كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب بيان الضرورة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وهذا نوع من البيان يقع بما لم يوضع له وهذا على أربعة أوجه نوع منه ما هو في حكم المنطوق ونوع منه ما يثبت بدلالة حال المتكلم, ونوع منه ما يثبت بضرورة الدفع, ونوع منه ما يثبت بضرورة الكلام أما النوع الأول فمثل قول الله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] صدر الكلام أوجب الشركة ثم تخصيص الأم بالثلث دل على أن الأب يستحق الباقي فصار بيانا لقدر نصيبه بصدر الكلام لا بمحض السكوت ونظير ذلك قول علمائنا رحمهم الله في المضاربة: إن بيان نصيب المضارب
ـــــــ
"باب بيان الضرورة"
أي البيان الذي يقع بسبب الضرورة فكأنه أضاف الحكم إلى سببه بما لم يوضع له وهو السكوت نوع منه ما هو في حكم المنطوق أي النطق يدل على حكم المسكوت فكان بمنزلة المنطوق وقوله: بدلالة حال المتكلم مجاز أي بدلالة حال الساكت المشاهد وكأنه لما جعل سكوته بمنزلة الكلام سمى نفسه متكلما ضرورة الدفع أي دفع الغرور كان بيانا بصدر الكلام لا بمحض السكوت يعني لم يحصل هذا البيان بمجرد السكوت عن نصيب الأب بل بدلالة صدر الكلام وهو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} " يصير نصيب الأب كالمنصوص عليه عند ذكر نصيب الأم كأنه قيل فلأمه الثلث ولأبيه ما بقي قوله: "ونظير ذلك" أي مثال هذا النوع من المسائل ما إذا بين رب المال نصيب المضارب من الربح ولم يبين نصيب نفسه بأن قال: خذ هذا المال مضاربة على أن لك من الربح نصفه جاز العقد قياسا واستحسانا لأن المضارب هو الذي يستحق بالشرط وإنما الحاجة إلى بيان نصيبه خاصة وقد حصل ولو بين نصيب نفسه من الربح ولم يبين نصيب

(3/221)


والسكوت عن نصيب رب المال صحيح للاستغناء عن البيان, وبيان نصيب رب المال والسكوت عن نصيب المضارب صحيح استحسانا على أنه بيان بالشركة الثابتة بصدر الكلام وعلى هذا حكم المزارعة أيضا وعلى هذا إذا أوصى رجل لفلان وفلان بألف لفلان منها أربعمائة كان بيانا أن الستمائة للباقي, وكذلك إذا أوصى لهما بثلث ماله على أن لفلان منه كذا. وأما النوع الثاني فمثل السكوت من صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم عند أمر يعاينه عن التغيير يدل على الحقية عليه.
ـــــــ
المضارب فقال: خذ هذا المال مضاربة على أن لي نصف الربح ولم يسم للمضارب شيئا جاز العقد استحسانا وفي القياس لا يجوز لأنه لم يبين ما هو المحتاج إليه وهو نصيب المضارب من الربح وإنما ذكر ما لا يحتاج إليه وهو نصيب نفسه لأنه لا يستحق بالشرط وليس من ضرورة اشتراط النصف له اشتراط ما بقي للمضارب فإن ذلك مفهوم والمفهوم ليس بحجة للاستحقاق ومن الجائز أن يكون مراده اشتراط بعض الربح لعامل آخر يعمل معه بخلاف ما إذا بين نصيب المضارب خاصة لأنه ذكر ما يحتاج إلى ذكره وهو بيان نصيب من يستحق بالشرط. ووجه الاستحسان أن عقد المضاربة عقد شركة في الربح والأصل في المال المشترك أنه إذا بين نصيب أحد الشريكين كان ذلك بيانا في حق الآخر أن له ما بقي كما بينا في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فها هنا لما دفع المال إليه مضاربة كان ذلك تنصيصا على الشركة بينهما في الربح وهو معنى قوله بالشركة الثابتة بصدر الكلام, فإذا قال على أن لي نصف الربح صار كأنه قال: ولك ما بقي فصح العقد كما لو صرح بذلك وهذا عمل بالمنصوص لا بالمفهوم وهو المراد من قوله هو في حكم المنطوق
قوله "وعلى هذا حكم المزارعة أيضا" يعني إذا لم يسم نصيب صاحب البذر وسمى نصيب العامل بأن قال على أن لك ثلث الخارج فهو جائز قياسا واستحسانا; لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فلا بد من بيان نصيبه ليثبت الاستحقاق له بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه, وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر بأن قال على أن لي ثلثي الخارج وسكت عن نصيب المزارع ففي القياس لا يجوز; لأنهم ذكروا ما لا حاجة إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد, ومن لا بذر من قبله يستحق بالشروط فبدونه لا يستحق شيئا. وفي الاستحسان الخارج مشترك بينهما والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيانا أن الباقي للآخر فكأن صاحب البذر قال على أن لي ثلثي الخارج ولك ثلثه كذا في المبسوط.
قوله "وأما النوع الثاني" وهو السكوت الذي يكون بيانا بدلالة حال المتكلم فمثل

(3/222)


ويدل في موضع الحاجة إلى البيان على البيان مثل سكوت الصحابة رضوان الله عليهم عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور وما أشبه ذلك
ـــــــ
سكوت صاحب الشرع عند أمر يعاينه من قول أو فعل عن التغيير يدل خبر مبتدإ محذوف أي هو يدل على الحقيقة مثل ما شاهد من بياعات ومعاملات كان الناس يتعاملونها فيما بينهم ومآكل ومشارب وملابس كانوا يستديمون مباشرتها فأقرهم عليها ولم ينكرها عليهم فدل أن جميعها مباح في الشرع إذ لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقر الناس على منكر محظور فإن الله تعالى وصفه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله عز ذكره {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف] فكان سكوته بيانا أن ما أقرهم عليه داخل في المعروف خارج عن المنكر.
وذكر في في بعض نسخ أصول الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا علم بفعل أو قول صدر عن مكلف وسكت عنه وقرره ولم ينكر عليه مع كونه قادرا على الإنكار فلا يخلو إما أن يكون من الأفعال والأقوال التي سبق من النبي عليه السلام النهي عنها وتحريمها ومن المباشر الإصرار عليها واعتقاد إباحتها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول كسكوته عند رؤيته كافرا يمشي إلى كنيسة عن الإنكار فلا يدل على جواز ذلك الفعل ولا على كون النهي منسوخا بالاتفاق وإن كان الثاني فقد اختلف فيه قال قوم إن لم يسبقه تحريم فتقريره دل على الجواز ونفي الحرج, وإن سبقه تحريم فتقريره يدل على النسخ وذهبت طائفة إلى أن تقريره لا يدل على الجواز والنسخ متمسكين بأن السكوت وعدم الإنكار محتمل إذ من الجائز أنه عليه السلام سكت لعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلم يكن الفعل عليه إذ ذاك حراما أو سكت; لأنه أنكر عليه مرة فلم ينجح فيه الإنكار وعلم أن إنكاره ثانيا لا يفيد فلم يعاود وأقره على ما كان عليه, وإذا كان كذلك لا يصلح دليلا على الجواز والنسخ
وحجة الفريق الأول أن سكوته عليه السلام لو لم يدل على الجواز إن لم يسبق تحريم وعلى النسخ إن سبق لزم ارتكاب محرم وهو باطل, وذلك لأن الفعل أو القول الصادر لو لم يكن جائزا لكان التقرير عليه والسكوت عن الإنكار مع القدرة عليه حراما في حق غير النبي فكيف في حقه مع قوله عليه السلام "الساكت عن الحق شيطان أخرس" وفيه أيضا تأخير البيان عن وقت الحاجة; لأن السكوت عن الباطل يوهم الجواز أو النسخ وأنه غير جائز بالإجماع إلا عند من يجوز تكليف المحال وقولهم: يحتمل أنه لم يبلغه التحريم فاسد; لأن عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار والإعلام بأن تلك الفعل أو القول حرام بل الإعلام بالتحريم واجب حتى لا يعود إليه ثانيا وإلا كان السكوت موهما عدم التحريم أو النسخ وكذا إذا بلغه التحريم ولم ينزجر بالإنكار مرة مع كونه مسلما

(3/223)


وسكوت البكر في النكاح يجعل بيانا لحالها التي توجب ذلك وهو الحياء
ـــــــ
متبعا للنبي عليه السلام يجب تجديد الإنكار دفعا للتوهم المذكور وهذا بخلاف اختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم; لأنهم غير متبعين له ولا معتقدين تحريم ذلك فلا يتوهم نسخ ذلك بسكوت النبي عليه السلام عن الإنكار عليهم
قوله "ويدل في موضع الحاجة" إلى كذا لا يخلو عن اشتباه; لأن ضمير يدل إن رجع إلى ما رجع إليه ضمير يدل الأول لانعطافه عليه بواسطة الواو على معنى أن سكوت النبي عليه السلام يدل على الحقيقة وعلى البيان في موضع الحاجة إليه لا يطابقه المثال المذكور وهو سكوت الصحابة, وإن جعل ضميره لمطلق السكوت كما هو مراد المصنف يأباه العطف إذ لا بد في العطف من تقدير ما قدر في المعطوف عليه في المعطوف ولو قرئ مثل بالنصب على معنى أن سكوت النبي عليه السلام يدل على كذا مثل دلالة سكوت الصحابة عليه لا يستقيم أيضا; لأن فيه اعتبار سكوت النبي عليه السلام بسكوتهم وهو قلب الأصل. ولو جعل مثل معطوفا على " مثل " الأول بغير واو وهو جائز عند بعض النحاة على ما هو المذكور في التيسير وقد بينا ذلك في أول الكتاب لاستقام وصار موافقا لعبارة شمس الأئمة رحمه الله حيث قال: وأما النوع الثاني فنحو سكوت صاحب الشرع إلى أن قال وكذلك سكوت الصحابة المغرور من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح على ظن أنها حرة فتلد منه ثم تستحق وولده هذا حر بالقيمة فإن يزيد بن عبد الله بن فسيط قال: أبقت أمة فأتت بعض القبائل فانتمت إلى بعض قبائل العرب وتزوجها رجل من بني عذرة فنثرت وأبطنها ثم جاء مولاها فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقضى بها لمولاها وقضى على أبي الأولاد أن يفدي أولاده الغلام بالغلام والجارية بالجارية أي الغلام بقيمة الغلام والجارية بقيمة الجارية فإن الحيوان ليس بمضمون بالمثل في الشرع وهكذا روي عن علي رضي الله عنه في فضل الشراء وكان ذلك بمحضر عامة الصحابة رضي الله عنهم فكان بمنزلة الإجماع منهم ثم إنهم حكموا برد الجارية على مولاها وبكون الولد حرا بالقيمة وبوجوب العقر وسكتوا عن بيان قيمة منفعة بدل ولد المغرور ووجوبها للمستحق على المغرور فيكون سكوتهم دليلا على أن المنافع لا تضمن بالإتلاف المجرد عن العقد وعن شبهة العقد بدلالة حالهم; لأن المستحق جاء طالبا حكم الحادثة وهو جاهل بما هو واجب له وكانت هذه الحادثة أولى حادثة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوا فيه نصا فكان يجب عليهم البيان بصفة الكمال والسكوت بعد وجوب البيان دليل النفي كذا قال شمس الأئمة رحمه الله. وما أشبه ذلك أي وما أشبه تقويم منفعة بدون الولد من تقويم منافع الجارية المستحقة وخدمتها وإكسائها فإنهم لما سكتوا عن بيان حكمها

(3/224)


والنكول جعل بيانا لحال في الناكل وهو امتناعه عن أداء ما لزمه مع القدرة عليه وهو اليمين وقلنا في أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة: إنه إذا ادعى أكبرهم كان نفيا للباقين بحال منه وهو لزوم الإقرار لو كانوا منه.وأما الثالث فمثل المولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري فجعل إذنا دفعا للغرور عن
ـــــــ
مع الحاجة إليه كان بيانا أنها ليست بمتقومة أو ما أشبه ذلك من سكوتهم في تقدير الحيض عما فوق العشرة مع أنه موضع الحاجة إلى البيان توجب ذلك أي توجب كونه بيانا وهو الحياء الضمير راجع إلى الحال وتذكيره باعتبار تذكير الخبر أي تلك الحال هي الحياء على ما أشارت إليه عائشة رضي الله عنها في قولها: "إن البكر لتستحيي يا رسول الله" فجعل سكوتها دليلا على جواب يحول الحياء بينها وبين التكلم به وهو الإجازة التي يكون فيها إظهار الرغبة في الرجال وكذلك النكول أي ومثل سكوت البكر وهو امتناع المدعى عليه عن الحلف بعد توجه اليمين عليه من نكل القرن إذا تأخر عن محاربة صاحبه جعل بيانا أي إقرارا بوجوب المدعى به عليه عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لحال في الناكل وهو أي تلك الحال امتناعه عن أداء ما لزمه مع القدرة عليه وهو اليمين فإنها قد لزمته بقوله عليه السلام: "واليمين على من أنكر" فلا يكون امتناعه عن أدائها بعد الوجوب مع القدرة عليه إلا للاحتراز عن الوقوع في أمر أعظم منه وهو اليمين الكاذبة إذ المسلم لا يمتنع عن أداء الواجب إلا لأمر أعظم منه على ما يدل عليه حاله فيكون إقرارا بهذه الدلالة إلا أن أبا حنيفة رحمه الله لم يجعله إقرارا; لأن الامتناع كما يدل على الاحتراز عن اليمين الكاذبة يدل على الاحتراز عن نفس اليمين والفداء عنها اقتداء بالصحابة وعملا بظاهر قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224], وإنما وجبت عليه اليمين لمعنى في غيرها وهو رعاية حق المدعي لا لذاتها ويحصل ذلك المعنى ببدل ما ادعى له فيحمل امتناعه عن اليمين على اختيار البذل والفداء لا الإقرار والامتناع عن أداء الواجب إذ الوجوب منتف على تقدير البذل احترازا عن نسبته إلى الكذب كان نفيا للباقين لحال فيه يعني كان تخصيصه الأكبر وسكوته عن دعوة الآخرين نفيا للباقين بدلالة حال فيه وهي أن الإقرار بنسب ولد هو منه واجب وأن نفي نسب ولد ليس منه عن نفسه واجب أيضا, فإذا سكت عن بيان نسب الآخرين بعدما وجب عليه الإقرار بثبوته لو كانا منه كان دليل النفي; لأنه موضع الحاجة إلى البيان فيجعل ذلك كالتصريح بالنفي ولا يقال: إن الجارية صارت أم ولد بدعوة الأكبر فينبغي أن يثبت نسب الآخرين بالسكوت; لأنهما ولدا أم ولد; لأنا نقول: إنما يثبت نسب ولد أم الولد بالسكوت إذا لم يقارنه نفي وهاهنا قد دل السكوت على النفي بدلالة حاله كما ذكرنا فلا يثبت به النسب.

(3/225)


--------------------------------------------------------
ـــــــ
قوله "وأما الثالث" وهو السكوت الذي جعل بيانا ضرورة دفع الغرور فمثل المولى إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت عن النهي كان سكوته إذنا له في التجارة عندنا. وقال الشافعي: رحمه الله لا يكون إذنا; لأن سكوته عن النهي محتمل قد يكون للرضاء بتصرفه وقد يكون لفرط الغيظ وقلة الالتفات إلى تصرفه لعلمه أنه محجور عن ذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة كمن رأى إنسانا يبيع ماله فسكت ولم ينهه لا ينفذ ذلك التصرف بسكوته والدليل عليه أن هذا التصرف الذي يباشره لا ينفذ بسكوت المولى فإنه إذا رآه يبيع شيئا من ملكه لا ينفذ هذا التصرف فكيف يصير مأذونا في سائر التصرفات فالحاجة إلى رضاه مسقط لحق المولى عن مالية رقبته وذلك لا يحصل بالسكوت كمن رأى آخر يتلف ماله فسكت لا يسقط الضمان بسكوته وهذا بخلاف سكوت البكر فإن ذلك محتمل ولكن قام الدليل الموجب لترجيح الرضاء فيه وهو أن لها عند تزويج المولى كلامين لا ونعم والحياء يحول بينها وبين نعم لما بينا ولا يحول بينها وبين لا فكان سكوتها دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك ولا يوجد مثل لا لك ها هنا فلا يترجح جانب الرضاء وكذلك سكوت الشفيع عن الطلب فإنه لا حق للشفيع قبل الطلب, وإنما له أن يثبت حقه بالطلب, فإذا لم يطلب لم يثبت حقه وهاهنا حق المولى في مالية الرقبة ثابت, وإنما الحاجة إلى الرضاء المسقط لحقه ونحن نقول لو لم يكن سكوت المولى عن النهي إذنا له بالتجارة أدى إلى الضرر والغرور ودفعهما واجب لقوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منا1" . وذلك لأن الناس يعاملون العبد ولا يمتنعون منها عند حضور المولى إذا كان ساكتا, فإذا لحقه ديون ثم قال المولى: كان عبدي محجورا عليه بتأخر الديون إلى وقت عتقه ولا يدري متى يعتق وهل يعتق أو لا يعتق فيكون آتوا حقوقهم ويلحقهم فيه من الضرر ما لا يخفى ويصير المولى غارا لهم فلدفع الضرر والغرور جعلنا سكوته بمنزلة الإذن له في التجارة. والسكوت محتمل كما قال ولكن دليل العرف يرجح جانب الرضاء فالعادة أن من لا يرضى بتصرف عبده يظهر النهي إذا رآه يتصرف ويؤدبه على ذلك وربما يستحق عليه ذلك شرعا لدفع الضرر والغرور فبهذا الدليل رجحنا جانب الرضا لدفع الضرر عن المشتري والدليل عليه أنه بعدما أذن له في أهل سوقه لو حجر عليه في بيته لم يصح حجره لدفع الضرر والغرور
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 101 ،والترمذي في البيوع حديث رقم 1315 ،وأبو داود في الإجارة حديث رقم 3452 ،وابن ماجة في التجارات حديث رقم 2224 والإمام أحمد في المسند 2/242.

(3/226)


الناس وكذلك سكوت الشفيع جعل ردا لهذا المعنى.فأما الرابع فمثل قول علمائنا رحمهم الله في رجل قال: لفلان علي مائة ودينار أو مائة ودرهم أن العطف جعل بيانا للأول وجعل من جنس المعطوف, وكذلك لفلان علي مائة وقفيز حنطة وقال الشافعي رحمه الله: القول قوله في المائة; لأنها مجملة فإليه
ـــــــ
فلما سقط اعتبار حجره نصا لدفع الضرر فلأن يسقط احتمال عدم الرضاء من سكوته لدفع الضرر عن الناس كان أولى وقوله هذا التصرف بسكوت المولى لا ينفذ قلنا: لأن في هذا التصرف إزالة ملك المولى عما يبيعه وفي إزالة ملكه ضرر متحقق للحال فلا يثبت بسكوته وليس في ثبوت الإذن ضرر متحقق على المولى في الحال فقد يلحقه الدين وقد لا يلحقه ولو لم يثبت الإذن به لتضرر الناس الذي يعاملونه وكذا لا يثبت الرضاء بالسكوت إذا رأى إنسانا يتلف ماله; لأن الضرر متحقق في الحال وسكوته لا يكون دليل التزام الضرر حقيقة.
قوله "وكذلك سكوت الشفيع جعل ردا لهذا المعنى" أي ومثل سكوت المولى سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع جعل ردا للشفعة لهذا المعنى وهو دفع الغرور عن المشتري فإنه يحتاج إلى التصرف في المشترى, فإذا لم يجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطا لها, فإما أن يمتنع المشتري من التصرف أو ينقض الشفيع عليه تصرفه فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة, وإن كان السكوت في أصله غير موضوع للبيان بل هو ضده كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله ولأن الشفعة شرعت لدفع ضرر الدخيل عن نفسه فإذا سكت فقد رضي بالتزام الضرر على نفسه.
قوله "وأما النوع الرابع" وهو السكوت الذي جعل بيانا لضرورة الكلام فكذا والخلاف ليس في هذا الأصل فإن الشافعي رحمه الله يوافقنا في أن السكوت يجعل بيانا لصيرورة الكلام كما في عطف الجملة الناقصة على الكاملة وكما في عطف العدد المفسر على المبهم إنما الخلاف في هذه المسألة فعندنا هي مبنية على هذا الأصل وعنده ليست بمبنية عليه وجه قول الشافعي رحمه الله وهو القياس أنه أبهم الإقرار بالمائة وقوله ودرهم ليس بتفسير له; لأنه عطف عليه بحرف الواو والعطف لم يوضع للتفسير لغة ألا ترى أن من شرط صحة العطف المغايرة حتى لم يجز عطف الشيء على نفسه ومن شرط صحة التفسير أن يكون عين المفسر فإن الدراهم في قوله عشرة دراهم عين العشرة لا غيرها فكيف يصلح العطف مفسرا يوضحه أن المعطوف وهو الدرهم واجب عليه مثل المعطوف عليه وهو المائة ولو كان تفسيرا لها لم يجب به شيء كما لو قال مائة درهم; لأن الوجوب بالمفسر لا بالتفسير وإذا لم يصلح العطف مفسرا بقيت المائة مجملة

(3/227)


بيانها والعطف لا يصلح بيانا; لأنه لم يوضع له كما إذا قال مائة وثوب وشاة ومائة وعبد ووجه قولنا أن هذا يجعل بيانا عادة ودلالة أما العادة فلأن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف ضرورة كثرة العدد وطول الكلام يقول الرجل: بعت منك هذا بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما وبمائة ودرهم ودرهمين على السواء, وليس كذلك حكم ما هو غير مقدر; لأنه لا يثبت دينا في الذمة ثبوت الأول. وأما الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء
ـــــــ
فيكون القول بالمفسر لا بالتفسير.وإذا لم يصلح العطف مفسرا بقيت المائة مجملة فيكون القول قوله في بيانها كما في قوله مائة وثوب ومائة وشاة ومائة وعبد بخلاف قوله على مائة وثلاثة دراهم; لأنه عطف أحد العددين المبهمين على الآخر. ثم فسره بالدراهم فينصرف التفسير إليهما لحاجة كل واحد منهما إلى التفسير كما لو قال: مائة وثلاثة أثواب ألا ترى أنه لا يلزمه بقوله دراهم زيادة على المذكور ويلزمه بقوله ودرهم زيادة على المائة لما قلنا وجه قولنا وهو الاستحسان أن هذا أي قوله ودرهم أو دينار جعل بيانا عادة ودلالة أي عرفا واستدلالا. وقيل العادة يستعمل في الأفعال والعرف يستعمل في الأقوال كما في قوله لا أضع قدمي أما العادة فلأن حذف المعطوف عليه أي حذف تفسير المعطوف عليه وتمييزه في العدد متعارف إذا كان في المعطوف دليل عليه بأن كان مفسرا بقول الرجل: بعت هذا منك بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما أي بمائة درهم وعشرة دراهم وبمائة درهم وعشرين درهما. وفائدة إيراد النظيرين جواز حذف مميز المائة سواء كان مميز المعطوف بلفظ الفرد أو بلفظ الجمع وبمائة ودرهم ودرهمين على السواء يعني كما يقال بمائة وعشرة دراهم وبمائة وعشرين درهما ويراد بالجميع الدراهم يقال أيضا بمائة ودرهم وبمائة ودرهمين ويراد بالكل الدراهم من غير فرق فلما صلح عطف الدرهم على المائة في البيع مفسرا لها باعتبار العرف كما صلح عطف العدد المفسر لذلك يصلح عطفه عليها مفسرا لها في الإقرار أيضا كما صلح عطف العدد المفسر لذلك وليس كذلك أي كعطف الدراهم على المائة عطف ما ليس بمقدر مثل الثوب والشاة عليها فإن عطفه ليس بمفسر لها; لأن ما ليس بمقدر لا يثبت دينا في الذمة مثل ثبوت ما هو مقدر يعني الموجب للحذف كثرة الاستعمال التي هي من أسباب التخفيف وهي إنما تتحقق في المقدر الذي يثبت دينا في الذمة حالا ومؤجلا; لأنه لما ثبت دينا في الذمة كثر العقود والمبايعات به, فأما غير المقدر فلم يوجد فيه كثرة الاستعمال; لأنه لما لم يجب دينا في الذمة إلا في عقد خاص وهو السلم أو فيما هو في معناه وهو البيع بالثياب الموصوفة مؤجلا لم يقع العقود والمعاملات به وبكثرة الوجوب في الذمة في المعاملات

(3/228)


واحد كالمضاف مع المضاف إليه للتعريف فإذا صلح العطف للتعريف صح الحذف في المضاف إليه بدلالة العطف والعطف إذا كان من المقدرات صلح للتعريف فجعل دليلا على المضاف إليه وإذا لم يكن مقدرا مثل الثوب والفرس لم يصلح للتعريف فلم يصلح دليلا على المحذوف واتفقوا
ـــــــ
جاز الحذف وصار العطف مفسرا, فإذا لم يوجد بقيت المائة مجملة فيرجع في تفسيرها إليه
وحاصله أن جواز الحذف ودلالة المعطوف عليه بكثرة الاستعمال وهي توجد في المقدر دون غيره.
وأما الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء واحد كالمضاف مع المضاف إليه بدليل اتحادهما في الإعراب واشتراكهما في الخبر والشرط إذا كان المعطوف ناقصا حقيقة أو تقديرا على ما مر بيانه ولهذا لم يحل الذبيحة إذا قيل بسم الله ومحمد رسول الله بالجر لحصول الاشتراك في التسمية وكذا العطف يقتضي المجانسة حتى لم يجز عطف الاسم على الفعل وكذا عكسه ثم المضاف إليه يعرف المضاف حتى صار الدار والعبد في قولك دار فلان وعبد فلان معرفا بالمضاف إليه فكذا المعطوف إذا صلح للتعريف يعرف المعطوف عليه أي يرفع إبهامه باعتبار أنهما كشيء واحد.
وقوله: "فإذا صلح العطف" أي المعطوف للتعريف "صح الحذف في المضاف" إليه معناه صح حذف المضاف إليه في المعطوف عليه بدلالة العطف فإن المحذوف في قوله: علي مائة ودرهم والدرهم المضاف إليه أي على مائة درهم ودرهم والعطف أي المعطوف إذا كان من المقدرات صلح للتعريف يعني صلاحية المعطوف لتعريف المعطوف عليه وتفسيره ودلالته على المحذوف إنما يثبت إذا كان المعطوف من المقدرات التي تثبت ديونا في الذمة على الإطلاق ليطابق قوله علي مائة فإن موجبه اللزوم في الذمة على الإطلاق, فأما إذا لم يكن مقدرا مثل الثوب فإنه لا يثبت دينا في الذمة إلا في السلم والفرس مائة لا يثبت دينا في المبايعات أصلا فلا يصلح دليلا على المحذوف وتفسيرا للمائة; لأن قوله: علي مائة عبارة عما يثبت في الذمة مطلقا ثبوتا صحيحا ليس وما ليس بمقدر كذلك فلهذا لا يصير المعطوف عليه مفسرا بالمعطوف. وتبين بما ذكرنا أنا لم نجعل المعطوف تفسيرا للمائة حقيقة بل جعلناه دليلا على المحذوف الذي هو تفسير وتمييز للمائة فلا يلزم علينا ما ذكر الخصم أن من شرط التفسير أن يكون عين المفسر والمعطوف ليس كذلك وذكر في الأسرار في تقرير هذه المسألة أن الأصل في العطف هو الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر كقولك: جاء زيد وعمرو وهذه طالق وهذه والتفسير للمجمل

(3/229)


في قول الرجل: لفلان علي أحد وعشرون درهما أن ذلك كله دراهم; لأن العشرون مع الآحاد معدود مجهول فصح التعريف بالدرهم وكذلك إذا قال أحد وعشرون شاة أو ثوبا وأجمعوا في قوله لفلان علي مائة وثلاثة دراهم فصاعدا أن المائة من الدراهم; لأن الجملتين جميعا أضيفتا إلى الدراهم فصار بيانا وكذلك إذا قال مائة وثلاثة أثواب وثلاثة شياه وقد قال أبو يوسف رحمه الله في قوله لفلان علي مائة وثوب أو مائة وشاة أنه يجعل بيانا; لأن العطف دليل الاتحاد مثل الإضافة فكل جملة تحتمل القسمة فإنها تحتمل الاتحاد فلذلك
ـــــــ
يجري مجرى الخبر على الابتداء لتوقف فهم المقصود عليه توقفه على الخبر فيقتضي صحة العطف الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه فيما هو تفسير كما يقتضي الشركة فيما هو خبر كما لو أخر التفسير عن العددين جميعا فإنه إذا أخره أو جعل العدد بنفسه مفسرا سواء في أنه يصير عددا مفسرا. فأما إذا قال: لفلان علي مائة وثوب فقوله وثوب ليس بمفسر; لأن الثياب مختلفة القدر والجنس كقوله مائة إلا أنه أقل جهالة فلم يلتحق بما وضع تفسيرا أو خبرا عن الجملة بل كان هذا إلى القياس أقرب والمسألة الأولى إلى التفسير المصرح به أقرب فاستحسن الرد إلى التفسير فيها; لأن الجملتين أضيفتا إلى الدراهم فإن قوله: " علي مائة " جملة ظرفية وقوله وثلاثة جملة أخرى ظرفية ناقصة عطفت على الأولى وقد أضيفتا جميعا إلى الدراهم فصار لفظ الدراهم بيانا لهما لكونهما مفتقرين إلى البيان
قوله "وقد قال أبو يوسف" روى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في قوله: لفلان علي مائة وثوب أو مائة وشاة أنه يجعل بيانا للمائة فيكون الكل من الثياب والشياه والقول في بيان جنسها قول المقر; لأنا إنما جعلنا المعطوف تفسيرا للمعطوف عليه باعتبار الاتحاد كما ذكرنا فكل جملة أي كل مال مجتمع يحتمل القسمة أي قسمة الجمع وهي أن يقسم الجميع قسمة واحدة بطريق الخبر ولا يحتاج إلى قسمة أخرى فهي محتملة للاتحاد; لأن قسمة القاضي جبرا لا تقع إلا فيما هو متحد الجنس, والثوب والشاة من هذا القبيل كالمكيل والموزون فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرا للمبهم بدلالة العطف الموجب للاتحاد كالدرهم والدينار فلذلك أي فلاحتمال الاتحاد جعل قوله وثوب أو شاة بيانا للمائة بخلاف قوله مائة وعبد فإنه مما لا يحتمل القسمة مطلقا فلا يتحقق فيه معنى الاتحاد بسبب العطف فلا يصير المجمل بالمعطوف فيه مفسرا كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله في أصول الفقه والمبسوط

(3/230)


جعل بيانا بخلاف قوله مائة وعبد والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
وهذا الفرق مشكل فإن عنده يقسم الرقيق قسمة جمع وهي أن يقسم الجميع واحدة بطريق الجبر ولا يحتاج إلى قسمة أخرى كالثياب والغنم فينبغي أن يساوي العبد الثوب في صيرورته بيانا للمائة بالعطف. وأجيب بأن قولهما في الرقيق أنها تحتمل القسمة مؤول بما إذا اتفق رأي المتقاسمين على القسمة فيقسم القاضي بناء عليه ولا يكون هذا قسمة حقيقة بل يكون تبعا كذا ذكر في بعض الشروح منقولا عن شرح الجامع الصغير الحسامي ولكنه مخالف للروايات الظاهرة في المبسوط والهداية وغيرهما إذ المذكور فيها أن الرقيق إذا كانوا جنسا واحدا تقسم قسمة جمع عندهما بطلب بعض الشركاء, وإن أبى البعض وأجيب أيضا بأن على هذه الرواية يحتمل أن يكون أبو يوسف موافقا لأبي حنيفة رحمهما الله في أن الرقيق لا يقسم قسمة جمع ويحتمل أنه أراد أن الثوب والغنم يقسمان قسمة جمع بالاتفاق فيتحقق فيهما الاتحاد والرقيق لا يقسم هذه القسمة بالاتفاق بل هي على الخلاف فلا يثبت بمثلها الاتحاد والله أعلم.

(3/231)