيرة; فإنه يحل له أن يروي وإن كانت الخطوط مجهولة; لأنهم لا يجتمعون هاهنا على الزور والكذب فقلنا بأنه يحل له أن يروي, فأما إذا كان منفردا فقد تمكنت فيه شبهة فلا يحل. قال شمس الأئمة رحمه الله وهذا في الأخبار خاصة فأما في الشهادة والقضاء فلا; لأن ذلك من مظالم العباد ويعتبر فيه من الاستقصاء ما لا يعتبر في رواية الأخبار واشتراط العلم منصوص عليه قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} "الزخرف: 86", وقال عليه السلام "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد, وإلا فدع" والنسبة تامة أي كتب اسمه واسم أبيه وجده والله أعلم.

(3/82)