كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية
باب بيان التبديل وهو النسخ
قال الشيخ الإمام الكلام في هذا الباب في تفسير نفس النسخ
ومحله وشرطه والناسخ والمنسوخ أما النسخ فإنه في اللغة
عبارة عن التبديل قال الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا
آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}
[النحل: 101] فسمى النسخ تبديلا ومعنى التبديل أن يزول شيء
فيخلفه غيره يقال نسخت الشمس الظل
ـــــــ
"باب بيان التبديل وهو النسخ"
تكلم الأصوليون في معنى النسخ لغة فقيل معناه الإزالة يقال
نسخت الشمس الظل أي أزالته ورفعته ونسخ الريح الآثار إذا
محتها ونسخ الشيب الشباب أي أعدمه وإليه أشار الشيخ في
الكتاب بقوله ومعنى التبديل أن يزول شيء فيخلفه غيره إلى
آخره وقيل معناه النقل وهو تحويل الشيء من مكان إلى مكان
أو حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه يقال نسخت النحل العسل
إذا نقلته من خلية إلى أخرى ومنه تناسخ المواريث لانتقالها
من قوم إلى قوم ومنه نسخت الكتاب لما فيه من مشابهة النقل
بتحصيل مثل ما في أحد الكتابين في الآخر ثم قيل هي مشترك
بين المعنيين; لأنه أطلق عليهما والأصل في الإطلاق هو
الحقيقة وقيل هو حقيقة في الإزالة مجاز في الآخر; لأنه لم
يستعمل إلا في المعنيين وليس حقيقة في النقل; لأن في قوله:
نسخت الكتاب لم يوجد النقل حقيقة فتعين كونه حقيقة في
الآخر تفاديا عن كثرة المجاز وقيل على العكس; لأن قوله:
نسخت الكتاب إن كان حقيقة فهو المطلوب, وإن كان مجازا فلا
يكون مستعارا من الإزالة; لأنه غير مزال ولا مشابه فتعين
أن يكون مستعارا من النقل لمشابهته إياه وإذا كان مستعارا
منه كان النقل حقيقة فكان مجازا في الآخر دفعا للاشتراك
والأولى في الشرع أن يكون بمعنى الإزالة; لأن نقل الحكم
الذي هو منسوخ إلى ناسخه لا يتصور. وأما الإزالة وهي
الإبطال والإعدام فمتصور وذكر في الميزان أنه اسم عرفي عند
بعضهم فإن ما هو معناه وهو الرفع والإزالة لا يتحقق في
النسخ الشرعي فكان الاستعمال عرفا فيكون الاسم منقولا كاسم
الصلاة للأفعال المعهودة لما لم يكن فيها
(3/232)
لأنها تخلفه
شيئا فشيئا هذا أصل هذه الكلمة وحقيقتها حتى صارت تشبه
ـــــــ
معنى الاسم اللغوي يكون اسما منقولا لا اسما شرعيا فكذا
هذا وقال بعضهم هو اسم شرعي; لأن فيه معنى لغويا وهو
الإزالة من وجه على ما يذكر واختلفوا في معناه شريعة أيضا
أي في حده فقيل هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت
بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه,
وإنما اختير لفظ الخطاب دون النص ليشمل اللفظ والفحوى وغير
ذلك مما يجوز النسخ به وفيه احتراز عن الموت ونحوه من
الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها
عنها وكونها بحيث لولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة
وقيد بالخطاب المتقدم احترازا عن الخطاب الدال على ارتفاع
الأحكام العقلية الثابتة قبل ورود الشرع فإن ابتداء إيجاب
العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى
نسخا; لأنه لم يزل حكم خطاب وقيد بقوله على وجه لولاه لكان
ثابتا احترازا عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت نحو قوله
تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
[البقرة: 187] وبعد انتهاء ذلك الوقت ورد الخطاب بحكم
مناقض للأول كما لو ورد عند غروب الشمس {وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] فإنه لا يكون نسخا للأول; لأنا
لو قدرنا انتفاء الثاني لم يكن الأول مستمرا بل كان منتهيا
بالغروب وقوله مع تراخيه احتراز عن الخطاب المتصل
كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية; لأنه يكون بيانا لا
نسخا
وقيل هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص
المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا, وإنما زيد لفظ
المثل; لأن صاحب هذا الحد يقول تحقيق الرفع في الحكم
ممتنع; لأن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له والثابت
لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه فدل أن
النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو بيان مدة
الحكم
وقيل هو الخطاب الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم
الأول
وقيل هو الخطاب الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع
التأخر عن مورده وزيفت هذه الحدود بأنها مع كونها تعريفات
للناسخ لا للنسخ نفسه; لأن الخطاب دليل النسخ والطريق
المعرف له لا نفسه غير مطردة; لأن العدل إذا قال نسخ حكم
كذا يكون هذا القول خطابا ولفظا دالا على ارتفاع الحكم
الثابت بالخطاب المتقدم وزواله ظهور انتفاء شرط دوامه
وانتهاء أمده ولا يكون نسخا بالإجماع وغير منعكسة لوجود
النسخ بفعل النبي عليه السلام وهو ليس بخطاب ولهذا زاد
بعضهم فقال هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله
تعالى أو عن رسوله عليه السلام أو فعل منقول عن رسوله عليه
السلام مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا. ويندفع
الأول بأن يقال: المراد من
(3/233)
الإبطال من حيث
كان وجودا يخلف الزوال وهو في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة
الحكم المطلق الذي كان معلوما عند الله تعالى إلا أنه
أطلقه فصار ظاهره البقاء في حق البشر فكان تبديلا في حقنا
بيانا محضا في حق صاحب
ـــــــ
الخطاب خطاب الشارع لا خطاب غيره فإن الخطاب إذا أطلق في
مثل هذا الموضع يراد به خطاب الشارع لا كلام غيره على أنا
لا نسلم أن كلام العدل دال على ما ذكرتم بل كلامه يدل على
خطاب من الشارع دال على ارتفاع الحكم وكذا وكذا فلذلك لا
يسمى نسخا. والثاني بأن يقال: فعله عليه السلام يدل على
خطاب من الله تعالى دال على ارتفاع الحكم إذ ليس للرسول
ولاية رفع الأحكام الشرعية من تلقاء نفسه فيكون فعله معرفا
للخطاب الدال على ارتفاع الحكم ومختار بعض المتأخرين أنه
عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر فقيد بالشرعي
احترازا عن العقلي فإن رفع الأحكام العقلية الثابتة قبل
ورود الشرع التي يعبر عنها بالمباح بحكم الأصل بدليل شرعي
متأخر لا يسمى نسخا بالإجماع وبدليل شرعي احترازا عن الرفع
بالموت وبقوله متأخرا احترازا عن التقييد بالغاية
والاستثناء ونحوهما على ما بينا وقيل لا حاجة إلى هذا
القيد; لأنه لما قال رفع الحكم خرج التقييد بالغاية
ونحوها; لأن الخطاب المتصل بالخطاب الأول ليس برافع لحكم
الخطاب الأول بل هو بيان وإتمام لمعناه بعد ثبوته وتقييد
له بمدة وشرط ونحو ذلك
وذكر صاحب الميزان والحد الصحيح أن يقال: هو بيان انتهاء
الحكم الشرعي المطلق الذي في تقدير أوهامنا استمراره لولاه
بطريق التراخي ونعني بالحكم المحكوم لا الحكم الذي هو صفة
أزلية لله تعالى. قال ولا يلزم عليه الموقت صريحا; لأنه
ليس في وهمنا استمراره ولا التخصيص فإنه بيان أنه غير مراد
من الأصل لا أنه انتهاء بعد الثبوت قال وما قالوا من
الإزالة والرفع غير صحيح; لأن ما ثبت من الحكم في الماضي
لا يتصور بطلانه وما في المستقبل لم يثبت بعد فكيف يبطل
قلت وهذه التعريفات كلها ليست بجامعة; لأن الرفع بطريق
الإنساء نسخ عند الجمهور حيث أوردوا في كتبهم نظير نسخ
التلاوة والحكم جميعا ما رفع من صحف إبراهيم بالإنساء وما
رفع من القرآن بالإنساء مثل ما روي أن سورة الأحزاب كانت
تعدل سورة البقرة ثم إنه لم يدخل في هذه الحدود; لأن
الإنساء ليس بخطاب رافع ولا دليل شرعي ولا بيان لشيء فإذا
لا بد من زيادة تصير بها جامعة مثل أن يقال: هو رفع الحكم
الشرعي بدليل شرعي أو بإنساء وهكذا في كل حد, وهذا عند من
جعل هذا القسم نسخا, فأما عند من لم يجعله نسخا كالرفع
بالموت والجنون مستدلا بأنه عطف على
(3/234)
الشرع وهو
كالقتل بيان محض للأجل; لأنه ميت بأجله بلا شبهة في حق
صاحب الشرع وفي حق القاتل تغيير وتبديل.والنسخ في أحكام
الشرع جائز صحيح عند المسلمين أجمع وقالت اليهود لعنهم
الله بفساده وهم في ذلك فريقان قال
ـــــــ
النسخ في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا} [البقرة: 106] والعطف يدل على المغايرة فلا
حاجة إلى زيادة
قوله "هذا" أي التبديل أصل هذه الكلمة هي النسخ حتى صارت
أي حقيقتها وهي التبديل تشبه الإبطال من حيث كان التبديل
أي المبدل وهو الناسخ وجود الخلف الزوال أي زوال المنسوخ
وهذا هو معنى الإبطال فإن المبطل للشيء يخلف زواله وهو أي
النسخ في حق صاحب الشرع بيان محض لانتهاء الحكم الأول ليس
فيه معنى الرفع; لأنه كان معلوما عند الله تعالى أنه ينتهي
في وقت كذا بالناسخ فكان الناسخ بالنسبة إلى علمه تعالى
مبينا للمدة لا رافعا إلا أنه أطلقه أي لم يبين توقيته
الحكم المنسوخ حين شرعه فكان ظاهره البقاء في حق البشر;
لأن إطلاق الأمر بشيء يوهمنا بقاء ذلك على التأبيد من غير
أن نقطع القول به في زمن الوحي
فصار الحاصل أن معنى النسخ عند الشيخ هو التبديل والإبطال
لغة وكذلك شرعا بالنسبة إلى علم العباد لكنه بالنسبة إلى
علم صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم. قال صاحب الميزان هذا
غير مستقيم; لأنه يؤدي إلى القول بتعدد الحقوق والحق عندنا
واحد في الشرعيات والعقليات جميعا وأجيب عنه بأن الحق واحد
بالنسبة إلى صاحب الشرع, فأما بالنسبة إلى العباد فمتعدد
حتى وجب على كل مجتهد العمل باجتهاده ولا يجوز له تقليد
غيره وهاهنا الحق بالنسبة إلى صاحب الشرع واحد وهو كونه
بيانا لا رفعا وإبطالا; لأنه أي المقتول ميت بأجله أي
بانقضاء أجله بلا شبهة عند أهل السنة إذ لا أجل له سواه
كما نص الله تعالى بقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:
34]و[النحل: 61] والموت الذي حصل فيه بخلق الله تعالى كما
حصل في الميت حتف أنفه لا بفعل القاتل على ما عرف في مسألة
المتولدات وفي حق القاتل تبديل وتغيير أي إبطال وقطع
للحياة بالموت; لأنه هو المباشر لسبب الموت حتى وجب عليه
القصاص إن كان عمدا والدية على عاقلته إن كان خطأ.
جواز النسخ
قوله "والنسخ في أحكام الشرع جائز صحيح" اختلف المسلمون
وأهل الكتاب في جواز النسخ فأجازه عامة المسلمين سوى قوم
لا اعتبار بخلافهم وفرق النصارى كلها وافترقت اليهود في
ذلك على ثلاث فرق كذا ذكر في الميزان وغيره فذهبت فرقة
منهم
(3/235)
أحدهما: إنه
باطل عقلا وقال بعضهم: هو باطل سمعا وتوقيفا وقد أنكر بعض
المسلمين النسخ لكنه لا يتصور هذا القول من مسلم مع صحة
عقد الإسلام أما من رده توقيفا فقد احتج أن موسى صلوات
الله عليه قال لقومه تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض
وأن ذلك مكتوب في التوراة وأنه
ـــــــ
وهم العيسوية إلى جوازه عقلا وسمعا وهم الذين يعترفون
برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب خاصة لا إلى
الأمم كافة وذهبت فرقة أخرى منهم إلى امتناعه عقلا وسمعا
وذهبت الفرقة الثالثة إلى جوازه عقلا وامتناعه سمعا وزاد
عبد القاهر البغدادي فرقة أخرى فقال وزعمت فرقة أخرى من
اليهود أنه يجوز نسخ الشيء بما هو أشد منه وأثقل على جهة
العقوبة للمكلفين إذا كانوا لذلك مستحقين فكان المراد من
قول الشيخ وقالت اليهود بفساده الفرقة الثانية والثالثة
دون الجميع
"وقد أنكر بعض المسلمين النسخ" مثل أبي مسلم عمرو بن بحر
الأصبهاني1 فإنه لم يجوز النسخ في شريعة واحدة وأنكر وقوعه
في القرآن. والمراد بعض من انتحل الإسلام وزعم أنه مسلم لا
أنه يكون مسلما على الحقيقة فإن إنكار النسخ مع صحة عقد
الإسلام لا يتصور فتبين به أن قوله وقد أنكر بعض المسلمين
النسخ لا ينافي قوله: النسخ جائز عند المسلمين أجمع وذكر
في القواطع أن الأصوليين قد ذكروا الخلاف في هذا مع طائفة
من اليهود وفرقة من المسلمين ونسبوه إلى أبي مسلم محمد بن
بحر الأصبهاني وهو رجل معروف بالعلم. وإن كان يعد من
المعتزلة وله كتاب كثير في التفسير وكتب كثيرة فلا أدري
كيف وقع هذا الخلاف منه ومن خالف في هذا من أهل الإسلام
فالكلام معه أن نريه وجود النسخ في القرآن مثل نسخ وجوب
التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ووجوب التربص
حولا على المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ووجوب ثبات
الواحد للعشرة بثباته للاثنين والوصية للوالدين والأقربين
بآية المواريث وغير ذلك مما لا يحصى فإن لم يعترف كان
مكابرة واستحق أن لا يتكلم معه ويعرض عنه, وإن قال: قد كان
كذلك ولكن لا أسميه نسخا كان هذا نعتا لفظيا ولزم أن يقال:
إن رفع شرع ما قبلنا بشرعنا لا يكون نسخا أيضا وهذا لا
يقوله مسلم
أما من رده توقيفا أي نصا لا عقلا فقد احتج بما يروى عن
موسى صلوات الله عليه أنه قال تمسكوا بالسبت أي بالعبادة
في السبت والقيام بأمرها ما دامت السموات والأرض
ـــــــ
1 هو محمد بن بحر الأصفهاني أبو مسلم وقد اختلف في اسمه
المتوفي سنة 322هـ، أنظر معجم الأدباء 18/35 – 38.
(3/236)
بلغهم بما هو
طريق العلم عن موسى صلوات الله عليه أن لا نسخ لشريعته
واحتج أصحاب القول الآخر أن الأمر يدل على حسن المأمور به
والنهي عن الشيء يدل على قبحه والنسخ يدل على ضده ففي ذلك
ما يوجب البداء والجهل بعواقب الأمور ودليلنا على جوازه
ووجوده سمعا وتوقيفا أن أحدا لم ينكر
ـــــــ
وزعموا أن هذا مكتوب في التوراة عندهم. وزعموا أنه بلغهم
بالطريق الموجب للعلم وهو التواتر عن موسى عليه السلام أنه
قال: إن شريعتي لا تنسخ وأنه قال تمسكوا بشريعتي ما دامت
السموات والأرض وأنه قال أنا خاتم النبيين قالوا: وإذا ثبت
ذلك من قوله عندنا لم يجز لنا تصديق من ادعى نسخ شريعته
كما أنكم لما زعمتم أن نبيكم قال لا نبي بعدي. وقال أنا
خاتم النبيين لم تصدقوا من ادعى بعد ذلك نسخ شريعته وبهذا
الطريق طعنوا في رسالة محمد صلى الله عليه وقالوا لا يجوز
تصديقه من أجل العمل بالسبت ولا يجوز أن يأتي بمعجزة تدل
على صدقه
وأما من أنكره ورده عقلا فقد احتج بوجوه من الشبه أحدها
وهو المذكور في الكتاب أن الأمر بالشيء يدل على حسن
المأمور به والنهي عن الشيء يدل على قبح المنهي عنه والنسخ
يدل على ضده أي نسخ كل واحد من الأمر والنهي يدل على ضد ما
دل عليه الأمر والنهي فإن نسخ الأمر يكون بالنهي ونسخ
النهي بالأمر أو بالإباحة فيقتضي أن ما أمر به لحسنه كان
قبيحا في ذاته وما نهي عنه لقبحه كان حسنا في نفسه أو غير
قبيح والشيء الواحد لا يكون حسنا وقبيحا فكان القول بجواز
النسخ مؤديا إلى القول بجواز البداء على الله عز وجل وذلك
كفر; لأن البداء ينشأ من الجهل بعواقب الأمور فإنه عبارة
عن الظهور بعد الخفاء من قولهم بدا لهم الأمر الفلاني إذا
ظهر بعد خفائه وقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] {وَبَدَا
لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] أي ظهر لهم
بعد الخفاء وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والثاني أن الخطاب المنسوخ حكمه على زعمكم إما أن يكون
دالا على التأقيت أو التأبيد وعلى التقديرين يمتنع قبول
الخطاب النسخ أما إذا كان موقتا فلأن ارتفاع الحكم فيما
بعد الغاية ليس بنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت وشرط
النسخ أن لا يكون كذلك, وإن كان دالا على التأبيد فكذلك إذ
لو قبل النسخ مع التأبيد يلزم التناقص بالإخبار بأنه مؤبد
وغير مؤبد ويؤدي أيضا إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم بناء على
احتمال النسخ ويستلزم ذلك أن لا يبقى لنا وثوق بوعد الله
ووعيده ولا بشيء من الظواهر اللفظية ولا يخفى ما فيه من
اختلال الشريعة والنجاء قول الباطنية إليها ويؤدي أيضا إلى
جواز نسخ شريعتكم وأنتم لا تقولون به
(3/237)
استحلال
الأخوات في شريعة آدم صلوات الله عليه واستحلال الجزء لآدم
صلوات الله عليه وهي حواء التي خلقت منه وأن ذلك نسخ بغيره
من الشرائع
ـــــــ
والثالث أنه لو جاز النسخ الذي هو رفع الحكم لكان رفعه قبل
وجوده أو بعد وجوده أو معه وارتفاعه قبل وجوده أو بعده
باطل لكونه معدوما في الحالين ورفع المعدوم ممتنع وارتفاعه
مع وجوده أجدر بالبطلان لاستحالة اجتماع النفي والإثبات في
شيء واحد لاستلزامه كونه موجودا ومعدوما في حالة واحدة وهو
محال.
ومن أنكر جوازه ووقوعه ممن انتحل الإسلام تمسك بأن النسخ
إبطال وهو ينافي الكتاب لقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}
[فصلت: 42] فلا يجوز وإذا لم يجز في الكتاب لم يجز في
السنة لعدم القائل بالفصل ولمنافاتها الإبطال كالكتاب
ودليلنا على جوازه بل على وجوده المستلزم لجوازه عقلا من
حيث السمع أن نكاح الأخوات كان مشروعا في شريعة آدم عليه
السلام وبه حصل التناسل وقد ورد في التوراة أن الله تعالى
أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وكذا الاستمتاع بالجزء كان
حلالا لآدم عليه السلام فإن زوجته حواء كانت مخلوقة من
ضلعه على ما نطق به الخبر ثم انتسخ ذلك بغيره من الشرائع
حتى لا يجوز لأحد أن يتزوج أخته وأن يستمتع بعض منه بنكاح
نحو ابنته. وكذا الجمع بين الأختين كان مشروعا في شريعة
يعقوب عليه السلام وأنه جمع بين الأختين فقد ذكر في
التوراة أنه خطب الصغرى فقال أبوهما: ليس من سنة بلدنا أن
تزوج الصغرى قبل الكبرى فتزوجهما معا ثم حرم الجمع في حكم
التوراة وكذا العمل في السبت كان مباحا قبل شريعة موسى
عليه السلام لاتفاقهم على أن السبت مختص بشريعته ثم انتسخت
تلك الإباحة بشريعة موسى عليه السلام وكذا ترك الختان كان
جائزا في شريعة إبراهيم ثم انتسخ بالوجوب في شريعة موسى
عليه السلام حيث أوجبه عليهم يوم ولادة الطفل
فتبين بما ذكرنا أنه لا وجه إلى إنكاره ولكنهم يقولون على
الأول لا نسلم أن آدم أمر بتزويج بناته اللاتي كن في زمانه
وحينئذ تحريم ذلك في شريعة من بعده لا يكون نسخا لكونه رفع
مباح الأصل إذ لم يؤمر من بعده به حتى يكون تحريمه عليهم
نسخا ولئن سلمنا كونه مأمورا بتزويج بناته مطلقا لكن يجوز
أن يكون ذلك الأمر مقيدا بظهور شرع من بعده وعلى هذا لا
يكون تحريمه ذلك على من بعده نسخا لانتهاء أمد الحكم الأول
بظهور شريعة من بعده كما أن إباحة الإفطار بالليالي لا
تكون نسخا لإيجاب الصوم إلى الليل وعلى الثاني لا نسلم أن
حل الاستمتاع بالجزء ثبت على الإطلاق في شريعته بل أحل له
ذلك في حق حواء خاصة حتى لم يحل له التزوج بسائر بناته ولا
لأحد من بنيه أن
(3/238)
والدليل
المعقول أن النسخ هو بيان مدة الحكم للعباد, وقد كان ذلك
غيبا عنهم. وبيان ذلك أنا إنما نجوز النسخ في حكم مطلق عن
ذكر الوقت يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل البقاء والعدم على
السواء; لأن النسخ إنما يكون في حياة النبي عليه السلام
والأمر المطلق في حياته للإيجاب لا للبقاء بل البقاء
ـــــــ
يتزوج بنت نفسه فلم يكن تحريم البنت على غيره نسخا لحل
الاستمتاع بالجزء إذا لم يثبت ذلك في حق غيره بل كان الحل
منتهيا بوفاته كانتهاء الصوم بالليل وعلى الباقي أن الجمع
والعمل بالسبت والختان كان مباحا بحكم الأصل وتحريم مباح
الأصل ليس بنسخ.
وأجيب عن الأول بأن الأصل في كل شريعة ثبوتها على الإطلاق
وبقاؤها إلى أن يوجد المزيل وعدم اختصاصها بقوم دون قوم
إلا بمخصص فلا يثبت والتقييد بالاحتمال بل يحتاج إلى دليل
ولم يوجد ولا يقال لا يصح التمسك بالأصل فيما نحن فيه; لأن
هذه مسألة علمية فلا يكتفى فيها بالدليل الظني; لأنا نقول
قد ثبت بالتواتر أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من
بنيه, ولم ينقل تقييد وتخصيص فوجب إجراؤه ولا يقدح فيه
الاحتمال الذي ذكرتم لكونه غير ناشئ عن دليل وبمثله لا
يخرج الدليل القطعي إلى الظن على ما مر بيانه غير مرة قال
الغزالي رحمه الله لو صار الدليل ظنيا بكل احتمال لم يبق
دليل قطعي لتطرق الاحتمال إلى جميع العقليات من دلائل
التوحيد والنبوة وغيرها وعن الثالث بأن رفع الإباحة
الأصلية نسخ عندنا; لأن الناس لم يتركوا سدى في زمان
فالإباحة والتحريم ثبتا في جميع الأشياء بالشرائع في الأصل
فكان رفعها رفعا لحكم شرعي فكان نسخا لا محالة, فأما
الاعتراض الثاني فلا محيص عنه إن ثبت الاختصاص الذي ذكروه
كما دل عليه الظاهر
قوله "والدليل المعقول أن النسخ" كذا يعني لو وقت الشارع
حكما في ابتداء شرعه إلى غاية بأن قال شرعت الحكم الفلاني
إلى الوقت الفلاني لصح ذلك من غير لزوم قبح وبداء, فكذا
إذا بين أمده متراخيا عن زمان شرعه بالنسخ; لأن النسخ ليس
في الحقيقة إلا بيان مدة الحكم التي هي غيب عن العباد لهم
فلا يكون هذا من البداء في شيء. وبيانه أي بيان أن النسخ
بيان المدة لا بداء أنا إنما يجوز النسخ في حكم يجوز أن
يكون موقتا بعدما شرع وأن يكون مؤبدا ويحتمل البقاء بعدما
شرع والعدم احتمالا على السواء, وإنما تعرض للاحتمالين;
لأن النسخ توقيت بالنسبة إلى الماضي وإعدام بالنسبة إلى
المستقبل والأمر المطلق في حياته للإيجاب لا للبقاء أي
الأمر الوارد في حياة النبي عليه السلام يقتضي كون المأمور
به واجبا من غير أن يتعرض لبقائه أصلا بل البقاء بعد
الثبوت لعدم الدليل المزيل فكان ثابتا باستصحاب الحال لا
بدليل يوجبه وهو الأمر السابق; لأن
(3/239)
استصحاب الحال
على احتمال العدم بدليله لا أن البقاء بدليل يوجبه; لأن
الأمر لم يتناول البقاء لغة فلم يكن دليل النسخ متعرضا
لحكم الدليل الأول بوجه إلا ظاهرا بل كان بيانا للمدة التي
هي غيب عنا وهي الحكمة البالغة بلا شبهة بمنزلة الإحياء
والإيجاد أن حكمه الحياة والوجود لا البقاء بل البقاء لعدم
أسباب الفناء بإبقاء هو غير الإيجاد وله أجل معلوم عند
الله فكان الإفناء والإماتة بيانا
ـــــــ
الأمر لا دلالة له على البقاء لغة; لأنه لطلب الفعل
والائتمار لا لغيره وكذا الوجود ليس بعلة للبقاء ولهذا صح
أن يقال وجد ولم يبق فلا يكون البقاء من مواجب الأمر
السابق بوجه وإذا كان كذلك لم يكن دليل النسخ متعرضا لحكم
الدليل الأول بوجه أي لم يكن مبطلا له بوجه لاقتصار عمله
على حالة البقاء وهو ليس من أحكام الدليل الأول إلا ظاهرا
أي إلا من حيث الظاهر وهو تقرر بقائه في أوهامنا باعتبار
الظاهر لولا الناسخ وهو الحكمة البالغة بلا شبهة أي بيان
المدة بالنسخ من باب الحكمة البالغة نهايتها لا من باب
البداء; لأن شرعية الأحكام لمنافع تعود إلى العباد إذ
الشارع منزه عن نفع وضرر يعود إليه وقد يتبدل المنفعة
بتبدل الأزمان والأحوال ولا يعلم بذلك إلا العليم الخبير
الحكيم القدير جل جلاله فكان تبديل الحكم بناء على تبديل
الأحوال من باب الحكمة لا من باب البداء
قوله "بمنزلة الإحياء" متعلق بقوله للإيجاب لا للبقاء أو
بجميع ما تقدم أي إحياء الشريعة بالأمر. وشرع الحكم ابتداء
بمنزلة إحياء الشخص وإيجاده من العدم فإن حكم الأحياء
الحياة, وأثر الإيجاد الوجود لا البقاء بل البقاء بعدم
أسباب الفناء بإبقاء هو غير الإيجاد وكأن " أو " سقط من
قلم الناسخ في هذا الكلام بدليل ما ذكر شمس الأئمة رحمه
الله ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء الله تعالى إياه أو بانعدام
سبب الفناء وما ذكر الشيخ في شرح التقويم بل البقاء بدليل
آخر أو بعدم ما يعدمه وهو أسباب الفناء أو معناه أن البقاء
بعدم أسباب الفناء وعدمها بسبب إبقاء الله تعالى إياه فإنه
إذا أراد إبقاءه لم يوجد أسباب الفناء قوله "بإبقاء هو غير
الإيجاد"; لأن الإبقاء إثبات البقاء, والإيجاد إثبات
الوجود وقد بينا أن البقاء غير الوجود حتى صح قولنا وجد
ولم يبق فكان الإبقاء غير الإيجاد لو كان من أفعال العباد
إلا أن الغيرية لا تجري في صفات الله تعالى حقيقة على ما
عرف فكان تسمية الإبقاء غير الإيجاد توسعا باعتبار تغاير
الأمارة وهو كالرمي الواحد يسمى جرحا وقتلا وكسرا إذا
تحققت هذه الآثار منه, وإن كان القتل غير الجرح والكسر.
وله أجل معلوم أي لهذا الموجود مدة معلومة عند الله تعالى
لبقائه غيب عن العباد فكان الإفناء والإماتة بيانا محضا
لمدة بقاء الحياة التي كانت معلومة عند الخالق حين خلقه,
وإن كان غيبا عنا وهذا
(3/240)
محضا فهذا مثله
هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام فإذا قبض
الرسول عليه السلام من غير نسخ صار البقاء من بعد ثابتا
بدليل يوجبه فصار بقاء يقينا لا يحتمل النسخ بحال, فإذا
غاب الحي بقيت حياته لعدم الدليل على
ـــــــ
لا يدل على البداء والجهل بعواقب الأمور ولم يتطرق إليه
قبح وهذا أي النسخ مثله أي مثل الإفناء أيضا فلا يكون بداء
وجهلا
قوله "هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام"
كأنه جواب عما يقال يلزم على ما ذكرت أن لا يكون الأحكام
الباقية إلى يومنا هذا مقطوعا بها لبناء بقائها على
الاستصحاب الذي ليس بحجة وانقطاع بقائها عن الدلائل
المثبتة لها فقال هذا أي بقاء الحكم باستصحاب الحل حكم
بقاء المشروع في حياة النبي عليه السلام لاحتمال ورود
النسخ في كل زمان, فأما بعد وفاته عليه السلام فقد صار
البقاء ثابتا بدليل يوجبه وهو أن لا نسخ بدون الوحي وقد
انسد بابه بوفاته عليه السلام فإنه قد ثبت بالنص القاطع
أنه خاتم النبيين وأن لا نبي بعده فصار البقاء يقينا لا
يحتمل الزوال أصلا بمنزلة موجود نص على بقائه أبدا كالجنة
وأهلها هذا تقرير كلام الشيخ وحاصله أن النسخ بيان المدة
في الحقيقة فلا يكون بداء وذكر الأصوليون وجها آخر في جواز
النسخ عقلا وهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن لا
يعتبر المصالح في أفعال الله تعالى كما هو مذهب الأشعرية
وعامة أهل الحديث ويقول له أن يفعل ما يشاء كما يشاء بحكم
المالكية من غير نظر إلى حكمة ومصلحة أو يكون ممن يعتبر
الغرض والحكمة في أفعاله كما هو مذهب عامة المتكلمين. فإن
كان الأول فنقول لا يمتنع على الله تعالى أن يأمر بفعل في
وقت وينهى عنه في وقت آخر كما أمر بصوم رمضان ونهى عن صوم
يوم الفطر للقطع بأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال عقلا وما
نعني بالجواز العقلي إلا ذلك نبينه أنه إذا جاز أن يطلق
الأمر. والمراد إلى أن يعجز عنه بمرض أو غيره جاز أيضا أن
يطلق والمراد إلى أن ينسخه غيره وإذا جاز أن لا يوجب شيئا
برهة من الزمان ثم يوجبه جاز أيضا أن يوجبه برهة من الزمان
ثم ينسخه, وإن كان الثاني فكذلك إذ لا يمتنع أن يعلم الله
تعالى استلزام الأمر بالفعل في وقت معين لمصلحة واستلزام
النهي عنه في وقت آخر لمصلحة أخرى إذ المصالح كما تختلف
باختلاف الأشخاص والأحوال تختلف باختلاف الأزمان والأوقات
واعتبر هذا بأمر الطبيب للمريض بدواء خاص في وقت لمصلحة
ونهيه عنه في وقت آخر لمصلحة أخرى يوضحه أنه تعالى لو نص
على التوقيت بأن قال حرم عليكم العمل في السبت ألف سنة ثم
هو مباح عليكم بعد ذلك كان حسنا ودالا على انتهاء حكمة
التحريم بعد انتهاء المدة ولم يكن بداء فكذلك عند إطلاق
اللفظ في التحريم ثم النسخ بعد ذلك وهو بمنزلة
(3/241)
موته فكذلك
المشروع المطلق في حياة النبي عليه السلام وأما دعواهم
التوقيف فباطل عندنا; لأنه ثبت عندنا تحريف كتابهم فلم يبق
حجة.
ـــــــ
تبديل الصحة بالمرض والغناء بالفقر وعكسهما إذ يجوز أن
يكون كل واحد منها مصلحة في وقت دون وقت وبمنزلة تقلب
أحوال الإنسان من الطفولية والبلوغ والشباب والكهولة
والشيخوخة, فإن ذلك كله تصريف الأمور على ما توجبه الحكمة
ويدعو إليه المصلحة وامتحان العباد وابتلاؤهم وقتا بعد وقت
بما هو خير لهم وأدعى إلى صلاحهم. والجواب عن قولهم الخطاب
المنسوخ حكمه إما أن يكون دالا على التأبيد أو على التوقيت
إلى آخره هو أنه ليس بدال على التوقيت ولا على التأبيد
صريحا بل هو مطلق يحتمل التأبيد إن لم يرد عليه ناسخ,
والتوقيت إن ورد عليه ذلك, فإذا ورد تبين أنه كان موقتا
وهذا التوقيت يسمى نسخا وعن قولهم لو جاز النسخ لكان قبل
وجوده أو بعده أو معه إلى آخر ما ذكروا أن المراد من رفع
الحكم أن التكليف الذي كان ثابتا بعد أن لم يكن زال
بالناسخ كما يزول بالموت لكونه سببا من جهة المخاطب لقطع
تعلق الخطاب عنه كما أن النسخ سبب من جهة المخاطب لقطع
تعلقه عنه وليس المراد من الدفع أن الفعل الذي هو متعلق
الحكم يرتفع لينتهض ما ذكرتم من التقسيم.
وأما دعواهم التوقيف فباطل; لأنه قد ثبت بالدليل القطعي
عندنا تحريف كتابهم فلم يبق نقلهم عنه حجة ولهذا لم يجز
الإيمان بالتوراة التي في أيديهم اليوم بل يجب الإيمان
بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكيف يصح نقلهم
تأبيد شريعة موسى عليه السلام وقد ثبت رسالة رسل بعد موسى
عليه السلام بالآيات المعجزة والدلائل القاطعة ولأن شرط
التواتر لم يوجد في نقل التوراة إذ لم يبق من اليهود عدد
التواتر في زمن بخت نصر فإنهم وافقوا أصحاب التواريخ أنه
لما استولى على بني إسرائيل قتل رجالهم وسبى ذراريهم إلى
أرض بابل وأحرق أسفار التوراة حتى لم يبق فيهم من يحفظ
التوراة وزعموا أن الله تعالى ألهم عزيرا التوراة بعد
خلاصه من أسر بخت نصر وقد روى أحبارهم أن عزيرا كتب ذلك في
آخر عمره وعند حضور أجله دفعه إلى تلميذ له ليقرأه على بني
إسرائيل فأخذوا التوراة عن ذلك التلميذ ونقول الواحد لا
يثبت التواتر. وزعم بعضهم أن ذلك التلميذ قد زاد فيها شيئا
وحذف منها فكيف يوثق بما هذا سبيله والدليل عليه أن نسخ
التوراة ثلاث نسخة في أيدي العتابية ونسخة في أيدي
السامرية ونسخة في أيدي النصارى وهذه النسخ الثلاث مختلفة
متفاوتة ذكر فيها أعمار الدنيا وأهلها على التفاوت ففي
نسخة السامرية زيادة ألف سنة وكثير على ما في نسخة
العتابية وفي التوراة التي في النصارى زيادة بألف وثلثمائة
سنة وفيها أيضا الوعد بخروج المسيح
(3/242)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
وخروج العربي صاحب الجمل وارتفاع تحريم السبت عند خروجهما
فثبت أن التوراة التي في أيديهم ليست بموثوق بها وأن ما
نقلوه من تأبيد شريعة موسى وتأبيد تحريم السبت افتراء على
موسى عليه السلام وقيل أول من وضع لهم ذلك ابن الراوندي1
ليعارض به دعوى الرسالة من محمد عليه السلام وأقرب قاطع في
بطلانه أن أحدا من أحبار اليهود لم يحتج به على رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع حرصهم على دفع قوله ولو كان ذلك
صحيحا عندهم لقضت العادة بالاحتجاج به على النبي صلى الله
عليه وسلم ولو فعلوا ذلك لاشتهر منهم كما اشتهر سائر
أمورهم. وأما قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ}
[فصلت: 42] الآية فتأويله أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب
الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله والله
أعلم.
ـــــــ
1 هو أحمد بن يحي بن إسحاق البغدادي المعروف بابن الراوندي
المتكلم توفي سنة 298هـ وفيات الأعيان 1/94 – 95.
(3/243)
|