كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية
باب شرط نقل المتون
قال بعض أهل الحديث لا رخصة في هذا الباب وأظنه اختيار
ثعلب من أئمة اللغة قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال "نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها وأداها كما
ـــــــ
"باب شرط نقل المتون"
المتون جمع متن وهو ما دون الريش من السهم إلى وسطه
واستعير هاهنا لنفس الحديث. واعلم أن الإنسان إذا سمع من
أحد شعرا مثلا ثم أنشده كما سمعه يقال هذا شعر فلان وإن
كان ما يقرؤه لفظه حقيقة لكونه محاكيا ومطابقا للفظ
المسموع منه فكذلك في باب الرواية إذا كان لفظ الراوي
محاكيا للفظ الرسول عليه السلام يقال هذا حديث النبي عليه
السلام ونقله بلفظه وإن كان ذلك لفظ الراوي حقيقة, وإن لم
يكن لفظه محاكيا للفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل كان
مطابقا لمعناه يقال نقله بالمعنى وعلى هذا الحكم في القرآن
وفي كل كلام.
ثم لا خلاف أن نقل الحديث بلفظه أولى فأما نقله بالمعنى
فقد اختلف فيه فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من
الفقهاء وأئمة الحديث إلى القول بجوازه بشرط أن يكون
الناقل عارفا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها مع شرائط
أخر سنبينها, وقال بعض أهل الحديث لا يجوز نقله بالمعنى
بحال وهو مذهب عبد الله بن عمر من الصحابة ومحمد بن سيرين
وجماعة من التابعين وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحابنا
وتمسكوا في ذلك بالنص وهو قوله عليه السلام "نضر الله
امرءاً سمع منا مقالة فوعاها وأداها كما سمعها" حث على
الأداء كما سمع وذلك بمراعاة اللفظ المسموع, ومعنى قوله
عليه السلام "نضر الله امرءاً" حسن وجهه من حد دخل وزاد في
جاهه وقدره بين خلقه, ويروى نضر بالتشديد أي نعمه.
وبالمعقول وهو أن النقل بالمعنى ربما يؤدي إلى اختلال معنى
الحديث فإن الناس متفاوتون في إدراك معنى اللفظ الواحد كما
أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "فرب حامل فقه
إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ولهذا يحمل
كل واحد منهم اللفظ
(3/83)
سمعها" ولأنه
صلى الله عليه وسلم مخصوص بجوامع الكلم سابق في الفصاحة
والبيان فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف, وقال عامة
العلماء لا بأس بذلك في الجملة رخصة
ـــــــ
الواحد على معنى لا يحمله عليه غيره, وقد صادفنا من
المتأخرين من يتنبه في آية أو خبر لفوائد لم يتنبه لها أهل
الأعصار السالفة من العلماء المحققين فعلمنا أنه لا يجب أن
يقف السامع على جميع فوائد اللفظ في الحال وإن كان فقيها
ذكيا مع أنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم وكان أفصح
العرب لسانا وأحسنها بيانا فلو جوزنا النقل بالمعنى ربما
حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت ولأنه
لو جاز تبديل لفظه عليه السلام بلفظ آخر لجاز تبديل لفظ
الراوي أيضا بالطريق الأولى; لأن التغيير في لفظ غير
الشارع أيسر منه في لفظ الشارع ولجاز ذلك في الطبقة
الثالثة والرابعة وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول; لأن
الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لا يمكنه الاحتراز عن
تفاوت وإن قل, فإذا توالت هذه التفاوتات كان التفاوت الآخر
تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأول وبين الآخر
مناسبة. ونقل عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب1 أنه كان
يذهب هذا المذهب ويقول إن عامة الألفاظ التي لها نظائر في
اللغة إذا تحققتها وجدت كل لفظة منها مختصة بشيء لا
يشاركها صاحبتها فيه فمن جوز العبارة ببعضها عن البعض لم
يسلم عن الزيغ عن المراد والذهاب عنه, ومعنى تخصيص الشيخ
إياه بالذكر في قوله وأظنه أي أظن هذا القول اختيار ثعلب
أنه هو المنفرد باستخراج هذا الدليل, والتبديل والتحريف في
قوله فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف بمعنى واحد وهو
التغيير, وتمسك الجمهور في تجويزه في الجملة أي في تجويزه
في بعض الصور على الخصوص لا في تجويزه على العموم مما روى
يعقوب بن سليمان الليثي عن أبيه عن جده قال: أتينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له بآبائنا وأمهاتنا يا
رسول الله إنا لنسمع منك الحديث ولا نقدر على تأديته كما
سمعناه منك قال صلى الله عليه وسلم "إذا لم تحلوا حراما
ولا تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس" كذا رأيت بخط
الإمام الحافظ أبي الرشيد الأصبهاني2 وأورده أبو بكر
الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية في معرفة أصول علم
الرواية, وباتفاق الصحابة على روايتهم بعض الأوامر
والنواهي بألفاظهم مثل ما روى صفوان بن عسال المرادي أن
النبي عليه السلام كان يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع
خفافنا ثلاثة أيام ولياليها
ـــــــ
1 هو أحمد بن يحيى الشيباني مولاهم الكوفي المعروف بأبي
العباس توفي سنة 291هـ، أنظر البداية والنهاية 11/98.
2 هو عبدالله بن عمر أبورشيد الأصبهاني المتوفى سنة 574هـ.
أنظر شذرات الذهب 4/248.
(3/84)
لاتفاق الصحابة
على قولهم أمرنا رسول الله عليه السلام بكذا ونهانا عن
كذا, ومعروف عن ابن مسعود وغيره قال رسول الله عليه السلام
كذا أو نحوا منه قريبا
ـــــــ
الحديث1. وما روى "أبو محذورة رضي الله عنه أنه عليه
السلام أمره بالترجيع"2 وما روى عامر بن سعيد عن أبيه قال:
"أمر النبي عليه السلام بقتل الوزغ وسماه فويسقا"3 وما روى
جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام "نهى عن المحاقلة
والمزابنة ورخص في العرايا" وما روى أنس رضي الله عنه أنه
عليه السلام "نهى عن بيع الثمار حتى تزهي" وما روى أبو
هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيعتين في
بيعة صفقة واحدة" 4 وما روى حكيم بن حزام أو غيره أنه عليه
السلام "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم" في
شواهد لها كثيرة لا تحصى فحكوا معاني خطابه عليه السلام من
غير قصد إلى لفظه إذ لم يقولوا قال النبي عليه السلام
افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا, وكانوا ينقلون أيضا الحديث
الواحد الذي جرى في مجلس واحد في واقعة معينة بألفاظ
مختلفة, مثل ما روي في حديث "الأعرابي الذي بال في المسجد
ودعا بعد الفراغ فقال اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم بعدنا
أحدا أنه عليه السلام قال له "لقد تحجرت واسعا" 5 وروي لقد
ضيقت واسعا لقد منعت واسعا ومثل ما روي في الحديث الذي
رواه مسلم رحمه الله رحم الله امرأ, مكان نضر الله وروي
فرب حامل فقه لا فقه له مكان غير فقيه ولم ينكر عليهم أحد
في جميع ما قلنا فكان ذلك إجماعا منهم على الجواز.
وبما روي عن ابن مسعود وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله
عنهم أنهم كانوا يقولون عند الرواية قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو نحوا منه أو قريبا منه ولم ينكر عليهم
منكر ولا دفعهم دافع فكان إجماعا على الجواز أيضا.
وبأنا نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا هذه الأخبار ما
كانوا يكتبونها في ذلك المجلس وما كانوا يكررون عليها في
ذلك المجلس بل كما سمعوها تركوها وما ذكروها
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 96، وابن ماجه في
الطهارة حديث رقم 478.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 379، وأبو داود في الصلاة
حديث رقم 500-505، والترمذي في الصلاة حديث رقم 191-192،
وابن ماجه في الأذان حديث رقم 708-709.
3 أخرجه مسلم في السلام حديث رقم 2238، وأبو داود في الأدب
حديث رقم 5262، والإمام أحمد في المسند 1/176.
4 أخرجه الترمذي فيا لبيوع حديث رقم 1231، والإمام أحمد
2/71 و174.
5 أخرجه الترمذي في الطهارة حديث رقم 147، وأبو داود في
الطهارة حديث رقم 380، وابن ماجه في الطهارة حديث رقم 529،
والإمام أحمد في المسند 2/239.
(3/85)
منه, وفي تفصيل
الرخصة جواب عما قال وهذا لأن النظم من السنة غير معجز
وإنما النظم لمعناه بخلاف القرآن.
والسنة في هذا الباب أنواع: ما يكون محكما لا يشتبه معناه
ولا يحتمل غير ما وضع له, وظاهر يحتمل غير ما ظهر من معناه
من عام يحتمل الخصوص أو حقيقة يحتمل المجاز, ومشكل أو
مشترك لا يعمل به إلا بتأويل, ومجمل أو
ـــــــ
إلا بعد الأعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعدد روايتها
على تلك الألفاظ, وبأن الإجماع منعقد على جواز شرح الشرع
للعجم بلسانهم, وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز
إبدالها بعربية أخرى أولى إذ التفاوت بين العربية وترجمتها
بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية, فإن قيل لا نزاع في
جواز تفسيره بالعجمية أو بالعربية إنما النزاع في أنه لو
لم ينقل بلفظه لا يكون حجة ولو قلتم بأنه بعد التعبير بلفظ
آخر عربي أو عجمي يبقى حجة قلنا لأن سفراء رسول الله صلى
الله عليه وسلم كانوا يبلغون أوامره ونواهيه إلى البلاد
بلغتهم ويعلمونهم الشرع بألسنتهم, وقد كان ذلك حجة
بالاتفاق, ولقائل أن يقول جواز التفسير بلغة أخرى لا يدل
على جواز النقل بالمعنى; لأن في التفسير ضرورة إذ العجمي
لا يفهم اللفظ العربي إلا بالتفسير ولا ضرورة في النقل
بالمعنى ألا ترى أن تفسير القرآن بجميع اللغات جائز ولم
يجز نقله بالمعنى بالاتفاق فثبت أن اعتبار النقل بالتفسير
لا يصح, وبأنا نعلم قطعا أن اللفظ غير مقصود في باب الحديث
كالشهادة. ولهذا كان النبي عليه السلام يذكر المعنى الواحد
بألفاظ مختلفة بل المقصود هو المعنى وهو حاصل فلا يلتفت
إلى اختلاف اللفظ كالشهادة لما كان المقصود فيها المعنى
دون اللفظ صح أداؤها بالمعنى ويعتبر اتفاق الشهود بخلاف
القرآن والأذان والتشهد وسائر ما تعبد فيه باللفظ; لأن
اللفظ فيها مقصود كالمعنى حتى تعلق جواز الصلاة وحرمة
القراءة على الجنب والحائض بالآية المنسوخة فلا يجوز
الإخلال به كما لا يجوز بالمعنى وهو معنى قول الشيخ وهذا
لأن النظم من السنة غير معجز إلى آخره أي إذا لم يكن معجزا
لا يكون مقصودا.
قوله: "والسنة في هذا الباب" أي في النقل بالمعنى. ما يكون
محكما لا يشتبه معناه ولا يحتمل غير ما وضع له إنما فسره
به إشارة إلى أنه لم يرد به المحكم الذي لا يحتمل النسخ في
ذاته إنما أراد به المحكم على التفسير المذكور ونظيره قوله
عليه السلام "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كذا ذكر الشيخ
في شرح التقويم قال الغزالي رحمه الله إنما جاز النقل
بالمعنى عند جماهير الفقهاء إذا كان ظاهرا مفسرا بأن قال
قعد رسول الله على رأس الركعتين مكان ما روي عنه جلس, أو
أقام لفظ العلم مقام المعرفة أو الاستطاعة مكان القدرة أو
الحظر مقام التحريم ونحوها.
(3/86)
متشابه, وقد
يكون من جوامع الكلم التي اختص بها رسول الله عليه السلام
قال عليه السلام فيما يحكي من اختصاصه "وأوتيت جوامع
الكلم" فهي خمسة أقسام:
أما الأول فلا بأس لمن له بصر بوجوه اللغة أن ينقله إلى
لفظ يؤدي معناه; لأنه إذا كان محكما مفسرا أمن فيه الغلط
على أهل العلم بوجوه اللغة فثبت النقل رخصة وتيسيرا, وقد
ثبت في كتاب الله ضرب من الرخصة مع أن النظم معجز قال
النبي صلى الله عليه وسلم "أنزل القرآن على سبعة أحرف"
وإنما ثبت ذلك ببركة دعوة النبي عليه السلام غير أن ذلك
رخصة إسقاط وهذه رخصة تخفيف وتيسير مع
ـــــــ
"جوامع الكلم" هي الألفاظ اليسيرة التي تجمع المعاني
الكثيرة والأحكام المختلفة واختص بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقد روي أنه قال: "فضلت بست أعطيت جوامع الكلم
ونصرت بالرعب. وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون" 1 وإنما
ثبت ذلك أي الترخص ببركة دعوة النبي عليه السلام أي دعائه
وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لأبي رضي الله
عنه "يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت أن هون
على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرف فرددت أن هون على
أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف" 2 وتمام الحديث
في "المصابيح". غير أن ذلك أي الترخص الذي ثبت في كتاب
الله تعالى رخصة إسقاط أي رخصة لازمة وهي التي لم تبق
العزيمة فيها مشروعة مثل رخصة القصر للمسافر ورخصة المسح
للابس الخف فلم يبق لزوم رعاية النظم المنزل أولا مشروعا
ولم تبق له أولوية بل ساوى الأحرف الباقية في القرآنية
وإحراز الثواب وسائر الأحكام لا أن يكون أحد الأحرف أصلا
والباقي رخصة. "وهذه" أي الرخصة الثابتة في نقل الحديث
رخصة تيسير وتخفيف حتى كان العمل بالعزيمة وهو النقل
باللفظ المسموع أولى من النقل بالمعنى بالاتفاق كأولوية
الصوم في حق المسافر من الإفطار وأولوية الصبر على القتل
في حق المكره على الكفر من إجراء كلمة الكفر.
وأما القسم الثاني وهو ما كان ظاهرا يحتمل غير ما ظهر من
معناه فلا رخصة فيه أي لا يجوز نقله بالمعنى إلا لمن جمع
بين العلمين اللغة والفقه "من خصوص أو مجاز" بيان
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 523، والترمذي في السير
حديث رقم 1553.
2 أخرجه مسلم في صلاة المسافرين حديث رقم 820، وأبو داود
في الصلاة حديث رقم 1478، والإمام أحمد في المسند 5/127.
(3/87)
قيام الأصل على
نحو ما مر تقسيمه في باب العزيمة والرخصة. وأما القسم
الثاني فلا رخصة فيه إلا لمن حوى إلى علم اللغة فقه
الشريعة "كشف" والعلم بطريق الاجتهاد; لأنه إذا لم يكن
"ثالث" كذلك لا يؤمن عليه أن ينقله إلى ما لا يحتمل ما
احتمله اللفظ المنقول من خصوص أو مجاز ولعل المحتمل هو
المراد ولعله يزيده عموما فيخل بمعانيه فقها وشريعة.
ـــــــ
لما احتمله اللفظ يعني إذا لم يكن فقيها ربما ينقله إلى
عبارة لا تكون في احتمال الخصوص والمجاز مثل العبارة
الأولى بأن يضم إليها من المؤكدات ما يقطع احتمال الخصوص
إن كانت عامة والمجاز إن كانت حقيقة ولعل المحتمل هو
المراد فيفسد المعنى ويتغير الحكم, مثاله قوله عليه
السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" 1 فموجبه العموم; لأن كلمة
من تتناول الذكر والأنثى والصغير والكبير لكن المراد منه
محتمله وهو الخصوص إذ الأنثى والصغير ليسا بمرادين منه لما
عرف فلو لم يكن للناقل معرفة بالفقه ربما ينقله بلفظ لم
يبق فيه احتمال الخصوص بأن قال مثلا كل من ارتد فاقتلوه
ذكرا كان أو أنثى وحينئذ يفسد المعنى. وقوله عليه السلام:
"لا وضوء لمن لم يسم" فإن موجبه وحقيقته نفي الجواز
ومحتمله نفي الفضيلة والمحتمل هو المراد لدلائل دلت عليه
فلو لم يكن الناقل بالمعنى فقيها ربما ينقله بلفظ لا يبقى
فيه هذا الاحتمال بأن قال مثلا لا يجوز وضوء من لم يسم
فيتغير الحكم ويفسد المعنى, ولعله أي الناقل يريده عموما
بأن يذكر جمع الكثرة مقام جمع القلة أو يذكر لفظ الجماعة
مكان الطائفة أو يذكر لفظ الجنس مقام العام صفة ومعنى.
وأما القسم الثالث وهو المشكل والمشترك فلا يخل نقله
بالمعنى لما ذكر في الكتاب وذلك مثل قوله عليه السلام:
"الطلاق بالرجال" فإن معناه إيجاد الطلاق أو إظهار الطلاق
فكان بمنزلة المشترك ومثل قوله عليه السلام: "المتبايعان
بالخيار ما لم يفترقا" 2 فإن التفرق اسم مشترك يحتمل
التفرق في القول والبدن كذا رأيت بخط شيخي رحمه الله.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الجهاد باب رقم 149، والترمذي في
الحدود حديث رقم 1458، وأبو داود في الحدود حديث رقم 4351،
وابن ماجه في الحدود حديث رقم 2535، والإمام أحمد (2/7)
و282.
2 أخرجه البخاري في البيوع باب رقم 32، ومسلم في البيوع
حديث رقم 45، والنسائي في البيوع باب رقم 9.
(3/88)
وأما القسم
الثالث فلا يخل فيه النقل; لأنه لا يفهم معناه إلا بتأويل
وتأويله على غيره ليس بحجة. وأما الرابع فلا يتصور فيه
النقل لما مر أن المجمل ما لا يفهم مراده إلا بالتفسير
والمتشابه ما انسد علينا باب دركه وابتلينا بالكف عنه.
وأما الخامس فإنه لا يؤمن فيه الغلط لإحاطة الجوامع بمعان
قد يقصر عنها عقول ذوي الألباب, وكل مكلف بما في وسعه,
وذلك مثل قول النبي عليه السلام "والخراج بالضمان" وذلك
أكثر من أن يحصى ويعد ومن مشايخنا من لم يفصل بين الجوامع
وغيرها لكن هذا أحوط الوجهين عندنا والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
قوله "وأما القسم الخامس" وهو جوامع الكلم فلا يؤمن فيه أي
في نقله بالمعنى الغلط لإحاطة الجوامع به فلا يخل نقله
بالمعنى وكل مكلف بما وسعه كأنه جواب عما يقال لما كان
المعنى هو المقصود من السنة لألفاظها ولا يمكن درك معاني
جوامع الكلم ينبغي أن لا يجب نقله باللفظ فقال إن لم يقدر
على درك المعاني فهو قادر على تبليغ اللفظ فكلف بما كان في
وسعه, وذلك مثل قوله عليه السلام "الخراج بالضمان" 1 أي
غلة العبد المشترى الحاصلة قبل الرد بالعيب طيبة للمشتري;
لأنه لو هلك قبل الرد هلك من ماله كذا في لبات الغربيين.
وفي الفائق كل ما خرج من شيء فهو خراجه فخراج الشجر ثمره,
وخراج الحيوان دره ونسله. قوله عليه السلام "الغرم بإزاء
الغنم" "العجماء جبار" 2 "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 3
"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" . ومن مشايخنا من
لم يفصل بين الجوامع وغيرها يعني إن كانت الكلمة الجامعة
ظاهرة المعنى يجوز نقلها بالمعنى عندهم كما يجوز نقل سائر
الظواهر ولكن بالشرط الذي ذكرنا في الظاهر وهو أن يكون
جامعا لعلم اللغة وفقه الشريعة; لأنه إذا كان كذلك يؤمن في
نقله عن زيادة أو نقصان يخل بمعنى الكلام كما بينا في
الظاهر.
"لكن هذا" أي عدم الجواز الذي دل عليه فحوى الكلام أحوط
الوجهين وهما الجواز وعدم الجواز لما ذكر في الكتاب قال
شمس الأئمة رحمه الله والأصح عندي أنه
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1285-1286، وأبو داود
في الإجازة حديث رقم 3508-3510، والإمام أحمد في المسند
6/48.
2 أخرجه مسلم في الحدود حديث رقم 1710، والترمذي في الزكاة
حديث رقم 642، وأبو داود في الديات حديث رقم 4593، وابن
ماجه حديث رقم 2673، والإمام أحمد في المسند 2/228.
3 أخرجه ابن ماجه في الأحكام حديث رقم 2340، وابن ماجه عن
ابن عباس حديث رقم 2341، والإمام أحمد في المسند 5/327.
(3/89)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
لا يجوز ذلك; لأن النبي عليه السلام كان مخصوصا بهذا النظم
على ما روي أنه قال: "أوتيت جوامع الكلم" أي خصصت بها فلا
يقدر أحد بعده على ما كان هو مخصوصا به ولكن كل مكلف بما
في وسعه وفي وسعه نقل ذلك اللفظ ليكون مؤديا إلى غيره ما
سمعه منه بيقين, وإذا نقله إلى عبارته لم نأمن القصور في
المعنى المطلوب به ونتيقن بالقصور في النظم الذي هو من
جوامع الكلم وكان هذا النوع هو مراد رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقوله ثم أداها كما سمعها. وبما ذكرنا خرج
الجواب عما قالوا إن النبي عليه السلام مخصوص بجوامع الكلم
فلا يؤمن في النقل التبديل والتحريف; لأنا لم نجوز النقل
في الجوامع ولا فيما لا يؤمن فيه عن التحريف والتبديل إنما
جوزناه فيما لا يحتمل إلا وجها واحدا بشرط أن يكون الناقل
عالما بأوضاع الكلام أو فيما له معنى ظاهر بشرط أن يكون
الناقل جامعا بين العربية والفقه, وإذا كان كذلك يؤمن فيه
عن التحريف والتبديل عادة وهو معنى قول الشيخ وفي تفصيل
الرخصة جواب عما قال.
وأما الحديث فلا تمسك لهم فيه; لأن الأداء كما سمع ليس
بمقتصر على نقل المعنى أيضا فإن الشاهد أو المترجم إذا أدى
المعنى من غير زيادة ونقصان يقال إنه أدى كما سمع وإن كان
الأداء بلفظ آخر ولئن سلمنا أن التأدية حسب ما سمع إنما
يكون باللفظ في هذه الصورة لرجوع الضمائر إلى المقابلة فلا
نسلم أن فيه ما يدل على الوجوب والمنع من غيره; لأنه عليه
السلام دعا لمن حفظ اللفظ ويدل ذلك على أنه مرغوب فيه لا
على أنه واجب ونحن نقول بالأولوية والله أعلم
(3/90)
|