كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب البيان"
البيان في كلام العرف عبارة عن الإظهار, وقد يستعمل في
الظهور, وقال الله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الحمن:
4]و {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقال
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] والمراد
بهذا كله الإظهار والفصل, وقد يستعمل هذا مجاوزا وغير
مجاوز والمراد به في هذا الباب عندنا الإظهار
ـــــــ
"باب البيان"
البيان لغة الإظهار والتوضيح قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ} أي الكلام الذي يبين به ما في قلبه وما يحتاج
إليه من أمور دنياه ومنفصل به عن سائر الحيوانات. قال
الإمام نجم الدين رحمه الله في التيسير ويدخل في البيان
الكتابة والإشارة وما يقع به الدلالة وهو امتنان منه على
العباد بتعليم اللغات المختلفة ووجوه الكلام المتفرقة.
{هَذَا بَيَانٌ} أي هذا الذي ذكرت من سنتي في الماضين
إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب أو القرآن فصل
الحق من الباطل وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
[القيامة: 18 – 19] أي إذا قرأه جبريل عليك بأمرنا فاتبع
ما يحصل منه مقروءا عليك فاقرأه حينئذ, {إِنَّ عَلَيْنَا
بَيَانَهُ} أي إظهار معانيه وأحكامه وشرائعه وقيل إذا
أنزلناه فاستمع قراءته, ثم إن علينا إظهاره على لسانك
بالوحي حتى تقرأه. والمراد بهذا أي بما ذكرنا من الآيات
الإظهار والفصل فإن المظهر للشيء والمبين له فاصل بينه
وبين ما ليس منه, وقد يستعمل هذا أي لفظ البيان مجاوزا
وغير مجاوز أي متعديا كما بينا وغير متعد كما سنبينه. وكما
أن البيان مصدر الثلاثي المجرد فهو مصدر المنشعبة أيضا
كالسلام والكلام فالبيان الذي هو مصدر الثلاثي لازم والذي
هو مصدر المنشعبة قد يكون متعديا وهو الأكثر. وقد يكون غير
متعد كقولهم في المثل قد بين الصبح لذي عينين أي بان وإنما
ذكر هذا اللفظ بعد قوله هو عبارة عن الإظهار, وقد يستعمل
في الظهور ليبني عليه قوله. والمراد به أي بالبيان في هذا
الباب أي فيما نحن بصدده من تقسيم البيان أو في هذا النوع
المسمى بأصول الفقه الإظهار دون الظهور, وعند بعض أصحابنا
(3/159)
دون الظهور
ومنه قول النبي عليه السلام "إن من البيان لسحرا" أي
الإظهار.والبيان على أوجه: بيان تقرير وبيان تفسير وبيان
تغيير وبيان تبديل وبيان ضرورة فهي خمسة أقسام.
ـــــــ
وأكثر أصحاب الشافعي معناه ظهور المراد للمخاطب والعلم
بالأمر الذي حصل له عند الخطاب; لأن أصله للظهور يقال بان
هذا المعنى لي بيانا أي ظهر واتضح وبان الهلال أي ظهر
وانكشف ولكنا نقول أكثر استعماله بمعنى الإظهار فإن الرجل
إذا قال بين فلان كذا بيانا يفهم منه أنه أظهر إظهارا لم
يبق معه شك, وإذا قيل فلان ذو بيان يراد منه الإظهار وكذا
في التنزيل الذي هو أفصح اللغات ورد بمعنى الإظهار كما
ذكرنا, وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن من البيان
لسحرا" يدل عليه أيضا فإنه عبارة عن الإظهار أيضا. قال
الجوهري والبيان الفصاحة واللسن ومنه قوله عليه السلام "إن
من البيان لسحرا" وإذا كان كذلك كان جعله بمعنى الإظهار
أولى. ومن جعله بمعنى الظهور دون الإظهار يلزمه القول بأن
كثيرا من الأحكام لا يجب على من لا يتأمل في النصوص, ولا
يجب الإيمان على من لا يتأمل في الآيات الدالة ما لم يتبين
لهم; لأن الظهور عبارة عن العلم للمكلف بما أريد منه ولم
يحصل له ذلك وهو فاسد قال شمس الأئمة رحمه الله قد "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا بالبيان للناس" قال
الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقد علمنا أنه بين للكل من وقع له
العلم ببيانه فأقر ومن لم يقع له العلم فأصر, ولو كان
البيان عبارة عن العلم الواقع للمبين له لما كان هو متمما
للبيان في حق الناس كلهم.
قوله عليه السلام: "إن من البيان لسحرا" عن ابن عمر رضي
الله عنهما قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا فتعجب الناس
لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من
البيان لسحرا, وإن من الشعر لحكمة1" قيل معنى تسميته
بالسحر أن بالسحر يستمال القلوب فكذا بالبيان الفصيح
يستمال القلوب وكما أن في السحر إراءة ما ليس بحق في لباس
الحق فكذا في الفصاحة والبيان إراءة المعنى الذي ليس بمتين
في لباس المعنى الذي هو متين والأوجه أن يقال السحر في
زعمهم هو الإتيان بشيء يتعجب الناس عنه ويعجزون عن الإتيان
بمثله مع مساواتهم من أتى به في أسباب القدرة والآلات,
والبيان الفصيح قد يبلغ في الحسن والملاحة غاية يتعجب
الناس عنه ويعجزون عن الإتيان بمثله مع تساوي الكل في
أسباب التكلم وآلات النطق فيسمى سحرا., ثم قيل معنى الحديث
ذم التصنع في
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الأدب حديث رقم 2845 ، وأبو داود في
الأدب حديث رقم 5011 ، ومسلم في الجمعة حديث رقم 869 ،
وأخرجه الإمام أحمد في المسند رقم 1/269.
(3/160)
أما بيان
التقرير فتفسيره أن كل حقيقة يحتمل المجاز أو عام يحتمل
الخصوص إذا لحق به ما يقطع الاحتمال كان بيان تقرير وذلك
مثل قول الله
ـــــــ
الكلام والتكليف لتحسينه ليروق قوله ويستميل به قلوبهم فإن
أصل السحر في كلامهم الصرف وسمي السحر سحرا لأنه مصروف عن
جهته فهذا المتكلم ببيانه يصرف قلوب السامعين إلى قبول
قوله وإن كان غير حق, وقيل معناه: إن من البيان ما يكتسب
به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بسحره, وقيل معناه مدح
البيان والحث على تحسين الكلام; لأن أحد القرينين وهو قوله
"وإن من الشعر لحكمة" على طريق المدح فكذا القرين الآخر في
شرح السنة. وذكر بعض الأصوليين أن البيان عبارة عن أمر
يتعلق بالتعريف والإعلام فإنه مصدر بين يقال بين تبيينا
وبيانا وإنما يحصل الإعلام بدليل والدليل محصل للعلم فهنا
أمور ثلاثة إعلام أي تبيين ودليل يحصل به الإعلام وعلم
يحصل من الدليل والبيان يطلق على كل واحد من هذه المعاني
الثلاثة, فمن نظر إلى إطلاقه على الإعلام الذي هو فعل
المبين كأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي قال هو إخراج
الشيء من الإشكال إلى التجلي. واعترض عليه بأنه غير جامع;
لأن ما يدل على الحكم ابتداء من غير سابقة إجمال إشكال
بيان بالاتفاق وليس بداخل في التعريف وكذا بيان التقرير
والتغيير والتبديل لم يدخل فيه أيضا, وبأن لفظ البيان أظهر
من هذا التعريف ومن حق التعريف أن يكون أظهر مما عرف به
ومن نظر إلى إطلاقه على العلم الحاصل بالدليل أي يجعله
بمعنى الظهور كأبي بكر الدقاق وأبي عبد الله البصري قال هو
العلم الذي تبين به المعلوم فكان البيان والتبين عنده
بمعنى واحد. ومن نظر إلى إطلاقه على ما يحصل به البيان
كأكثر الفقهاء والمتكلمين قال هو الدليل الموصل بصحيح
النظر فيه إلى اكتساب العلم بما هو دليل عليه وعبارة بعضهم
هو الأدلة التي تتبين به الأحكام قالوا والدليل على صحته
أن من ذكر دليلا لغيره وأوضحه غاية الإيضاح يصح لغة وعرفا
أن يقال تم بيانه وهذا بيان حسن إشارة إلى الدليل المذكور,
وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع ولا إخراج
المطلوب من الإشكال إلى التجلي ويقال بينه له ولكنه لم
يتبين وعلى هذا بيان الشيء قد يكون بالكلام والفعل
والإشارة والرمز إذا لكل دليل ومبين ولكن غلب استعماله في
الدلالة بالقول فيقال له بيان حسن أي كلام رشيق حسن
الدلالة على المقاصد. قال وكل مفيد من كلام الشارع وفعله
وسكوته واستبشاره حيث يكون دليلا وتنبيها لفحوى الكلام كل
ذلك بيان; لأن جميع ذلك دليل وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن
فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل دليل وبيان. وذكر
السيد الإمام أبو القاسم السمرقندي رحمه الله أن البيان هو
الإيضاح والكشف عن المقصود ولهذا سمي القرآن
(3/161)
تعالى:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:
30]; لأن اسم الجمع كان عاما يحتمل الخصوص فقرره بذكر الكل
ومثله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]
وذلك مثل أن يقول الرجل لامرأته أنت طالق, وقال
ـــــــ
بيانا; لأنه إيضاح وكشف عن المقصود ومنه بيان المجمل,
وأشار شمس الأئمة رحمه الله في فضل بيان التعبير في أثناء
الكلام في حده فقال حد البيان غير حد النسخ; لأن البيان
إظهار حكم الحادثة عند وجوده ابتداء والنسخ رفع الحكم بعد
الثبوت فلم يكن بيانا وإليه أشار الشيخ أيضا في الباب الذي
يلي هذا الباب فهذا حاصل ما قيل في تعريف البيان فعليك
باعتبار ما صح عندك من هذه التعريفات.
قوله "بيان تقرير" إضافة البيان إلى التقرير والتغيير
والتبديل من قبيل إضافة الجنس إلى نوعه كعلم الطب أي بيان
هو تقرير وكذا الباقي., وإضافته إلى الضرورة من قبيل إضافة
الشيء إلى سببه أي بيان يحصل بالضرورة, فهي خمسة أقسام
اتفق الشيخان على تقسيم البيان على الأوجه الخمسة المسماة
بالأسامي المذكورة إلا أن الشيخ رحمه الله جعل التعليق
والاستثناء بيان تغيير, والنسخ بيان تبديل نظرا إلى أن
النسخ بيان انتهاء مدة الحكم فيجوز أن يجعل من أقسام
البيان والإمام شمس الأئمة رحمه الله جعل الاستثناء بيان
تغيير والتعليق بيان تبديل متابعا للقاضي الإمام أبي زيد
رحمه الله ولم يجعل النسخ من أقسام البيان فقال حد النسخ
غير حد البيان إلى آخر ما ذكرنا نظرا إلى أن النسخ وإن كان
بيان انتهاء مدة الحكم لكنه في حق صاحب الشرع, فأما في حق
العباد فهو رفع الحكم الثابت كالقتل لانتهاء الأجل في حق
صاحب الشرع وقطع الحياة في حق العباد حتى أوجب القصاص
والدية, والبيان بالنسبة إلى العباد فإن جميع الأشياء ظاهر
معلوم لصاحب الشرع فلا يمكن أن يجعل النسخ من أقسامه
باعتبار كونه بيان انتهاء مدة الحكم كذا قيل, وقوله كل
حقيقة تحتمل المجاز أو عام يحتمل الخصوص احتراز عن مثل
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 38]
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231]
فإنه لا يحتمل المجاز والخصوص. " كان بيان تقرير " أي يكون
مقررا لما اقتضاه الظاهر قاطعا لاحتمال غيره. وذلك أي بيان
التقرير مثل قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وهو نظير العام الذي يحتمل الخصوص
فإن اسم الجمع وهو الملائكة كان عاما أي شاملا لجميع
الملائكة على احتمال أن يكون المراد بعضهم فبقوله كلهم قرر
معنى العموم فيه حتى صار لا يحتمل الخصوص. ومثله أي مثل ما
ذكرنا في كونه بيان تقرير قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وهو نظير الحقيقة التي تحتمل
المجاز فإن الطائر يحتمل الاستعمال في غير حقيقته يقال
للبريد طائر لإسراعه في مشيه ويقال أيضا فلان يطير
(3/162)
عنيت به الطلاق
من النكاح وإذا قال لعبد أنت حر, وقال عنيت به العتق عن
الرق والملك. وهذا البيان يصح موصولا ومفصولا لا لما قلنا
إنه مقرر.وأما بيان التفسير فبيان المجمل والمشترك مثل
قوله تعالى: " {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[البقرة: 43] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]
ونحو ذلك. ثم
ـــــــ
بهمته فكان قوله يطير بجناحيه تقريرا لموجب الحقيقة وقطعا
لاحتمال المجاز. وذكر في الكشاف أن معنى زيادة قوله في
الأرض و "يطير بجناحيه" زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل
وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في
جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة
أحوالها غير مهمل أمرها والغرض في ذكر ذلك دلالة على عظم
قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق
المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف وهو حافظ لما لها وما
عليها مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن وأن المكلفين
ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان, وذلك أي
نظير البيان المقرر من المسائل أن يقول الرجل لامرأته أنت
طالق, ثم يقول عنيت به الطلاق من النكاح أي رفع قيد
النكاح; لأن الطلاق وإن كان في الأصل رفع القيد غير مختص
بالنكاح صار مختصا به في الشرع والعرف فصار الطلاق لرفع
النكاح حقيقة شرعية وعرفية واحتمل رفع كل قيد باعتبار أصل
الوضع ولهذا لو نوى صدق ديانة لا قضاء فكان ذلك بمنزلة
المجاز لهذه الحقيقة فبقوله عنيت به الطلاق من النكاح قرر
مقتضى الكلام وقطع احتمال المجاز, وكذا قوله أنت حر موجبه
العتق عن الرق في الشرع ويحتمل التخلية عن القيد الحسي
والحبس والعمل. ويستعمل في الخلوص يقال رجل حر أي خالص عن
الأخلاق الذميمة ومنه طين حر أي خالص لا رمل فيه ويستعمل
بمعنى الكريم يقال رجل حر أي كريم والحرة الكريمة وناقة
حرة أي كريمة وسحابة حرة أي كثيرة المطر فبقوله عنيت به
العتق عن الرق قرر موجب الحقيقة الشرعية وقطع احتمال
غيرها.
قوله "وأما بيان التفسير" بيان التفسير هو بيان ما فيه
خفاء من المشترك والمجمل ونحوهما مثل قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فإنه مجمل إذ
العمل بظاهره غير ممكن وإنما يوقف على المراد للعمل به
بالبيان. وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإنه مجمل في حق مقدار ما يجب
به القطع وفي حق المجمل فإنه لا يعلم أنه يجب من الإبط أو
من المرفق أو من الزند ونحو ذلك مثل آية الربا, ثم لحقه أي
كل واحد من هذه الآيات البيان بالسنة فإنه عليه السلام بين
الصلاة بالقول والفعل والزكاة
(3/163)
يلحقه البيان
بالسنة, وذلك مثل قول الرجل لامرأته أنت بائن إذا قال عنيت
به الطلاق صح وكذلك في سائر الكنايات ولفلان علي ألف درهم
وفي البلد نقود مختلفة فإن بيانه بيان تفسير, ويصح هذا
موصولا ومفصولا هذا مذهب واضح لأصحابنا حتى جعلوا البيان
في الكنايات كلها مقبولا وإن فصل قال الله تعالى: {ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وثم للتراخي
وهذا لأن الخطاب بالمجمل
ـــــــ
بقوله صلى الله عليه وسلم {هاتوا ربع عشر أموالكم}
وبالكتاب أمر بكتابته لعمرو بن حزم وغير ذلك, والنصاب في
السرقة بقوله عليه السلام "لا قطع فيما دون ثمن المجن1 أو
"لا قطع في أقل من عشرة دراهم" . ومحل القطع بقطعه يد سارق
رداء صفوان من الزند" والربا بقوله عليه السلام "الحنطة
بالحنطة مثل بمثل" الحديث, وذلك أي مثاله من المسائل
الفقهية قول الرجل لامرأته أنت بائن أو أنت علي حرام أو
غير ذلك من الكنايات, ثم قال عنيت به الطلاق فإنه يكون
بيان تفسير فإن البينونة أو الحرمة مشتركة محتملة للمعاني
فإذا قال عنيت بهذا الكلام الطلاق فقد رفع الإبهام فكان
بيان تفسير, ثم بعد التفسير يجب العمل بأصل الكلام فتقع
البينونة والحرمة, وكذا إذا قال لفلان علي درهم وفي البلد
نقود مختلفة كان مشكلا لدخول الألف المقر به في إشكاله
فإذا قال عنيت به نقد كذا زال الإشكال وصار هذا الكلام
تفسيرا له.
قوله "ويصح هذا" أي بيان التفسير موصولا ومفصولا لا يجوز
تأخير بيان التفسير عن وقت الحاجة إلى الفعل إلا عند من
يجوز تكليف المحال. وأما تأخيره إلى وقت الحاجة إلى الفعل
فجائز عند عامة الفقهاء خلافا للجبائي وابنه أبي هاشم وعبد
الجبار ومتابعيهم والظاهرية والحنابلة وإليه ذهب بعض أصحاب
الشافعي كأبي إسحاق المروزي2 وأبي بكر الصيرفي والقاضي أبي
حامد ذكر السمعاني والغزالي أن طائفة من أصحاب أبي حنيفة
رحمهم الله ذهبوا إليه فكان الشيخ يرد هذا القول بقوله هذا
مذهب واضح لأصحابنا أي صحة بيان ما فيه خفاء متصلا ومنفصلا
مذهب ظاهر لأصحابنا بحيث لا يمكن إنكاره فإن الرجل إذا أقر
أن لفلان عليه شيئا, ثم بينه متصلا أو منفصلا يقبل قوله في
قولهم جميعا. وكذا لو قال لامرأته أنت بائن يجوز له أن
يبين متصلا ومنفصلا مع أنه تكلم بكلام مجمل فثبت أنه هو
المذهب وأن قول أولئك الطائفة من أصحابنا إن ثبت
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحدود حديث رقم 1684 ، وأبو داود في
الحدود حديث رقم 4383.
2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسحاق الفقيه الشافعي.
توفي سنة 340هـ وفيات الأعيان 1/26 – 27.
(3/164)
صحيح لعقد
القلب على حقيقة المراد به على انتظار البيان ألا ترى أن
ابتلاء القلب بالمتشابه للعزم على حقيقة المراد به صحيح في
الكتاب والسنة من غير انتظار البيان فهذا أولى وإذا صح
الابتلاء حسن القول بالتراخي.واختلفوا في خصوص العموم فقال
أصحابنا لا يقع الخصوص متراخيا, وقال الشافعي رحمه الله
يجوز متصلا ومتراخيا, وقال علماؤنا فيمن أوصى بهذا الخاتم
لفلان وبفصه لفلان غيره موصولا إن الثاني يكون خصوصا للأول
فيكون الفص للثاني وإذا فصل لم يكن خصوصا بل صار معارضا
فيكون الفص بينهما, وهذا فرع لما
ـــــــ
عنهم غير مستقيم على المذهب واحتج من أبى جواز تأخيره بأن
المقصود من الخطاب هو إيجاب العمل والتكليف به, وذلك يتوقف
على الفهم والفهم لا يحصل بدون البيان فلو جوز تأخير
البيان أدى إلى تكليف ما ليس في الوسع ولا يقال كما أن
العمل مقصود فالعلم والاعتقاد مقصودان أيضا والإجمال
والاشتراك لا يمنعان من وجوب الاعتقاد; لأنهم قالوا العمل
هو المقصود الأصلي والاعتقاد تابع وتأخير البيان يخل
بالمقصود الأصلي فلا يجوز. وبأنه لو حسن الخطاب بالمجمل من
غير بيان في الحال لحسن خطاب العربي بالزنجية مع القدرة
على مخاطبته بالعربية من غير بيان في الحال, وكذا عكسه,
وإذا لم يصح ذلك عرفنا أنه يقبح هاهنا أيضا بجامع أن
السامع لا يعرف مراد المخاطب, ولا يقال إنما لم يحسن
مخاطبة العربي بالزنجية; لأنه لا يفهم بهذا الخطاب شيئا,
فأما في الخطاب بالمجمل فقد يفهم السامع أن المتكلم أراد
إيجاب شيء عليه أو نهيه عن شيء وفي الخطاب بالمشترك يعلم
أن المتكلم أراد أحد المعنيين أو المعاني; لأنهم قالوا
المعتبر في حسن الخطاب إن كان المعرفة بكل المراد فلا تفيد
هذا الفرق وإن كان المعرفة ببعض المراد ينبغي أن يجوز خطاب
العربي بالزنجية; لأن العربي إذا عرف حكمة الزنجي المخاطب
علم أنه أراد بخطابه له شيئا ما, إما الأمر أو النهي أو
غيرهما, وقد اتفقنا على فساده وقبحه فعرفنا أن الفرق باطل
وهذا بخلاف بيان النسخ حيث جاز تأخيره; لأن تأخيره لا يحل
بالمعرفة بصفة العبادة في الحال فأمكنه الإقدام على
الأداء. وأما تأخير بيان المجمل فمخل بمعرفة صفة العبادة
فلم يمكن أداؤها في الحال وتمسك من جوز تأخيره بقوله
تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 – 19] وعده
البيان بكلمة " ثم " فيما أشكل عليه من المعاني والأحكام
وهي للتراخي بإجماع أهل اللغة فيدل ذلك على جواز تأخير
بيان ما يحتاج إلى البيان عن وقت وروده., فإن قيل يجوز أن
يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل كما قاله بعض أهل
التأويل بدليل أن الضمير في قوله بيانه راجع إلى جميع
المذكور وهو القرآن ومعلوم أن جميع القرآن لا يحتاج إلى
البيان فإن فيه
(3/165)
مر أن العموم
عندنا مثل الخصوص في إيجاب الحكم قطعا ولو احتمل الخصوص
متراخيا لما أوجب الحكم قطعا مثل العام الذي لحقه الخصوص
وعنده هما سواء ولا يوجب واحد منهما الحكم قطعا بخلاف
الخصوص الذي
ـــــــ
المحكم والمفسر والنص فيكون البيان المضاف إلى جميعه
إظهاره بالتنزيل قلنا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أمر للنبي عليه
السلام باتباع قرآنه وإنما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله
عليه فإنه قبل ذلك لا يكون عالما به فكان المراد من قوله
تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18] هو الإنزال.
ثم إنه تعالى حكم بتأخير البيان عنه فوجب أن لا يكون
المراد من البيان الإنزال لاستحالة كون الشيء سابقا على
نفسه وبأن الخطاب بالمجمل قبل البيان صحيح فإنه يفيد
الابتلاء باعتقاد الحقية فيما هو المراد في الحال مع
انتظار البيان للعمل به والابتلاء باعتقاد الحقية فيه أهم
من الابتلاء بالعمل به فكان حسنا صحيحا من هذا الوجه ألا
ترى أن الابتلاء بالتشابه الذي آيسنا عن بيانه صح باعتبار
اعتقاد الحقية فالابتلاء بالمجمل الذي ينتظر بيانه كان
أولى بالصحة وليس فيه تكليف ما ليس في الوسع كما زعموا;
لأن وجوب العمل قبل البيان ليس بثابت بل هو متأخر إلى
البيان, وليس هو كخطاب العربي بالزنجية أيضا لا يفيد أصلا
فإنه لا يعرف أنه أمر أو نهي أو خبر فأما العربي المخاطب
بالمجمل أو المشترك فيتمكن من معرفة ما يفيده الخطاب في
الجملة فإنه يعلم أنه أمر أو نهي أو خبر ويعرف مجموع ما
وضع له اسم المشترك وأنه أريد واحد من مفهوماته فيفترقان.,
وهذا القدر من التعريف يصلح مقصودا في كلام الناس, فإن
الرجل قد يقول لغيره لي إليك حاجة مهمة ولا يكون غرضه في
الحال إلا إعلام هذا القدر ولهذا وضعت في اللغة أفهام
مبهمة كما وضعت ألفاظ لمعان معينة, وأيضا قد يحسن من الملك
أن يقول لبعض عماله قد وليتك موضع كذا فاخرج إليه وإما
أكتب إليك تذكرة بتفصيل ما تعمله ويحسن من المولى أن يقول
لغلامه أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة وتبتاع ما
أبينه لك غداة الجمعة ويكون القصد بذلك إلى التأهب لقضاء
الحاجة والعزم عليها, وإذا كان كذلك صح في الشرع إطلاق
اللفظ المجمل أو المشترك من غير بيان في الحال ليفيد وجوب
اعتقاد الحقية وصيرورة المخاطب به مطيعا بالعزم على الفعل
على تقدير البيان وعاصيا بالعزم على الترك.
قوله "واختلفوا في تخصيص العام" لا خلاف أن العام إذا خص
منه شيء بدليل مقارن يجوز تخصيصه بعد ذلك بدليل متراخ فأما
العام الذي لم يخص منه شيء فلا يجوز تخصيصه بدليل متأخر
عنه عند الشيخ أبي الحسن الكرخي وعامة المتأخرين من
أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي, وعند بعض أصحابنا وأكثر أصحاب
الشافعي والأشعرية وعامة
(3/166)
مر وليس هذا
باختلاف في حكم البيان بل ما كان بيانا محضا صح القول فيه
بالتراخي لأن البيان المحض من شرطه محل موصوف بالإجمال
والاشتراك ولا يجب العمل مع الإجمال والاشتراك فيحسن القول
بتراخي البيان ليكون الابتلاء
ـــــــ
المعتزلة يجوز تخصيصه متراخيا كما يجوز متصلا. وذكر في
المحصول والمعتمد والقواطع وغيرها الخلاف في كل ظاهر
استعمل في خلافه كالمطلق إذا أريد به المقيد والنكرة إذا
أريد بها المعين. والمراد بعدم جواز التخصيص أنه إذا ورد
متراخيا لا يكون بيانا أن المراد من العام بعضه من
الابتداء بل يكون نسخا للحكم في البعض مقتصرا على الحال
وفائدته أن العام لا يصير به ظنيا; لأن صيرورته ظنيا
باعتبار خروج أفراد أخر عنه بالتعليل ودليل النسخ لا يقبل
التعليل فلا يتطرق به احتمال إلى الباقي, وهذا أي الاختلاف
المذكور. ولو احتمل الخصوص أي احتمل العام الذي لم يخص منه
شيء التخصيص متراخيا لما أوجب الحكم قطعا لاحتمال ظهور كون
البعض مرادا منه دون الكل ومع هذا الاحتمال لا يمكن القول
بتناوله للكل بطريق القطع كالعام الذي لحقه الخصوص لا
يمكنه القول بكونه موجبا للحكم في الباقي قطعا لاحتمال
خروج بعض الأفراد الباقية بالتعليل. وهما سواء أي العام
الذي لم يلحقه الخصوص والذي لحقه الخصوص.
قوله "لأن البيان المحض" كذا ذكر بعض الأصوليين أن الإشكال
ليس من شرط البيان; لأن النصوص المعرية عن الأمور ابتداء
بيان من غير أن يتقدمها إشكال فقال الشيخ رحمه الله في
البيان المحض وهو البيان الحقيقي الذي هو بيان من كل وجه
يشترط كون المحل موصوفا بالإجمال أو الاشتراك والواو بمعنى
أو; لأن البيان هو الإظهار ولا بد لحقيقة الإظهار من سبق
خفاء لاستحالة إظهار الظاهر. والنصوص المعرية عن الأمور
ابتداء إنما سميت بيانا; لأن تلك الأمور كانت مجهولة قبل
ورود النصوص فكان معنى الإجمال موجودا فيها وزيادة إذ معنى
الإجمال والإشكال في التحقيق هو الجهل بمعنى الكلام قال
شمس الأئمة رحمه الله بيان المجمل بيان محض لوجود شرطه وهو
كون اللفظ محتملا غير موجب للعمل بنفسه واحتمال كون البيان
الملتحق به تفسيرا وإعلاما لما هو المراد به فيكون بيانا
من كل وجه ولا يكون معارضا فيصح مفصولا وموصولا فأما دليل
الخصوص فليس ببيان من كل وجه بل هو بيان من حيث احتمال
الصيغة للخصوص وهو ابتداء دليل معارض من حيث كون العام
موجبا للعمل بنفسه فيما تناوله فيكون بمنزلة الاستثناء
والشرط فيصح موصولا على أنه بيان ويكون معارضا ناسخا للحكم
الأول إذا كان مفصولا. وما ليس ببيان خالص بل هو بيان من
وجه لكنه تغيير أو تبديل من وجه لا يحتمل التراخي
(3/167)
بالعقد مرة
بالفعل مع ذلك أخرى وهذا مجمع عليه وما ليس ببيان خالص محض
لكنه تغيير أو تبديل ويحتمل القول بالتراخي بالإجماع على
ما نبين إن شاء الله تعالى وإنما الاختلاف أن خصوص دليل
العموم بيان أو تغيير, فعندنا هو تغيير من القطع إلى
الاحتمال فيفيد بالوصل مثل الشرط والاستثناء وعنده ليس
بتغيير لما قلنا بل هو تقرير فصح موصولا ومفصولا ألا ترى
أنه يبقى على أصله في الإيجاب, وقد استدل في هذا الباب
بنصوص احتجنا إلى بيان تأويلها
ـــــــ
جعل شمس الأئمة رحمه الله الاستثناء بيان التغيير والتعليق
بيان التبديل والمصنف جعلهما نوعي بيان التغيير وجعل النسخ
بيان التبديل كما بينا لكنه أراد بالتبديل هاهنا أحد نوعي
بيان التغيير وهو التعليق موافقا لشمس الأئمة رحمه الله لا
النسخ; لأنه لا يصح إلا متراخيا بالاتفاق, والفرق بين
التغيير والتبديل على ما اختاره هاهنا أن الكلام في
التبديل بعدما تغير عن أصله ينقلب تصرفا آخر وفي التغيير
لا ينقلب كذلك ففي الاستثناء يصير الكلام تكلما بالباقي لا
غير وفي التعليق يتغير الكلام عن كونه إيجابا وينقلب تصرف
يمين على ما عرف
وقوله ألا ترى توضيح لقوله بل هو تقدير ومعناه ألا ترى أن
العام بعد التخصيص يبقى موجبا للحكم في الباقي كما كان قبل
التخصيص فيكون التخصيص مقررا لما كان موجبا في الأصل لا
مغيرا إذ لو كان مغيرا لم يبق موجبا كالتعليق بالشرط أو
معناه أن العام بعد التخصيص يبقى على العموم الذي هو أصله
حتى أوجب الحكم في الأفراد الباقية بعمومه فيكون مقررا ولو
كان مغيرا لم يبق كذلك أو معناه أنه كان يوجب الحكم في
الأصل بطريق الظن وبعد التخصيص يبقى على ما كان فيكون
مقررا لا مغيرا فثبت بما ذكرنا أن هذا الاختلاف بناء على
الاختلاف في موجب العام والحجة بطريق الابتداء لمن أبى
جواز تأخير التخصيص أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع
والمخاطب به لا يخلو إما أن يقصد إفهامنا في الحال أو لا
يقصد ذلك والثاني فاسد; لأنه إذا لم يقصد انتقض كونه
مخاطبا إذ المعقول من قولنا إنه مخاطب لنا أنه قد وجه
الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا ولأنه لو
لم يقصد الإفهام في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا
لنا في الحال لكان إغراء بأن يعتقد أنه قصد إفهامنا في
الحال فيكون قد قصد أن نجهل; لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد
أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى به ما عنوا به ولأنه
يكون عبثا إذ الفائدة في الخطاب ليست إلا إفهام المخاطب
فثبت أنه أراد إفهامنا في الحال., وإذا أراد إفهامنا في
الحال فإما أن يريد أن نفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره,
فإن أراد الأول وظاهره للعموم وهو مخصوص عنده فقد أراد منا
اعتقاد الشيء على خلاف
(3/168)
منها أن بيان
بقرة بني إسرائيل وقع متراخيا هذا عندنا يقيد المطلق
وزيادة على النص فكان نسخا فصح متراخيا لما نبين في بابه
إن شاء الله تعالى واحتج
ـــــــ
ما هو عليه, وإن أراد منا أن نفهم غير ظاهره وهو لم ينصب
دليلا على تخصيصه فقد أراد منا ما لا سبيل لنا إليه فيكون
تكليفا بما ليس في وسعنا وهو باطل فإذا لا بد أن يبين
التخصيص متصلا بالعموم أو يشعرنا بالخصوص بأن يقول هذا
العام مخصوص من غير أن يبين الخارج عن العموم لئلا يكون
إغراء باعتقاد غير الحق, وهذا بخلاف تأخير بيان المجمل
فإنه جائز; لأن المجمل لا ظاهر له ليؤدي تأخير البيان فيه
إلى اعتقاد ما ليس بحق. يوضحه أن البيان إن لم يقترن بقوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] اقتضى
بعمومه وجوب قتل غير أهل الحرب واعتقاد ذلك, كما اقتضى
وجوب قتل أهل الحرب, وذلك خلاف الحق وإن لم يقترن البيان
بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[البقرة: 43] اقتضى وجوب فعل على نفسه ووجوب شيء في ماله,
وذلك ليس بخلاف الحق فافترقا قال شمس الأئمة رحمه الله لما
وافقنا الخصم في القول بالعموم كان من ضرورته لزوم اعتقاد
العموم فيه وجواز الإخبار بأنه عام, وتجويز تأخير البيان
بدليل الخصوص يؤدي إلى القول بجواز الكذب في الحجج
الشرعية, وذلك باطل.
،وهذا بخلاف النسخ فإن الواجب اعتقاد الحقية في الحكم
النازل فأما في حياة النبي عليه السلام فما كان يجب اعتقاد
التأبيد في الحكم ولا إطلاق القول بأنه مؤبد; لأن الوحي
كان ينزل ساعة فساعة ويتبدل الحكم كالصلاة إلى بيت المقدس
وإنما وجب اعتقاد التأبيد فيه وإطلاق القول به بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم على أن شريعته لا تنسخ بعده
بشريعة أخرى وتمسك من جوز تأخيره بنصوص من الكتاب والسنة
وأجاب الشيخ عن بعضها فمنها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] تمسكوا به بطريقين:
أحدهما ما أشار إليه الشيخ في الكتاب وهو أن الله تعالى
أمر بني إسرائيل بذبح بقرة مطلقة ليظهر أمر القتيل بينهم
والمطلق عام عندهم على ما مر بيانه في باب بيان ألفاظ
العموم. ثم بينها لهم بعد سؤالهم مقيدة بأوصاف كما نطق به
النص والتقييد تخصيص لعموم المطلق; لأن بالتقييد يخرج غير
المقيد عن عمومه فدل أن تأخير التخصيص جائز فأجاب الشيخ
رحمه الله بأن تقييد المطلق ليس من باب تخصيص العموم إذ
المطلق في ذاته ليس بعام لما مر بل هو من قبيل الزيادة على
النص والزيادة على النص نسخ معنى فلذلك صح متراخيا والدليل
على أن الأمر كان متناولا لبقرة مطلقة. ثم نسخ الإطلاق
بالتقييد ما روي "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لو
عمدوا إلى أدنى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم
شددوا فشدد الله عليهم وهكذا
(3/169)
بقوله في قصة
نوح عليه السلام {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] أن الأهل عام لحقه
خصوص متراخ بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} .[هود:
46] والجواب أن البيان كان متصلا به بقوله: { إلا من سبق
عليه القول} وذلك هو ما سبق من وعد إهلاك الكفار وكان ابنه
منهم ولأن الأهل لم
ـــــــ
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" فدل أن الأمر الأول الذي
فيه تخفيف صار منسوخا بانتقال الحكم إلى المقيدة وأن
استقصاءهم في السؤال صار سببا لتغليظ الأمر عليهم وإليه
مال عامة أهل التفسير. والثاني وهو المذكور في عامة كتبهم
أنه تعالى أمر بذبح بقرة معينة غير نكرة, ثم أخر بيانها
إلى حين السؤال فدل على جواز تأخير بيان ما له ظاهر
والدليل على أن المراد بقرة معينة أن الشارع عينها بقوله
عز اسمه {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ}
[البقرة: 68] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ
لَوْنُهَا} [البقرة: 69] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ }
ولو كانت نكرة لما سألوا عن تعيينها للخروج عن العهدة بأية
بقرة كانت. وأنهم لم يؤمروا بأمور متجددة ولو كان تكليفهم
بأمور متجددة غير ما أمروا به أولا لكان الواجب من تلك
الصفات هي المذكورة آخرا دون ما ذكرت أولا, وقد وجب عليهم
تحصيل تلك الصفات المذكورة أولا بإجماع فتبين أنه بيان ذلك
الواجب المدلول عليه بقوله بقرة وأن المذبوح المتصف بجميع
الصفات كان مطابقا للمأمور به أولا المدلول عليه بقوله
فذبحوها أي البقرة المأمور ذبحها المذكور ألا ترى أنهم لو
ذبحوا هذه البقرة الموصوفة عن الواجب قبل سؤالهم لخرجوا عن
العهدة فثبت أنه بيان ذلك الواجب. قال الشيخ أبو منصور
رحمه الله بأن المطلق لو كان مرادا, ثم صار المقيد مرادا
يؤدي إلى القول بالنسخ قبل التمكن من الفعل والاعتقاد
جميعا لضيق الزمان عن الاعتقاد إذ لا بد للاعتقاد من العلم
ولم يكن حصل لهم العلم بالواجب قبل السؤال والبيان ولهذا
قالوا {وَإنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}
[البقرة: 70] أي إلى البقرة المراد ذبحها والنسخ قبل
التمكن من الاعتقاد بداء وجهل بعواقب الأمور تعالى الله عن
ذلك فلا يمكن حمل الآية عليه, بل الأمر في الابتداء لا في
بقرة مقيدة وإن أضيف إلى المطلقة لكن ظهر ذلك عند سؤالهم
لا أنه تعالى أحدث حكما آخر عند السؤال والدليل عليه أنهم
سألوا بيان تلك البقرة بقولهم {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] {يُبَيِّنْ لَنَا
مَا لَوْنُهَا} وتولى الله تعالى بيانها لهم فلو حمل على
النسخ لا يكون بيانا لها بل يكون رفعا لذلك الحكم وهو خلاف
النص., وأما ما روي من الخبر فمن الأخبار الآحاد وهو
بظاهره إثبات البداء في حكم الله عز وجل وتغيير إرادته;
لأن ظاهر قوله لو عمدوا إلى أدنى أي بقرة لأجزأتهم يقتضي
أن مراد الله تعالى المطلق, وظاهر قوله لكن شددوا فشدد
الله عليهم يقتضي إثبات الحكم في المقيد فيكون مردودا. ثم
نحن إن
(3/170)
يكن متناولا
للابن; لأن أهل الرسل من اتبعهم وآمن بهم فيكون أهل ديانة
لا أهل نسبة إلا أن نوحا عليه السلام قال فيما حكي عنه
{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] لأنه كان دعاه إلى
الإيمان فلما أنزل الله تعالى الآية الكبرى حسن ظنه به
وامتد نحوه رجاؤه فبنى عليه سؤاله فلما وضح له أمره أعرض
عنه وسلمه للعذاب وهذا سائغ في معاملات الرسل عليهم السلام
بناء على العلم البشري إلى أن ينزل الوحي كما قال الله
تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ
إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}
[التوبة: 114]
ـــــــ
سلمنا جواز تأخير تقييد المطلق باعتبار أن التقييد نسخ
للإطلاق كما يشير إليه كلام الشيخ فلا حاجة إلى الجواب;
لأنه بمعزل عن محل النزاع وإن لم يجوز ذلك بطريق البيان;
لأنه يؤدي إلى التجهيل واعتقاد غير الحق أو اعتقاد ما لا
سبيل لنا إلى معرفته كما بينا في تخصيص العام في الجواب
عنه أنا لا نسلم على هذا التقدير عدم اقتران بيان به لجواز
إعلام موسى عليه السلام إياهم عند نزول الأمر أن المراد
ذبح بقرة معينة لا مطلقة فكان هذا بيانا إجماليا مقارنا.
ثم تأخير البيان التفصيلي إلى حين سؤالهم وتأخير مثل هذا
البيان عندنا جائز أيضا ومنها قوله تعالى: {فَاسْلُكْ
فِيهَا} [المؤمنون: 27] أي أدخل في السفينة يقال سلكه فيه
سلكا فسلك سلوكا {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:
40] أي من كل جنس من الحيوان ذكرا أو أنثى واثنين تأكيد
لزوجين وقرئ بالإضافة أي من كل زوجين من أجناس الحيوان
اثنين ذكرا وأنثى لئلا ينقطع تناسلها بالغرق واسلك عطف على
زوجين أو على اثنين يعني أدخل فيها نساءك وأولادك. ووجه
التمسك أن الأصل عام يتناول جميع بنيه ولذلك قال نوح
{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُّ} [هود: 45] أراد به كنعان, وقد لحقه خصوص متراخ
بقوله عز اسمه {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} فدل أن
تأخير التخصيص جائز فأجاب الشيخ عنه بوجهين: أحدهما أنا لا
نسلم لحوق التخصيص المتراخي به بل البيان كان متصلا به
فإنه تعالى استثنى من الأهل من سبق عليه القول أي سبق وعد
إهلاكه فإنه وعده بإهلاك الكفار جميعا وأراد به امرأته
واغلة وابنه كنعان وكانا كافرين. والثاني أن الأهل مشترك
يحتمل أهل النسبة وأهل المتابعة في الدين فتوهم نوح عليه
السلام أن المراد أهل النسبة فسأل خلاص ابنه بناء عليه
فبين الله تعالى أن المراد هو الأهل من حيث المتابعة في
الدين لا أهل النسبة وأن ابنه الكافر ليس من أهله لكفره
فلا يكون داخلا في وعد النجاة وتأخير بيان المشترك جائز
وقوله إلا أن نوحا جواب سؤال يرد على الوجه الأول أن نوحا
عليه السلام بعد الوعد بإهلاك الكفار كان منهيا عن الكلام
فيهم قال تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]
(3/171)
واحتج بقوله
تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]ثم لحقه الخصوص بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}
[الأنبياء: 101] متراخيا عن الأول وهذا الاستدلال باطل
عندنا; لأن صدر الآية لم يكن متناولا لعيسى والملائكة
عليهم السلام; لأن كلمة ما لذوات غير العقلاء لكنهم كانوا
متعنتين فزاد في البيان إعراضا عن تعنتهم واحتج بقوله:
{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت:
31] وهذا عام خص منه آل لوط
ـــــــ
فلو كان قوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}
[هود: 40] منصرفا إلى ما ذكرتم لما استجاز نوح سؤال خلاص
ابنه بقوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]
فأجاب بما ذكر في الكتاب وهو ظاهر.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98" أي حطبها
والحصب ما يحصب به أي يرمى يقال حصبتهم السماء إذا رمتهم
بالحصباء فعل بمعنى مفعول. وهذا عام لحقه خصوص متراخ أيضا
فإنه لما نزل "جاء عبد الله بن الزبعرى إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال يا محمد أليس عيسى وعزير والملائكة قد
عبدوا من دون الله أفتراهم يعذبون في النار فأنزل الله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] أي السعادة أو البشرى أو
التوفيق للطاعة {أُولَئِكَ عَنْهَا} [الأنبياء: 101] أي عن
النار {مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فأجاب بأنا لا نسلم
أن ذلك تخصيص إذ لا بد له من دخول المخصوص تحت العموم لولا
المخصص وأولئك لم يدخلوا في هذا العام لاختصاص ما بما لا
يعقل على أن الخطاب كان لأهل مكة وأنهم كانوا عبدة الأوثان
وما كان فيهم من يعبد عيسى والملائكة فلم يكن الكلام
متناولا لهم ولا يقال لو لم يدخلوا لما أوردهم ابن الزبعرى
نقضا على الآية وهو من الفصحاء ولرد الرسول صلى الله عليه
وسلم ولم يسكت عن تخطئته; لأنا نقول لعل سؤال ابن الزبعرى
كان بناء على ظنه أن ما ظاهرة فيمن يعقل أو مستعملة فيه
مجازا كما استعملت في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ} [الكافرون: 3], وقد اتفق على وروده بمعنى الذي
المتناول للعقلاء إلا أنه أخطأ; لأنها ظاهرة فيما لا يعقل
دون من يعقل والأصل في الكلام هو الحقيقة. وأما عدم رد
الرسول عليه السلام عليه فغير مسلم لما روي "أنه عليه
السلام قال لابن الزبعرى لما ذكر ما ذكر رادا عليه ما
أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل ومن لمن يعقل"
هكذا ذكر في شرح أصول الفقه لابن الحاجب. ولئن سلمنا أنه
سكت إلى حين نزول الوحي فذلك لما
(3/172)
متراخيا وهذا
أيضا غير صحيح; لأن البيان كان متصلا به أما في هذه الآية
فلأنه قال {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}
[العنكبوت: 31] وذلك استثناء واضح, وقال في غير هذه الآية
{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
إِلَّا امْرَأَتَهُ}
ـــــــ
عرف من تعنت القوم ومجادلتهم بالباطل بعد تبين الحق لهم
وعلمهم بأن الكلام لا يتناول الملائكة والمسيح فإنهم كانوا
أهل اللسان فأعرض عن جوابهم امتثالا لقوله تعالى: {وَإِذَا
سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] ثم بين
الله تعالى تعنتهم في معارضتهم بقوله عز وجل: {إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:
101] الآية ومثل هذا الكلام يكون ابتداء كلام حسن موقعه
وإن لم يكن محتاجا إليه في حق من لا يتعنت وهو نظير انتقال
إبراهيم صلوات الله عليه في محاجة اللعين عن التمسك
بالإحياء والإماتة إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] لتعنت القوم ومكابرتهم وكان
ذلك تأكيدا للحجة الأولى ودفعا لتلبيس اللعين لا أنه
انتقال حقيقة فكذلك هذا ابتداء بيان ودفع لمعاندة الخصم لا
أنه تخصيص حقيقة
ومنها إخبار الله تعالى عن قصة ضيف الخليل وإخبارهم إياه
بإهلاك قرية لوط بقوله عز اسمه {وَلَمَّا جَاءَتْ
رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا
مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وهي سدوم والأهل عام
يتناول لوطا وأهله كما يتناول غيرهم من سكان القرية ولهذا
قال الخليل عليه السلام {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت:
32] ثم خص منه لوط وأهله بعد ما قال إبراهيم عليه السلام
{إِنَّ فِيهَا لُوطاً} بقولهم: {لَنُنَجِّيَنَّهُ
وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فدل على جواز انفصال المخصص عن
العام
قال الشيخ رحمه الله وهذا أي احتجاجهم بهذه الآية غير صحيح
أيضا كاحتجاجهم بالآيات المتقدمة. لاتصال البيان أي الدليل
المخصص به أي بهذا العام فإنه تعالى قال: {إِنَّ أَهْلَهَا
كَانُوا ظَالِمِينَ} أي كافرين, ومثل هذا الكلام يذكر
للتعليل كما يقال اقتله إنه محارب وارجمه إنه زان ولما علل
إهلاكهم بكونهم ظالمين يكون هذا استثناء من حيث المعنى
للوط وأهله منهم; لأنهم لم يكونوا ظالمين إلا امرأته وهو
معنى قوله, وهذا استثناء واضح, وقد صرح في عين هذه القصة
بالاستثناء في آية أخرى وهي قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ}
فثبت أن التخصيص قد كان متصلا لكنه تعالى لم يذكره صريحا
هاهنا اكتفاء بالإشارة المدرجة في التعليل, والاستثناء
الأول منقطع إن كان من قوم; لأن القوم موصوفون بالإجرام
فاختلف لذلك الجنسان, ومتصل إن كان من الضمير في مجرمين
كأنه قيل إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم فإنهم
لم يجرموا وآل لوط على تقدير الانقطاع مخرجون من حكم
الإرسال إليهم على معنى أن الملائكة أرسلوا إلى القوم
المجرمين
(3/173)
غير أن إبراهيم
عليه السلام أراد الإكرام للوط بخصوص وعد النجاة أو خوفا
من أن يكون العذاب عاما وذلك مثل قوله: {رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِي
ـــــــ
خاصة ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا ومعنى إرسالهم إليهم
كإرسال الحجر والسهم إلى المرمى في أنه في معنى التعذيب
والإهلاك كأنه قيل إنا أهلكنا قوما مجرمين ولكن آل لوط
نجيناهم وعلى تقدير الاتصال هم داخلون في حكم الإرسال على
معنى الملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا
هؤلاء فلا يكون الإرسال مخلصا لمعنى الإهلاك والتعذيب كما
في الوجه الأول. وقوله إنا لمنجوهم في المنقطع جار مجرى
خبر لكن في الاتصال بآل لوط; لأن المعنى لكن آل لوط منجون
وفي المتصل كلام مستأنف كأن إبراهيم قال لهم فما حال آل
لوط فقالوا إنا لمنجوهم والاستثناء الثاني من الضمير
المجرور في لمنجوهم لا من الاستثناء الأول; لأن الاستثناء
من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وأن يقال
أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته كما اتحد الحكم في قول
المقر لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما فأما في
الآية فقد اختلف الحكمان; لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو
بمجرمين وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم فكيف يكون استثناء من
الأول.
قوله "غير أن" جواب عما يقال لو كان قوله: {إِنَّ
أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} استثناء للوط لما كان لقول
إبراهيم إن فيها لوطا معنى حينئذ فقال إنما قال ذلك مع أنه
علم يقينا أن لوطا ليس من المهلكين معهم طلبا لزيادة
الإكرام له بتخصيصه بوعد النجاة قصدا إذ في التخصيص بالذكر
زيادة إكرام كما في تخصيص جبرائيل وميكائيل عليهما السلام
بالذكر في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ} {البقرة 98] الآية, وكما في تخصيص أولي
العلم بالذكر في قوله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ} "المجادلة: 11" أو خوفا من أن يكون العذاب عاما
وإن كان سببه الظلم والمعصية فإن العذاب في الدنيا قد يختص
بالظالمين كما في قصة أصحاب السبت, وقد يعم الكل على ما
قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] فيكون خزيا
وعذابا في حق الظالمين وابتلاء وامتحانا في حق المطيعين
كالأمراض والأوجاع وكمن زنى ولم يتب يقام عليه الحد خزيا
وعقوبة وإن تاب يقام عليه الحد ابتلاء وامتحانا فأراد
الخليل عليه السلام أن يبينوا له أن عذاب أهل تلك القرية
من أي الطريقين فلا يعلم أن لوطا هل ينجو منه أم يبتلى
به., وذكر أبو اليسر في أصوله أن قول إبراهيم عليه السلام
{إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] طلب الرحمة من الله
تعالى على أهل تلك القرية لبركة مجاورة لوط عليه السلام,
وذكر في المطلع أن قول
(3/174)
الْمَوْتَى}
[البقرة: 260] واحتج بقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى}
[الأنفال: 41] أنه خص منه بعض قرابة النبي عليه السلام
بحديث ابن عباس في قصة عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهم
وهذا عندنا من قبيل بيان المجمل; لأن القربى مجمل وكان
الحديث بيانا
ـــــــ
إبراهيم عليه السلام للرسل {إِنَّ فِيهَا لُوطاً}
[العنكبوت: 32] ليس إخبارا عن الحقيقة وإنما هو جدال في
شأنه كما قال في موضع آخر {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}
[هود: 74], وذلك لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم احتج
عليهم ببراءة لوط من ظلمهم شفقة عليهم وتحزنا لأخيه المسلم
وتشمرا إلى نصرته وحياطته كما هو موجب الدين فأجابه الرسل
بقولهم " {نحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت: 32]
يعنون بالبريء والظالم منهم {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}
[العنكبوت: 32], وقوله أو خوفا عطف على الأول من حيث
المعنى والتقدير غير أن إبراهيم قال إن فيها لوطا إرادة
لإكرام لوط أو خوفا, وذلك أي سؤال إبراهيم عن لوط وجداله
فيه مع علمه أنه لم يدخل تحت المهلكين طلبا لزيادة الإكرام
مثل سؤاله ربه عن إحياء الموتى مع علمه بقدرته تعالى على
ذلك طلبا لزيادة اطمئنان القلب بالمعاينة ومنها قوله:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:
41] إلى قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] أوجب
نصيبا من الخمس لذوي القربى عام يتناول جميع أقرباء
الرسول. ثم تأخر خصوصه إلى أن كلم عثمان بن عفان وجبير بن
مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فدل على جواز
تأخير التخصيص واعلم أنه كان لعبد مناف خمسة بنين هاشم أبو
جد النبي والمطلب. ونوفل وعبد شمس وعمرو ولكل عقب ونسل إلا
لعمرو ولما "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي
القربى يوم خيبر بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط غيرهم
جاءه عثمان وهو من بني عبد شمس فإنه عثمان بن عفان بن أبي
العاص بن أمية بن عبد شمس بن مناف وجبير بن مطعم وهو من
بني نوفل فإنه جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف
فقالا إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله
فيهم ولكن نحن وبنو المطلب إليك سواء في النسب فما بالك
أعطيتهم وحرمتنا؟ فقال "إنهم لم يزالوا معي هكذا 1 وشبك
بين أصابعه" وفي رواية "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا
إسلام" فبين أن المراد من ذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب
ببيان متأخر فقال الشيخ رحمه الله هذا عندنا من قبيل بيان
المجمل لا من قبيل تخصيص العام, وذلك لأن القربى لا يحتمل
قربى
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة حديث رقم 29878 و
2979.والإمام أحمد في المسند 4/81.
(3/175)
له وأن المراد
قربى النصرة لا قربى القرابة وإجماله أن القربى يتناول غير
النسب ويتناول وجوها من النسب مختلفة والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
القرابة وقربى النصرة أي نصرة الشعب والوادي على ما يعرف
في موضعه إن شاء الله عز وجل فبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد السؤال أن المراد قربى النصرة لا قربى القرابة
وتأخير بيان المجمل جائز. وقوله عند إشارة إلى أن الإجمال
إنما يتحقق على مذهبنا لما حملنا لفظ القربى على قربى
النصرة وهو يحتمل قربى النسب أيضا كان محتملا للمعنيين
فأما عندهم فلا إجمال فيه; لأن المراد منه عندهم قربى
النسب الذي هي موضوعة لا غير. ثم أشار في آخر كلامه إلى
أنه يمكن إثبات الإجمال على المذهبين بقوله ويتناول وجوها
من النسب مختلفة يعني ولئن سلمنا أن المراد قربى النسب كان
مجملا أيضا; لأن القربى يتناول وجوها مختلفة من النسب لا
يمكن العمل بجميعها فإنا علمنا أن المراد ليس من يناسبه
إلى أقصى أب فإن ذلك يوجب دخول جميع بني آدم فيكون البعض
مرادا وهو غير معلوم إذ لا يعلم أن المراد من يناسبه بأبيه
خاصة أو بجده أو بأعلى منهما فكان مجملا فبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن المراد من يناسبه إلى هاشم والمطلب
فلم يكن هذا البيان من تخصيص العام في شيء بل هو بيان
المراد بالعام الذي تعذر العمل بعمومه وهو في حكم المجمل
فيجوز تأخيره فهذا بيان النصوص المذكورة في الكتاب وتمسكوا
أيضا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18
– 19]. أمر بالاتباع وضمن البيان متراخيا ولا يمكن حمله
على ما لا يمكن العمل به من الألفاظ; لأنه تكليف ما ليس في
الوسع فيحمل على ما يمكن العمل بظاهره وهو العام فثبت أنه
يجوز بيانه متراخيا وكذلك نص المواريث عام في إيجاب الإرث
للأقارب كفارا كانوا أو مسلمين. ثم جاء التخصيص متراخيا
بقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى1" وكذلك
الوصية شرعت عامة مقدمة على الميراث بقوله تعالى: {مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء 11]
ثم خص ما زاد على الثلث ببيان الرسول متراخيا وكذلك النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة" على العموم فيما دون
خمسة أوسق وفي أكثر من ذلك ثم خص ما دون خمسة أوسق ببيان
متأخر وهو خبر العرايا.
والجواب عن الأول أن المراد من الأمر باتباع القرآن
القراءة على ما قيل أي إذا قرأه جبرائيل عليك بأمرنا
فاقرأه على قومك, ثم إن أشكل عليك شيء من معانيه فعلينا
بيانه.
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الفرائض حديث رقم 2911.وابن ماجة في
الفرائض حديث رقم 2731. والإمام احمد في المسند 2/178.
(3/176)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وإذا كان كذلك يمكن حمله على المجمل ونحوه فحملناه عليه
وتأخير بيانه جائز كما مر بيانه قال شمس الأئمة رحمه الله
المراد من قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
[القيامة: 19] ليس جميع ما في القرآن بالاتفاق فإن البيان
من القرآن أيضا فيؤدي هذا إلى القول بأن لذلك البيان بيانا
إلى ما لا يتناهى وإنما المراد بعض ما في القرآن وهو
المجمل الذي يكون بيانه تفسيرا له ونحن نجوز تأخير البيان
في مثله فأما فيما يكون مغيرا أو مبدلا للحكم إذا اتصل به
فإذا تأخر عنه يكون نسخا ولا يكون بيانا محضا ودليل الخصوص
في العام بهذه الصفة. وعن الثاني والثالث أن تقييد حكم
الميراث بالموافقة في الدين وتقييد الوصية بالثلث من قبيل
الزيادة على النص وهي تعدل النسخ فيجوز متراخيا, وقد ثبت
بخبر اقترن به الإجماع فكان في معنى المتواتر أو المشهور
فيجوز النسخ المعنوي به وخبر المزابنة لم يخص بخبر العرايا
عندنا بل هو محمول على العطية لا على البيع كما بيناه في
باب أحكام العموم والله أعلم.
(3/177)
|