كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

باب بيان محل النسخ
محل النسخ حكم يحتمل بيان المدة والوقت وذلك بوصفين: أحدهما: أن يكون في نفسه محتملا للوجود والعدم, فإذا كان بخلافه لم يحتمل النسخ, والثاني: أن لا يكون ملحقا به ما ينافي المدة والوقت أما الأول فبيانه أن الصانع
ـــــــ
"باب بيان محل النسخ"
لما ثبت أن النسخ بيان مدة الحكم في الحقيقة, وإن كان رفعا له في الظاهر لا بد من أن يكون محله حكما يحتمل المدة والوقت أي يحتمل أن يكون موقتا إلى غاية وأن لا يكون كذلك احتمالا على السواء ليكون النسخ بيانا لمدته وذلك أي كونه محتملا للتوقيت يحصل بوصفين أي بمعنيين أحدهما أن يكون الحكم الذي ورد عليه النسخ محتملا في نفسه للوجود والعدم أي محتمل أن يكون مشروعا وأن لا يكون مشروعا إذ لو لم يحتمل أن يكون مشروعا كالكفر لاستمر عدم شرعيته والنسخ لا يجري في المعدوم ولو لم يحتمل أن لا يكون مشروعا كالإيمان بالله تعالى وصفاته لاستمر شرعيته ضرورة فلا يجري فيه النسخ أيضا; لأن النسخ توقيت ورفع وذلك مناف لما لزم استمرار وجوده. والثاني أن لا يكون ذلك الحكم بحيث يلحق به ما ينافي المدة والوقت أي ما ينافي بيان المدة بالنسخ يعني لم يلتحق به بعد أن كان في نفسه محتملا للوجود والعدم ما يمتنع لخوف النسخ الذي هو بيان مدة المشروعية به
أما الأول وهو الذي لا يحتمل النسخ باعتبار فوات الوصف الأول وإليه أشير في قوله وإذا كان بخلافه لم يحتمل النسخ فبيانه أن الصانع جل جلاله بجميع أسمائه أي مع جميعها مثل الرحمن والرحيم والعليم والحكيم وصفاته مثل العلم والقدرة والحياة التي هي من صفات الذات والخلق والرزق والإحياء والإماتة التي هي من صفات الفعل عند الأشعرية قديم دائم أزلا وأبدا فلا يحتمل شيء من أسمائه وصفاته النسخ بحال أي بوجه من الوجوه ولهذا لا يجوز أن يكون الإيمان بالله تعالى وصفاته غير مشروع بحال أعني في حال الإكراه وغيرها.

(3/244)


بأسمائه وصفاته قديم لا يحتمل الزوال والعدم فلا يحتمل شيء من أسمائه
ـــــــ
الحاصل أن النسخ لا يجري في واجبات العقول, وإنما يجري في جائزاتها ولهذا لم يجوز جمهور العلماء النسخ في مدلول الخبر ماضيا كان أو مستقبلا; لأن تحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب والخلف فلا يجوز. وقال بعض المعتزلة والأشعرية بجوازه في الخبر مطلقا إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما كما لو قال عمرت زيدا ألف سنة ثم بين أنه أراد به تسعمائة أو قال لأعذبن الزاني أبدا ثم قال: أردت به ألف سنة; لأنه إذا كان كذلك كان الناسخ مبينا أن المراد بعض ذلك المدلول كما في الأوامر والنواهي بخلاف ما إذا لم يكن متكررا نحو قوله أهلك الله زيدا ثم قوله ما أهلكه; لأن ذلك يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن إعدامه وإيجاده جميعا كان تناقضا ومنهم من فصل بين الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في المستقبل; لأن الوجود المتحقق في الماضي لا يمكن رفعه بخلاف المستقبل; لأنه يمكن منعه من الثبوت واستدل عليه بظاهر قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وبقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 – 40] فإنه نسخ بعد سؤال الرسول عليه السلام بقوله عز ذكره: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 – 40]. وبقوله تعالى لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] فإنه نسخ بقوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وبظواهر آيات الوعيد مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: 14] وغيرها فإنها نسخت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وكل ذلك إخبار
والصحيح هو القول الأول لما بينا أن النسخ توقيت ولا يستقيم ذلك في الخبر بحال فإنه لا يقال: اعتقدوا الصدق في هذا الخبر إلى وقت كذا ثم اعتقدوا خلافه بعد ذلك فإنه هو البداء والجهل الذي يدعيه اليهود في أصل النسخ ونحن لا نسلم صحة إرادة تسعمائة من لفظ الألف ولا صحة ورود النسخ على ما التحق به تأبيد ما نبين, فأما قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فقد قيل معناه ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله أو يتركه غير منسوخ وقيل يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة; لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره والكلام فيه واسع المجال وقوله تعالى: {ووثلة من الآخرين} [الواقعة 40] ليس بناسخ شيئا; لأنه لم يرفع حكما ثبت في الآية الأولى إذ الحكم في القليل المذكور فيها ثابت كما كان إلا أنه ألحق بهم

(3/245)


وصفاته النسخ بحال.وأما الذي ينافي النسخ من الأحكام التي هي في الأصل محتملة للوجود والعدم فثلاثة تأبيد ثبت نصا وتأبيد ثبت دلالة وتوقيت أما التأبيد صريحا فمثل قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء: 57] ومثل قوله جل وعلا: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
ـــــــ
فرق أخرى بعد نزول الآية بتضرعهم أو بدعاء الرسول عليه السلام ثم أخبر عنهم بقوله: {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 40]. وقيل الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين وعن الحسن سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة وكذا قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118]، من باب القيد والإطلاق لا من باب النسخ وكذا آيات الوعيد كلها مقيدة أو مخصوصة على ما عرف في مسألة تخليد أصحاب الكبائر وهذا إذا كان الخبر في غير الأحكام الشرعية فإن كان في الأحكام الشرعية فهو والأمر والنهي سواء حتى لو أخبر الله تعالى أو رسوله عليه السلام بالحل مطلقا في شيء ثم ورد الخبر بعده بالحرمة ينتسخ الأول بالثاني
قوله "وأما الذي ينافي" أي الحكم الذي ينافي النسخ من الأحكام لفوات الوصف الثاني وهو عدم لحوق ما ينافي بيان المدة مع وجود الوصف الأول وهو كونه محتملا للوجود والعدم فثلاثة أما التأبيد صريحا فمثل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وصف أهل الجنة بالخلود أي بالإقامة فيها وهو مطلق يقبل الزوال فلما اقترن به الأبد صار بحال لا يقبل الزوال; لأن فيها بعد التنصيص على التأبيد بيان التوقيت فيه بالنسخ لا يكون إلا على وجه البداء وظهور الغلط والله تعالى متعال عنه ومثل قوله عز وجل: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال قتادة والربيع ومقاتل والكلبي هم أهل الإسلام من أمة محمد عليه السلام اتبعوا دين المسيح وصدقوا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فوالله ما اتبعه من دعاه ربا, ومعنى الفوقية هاهنا الغلبة بالحجة في كل الأحوال وبها وبالسيف حين أظهر محمدا عليه السلام وأمته على الدين كله كذا في المطلع. وفي الكشاف ومتبعوه هم المسلمون; لأنهم متبعوه في أصل الإسلام, وإن اختلف الشرائع دون الذين كذبوه من اليهود وكذبوا عليه من النصارى وعن ابن زيد فوق الذين كفروا أي فوق اليهود فلا يكون لهم مملكة كما للنصارى ثم هذا, وإن كان توقيتا إلى يوم القيامة في الظاهر فهو تأبيد في الحقيقة; لأن المؤمنين ظاهرون على الكافرين يوم القيامة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة 212], فإذا كان متبعوه ظاهرين في الدنيا التي هي موضع غلبة الكفار كانوا غالبين يوم القيامة الذي هو محل غلبة المؤمنين فكانوا غالبين أبدا ضرورة وهذا من قبيل قول عمر رضي الله عنه "نعم الرجل

(3/246)


يريد بهم الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقسم الثاني مثل شرائع محمد عليه السلام التي قبض على قرارها فإنها مؤبدة لا تحتمل النسخ بدلالة أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده ولا نسخ إلا بوحي على لسان
ـــــــ
صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" يعني لو لم يكن خائفا من الله تعالى لم يصدر عنه معصية فكيف يصدر إذا خافه ولا يقال لا يصح إيراد هذين المثالين هاهنا; لأنهما من الإخبار لا من الأحكام, وامتناع النسخ فيهما باعتبار ذلك لا بالتأبيد; لأنا نقول: المقصود إيراد النظير للتأبيد نصا ولم يوجد في الأحكام تأبيد صريح وقد حصل المقصود بإيرادهما فلذلك أوردهما ومن القسم الثاني تأبيد الجنة والنار; لأن أهلهما لما كانوا مؤبدين فيهما كانتا مؤبدتين ضرورة
والثالث واضح مثل أن يقول الشارع أذنت لكم أن تفعلوا كذا إلى سنة أو قال: أحللت هذا الشيء عشر سنين أو مائة سنة فإن المنع عنه قبل مضي تلك المدة لا يجوز; لأنه يكون من البداء والغلط والنسخ المؤدي إليه باطل. قال القاضي الإمام رحمه الله وليس لهذا القسم مثال من المنصوصات شرعا ولا يلزم عليه مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة 222] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187]; لأن المقصود شرعية حرمة القربان في حالة الحيض وشرعية إباحة الأكل والشرب في الليل وهي ليست بموقتة بل هي ثابتة على الإطلاق.
واعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذا الفصل فذهب الجمهور منهم إلى جواز نسخ ما لحقه تأبيد أو توقيت من الأوامر والنواهي وهو مذهب جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي وهو اختيار صدر الإسلام أبي اليسر وذهب أبو بكر الجصاص والشيخ أبو منصور والقاضي الإمام أبو زيد والشيخان وجماعة من أصحابنا إلى أنه لا يجوز ولا خلاف أن مثل قوله: الصوم واجب مستمر أبدا لا يقبل النسخ لتأدية النسخ فيه إلى الكذب والتناقض
تمسك الفريق الأول بأن الخطاب إذا كان بلفظ التأبيد فغايته أن يكون دالا على ثبوت الحكم في جميع الأزمان لعمومه ولا يمتنع أن يكون المخاطب مع ذلك مريدا لثبوت الحكم في بعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة لجميع الأشخاص وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع ورود الناسخ المعرف لمراد المخاطب ولذلك لو فرضنا ذلك لم يلزم عليه محال. تنبيه: إن في العرف قد يراد بلفظ التأبيد المبالغة لا الدوام كقول القائل لازم فلانا أبدا وفلان يكرم الضيف أبدا واجتنب فلانا أبدا إلى غير ذلك فيجوز أن يكون كذلك في استعمال الشرع ويتبين بلحوق الناسخ به أن المراد منه المبالغة لا

(3/247)


نبي. والثالث واضح والنسخ فيه قبل الانتهاء باطل; لأن النسخ في هذا كله بداء وظهور الغلط لا بيان المدة والله يتعالى عن ذلك
ـــــــ
الدوام ولأنه لا خفاء أن قوله صوموا أبدا مثلا لا يربوا في الدلالة على تعيين الوقت والتنصيص على قوله صم غدا فكما جاز نسخ هذا قبل الغد لما سنبين جاز نسخ الآخر أيضا وتمسك الفريق الثاني بأن نسخ الخطاب المقيد بالتأبيد أو التوقيت يؤدي إلى التناقض والبداء; لأن معنى التأبيد أنه دائم والنسخ يقطع الدوام فيكون دائما غير دائم وصاحب الشرع منزه عن ذلك فلا يجوز القول بنسخه كما لو قيل الصوم دائم مستمر أبدا يوضحه أن التأبيد بمنزلة التنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه والنسخ لا يجري فيه بالاتفاق فكذا فيما نحن فيه والدليل عليه أن التأبيد يفيد الدوام والاستمرار قطعا في الخبر كما في تأبيد أهل الجنة والنار حتى إن من قال بجواز فناء الجنة والنار وأهلهما وحمل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء: 57 – 122 – 169] و[المائدة 119] و[التوبة 22و100] و[الأحزاب: 65"و"التغابن: 9"و"الجن: 23"والبينة: 8" على المبالغة ينسب إلى الزيغ والضلال فكذا في الأحكام إذ لا فرق في دلالة اللفظ على الدوام لغة في الصورتين وقولهم: لا يمتنع أن يكون المخاطب مريدا لبعض الأزمان دون البعض كما في الألفاظ العامة غير صحيح; لأن ذلك إنما يصح إذا اتصل قرينة بالكلام نطقية أو غير نطقية دالة على المراد من غير تأخر عنه, فإذا خلا الكلام عن مثل هذه القرينة كان دالا على معناه الحقيقي قطعا لما مر فكان ورود النسخ عليه من باب البداء ضرورة فلا يجوز. وليس هذا كجريان النسخ في اللفظ المتناول للأعيان فإن النسخ فيه لا يؤدي إلى أنه أريد به البعض بقرينة متأخرة بل الحكم ثبت في حق الكل ثم انقطع في حق البعض بالناسخ فكان هذا البعض بمنزلة ما لو ثبت الحكم في حقه بنص خاص ثم انقطع بناسخ فإن قيل قد يجوز تخصيص اللفظ العام متأخرا وليس ذلك إلا بيان أنه أريد به البعض بقرينة متأخرة قلنا: ذلك ليس بتخصيص عندنا بل هو نسخ على ما بينا فأما من جعله تخصيصا فقد بنى ذلك على أن موجب العام ظني عنده وأن التخصيص بيان مقرر فيجوز متأخرا وقد تقدم الكلام فيه والفريق الأول لم يسلموا لزوم البداء والتناقض; لأن الأمر المقيد بالتأبيد مثل قوله: صم رمضان أبدا يوجب أن يكون جميع الرمضانات في المستقبل متعلق الوجوب ولا يلزم من تعلق الوجوب بالجميع استمرار الوجوب مع الجميع فإذا لا يلزم من صم رمضان أبدا الإخبار بكون الصوم مؤبدا مستمرا حتى يلزم من نفي الاستمرار بالنسخ التناقض والبداء كما لو كان الوقت معينا بأن قال: صم رمضان هذه السنة ثم نسخه قبل مجيئه إذ لا منافاة بين إيجاب صوم رمضان وانقطاع التكليف عنه قبله بالنسخ

(3/248)


فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام في هذا الباب والذي هو محل النسخ قسم واحد وهو حكم مطلق يحتمل التوقيت لم يجب بقاؤه بدليل يوجب البقاء كالشراء يثبت به الملك دون البقاء فينعدم الحكم لانعدام سببه
ـــــــ
كانقطاع التكليف عنه قبله بالموت ويكون التأبيد معلقا بشرط عدم النسخ أي افعلوا أبدا إن لم أنسخه عنكم كما كان قوله: افعل كذا في وقت كذا مقيدا بشرط عدم النسخ أي افعل كذا في ذلك الوقت إن لم أنسخه عنك.
هذا حاصل كلام الفريقين ولا طائل في هذا الخلاف إذ لم يوجد في الأحكام حكم مقيد بالتأبيد أو التوقيت قد نسخ شرعيته بعد ذلك في زمان الوحي ولا يتصور وجوده بعد فلا يكون فيه كثير فائدة.
قوله "فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام" ما لا يحتمل إلا وجها واحدا وهو الوجود وما يحتمل الوجود والعدم وقد التحق به تأبيد نصا أو دلالة أو توقيت وهو حكم مطلق احترازا عن المقيد بالتأبيد أو التوقيت يحتمل التوقيت احترازا عما لا يحتمله كالإيمان بالله تعالى وصفاته لم يجب بقاؤه بدليل يوجب البقاء احترازا عن الشرائع التي قبض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفة بعد صفة كالشراء يثبت به الملك دون البقاء يعني أنه يوجب الملك في المبيع للمشتري ولا يوجب إبقاءه له بل بقاؤه بدليل آخر مبق أو بعدم الدليل المزيل وكذا يوجب الثمن للبائع في ذمة المشتري ولا يوجب بقاءه له في ذمته قوله "فينعدم الحكم" إلى آخره تقريب وجواب عن كلام اليهود الذين ادعوا لزوم البداء والتناقض في النسخ يعني لما لم يكن بقاء الحكم بدليل موجب للبقاء بل بعدم الدليل المزيل كان عدم الحكم عند ورود الناسخ لعدم سببه أي بسبب بقائه وهو عدم الدليل المزيل لتبدل ذلك العدم بوجود الناسخ لا أن يكون الناسخ بنفسه متعرضا له بالإبطال والإزالة ليلزم منه البداء والتناقض كما زعموا بل عدمه لعدم سببه كالحياة تنعدم بعدم سببها لا بالموت. ونظيره خروج شهر ودخول آخر فإن الأول ينتهي به لا أن يكون الثاني مزيلا له فكذا الحكم الأول ينتهي بالناسخ لا أن يكون الناسخ مزيلا فلا يكون تناقضا وبداء أو المراد من السبب المعنى الداعي إلى شرعيته يعني انعدم الحكم لعدم المعنى الداعي إليه لا بالناسخ كانتهاء شرعية إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة بانتهاء سببه وهو ضعف المسلمين وحصول إعزاز الدين به فإن تأليفهم على الإسلام بإعطاء المال ودفع أذاهم عن المسلمين به كان إعزازا للدين في ذلك الزمان فلما قوي أمر الإسلام كان

(3/249)


لا بالناسخ بعينه فلا يؤدي إلى التضاد والبداء ولا يصير الشيء الواحد حسنا وقبيحا في حالة واحدة بل في حالين, فإن قيل: إن الأمر بذبح الولد في قصة إبراهيم عليه السلام نسخ فصار الذبح بعينه حسنا بالأمر وقبيحا بالنسخ قيل له لم يكن ذلك بنسخ للحكم بل ذلك الحكم بعينه ثابت, والنسخ هو انتهاء الحكم ولم يكن بل كان ثابتا إلا أن المحل الذي أضيف إليه لم يحله الحكم على طريق الفداء دون النسخ وكان ذلك ابتلاء استقر حكم الأمر عند المخاطب وهو
ـــــــ
إعطاؤهم دنية في الدين لا إعزازا له فانتهى بانتهاء سببه وإذا كان كذلك لا يكون النسخ بداء ولا تناقضا لعدم تعرض الناسخ للحكم الأول أصلا ولا مستلزما لاجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في حالة واحدة كما زعموا بل يلزم منه اجتماعهما في شيء واحد في حالتين وذلك ليس بمستحيل إذ من شرطه اتحاد المكان والزمان جميعا
قوله "فإن قيل" هذا سؤال يرد على قوله ولا يصير الشيء الواحد حسنا وقبيحا في حالة واحدة وتقريره أنكم أنكرتم في النسخ لزوم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في حالة واحدة وقد وجد ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام فإنه أمر بذبح الولد ثم نسخ ذلك بذبح الشاة بدليل أن ذبح الولد قد حرم بعد ذلك فصار الذبح منهيا عنه مع قيام الأمر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به ثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه وقيام الأمر بالذبح دليل على حسنه وفيه اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في وقت واحد فأجاب عنه وقال لا نسلم أن الحكم الذي كان ثابتا انتسخ بذبح الشاة وكيف يقال ذلك وقد سماه الله تعالى محققا رؤياه بقوله جل جلاله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} "الصافات: 105". أي حققت ما أمرت به بل نقول المحل الذي أضيف إليه الذبح وهو الولد لم يحله الحكم على طريق الفداء كما نص الله تعالى عليه بقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} "الصافات: 107" على معنى أن هذا الذبح تقدم على الولد في قبول الذبح المضاف إلى الولد إذ الفداء في اللغة اسم لما يقوم مقام الشيء في قبول المكروه المتوجه عليه يقال: فديتك نفسي أي قبلت ما توجه عليك من المكروه وكذلك من رمى سهما إلى غيره فتقدم على المرمى إليه آخر وقبل ذلك السهم يقال فداه بنفسه مع بقاء خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده ولما سميت الشاة فداء علم أن الذبح المضاف إلى الولد أقيم في الشاة وصارت الشاة قائمة مقام الولد في قبول الذبح مع بقاء الأمر مضافا إلى الولد فيصير محل إضافة السبب الولد, ومحل قبول الحكم الشاة ولهذا قال عليه السلام: "أنا ابن الذبيحين" وما ذبحا حقيقة بل فديا بالقربان ولكن لما كان القربان قائما مقام الولد صار الولد بذبحه مذبوحا حكما وإذا ثبت أن ذلك كان بطريق

(3/250)


إبراهيم صلوات الله عليه في آخر الحال على أن المبتغى منه في حق الولد أن يصير قربانا بنسبة حسن الحكم إليه مكرما بالفداء الحاصل لمعرة الذبح مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حال المكاشفة وإنما النسخ بعد استقرار المراد بالأمر لا قبله, وقد سمي فداء في الكتاب لا نسخا فيثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
الفداء كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالأمر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه; لأن ذلك يبتني على النهي الذي هو ضد الأمر ولا تصور لاجتماعهما في شيء واحد في وقت واحد فتبين به أن الحسن والقبح لم يجتمعا في شيء واحد لانتفاء النهي الموجب للقبح الناسخ للأمر بل نفى الأمر كما كان موجبا للحسن إلا أن الفعل انتقل إلى الشاة لما قلنا
قوله. "وكان ذلك ابتلاء" كأنه جواب عما يقال ما الحكمة في إضافة إيجاب الذبح إلى الولد إذا لم يتحقق فعل الذبح فيه فقال كان ذلك ابتلاء في حق الخليل عليه السلام حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده وفي حق الولد بالمجاهدة والصبر على معرة الذبح إلى حال المكاشفة واستقر حكم الأمر عند المخاطب وهو إبراهيم عليه السلام في آخر الحال على أن المبتغى أي المطلوب منه أي من الأمر في حق الولد أن يصير قربانا بهذه الجهة وهي نسبة الذبح إليه بأن يقال ذبيح الله لا أن يصير قربانا بحقيقة القتل مكرما خبر آخر ليصير أي وأن يصير مكرما بالفداء الحاصل لمعرة الذبح اللام متعلقة بالحاصل وضمن الحاصل معنى الدافع أي بالفداء الذي حصل دافعا لمعرة الذبح أي لشدته أو بالفداء الذي حصل لأجل دفع معرته مبتلى خبر آخر له أيضا أي وأن يصير مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حالة المكاشفة وهي حالة الفداء فإنه صبر إلى هذه الحالة وقال لأبيه {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} "الصافات: 102" وإليه أشار الله تعالى بقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} "الصافات: 103" فتبين أنه ليس بنسخ وقد سمي أي ذبح الشاة فداء في الكتاب أي في كتاب الله تعالى في قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} "الصافات: 107" والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للأصل فثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه وهو كونه بيانا لانتهاء الحكم الأول; لأن الحكم الأول وهو وجوب الذبح باق بعد صيرورة الشاة فداء وإذا لم يكن نسخا لم يلزم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد في زمان واحد لما ذكرنا.
"فإن قيل" لا نسلم أن ذبح الشاة وجب بحكم الأمر بالذبح المضاف إلى الولد; لأن أحدا لا يفهم من الأمر بذبح الولد ذبح الشاة بل نسخ ذلك الأمر بأمر مبتدأ مضاف إلى الشاة وانتهى نهايته كما ذهب إليه عامة الأصوليين وتبين أنه كان مأمورا بالاشتغال

(3/251)


---------------------------------------------------------
ـــــــ
بمقدمات الذبح وهو قدر ما أتى به على ما قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} "الصافات: 103" ألا ترى أنه لما ائتمر بذلك القدر سماه الله تعالى محققا للرؤيا والدليل عليه أنه قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} "الصافات: 102" وهذا ينبئ عن الاشتغال بمقدمة الذبح لا عن الاشتغال بحقيقته إذ لو كان مأمورا بحقيقته لكان ينبغي أن يقول: إني أرى في المنام أني ذبحتك إلا أن الشاة سميت فداء لتصورها بصورة الفداء وهو أن ذبحها كان عقيب الذبح المضاف إلى الولد قلنا لا يمكن إثبات أمر آخر وهو غير مذكور في القرآن ولو جعلنا الشاة مذبوحة بأمر مبتدأ لا يكون فداء لما ذكرنا أن الفداء ما يقبل مكروها متوجها على غيره فمتى أقيم حكم الأمر في الولد وحصل الائتمار لا تكون الشاة قابلة مكروها متوجها عليه فلا تكون فداء ولأنه إنما رأى في المنام ذبح الولد مقدمة الذبح فلا يجوز حمله على أنه كان مأمورا بمقدماته; لأن فيه مخالفة النص ونسبة إبراهيم وولده عليهما السلام إلى أنهما اعتقدا وجوب ما لا يحل وهو ذبح الولد, وإنما لم يقل ذبحتك; لأنه ينبئ عن فعل ماض قد تم ووقع الفراغ عنه وما رأى في المنام ذلك, وإنما رأى مباشرة فعل الذبح فتكون العبارة عنه أذبحك; لأن مثله ينبئ عن الحال., فأما تسميته مصدقا للرؤيا فلأنه باشر فيما وسعه من أسباب الذبح وإمرار السكين على محل الذبح بطريق المبالغة مرارا وهذا هو مباشرة فعل الذبح من العبد فصار به ذابحا محققا لما أمر به فلذلك صح قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} "الصافات: 105", فأما حصول حقيقة الذبح فلم يكن في وسعه إذ المتولدات تحدث بخلق الله تعالى على أنا نسلم نسخ محلية الذبح في الولد بصيرورة الشاة فداء عنه ولكن لا نسلم انتساخ الأمر والإضافة بل نقول بعد صيرورة الشاة فداء بقي الأمر مضافا إلى ولد حرام ذبحه وحكم ذلك الأمر وجوب ذبح الشاة وبقي الولد محلا لإضافة الإيجاب إليه وقد انتسخت محلية الفعل لا محلية الإضافة كذا في الأسرار والطريقة البرغرية والله أعلم

(3/252)