كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب تقسيم
الناسخ"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه الحجج أربعة: الكتاب والسنة
والإجماع والقياس أما القياس فلا يصلح ناسخا لما نبين إن
شاء الله تعالى والإجماع
ـــــــ
"باب تقسيم الناسخ"
اعلم أن الناسخ يطلق على الله تعالى يقال نسخ الله تعالى
التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ومنه قوله
تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106"، وقوله عز
اسمه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}
[الحج: 52" وعلى الحكم الثابت كما يقال وجوب صوم رمضان نسخ
وجوب صوم عاشوراء وعلى من يعتقد نسخ الحكم كما يقال فلان
ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك وعلى الطريق المعرف
لارتفاع الحكم من الآية وخبر الرسول ونحوهما عند من جوز
النسخ بغيرهما وهو المراد هاهنا ولا خلاف أن إطلاقه على
المتوسطين مجاز, وإنما الخلاف في الطرفين فعندنا إطلاقه
على الله تعالى حقيقة وعلى الطريق المعرف مجاز وعند
المعتزلة على العكس والنزاع لفظي الحجج أربع وفي بعض النسخ
أربعة على تأويل الدلائل
قوله "أما القياس فلا يصلح ناسخا لما نبين" كأنه أراد
بقوله لما نبين ما ذكر في باب شروط القياس أن من شرطه أن
يتعدى إلى فرع لا نص فيه إذ التعدية بمخالفة النص مناقضة
حكم النص وهو باطل واعلم أن القياس المظنون لا يكون ناسخا
لشيء عند الجمهور سواء كان جليا أو خفيا ونقل عن أبي
العباس بن شريح من أصحاب الشافعي رحمهم الله أن النسخ يجوز
به; لأن النسخ بيان كالتخصيص فما جاز التخصيص به جاز النسخ
به أيضا. وكان أبو القاسم الأنماطي1 من أصحابه لا يجوز ذلك
بقياس الشبه ويجوز بقياس مستخرج من الأصول وكان يقول كل
قياس هو مستخرج من القرآن يجوز
ـــــــ
1 هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي وتوفي سنة
288هـ أنظر وفيات الأعيان:3/241.
(3/260)
فقد ذكر بعض
المتأخرين أنه يصح النسخ به والصحيح أن النسخ به لا يكون
إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ليس بحجة
في حياته; لأنه لا إجماع دون رأيه, والرجوع
ـــــــ
نسخ الكتاب به وكل قياس هو مستخرج من السنة يجوز نسخ السنة
به; لأن هذا في الحقيقة نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة
بالسنة فثبوت الحكم بمثل هذا القياس يكون محالا به على
الكتاب والسنة إذ القياس بكثير محال النص
وذكر في بعض الكتب أن النسخ يجوز عند أبي القاسم بالقياس
الجلي دون الخفي قال الغزالي رحمه الله لفظ الجلي مبهم إن
أراد به المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا. تمسك
الجمهور باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا مجمعين
على ترك الرأي بالكتاب والسنة, وإن كانت السنة من الآحاد
حتى قال عمر رضي الله عنه في حديث الجنين كدنا أن نقضي فيه
برأينا وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال علي
رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف بالمسح
أولى من ظاهره ولكني "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يمسح على ظاهر الخف دون باطنه1" وبأن ما تقدم على القياس
المظنون الذي ينسخ به لا يخلو من أن يكون قطعيا أو ظنيا
فإن كان قطعيا فلا يجوز نسخه به لانعقاد الإجماع على وجوب
تقديم القاطع على غيره وترك الأضعف بالأقوى, وإن كان ظنيا
فلا نسخ أيضا; لأن العمل بالمظنون المتقدم إنما يثبت
مشروطا برجحانه على ما يعارضه وينافيه إذ لو ترجح عليه
قياس آخر يبطل شرط العمل به وخرج عن كونه مقتضيا للحكم
فتبين من القياس الراجح أن حكم المظنون المتقدم لم يكن
ثابتا وإذ لا ثبوت له فلا رفع ولا نسخ
وأما اعتبار النسخ بالتخصيص فمنقوض بدليل العقل والإجماع
وخبر الواحد فإن التخصيص بها جائز دون النسخ وكيف يتساويان
والتخصيص بيان والنسخ رفع وإبطال. وما ذكره الأنماطي ضعيف
أيضا فإن الوصف الذي به يرد الفرع إلى الأصل المنصوص عليه
في الكتاب والسنة غير مقطوع بأنه هو المعنى في الحكم
الثابت بالنص حتى لو كان ذلك المعنى مقطوعا به بأن كان
منصوصا عليه جاز النسخ فيه أيضا كالنص واختلفوا أيضا في
جواز كون القياس منسوخا فمنهم من منع من ذلك مطلقا
كالحنابلة وعبد الجبار في قول مصير منهم إلى أن القياس إذا
كان مستنبطا من أصل فالقياس باق ببقاء الأصل فلا يتصور رفع
حكمه مع بقاء أصله
ومنهم من جوز نسخ القياس الموجود في زمن النبي عليه السلام
دون ما وجد بعده كأبي الحسين البصري واختيار العامة أن لا
يكون منسوخا كما لا يكون ناسخا; لأن ما بعد
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 162.
(3/261)
إليه فرض وإذا
وجد منه البيان كان منفردا بذلك لا محالة وإذا صار الإجماع
واجب العمل به لم يبق النسخ مشروعا وإنما يجوز النسخ
بالكتاب والسنة وذلك أربعة أقسام نسخ الكتاب بالكتاب
والسنة بالسنة ونسخ السنة بالكتاب
ـــــــ
القياس قطعيا كان أو ظنيا يبين زوال شرط العمل بالقياس
المظنون وهو رجحانه لرجحان القاطع والظني المتأخر عنه وإلا
لما صلح لنسخ المتقدم, وإذا زال شرط العمل به فلا حكم له
فلا رفع ولا نسخ. وذكر في الميزان نسخ القياس لا يجوز
بالقياس ولا بدليل فوقه لما ذكرنا أن النسخ انتهاء الحكم
الشرعي وبالدليل المعارض إذا كان فوقه تبين أن ذلك القياس
لا يصح, وإذا كان مثله لا يبطل حكم الأول ويعمل المجتهد
بالثاني إذا ترجح عنده على ما مر قال أبو الحسين نسخ
القياس في المعنى يجوز بنص متقدم وبإجماع وبقياس نحو أن
يجتهد بعض الناس فيحرم شيئا بقياس بعدما اجتهد في طلب
النصوص ثم يظفر بنص بخلاف قياسه أو تجمع الأمة على خلاف
قياسه أو يظفر هو بقياس أولى من قياسه الأول فيلزم في كل
الأحوال ترك قياسه الأول ولا يسمى ذلك نسخا; لأن القياس
الأول إنما عمل به بشرط أن لا يعارضه قياس أولى منه ولا نص
ولا إجماع. هذا إنما يتم هذا على القول بأن كل مجتهد مصيب;
لأنه يقول: إن هذا القياس قد تعبد به ثم رفع, فأما من لا
يقول كل مجتهد مصيب فإنه لا يقول قد تعبد به فلا يمكن نسخ
التعبد به
قوله "وأما الإجماع" فكذا الإجماع يجوز ناسخا للكتاب
والسنة والإجماع عند بعض مشايخنا منهم عيسى بن أبان وإليه
ذهب بعض المعتزلة تمسكوا بما روي أن عثمان رضي الله عنه
لما حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين قال ابن عباس رضي
الله عنهما كيف تحجبها بأخوين وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ
كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11"
والأخوان ليسا بإخوة فقال حجبها قومك يا غلام فدل على جواز
النسخ بالإجماع وبأن المؤلفة قلوبهم سقط نصيبهم من الصدقات
بالإجماع المنعقد في زمان أبي بكر رضي الله عنه وبأن
الإجماع حجة من حجج الشرع موجبة للعلم كالكتاب والسنة
فيجوز أن يثبت النسخ به كالنصوص ألا ترى أنه أقوى من الخبر
المشهور والنسخ بالخبر المشهور جائز حيث جاز به الزيادة
على النص التي هي نسخ فبالإجماع أولى
وعند جمهور العلماء لا يجوز النسخ به; لأن الإجماع عبارة
عن اجتماع الآراء في شيء ولا مجال للرأي في معرفة نهاية
وقت الحسن والقبح في الشيء عند الله تعالى ثم أوان النسخ
حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتفاقنا على أن لا
نسخ بعده وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع بدون رأيه
وكان الرجوع إليه فرضا, وإذا وجد البيان منه فالموجب للعلم
قطعا هو البيان المسموع منه., وإنما يكون الإجماع موجبا
للعلم بعده ولا نسخ بعده فعرفنا أن النسخ بدليل الإجماع لا
يجوز
(3/262)
ونسخ الكتاب
بالسنة وذلك كله جائز عندنا وقال الشافعي رحمه الله بفساد
القسمين الآخرين واحتج بقوله تبارك وتعالى: {مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا} [البقرة: 106" وذلك يكون بين الآيتين والسنتين
فأما في القسمين الآخرين فلا واحتج بقوله تعالى: {قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}
[يونس: 15" فثبت أن السنة لا تنسخ
ـــــــ
وهذا الدليل, وإن لم يفصل بين كون الإجماع ناسخا للكتاب
والسنة وبين كونه ناسخا للإجماع في عدم الجواز إلا أن
الشيخ رحمه الله ذكر في آخر باب حكم الإجماع أن نسخ
الإجماع بإجماع آخر جائز فيكون ما ذكر هاهنا محمولا على
عدم جواز نسخ الكتاب والسنة به دفعا للتناقض والفرق على ما
اختاره أن الإجماع لا ينعقد ألبتة بخلاف الكتاب والسنة فلا
يتصور أن يكون ناسخا لهما ولو وجد الإجماع بخلافهما لكان
ذلك بناء على نص آخر ثبت عندهم أنه ناسخ للكتاب والسنة
ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد
إجماع آخر على خلاف الأول ولكن عامة الأصوليين أنكروا كون
الإجماع ناسخا لشيء أو منسوخا بشيء لما بينا أنه لا يصلح
ناسخا للكتاب والسنة ولا يصلح أن يصير منسوخا بهما أيضا
لعدم تصور حدوث كتاب أو سنة بعد وفاة النبي عليه السلام
وكذا لا يصلح ناسخا للإجماع ولا منسوخا به; لأن الإجماع
الثاني إن دل على بطلان الأول لم يجز ذلك إذ الإجماع لا
يكون باطلا. وإن دل على أنه كان صحيحا لكن الإجماع الثاني
حرم العمل به من بعد لم يجز ذلك إلا لدليل شرعي متجدد وقع
لأجله الإجماع من كتاب أو سنة أو لدليل كان موجودا أو خفي
عليهم من قبل ثم ظهر لهم وكل ذلك باطل لاستحالة حدوث كتاب
أو سنة بعد وفاته عليه السلام ولعدم جواز خفاء الدليل الذي
يدل على الحق عند الإجماع الأول على الكل لاستلزامه
إجماعهم على الخطأ وكذا لا يصلح ناسخا للقياس ولا منسوخا
به لما مر وأما تمسكهم بقصة عثمان رضي الله عنه فضعيف;
لأنها إنما تدل على النسخ بالإجماع لو ثبت كون المفهوم حجة
قطعا حتى يكون معنى الآية من حيث المفهوم, فإن لم يكن له
إخوة فلا يكون لأمه السدس بل الثلث وثبت أيضا أن لفظ
الإخوة لا ينطلق على الأخوين قطعا ولم يثبت واحد منهما
كذلك فلا يلزم النسخ على أنه لا يلزم النسخ بالإجماع على
تقدير ثبوتهما أيضا لإمكان تقدير النص الدال على الحجب إذ
لو لم يقدر ذلك كان الإجماع على الحجب خطأ وحينئذ يكون
الناسخ هو النص لا الإجماع وكذا تمسكهم بسقوط نصيب المؤلفة
قلوبهم; لأن ذلك لم ينسخ بالإجماع بل هو من قبيل انتهاء
الحكم بانتهاء موجبه على ما عرف في موضعه.
قوله "وقال الشافعي بفساد القسمين الآخرين" هما مسألتان
إحداهما نسخ
(3/263)
الكتاب واحتج
بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه
على كتاب الله تعالى, فإن وافق الكتاب فاقبلوه وإلا فردوه"
وقال ولأن في هذه صيانة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شبهة
الطعن; لأنه لو نسخ القرآن به أو سننه كما نسخت بالكتاب
لكان
ـــــــ
الكتاب بالسنة المتواترة وهو جائز عند جمهور الفقهاء
والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وإليه ذهب المحققون من
أصحاب الشافعي ونص الشافعي رحمه الله في عامة كتبه أنه لا
يجوز وهو مذهب أكثر أهل الحديث
ثم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا يجوز ذلك عقلا وهو الظاهر
من مذهب الشافعي وإليه ذهب الحارث المحاسبي وعبد الله بن
سعيد والقلانسي من متكلمي أهل الحديث وأحمد بن حنبل في
رواية عنه وقال بعضهم يجوز ذلك عقلا ولكن الشرع لم يرد به
ولو ورد به كان جائزا وبه قال ابن شريح في إحدى الروايتين
عنه وقال بعضهم قد ورد الشرع بالمنع من ذلك وهو قول أبي
حامد الإسفراييني.
والثانية نسخ السنة بالكتاب وهو جائز أيضا عند جميع من قال
بالجواز في المسألة الأولى وعند بعض من أنكر الجواز فيها
منهم عبد القاهر البغدادي وأبو المظفر السمعاني وذكر عن
الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما
يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولوح في موضع آخر
بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابه على قولين أحدهما أنه
لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه والآخر أنه يجوز وهو الأولى
بالحق كذا ذكره السمعاني في القواطع
واستدل من أنكر الجواز عقلا في المسألة الأولى بأن المنسوخ
ما كان منسوخا في عهد النبي عليه السلام والخبر يصير
متواترا بعده فلا يجوز أن تكون المعرفة بكونه منسوخا
موقوفة عليه ولهذا لم يجز النسخ بالإجماع إذ لو جاز به
النسخ لصارت المعرفة بنسخه موقوفة على انعقاد الإجماع في
الزمان المستقبل على نسخه. وربما بنوا هذه المسألة على
جواز الاجتهاد للنبي عليه السلام فقالوا لما جاز له
الاجتهاد فيما لم يوح إليه لم نأمن في تجويز نسخ القرآن
بالسنة أن تكون السنة الناسخة صادرة عن الاجتهاد فيقع
حينئذ نسخ القرآن بالاجتهاد وهو غير جائز. قالوا: ولهذا
أخرنا التخصيص بالسنة لجوازه بالاجتهاد والقياس عندنا
واستدل من قال بعدم الجواز شرعا بقوله تعالى: {مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106", فإنه يدل على أن
الآية لا تنسخ إلا بآية; لأنه تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا} [البقرة: 106" وهو يدل على أن البدل خير أو مثل
وعلى
(3/264)
مدرجة إلى
الطعن فكان التعاون به أولى وقد احتج بعض أصحابنا في ذلك
بقوله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} في الآية فرض هذه
الوصية ثم نسخت بقول
ـــــــ
أنه من جنس المبدل; لأن قول القائل: لا آخذ منك درهما إلا
آتيك بخير منه يفيد أنه يأتي بدرهم خير من الدرهم المأخوذ
والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثلا له ولا من جنسه بلا
شك; لأن القرآن كلام الله تعالى وهو معجز والسنة كلام
الرسول عليه السلام وهي غير معجزة فلا يجوز نسخه بها.
ولأنه تعالى قال {نَأْتِ} وهو يدل على أن الآتي بالخير أو
المثل هو الله تعالى; لأن الضمير له وذلك لا يكون إلا
والناسخ قرآن لا سنة ويؤكده سياق الآية وهو قوله تعالى:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ} [البقرة: 106" لإشعاره بأن الآتي به هو الله
تعالى وتمسك بعضهم بهذه الآية لعدم الجواز في المسألة
الثانية فقالوا: لما دلت الآية على اشتراط المماثلة
والمجانسة في النسخ حتى لم يجز نسخ الكتاب بالسنة لعدم
الشرطين لا يجوز نسخ السنة بالكتاب لفوات الشرطين وإليه
أشار الشيخ بقوله وذلك بين الآيتين أي الإتيان بالمثل أو
بالخير إنما يتحقق بين الآيتين أو السنتين لوجود المجانسة
التي هي شرط النسخ بينهما, فأما في القسمين الآخرين فلا أي
فلا يتحقق ذلك ولكن هذا التمسك ضعيف; لأن ظاهر هذا النص
يقتضي الإتيان بالمثل أو بالخير في نسخ الآية لا في مطلق
النسخ إذ لم يقل ما ننسخ من شيء فلا يصح هذا الاستدلال
ولهذا لم يذكر شمس الأئمة وعامة الأصوليين هذا التمسك في
كتبهم بل تمسكوا بهذه الآية في المسألة الأولى لا غير.
واستدلوا في المسألة الأولى أيضا بقوله تعالى: {قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15". أخبر أن
الرسول عليه السلام ليس إليه ولاية التبديل وأنه متبع لما
أوحي إليه لا مبدل له والتبديل بإطلاقه يتناول تبديل اللفظ
وتبديل الحكم فينتفي الأمران جميعا ولا يكون له ولاية
تبديل الحكم كما لا يكون له ولاية تبديل اللفظ وبقوله عليه
السلام "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى
فما وافق كتاب الله تعالى فاقبلوه وما خالف فردوه" أمر
بالرد عند المخالفة ولا بد للنسخ من المخالفة فكيف يجوز
النسخ بها وفي المسألة الثانية بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44" جعل قول
الرسول عليه السلام بيانا للمنزل فلو نسخت السنة به لخرجت
عن كونها بيانا لانعدامها وبقوله عز اسمه {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:
89" والسنة شيء فيكون الكتاب بيانا لحكمه لا رافعا له وذلك
في أن يكون مؤيدا لها إن كان موافقا ومبينا للغلط فيها إن
كان مخالفا ثم
(3/265)
النبي صلى الله
عليه وسلم "لا وصية لوارث" وهذا الاستدلال غير صحيح
لوجهين: أحدهما أن النسخ إنما ثبت بآية المواريث. وبيانه
أنه قال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
[النساء: 11" فرتب الميراث على وصية نكرة والوصية الأولى
ـــــــ
بين الشيخ لهم من المعقول دليلا يشمل المسألتين فقال ولأن
في هذا أي في عدم جواز نسخ أحدهما بالآخر صيانة الرسول
عليه السلام عن شبهة الطعن; لأنه لو نسخ الكتاب به أي
بالحديث يقول الطاعن هو أول قائل وأول عامل بخلاف ما يزعم
أنه أنزل إليه فكيف يعتمد على قوله ولو نسخت سنة بالكتاب
يقول الطاعن قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه وهو معنى
قوله لكان مدرجة إلى الطعن أي طريقا ووسيلة إليه فكان
التعاون به أي بكل واحد أولى من المخالفة يعني جعل كل واحد
منهما معينا للآخر ومؤيدا له أولى من جعله رافعا ومبطلا
لصاحبه سدا لباب الطعن لعلمنا أنه مصون عما يوهم الطعن.
ولا يقال في نسخ الكتاب بالكتاب مثل هذه المدرجة أيضا, فإن
الطاعن يقول كيف نعتمد قوله في أن هذا الكلام من الله
تعالى وقد يمكنه أن يقول: إن الله تعالى يقول بخلافه;
لأنهم يقولون: إن الله تعالى أجاب عن هذا الطعن بقوله:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}
[النحل: 102" فلا يكون في تجويز نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه
للطعن بخلاف ما نحن فيه.
قوله "واحتج بعض أصحابنا" منهم الشيخ أبو منصور رحمه الله
في ذلك أي في جواز نسخ الكتاب بالسنة بقوله تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ} , فإن الوصية لهم كانت فرضا بموجب هذه
الآية ثم نسخت بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" وهذا
الحديث في قوة المتواتر إذ المتواتر نوعان متواتر من حيث
الرواية ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير نكير, فإن
ظهوره يغني الناس عن روايته وهو بهذه المثابة, فإن العمل
ظهر به مع القول من أئمة الفتوى بلا تنازع فيجوز النسخ به,
وقد ذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف رحمهما الله أنه
يجوز نسخ الكتاب بمثل خبر المسيح لشهرته ولا يجوز أن يقال:
إنما ثبت النسخ بآية المواريث; لأن فيها إيجاب حق آخر
بطريق الإرث وثبوت حق بطريق لا ينافي ثبوت حق آخر لطريق
آخر كما في حق الأجانب وبدون المنافاة لا يثبت النسخ ولا
يجوز أن يقال لعل ناسخه مما أنزل في القرآن ولكن لم يبلغنا
لانتساخ تلاوته مع بقاء حكمه; لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى
القول بالوقف في جميع أحكام الشرع إذ ما من حكم إلا ويتوهم
فيه أن ناسخه نزل ولم يبلغنا لانتساخ تلاوته. وإلى
الامتناع تعيين ناسخ ومنسوخ أبدا إذ ما من ناسخ إلا ويحتمل
أن يقدر أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه إلا ويحتمل
أن
(3/266)
كانت معهودة
فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث ثم نسخت بالسنة لوجب
ترتيبه على المعهود فصار الإطلاق نسخا للقيد كما يكون
القيد نسخا للإطلاق والثاني أن النسخ نوعان أحدهما ابتداء
بعد انتهاء محض والثاني بطريق الحوالة كما نسخت القبلة
بطريق الحوالة إلى الكعبة وهذا النسخ من القبيل الثاني
وبيانه أن الله تعالى فوض الإيصاء في الأقربين إلى العباد
بقوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة 180"، ثم تولى
ـــــــ
يقدر إسناد ذلك الحكم إلى غيره وفيه خرق الإجماع لانعقاده
على أن ما وجد صالحا لإثبات الحكم هو المثبت وما وجد صالحا
لنسخ الحكم هو الناسخ, وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى
غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه
قال الشيخ: رحمه الله وهذا الاستدلال غير صحيح لوجهين
أحدهما أنا لا نسلم أن نسخ الوصية ثبت بهذا الحديث بل ثبت
بآية المواريث, فإنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وبيانه
أي بيان ثبوت النسخ بالآية أنه تعالى رتب الإرث على وصية
منكرة بقوله عز ذكره {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا
أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11". والوصية الأولى كانت معهودة
معرفة باللام, فإنه تعالى قال: {الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ، فلو
كانت تلك الوصية المفروضة باقية مع الميراث ثم نسخت
بالحديث كما زعموا لوجب ترتيب الميراث على الوصية المعهودة
المفروضة ثم على الوصية النافلة بأن قال من بعد الوصية
للوالدين والأقربين ومن بعد وصية أوصيتم بها للأجانب فلما
رتب الإرث على الوصية المطلقة النافلة دل على نسخ الوصية
المقيدة المفروضة; لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن
التقييد بعد الإطلاق نسخ لتغاير المعنيين ولا يقال المعرفة
إذا أعيدت نكرة كانت الثانية عين الأولى على ما مر في باب
ألفاظ العموم فيكون هذه الوصية عين الأولى فلا يكون في
الآية إشارة إلى نسخها فيتحقق النسخ بالسنة; لأنا نقول ذلك
الأصل غير مسلم عند بعض العلماء, فإن صدر الإسلام أبا
اليسر في أصول الفقه أن الشيء إذا ذكر بلفظ النكرة بعدما
ذكر بلفظ المعرفة كانت النكرة غير المعرفة, فإن من قال
رأيت الرجل ثم قال رأيت رجلا يكون المذكور آخرا غير
المذكور أولا ولئن سلم فذلك إذا لم يمنع عنه مانع وقد تحقق
المانع هاهنا, فإنهم أجمعوا أن الميراث بعد الوصية للأجانب
ومستند الإجماع هذا النص فلو صرفت الوصية المذكورة فيه إلى
المعهودة وقد نسخت المعهودة بلا خلاف لم يبق فيه دلالة على
تأخر الميراث عن الوصية وهو خلاف الإجماع والثاني أي الوجه
الثاني لبيان فساد هذا الاستدلال أن النسخ نوعان أحدهما
ابتداء بعد انتهاء محض أي إثبات حكم ابتداء على وجه يكون
دليلا على انتهاء حكم كان قبله بالكلية
(3/267)
بنفسه بيان ذلك
الحق وقصره على حدود لازمة تعين بها ذلك الحق بعينه فتحول
من جهة الإيصاء إلى الميراث وإلى هذا أشار بقوله
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11" أي
الذي فوض إليكم تولى بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره الإيصاء
ألا ترى قوله {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعاً} [النساء: 110", وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
"إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية
ـــــــ
كنسخ المسالمة بالمقابلة ونسخ إباحة الخمر بحرمتها.
والثاني نسخ بطريق الحوالة وهو أن تحول الحكم من محل إلى
محل آخر من غير أن ينتهي بالكلية كنسخ القبلة من بيت
المقدس إلى الكعبة, فإن أصل فرض التوجه إلى القبلة لم يسقط
به ولكن حول من بيت المقدس إلى الكعبة وكنسخ الأمر بذبح
الولد إلى الشاة عند أكثر الأصوليين
"وهذا النسخ" أي نسخ الوصية للوالدين والأقربين من النوع
الثاني. وبيانه أي بيان كونه نسخا بطريق التحويل أن الله
تعالى فوض الإيصاء في الوالدين والأقربين إلى العباد بشرط
أن يراعوا الحدود وبينوا حصة كل قريب بحسب قرابته وإليه
أشار بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} ثم لما كان الموصي لا يحسن
التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم بجهله وربما كان
يقصد إلى المضارة في ذلك تولى الله تعالى بنفسه بيان ذلك
الحق على وجه يتيقن به بأنه هو الصواب وأن فيه الحكمة
البالغة وقصره على حدود لازمة لا يمكن تغييرها نحو السدس
والثلث والثمن وغيرها تغير بها الحق أي تحول من جهة
الإيصاء إلى الميراث وقوله فتحول تفسير التغيير "وإلى هذا"
أي إلى ما ذكرنا أنه نسخ بطريق التحويل أشار الله تعالى
بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} حيث أطلق
لفظ الإيصاء أي الإيصاء الذي فوض إليكم تولاه بنفسه إذ
عجزتم عن مقاديره لجهلكم. وبقوله جل ذكره: {لا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي لا تعلمون من أنفع
لكم من هؤلاء في الدنيا والآخرة فتولى الله تعالى قسمة
الميراث بينكم كما يقتضيه علمه وحكمته ولم يكلها إليكم أن
الله كان عليما بالحكمة حكيما في القسمة ولما بين بنفسه
ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى
الطرق كمن أمر غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه ينتهي به
حكم الوكالة لحصول المقصود بمباشرة الموكل الإعتاق بنفسه
وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله
تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" , فإن الفاء يدل
على سببية الأول كقولك زارني فأكرمته يعني انتفاء الوصية
باعتبار أن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه, فإن الوصية إنما
وجبت لتبين حق القريب, فإذا تبين حقه ببيان صاحب الشرع لم
تبق الوصية مشروعة وهو معنى قوله بهذا الفرض أي المذكور في
الآية نسخ الحكم الأول وهو وجوب الوصية قال شمس الأئمة
رحمه الله بعد تقرير هذا
(3/268)
لوارث" أي بهذا
الفرض نسخ الحكم الأول وانتهى ومنهم من احتج بأن قول الله
تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} نسخ بإثبات
الرجم بالسنة إلا أنا قد روينا عن عمر أن الرجم كان مما
يتلى ولأن قوله جل وعلا: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} مجمل فسرته السنة واحتج بعضهم بقوله تبارك
وتعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:
ـــــــ
الوجه ولكنا نقول بهذا الطريق يجوز أن يثبت انتهاء حكم
وجوب الوصية للوالدين والأقربين, فأما انتفاء حكم جواز
الوصية لهم فلا يثبت بهذا الطريق ألا ترى أن بالحوالة, وإن
لم يبق الدين واجبا في الذمة الأولى فقد بقيت الذمة محلا
صالحا لوجوب الدين فيها وليس من ضرورة انتفاء وجوب الوصية
لهم انتفاء الجواز كالوصية للأجانب فعرفنا أنه إنما انتسخ
وجوب الوصية لهم لضرورة نفي أصل الوصية وذلك ثابت بالسنة
وهو قوله عليه السلام "لا وصية لوارث" فمن هذا الوجه يتقرر
الاستدلال بهذه الآية
قوله. "ومنهم من احتج" يعني في جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن
حكم الإمساك في البيوت في حق الزواني الثابت بقوله تعالى:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} نسخ بالسنة وهي قوله
عليه السلام: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" إذ
ليس في الكتاب ما يمكن إضافة إيجاب الرجم ونسخ الإمساك
إليه وهو ضعيف أيضا; لأنهم يقولون لا نسلم نسخه بالسنة,
فإنها لا تصلح ناسخة بالاتفاق لكونها من الآحاد بل النسخ
ثبت بالكتاب على ما روي عن عمر رضي الله عنه أن الرجم كان
مما يتلى في القرآن. وقال لولا أن الناس يقولون زاد عمر في
كتاب الله لكتبت على حاشية المصحف الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فكان هذا
نسخ الكتاب بالكتاب أولا ثم نسخ تلاوة الناسخ وبقي حكمه
وقيل نسخ حكم الإمساك بآية الجلد وهي تتناول البكر والثيب
ثم خصت الثيب بحديث الرجم وخبر الواحد يصلح مخصصا عندهم,
وإن لم يصلح ناسخا {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} مجمل فسرته السنة يعني ولئن سلمنا أن الرجم ثبت
بالسنة فذلك بطريق تفسير المجمل لا بطريق النسخ, فإن حكم
الإمساك في البيوت كان موقتا بما هو مجمل وهو قوله تعالى:
{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} , فإن أو هذه
بمعنى إلى أن ثم فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
المجمل بقوله: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر
بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب" الحديث, وتفسير
المجمل بالسنة جائز بالاتفاق فانتهى ذلك الحكم بهذا البيان
كانتهاء الصوم بالليل فلا يكون من باب النسخ
قوله "واحتج بعضهم" أي بعض من جوز نسخ الكتاب بالسنة بقوله
تعالى: {وَإِنْ
(3/269)
11"الآية هذا
حكم نسخ بالسنة وهذا غير صحيح; لأن هذا كان فيمن ارتدت
امرأته ولحقت بدار الحرب أن يعطى ما غرم فيها زوجها المسلم
معونة له وفي ذلك أقوال مختلفة, وقد قيل: إنه غير منسوخ إن
كان المراد به الإعانة من الغنيمة فيكون معنى قوله تعالى:
{فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11" أي غنمتم ومن الحجة الدالة
أن التوجه إلى الكعبة في الابتداء إن ثبت بالكتاب فقد نسخ
بالسنة
ـــــــ
فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ
مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فإن هذا الحكم وهو إيتاء الزوج مثل
ما أنفق حكم نسخ بالسنة إذ لا يتلى ناسخه في القرآن. وهذا
الاستدلال غير صحيح أيضا; لأن هذا أي قوله تعالى: {وَإِنْ
فَاتَكُمْ شَيْءٌ} الآية فيمن أي في شأن من ارتدت امرأته
ولحقت بدار الحرب أن يعطى زوجها بدلا من مال أي في إعطاء
من ارتدت امرأته ولحقت بدار الحرب ما غرم فيها من الصداق
معونة له في دفع الخسران ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل
الندب كما قال شمس الأئمة فلا يكون منسوخا ويحتمل أن يكون
بطريق الوجوب ولكن من مال الغنيمة لا من كل مال, فإن معنى
قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى
غنمتم كما قال الزجاج أو أصبتم عقبى منهم أي كانت الغلبة
لكم حتى غنمتم وعلى هذا التقدير قيل هو غير منسوخ أيضا
وقيل هو منسوخ وناسخه آية القتال كذا في التيسير وقيل
ناسخه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
[النساء: 29" كذا في شرح التأويلات, وإذا كان كذلك لا يصح
الاحتجاج به في موضع النزاع وذكر في المطلع روي أنه لما
نزل قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10" أدى
المؤمنون مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى
المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور المرتدات إلى أزواجهن
المسلمين فنزلت هذه الآية وقال ابن زيد خرجت امرأة من
المسلمين إلى المشركين وأتت امرأة من المشركين فقال القوم
هذه عقبتكم قد أتتكم فنزلت والمعنى, وإن سبقكم وانفلت منكم
شيء من أزواجكم أي أحد منهن إلى الكفار فعاقبتم من العقبة
وهي النوبة شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء
هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى
بأمر يتعاقبون فيه أي يتناوبون كما يتعاقب في الركوب وغيره
ومعناه فجاءت عقبتكم من أدائكم فآتوا من فاتته امرأته من
الكفار مرتدة مثل مهرها من مهر مهاجرة جاءتكم ولا تؤتوه
زوجها الكافر ليكون قصاصا. قالوا وهذه الأحكام التي ذكرها
الله في هاتين الآيتين من الامتحان ورد المهر وأخذه من
الكفار وتعريض الزوج المسلم من الغنيمة أو من صداق وجب رده
على أهل الحرب كل ذلك منسوخ عند جميع أهل العلم
(3/270)
الموجبة للتوجه
إلى بيت المقدس والثابت بالسنة من التوجه إلى بيت المقدس
نسخ بالكتاب, والشرائع الثابتة بالكتب السالفة نسخت
بشريعتنا وما ثبت ذلك إلا بتبليغ الرسول عليه السلام "وترك
رسول الله آية في قراءته فلما أخبر به قال ألم يكن فيكم
أبي فقال: بلى يا رسول الله لكني ظننت أنها نسخت فقال عليه
السلام لو نسخت لأخبرتكم" وإنما ظن النسخ من غير كتاب يتلى
ولم
ـــــــ
قوله.: "ومن الحجة" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه
إلى الكعبة في الصلاة حين كان بمكة ولما هاجر إلى المدينة
كان يتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة ستة عشر شهرا ثم نسخ
ذلك بالتوجه إلى الكعبة فقال الشيخ رحمه الله إن كان
التوجه إلى الكعبة1 في الابتداء يعني كان بمكة ثابتا
بالكتاب فقد نسخ بالسنة الموجبة للتوجه إلى بيت المقدس,
فإنه ثابت بالسنة ظاهرا; لأنه لا يتلى في القرآن فيكون
دليل جواز نسخ الكتاب بالسنة, وإن لم يثبت ذلك فلا شك في
أن التوجه إلى بيت المقدس الثابت بالسنة ظاهرا قد نسخ
بالكتاب وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144" فيكون دليلا على
جواز نسخ السنة بالكتاب.
فإن قيل لا نسلم أن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا
بالسنة بل هو ثابت بالكتاب, فإنه كان من شريعة من قبلنا
وشريعة من قبلنا تلزمنا حتى يقوم الدليل على انتساخه وهذا
حكم ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام 90".
قلنا عندك شريعة من قبلنا تلزمنا بطريق أنها تصير شريعة
لنا بسنة رسول الله عليه السلام قولا أو عملا فلا يخرج
بهذا من أن يكون نسخ السنة بالكتاب مع أن ناسخ ما كان في
شريعة من قبلنا قد ثبت بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين كان بمكة, فإنه كان يصلي إلى الكعبة ثم بعدما قدم
المدينة لما صلى إلى بيت المقدس انتسخت السنة بالسنة ثم
لما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة انتسخت السنة بالكتاب
والشرائع الثابتة بالكتب السالفة نسخت بشريعتنا بلا خلاف
وما ثبتت هي إلا بتبليغ الرسول عليه السلام وتبليغه قد
يكون بالوحي المتلو وغير المتلو فيكون ذلك دليلا على جواز
نسخ الكتاب بالسنة. وعبارة شمس الأئمة فيه ولا خلاف أن ما
كان في شريعة من قبلنا ثبت انتساخه في حقنا بقول أو فعل من
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه وهذا نسخ الكتاب
بالسنة, وإنما ظن النسخ من غير كتاب يتلى, فإنه كان كاتب
الوحي ولم يرد النبي عليه السلام عليه ظنه ولم ينكر عليه
فعله فدل على جواز نسخ التلاوة بغير الكتاب, وإذا ثبت جواز
نسخ التلاوة ثبت
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/250. وأخرجه الترمذي في
التفسير ،باب رقم 2.
(3/271)
يرد عليه وقالت
عائشة "ما قبض رسول الله حتى أباح الله تعالى له من النساء
ما شاء" فكان نسخا للكتاب بالسنة وصالح رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهل مكة على رد نسائهم ثم نسخ بقوله تعالى:
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10" والدليل المعقول أن
النسخ لبيان مدة الحكم وجائز للرسول بيان حكم
ـــــــ
جواز نسخ الحكم; لأن وجوب التلاوة والعمل بحكم المتوكل
واحد منهما ثابت بالكتاب قال أبو اليسر رحمه الله هذا ليس
بقوي; لأن في ذلك الزمان كان القرآن ينزل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فربما اعتقد أنها نسخت بآية أخرى قبيل
هذا الزمان ولم تبلغه لضيق الوقت فلا يتعين النسخ بالحديث
ولعله ظن النسخ بالإنساء. وكان نسخا للكتاب وهو قوله
تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}
[الأحزاب: 52] أي لا يحل لك النساء سوى هؤلاء اللاتي
اخترنك من بعد أي من بعد ما اخترن الله ورسوله بالسنة وهي
إخبار النبي عليه السلام إياها أن الله تعالى أباح له ذلك
وأشار شمس الأئمة رحمه الله إلى أن الصحابة اتفقوا على
كونه منسوخا وناسخه لا يتلى في الكتاب فعرفنا أنهم اعتقدوا
جواز نسخ الكتاب بغيره قال أبو اليسر وهذا لا يقوى; لأن
هذا الحل لم يثبت يعني حل ما زاد على التسع بعدما حرم
بقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}
[الأحزاب: 52] لم يثبت; لأن تحريم ما زاد على التسع محكم
لا يحتمل النسخ بدليل قوله: {مِنْ بَعْدِ} فإنه بمنزلة
التأبيد إذ البعدية المطلقة تتناول الأبد يوضحه أن ذلك ثبت
جزاء لحسن عملهن وهو اختيارهن رسول الله عليه السلام
ومصابرتهن على الفقر والشدة فكيف يجوز أن يبطل ذلك بالنسخ
مع بقائهن على ذلك الاختيار ولئن سلمنا نسخه فذلك ثبت
بقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ
اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] على ما قيل
لا بالسنة فلا يصح هذا الاحتجاج "وصالح رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن من لحق بالكفار من
المسلمين لم يردوه ومن لحق بالمسلمين منهم ردوه وكانت
المصلحة فيه في ذلك الوقت فلما ختم كتاب الصلح جاءت سبيعة
بنت الحارث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر المخزومي
وقيل صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد علي امرأتي كما هو
الشرط وهذه طينة الكتاب لم تجف فنزل قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} "الممتحنة: 10" إلى آخر
الآية" ونسخ ذلك الحكم في حق النساء وهذا السنة بالكتاب.
قوله "والدليل المعقول" وهو معتمد الجمهور أن نسخ أحدهما
أعني الكتاب
(3/272)
الكتاب فقد بعث
مبينا وجائز أن يتولى الله تعالى بيان ما أجرى على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم ولأن الكتاب يزيد بنظمه على
السنة فلا يشكل أنه يصلح ناسخا وأما السنة, فإنما ينسخ بها
حكم الكتاب دون نظمه والسنة في حق الحكم وحي مطلق يوجب ما
يوجبه الكتاب, فإذا بقي النظم من الكتاب وانتسخ الحكم
ـــــــ
والسنة بالآخر ليس بممتنع عقلا ولم يرد منه منع سمعا فوجب
القول بالجواز أما بيان عدم امتناعه عقلا فلأن النسخ في
الحقيقة بيان مدة الحكم كما بينا, فإذا ثبت حكم بالكتاب لم
يمتنع أن يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة بقائه
بوحي غير متلو كما لا يمتنع أن يبينها بوحي متلو وكما لم
يمتنع أن يبين مجمل الكتاب بعبارته لم يمتنع أن يبين مدة
الحكم المطلق بعبارته ألا ترى أن النسخ إسقاط الحكم في بعض
الأزمان الداخلة تحت العموم كما أن التخصيص إسقاط الحكم في
بعض الأعيان الداخلة تحت العموم, فإذا لم يمتنع تخصيص
الكتاب بالسنة المتواترة لم يمتنع نسخه بها أيضا, وإذا ثبت
حكم بالسنة لم يمتنع أيضا أن يتولى الله تعالى بيان مدته
لعلمه بتبدل المصلحة كما لو بينها الرسول عليه السلام
بنفسه وكما لو بين الله تعالى مدة الحكم الثابت بالكتاب;
لأن الحكم الثابت على لسان الرسول عليه السلام أي الثابت
بعبارته هو حكم ثابت من الله تعالى بدليل مقطوع به بمنزلة
الثابت بالكتاب فثبت أن ذلك ليس بممتنع عقلا ولم يرد السمع
بعدم جوازه أيضا; لأن ما تلوا من الآيات لا يدل على عدم
جوازه على ما نبين فثبت أنه جائز. وعبارة بعض الأصوليين
أنه لو امتنع نسخ أحدهما بالآخر لكان لغيره لا لذاته; لأن
كل واحد من الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى} "النجم: 3 - 4" إلا أن الكتاب متلو والسنة غير
متلوة ونسخ أحد القولين بالآخر غير ممتنع بذاته ولهذا فرض
خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسنة أو بجعل السنة ناسخة
للقرآن لما لزم لذاته محال عقلا فإذا لو امتنع لكان لغيره
والأصل عدمه قال صاحب الميزان إذا أخبر النبي عليه السلام
أن هذا الحكم نسخ من غير أن يتلو قرآنا أيقبل خبره أم لا,
فإن قال الخصم لا يقبل فقد انسلخ عن الدين, وإن قال يقبل
فقد ترك مذهبه إذ هو تفسير جواز نسخ الكتاب بالسنة.
قوله "ولأن الكتاب" دليل آخر على الجواز متضمن للجواب عما
قالوا: إن نسخ أحدهما بالآخر لا يجوز لفوات المماثلة
المشروطة بالنص فقال ليس كذلك; لأن الكتاب يزيد بنظمه
لكونه معجزا على السنة فيصلح ناسخا لها لكونه خيرا منها
كما يصلح ناسخا للكتاب لكونه مثلا له والسنة مثل الكتاب في
إثبات الحكم وإيجاب العلم كما قرر في الكتاب فيصح نسخه بها
أيضا.
(3/273)
منه بالسنة كان
المنسوخ مثل الناسخ لا محالة ولو وقع الطعن بمثله لما صح
ذلك في الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة بل في ذلك إعلاء
منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته والله
أعلم وظهر أنه ليس بتبديل من تلقاء نفسه; لأنه جل وعلا قال
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} "النجم: 3" وأما الحديث
فدليل على أن
ـــــــ
"فإن قيل" قوله: فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه يناقض
ما سبق أن أبيا ظن نسخ النظم من غير كتاب يتلى, فإنه يدل
على جواز نسخ النظم بالسنة قلنا المراد هاهنا بيان الوقوع
أي لم يقع نسخ النظم بالسنة, وإنما وقع نسخ الحكم بها
وفيما سبق بيان الجواز أي ظنه يدل على جواز نسخ النظم بدون
الكتاب فلا يكون تناقضا أو المراد من قوله, فإنما ينسخ بها
حكم الكتاب دون نظمه أنه لا يجوز نسخ النظم بالسنة على وجه
تقوم السنة مقامه في جواز أداء الصلاة بها. والمراد من
حديث أبي رضي الله عنه أنه يدل على جواز نسخ النظم بالسنة
على وجه يكون بيانا لانتهاء حكمه فقط فيندفع التناقض وقوله
ولو وقع الطعن جواب عما قالوا نسخ أحدهما بالآخر مدرجة إلى
الطعن فقال لو وقع الطعن بمثله أي بمثل ما نحن فيه من نسخ
الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب وامتنع به لما صح ذلك أي
النسخ في الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة; لأن الطاعن يقول:
إنه يناقض في كلامه وينقل عن الله تعالى كلاما متناقضا
فكيف يعتمد عليه وإليه أشار الله تعالى بقوله: {وَإِذَا
بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُنَزِّلُ} [النحل: 101] قالوا: إنما أنت مفتر ثم لم يندفع
نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة بهذا الطعن فكذا ما نحن
فيه وهذا; لأنه لما علم بالمعجزات الدالة على صدق وصحة
رسالته وأنه مبلغ وأن الجميع من عند الله تعالى لم يبق
للطعن مجال بل في ذلك أي في جواز نسخ الكتاب بالسنة وعكسه
إعلاء منزلة الرسول عليه السلام وتعظيم سنته من حيث إن
الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الأصل إليه
ليبينه بعبارته وجعل لعبارته من الدرجة ما يثبت به انتهاء
مدة الحكم الذي هو ثابت بوحي متلو حتى يتبين به انتساخه.
ومن حيث إنه جعل سنته في إثبات الحكم مثل كلامه وتولى بيان
مدته بنفسه كما تولى بيان مدة الحكم الذي أثبته بكلامه
قوله "وظهر أنه ليس بتبديل" جواب عن تمسكهم بقوله تعالى:
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِي} [يونس: 15] فقال ظهر بما بينا أن نسخ الكتاب
بالسنة ليس بتبديل من عند نفسه كما زعموا بل بوحي من الله
تعالى إلا أنه غير متلو ولا يقال يحتمل أنه كان عن اجتهاد
لجواز الاجتهاد له فيما لم يوح إليه; لأنا نقول: الإذن
بالاجتهاد من الله تعالى أيضا, وإنه في اجتهاده لا يقر
الخطأ فكان اجتهاده مع التقرر بمنزلة
(3/274)
الكتاب يجوز أن
ينسخ السنة وتأويل الحديث أن العرض على الكتاب إنما يجب
فيما أشكل تاريخه أو لم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب
فكان تقديم الكتاب أولى فأما قوله جل وعلا {نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فإن المراد بالخيرية ما
يرجع إلى العباد دون النظم بمعناه فكذلك
ـــــــ
الوحي أيضا وذكر الغزالي رحمه الله أن الناسخ في الحقيقة
هو الله تعالى على لسان رسوله عليه السلام وليس الشرط أن
ينسخ حكم القرآن بل بوحي على لسان رسوله وكلام الله تعالى
واحد وهو الناسخ باعتبار وهو المنسوخ باعتبار وليس له
كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن, وإنما الاختلاف
بالعبارات فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمر بتلاوته
ويسمى قرآنا وربما دل عليه بلفظ غير متلو ويسمى سنة والكل
مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى بكل
حال قوله وتأويل الحديث قال شمس الأئمة رحمه الله وما روي
من قوله عليه السلام فاعرضوه على كتاب الله تعالى فقد قيل
هذا الحديث لا يكاد يصح; لأن هذا الحديث بعينه مخالف لكتاب
الله تعالى, فإن في الكتاب فرضية اتباعه مطلقا وفي هذا
الحديث فرضية اتباعه مقيدا بأن لا يكون مخالفا لما يتلى في
الكتاب ظاهرا ولئن ثبت فالمراد اختبار الآحاد لا المسموع
عنه بعينه أو الثابت عنه بالنقل المتواتر وفي اللفظ ما دل
عليه وهو. قوله عليه السلام إذا روي لكم عني حديث ولم يقل:
إذا سمعتم مني ونحن نقول: إن خبر الواحد لا يثبت نسخ
الكتاب به; لأنه لا يثبت كونه مسموعا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم قطعا ولهذا لا يثبت به علم اليقين على أن
المراد من قوله عليه السلام وما خالف فردوه عند التعارض
إذا جهل التاريخ بينهما حتى لا يوقف على الناسخ والمنسوخ
منهما, فإنه يعمل بما في كتاب الله ولا يجوز ترك ما هو
ثابت في كتاب الله تعالى نصا عند التعارض ونحن هكذا نقول,
وإنما الكلام فيما إذا عرف التاريخ بينهما
قوله: فأما قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا} جواب عن تمسكهم بهذه الآية فقال المراد
بالخيرية هو الخيرية فيما يرجع إلى مرافق العباد دون النظم
بمعناه أي مع معناه أو ملتبسا بمعناه; لأن نظم القرآن لا
يفضل بعضه على بعض بل الكل سواء في الإعجاز وفي كونه قرآنا
فكذلك المماثلة أي فكالخيرية المماثلة في أنها راجعة إلى
مرافق العباد لا إلى المماثلة في النظم فكان المعنى نأت
بخير منها أو مثلها في المحبة والمصلحة والثواب ونحوها لا
بلفظة خير من لفظها أو مثلها فالحاصل أن الخيرية والمثلية
باعتبار الحكم لا باعتبار اللفظ وقد يكون حكم السنة
الناسخة خيرا أو مثلا لحكم الآية المنسوخة من حيث كونه
أصلح للمكلف من الحكم المتقدم أو مساويا له
(3/275)
المماثلة على
أنا قد بينا أن نسخ حكم الكتاب بالسنة خارج عن هذه الجملة
ونسخ السنة بالسنة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم "إني
كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا
ـــــــ
باعتبار الثواب وغيره والمجانسة حاصلة في هذا التقدير; لأن
الأحكام جنس واحد مع أننا لا نسلم أن الخيرية تقتضي
المجانسة; لأن قول القائل من لقيني بحمد وثناء لقيته بخير
منه يراد به المنحة والعطاء لا الحمد والثناء. وأجيب عن
الآية أيضا بأنها لا تفيد أن الخير أو المثل هو الناسخ;
لأنه رتب الإتيان بأحدهما على نسخ الآية فلو كان الخير أو
المثل هو الناسخ لترتب نسخ الآية على الإتيان بأحدهما وهو
دور واعترض عليه بأن غاية ما يلزم منه أن الخير أو المثل
يجوز أن لا يكون ناسخا بل شيئا آخر مغايرا للناسخ يحصل بعد
حصول النسخ وهذا إنما كان يفيد لو كان مدعى المستدل أن
الخير أو المثل هو الناسخ وليس كذلك بل مدعاه أن الناسخ
يجب أن يكون خيرا من المنسوخ أو مثله; لأن الناسخ بدل عن
المنسوخ والآية تدل على أن بدل المنسوخ خير أو مثل خارج
على هذه الجملة أي على وفاق هذه الجملة, فإنا قد بينا أن
السنة مثل الكتاب فيما يقع فيه النسخ وهو الحكم وفي بعض
النسخ عن هذه الجملة أي الآية على أن الكتاب ينسخ بالكتاب
ولا تدل على أنه لا ينسخ بالسنة لما تقدم أن المفهوم ليس
بحجة وأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فهو أنا لا
نسلم دلالة الآية على كون السنة بيانا لجواز أن يكون
المراد من قوله لتبين لتبلغ إذ حمل البيان على التبليغ
أولى من حمله على بيان المراد تفاديا عن لزوم الإجمال
والتخصيص فيما أنزل; لأن التبليغ عام فيه بخلاف بيان
المراد لاختصاصه ببعضه كالعام والمجمل والمطلق والمنسوخ
ولو سلم أن المراد لتبين العام والمجمل والمطلق والمنسوخ
إلى غير ذلك فلا نسلم أن النسخ ليس ببيان; لأنه بيان.أيضا
قوله "ونسخ السنة بالسنة" كذا لم يذكر الشيخ رحمه الله
أمثلة نسخ الكتاب بالكتاب كما ذكرها غيره لظهورها وكثرتها
مثل نسخ آيات المسالمة التي هي أكثر من مائة آية بآيات
القتال ونسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة الثابت بقوله تعالى:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] بوجوب ثباته للاثنين بقوله عز
اسمه {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]
الآية وهذا النص, وإن كان طريقه طريق الخبر لكنه أمر في
الحقيقة روي عن بريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "إني نهيتكم عن الثلاث عن زيارة القبور
فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ولا تقولوا هجرا
وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فأمسكوه ما بدا
لكم وتزودوا, فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن
النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا
(3/276)
فزوروها" فقد
أذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي
أن تمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوها ما بدا لكم وكنت
نهيتكم عن النبيذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت, فإن
الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه" ونسخ خبر الواحد مثله جائز
أيضا.ويجوز أن يكون حكم الناسخ أشق من حكم
ـــــــ
في كل ظرف, فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا
مسكرا" وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه لهذا الحديث قال:
"وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في
الظروف ولا تشربوا مسكرا" فهذا نسخ السنة بالسنة لانتهاء
حكم النهي بالإذن ثم قيل المراد بالنهي عن الزيارة هو
النهي عن زيارة قبور المشركين, فإنهم ما منعوا عن زيارة
قبور المسلمين قط ألا ترى أنه قال فقد أذن لمحمد في زيارة
قبر أمه وكانت مشركة وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس
فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه. وقيل
إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما
كان من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يندبون الموتى عند
قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال: ولا
تقولوا هجرا أي لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع كان
هو التكلم باللغو عند القبور وذلك موضع ينبغي للمرء أن
يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينتسخ إلا أنه في
الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من
الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا وقيل
الإذن ثبت للرجال دون النساء فالنساء يمنعن من الخروج إلى
المقابر لما روي "أن فاطمة رضي الله عنها خرجت في تعزية
لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لعلك أتيت المقابر قالت لا قال لو أتيت ما فارقت
جدك يوم القيامة أي كنت معه في النار" والأصح أن الرخصة
ثابتة للرجال والنساء جميعا فقد روي أن عائشة رضي الله
عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل
وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن وأنشدت
عند القبر قول القائل:
وكنا كندمى في حزيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن تتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي في الابتداء كان للضيق
والشدة فنهاهم عن الإمساك ليتسع توسعهم على معسرهم ولما
عدم ذلك الضيق أذن لهم في الإمساك. فأما النهي عن الشرب في
الأواني المغتلمة فقد كان تحقيقا للزجر عن شرب المسكر
الحرام فقد كانوا ألفوا شربها وقد كان يشق عليهم الانزجار
عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الزوايا
ولما حصل الانزجار أذن لهم في الشرب في الأواني وبين أن
المحرم شرب المسكر وأن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه كذا في
أشربة المبسوط عن النبيذ أي عن أخذ النبيذ أو شرب النبيذ
والنبيذ التمر ينبذ في جرة الماء أو غيرها أي يلقى فيها
حتى
(3/277)
المنسوخ عندنا;
لأن الله تبارك وتعالى نسخ التخيير في صوم رمضان بعزيمة
الصيام ونسخ الصفح والعفو عن الكفار بقتال الذين يقاتلون
فقال : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ} " ثم نسخه بقتالهم كافة بقوله:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]
والناسخ أشق ههنا وقال بعضهم لا يصح إلا بمثله أو بأخف
لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]
والجواب أن ذلك فيما يرجع إلى مرافق العباد وفي الأشق فضل
ثواب الآخرة والله أعلم.
ـــــــ
يغلي وقد يكون من الزبيب والعسل والدباء القرع والحنتم
جرار حمر وقيل خضر تحمل فيه الخمر إلى المدينة الواحد
حنتمة والنقير الخشبة المقورة والمزفت الوعاء المطلي
بالزفت وهو القار وهذه أوعية ضارية تسرع بالشدة في الشراب
وتحدث فيه التغير ولا يشعر به صاحبه فهو على خطر من شرب
المحرم كذا في المغرب.
قوله "ويجوز أن يكون حكم الناسخ أشق من حكم المنسوخ" اختلف
القائلون بالنسخ بعد اتفاقهم على جواز النسخ ببدل أخف كنسخ
تحريم الأكل بعد النوم في ليالي رمضان بحله وببدل مماثل
كنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة في
جواز النسخ إلى بدل أثقل فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين
إلى جوازه وذهب بعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الظاهر منهم
محمد بن داود إلى امتناعه قال شمس الأئمة ذكر الشافعي رحمه
الله في كتاب الرسالة أن الله تعالى فرض فرائض أثبتها
وأخرى نسخها رحمة وتخفيفا لعباده فزعم بعض أصحابه أنه أشار
بهذا إلى وجه الحكمة في النسخ وقال بعضهم أراد به أن
الناسخ أخف من المنسوخ وكان لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل
تمسكوا في ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
[البقرة: 106] أخبر أن الناسخ ما هو خير من المنسوخ أو
مثله. والمراد بالخيرية أو المثلية هو الخيرية أو المثلية
في حقنا وإلا فالقرآن خير كله من غير تفاضل فيه والأشق ليس
بخير ولا مثل فلا يجوز النسخ به وبقوله تعالى: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
[البقرة: 185] وقوله جل ذكره: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28], فإنهما يدلان على إرادة
اليسر والتخفيف والنقل إلى الأشق يدل على إرادة العسر
والتثقيل فيكون خلاف النص فلا يجوز وبأن النقل إلى الأشق
أبعد في المصلحة لكونه إضرارا في حق المكلفين; لأنهم إن
فعلوا التزموا المشقة الزائدة. وإن تركوا تضرروا بالعقوبة
وذلك لا يليق بحكمة الشارع ورأفته على عباده وتمسك الجمهور
بدلالة العقل والشرع على الجواز
(3/278)
---------------------------------------------------------
ـــــــ
أما دلالة العقل فلأن مصلحة المكلف قد تكون في الترقي من
الأخف إلى الأثقل كما يكون في ابتداء التكليف ورفع الحكم
الأصلي كما يكون في النقل من الأثقل إلى الأخف ألا ترى أن
الطبيب ينقل المريض من الغذاء إلى الدواء تارة ومن الدواء
إلى الغذاء أخرى بحسب ما يعلم من منفعته فيه
وأما دلالة الشرع فلأن الله تعالى نسخ التخيير بين صوم
رمضان والفدية عنه في ابتداء الإسلام على ما روى ابن عمر
ومعاذ رضي الله عنهم ذلك فعزيمة الصيام أي بالصوم حتما
بقوله عز اسمه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ولا شك أن الصوم حتما أشق من
التخيير ونسخ الصفح والعفو عن الكفار الثابتين بقوله
تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] بآيات
القتال ونسخ الحبس والإيذاء باللسان في حد الزنا بالجلد
والرجم ونسخ إباحة الخمر ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية
بتحريمها ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكون الحج مندوبا
بكونه فرضا وإباحة تأخير الصلاة عند الخوف بوجوب أدائها في
أثناء القتال وكل ذلك نسخ بالأشق والأثقل
وأما تمسكهم بالآية الأولى فضعيف; لأنا لا نسلم أن الأشق
ليس بخير بل هو خير باعتبار الثواب في الآخرة كما أن الأخف
خير باعتبار السهولة في الدنيا, فإن الأشق أكثر ثوابا على
ما قال عليه السلام لعائشة رضي الله عنها "أجرك على قدر
تعبك" 1 وقال أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها على البدن"
وكذا تمسكهم بالآيتين الأخريين; لأن الآيتين لا تدلان على
اليسر والتخفيف في كل شيء بل في صور مخصوصة. وما ذكروا من
المعقول فهو لازم عليهم في نقل الخلق عن الإباحة والإطلاق
إلى مشقة التكليف وعن الصحة إلى المرض وعن القوة إلى الضعف
وعن الغنى إلى الفقر فما هو الجواب لهم عن صور الإلزام فهو
جوابنا في محل النزاع والله أعلم
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الحج حديث رقم 1211.
(3/279)
|