كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب بيان التغيير"
بيان التغيير نوعان التعليق بالشرط والاستثناء وإنما يصح ذلك موصولا ولا يصح مفصولا. على هذا أجمع الفقهاء
ـــــــ
"باب بيان التغيير"
أي البيان الذي فيه تغيير لموجب الكلام الأول. قوله "وإنما يصح ذلك" أي بيان التغيير موصولا أي ينحصر الجواز في الموصول, ثم أكده بقوله ولا يصح مفصولا, وأشار بقوله على هذا أجمع الفقهاء إلى الدليل وإلى خلاف غير الفقهاء فإنه أراد بالفقهاء مثل أبي حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وأمثالهم من فقهاء الأمصار والحاصل أن اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظا أو ما هو في حكم الاتصال لفظا وهو أن لا يعد المتكلم به آتيا به بعد فراغه من الكلام الأول عرفا بل يعد الكلام واحدا غير منقطع وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع نفس أو سعال أو عطاس أو نحوها شرط عند عامة العلماء وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بصحة الاستثناء منفصلا عن المستثنى منه وإن طال الزمان وبه قال مجاهد سواء ترك الاستثناء ناسيا أو عامدا وفي بعض الروايات عنه قدر زمان الجواز بسنة, فإن استثنى بعدها بطل وعن الحسن وطاوس وعطاء أنهم جوزوا ما لم يقم عن مجلسه اعتبارا بالعقود وبه قال أحمد بن حنبل وعن أبي العالية أنه يجوز إلى أربعة أشهر اعتبارا بمدة الإيلاء ونقل عن بعض العلماء جوازه في القرآن خاصة. تمسك ابن عباس رضي الله عنهما بأن "اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مدة لبث أهل الكهف وغيرها فقال غدا أجيبكم ولم يستثن فتأخر الوحي عنه مدة بضعة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 – 24] أي استثن إذا تركت الاستثناء, ثم ذكرت, فقال إن شاء الله بطريق إلحاقه إلى خبره الأول وهو قوله غدا أجيبكم وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا ثم قال بعد سنة إن شاء الله1" ولا يقال هذا شرط, وكلامنا في الاستثناء لأن من جواز أحدهما يلزم جواز الآخر إذ
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في سننه في الإيمان حديث رقم 3285.

(3/178)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
لا قائل بالفرق ومن خص الجواز بالقرآن قال الكلام الأزلي واحد وإنما الترتيب في جهات الوصول إلى المخاطبين وإن كان قد تأخر الاستثناء به فذاك في سماع السامعين وفهم الفاهمين لا في كلام رب العالمين واحتج الفقهاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير, ثم ليكفر عن يمينه" عين التكفير لتخليص الحالف ولو صح الاستثناء منفصلا لقال فليستثن وليأت الذي هو خير منها; لأن تعيين الاستثناء للتخليص أولى لكونه أسهل وبمثله استدل علي على ابن عباس رضي الله عنهم فقال لما حلف أيوب عليه السلام بضرب امرأته أمره الله تعالى بضرب ضغث عليها تحلة ليمينه وتخفيفا عليها كما قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] ولو صح الاستثناء متصلا لأمره به لا بالضرب بالضغث; لأنه أيسر وأخف وبأن الشرع حكم بثبوت الإقرارات والطلاق والعتاق وغيرها من العقود ولو صح الاستثناء منفصلا لم يثبت شيء من هذه العقود ولم يستقر وفساده ظاهر لتأديته إلى التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية, وبأنه لو صح منفصلا لما علم صدق صادق ولا كذب كاذب ولم يحصل وثوق بيمين ولا وعد ولا وعيد وبطلانه لا يخفى على ذي لب وبمسألة أفحم أبو حنيفة رحمه الله أبا جعفر الدوانقي1 حين عاتبه على مخالفة جده في هذه المسألة فقال لو صح الاستثناء منفصلا كما هو مذهب جدك لقد بارك الله في بيعتك فإن الذين بايعوك على الخلافة لو استثنوا بعدما خرجوا من عندك أو حين ما بدا لهم ذلك لم تبق خلافتك ووسعهم خلافك فسكت ورده بجميل.
قال الغزالي رحمه الله نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح فيه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وإن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أو لا, ثم أظهر نيته بعده فيدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا فهذا له وجه. وأما تجويز التأخير لو أصر عليه دون هذا التأويل فيرده عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه; لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه إذا أخر الشرط أو الخبر لا يفهم منه شيء فلا يصير كلاما فضلا من أن يكون شرطا أو خبرا فكذا قوله إلا زيدا بعد شهر يخرج من أن يكون مفهوما فضلا من أن يكون إتماما للكلام. وأما استثناء النبي صلى الله عليه وسلم بعد النسيان فقد كان
ـــــــ
1 هو الخليفة أبو جعفر المنصور ، أنظر الكشاف 4/103.

(3/179)


وإنما سميناه بهذا الاسم إشارة إلى أثر كل واحد منهما وذلك أن قول القائل أنت حر لعبده علة العتق نزل به منزلة وضع الشيء في محل يقر فيه فإذا حال الشرط بينه وبين محله فتعلق به بطل أن يكون إيقاعان للشيء الواحد يكون مستقرا في محله ومعلقا مع ذلك فصار الشرط مغيرا له من هذا الوجه ولكنه بيان مع ذلك; لأن حد البيان ما يظهر به ابتداء وجوده فأما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب والكلام كان يحتمله شرعا; لأن التكلم بالعلة ولا حكم لها جائز شرعا مثل البيع
ـــــــ
على وجه تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم والامتثال لما أمر به وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف 24] لا أن يكون استثناء حقيقة على وجه يكون مغيرا للحكم. وأما تخصيص الجواز بالقرآن بناء على ما ذكرنا فوهم; لأن النزاع ليس في الكلام الأزلي بل في العبارات التي بلغتنا وهي محمولة على معنى كلام العرب نظما وفصلا ووصلا ولا شك أنه لا ينتظم في وضع اللغة فصل صيغة الاستثناء عن العبارة التي تشعر بمستثنى منه.
قوله "وإنما سميناه" أي هذا النوع من البيان ببيان التغيير ولم نقتصر على تسميته بالتغيير ولا بالبيان للإشارة إلى وجود أثر كل واحد من البيان والتغيير فيه, وذلك أي وجود أثر كل واحد من المعنيين نزل به أي نزل أنت حر بالعبد شرعا منزلة وضع شيء محسوس في محل تقر فيه فإذا حال الشرط بينه أي بين قوله أنت حر وبين محله وهو العبد فتعلق أنت حر بالشرط بطل كونه إيقاعا جواب إذا ولكنه أي المتعلق بيان مع ذلك أي مع كونه تغييرا; لأن البيان ما يظهر به ابتداء وجوده أي وجود الشيء والضمير راجع إلى مدلول البيان وهو المبين فأما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان; لأن النسخ رفع الحكم الثابت والتغيير بعد الوجود بهذه المثابة فلا يكون بيانا. وهذا الكلام إنما يستقيم على اختيار القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله فإنهما لم يجعلا النسخ من أقسام البيان فأما على اختيار الشيخ رحمه الله فلا يستقيم; لأنه جعل النسخ أحد أقسام البيان وسماه بيان التبديل, ثم قال هاهنا إنه ليس ببيان ووجه التوفيق بينهما أنه إنما جعل النسخ من أقسام البيان باعتبار أنه عند الله تعالى بيان انتهاء مدة الحكم ولم يجعله بيانا هاهنا باعتبار الظاهر فإنه في الظاهر رفع الحكم الثابت وإبطاله فلا يكون بيانا له., ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب يعني, ولما كان التعليق لهذا الغرض وهو بيان ابتداء وقوع الكلام غير موجب والكلام كان يحتمله أي يحتمل كونه غير موجب حكمه في الحال شرعا مثل البيع بشرط الخيار وبيع الفضولي وتصرفات الصبي

(3/180)


بالخيار وغيره سمي هذا بيانا فاشتمل على هذين الوصفين فسمي بيان تغيير وكذلك الاستثناء مغير للكلام; لأن قول القائل لفلان علي ألف درهم فالألف اسم علم لذلك العدد لا يحتمل غيره وإذا قال إلا خمسمائة كان تغييرا لبعضه, ألا ترى أن التعليق بالشرط والاستثناء لو صح كل واحد منهما متراخيا كان ناسخا ولكنه إذا اتصل منع بعض التكلم لا إن وقع بعد الوجود فكان بيانا فسمي بيان تغيير.
ـــــــ
"سمي" أي التعليق بيانا وهو جواب لما, وإنما قال والكلام كان يحتمله; لأنه لا بد لصحة البيان من أن يكون اللفظ المبين محتملا له بوجه ليكون البيان إظهارا لذلك المحتمل, فإن لم يحتمل لا يكون بيانا له بل يكون ابتداء كلام.
قوله "وكذلك الاستثناء" أي وكالتعليق بالشرط الاستثناء في اشتماله على وصفي البيان والتغيير. ألف درهم اسم علم لذلك العدد أي العدد الذي هو مدلول الألف وهو عشر مئين فإن اسم العدد كثلاثة وعشرة ومائة ونحوها علم جنس كأسامة للأسد والاسم العلم لا يحتمل غيره. أو هو بمنزلة العلم من حيث إنه لا يجوز إطلاقه على غيره فإن إطلاق اسم العدد على غيره لا يجوز بطريق الحقيقة وهو ظاهر ولا بطريق المجاز لانسداد بابه إذ لا مناسبة بينه وبين غيره من الأعداد معنى إلا نسبة عامة وهي كون كل واحد عددا والنسبة العامة لا تصلح طريقا للمجاز ولا صورة إلا من حيث الجزء والكل وهو لا يصلح طريقا له أيضا هاهنا; لأن من شرطه أن يكون الجزء مختصا بالكل ليصح إطلاق اسم الكل على لازمه وهو الجزء المختص به وهاهنا ما دون الألف مثلا كما يصلح جزء الألف يصلح جزء الألفين ولثلاثة آلاف وغيرهما وهذه الجزئية لا تصلح طريقا للمجاز أيضا فثبت أنه لا يحتمل غيره. ألا ترى: توضيح لكون الاستثناء والتعليق تغبيرا فإنه لو صح على واحد من التعليق والاستثناء متراخيا كان ناسخا; لأن قوله أنت حر إذا صدر من الأهل في المحل غير معلق بالشرط ثبت موجبه وهو الحرية فلو صح إلحاق الشرط به بعد ذلك يرتفع الحكم الثابت بالتعليق فكان نسخا. وكذا قوله علي ألف درهم لفلان إذا لم يقترن به الاستثناء ثبت موجبه وهو وجوب تمام الألف فلو صح إلحاق الاستثناء به بعد تقرره كان نسخا للحكم في بعض الألف كما في التعليق فثبت أن في كل واحد منهما معنى التغيير, لكنه أي الاستثناء إذا اتصل بالكلام وهو استدراك من قوله كان تغييرا لبعضه منع بعض التكلم أي منع التكلم أن يكون إيجابا في البعض لا إن رفعه بعد الوجود فإنه لو رفع لكان نسخا. فكان: أي الاستثناء بيانا من حيث إنه بين أن البعض هو المراد من الكلام ابتداء فلذلك سمي بيان تغيير كالتعليق بالشرط, وذكر في التقويم أن قوله إلا مائة ليس

(3/181)


ومنزلة الاستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط إلا أن الاستثناء يمنع انعقاد التكلم إيجابا في بعض الجملة أصلا والتعليق يمنع الانعقاد لأحد الحكمين
ـــــــ
بتغيير للألف بل رد لبعضه فمن حيث قرر البقية كان بيانا ومن حيث رفع بعضه كان تغييرا, وما ذكر في بعض الشروح أنه سمي بيانا; لأنه يبين المراد ابتداء والكلام يحتمله; لأن إطلاق اسم الكل على البعض جائز, لا يوافق ما ذكره الشيخ أن الألف اسم علم لذلك العدد لا يحتمل غيره إلا بتأويل متكلف وهو أنه يحتمل البعض ولكن بشرط لحوق الاستثناء به فكان التحاقه به بيان أن المراد محتمله والصحيح في بيان الاحتمال ما أشار إليه الشيخ في بعض مصنفاته أن الاستثناء بيان; لأنه بين أن الإيجاب السابق غير موجب كل الألف كما يقتضيه ظاهر اللفظ ويحتمل أن لا يكون موجبا في الجملة بأن وجد من الصبي أو المجنون فلما احتمل صدر الكلام هذا وبالاستثناء تبين ذلك سميناه بيان التغيير لا تغييرا محضا. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله أن تسمية الاستثناء والتعليق بيانا مجاز فإن الاستثناء في قوله لفلان علي ألف درهم إلا مائة يبطل الكلام في حق المائة فإن الألف اسم لعشر مئين حقيقة وكذلك الشرط في قوله إن دخلت الدار فأنت طالق يبطل كونه إيقاعا ويصيره يمينا. إلا أن في الاستثناء يبطل بعض الكلام وفي التعليق يبطل أصله بانقلابه يمينا والإبطال لا يكون بيانا حقيقة ألا ترى أن البيان هو الإظهار والألف ظاهر في عشر مئين وأنت طالق ظاهر في كونه إيقاعا فلا يتصور إظهارهما حقيقة فلم يكن الاستثناء ولا التعليق إظهارا حقيقة بل كان إبطالا ولكنه بيان مجازا من حيث إنه يبين أن عليه تسعمائة درهم لا ألف درهم وأنه يحلف ولا يطلق.
قوله "ومنزلة الاستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط" فرق القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله بين الاستثناء والتعليق فجعلا الاستثناء بيان تغيير والتعليق بيان تبديل قال شمس الأئمة التعليق تبديل من حيث إن مقتضى قوله لعبده أنت حر نزول العتق في المحل واستقراره فيه وأن يكون علة للحكم بنفسه فبذكر الشرط يتبدل ذلك كله; لأنه تبين أنه ليس بعلة تامة للحكم قبل الشرط وأنه ليس بإيجاب للعتق بل هو يمين وأن محله الذمة حتى لا يصل إلى العبد إلا بعد خروجه من أن يكون يمينا بوجود الشرط والاستثناء تغيير لمقتضى صيغة الكلام وليس بتبديل إنما التبديل أن يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب أصلا فجمع الشيخ بينهما وقال منزلة الاستثناء في التغيير مثل منزلة التعليق فيه; لأن كل واحد منهما يمنع انعقاد الكلام عن الإيجاب إلا أن الاستثناء يمنع انعقاده في بعض الجملة أصلا حتى لا يبقى موجبا لذلك البعض في الحال ولا يحتمل أن يصير موجبا له في ثاني الحال والتعليق يمنع انعقاده لأحد الحكمين وهو الإيجاب في

(3/182)


أصلا وهو الإيجاب ويبقى الثاني وهو الاحتمال فلذلك كانا من قسم واحد فكانا من باب التغيير دون التبديل.واختلفوا في كيفية عمل كل واحد منهما فقال
ـــــــ
الحال ولا يمنع عن صلاحيته لانعقاده علة في ثاني الحال وهو حال وجود الشرط. وهو معنى قوله ويبقى الثاني وهو الاحتمال أي احتمال صيرورته علة موجبة للحكم فلذلك أي لكون كل واحد منهما مانعا من الانعقاد كانا من قسم واحد فكانا من باب التغيير دون التبديل فإن التبديل هو النسخ قال الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وأنهما ليسا من النسخ في شيء إذ النسخ رفع بعد الوجود ولم يوجد ذلك فيهما وفي التحقيق هذا الاختلاف في العبارة دون المعنى. ثم الفرق بين الاستثناء والتعليق بالشرط أن تقديم الشرط على الجزاء وتأخيره عنه جائزان وتقديم الاستثناء على المستثنى منه في الإثبات لا يجوز حتى لو قال طلقت إلا زينب جميع نسائي أو أعتقت إلا سالما جميع عبدي أو قال إلا زينب جميع نسائي طوالق أو إلا سالما جميع عبيدي أحرار لا يصح الاستثناء ويطلق جميع النساء ويعتق جميع العبيد; لأن معنى الاستثناء جعل بعض الأشياء مصروفا عن المعنى الذي دخل فيه سائره فلو جاز تقديمه على المستثنى منه لبطل هذا المعنى بخلاف الشرط; لأن معناه وهو تعليق الجزاء به لا يبطل بالتقديم والتأخير, وبخلاف التقديم في الاستثناء عن النفي حيث يجوز حتى لو قال ما أعتقت إلا سالما أحدا من عبيدي أو ما طلقت إلا عائشة أحدا من نسائي يعتق سالم وتطلق عائشة دون غيرهما لعدم الإخلال بالمعنى فإن حذف المستثنى منه في النفي جائز وكان المستثنى في هذه الصورة منصوبا على الاستثناء لا على البدل; لأن البدل لا يكون قبل المبدل.
قوله "واختلفوا في كيفية عمل كل واحد منهما" أي من التعليق والاستثناء, وقد تقدم الكلام في التعليق, وهذا بيان الاستثناء فيتكلم أولا في تعريفه وشروطه. ثم في تقديره وتحقق معناه والكلام في تعريفه يتوقف على مقدمة وهي أن الاستثناء في المنقطع حقيقة أم مجاز فذهب بعض الأصوليين إلى أنه حقيقة فيه كما في المتصل فيكون مشتركا بينهما إما بالاشتراك المعنوي كاشتراك الحيوان بين الإنسان وغيره أو بالاشتراك اللفظي كاشتراك العين بين مفهوماته; لأن المتصل إخراج, وخاصة المنقطع مخالفة من غير إخراج فلا يشتركان فيما يصلح جعل اللفظ له, وقد أطلق اللفظ عليهما فكان مشتركا إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة وذهب أكثرهم إلى أنه مجاز فيه وليس بحقيقة; لأن اللفظ الدال على الشيء لا يدل على خلاف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شيء لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه فينبغي أن لا يصح الاستثناء إلا أنه إنما صح بإضمار في المستثنى

(3/183)


أصحابنا الاستثناء يمنع التكلم بحكمه بقدر المستثنى فيجعل تكلما بالباقي بعده, وقال الشافعي رحمه الله إن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة بمنزلة دليل الخصوص.كما اختلفوا في التعليق على ما سبق وقد دل على هذا
ـــــــ
منه كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30] فإن معناه عند من قال لم يكن إبليس من جنس الملائكة فسجد الملائكة ومن أمر بالسجود إلا إبليس أو في المستثنى كما في قولك له علي مائة إلا دينارا أي إلا مقدار مائة دينار أو بتأويل إلا بجعله بمعنى لكن فكان مجازا والدليل عليه سبق الفهم إلى المتصل من غير قرينة وتوقفه في المنقطع على قرينة ألا ترى أنه مأخوذ من ثنيت عنان الفرس إذا عطفته وصرفته عند أهل اللغة ولا عطف ولا صرف إلا في المتصل إذ الجملة الأولى في المنقطع باقية على حالها لم تتغير., ولا يمكن حمل اللفظ على الاشتراك المعنوي كما قالوا; لأنه يؤدي إلى جواز استثناء كل شيء بطريق الحقيقة لوجود الاشتراك في الأشياء معنى بوجه من الوجوه, وذلك خلاف كلام العرب ولا على الاشتراك اللفظي مع إمكان حمله على المجاز في المنقطع; لأن الحمل على الأغلب وهو المجاز خصوصا عند قيام الدلالة أولى ولأنه لا يؤدي إلى إبهام المراد; لأن المجاز لا يخلو عن قرينة دالة على المراد بخلاف الاشتراك, ثم حده عند من قال بالاشتراك المعنوي هو ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة أو إحدى أخواتها واحترز بقوله غير الصفة عن إلا التي هي صفة وهي التي كانت تابعة لجمع منكر غير محصور أي لجمع لا يدخل فيه المستثنى لو سكت عن الاستثناء نحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء 22] وبقوله بإلا أو إحدى أخواتها, عن المخالفة بغيرها مثل قوله جاءني القوم ولم يجئ زيد لا عمرو وأمثالهما فإنها ليست باستثناء وعند من قال بالاشتراك أو بالمجاز لا يمكن أن يجتمعا في حد واحد; لأن أحدهما مخرج من حيث المعنى والآخر ليس بمخرج فتعذر جمعهما بحد واحد; لأن كل أمرين فصل أحدهما مفقود في الآخر يستحيل جمعهما في حد واحد وتمحل بعضهم للجمع على هذا القول فقال هو المذكور بإلا أو إحدى أخواتها مخرجا أو غير مخرج وعلى تقدير التعذر قيل في المنقطع هو ما دل على مخالفة بإلا غير الصفة أو إحدى أخواتها من غير إخراج, وفي المتصل هو إخراج بإلا أو إحدى أخواتها ويقرب منه عبارة ابن الحاجب في المتصل هو لفظ أخرج به شيء من شيء بإلا وأخواتها وفي المنقطع هو لفظ من ألفاظ الاستثناء لم يرد به إخراج سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه فلو قلت جاء القوم إلا زيدا وزيد ليس من القوم كان منقطعا. وذكر الغزالي رحمه الله هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دل على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول

(3/184)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
قال واحترزنا بقولنا ذو صيغ محصورة عن قوله رأيت المؤمنين ولم أر زيدا فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيد قولنا إلا زيدا, وقيل هو لفظ لا يستقل بنفسه متصل بجملة بإلا أو إحدى أخواتها دال على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به
أما شروطه فثلاثة: أحدها الاتصال وقد بيناه.
والثاني أن يكون المستثنى داخلا في الكلام لولا الاستثناء كقولك رأيت القوم إلا زيدا وزيد منهم ورأيت عمرا إلا وجهه, فإن لم يكن داخلا كان الاستثناء منقطعا ولا يكون استثناء حقيقة فكان هذا الشرط لكونه حقيقة لا لصحته.
والشرط الثالث أن لا يكون مستغرقا; لأنه إذا كان مستغرقا كان رجوعا لا استثناء كذا قيل, وهذا ليس بصحيح; لأن استثناء الكل فيما يصح الرجوع عنه باطل أيضا مثل أن يقول أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي كان الاستثناء باطلا والصحيح أنه إنما لا يجوز; لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وفي استثناء الكل لا يتوهم بقاء شيء بجعل الكلام عبارة عنه, وهذا بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستثناء المساوي والأكثر نحو قوله علي عشرة إلا خمسة أو إلا ستة إلى تسعة فذهبت العامة إلى جوازهما وذهبت الحنابلة والقاضي أبو بكر الباقلاني إلى منعهما وذهب الفراء وابن درستويه1 إلى المنع في الأكثر خاصة; لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر وتستهجن قول القائل رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين, وإذا ثبت كراهتهم واستثقالهم ثبت أنه ليس من كلامهم, واحتجت العامة بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} " الحجر: 42" وهو استثناء الأكثر بدليل قوله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 107] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17" فدل على الجواز, وبقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ِصْفَهُ} [المزمل: 2], ولما جاز استثناء النصف جاز استثناء الأكثر أيضا; لأنه لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما ليس بأقل وقولهم هو مستقبح ممنوع بل استثقال وليس باستقباح ولئن سلمنا فالاستقباح لا يمنع الصحة كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم فإنه مع كونه في غاية الاستقباح يصح., وأما بيان موجبه فهو أن الاستثناء يمنع التكلم بحكمه أي مع حكمه بقدر المستثنى فيجعل تكلما بالباقي بعد
ـــــــ
1 هو عبدالله بن جعفر بن درستويه بن المزربان الفارسي النشوي النحوي واللغوي. المتوفي سنة 347هـ ، أنظر البداية والنهاية 11/233.

(3/185)


--------------------------------------------------------
ـــــــ
الاستثناء وينعدم الحكم في المستثنى لعدم الدليل الموجب له مع صورة التكلم به بمنزلة الغاية فيما يقبل التوقيت فإن الحكم ينعدم فيما وراء الغاية لعدم الدليل الموجب له لا لأن الغاية توجب نفي الحكم فيما وراءها وعند الشافعي رحمه الله موجبه امتناع الحكم في المستثنى لوجود المعارض كامتناع ثبوت حكم العام فيما خص منه لوجود المعارض صورة وهو دليل الخصوص وأصل الخلاف في التعليق بالشرط وإليه أشار الشيخ بقوله كما اختلفوا في التعليق بالشرط فإن التعليق عنده لا يخرج الكلام من أن يكون إيقاعا بل يمتنع وقوعه لمانع وهو التعليق أو عدم الشرط فكذلك الاستثناء وعندنا التعليق يخرج الكلام من أن يكون إيقاعا ويمتنع ثبوت الحكم في المحل لعدم العلة مع صورة التكلم بها فكذا الاستثناء فإذا قال لفلان علي ألف إلا مائة صار عنده كأنه قال إلا مائة فإنها ليست علي فلا تلزمه المائة للدليل المعارض لأول كلامه لا; لأنه يصير بالاستثناء كأنه لم يتكلم به, وصار عندنا كأنه قال لفلان علي تسعمائة وأنه لم يتكلم بالألف في حق لزوم المائة وكأن الغزالي مال إلى هذا القول فإنه ذكر في المستصفى أن كل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء فيجعله متكلما بالباقي لا أنه يخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج
نعم كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال. قال فإن قيل قوله اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أو إن لم يكونوا ذميين يتناول الجميع لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء قلنا هو كذلك لو اقتصر عليه ولذلك يمتنع الإخراج بالشرط والاستثناء منفصلا ولو قدر على الإخراج لم يفرق بين المتصل والمنفصل ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام وجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض, ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا ألحقا قبل الوقوف دفعا. وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل أن عقلية الاستثناء يعني معقوليته مشكلة; لأن في قول الرجل جاءني القوم إلا زيدا إن قلنا زيد غير داخل في القوم لم يستقم لإجماع أهل اللغة في الاستثناء المتصل أنه إخراج ما بعد إلا مما قبلها وإجماعهم مقطوع به في تفاصيل العربية. ولأنا قاطعون إذا قال العربي له عندي دينار إلا ثمنا ونصف ثمن بأن يحسب المذكور بعد إلا, ثم يخرجه من الدينار, ثم يقطع بأن القدر بعده هو الباقي وإن قلنا هو داخل فيهم فكذلك; لأن المتكلم إذا قال جاء القوم وزيد منهم فقد وجب نسبة المجيء إليه; لأنه منهم فإذا أخرج بعد ذلك فقد نفي عنه المجيء فيصير مثبتا منفيا باعتبار واحد فيؤدي إلى أن لا يكون الاستثناء في كلام إلا وهو كذب من

(3/186)


الأصل مسائلهم فصار عندنا تقدير قول الرجل لفلان علي ألف درهم إلا مائة لفلان علي تسعمائة وعنده إلا مائة فإنها ليست علي وبيان ذلك أنه جعل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فلا تجلدوهم واقبلوا شهادتهم وأولئك هم الصالحون غير فاسقين وكذلك قال في قول النبي عليه السلام: "لا تبيعوا
ـــــــ
أحد الطرفين وهو باطل فإن القرآن مشتمل عليه. قال والصواب الذي يجمع رفع الإشكالين أن يقول لا يحكم بالنسبة إلا بعد كمال ذكر المفردات في كلام المتكلم فإذا قال المتكلم قام القوم إلا زيدا فهم القيام أولا بمفرده وفهم القوم بمفرده وأن منهم زيدا وفهم إخراج زيد منهم بقوله إلا زيدا, ثم حكم بنسبة القيام إلى هذا المفرد الذي أخرج منه زيد فحصل الجمع بين المسالك المقطوع بها على وجه يستقيم وهو أن الإخراج حاصل بالنسبة إلى المفردات وفيه توقية بإجماع النحويين وتوقية بأنك ما نسبت إلا بعد أن أخرجت زيدا فلا يؤدي إلى المناقضة المذكورة فاستقام الأمر في الوجهين جميعا.
قوله "وقد دل على هذا الأصل مسائلهم" يعني دل على الاختلاف المذكور أجوبة الفريقين في المسائل التي تتعلق بالاستثناء قال القاضي الإمام ولنا ولهم مسائل تدل على المذهبين أو دل على أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة عند الشافعي وأصحابه جوابهم في المسائل المتعلقة بالاستثناء يعني ما ذكرنا من الأصل ليس بمنقول عن السلف أو عن الشافعي نصا وإنما يستدل عليه بالمسائل., وبيان ذلك أي بيان أن المسائل تدل على ما ذكرنا أن الشافعي رحمه الله جعل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} معارضا لصدر الكلام فقال إنه تعالى استثنى التائبين من جملة القاذفين فيكون هذا إثبات حكم على خلاف ما أثبته صدر الكلام بطريق المعارضة وصدر الكلام أمر بالجلد ونهي عن قبول الشهادة وتسمية بالفسق فيصير الاستثناء نفيا على خلافه ويصير كأنه قال إلا التائبين فإنهم ليسوا بفاسقين وتقبل شهادتهم ولا يجلدون فيبقى صفة الفسق ورد الشهادة به وكان ينبغي أن يسقط الجلد بالتوبة أيضا كرد الشهادة إلا أن رد الشهادة من حقوق الله تعالى فيشترط للسقوط التوبة إليه لا غير, فإذا تاب سقط كما إذا تاب عن شرب الخمر ونحوه وحد القذف خالص حق العبد أو حق العبد فيه غالب على أصل الشافعي رحمه الله حتى يجري فيه التوارث والعفو عنده فيشترط في سقوطه التوبة إلى العبد بعد التوبة إلى الله تعالى فلا يسقط بمجرد التوبة إلى الله عز وجل كالمظالم لا تسقط بمجرد التوبة إلى الله تعالى بدون إرضاء أربابها حتى إذا تاب إلى المقذوف واعتذر فعفا عنه المقذوف سقط أيضا كالقصاص.
قوله "وكذلك" أي كما جعل الاستثناء معارضا في هذه الآية جعله معارضا في

(3/187)


الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" إن معناه بيعوا سواء بسواء فبقي صدر الكلام عاما في القليل والكثير; لأن الاستثناء عارضه في المكيل خاصة وخصوص دليل المعارضة لا يتعدى مثل دليل الخصوص في العام وذلك مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ} [البقرة: 237] هذا دليل معارض لبعض الصدر
ـــــــ
هذا الحديث وهو قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فإن معناه عنده لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا طعاما مساويا بطعام مساو فإن لكم أن تبيعوهما. أو معناه إلا سواء بسواء فإنهما إذا صارا متساويين جاز لكم أن تبيعوهما أثبتت حرمة البيع بصدر الكلام عامة في القليل والكثير أعني ما يدخل تحت الكيل وما لا يدخل فيه مثل الحفنة والحفنتين; لأن الطعام اسم جنس, وقد دخله لام التعريف فاستغرق الجميع فلما استثنى المساوي امتنع الحكم فيه بالمعارضة فيبقى ما وراءه داخلا تحت الصدر, ثم المراد من التساوي المساواة في الكيل بالاتفاق فيثبت المعارضة في المكيل خاصة فبقي بيع الحفنة بالحفنة وبالحفنتين داخلا في صدر الكلام فيحرم.
وقوله وخصوص دليل المعارضة لا يتعدى جواب سؤال وهو أن الاستثناء وإن عارض الصدر في المكيل على الخصوص بصيغته يحتمل أن يتعدى الحكم عنه بالتعليل فيثبت المعارضة حينئذ في غير المكيل فيثبت الجواز في بيع الحفنة عند التساوي كما يتعدى الحكم عن المخصوص إلى غيره بتعليل دليل الخصوص فقال خصوص دليل المعارضة يعني الدليل الذي ثبت به المعارضة وهو الاستثناء إذا كان خاصا لا يزول خصوصه بتعدي حكمه إلى غيره; لأنه لا يقبل التعليل كما يقبله دليل الخصوص في العام لعدم استقلاله بنفسه في إفادة المعنى بخلاف دليل الخصوص في العامة فإنه مستقل بنفسه فيقبل التعليل ومثل يقرأ بالنصب على المصدر لا بالرفع. وبعضهم قرأه بالرفع وزعم أن معناه أن دليل المعارضة خاص بصيغته فلا يتعدى إلى غير ما تناوله إذ لو تعدى لصار عاما كما أن دليل الخصوص لا يتعدى عن المخصوص نصا إلا بطريق التعليل لكن الفرق أن دليل المعارضة لا يتعدى ما تناوله بنفسه ولا بالتعليل إذ يلزم منه معارضة التعليل النص وهي باطلة, فأما دليل الخصوص فمبين لوجود حد البيان فيه وهو أن يظهر به ابتداء وجود الشيء فكان قابلا للتعليل, وهذا كله وهم والمعنى هو الأول, وذلك مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي خصوص الاستثناء وعموم الصدر في هذا الحديث مثل خصوص الاستثناء وعموم الصدر في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإنه تعالى أوجب على الأزواج نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في جميع المطلقات بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فيدخل في

(3/188)


وهو في حق من يصح منه العفو فبقي فيما لا معارضة فيه, وقال في رجل قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إنه يسقط من الألف قدر قيمته; لأن دليل المعارضة يجب العمل به على قدر الإمكان وذلك ممكن في القيمة واحتج في المسألة بالإجماع ودلالته وبالدليل المعقول
ـــــــ
عمومه العاقلة والمجنونة والصغيرة والكبيرة, ثم استثنى حالة العفو بقوله عز اسمه {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي إلا أن يعفون فيسقط الكل فيثبت المعارضة به في حق الكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو دون المجنونة أو الصغيرة التي لا يصح العفو منهما فكان الاستثناء معارضا لبعض صدر الكلام لا لجميعه فبقي الصدر فيما لا يعارضه فيه على ما كان ويختص السقوط بالعفو بالعاقلة الكبيرة التي يصح العفو منها إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر وتقول المرأة ما رآني وما استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي الولي الذي يلي عقد نكاحهن وهو مذهب الشافعي أو الزوج فإن إمساك العقدة وحلها بالطلاق بيده واللام في النكاح بدل الإضافة أي نكاحه أي أو أن يتفضل الزوج بإعطاء الكل صلة لها وإحسانا فيقول قد نسبت إلي بالزوجية فلا يليق بالمروءة استرداد شيء من مهرها يعني الواجب شرعا هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل فإيجاب النصف إنصاف الشريعة وتركها وبذله من أخلاق الطريقة. قال صاحب الكشاف وتسمية الزيادة على الحق عفو باعتبار أن الغالب كان فيهم سوق المهر إليها عند التزوج فإذا كان طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها وقال في رجل قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا إن الاستثناء صحيح ويسقط من الألف قدر قيمة الثوب; لأن معناه إلا ثوبا فإنه ليس علي من الألف; لأنه ليس بيانا إلا هكذا, ثم الدليل المعارض وهو الاستثناء واجب العمل بقدر الإمكان إذ لو لم يعمل به صار لغوا والأصل في كلام العاقل أن لا يكون كذلك, فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه يمكن إثبات المعارضة في عين المستثنى والإمكان هاهنا في أن يجعل نفيا لقدر قيمة الثوب لا لعينه فيجب العمل به كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في قول الرجل لفلان علي ألف إلا كر حنطة أنه يصرف إلى قيمة الكر تصحيحا للاستثناء بقدر الإمكان. قال ولو كان الكلام عبارة عما وراء المستثنى كما قلتم ينبغي أن يلزمه الألف كاملا; لأن مع وجوب الألف عليه نحن نعلم أنه لا كر عليه فكيف يجعل هذا عبارة عما وراء المستثنى والكلام لم يتناول المستثنى أصلا فظهر أن الطريق فيه ما قلنا هذا بيان المسائل التي يظهر أثر الخلاف فيها على ما ذكر في كتب أصحابنا ولكنهم ينكرون هذا الأصل ويخرجون هذه المسائل على أصول

(3/189)


أما الإجماع فإن أهل اللغة أجمعوا أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهذا إجماع على أن للاستثناء حكما وضع له يعارض به حكم المستثنى
ـــــــ
أخر فيقولون رد الشهادة بناء على أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع إلى الجميع عندنا إذا لم يمنع عنه مانع كما إذا تعقبها أو تقدمها شرط. أو بناء على أن قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] في معنى التعليل لعدم القبول أي ولا تقبلوا شهادتهم; لأنهم فاسقون وبالتوبة ينتفي الفسق فيثبت القبول لزوال المانع على أن الاستثناء معارضة. وكذا بقاء صدر الكلام على العموم في الحديث متناولا لحرمة بيع الحفنة بالحفنة ليس بناء على أن الاستثناء فيه بطريق المعارضة بحيث لو لم يجعل معارضا لا يثبت هذه الحرمة بل لو جعل تكلما بالباقي يثبت هذه الحرمة أيضا; لأن قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام" لما تناول القليل والكثير, ثم استثنى المساوي من الجميع بقي تكلما بالباقي وهو القليل والكثير الذي ليس بمساو لبدله وصار كأنه قال لا تبيعوا الطعام القليل بالطعام ولا الكثير بما ليس بمساو له, وكذا صحة الاستثناء في قوله علي ألف إلا ثوبا ليست مبنية على الاستثناء معارضة أيضا بل هي مبنية على أن الاستثناء المتصل حقيقة والاستثناء المنقطع مجاز فمهما أمكن حمل الاستثناء على الحقيقة وجب حمله عليها إذ الأصل في الكلام هو الحقيقة ومعلوم أنه لا بد في الاستثناء المتصل من المجانسة فوجب صرف الاستثناء إلى القيمة ليثبت المجانسة ويتحقق الاستخراج كما هو حقيقته ألا ترى أنه لا يمكن جعله معارضة إلا بهذا الطريق إذ لا بد لها من اتحاد المحل أيضا, وإذا وجب رد الثوب إلى القيمة تصحيحا للاستثناء لا ضرورة إلى جعله معارضة بل يجعل عبارة عما وراء المستثنى فيثبت بما ذكرنا أن هذه المسائل لا تدل على كون الاستثناء معارضة. ويؤيده ما ذكر في الميزان أن بعض مشايخنا قالوا الاستثناء يعمل بطريق البيان عندنا وعند الشافعي رحمه الله بطريق المعارضة ولا نص فيه عن الشافعي ولكنهم استدلوا على الخلاف بمسائل ولكن الصحيح أنه لا خلاف بين أهل الديانة أنه بطريق البيان لا بطريق المعارضة; لأنه خلاف إجماع أهل اللغة فإنهم قالوا الاستثناء استخراج بعض ما تكلم به وقالوا أيضا الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا والمعارضة قد تكون بين الحكمين المتضادين مع بقاء الكلام وهو غير استخراج بعض الكلام والتكلم. وقال وإنما حمل هؤلاء على جعل هذه المسألة مختلفة إشكالات يتراءى أنه من باب المعارضة وليس كذلك.
قوله "إن أهل اللغة أجمعوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات" فلو لم يكن له موجب على خلاف الأول لما جعلوه كذلك فثبت أن الاستثناء حكما على ضد

(3/190)


منه. وأما الثاني فلأن كلمة التوحيد لا إله إلا الله وهي كلمة وضعت للتوحيد ومعناه النفي والإثبات فلو كان تكلما بالباقي لكان نفيا لغيره لا إثباتا له فصح لما كانت كلمة التوحيد أن معناها إلا الله فإنه إله وكذلك لا عالم إلا زيد فإنه عالم, وأما الثالث فإنا نجد الاستثناء لا يرفع التكلم بقدره من صدر الكلام وإذا بقي التكلم صيغة بقي بحكمه فلا سبيل إلى رفع التكلم بل يجب المعارضة بحكمه فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ, فأما انعدام التكلم مع وجوده مما
ـــــــ
موجب أصل الكلام يعارض الاستثناء بذلك الحكم حكم المستثنى منه, أو الراء بالفتح أي يعارض بذلك الحكم حكم المستثنى منه إلا أنه لم يذكر اختصارا لدلالة الصدر عليه, وقد نص عليه في بعض المواضع قال الله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وفي موضع: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 31] {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:ٍ 32]ولهذا اتفق الفقهاء على أن لو قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهمين يلزمه تسعة; لأن الاستثناء الأول من الإثبات فكان نفيا والاستثناء الثاني من النفي فكان إثباتا.
وأما الثاني وهو التمسك بدلالة الإجماع فهو أن كلمة الشهادة وهي كلمة لا إله إلا الله كلمة توحيد بالإجماع وهي مشتملة على النفي والإثبات فقوله لا إله نفي للألوهية عن غير الله وقوله إلا الله إثبات الألوهية لله عز وجل وبهاتين الصفتين صارت كلمة الشهادة والتوحيد, وعلى ما ذكرتم لا تبقى كلمة التوحيد; لأن الاستثناء إذا جعل داخلا على التكلم ليمنع البعض صار كأنه لم يتكلم بالإثبات وإنما تكلم بالنفي على الإطلاق أي بنفي الألوهية عن غير الله لا بإثبات الألوهية له عز وجل, وذلك لا يكون توحيدا. ولا يعني به نفي ما هو ثابت أو إثبات ما لم يكن; لأن غير الله لم يكن إلها ولا يكون والله تعالى إله أزلا وأبدا وإنما يعني بالنفي التبرؤ عن غير الله وبالإثبات الإقرار بالوحدانية له تعالى فتبين بما ذكرنا أن معنى التوحيد إنما يتحقق في هذه الكلمة إذا جعل معناه إلا الله فإنه إله وكذلك لا عالم إلا زيد أي ومثل التقدير المذكور في كلمة التوحيد التقدير في قوله لا عالم إلا زيد; لأن معناه فإنه عالم إذ المقصود من هذا الكلام مدح زيد بأنه عديم النظير في العلم ولا يتحقق هذا المقصود إلا بهذا التقدير ولو جعل تكلما بالباقي لا يحصل هذا الغرض أصلا; لأن نفي العلم عن غيره يصير مقصودا حينئذ لا إثبات العلم له.
وأما الثالث وهو الدليل فهو أن الاستثناء لا يرفع التكلم بقدر المستثنى حقيقة; لأن الكلام بعدما وجد حقيقة يستحيل القول بكونه غير موجود حقيقة, وإذا نفي التكلم صيغة

(3/191)


لا يعقل واحتج أصحابنا رحمهم الله بالنص والإجماع والدليل المعقول أيضا أما النص فقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون لا في الإخبار فبقاء التكلم بحكمه في الخبر لا يقبل الامتناع بمانع.
ـــــــ
نفي بحكمه إذا لم يمنع عنه مانع; لأن بقاء الدليل يدل على بقاء المدلول فعرفنا أنه لا سبيل إلى القول بارتفاع التكلم بالاستثناء; لأنه يؤدي إلى إنكار الحقائق فيجب القول بامتناع الحكم بالعارضة بين الاستثناء وصدر الكلام في القدر المستثنى مع قيام التكلم حقيقة. وامتناع الحكم لمانع مع بقاء التكلم سائغ كالبيع بشرط الخيار والطلاق المضاف وكالعام المخصوص منه يمتنع حكمه في القدر المخصوص لوجود المعارض صورة وهو دليل الخصوص لا لعدم التكلم بالدليل الموجب فأما القول بعدم التكلم مع وجوده حقيقة فغير معقول ولا نظير له, ثم المعارضة قد تقع بجنس الأول وبخلاف جنسه كما في المعارضات بين الحجج كلها وإنما الشرط لصحة المعارضة أن يكون بين المتعارضين تدافع, وقد وجد فإن صدر الكلام للإيجاب والاستثناء للنفي أو على العكس فيتدافع الحكم في قدر المعارضة, فإن كان من جنس الأول بطل بقدر المعارضة بلا اعتبار معنى وإن كان من خلاف جنسه احتيج إلى اعتبار المعنى كما يقولون إن عقد الارتهان عقد استيفاء للدين, فإن كان الرهن من جنس الدين يصير عين الرهن مستوفى بالدين عند حلول الأجل وإن كان من خلاف جنسه يصير المعنى منه مستوفى إذا هلك أو بيع بالدين على أصلي كذا في الأسرار.
قوله "واحتج أصحابنا بالنص والإجماع والدليل المعقول أيضا" فقوله أيضا راجع إلى الإجماع والدليل المعقول لا إلى النص فإن الخصم لم يمسك به أو معناه أن أصحابنا احتجوا بحجج ثلاث كما أنه تمسك بشبه ثلاث. أما النص فقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} أنه تعالى استثنى الخمسين عن الألف في الإخبار عن لبث نوح في قومه قبل الطوفان فلو كان عمل الاستثناء بطريق المعارضة لما استقام الاستثناء في الأخبار ولاختص بالإيجاب كدليل الخصوص, وذلك لأن صحة الخبر بناء على وجود المخبر به في الزمان الماضي والمنع بطريق المعارضة إنما يتحقق في الحال لا في الزمان الماضي.
وكذا في الإخبار عن أمر في المستقبل لا يتصور المنع بطريق المعارضة أيضا; لأنه ليس بموجود فثبت أن جعله معارضا لا يستقيم في الأخبار; لأن التكلم لما بقي بحكمه لا

(3/192)


وأما الإجماع فقد قال أهل اللغة قاطبة إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا وإذا ثبت الوجهان وجب الجمع بينهما فقلنا إنه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه وإثبات ونفي بإشارته على ما نبين إن شاء الله تعالى, وأما الدليل المعقول فوجوه أحدها أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة استوى فيه البعض والكل
ـــــــ
يقبل الامتناع بمانع بخلاف الإيجاب; لأنه إثبات في الحال فإذا عارضه مانع يحتمل أن لا يثبت ألا ترى أنه لو ثبت حكم الألف بجملته في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} ثم عارضه الاستثناء في الخمسين لزم كونه نافيا لما أثبته أو لا فلزم الكذب في أحد الأمرين إما الأول أو الثاني تعالى الله عن ذلك ولزم أيضا إطلاق اسم الألف على ما دونه واسم الألف لا ينطلق على ما دونه بوجه, وقوله فبقاء التكلم بحكمه في الخبر لا يقبل الامتناع لمانع جواب عن قوله فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ.
وأما الإجماع فهو أن أهل اللغة قاطبة أي جميعا قالوا إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا كما قالوا الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي, وإذا ثبت الوجهان أي ما قالوا إنه استخراج وتكلم بالباقي وإنه إثبات ونفي وجب الجمع بينهما; لأنه هو الأصل فقلنا إنه استخراج وتكلم بالباقي بوضعه أي بحقيقته وإثبات ونفي بإشارة; لأن الإثبات والنفي غير مذكورين في المستثنى قصدا لكن لما كان حكمه على خلاف حكم المستثنى منه ثبت ذلك ضرورة الاستثناء; لأن حكم الإثبات يتوقف بالاستثناء كما يتوقف بالغاية فإذا لم يبق بعده ظهر النفي لعدم علة الإثبات فسمي نفيا مجازا ومعنى الاستخراج أنه يستخرج به بعض نص الكلام عن أن يكون موجبا ويجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى لا أنه يستخرج به بعض حكم الجملة بعد ثبوت الكلام, وهذا; لأن الاستثناء بيان بالاتفاق وإنما يكون بيانا إذا جعل المستثنى غير ثابت من الأصل كالتخصيص لما كان بيانا لم يكن المخصوص ثابتا من الأصل إلا أن الاستثناء تعرض للكلام فيتبين به أن بعضه غير ثابت والتخصيص تعرض للحكم بنص آخر بخلافه.
قوله "أحدها" أي أحد وجوه المعقول أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل كالنسخ فإن نسخ الكل جائز كنسخ البعض ولم يستو البعض والكل هاهنا فإن الاستثناء المستغرق باطل كما ذكرنا فعرفنا أنه ليس بمعارضة وتصرف في الحكم بل هو تصرف في الكلام بجعله عبارة عما وراء المستثنى ألا ترى أنه لو تصور بعد الاستثناء بقاء شيء يجعل الكلام عبارة عنه صح الاستثناء وإن لم يبق من الحكم شيء

(3/193)


كالنسخ. والثاني أن دليل المعارضة ما يستقل بنفسه مثل الخصوص والاستثناء قط لا يستقل بنفسه وإنما يتم بما قبله فلم يصلح معارضا لكنه لما كان لا يجوز الحكم ببعض الجملة حتى يتم كما لا يجوز ببعض الكلمة حتى ينتهي احتمل وقف أول الكلام على آخره حتى يتبين بآخره المراد بأوله وهذا الإبطال مذهب الخصم والثالث لتصحيح ما قلنا وبيان ذلك أن وجود التكلم ولا
ـــــــ
بأن قال عبيدي أحرار إلا سالما وبزيعا وفرقدا وليس له عبد سواهم أو قال نسائي طوالق إلا زينب وعمرة وفاطمة وليس له امرأة غيرهن فإن الاستثناء يصح ولو كان تصرفا في الحكم بطريق المعارضة لم يصح; لأنه يصير استثناء الكل من الكل., ولا يلزم على ذكرنا دليل الخصوص فإنه يعمل بطريق المعارضة, ثم لم يستو البعض والكل فيه حتى جاز تخصيص البعض ولم يجز تخصيص الكل; لأنه إنما يعمل بطريق المعارضة باعتبار سنة النسخ ومن هذا الوجه استوى فيه الكل والبعض حتى جاز نسخ الكل كنسخ البعض ولكنه بيان باعتبار شبه الاستثناء ولا يستقيم أن يكون بيانا بعد تخصيص الكل فلذلك امتنع تخصيصه.
والثاني أي من وجوه المعقول أن دليل المعارضة ما يستقل بنفسه أي يستبد في إفادة المعنى ولا يفتقر إلى شيء آخر مثل دليل الخصوص; لأنه إذا لم يستقل لا يصلح دافعا للحكم الثابت بالكلام المستقل والاستثناء قط لا يستقل بنفسه يعني على المذهبين بمنزلة الغاية لافتقاره في إفادة المعنى بأول الكلام أما عندنا فلأن قوله إلا مائة لا تفيد شيئا بدونه. وأما عند الشافعي فلأنه لو قال ابتداء إلا مائة فإنها ليست علي لا يكون مفيدا أيضا, وإذا كان كذلك لا يصلح أن يكون معارضا لفوات شرط المعارضة وهو تساوي المتعارضين في ذاتيهما في القوة بخلاف دليل الخصوص فإنه لاستقلاله بنفسه يصلح أن يكون معارضا وعبارة بعض المشايخ أن الاستثناء لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بصدر الكلام فكان تبعا لغيره والتبع لا يعارض الأصل بالإجماع وقوله ولكنه أي الاستثناء جواب عما يقال لما كان غير مستقل بنفسه ولم يصلح معارضا ينبغي أن لا يكون له تأثير في الكلام بل يثبت موجب أول الكلام قبل التكلم به ولا يتوقف عليه. فقال لما لم يكن مستقلا بنفسه وكان قائما بالأول بمنزلة جزء منه والحكم ببعض الجملة قبل تمامها لا يجوز; لأن الكلام يتم بآخره وبه يتبين مقصود المتكلم كما لا يجوز الحكم ببعض الكلمة قبل تمامها, احتمل الكلام التوقف على آخره ليتبين المراد بأوله خصوصا إذا احتمل التغير بآخره كالتعليق بالشرط وقوله احتمل مسند إلى الضمير الراجع إلى الكلام معنى فإن الجملة في قوله ببعض الجملة في تأويل الكلام والكلام في قوله وقف أول الكلام من قبيل إقامة المظهر مقام المضمر أي لما لم يجز الحكم ببعض الكلام حتى يتم احتمل

(3/194)


حكم له أصلا ولا انعقاد له بحكمه أصلا سائغ مثل الامتناع بالمعارض بالإجماع مثل طلاق الصبي وإعتاقه وإنما الشأن في الترجيح, وبيانه أن الاستثناء متى جعل معارضا في الحكم بقي التكلم بحكمه في صدر الكلام ثم لا يبقى من الحكم إلا بعضه وذلك لا يصلح حكما لكل التكلم بصدره ألا ترى أن الألف اسم علم له لا يقع على غيره ولا يحتمله لا يجوز أن يسمى التسعمائة ألفا بخلاف دليل الخصوص; لأنه إذا عارض العموم في بعض بقي الحكم المطلوب وراء دليل
ـــــــ
الكلام وقف أوله على آخره, وهذا أي ما ذكرنا من الدلائل لإبطال طريقة الخصم وهي أن الاستثناء يعمل بالمعارضة لا لإثبات المدعى.
قوله "والثالث": أي الوجه الثالث من المعقول لتصحيح ما قلنا أي لإثبات المدعى وهو أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وبيان ذلك أي هذا الوجه هو أن التكلم بدون أن يكون له حكم أصلا أو يكون منعقد الحكم سائغ أي جائز كما جاز امتناع الحكم بعد الانعقاد لمعارض وقوله و لا انعقاد له بحكمه أصلا تأكيد لقوله ولا حكم له أصلا وقوله "مثل طلاق الصبي وإعتاقه" يتصل بقوله سائغ يعني قد يسقط حكم الكلام بعد الانعقاد بالمعارضة, وقد ينعقد للحكم أصلا مثل طلاق الصبي والمجنون وإعتاقهما فإنهما لم ينعقدا للحكم أصلا, وإذا كان كذلك جاز أن يكون الاستثناء من قبيل الممتنع لمعارض كما قاله الشافعي ومن قبيل ما لا انعقاد له للحكم أصلا كما قلنا فوجب الترجيح, وذلك فيما قلنا. بيانه أي بيان الترجيح أن الاستثناء متى جعل معارضا في الحكم كما قاله الخصم لزم إثبات ما ليس من محتملات اللفظية, وذلك لا يجوز فإنه إذا جعل معارضا بقي التكلم بحكمه أي مع حكمه أو منعقدا لحكمه في صدر الكلام, ثم لا يبقى من الحكم إلا بعضه بالاستثناء, وذلك البعض الباقي لا يصلح حكما لكل التكلم بصدر الكلام; لأن دلالته على تمام مسماه بالوضع لا على بعضه بل لا يحتمل غير مسماه أصلا في بعض المواضع كأسماء الأعداد فإن اسم الألف مثلا لا يقع على غيره بطريق الحقيقة ولا يحتمله أيضا بطريق المجاز فلا يجوز إطلاقه على تسعمائة أصلا ومتى جعل تكلما بالباقي بقيت صورة التكلم في المستثنى غير موجب لحكمه وهو جائز من غير لزوم فساد فكان القول به أولى وذكر في كتب بعض أصحابنا وأظنه مصنف الشيخ بهذه العبارة وهي أن الكلام قد يسقط حكمه بطريق المعارضة, وقد لا ينعقد بحكمه فيتأمل أن إلحاق الاستثناء بأيهما أولى فنقول ما قلناه أولى; لأنه عمل بالحقيقة وما قاله الخصم عمل بالمجاز. وبيانه أن الألف اسم لعدد معلوم لا يحتمل غيره فلو قلنا بأن الحكم بقدر المستثنى يسقط بطريق

(3/195)


الخصوص ثابتا بذلك الاسم بعينه صالحا لأن يثبت به كاسم المشركين إذا خص منه نوع كان الاسم واقعا على الباقي بلا خلل ولهذا قلنا إن العام إذا كان كلمة فرد أو اسم جنس صح الخصوص إلى أن ينتهي بالفرد وإذا كانت صيغة جمع انتهى الخصوص إلى الثلاثة لا غير فلذلك بطل أن يكون معارضا فجعل تكلما بالباقي بحقيقته وصيغته وكان طريقا في اللغة يطول مرة ويقصر أخرى وجعل الإيجاب والنفي بإشارته, بيانه أن الاستثناء بمنزلة الغاية للمستثنى منه ألا ترى أن الأول ينتهي به وهذا لأن الاستثناء يدخل على نفي أو إثبات, والإثبات
ـــــــ
المعارضة مع أن الكلام منعقد في نفسه ولا يوجب الألف بل يوجب تسعمائة يؤدي إلى العمل بالمجاز فإن تسعمائة غير الألف حقيقة فكان إطلاق اسم الألف عليه إطلاقا لاسم الكل على البعض ولو جعلنا الاستثناء مانعا عن التكلم بقدر المستثنى بحكمه كان هذا عملا بالحقيقة; لأنه يصير كأنه لم يتكلم بالألف وأنه قال لفلان علي تسعمائة إلا أن قوله تسعمائة مختصر من الكلام والألف مع الاستثناء مطول., وهذا التقرير يشير إلى أن الألف لا يحتمل غيره بطريق الحقيقة ولكنه يحتمل بطريق المجاز وإليه أشير في المفتاح أيضا فقد ذكر فيه في فصل الاستثناء أن استعمال المتكلم للعشرة في التسعة مجاز إلا واحدا قرينة المجاز لكن ما ذكرناه أولا أولى; لأن أسماء الأعداد نصوص في مدلولاتها غير محتملة لغير مسمياتها كالأسماء الأعلام على ما مر غير مرة إذا كان كلمة فرد كمن وما ونحوهما أو اسم جنس كالرجل ونحوه فلذلك أي لفساد كون البعض حكما لكل الكلام بطل كون الاستثناء معارضا وقوله فجعل تكلما بالباقي تقريب يعني وإذا لم يمكن أن يجعل معارضا جعل تكلما بالباقي, فكان أي التكلم بما يدل المطلوب طريقا في اللغو يطول مرة وهي ما إذا قرن بالكلام الاستثناء ويقصر أخرى يعني صار للعدد الذي هو تسع مئين مثلا عبارتان طويلة وهي ألف إلا مائة وقصيرة وهي تسعمائة وجعل الإيجاب والنفي بإشارته أي ثابتا بإشارته وفي بعض النسخ وجعل للإيجاب والنفي أي جعل الاستثناء للإيجاب والنفي بإشارته وهو الأصح, وقد عرفت أن الثابت بالإشارة وإن كان ثابتا بنظم الكلام لكنه من قبيل الثابت بدلالة التزام لا بطريق القصد فكان مجازا والأول حقيقة; لأنه بطريق الوضع
"بيانه" أي بيان أن الإيجاب والنفي ثبتا بإشارته أن الأول موجب الكلام الأول ينتهي بالمستثنى, والإثبات بالعدم ينتهي والعدم بالوجود ينتهي; لأن كل واحد منهما مناف للآخر فيلزم من تحقق أحدهما انتفاء الآخر ضرورة فإذا قال الرجل جاءني القوم إلا زيدا كان الصدر إثباتا للمجيء على وجه العموم. قوله إلا زيدا انتهى ذلك الإثبات إذ

(3/196)


بالعدم ينتهي, والعدم بالوجود ينتهي وإذا كان الوجود غاية للأول أو العدم غاية لم يكن بد من إثبات الغاية لتناهي الأول وهذا ثابت لغة فكان مثل صدر الكلام إلا أن الأول ثابت قصدا وهذا لا فكان إشارة ولذلك اختير في التوحيد لا إله إلا الله ليكون الإثبات إشارة والنفي قصدا; لأن الأصل في التوحيد تصديق القلب فاختير في البيان الإشارة إليه والله أعلم.
ـــــــ
لولاه لكان مجاوزا إلى زيد كما أن بالغاية ينتهي أصل الكلام, وكذا لو قال ما جاءني إلا زيد كان الصدر نفيا للمجيء على سبيل العموم فبقوله إلا زيد ينتهي ذلك النفي إذ لولاه لكان متعديا إلى زيد فإذا انتهى موجب الكلام الأول بالاستثناء كالليل ينتهي بوجود النهار وعكسه كان الاستثناء بمعنى الغاية فإذا كان الوجود غاية للأول أي لموجب أول الكلام إذا كان نفيا أو العدم غاية إذا كان الصدر إثباتا لم يكن بد من إثبات الغاية ليتناهى الأول فكان الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا لا محالة لكن بحكم أنه غاية لا لأنه موجب للنفي أو للإثبات قصدا, وهذا أي كونه نفيا أو إثباتا بالطريق الذي قلنا ثابت لغة أي ثابت بدلالة اللغة فكان مثل صدر الكلام أي فكان الاستثناء في دلالته على النفي والإثبات مثل صدر الكلام في دلالته على موجبه من حيث إن كل واحد منهما ثابت لغة فلذلك صح إجماعهم على أنه من النفي إثبات ومن الإثبات نفي إلا أن الأول أي موجب صدر الكلام ثابت قصدا., وهذا أي كون الاستثناء نفيا أو إثباتا ليس بثابت قصدا فكان إشارة أي ثابتا بإشارة الكلام قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله فأما قول أهل اللغة الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فإطلاق على ظاهر الحال مجازا لا حقيقة; لأنك إذا قلت لفلان علي ألف درهم إلا عشرة لم تجب العشرة كما لو بقيتها ولكن عدم الوجوب على المقر ليس بنص ناف للوجوب عليه بل لعدم دليل الوجوب وكما قالوا ذلك فقد قالوا إنه تكلم بالباقي بعد الثنيا فلا بد من الجمع بينهما فيجعل الأول مجازا, وهذا حقيقة.
قوله "ولذلك اختير في التوحيد" كذا أي ولكون موجب صدر الكلام ثابتا قصدا وكون الاستثناء نفيا أو إثباتا إشارة اختير في التوحيد لا إله إلا الله ليكون الإثبات أي الإقرار بالوحدانية بطريق الإشارة ونفي الألوهية عن غير الله بطريق القصد بأن يكون الاستثناء غاية للنفي فينتهي المستثنى منه بوجود تلك الغاية فيتحقق الإثبات إشارة والنفي قصدا; لأن الأصل في التصديق القلب يعني التصديق بالقلب هو الأصل في الإيمان والإقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام أو ركن زائد على ما مر بيانه في باب بيان حسن المأمور به فاختير في البيان أي في الإقرار الذي ليس بمقصود أصلي الإشارة التي ليست

(3/197)


والاستثناء نوعان متصل ومنقطع أما المتصل فهو الأصل وتفسيره ما ذكرناه. وأما المنفصل فما لا يصح استخراجه من الأول; لأن الصدر لم يتناوله فجعل مبتدأ مجازا قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}
ـــــــ
بمقصودة, فإن قيل إن النفي باللسان غير مقصود أيضا بل الأصل فيه القلب كالإثبات, وقد اختير فيه النفي قصدا فينبغي أن يكون في الإثبات كذلك أيضا قلنا إنما اختير النفي قصدا إنكارا لدعوى الخصوم فإن بعض الناس ادعوا الألوهية لغير الله واشركوا به غيره فاختير النفي باللسان قصدا ردا لدعواهم ولهذا ابتدئ بالنفي; لأنه أهم فأما الكل فقد أقروا بألوهية الله عز وجل كما أخبر الله جل جلاله بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} "لقمان: 25" فيكتفى بالإثبات بالإشارة إليه لعدم النزاع فيه., ثم جعل الاستثناء في كلمة التوحيد غاية للنفي إنما يستقيم إذا جعل صدر الكلام نفيا لمطلق الألوهية لكن لو جعل نفيا للألوهية من غير الله لا يصح جعله غاية; لأن النفي لا ينتهي بالاستثناء حينئذ بل يبقى على ما كان قبل الاستثناء ويكون على هذا الوجه استثناء منقطعا بمنزلة قوله تعالى إخبارا {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فيكون الإثبات قصدا أيضا فأما قوله لا عالم إلا زيد فنفي لوصف العلم عاما وقوله إلا زيد توقيت له بمنزلة الغاية ومقتضى التوقيت عدم الموقت بعد الوقت وعدمه يثبت بضده فلما كان نفي العلم موقتا إلى زيد ينتهي بوجود العلم في زيد فكان النفي عن غيره مقصودا وإثبات العلم له إشارة, وذلك لأن هذا الكلام رد لزعم من يزعم أن غير زيد موصوف بالعلم ولا ينكر علم زيد بل يقر بكونه عالما فكان نفي العلم هو المقصود; لأنه هو المتنازع فيه فالمتكلم بقوله لا عالم إلا زيد نفى العلم عن غيره قصدا وأثبت العلم له إشارة, فإن قيل لما جعل الاستثناء بمنزلة الغاية ينبغي أن ينتهي الحظر في قوله إن خرجت إلا بإذني بالإذن مرة كما في قوله إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك قلنا الاستثناء في قوله إلا بإذني من الخروج الذي هو مصدر كلامه بدلالة حرف الإلصاق أي لا تخرجي خروجا إلا خروجا ملصقا بإذني فيكون جميع الخروجات الموصوفة غاية لا خرجة واحدة منها فلا ينتهي الحظر بالإذن مرة فأما في قوله إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك فالغاية مطلق الإذن إذا وجد انتهى الحظر لا محالة.
وفرق بعضهم بأن الاستثناء في قوله إلا بإذني داخل على الخروج لا على الحظر والخروج فعل غير ممتد فلا يصلح الاستثناء غاية له; لأن الغاية إنما تدخل فيما يمتد فأما الاستثناء في قوله إلا أن آذن لك فداخل على الحظر والحظر مما يمتد فيصلح غاية له فلذلك ينتهي بالإذن مرة

(3/198)


"الشعراء: 77" أي لكن رب العالمين وكذلك {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا
ـــــــ
قوله "والاستثناء نوعان" لما فرغ من إقامة الدليل على مدعاه شرع في بيان تخريج الفروع, وذكر له مقدمة فقال الاستثناء نوعان أي ما أطلق عليه لفظ الاستثناء نوعان: حقيقة وهو الاستثناء المتصل وتفسيره ما ذكرنا يعني قوله الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا ومجاز وهو المنفصل ويسمى منقطعا فجعل مبتدأ أي بمنزلة نص مبتدأ حكمه بخلاف الأول يعمل به بنفسه لا تعلق له بأول الكلام إلا من حيث الصورة وقوله مجازا نصب على التمييز. والمراد أن إطلاق اسم الاستثناء على هذا النوع بطريق المجاز وإن كان اللفظ لا ينقاد له; لأن " جعل " مسند إلى الضمير الراجع إلى المنفصل أي جعل الاستثناء المنفصل مبتدأ فكان قوله مجازا تميزا عن الجملة أي جعل المنفصل مبتدأ من الكلام بطريق المجاز لا بطريق الحقيقة فينصرف المجازية إلى كونه مبتدأ من الكلام لا إلى كونه استثناء والمراد هو الباقي دون الأول. وكان من حق الكلام أن يقال فجعل مبتدأ وجعل استثناء مجازا وعبارة شمس الأئمة رحمه الله الاستثناء حقيقة ما بينا وما هو مجاز منه فهو الاستثناء المنقطع بمعنى لكن أو بمعنى العطف قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} "الشعراء: 77" أي كل ما عبدتموه أنتم وعبده آباؤكم الأقدمون وهم الذين ماتوا في سالف الدهر فإني أعاديهم وأجتنب عبادتهم وتعظيمهم. إلا رب العالمين فإني أعبده وأعظمه كذا في التيسير.
وذكر في المطلع أي ما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له; لأنهم يعودون على عابديهم ضدا في الآخرة كما قال تعالى: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} "مريم: 82" ولأن المغري على عبادتها الشيطان الذي هو أعدى أعداء الإنسان وإنما قال عدو لي ولم يقل لكم فرضا للمسألة في نفسه على معنى أني فكرت في هذا الأمر فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا وبنى عليها تدبير أمره لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول وأبعث على الاستماع ولم تكن هذه المثابة لو قال عدو لكم; لأن التعريض يبلغ في التأثير في المنصوح له ما لا يبلغ التصريح; لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمل إلى التقبل. والعدو يقع على الجمع; لأن ضرر العدو وإن كان واحدا لكثير.
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين الذي من صفته كيت وكيت فإنه تعالى ليس منهم قال الزجاج ويجوز أن يكون القوم عبدوا الأصنام مع

(3/199)


تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} "الواقعة: 25 – 26" وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء منقطع; لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام فكان معناه إلا أن يتوبوا أو يحمل الصدر على عموم الأحوال بدلالة الثنيا فكأنه قال {أُولَئِكَ هُمُ
ـــــــ
الله عز وجل فقال إن جميع من عبدتم عدو لي إلا رب العالمين; لأنهم سووا آلهتهم بالله تعالى فأعلمهم أنه قد تبرأ مما يعبدون إلا الله عز وجل فإنه لم يتبرأ من عبادته, وهذا قول مقاتل وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا.
قوله وكذلك: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} أي ومثل قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} قوله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} في أن الاستثناء فيه منقطع أيضا; لأن السلام ليس من جنس اللغو واللغو ما يلغى من الكلام أي يسقط والتأثيم ما يؤثم فيه أي لا يسمعون في الجنة ما يلغى من الكلام ولا ما يؤثم فيه من الهذيان والتفسيق إلا قيلا أي لكن يسمعون فيها قولا سلاما سلاما هما بدلان من قيلا بدليل قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً} أو مفعول بهما لقيلا بمعنى إلا أن يقولوا سلاما سلاما ومعنى التكرير أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاما بعد سلام أو يسلم عليهم الملائكة سلاما بعد سلام ويجوز أن يكون معنى الآية إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من قبيل. قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ودار السلام هي دار السلامة من الآفات, وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام والتبجيل لأهلها كذا في الكشاف والمطلع.
قوله "وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء منقطع" ذهب بعض مشايخنا منهم القاضي الإمام أبو زيد رحمهم الله إلى أن هذا استثناء منقطع وتقريره من وجهين أحدهما وهو المذكور في الكتاب أن التائبين غير داخلين في صدر الكلام وهو قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]; لأن التائب من قام به التوبة وليس فيه صفة الفسق, والفاسق من قام به وصف الفسق وليس فيه وصف التوبة فلا يكون التائب فاسقا فلا يكون داخلا تحت الصدر لولا الاستثناء فلم يكن الاستثناء حقيقة فكان منقطعا. والثاني أن حقيقة الاستثناء لبيان أن المستثنى لم يدخل تحت الجملة أصلا ولولا الاستثناء لكان داخلا كقولك جاءني القوم إلا زيدا لم يدخل زيد في حكم المجيء أصلا ولولا الاستثناء

(3/200)


الْفَاسِقُونَ} بكل حال إلا حال التوبة وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة 237" استثناء حال وكذلك قوله "إلا سواء بسواء" استثناء حال
ـــــــ
لكان داخلا والتائبون هم القاذفون فهم الذين كانوا فسقة فكانوا داخلين في الفاسقين ألبتة وبالتوبة لم يخرجوا من أن يكونوا قاذفين فلا يمكن حمل الاستثناء على الحقيقة فيجعل منقطعا بمعنى لكن أي لكن إن تابوا فالله يغفر لهم. وإذا كان كذلك لا يتغير شيء مما ثبت بصدر الكلام من وجوب الحدود والشهادة ووصف الفسق بالاستثناء إلا أن التوبة والفسق متنافيان فيتغير بها وصف الفسق لاستحالة بقاء الشيء مع ما ينافيه لا للاستثناء, فأما التوبة فليست بمنافية لرد الشهادة كالعبد العدل الثابت لا يقبل شهادته وكالنساء المنفردات العادلات لا تقبل شهادتهن فلذلك بقي مردود الشهادة كما كان
وقوله "فكان معناه إلا أن يتوبوا" يعني لما لم يمكن استخراج التائبين عن صدر الكلام لكونهم داخلين فيه يحمل الاستثناء على التوقيت فكان معناه إلا أن يتوبوا أي حين يتوبوا, وإذا حمل على التوقيت لم يكن استثناء حقيقة; لأن بالتوقيت يتقرر موجب صدر الكلام ولا يخرج منه شيء وفي الاستثناء الحقيقي لا بد من أن يكون المستثنى خارجا من الصدر أي غير داخل فيه على وجه لولاه لكان داخلا وذكر في بعض نسخ أصول الفقه للشيخ أن معناه ولكن الذين تابوا, وهكذا ذكر الإمام السرخسي والقاضي الإمام أبو زيد وهو الأقرب إلى الصواب وذهب أكثرهم إلى أنه استثناء متصل; لأن الحمل على الحقيقة واجب مهما أمكن فجعلوه استثناء حال بدلالة الثنيا فإنها تقتضي المجانسة وحملوا الصدر على عموم الأحوال أي أضمروا فيه الأحوال فقالوا التقدير وأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال أي حال المشافهة والغيبة وحضور القاضي وحضور الناس وغيبتهم وحال الثبات والإصرار على القذف وحال الرجوع والتوبة إلا في حال التوبة., ثم على التقديرين لا تعلق له برد الشهادة; لأنه إن جعل استثناء متصلا يكون استثناء عن الجملة الأخيرة ولا ينصرف إلى ما سبق ذكره في عطف الجمل بعضها على بعض, ولا يصرف الاستثناء إلى الجميع عندنا بل يقتصر على الأخيرة; لأنه إنما وجب رجوع الاستثناء إلى ما قبله ليصح ضرورة عدم استقلاله بنفسه, وقد اندفعت بالرجوع إلى الأخيرة فلا حاجة إلى صرفه إلى غيرها; لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وإن جعل استثناء منقطعا فكذلك; لأنه حينئذ يكون كلاما مبتدأ فيعمل بالمعارضة إن أمكن ولا معارضة له إلا في وصف الفسق على ما بينا فثبت أنه لا تعلق له برد الشهادة قال شمس الأئمة رحمه الله ولئن كان محمولا على الحقيقة فهو استثناء بعض الأحوال أي وأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال إلا أن يتوبوا فيكون هذا الاستثناء توقيتا بحال ما قبل التوبة فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمه الخصم.

(3/201)


فيكون الصدر عاما في الأحوال وذلك لا يصلح إلا في المقدر
ـــــــ
قوله: وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي ومثل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قوله عز اسمه {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإنه استثناء حال أيضا إذ لا يمكن استخراج العفو الذي هو حالهن عن نصف المفروض حقيقة لعدم المجانسة فيحمل الصدر على عموم الأحوال أي لهن نصف ما فرضتم أو عليكم نصف ما فرضتم في جميع الأحوال أي في حال الطلب والسكوت وحال الكبر والصغر والجنون والإفاقة إلا في حالة العفو إذا كانت العافية من أهله بأن كانت عاقلة بالغة فكان تكلما بالباقي نظرا إلى عموم الأحوال, وقال القاضي الإمام رحمه الله هو استثناء منقطع; لأنه يبين أن النصف لم يكن واجبا إذا جاء العفو بل سقوطه بالعفو بتصرف طارئ فكان الاستثناء منقطعا لا أنه لم يدخل في الصدر بالاستثناء.
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} قوله عليه السلام: "إلا سواء بسواء" في أنه استثناء حال أيضا; لأن حمل الكلام على حقيقته واجب ما أمكن ولا يمكن استخراج المساواة من الطعام فيحمل صدر الكلام على ما يجانس المستثنى منه ليتحقق الاستثناء حقيقة والمستثنى حال وهي المساواة فيحمل الصدر على عموم الأحوال فصار كأنه قيل لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من المفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حالة المساواة ولا يتحقق هذه الأحوال إلا في الكثير وهو ما يدخل تحت الكيل; لأن المراد من المساواة هو المساواة في الكيل إذ المشترى في الطعام ليس إلا الكيل بالإجماع وبدليل قوله عليه السلام: "كيلا بكيل" وبدليل العرف فإن الطعام لا يباع إلا كيلا وبدليل الحكم فإن إتلاف ما دون الكيل في الطعام لا يوجب المثل بل يوجب القيمة لفوات المسمى, والمفاضلة والمجازفة مبنيتان على الكيل أيضا إذ المراد من المفاضلة رجحان أحدهما على الآخر كيلا. والمراد من المجازفة عدم العلم بتساويهما أو بتفاضلهما مع احتمال المساواة والمفاضلة فثبت بما ذكرنا أن صدر الكلام لم يتناول القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لعدم جريان هذه الأحوال فيه فلا يصح الاستدلال به على حرمة بيع الحفنة بالحفنة أو الحفنتين, فإن قيل لا نسلم أن هذا استثناء متصل بل هو استثناء منقطع لاستحالة استخراج المساواة التي هي معنى من العين فيكون معناه لكن إن جعلتموهما سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر فيبقى الصدر متناولا للقليل والكثير وقولكم العمل بالحقيقة أولى مسلم ولكن إذا لم يتضمن العمل بها مجازا آخر, وقد تضمن هنا; لأنه لا يمكن حمله على الحقيقة إلا بإضمار الأحوال في صدر الكلام والإضمار من أبواب المجاز, ولئن سلمنا أن حمله على الحقيقة أولى فلا نسلم أنه يحتاج فيه إلى إضمار الأحوال في صدر الكلام; لأنه يمكن أن يجعل المستثنى الطعام الموصوف بالمساواة أي لا

(3/202)


واتفق أصحابنا رحمهم الله أن قول الرجل لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا أن
ـــــــ
تبيعوا الطعام بالطعام متساويين كانا أو غير متساويين إلا الطعام المتساوي بالطعام المتساوي فبقي القليل داخلا في عموم صدر الكلام وهو بيع الطعام بالطعام غير متساويين ولئن سلمنا أنه استثناء حال وأنه يجب إدراج الأحوال في صدر الكلام فلا نسلم أن الأحوال منحصرة على الثلاث المذكورة بل العلة من أحواله كالمفاضلة والمجازفة أي لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من القلة والكثرة والمفاضلة والمجازفة والمساواة إلا في حالة المساواة فيبقى القليل داخلا في الصدر. قلنا حمل الكلام على الحقيقة واجب فلا يجوز حمله على المنقطع الذي هو مجاز من غير ضرورة. قولهم حمله على الحقيقة يتضمن مجازا آخر قلنا قد قام الدليل على هذا المجاز وهو الإضمار فوجب العمل به فأما المجاز الذي ذكرتم فلم يقم عليه دليل فترجحت الحقيقة عليه ألا ترى أن استثناء الدينار والكر من الدراهم جاز بالاتفاق وأن استثناء الثوب والعبد جائز منها عند الخصم ولا وجه لصحته إلا الإضمار أي إلا مقدار مالية كذا فثبت أن حمله على المتصل مع الإضمار أولى من حمله على المنقطع وقولهم هو استثناء عين لا استثناء حال قلنا هو استثناء بيع الطعام في هذه الحالة لا استثناء عين وقولهم لا نسلم انحصار الأحوال في الثلاث قلنا إنما حكمنا بانحصارها في الثلاث; لأنه عليه السلام "نهى عن بيع الطعام بالطعام" والطعام إذا ذكر مقرونا بالبيع أو الشراء يراد به الحنطة ودقيقها. ويؤيده ما روي في رواية أخرى "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" ولهذا قالوا إذا حلف لا يشتري طعاما أنه لا يحنث بشراء الشعير والفاكهة وإنما يحنث بشراء الحنطة ودقيقها, وكذا لو وكله بشراء طعام فاشترى فاكهة يصير مشتريا لنفسه. وسوق الطعام عندهم اسم لسوق الحنطة ودقيقها ويسمى ما يباع فيه غير الحنطة سوق الشعير وسوق الفواكه وأنه من أبواب اللسان لا من فقه الشريعة, ثم البيع لا يجزئ باسم الطعام أو الحنطة فإن الاسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد ولو باعها لم يجز; لأنها ليست بمال متقوم فعرفنا أن المراد منه ما صار متقوما, ولا يعرف مالية الطعام إلا بالكيل فيثبت وصف الكيل بمقتضى النص ويصير كأنه قيل لا تبيعوا الطعام المكيل بالطعام المكيل إلا سواء بسواء, وإذا كان كذلك انحصر الأحوال فيما ذكرنا وهو معنى قوله, وذلك أي عموم الأحوال لا يستقيم إلا في المقدر وهو الذي يدخل تحت الكيل. يوضحه أنه إنما يدرج في المستثنى منه ما يناسب المستثنى بوصف خاص لا بوصف عام فإنك إذا قلت ليس في الدار إلا زيد يدرج في الكلام إنسان لا حيوان ولا شيء, فهنا إنما يدرج ما يناسب المساواة في الكيل وهو المفاضلة والمجازفة لا القلة التي هي بمنزلة الحيوان والشيء في تلك الصورة. وذكر

(3/203)


هذا استثناء منقطع; لأن استخراجه لا يصح فجعل نفيا مبتدأ ونفيه لا يؤثر في الألف. وأما إذا استثنى المقدر من خلاف جنسه فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله هو صحيح, وقال محمد رحمه الله ليس بصحيح لما قلنا من
ـــــــ
شمس الأئمة رحمه الله في أصول الفقه أن قوله عليه السلام "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" استثناء لبعض الأحوال أي لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا حالة التساوي في الكيل فيكون توقيتا للنهي بمنزلة الغاية وثبت بهذا النص أن حكم الربا الحرمة الموقتة في المحل دون المطلقة وإنما يتحقق الحرمة الموقتة في المحل الذي يقبل المساواة في الكيل, فأما في المحل الذي لا يقبل المساواة لو ثبت إنما ثبت حرمة مطلقة, وذلك ليس من حكم هذا النص فلهذا لا يثبت حكم الربا في القليل وفي المطعوم الذي لا يكون مكيلا أصلا.
قوله "واتفق أصحابنا" إلى آخره استثناء الثوب والغنم من الدراهم استثناء منقطع باتفاق من أصحابنا ويجعل إلا فيه بمعنى لكن لمناسبة بينهما من حيث الاستدراك; لأن استخراج الثوب من الدراهم غير متصور حقيقة; لأن الألف لا يتناول الثوب صورة وهو ظاهر ولا معنى; لأن الثوب لا يناسب الدراهم في وصف خاص فجعل نفيا مبتدأ لا تعلق له بالدراهم كأنه قال إلا ثوبا فإنه ليس علي أو لكن الثوب ليس علي ونفيه أي نفي الثوب لا يؤثر في الألف أي في وجوبه لعدم تعلقه به كما في قولك جاءني القوم إلا حمارا لا يؤثر الاستثناء في القوم بوجه لعدم التعلق ألا ترى أنه لو صرح بالنفي بأن قال لكن ليس له علي ثوب لا يمنع ذلك عن وجوب جميع الألف عليه فاللفظ الذي لا يدل على النفي أولى أن لا يمنع; لأن الدلالة دون الصريح. وأما إذا استثنى المقدر وهو الذي له مقدر في العرف أو الشرع مثل المكيل أو الموزون والعدد المتقارب من خلاف جنسه أي من مقدر آخر من خلاف جنس المستثنى منه بأن قال لفلان علي ألف درهم إلا دينارا أو فلسا أو إلا كر حنطة فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله هو صحيح أي هذا الاستثناء صحيح وهو الاستحسان وقال محمد رحمه الله لا يصح وهو القياس.
والمراد بالصحة وعدمها كون الاستثناء مؤثرا في المستثنى منه بالمنع وعدم تأثيره فيه لا عدم صحة التلفظ به لغة كاستثناء الكل من الكل فإن التلفظ بالاستثناء المنقطع صحيح لغة بلا خلاف. لما قلنا من الأصل وهو أن استخراجه لا يصح فجعل نفيا مبتدأ, وبيانه أن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا وبيانه أن المستثنى لم يدخل تحت الجملة ولا يتصور ذلك إلا فيما يكون المستثنى داخلا تحت الجملة لولا الاستثناء, وخلاف الجنس لا يدخل تحت الصدر فلا يتصور استخراجه وبيان أنه لم يكن داخلا

(3/204)


الأصل وجعل استثناء منقطعا فلم ينقص من الألف شيئا, وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله هو صحيح; لأن المقدرات جنس واحد في المعنى; لأنها تصلح ثمنا ولكن الصور مختلفة فصح الاستثناء في المعنى, وقد قلنا إن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا معنى لا صورة فإذا صح الاستخراج من طريق المعنى بقي في القدر المستثنى تسمية الدراهم بلا معنى وذلك هو معنى حقيقة الاستثناء فلذلك بطل قدره من الأول بخلاف ما ليس بمقدر من الأموال; لأن المعنى مختلف فلم يصح استخراجه والله أعلم.
ـــــــ
فيجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن أي لكن الدينار أو كر الحنطة ليس علي فلا يؤثر نفيه في الألف كما في استثناء الثوب والشاة فهذا بيان وجه القياس, وقوله فلم ينقص من النقص الذي هو معتدلا من النقصان أي لم ينقص هذا الاستثناء من الألف شيئا. وأما وجه الاستحسان فهو أن المقدرات جنس واحد في المعنى باعتبار أنها تصلح ثمنا حتى لو اشترى عبدا بكر موصوف من الحنطة أو بكذا منا من الدهن أو بكذا من الجوز جاز البيع ويتعين الكر أو الدهن أو الجوز ثمنا وتجب أيضا في الذمة ما هو مال وما ليس بمال حالة ومؤجلة ويجوز استقراضها فصار الجنس واحدا من حيث الثبوت في الذمة ثبوتا صحيحا ولكن الصور مختلفة فإن الدينار غير الدراهم والكر غيرهما فلا يمكن أن يجعل استخراجا باعتبار الصورة وتكلما بالباقي باعتبار المعنى فيمتنع الوجوب بقدر الدينار أو الكر من الألف, وقد قلنا إن الاستثناء تكلم بالباقي معنى لا صورة فإن صورة التكلم بالألف قد وجدت بلا شبهة ولكن من حيث المعنى صار كأنه قال علي تسعمائة في قوله علي ألف إلا مائة.
وإذا كان الاستثناء استخراجا وتكلما بالباقي معنى لا صورة صح استثناء الكر من الألف; لأنه استخراج معنوي أيضا, وإذا صح استثناؤه بقي المعنى أي معنى صدر الكلام وهو قوله علي ألف في القدر المستثنى وهو الكر تسمية الدراهم بلا معنى يعني صار كأنه تكلم بالدراهم من الألف بقدر مالية الكر من غير أن يكون لذلك المقدار من الدراهم معنى كما في الاستثناء من الجنس, وذلك أي بقاء صدر الكلام تسمية بلا معنى في القدر المستثنى هو معنى حقيقة الاستثناء فإن في الاستثناء الحقيقي وهو قوله علي ألف إلا مائة بقي التكلم بالألف في حق المائة المستثناة تسمية من حيث الصورة لا من حيث المعنى فلذلك أي فلأن استثناء الكر من الدراهم مثل استثناء بعضها منها معنى بطل قدره أي قدر المستثنى من الأول وهو المستثنى منه بخلاف ما ليس بمقدر من الأموال مثل الثوب والشاة ونحوهما.; لأن المعنى أي معنى المستثنى والمستثنى منه مختلف

(3/205)


وعلى هذا الأصل قلنا فيمن قال لفلان علي ألف درهم وديعة أنه يصح موصولا; لأنه بيان مغير; لأن الدراهم تصلح أن تكون عليه حفظا إلا أنه تغيير للحقيقة فصح موصولا وكذلك رجل قال أسلمت إلي عشرة دراهم في كذا لكني لم أقبضها أو أسلفتني أو أقرضتني أو أعطيتني ففي هذا كله يصدق بشرط الوصل استحسانا; لأن حقيقة هذه العبارات للتسليم, وقد تحتمل العقد
ـــــــ
كاختلاف صورتهما فإن الثوب ليس من جنس الأول وجوبا فإنه لا يجب في الذمة إلا بطريق خاص وهو السلم فلا يصح استخراجه أي استخراج ما ليس بمقدر من الدراهم لانتفاء المجانسة صورة ومعنى. وأما ما اعتبره الشافعي رحمه الله من معنى المالية لإثبات المجانسة فذلك معنى عام لا يجوز اعتباره إذ لو اعتبر مثله أدى إلى جواز استثناء كل شيء من كل شيء باعتبار معنى الوجود, وذلك باطل فكذا هذا وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله الفرق في الأسرار بهذه العبارة وهي أنه إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا درهما فعين الدرهم بمعناها مستخرجة عن الألف فصح الاستثناء حقيقة, وإذا قال إلا دينارا أو قفيز حنطة صح الاستثناء عن صفة الوجوب للدراهم فإن الجملة قبل الاستثناء دراهم واجبة والمكيلات والموزونات في حق الوجوب في الذمة جنس واحد يجب في الذمة على الإطلاق من غير تقييد بسبب خاص بالإتلاف والالتزام والمداينات جميعا فسقط الوجوب من الدراهم بقدر ما استثنى منها من الحنطة فلا يمكن بيان القدر إلا بالمعنى فاعتبر به كما قاله الشافعي فأما إذا قال إلا ثوبا فالثياب ليست من جنس الدراهم عينا ولا وجوبا; لأنها لا تجب في الذمة إلا سلما فلم يمكن أن يجعل استخراجا لا في حق عين الدراهم ولا وجوبها فبقي ما مضى على ما كان قبل الاستثناء وصار مجازا بمعنى ولكن ليس له ثوب علي.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن البيان المغير لا يصح إلا موصولا قلنا إذا قال لفلان علي أو قبلي ألف درهم وديعة فإنه يصدق إن وصل ولا يصدق إن فصل وعند الشافعي رحمه الله يصدق وإن فصل; لأن الألف يحتمل الغصب والوديعة فكان بمنزلة المشترك أو المجمل فكان قوله وديعة بيان تفسير فيصح موصولا ومفصولا كما إذا قال هي زيوف وقلنا قوله وديعة بيان مغير لا مفسر; لأن قوله علي ألف درهم حقيقة الإقرار بوجوب نفس الألف عليه ولكنه يحتمل الإقرار بوجوب الحفظ عليه مجازا بطريق حذف المضاف أي على حفظ ألف درهم أو بطريق إطلاق اسم المحل على الحال كقولك جرى النهر وسال الميزاب; لأن الدراهم محل الحفظ الواجب بالعقد فكان قوله وديعة لبيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال, وتغييرا لما اقتضاه حقيقة الكلام من وجوب أصل المال ورجوعه عما أقر به.

(3/206)


فصار النقل إلى العقد بيانا مغيرا وإذا قال دفعت إلي عشرة دراهم أو نقدتني لكني لم أقبض فكذلك عند محمد; لأن النقد والدفع بمعنى الإعطاء لغة فيجوز أن يستعار للعقد أيضا, وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق; لأنهما اسمان
ـــــــ
قوله "وكذلك" أي ومثل قوله لفلان علي ألف درهم وديعة في كونه مبنيا على البيان المغير قوله أسلمت إلي إلى آخره وقوله يصدق بشرط الوصل استحسانا يوهم أنه لا يصدق في القياس وإن وصل; لأن قوله ولكني أو إلا أني لم أقبضها رجوع كما في قوله دفعت إلي إلا أني لم أقبض في قول أبي يوسف رحمه الله والرجوع لا يصح موصولا ومفصولا فيكون قوله استحسانا متعلقا بيصدق ولكنه ليس بمتعلق به بل هو متعلق بقوله بشرط الوصل يعني: اشتراط الوصل للتصديق استحسان, والقياس أن لا يشترط الوصل بل يصدق وصل أم فصل فإنه ذكر في المبسوط في هذه الألفاظ أن القول قوله إذا وصل; لأن أول كلامه إقرار بالعقد وهو القرض والسلم الوديعة والعطية فكان قوله لم أقبضها بيانا لا رجوعا وإن قال ذلك مفصولا فالقول قوله أيضا في القياس لما بينا أنه إقرار بالعقد فكان هذا وقوله ابتعت من فلان بيعا سواء يوضحه أنه أقر بفعل الغير فإنه أضاف الفعل بهذه الألفاظ إلى المقر له فيكون القول قوله في إنكار القبض الموجب للضمان عليه. وفي الاستحسان لا يقبل قوله; لأن حقيقة هذه الألفاظ تقتضي تسليم المال إليه فإن القرض لا يكون إلا بالقبض, وكذا السلف والسلف أخذ عاجل بآجل, وكذا الإعطاء فعل لا يتم إلا بالقبض فكان كلامه إقرارا بالقبض على احتمال أن يكون هذه الألفاظ عبارات عن العقد مجازا فإن الإسلام كما يطلق على تسليم المال يطلق على عقد السلم يقال أسلم فلان إلى فلان عشرة في كذا ولم يسلم إليه رأس المال, ويقال فلان أقرض فلانا عشرة دراهم ولم يدفع إليه يريدون به العقد. وكذا الإيداع والإعطاء فكان قوله لم أقبض بيان تغيير فيصح موصولا لا مفصولا, وإذا قال دفعت إلي عشرة دراهم أو نقدتني لكني أو إلا أني لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله يعني يصدق فيه واصلا لا فاصلا; لأن النقد والدفع والإعطاء سواء فيجوز أن يستعار النقد والدفع للعقد كالإعطاء إطلاقا لاسم المسبب على السبب ولأن الدفع إليه عبارة عن التسليم إليه, والقبض شرط لنفاذ حكم التسليم وتمامه فصار قوله إلا أني لم أقبض استثناء لبعض ما تكلم به فيصح موصولا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق أصلا; لأنهما أي النقد والدفع اسمان مختصان بالتسليم والفعل; لأنهما لم يطلقا على غير الفعل أصلا وليس في الشرع عقد يسمى دفعا أو نقدا فلا يتناولان العقد حقيقة ولا مجازا فكان قوله إلا أني لم أقبض أو لكني لم أقبض رجوعا لا بيانا فلا يقبل موصولا ولا مفصولا, فأما الإعطاء فهبة أي استعمل بمعنى الهبة يقال

(3/207)


مختصان للتسليم والفعل. وأما الإعطاء فهبة فيصلح أن يستعار للعقد وإذا أقر بالدرهم قرضا أو ثمن بيع, وقال هي زيوف صح عندهما موصولا; لأن الدراهم نوعان جياد وزيوف إلا أن الجياد غالبة فصار الآخر كالمجاز فصح التغيير إليه
ـــــــ
عقد الهبة وعقد العطية ولو قال أعطيتك هذا يصير هبة فيصلح أن يستعار للعقد فكان قوله إلا أني لم أقبض فيه بيانا لا رجوعا. وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في الأسرار في تقرير هذه المسألة أن الدفع عبارة عن التسليم وقوله إلي عبارة عن الوصول فهما كلمتان تحت كل واحدة منهما ضرب إقرار فإذا استثني أحدهما بعينه لم يصح كما إذا قال لفلان علي درهم ودرهم إلا درهما وكذلك نقدتني عبارة عن فعل نقد يتعدى إليه كقولك ضربتني, ولو قال ضربتك إلا أنه لم يصل إليك أو قذفتك إلا إني لم أضف إليك لم يكن استثناء بل إبطالا لأصل ما تكلم به; لأن الباقي لا يبقى قذفا إياه; لأن الفعل المتعدي لا يبقى بدون المتعدى إليه بخلاف الإعطاء; لأنه عبارة عن عقد الهبة وكذلك الإسلام عبارة عن عقد السلم والعقد يتعدى إلى الآخر قبل القبض حتى إذا حلف لا يهب له فوهب ولم يسلم حنث, وكذلك السلم, وكذلك الإيداع عقد استحفاظ وأنه عقد معه قبل التسليم إليه ونظيره ما إذا قال بعتك عبدي بألف إلا أنك لم تقبله لم يصح; لأن البيع لا يكون بيعا إلا بقبول ولو قال لامرأته طلقتك أمس على ألف فلم تقبلي كان القول قول الزوج; لأنه يتم بغير قبول إنما القبول شرط النفاذ. قوله "وإذا أقر بالدراهم قرضا أو ثمن بيع" احترز به عما إذا أقر بالدراهم غصبا أو وديعة وقال هي زيوف فإنه يصدق وصل أم فصل بلا خلاف; لأنه ليس للغصب الوديعة, موجب في الجياد دون الزيوف ولكن الغاصب يغصب ما يجد والمودع يودع غيره ما يحتاج إلى الحفظ فلم يكن في قوله هي زيوف تغيير أول كلام فيصح موصولا ومفصولا وعما إذا أطلق ولم يبين السبب فقال علي درهم زيف فإنه يصدق إذا وصل بالاتفاق عند بعض مشايخنا; لأن صفة الجودة إنما تصير مستحقة بمقتضى عقد التجارة عند أبي حنيفة رحمه الله على ما تبين فإذا لم يصرح في كلامه بجهة التجارة لا تصير صفة الجودة مستحقة عليه فيحمل كلامه على جهة يصح ذلك منه فأما إذا بين جهة القرض أو البيع وقال هي زيوف فهو على الخلاف فنبين كل فصل على حدة, فنقول إذا قال لفلان علي ألف درهم ثمن بيع إلا أنها زيوف يصدق عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن وصل ولا يصدق إن فصل; لأن الزيوف من جنس الدراهم حتى حصل بها الاستيفاء في الصرف والسلم. وكذا نقد بلدة أخرى سوى بلدتهما يكون زيف بلدهما فكان قوله إلا أنها زيوف وقوله إلا أنها نقد بلد كذا سواء فيكون بيانا من هذا الوجه

(3/208)


موصولا, وقال أبو حنيفة لا يقبل وإن وصل; لأن الزيافة عارضة وعيب فلا يحتمله مطلق الاسم بل يكون رجوعا كدعوى الأجل في الدين ودعوى الخيار في البيع.وإذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية باعنيها لكني لم
ـــــــ
فينبغي أن يصح موصولا ومفصولا; لأنه يشابه بيان المشترك ويصير كقوله له علي كر حنطة من ثمن بيع أو قرض, ثم قال هو ردي يصدق وإن فصل إلا أن فيه تغييرا لما اقتضاه أول الكلام من حيث العادة; لأن بياعات الناس تكون بالجياد دون الزيوف فكانت الدراهم للجياد بمنزلة الحقيقة العرفية وللزيوف بمنزلة المجاز فيصح التغيير إليها موصولا كقوله لفلان علي ألف درهم إلا أنها وزن خمسة. وقال أبو حنيفة رحمه الله لم يصدق في دعوى الزيافة وصل أم فصل ويلزمه الجياد; لأن الزيافة اسم لعيب وغش فيها ثبت بعارض صنعة والبيع موجبه سلامة البدل المستحق به عن العيب فيصير دعوى الزيافة من المشتري دعوى أمر عارض يخالف موجب العقد فلا تصح كما لو ادعى البائع أن المبيع معيب, وقد كان المشتري عالما به لم يقبل قوله في ذلك إذا أنكره المشتري, وهذا; لأن دعواه العيب رجوع عما أقر به; لأن إقراره بالعقد مطلقا التزام ما هو مقتضى مطلق العقد وهو السلامة عن العيب فبقوله كان معيبا يصير راجعا عن الإقرار لا يصح موصولا كان أم مفصولا, وهذا بخلاف قوله إلا أنه نقد بلد كذا; لأن تسمية النقد لا تكون دعوى عيب; لأن النقد اسم للرايج بل يكون ذكر تنويع وما للبيع موجب في نوع بعينه من النقود بل يتعين نقد بلدهما عند الإطلاق بحكم العرف لا بموجب العقد فإذا عين نقدا آخر لم يعتبر العرف كما في ابتداء الشراء إذا أطلق يلزمه نقد البلد, وإذا سمى نقدا آخر لزمه ما سمى فأما الزيافة فاسم لخلل في النقد أينما كان بخلاف قوله علي كر حنطة إلا أنه رديء; لأن الرداءة في الحنطة ذكر نوع لا ذكر عيب كالهندي والحبشي والتركي في العبيد; لأن الحنطة تخلق جيدة وردية ووسطا كما يخلق العبد ذميما وحسنا ووسطا, والعيب ما يخلو عنه أصل الفطرة التي هي أساس في الأصل ألا ترى أنه لو قال بعتك هذه الحنطة وأشار إليها والمشتري كان رآها فوجد ردية ولم يكن علمها لم يكن له خيار الرد بالعيب ولو قال بعتك بهذه الدراهم وأشار إليها وهي زيوف استحق مثلها جيادا لا زيافة فيها ولو كانت النقود مختلفة. وما أشار إليها نقد فوقه نقد آخر استحق مثلها من ذلك لا مما هو فوقه فعلم أن الزيافة عيب فكان بمنزلة ما لو قال بعتك هذه الجارية وهي معيبة فإن المشتري يستحقها غير معيبة وبخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة; لأنه استثناء لبعض القدر وما للبيع موجب في قدر فكان بمنزلة قوله إلا مائة كذا في الأسرار قال الشيخ أبو الفضل الكرماني رحمه الله فهما نظرا إلى العرف فوجدا الزيافة كثيرة الوجود عرفا واستعمالا وأبو

(3/209)


أقبضها لم يصدق عند أبي حنيفة إذا كذبه المقر له في قوله لم أقبضها وصدقه في الجهة أو كذبه في الجهة وادعى المال, وقالا إن صدقه في الجهة صدق وإن
ـــــــ
حنيفة رحمه الله نظر إلى الأصل فقال الأصل هو السلامة فلا يعرض عنه إلا إذا صار مهجورا من كل وجه فهذا أقرب إلى الحقيقة وما قالاه أقرب إلى الفقه باعتبار العرف.
وأما إذا قال له علي ألف درهم من قرض إلا أنها زيوف فهو على الخلاف أيضا في ظاهر الرواية; لأن المستقرض مضمون بالمثل فكان هو وثمن البيع سواء والاستقراض متعامل بين الناس كالبيع, وذلك في الجياد عادة. وذكر في غير رواية الأصول عن أبي حنيفة رحمه الله أن هاهنا يصدق إذا وصل; لأن المستقرض إنما يصير مضمونا على المستقرض بالقبض فهو بمنزلة الغصب ولو أقر بألف درهم غصب وقال هي زيوف كان القول قوله فكذلك هاهنا إلا أن هاهنا لا يصدق إذا فصل ما فيه من شبه البيع من حيث المعاملة بين الناس بخلاف الغصب كذا في المبسوط كدعوى الأجل في الدين بأن قال له علي ألف درهم مؤجل أو علي درهم من ثمن متاع باعنيه وأجلني إلى كذا يقبل قوله في الآجل إذا أنكره الطالب; لأن الأصل في الدين الحلول والأجل إنما يثبت بعارض الشرط فكان ادعاء الأجل رجوعا لا بيانا ودعوى الخيار في البيع بأن أقر بدين من ثمن بيع على أنه فيه بالخيار ثلاثة أيام وكذبه صاحبه أو أقر البائع ببيع شيء على أنه بالخيار فيه ثلاثة أيام وكذبه المشتري لم يثبت الخيار; لأن مقتضى مطلق البيع اللزوم والخيار يثبت بعارض فمن ادعى تغييره باشتراط الخيار لا يقبل قوله إلا بحجة وكان راجعا عما أقر به لا مبينا.
قوله "وإذا قال لفلان علي ألف درهم" هذه المسألة من المسائل المبنية على بيان التغيير عندهما وبيانها أنه إذا قال علي ألف درهم من ثمن جارية باعنيها إلا أني لم أقبضها لم يصدق عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كذبه المقر له في قوله لم أقبضها سواء صدقه في الجهة بأن يقول نعم كان الألف عليه ثمن جارية ولكنه قد قبضها أو كذبه في الجهة بأن يقول ما بعتك جارية ولكن الألف الذي عليك من قرض أو غصب أو ادعى الألف مطلقا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن صدق المقر له المقر في الجهة بأن قال الألف من ثمن البيع صدق المقر في قوله لم أقبضها وصل أم فصل; لأن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بوجوب المال عليه وقوله له من ثمن كذا بيان لسبب الوجوب فإذا صدقه المقر له في هذا السبب يثبت بتصادقهما, ثم المال بهذا السبب يكون واجبا قبل القبض; لأن الثمن يجب بنفس البيع ولا يسقط بغيبة الجارية بإباق ولا غيره وإنما يتأكد بالقبض فصار البائع مدعيا عليه تسليم المعقود عليه وهو منكر لذلك فجعلنا قول

(3/210)


فصل; لأنه إذا صدقه فيها ثبت البيع فيقبل قول المشتري إنه لم يقبض وعلى المدعي البينة وإن كذبه فيها صدق إذا وصل; لأن هذا بيان مغير من قبل أن الأصل في البيع وجوب المطالبة بالثمن, وقد يجب الثمن غير مطالب به بأن يكون المبيع غير مقبوض فصار قوله غير أني لم أقبضها مغيرا للأصل, ولما كان كون
ـــــــ
المنكر في إنكار القبض. وإن كذب المقر له المقر في الجهة بأن قال الألف عليه من جهة أخرى سوى البيع صدق المقر في قوله لم أقبضها إذا وصل ولم يصدق إذا فصل; لأن قوله لم أقبض تغيير لمقتضى مطلق الكلام; لأن مقتضى الكلام الأول أن يكون مطالبا بالمال في الحال ولكن على احتمال أن لا يكون مطالبا به حتى تحضر الجارية فإن الإنسان قد يشتري جارية بألف فتأبق فيبقى الثمن عليه ولا يطالب به وقد يشتري جارية غائبة ببلدة أخرى فيصح ولا يؤمر بتسليم الثمن حتى تحضر الجارية, وقد يكون الألف ثمنا وغير ثمن فكان قوله غير أنى لم أقبضها مغيرا للأصل فإنه يبطل المطالبة الواجبة بنفس العقد إلى أن تحضر الجارية, وبيانا لمحتمل الكلام فإن كون المبيع غير مقبوض أحد محتملي البيع لا من العوارض كشرط الخيار والأجل فكان قوله لم أقبض بيانا مغيرا إلى هذا النوع من الاحتمال فيصحح موصولا لا مفصولا
ولا يقال إن جارية لا يشار إليها هالكة وثمن الهالكة لا يكون عليه إلا بعد القبض فيصير إقرارا بالقبض; لأنا نقول إن جارية لا يشار إليها آبقة فزيادة صفة الهلاك لا تثبت إلا بدلالة أخرى ولا دلالة هاهنا سوى أنها غير مشار إليها كذا في الأسرار فالحاصل أنهما جعلاه بيانا محضا إذا صدقه المقر له في الجهة; لأن الاتفاق وقع على وجوبه بجهة ولا يجب تسليم الثمن إلا إذا كان المبيع مقبوضا ولم يوجد الإقرار بالقبض وإن كذبه في الجهة كان بيانا مغيرا على معنى أن الحكم لا بد له من سبب, وقضية مطلق الإقرار تستدعي أن يكون مطالبا به وباعتبار بيان السبب هو غير مطالب فكان بيانا بمعنى التغيير كذا في إشارات الأسرار
ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا أي قوله لم أقبضها رجوع عما أقر به وليس ببيان فلا يصح موصولا ولا مفصولا. وبيانه أنه أقر بوجوب ثمن جارية بغير عينها عليه وثمن المبيع الذي لا يعرف أثره أي لا يكون معينا لا يكون واجبا إلا بعد القبض; لأن ما لا يكون معينا فهو في حكم المستهلك إذ لا طريق إلى التوصل إليه فإنه ما من مبيع يحضره إلا وللمشتري أن يقول المبيع غير هذا وتسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه فعرفنا أنه في حكم المستهلك وثمن المبيع المستهلك لا يكون واجبا إلا بعد القبض فكأنه أقر بالقبض, ثم رجع عنه يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا لا إلى غاية معلومة وهو إحضار المبيع ولا طريق للبائع إلى ذلك ولو ادعى أجل شهر أو نحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل, وإذا ادعى أجلا مؤبدا أولى أن يكون مصدقا في ذلك كذا في المبسوط. وذكر القاضي الإمام رحمه الله في الأسرار أن المطالبة بالثمن موجب العقد كنفس

(3/211)


المبيع غير مقبوض أحد محتمليه لا من العوارض كان بيانا مغيرا فصح موصولا ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن هذا رجوع وليس ببيان; لأن وجوب الثمن مقابلا بمبيع لا يعرف أثره دلالة قبضه والثابت بالدلالة مثله إذا ثبت بالصريح فإذا رجع لم يصح وهذا فصل يطول شرحه.وعلى هذا الأصل إيداع الصبي الذي يعقل
ـــــــ
الوجوب ولا تتأخر إلا بعارض يعترض على البيع أو يقارنه من تأجيل أو غيبة للمبيع كنفس الملك لا يتأخر إلا بعارض نحو شرط الخيار فيصير المقر ببيان ما يتأخر عنه المطالبة وهو قوله لم أقبضها مدعيا أمرا عارضا يرفع موجب العقد بعد ما لزمه موجبه بالإقرار بالبيع فلا يصدق كما لو ادعى الأجل في الثمن, وإذا لم يصدق بقي مطالبا بالثمن ولا يجب المطالبة والجارية غائبة إلا بعد القبض صار مقرا بالقبض. بخلاف ما إذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن هذه الجارية إلا أني لم أقبضها فإنه يصدق وصل أم فصل; لأن هذا البيان لا يغير موجب العقد ولا يتأخر به عن المطالبة وإنما يتأخر بإنكار الآخر البيع وامتناعه عن التسليم إليه, فأما لو صدقه على البيان فيطالب المشتري بتسليم الثمن أولا, ثم قبض الجارية وهاهنا لو صدقه ما بقيت مطالبة على المشتري ما لم تحضر الجارية ولا يلزم ما إذا قال غصبت من فلان ألف درهم إلا أنها ستوقة فإنه يصدق إذا وصل; لأن الغصب كما يرد على الدراهم الجيدة يرد على الدراهم الستوقة موجبة ضمان المغصوب فكان قوله إلا أنها ستوقة استثناء لبعض ما كان يلزمه بالإطلاق وهو الحقيقة فخرجت وبقي المجاز لا رجوعا عما أقر وكان بمنزلة قوله إلا مائة وكذلك قوله لفلان علي ألف درهم وديعة مصدق إذا وصل; لأنه بين أنه أراد بقوله علي التزام الحفظ لا العين وكلمة علي كلمة تتناولهما جميعا بحكم شمول الكلمة لا بحكم الشرع فما للشرع حكم متعلق بكلمة علي في لزوم قدر بعينه وإنما اللزوم بحكم اللغة ومن حكم اللغة أن المستثنى لا يدخل تحت الجملة إنكارا على ما عليه اللغة, فأما فيما نحن فيه فالسلامة عن العيب ووجوب المطالبة بالثمن حكم شرعي ثبت للبيع لا يتغير شرعا إلا بمعنى عارض وبدون العارض لا يتصور تغيره فلا يكون التغير بدعوى العارض إنكارا من الأصل بل يكون دعوى.
قوله "والثابت بالدلالة مثل الثابت بالصريح" يعني لما دل إقراره بوجوب الثمن بمقابلة جارية بكرة على القبض صار كأنه صرح بالإقرار بالقبض بأن قال علي ألف من ثمن جارية قبضتها فكان قوله بعد ذلك لم أقبضها رجوعا لا بيانا فيبطل, فإن قيل إنما يعتبر الدلالة إذا لم يعارضها صريح بخلافها وهاهنا قد صرح بآخر كلامه أنه لم يقبض فلا يثبت بالدلالة شيء في مقابلته كالضرورة إذا حج بنية النفل يكون متنفلا لا مفترضا لسقوط الدلالة بمقابلة الصريح على ما مر بيانه قلنا إنما تبطل الدلالة بالصريح إذا كانا

(3/212)


قال أبو يوسف هو من باب الاستثناء; لأن إثبات اليد والتسليط نوعان: الاستحفاظ وغيره فإذا نص على الإيداع كان مستثنى والاستثناء من المتكلم تصرف على نفسه فلا يبطل لعدم الولاية بل لا يثبت إلا الاستحفاظ ثم لا ينفذ الاستحفاظ
ـــــــ
في زمان واحد ليتحقق التدافع فيترجح الصريح على الدلالة فأما إذا كانا في زمانين فلا تدافع فيثبت موجب كل واحد منهما كما إذا حج ضرورة بنية النفل, ثم حج في سنة أخرى بمطلق النية يكون مفترضا في الثانية دلالة وهاهنا ثبت القبض بأول كلامه دلالة ولكن لا يمكن اعتبار الصريح; لأنه ليس في وسعه إبطال ما ثبت بالإقرار كما لو صرح بالقبض, ثم قال لم أقبض فيبطل الثاني ضرورة حتى لو كان في وسعه إبطال الأول ثبت موجب الصريح بأن منع من التقاط الثمار الساقطة تحت الأشجار ترتفع الإباحة الثابتة دلالة إذ في وسعه رفعها وإبطالها
قوله "وعلى هذا الأصل" أي على الاستثناء بنيت مسألة إيداع الصبي وهو إضافة المصدر إلى أحد المفعولين وحذف الآخر أي إيداع الصبي شيئا والخلاف فيما إذا أودع مالا سوى العبد والأمة صبيا عاقلا محجورا عليه فاستهلكه لا يضمن عند أبي حنيفة ومحمد ويضمن عند أبي يوسف والشافعي رحمهم الله, فإن هلك بغير صنعه لا ضمان عليه بالإجماع وإن قصر في الحفظ وإن كان مأذونا له في التجارة أو قبل الوديعة بإذن وليه فاستهلكها فهو ضامن بالإجماع وإن كان الوديعة عبدا أو أمة فقتله فالدية على عاقلته بالإجماع وإن كان الصبي غير عاقل فقد ذكر في بعض شروح الجامع الصغير أن الخلاف في العاقل وغير العاقل سواء فإن محمدا رحمه الله ذكر المسألة في الوديعة ولم يذكر, وقد عقل. وذكر القاضي الإمام فخر الدين وصدر الإسلام والإمام التمرتاشي في شروح الجامع الصغير والإمام الإسبيجابي رحمهم الله في المبسوط أن الخلاف فيما إذا كان عاقلا, فإن لم يكن عاقلا فلا يضمن في قولهم جميعا. وذكر الشيخ المصنف رحمه الله في شرح الجامع الصغير أن الخلاف في الصبي الذي يعقل فأما الذي لا يعقل فيجب أن يضمن بالإجماع; لأن تسليطه هدر وفعله معتبر. وجه قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله أن إيداعه من باب الاستثناء; لأن إثبات يد الغير على المال وتسليطه عليه يتنوع نوعين قد يكون للاستحفاظ, وقد يكون لغيره من الإباحة والتمليك والتوكيل ونحوها فإذا نص على الإيداع بقوله احفظه كان بيانا أنه أراد بالتسليط التمكين للحفظ لا غير وإن غير الاستحفاظ مستثنى مما تناوله مطلق التسليم; لأن الاستثناء يبين أن مراد المتكلم ما وراء المستثنى وهاهنا بهذه المثابة فكان استثناء معنى وفي بعض النسخ كان مستثنيا أي كان المودع بقوله احفظ مستثنيا لغير الاستحفاظ مما تناوله مطلق التسلط.

(3/213)


لعدم الولاية فيصير كالمعدوم, وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ليس هذا من باب الاستثناء; لأن التسليط فعل يوجد من المسلط فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه والفعل مطلق لا عام والمستثنى من خلاف جنسه فيصير ذلك من باب المعارضة فلا بد من تصحيحه شرعا ليعارضه ولم يوجد وصار هذا مثل قول الشافعي رحمه الله في الاستثناء,
ـــــــ
والاستثناء من المتكلم تصرف منه على نفسه مقصور عليه غير متناول لحق الغير; لأنه بيان المراد مما تكلم به وفي ولايته ذلك فلا يعتبر لصحته حال المخاطب أو ثبوت ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الاستحفاظ من هذا التسليط ولا يثبت به إلا الاستحفاظ, ثم لم يتعد إلى الصبي لعدم ولايته عليه فيسقط ويصير كالمعدوم أيضا وبعد ما عدم كلا النوعين الاستحفاظ لعدم الولاية وغير الاستحفاظ للاستثناء معنى صار كأن التسليط على المال لم يوجد أصلا وكأنه ألقاه على قارعة الطريق بالاستحفاظ من الصبي فإذا استهلكه كان بعد ضامنا; لأنه ضمان فعل لا ضمان عقد فيستوي فيه الصبي والبالغ كما لو استهلكه قبل الإيداع وكما لو كانت الوديعة عبدا فقتله الصبي فإنه يضمن, ولا يقال لما مكن الصبي من المال مع علمه أنه لا يحفظه ويتلفه كان تسليطا كما لو قرب الشحم إلى الهرة وقال لها لا تأكلي فإنه يكون تسليطا على الاستهلاك ويلغو نهيه; لأنا نقول الاختلاف في صبي يعقل الحفظ لا في صبي لا يعقله ألا ترى أن هذا الصبي لو بلغ أو أجازه الولي صار مودعا ولو كان الخطاب مع من لا يعقل لكان يلغو ولا يصح بالبلوغ والإجازة. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ليس هذا أي ليس هذا الإيداع من باب الاستثناء يعني قوله احفظ ليس باستثناء لغير الاستحفاظ; لأن التسليط فعل يوجد من المسلط بنقل اليد إلى الغير لا قول فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه; لأن الاستثناء يجري في الألفاظ لا في الأفعال ولا لفظ هاهنا يستثنى منه شيء على أن هذا الفعل وهو التسليط والدفع مطلق لا عام; لأن العموم لا يجري في الأفعال فلا يصح تنويعه إلى نوعين وبناء الاستثناء عليه ولئن سلمنا أنه عام فلا يمكن جعل كلامه استثناء منه حقيقة; لأن قوله احفظ كلام ليس من جنس الفعل ولا بد لحقيقة الاستثناء من المجانسة كذا قيل وللخصم أن يقول على هذا الحرف أنا لا أجعل قوله احفظ مستثنى من الفعل بل أجعل قوله احفظ دلالة على أنه استثناء غير الاستحفاظ من هذا الفعل معنى وليس في ذلك عدم مجانسة كما ترى فيصير ذلك في باب المعارضة أي يصير قوله احفظ معارضا لفعل التسليط يعني لو جعل احفظ استثناء لجعل استثناء منقطعا يعمل بطريق المعارضة. فلا بد من تصحيحه شرعا لتعارضه أي من تصحيح قوله أودعتك هذا الشيء فاحفظه لتعارض ذلك الفعل; لأن

(3/214)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
ما كان بطريق المعارضة يعتمد الصحة شرعا كدليل الخصوص إنما يكون معارضا إذا صح في نفسه شرعا ولم يوجد في حق الصبي; لأن صحته بكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد, وذلك في حق البالغ دون الصبي فيبقى التسليط مطلقا في حق الصبي والدليل عليه أن الصبي لو ضيع الوديعة لا يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله على أخذها والبالغ يضمن بمثله فعرفنا أن المعارض صحيح في حق البالغ دون الصبي ويحتمل أن يكون الواو في قوله والفعل وقوله والمستثنى للحال أي التسليط فعل فلا يصح استثناء ما وراء الاستحفاظ منه حقيقة والحال أن هذا الفعل مطلق لا عام وأن المستثنى من خلاف جنس المستثنى منه, ولما لم يمكن جعله استثناء حقيقيا لهذه الموانع يجعل استثناء منقطعا معارضا للمستثنى منه إن أمكن ولا يصح جعله معارضا أيضا لما ذكر فيبقى الفعل تسليطا مطلقا فلا يجب الضمان
"وصار هذا" أي كون هذا الاستثناء معارضا مثل قول الشافعي في الاستثناء الحقيقي فإنه يجعله معارضا كما جعلنا الاستثناء المنقطع معارضا واحتج محمد رحمه الله في الأصل بأنه صبي, وقد سلطه على الاستهلاك حين دفعه إليه قال شمس الأئمة رحمه الله وفي تفسير التسليط نوعان من الكلام: أحدهما أنه تسليط باعتبار العادة فإن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الأمور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالآذن له بالإتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون آذنا; لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقوله له لا تأكل. بخلاف العبد والأمة; لأنه ليس من عادة الصبيان القتل; لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم, وهذا بخلاف الدواب فإن من عادتهم إتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة والأصح أن يقول معنى التسليط تحويل يده في المال إليه فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه كان ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا إلا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ, وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي; لأنه التزام بالعقد والصبي ليس من أهله فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا, فإن قيل هذا تسليط وتمكين حسي والمعتبر هو التمكين شرعا, وذلك يكون بالملك ولم يوجد قلنا بالتمكين والتسليط حسا يحصل الرضاء بالإتلاف, وذلك كاف, ثم نقول المالك تمكن بيد حقيقة تفرعت على الملك وعين ما كان يتمكن به شرعا نقلت إلى المودع والنقل في الملك إن لم يوجد ففي اليد المتفرعة عن الملك قد وجد واليد تقبل

(3/215)


وعلى هذا الأصل قال أصحابنا رحمهم الله في كتاب الشركة في رجل قال لآخر بعت منك بألف هذا العبد إلا نصفه أن البيع يقع على النصف بألف, ولو قال على أن لي نصفه يقع على النصف بخمسمائة; لأن الاستثناء تكلم بالباقي وإنما دخل في المبيع لا في الثمن فيصير المبيع نصفا فيبقى كل الثمن وقوله على أن لي نصفه شرط معارض لصدر الكلام فيكون موجبه أن يعارض
ـــــــ
الفصل عن الملك كملك الثمرة تقبل الفصل عن ملك الشجرة, وإذا ثبت أن اليد التي كانت للمالك انتقلت إليه يتمكن منه شرعا بخلاف العبد والأمة فإن المالك باعتبار يده ما كان متمكنا من قبل الآدمي فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله. ولأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدم مبقى على أصل الحرية فلا يتناوله الإيداع والتسليط ثبت باعتباره بخلاف ما لو قال اقتل عبدي فقتله فإنه لا يضمن; لأن ذلك استعمال والاستعمال وراء التسليط فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا الموضع إن الصبي المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له أتلفه فذاك استعمال للصبي بالأمر ألا ترى أنه لو كان عبدا صار عاصيا بالاستعمال بأمره, وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام إن شئت ولو قال ذلك فأكله الصبي لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع على الذي قال له ذلك فهذا مثله كذا في المبسوط وغيره.
فإن قيل لو أودع رجلا مالا فأتلفه صبيه ضمن والإيداع عنده إيداع عند من يدخل في عياله. قلنا لأن القبول من المودع قبول على نفسه وعلى من يدخل في عياله أيضا كما يكون من رب الوديعة إيداعا إياه ومن يدخل في عياله فيصير الصبي على هذا مودعا بإذن وليه فيصير في حكم البالغ.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن الاستثناء تكلم بالباقي. أن البيع يقع على النصف أي نصف العبد بالألف. وإنما دخل أي الاستثناء في المبيع وهو العبد لا في الثمن وهو الألف; لأن الكناية تنصرف إلى ما هو المقصود في الكلام والمقصود هاهنا هو المبيع ولأنه ابتدأ في صدر كلامه بذكر المبيع والابتداء يقع بالأهم فكان هو المقصود فينصرف الضمير والاستثناء إليه لا إلى الألف والكلام المقيد بالاستثناء عبارة عما وراء المستثنى فصار كأنه قال بعت نصفه بألف درهم
وقوله "على أن لي نصفه شرط معارض" يعني صدر الكلام يتناول جميع العبد

(3/216)


هذا الإيجاب الأول فيصير العقد واقعا للبائع والمشتري فيصير بايعا من نفسه ومن المشتري, والبيع من نفسه صحيح بحكمه إذا أفاد وفي الدخول فائدة حكم التقسيم فيصير داخلا ثم خارجا ليخرج بقسطه من الثمن مثل من اشترى عبدين بألف درهم أحدهما ملك المشتري أن الثمن ينقسم عليهما. ألا ترى أن شراء مال المضاربة يصح بمباشرة رب المال.وعلى هذا الأصل رجل وكل وكيلا بالخصومة على أن لا يقر عليه أو غير جائز الإقرار بطل هذا الشرط عند أبي يوسف; لأن على قوله الإقرار يصير مملوكا للوكيل لقيامه مقام الموكل لا لأنه من الخصومة حتى لا يختص بمجلس الخصومة فيصير ثابتا بالوكالة حكما
ـــــــ
وقوله على أن لي نصفه ليس باستثناء بل هو عامل بطريق المعارضة للأول وهو يصلح معارضا; لأنه كلام مستبد بنفسه وموجبه على خلاف الأول كذا في بعض الشروح فيتبين بالمعارضة أنه جعل الإيجاب في نصفه للمخاطب وفي نصفه لنفسه, وذلك صحيح منه إذا كان مفيدا, وقد أفاد هاهنا تقسيم الثمن على المستثنى والمستثنى منه ولو لم يدخل النصف المشروط لنفسه في البيع لصار بيعا بالحصة ابتداء وأنه لا يجوز ولصار قبول العقد في غير المبيع شرطا لانعقاد العقد في المبيع وهو شرط فاسد فيفسد به البيع أيضا, ولا يمكن التقسيم فعرفنا أن في الدخول فائدة فوجب القول به كما في مسألة شراء مال المضاربة من المضارب. وذكر في بعض الشروح أن في قوله " شرط معارض " إشارة إلى أن كل الشروط ليست بمعارضة بل هي مانعة للعلة من العمل كما عرف ولكن هذا شرط معارض; لأن عمل كلمة " على " يخالف عمل " أن ", وقد بينا ذلك في مسألة التعليق بالشرط ألا ترى أنه لو قال بعتك إن كان لي نصفه لا يجوز العقد.
قوله "وعلى هذا الأصل" وهو أن الاستثناء بيان تغيير قلنا إذا وكل بالخصومة والمسألة على وجوه
أحدها أن يوكله بالخصومة من غير تعرض لشيء آخر فيصير وكيلا بالإنكار بالإجماع وبالإقرار في مجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي غير مجلس الحكم أيضا عند أبي يوسف رحمه الله, وقد مر بيانه في باب أحكام الحقيقة والمجاز.
والثاني أن يوكله بالخصومة غير جائز الإقرار عليه أو على أن لا يقر عليه بطل هذا الاستثناء عند أبي يوسف خلافا لمحمد رحمهما الله كذا ذكر الشيخ في شرح الجامع الصغير كما ذكر هاهنا. وذكر في المبسوط أن الاستثناء يصح في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يصح; لأن من أصله أن صحة الإقرار باعتبار أن الوكيل قام مقام

(3/217)


لا مقصودا فلا يصح استثناؤه ولا إبطاله بالمعارضة إلا بنقض الوكالة, وقال محمد رحمه الله استثناؤه جائز وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل; لأن الخصومة تناولت الإقرار عملا بمجازها على ما عرف وانقلب المجاز هنا بدلالة الديانة حقيقة وصارت الحقيقة كالمجاز فإذا استثنى الإقرار وقيد التوكيل كان بيانا مغيرا فصح
ـــــــ
الموكل فيملك ما كان الموكل مالكا له لا باعتبار أنه من الخصومة, والموكل يملك الإقرار بنفسه في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فكذا الوكيل, وإذا كان كذلك يصير الإقرار على الموكل ثابتا للوكيل حكما للوكالة لا مقصودا فلا يصح استثناؤه بقوله غير جائز الإقرار ولا إبطاله بالمعارضة بقوله على أن لا يقر علي; لأن من شروط صحة الاستثناء ثبوت المستثنى مقصودا بصدر الكلام ليمكن جعل الكلام بعد الاستثناء تكلما بالباقي فإذا ثبت حكما وتبعا لا يصح استثناؤه كما لو وكله بالبيع على أن لا يقبض الوكيل الثمن أو لا يسلم المبيع كان الاستثناء باطلا وكذلك استثناء أطراف الحيوان في البيع لا يجوز; لأنها تدخل في العقد تبعا لا مقصودا.
وقد نص في الهداية أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه, وهذا لأن صحة الإقرار لما ثبت حكما للوكالة ما دامت الوكالة باقية كان حكمها باقيا; لأن الشيء إذا بقي بقي بحكمه ولأن الاستثناء تصرف لفظي فيقتصر عمله على ما يتناوله اللفظ ولا يعمل فيما ثبت بطريق الحكم إلا بنقض الوكالة أي لا يملك إبطال إقراره عليه إلا بأن ينقض الوكالة بالعزل; لأنه لما ثبت حكما للوكالة ينتقض بانتقاضها. وقال محمد رحمه الله وهو ظاهر الرواية استثناؤه جائز وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل; لأنه لما جاز استثناء الإقرار لا يمكنه الوصول إلى حقه إلا بإقامة البينة وربما لا يتمكن من ذلك فلا يفيده مخاصمته فكان له أن لا يقبل ولجواز الاستثناء وجهان أحدهما أن الخصومة تتناول الإقرار عملا بمجازها; لأن الخصومة لما كانت مهجورة شرعا صار التوكيل بالخصومة توكيلا بالجواب مجازا; لأن توكيله إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه والذي تيقن بأنه مملوك للموكل الجواب لا الإنكار فإنه إذا عرف المدعي محقا لا يملك الإنكار شرعا وتوكيله بما لا يملك لا يجوز شرعا فحملناه على هذا النوع من المجاز كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده, وإذا صار توكيلا بالجواب يدخل فيه الإقرار والإنكار; لأن الإقرار جواب تام كالإنكار, ثم هذا المجاز انقلب حقيقة شرعية بدلالة الديانة فإنها تحمله على الجواب الواجب وتمنعه عن الإنكار عند معرفته المدعي محقا وصارت الحقيقة وهي الخصومة كالمجاز فلما استثنى الإقرار تبين أنه صرف الكلام من الحقيقة التي هي مطلق الجواب إلى المجاز وهو الإنكار والخصومة وقيد التوكيل به, وتقييد الإطلاق تغيير له بلا شبهة فكان استثناء الإقرار بيانا مغيرا فيصح

(3/218)


موصولا وعلى هذا يجب أن لا يصح مفصولا إلا أن يعزله أصلا; لأنه عمل بحقيقة اللغة فصح فلم يكن استثناء في الحقيقة وعلى هذا يصح مفصولا وهو اختيار الخصاف واختلف في استثناء الإنكار والأصح أنه على هذا الاختلاف على الطريق الأول لمحمد رحمه الله.
ـــــــ
موصولا ويجب أن لا يصح مفصولا إلا أن يعزل الوكيل عن الوكالة فحينئذ يسقط الإقرار ببطلان الوكالة. وقوله أصلا لدفع وهم من يتوهم أن الإقرار يسقط بعزله عن الإقرار وإن لم يسقط بالاستثناء منفصلا كمن وكل رجلا ببيع عبدين لا يصح استثناء أحدهما منفصلا ويصح عزله عن بيع أحدهما عينا فقال لا يسقط الإقرار هاهنا بعزله عنه كما لا يسقط بالاستثناء منفصلا; لأن الإقرار ثبت له حكما للوكالة فما لم يعزله عن الوكالة لا يسقط الإقرار والوجه الثاني أن صحة إقرار الوكيل باعتبار ترك حقيقة اللفظ إلى نوع من المجاز إذ الإقرار مسالمة وليس بخصومة فهو بقوله غير جائز الإقرار تبين أن مراده حقيقته اللغوية وهي الخصومة لا مطلق الجواب الذي هو مجاز بمنزلة بيع أحد الشريكين نصف العبد شائعا من النصيبين لا ينصرف إلى نصيبه خاصة عند التنصيص عليه بخلاف ما إذا أطلق فلم يكن هذا استثناء حقيقة بل كان بيان تقرير فيصح موصولا ومفصولا. والثالث أن يوكله بالخصومة غير جائز الإنكار عليه, وقد اختلف فيه فقال بعضهم لا يصح استثناء الإنكار بالاتفاق; لأنه يؤدي إلى تعطيل اللفظ فإن فيه إبطال حقيقته ومجازه فإن حقيقته المنازعة وهي تحصل بالإنكار ومجازه الجواب وهو يشمل الإقرار والإنكار فباستثناء الإنكار تعذر العمل بهما جميعا فيبطل وقال بعضهم هو على الخلاف أيضا وهو الأصح; لأنه لما صار عبارة عن الجواب والجواب يشمل الإنكار والإقرار جميعا صح استثناء الإنكار كما يصح استثناء الإقرار وينبغي أن يشترط الوصل; لأنه تقييد للإطلاق. وهذا معنى قوله على الطريق الأول لمحمد ولا يستقيم تخريجه على الطريق الثاني; لأنه ليس عملا بالحقيقة بوجه. وذكر في المبسوط ولو استثنى الإنكار فقال غير جائز الإنكار علي صح عند محمد خلافا لأبي يوسف رحمهما الله; لأن إنكار الوكيل قد يضر الموكل بأن كان المدعي وديعة أو بضاعة فأنكر الوكيل لم يسمع منه دعوى الرد والهلاك بعد صحة الإنكار ويسمع ذلك منه قبل الإنكار فإذا كان إنكاره قد يضر الموكل صح استثناؤه الإنكار كما يصح استثناؤه الإقرار والرابع أن يقول وكلتك بالخصومة غير جائز الإقرار والإنكار قالوا لا يصح هذا التوكيل أصلا وحكي عن القاضي الإمام صاعد النيسابوري1 أنه قال يصح
ـــــــ
1 هو القاضي صاعد بن محمد بن أحمد بن عبدالله الاستوائي "343 – 432هـ".أنظر الفوائد البهية 83 – 84.

(3/219)


--------------------------------------------------------
ـــــــ
ويصير الوكيل وكيلا بالسكوت في مجلس الحكم حتى يسمع عليه البينة. والخامس أن يوكله بالخصومة جائز الإقرار عليه يصير وكيلا بالخصومة والإقرار جميعا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله, ثم التوكيل بالإقرار صحيح ولا يصير الموكل مقرا عندنا إليه أشار محمد في باب الوكالة بالصلح وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي1 رحمه الله أن معنى التوكيل بالإقرار هو أن يقول للوكيل وكلتك أن تخاصم وتذب علي فإذا رأيت مذمة تلحقني بالإنكار واستصوبت الإقرار فأقر علي فإني قد أجزت لك. كذا في المغني والله أعلم
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد بن حامد أبو بكر الطواويسي الفقيه الحنفي المتوفي سنة 344هـ.الفوائد البهية ص 31.

(3/220)