كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب تفصيل المنسوخ"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه المنسوخ أنواع أربعة التلاوة والحكم والحكم دون التلاوة والتلاوة بلا حكم ونسخ وصفه في الحكم أما نسخ التلاوة والحكم جميعا فمثل صحف إبراهيم عليه السلام فإنها نسخت أصلا إما بصرفها عن القلوب أو بموت العلماء, وكان هذا جائزا في القرآن في حياة النبي عليه السلام قال الله تبارك وتعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}
ـــــــ
"باب تفصيل المنسوخ المنسوخ"
اسم للحكم المرتفع أو اسم للحكم الذي انتهى بالدليل المتأخر وقد يسمى الدليل الأول منسوخا وهو أنواع: نسخ الدليل الذي ثبت به الحكم الأول, ونسخ الشرط الذي تعلق به الحكم الأول, ونسخ الحكم الأول وهو أنواع: نسخ كل الحكم, ونسخ بعض الحكم, والزيادة على الحكم الأول, والنقصان عنه أما نسخ الدليل فعلى ضربين نسخ وحي متلو ونسخ وحي غير متلو وهو خبر الرسول عليه السلام
أما نسخ الكتاب فأنواع نسخ التلاوة والحكم جميعا ونسخ التلاوة دون الحكم وعكسه كذا ذكر في الميزان فظهر بهذا أن مراد الشيخ من تفصيل المنسوخ في هذا الباب تفصيل المنسوخ من الكتاب لا تفصيل مطلق المنسوخ. المنسوخ أنواع أربعة التلاوة والحكم أي اللفظ والحكم المتعلق بمعناه جميعا والحكم دون اللفظ وعكسه ونسخ وصفه نحو نسخ فرضية صوم عاشوراء مع بقاء أصله فمثل صحف إبراهيم فإنا قد علمنا حقيقة أنها كانت نازلة تقرأ ويعمل بها قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} "الأعلي: 18 - 19" ثم نسخت أصلا ولم يبق شيء من ذلك بين الخلق تلاوة ولا عملا به فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك بصرفها عن القلوب أي برفعها عنها أو هو من مغلوب الكلام أي تصرف القلوب عنها أي عن حفظها وكان هذا أي هذا النوع وهو نسخ التلاوة والحكم جميعا بصرف القلوب عنهما جائزا في القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم للاستثناء المذكور في قوله

(3/280)


وقال جل جلاله {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] فأما بعد وفاته فلا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أي نحفظه منزلا لا يلحقه تبديل صيانة للدين إلى آخر الدهر وأما القسم الثاني والثالث فصحيحان عند عامة الفقهاء, ومن الناس من أنكر ذلك فقال لأن النص لحكمه فلا يبقى بدونه والحكم بالنص ثبت فلا يبقى بدونه
ـــــــ
تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} إذ لو لم يتصور النسيان لخلا ذكر الاستثناء عن الفائدة. وقوله تعالى أو ننسها يدل على الجواز أيضا وذلك مثل ما روي عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة وقال الحسن رحمه الله إن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي قرآنا ثم نسيه فلم يكن شيئا أو لم يبق منه شيء لما رفع الله تعالى عن قلبه ذلك
"فأما بعد وفاته فلا" أي فلا يجوز قال بعض الرافضة والملحدة ممن يتستر بإظهار الإسلام وهو قاصد إلى إفساده هذا جائز بعد وفاته أيضا وزعموا أن في القرآن كانت آيات في إمامة علي وفي فضائل أهل البيت فكتمها الصحابة فلم تبق باندراس زمانهم واستدلوا في ذلك بما روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم وأنس رضي الله عنه كان يقول قرأنا في القرآن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وقال عمر رضي الله عنه قرأنا آية الرجم وعيناها وروي في حديث عائشة رضي الله عنها أن ذلك كان مما يتلى بعد وفاة رسول الله عليه السلام
والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ومعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه فإن الله تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان والغفلة فعرفنا أن المراد الحفظ في الدنيا فإن الضياع محتمل منا قصدا كما فعله أهل الكتاب والغفلة والنسيان متوهم منا وبه ينعدم الحفظ إلا أن يحفظه الله عز وجل وهو معنى قوله أي يحفظه منزلا لا يلحقه تبديل ولأنه لا يخلو شيء من أوقات بقاء الخلق في الدنيا عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحي فيما ابتلوا به من أداء الأمانة التي حملوها إذ العقل لا يوجب ذلك وليس به كفاية بوجه من الوجوه وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو جوزنا هذا في بعض ما أوحي وجب القول بتجويز ذلك في جميعه فيؤدي إلى القول بجواز أن لا يبقى شيء مما ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف وهذا قبيح فعرفنا أنه لصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر جل جلاله أنه هو الحافظ لما أنزله على رسوله عن التغيير والمحو عن القلوب فلا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته بطريق الاندراس وذهاب حفظه من قلوب العباد وما نقلوا من

(3/281)


ولعامة العلماء أن الإيذاء باللسان وإمساك الزواني في البيوت نسخ حكمه وبقيت تلاوته, وكذلك الاعتداد بالحول ومثله كثير ولأن للنظم حكمين: جواز الصلاة وما هو قائم بمعنى صيغته, وجواز الصلاة حكم مقصود بنفسه وكذلك الإعجاز الثابت بنظمه حكم مقصود فبقي النص لهذين الحكمين ودلالة أنهما يصلحان مقصودين ما ذكرنا أن من النصوص ما هو متشابه لا يثبت به إلا ما
ـــــــ
أخبار الآحاد فبعضها شاذ لا يكاد يصح وما ثبت منها محمول على أن المحو عن قلوب الصحابة سوى قلب الراوي كان قبل وفاته لا بعده. وأما حديث عائشة فغير صحيح لأنه ذكر في ذلك الحديث وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله عليه السلام فدخل داجن البيت فأكلها ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه عن القلوب ولا يتعذر إثباته في صحيفة أخرى فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث كذا في أصول الفقه لشمس الأئمة.
قوله "وأما القسم الثاني" وهو نسخ الحكم دون التلاوة والثالث وهو نسخ التلاوة دون الحكم صحيحان عند جمهور الفقهاء والمتكلمين ومن الناس وهم فرقة شاذة من المعتزلة من أنكر الجواز في القسمين متمسكين بأن المقصود من النص حكمه المتعلق بمعناه إذ الابتلاء يحصل به والنص وسيلة إلى هذا المقصود فلا يبقى النص بدون حكمه لسقوط اعتبار الوسيلة عند فوات المقصود كوجوب الطهارة لا يبقى بعد سقوط الصلاة بالحيض, والحكم بالنص يثبت لا بغيره فلا يبقى بدونه كالملك الثابت بالبيع لا يبقى بدون البيع بأن انفسخ وعبارة بعضهم أن التلاوة مع الحكم بمنزلة العلم مع العالمية والمفهوم مع المنطوق وكما لا ينفك العلم من العالمية والمفهوم من المنطوق فكذلك التلاوة والحكم لا ينفكان ومنهم من أنكر نسخ التلاوة مع بقاء الحكم دون عكسه لأن الاعتقاد واجب في المتلو أنه قرآن وأنه كلام الله تعالى ولا يصح أن يعتقد فيه خلاف هذا في شيء من الأوقات والقول بجواز نسخ التلاوة يؤدي إليه فلا يجوز وتمسكت العامة في كل واحد من القسمين بالمنقول والمعقول أما بيان المنقول في القسم الأول وهو نسخ الحكم دون التلاوة فهو أن الإيذاء باللسان للزانيين الثابت بقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء 16] وإمساك الزواني أي الزانيات الثابت بقوله عز اسمه {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نسخا بالجلد والرجم مع بقاء تلاوة النصين الدالين عليهما. وقوله: نسخ حكمه أي نفس هذا الحكم ومشروعيته وبقيت تلاوته أي تلاوة النص المثبت له ولو قيل: إن النص الموجب للإيذاء والإمساك نسخ حكمه وبقيت تلاوته لكان أحسن وكذلك الاعتداد بالحول أي

(3/282)


ذكرنا من الإعجاز وجواز الصلاة فلذلك استقام البقاء بهما وانتهى الآخر. وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فمثل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]متتابعات لكنه لما صح عنه إلحاقه عنده بالمصحف ولا تهمة في روايته وجب الحمل على أنه نسخ نظمه وبقي حكمه
ـــــــ
وكالإيذاء باللسان, والإمساك الاعتداد بالحول الثابت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]،نسخ مع بقاء تلاوة هذا النص ومثله كثير مثل نسخ تقديم الصدقة على نجوى الرسول عليه السلام ونسخ التخيير في الصوم ونسخ المسالمة مع الكفار وثبات الواحد للعشرة مع بقاء تلاوة الآيات الموجبة لها. وأما المعقول فهو ما ذكر في الكتاب أن للنظم حكمين إلى آخره وحاصله أن ما يتعلق بالنص من الأحكام على قسمين قسم يتعلق بالنظم مثل جواز الصلاة والإعجاز وغيرهما وقسم يتعلق بالمعنى وهو ما يترتب عليه من الوجوب والحرمة ونحوهما فيجوز أن يكون أحدهما مصلحة دون الآخر, فإذا انتسخ ما يتعلق بالمعنى جاز أن يبقى ما يتعلق بالنظم لكونه مقصودا والدليل على أن ما يتعلق بالنظم يصلح مقصودا أن في القرآن ما هو متشابه ولم يثبت به من الأحكام إلا ما يتعلق بالنظم من جواز الصلاة والإعجاز فإذا حسن ابتداء إنزال النظم له فالبقاء أولى فلذلك أي فلصلاح الحكمين المذكورين لكونهما مقصودين استقام البقاء بهما أي بقاء النص ببقائهما وانتهى الآخر أي الحكم المتعلق بالمعنى كالصلاة مع الصوم لما كان كل واحد منهما مقصودا جاز بقاء أحدهما مع عدم الآخر وبه خرج الجواب عما قالوا المقصود من النص حكمه فلا يبقى النص بدونه لأن الحكم المتعلق بالنظم لما كان مقصودا جاز أن يبقى النظم ببقائه
فأما القسم الثالث وهو نسخ التلاوة دون الحكم فتمسكوا بالمنقول والمعقول أيضا أما المنقول فمثل قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه الله ولكن لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن. ومثل قراءة ابن عباس رضي الله عنهما فأفطر فعدة من أيام أخر ومثل قراءة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وله أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس وكرواية عمر رضي الله عنه الشيخ والشيخة إلى آخره ثم لا يظن بهؤلاء أنهم اخترعوا ما رووا من أنفسهم فيحمل على أنه كان مما يتلى ثم انتسخت تلاوته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرف الله تعالى القلوب عن حفظها إلا قلوب هؤلاء ليبقى الحكم بنقلهم فإن خبر الواحد موجب للعمل به فكان بقاء الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق لا أن يكون نسخ التلاوة بعد وفاة رسول الله عليه السلام

(3/283)


وهذا لأن للنظم حكما يتفرد به وهو ما ذكرنا فيصلح أن يكون هذا الحكم متناهيا أيضا ويبقى الحكم بلا نظم وذلك صحيح في أجناس الوحي وأما القسم الرابع فمثل الزيادة على النص فإنها نسخ عندنا وقال الشافعي إنه
ـــــــ
فإن قيل لا يتصور نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر ولم يثبت بالنقل المتواتر أن ما رووا كان قرآنا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه والدليل عليه أن الحكم الباقي ليس بقطعي ولو كان حكم القرآن لكان قطعيا قلنا القرآنية تثبت بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخباره أنه من عند الله تعالى, وقد ثبت ذلك في حق هؤلاء الرواة وغيرهم إلا أن بصرف قلوب غيرهم عنه لم يثبت القرآنية في حقنا فلا يخرج به من أنه كان قرآنا حقيقة غاية ما فيه أنه يلزم كونه قرآنا في الزمان الماضي بالظن وهو ليس بقادح فيما نحن فيه لأن الثبوت بطريق القطع مشروطة فيما بقي بين الخلق من القرآن لا فيما نسخ. وأما المعقول فما هو المذكور في الكتاب وهو ظاهر ويبقى الحكم بلا نظم أي بلا نظم القرآن وذلك أي الحكم بلا نظم متلو صحيح في أجناس الوحي مثل الأحكام الثابتة بالسنة فإنها تثبت بالإلهام وهو من أقسام الوحي قال شمس الأئمة رحمه الله قد ثبت أنه يجوز إثبات الحكم ابتداء بوحي غير متلو فلأن يجوز بقاء الحكم بعدما انتسخ حكم التلاوة من الوحي المتلو كان أولى وتبين بما ذكرنا أن قولهم: الحكم ثابت بالنص فلا يبقى بدونه فاسد لأن بقاء الحكم لا يكون ببقاء السبب الموجب له فانتساخ التلاوة لا يمنع بقاء الحكم ولا نسلم أن هذا كالعلم مع العالمية إذ لا مغايرة بين قيام العلم بالذات وبين العالمية فإن العالمية هي قيام العلم بالذات وإذ لا تغاير فلا تلازم
ولا يقال الكلام في تلازم العلم والعالمية لا في تلازم العالمية وقيام العلم بالذات لأنا نقول نفس العلم من غير اعتبار قيامه لا يستلزم عالمية تلك الذات وكذا لا نسلم ملازمة المفهوم للمنطوق ولو سلم عدم الانفكاك بين العلم والعالمية وبين المفهوم والمنطوق فلا نسلم التساوي في الشبه إذ العلم والمنطوق علة العالمية والمفهوم بخلاف التلاوة فإنها أمارة الحكم ابتداء لا دواما فلا يلزم من انتفاء الأمارة انتفاء ما دلت عليه ولا من انتفاء مدلولها انتفاؤها
قوله."وأما القسم الرابع" وهو نسخ الوصف فمثل الزيادة على النص اتفق العلماء على أن الزيادة على النص إن كانت عبادة مستقلة بنفسها كزيادة وجوب الصوم أو الزكاة بعد وجوب الصلوات لا يكون نسخا لحكم المزيد عليه لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول وما نقل عن بعض العراقيين أن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس نسخ فقد بنوا ذلك على أنها تزيل وجوب المحافظة على الصلاة الوسطى المأمور

(3/284)


تخصيص وليس بنسخ وذلك زيادة النفي على الجلد وزيادة قيد الإيمان في كفارة اليمين والظهار قال لأن الرقبة عامة في الكافرة والمؤمنة فاستقام فيها
ـــــــ
بالمحافظة عليها في قوله عز اسمه {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة 238] لأن السادسة تخرجها عن كونها وسطى وهو باطل لأن كونها وسطى أمر حقيقي لا شرعي فلا يكون رفعه نسخا ولأنه يلزم عنه أن الشارع لو أوجب أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو صوما أو زكاة أن ذلك يكون نسخا لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعا وهو خلاف الإجماع واختلفوا في غير هذه الزيادة إذا ورد متأخرا عن المزيد عليه تأخرا يجوز القول بالنسخ في ذلك القدر من الزمان كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني بعد اتفاقهم على أن مثل هذه الزيادة لو وردت مقارنة للمزيد عليه لا تكون نسخا كورود رد الشهادة في حد القذف مقارنا للجلد فإنه لا يكون نسخا له للقرآن فقال عامة العراقيين من مشايخنا وأكثر المتأخرين من مشايخ ديارنا إنها تكون نسخا معنى وإن كان بيانا صورة وهو مختار الشيخ في الكتاب. وقال أكثر أصحاب الشافعي: إنها لا يكون نسخا وإليه ذهب أبو علي الجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث لو فعله كما قد كان يفعله قبل الزيادة يجب استئنافه كان نسخا كزيادة ركعة على ركعتي الفجر وإن لم يكن كذلك لا يكون نسخا كزيادة التغريب في حد الزاني وزيادة عشرين على الثمانين في حد القاذف لو فرضنا ورود الشرع بها وإليه ذهب الغزالي وعبد الجبار الهمداني من المعتزلة ونقل عن الشيخ أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري أن الزيادة إن كانت مغيرة حكم المزيد في المستقبل كانت نسخا كزيادة التغريب على الجلد إذا وردت متأخرة وكزيادة عشرين على حد القاذف فإنها توجب تغير الحكم الأول في المستقبل من الكل إلى البعض وإن لم تكن مغيرة لا يكون نسخا كزيادة وجوب ستر الركبة بعد وجوب ستر الفخذ فإنها لا تكون نسخا لوجوب ستر كل الفخذ لأن ستر الفخذ لا يتصور بدون ستر بعض الركبة فلا تكون الزيادة مغيرة للحكم الأول في المستقبل بل تكون مقررة له, ومختار بعض الأصوليين أن الزيادة إن رفعت حكما شرعيا بدليل شرعي متأخر فهي نسخ لوجود حقيقة النسخ على ما مر في بيان حده وما خالفه بأن لا يكون الحكم المرفوع شرعيا أو لا تكون الزيادة متأخرة عنه أو لا يكون إثباتها بدليل شرعي ليس بنسخ لأن النسخ لا يتحقق بدون الأمور الثلاثة فينتفي بانتفاء كل منها.
تمسك من قال بأن الزيادة ليست بنسخ أصلا بوجوه من الكلام أحدها أنهم بنوا

(3/285)


الخصوص وإنما النسخ تبديل وفي قيد الإيمان تقرير لا تبديل, وكذلك في شرط النفي تقرير للجلد لا تبديل فلم يكن نسخا وليس الشرط أن يكون الزيادة تخصيصا لا محالة بل ليس نسخا بكل حال, ولنا أن النسخ بيان مدة الحكم وابتداء حكم آخر, والنص المطلق يوجب العمل بإطلاقه, فإذا صار مقيدا صار
ـــــــ
على أصلهم أن المطلق من أنواع العام عندهم وأن العام لا يوجب العلم قطعا بل يجوز أن يراد به البعض وبالمطلق المقيد وإذا كان كذلك ظهر بورود الزيادة المقيدة للمطلق أن المراد من العام البعض ومن المطلق المقيد فيكون تخصيصا وبيانا لا نسخا, وذلك مثل الرقبة المذكورة في كفارة اليمين والظهار فإنها اسم عام يتناول المؤمنة والكافرة والزمنة وغيرها فإخراج الكافرة منها بزيادة قيد الإيمان يكون تخصيصا لا نسخا, كإخراج الزمنة والعمياء منها وكإخراج أصل الذمة من لفظ المشركين. والثاني: أن حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة لأن حقيقته تبديل ورفع للحكم المشروع, والزيادة تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه والتقرير ضد الرفع فلا يكون نسخا ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة لا يخرجها من أن تكون مستحقة للإعتاق في الكفارة وإلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون واجبا بل هو واجب بعده كما كان قبله فيكون وجوب التغريب ضم حكم إلى حكم وذلك ليس بنسخ كوجوب عبادة بعد عبادة وهو بمنزلة من ادعى على آخر ألفا وخمسمائة وشهد له شاهدان بألف وآخران بألف وخمسمائة حتى قضي له بالمال كله كان مقدار الألف مقضيا به بشهادتهم جميعا وإلحاق الزيادة بالألف بشهادة الآخر يوجب تقرير الأصل في كونه مشهودا به لا رفعه فتبين بهذا أن الزيادة لا تتعرض لأصل الحكم المشروع فيكون فيها معنى النسخ بوجه يوضحه أن النسخ إنما يثبت بدليل متأخر مناف للأول بحيث لو وردا معا لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما وهاهنا إن وردت الزيادة مقارنة للمزيد عليه وجب الجمع ولا تكون منافية له فكيف يثبت بها النسخ إذا وردت متأخرة بل يكون بيانا وإلى هذين الوجهين أشير في الكتاب وقوله: وليس الشرط أن تكون الزيادة تخصيصا اعتذار عن. قوله: إنه تخصيص وليس بنسخ بأن يكون تخصيصا يستقيم في تقييد الرقبة على أصل الشافعي ولا يستقيم في إيجاب النفي فقال: ليس الشرط أي شرط الزيادة أن تكون تخصيصا يعني لا ندعي أنها تخصيص لا محالة بل تكون تخصيصا وقد لا تكون كذلك ولكنها ليست بنسخ بوجه.
والثالث: أن الزيادة على النص لو كان نسخا لكان القياس باطلا لأن القياس إلحاق غير المنصوص وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته وحين كان القياس جائزا ودليلا شرعيا علم أن الزيادة ليست بنسخ

(3/286)


شيئا آخر لأن التقييد والإطلاق ضدان لا يجتمعان, وإذا كان هذا غير الأول لم يكن بد من القول بانتهاء الأول وابتداء الثاني وهذا لأنه متى صار مقيدا صار المطلق بعضه وما للبعض حكم الوجود كبعض العلة وبعض الحد حتى أن شهادة القاذف لا تبطل ببعض الحد عندنا; لأنه ليس بحد فثبت أن هذا نسخ بمنزلة نسخ جملته, فأما التخصيص فتصرف في النظم ببيان أن بعض الجملة غير مراد بالنظم مما يتناوله النظم
ـــــــ
والرابع: أن النسخ أمر ضروري لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء, والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغير الكلام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه لكنه متعارف في اللغة فكان الحمل عليه أولى من الحمل على النسخ واحتج من قال بأن الزيادة نسخ معنى بأن النسخ بيان انتهاء حكم بابتداء حكم آخر وهذا عند من شرط البدل في النسخ فأما عند من لم يشترط ذلك فلا حاجة إلى قوله بابتداء حكم آخر وهذا المعنى موجود في الزيادة على النص فيكون نسخا. وبيانه أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام وله حكم معلوم وهو الخروج عن العهدة بالإتيان بما يطلق عليه الاسم من غير نظر إلى قيد والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول; لأن التقييد إثبات القيد والإطلاق رفعه وله حكم معلوم وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد دون ما لم يوجد فيه ذلك, فإذا صار المطلق مقيدا لا بد من انتهاء حكم الإطلاق بثبوت حكم التقييد لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد, والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه. وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني كان الثاني ناسخا له ضرورة وقوله: وهذا لأنه كذا توضيح لما ذكر من انعقاد الأول بالثاني وجواب عن قولهم: لا نسلم انتهاء الأول بل هو باق ولكن ضم إليه شيء آخر يعني إنما قلنا بانتهاء الأول بالثاني; لأن المطلق متى صار مقيدا صار المطلق بعضه أي صار ما كان مطلقا قبل التقييد بعض المقيد لاشتمال المقيد على معنيين:. أحدهما: ما دل عليه المطلق والثاني ما دل عليه المقيد وما للبعض حكم الوجود أي ليس لبعض ما يجب حقا لله تعالى من عباده أو عقوبة أو كفارة حكم وجود الجملة بوجه ولا حكم وجوده في نفسه بدون انضمام الباقي إليه, فإن الركعة من صلاة الفجر لا يكون فجرا ولا بعض الفجر بدون انضمام الأخرى إليها, والركعتان من صلاة الظهر في حق المقيم كذلك وكذا المظاهر إذا صام شهرا ثم عجز فاطعم ثلاثين مسكينا لا يكون مكفرا بالإطعام ولا بالصوم كبعض العلة وبعض الحد, فإنه ليس لبعض العلة حكم الوجود ولبعض الحد حكم الحد حتى إن بعض العلة لا يوجب شيئا من الحكم الثابت بالعلة وبعض الحد لا يتعلق به شيء من أحكام الحد من طهرة المحدود وخروج

(3/287)


والقيد لا يتناوله الإطلاق ألا ترى أن الإطلاق عبارة عن العدم والتقييد عبارة عن الوجود فيصير إثبات نص بالمقايسة أو بخبر الواحد ولأن المخصوص إذا لم يبق مرادا بقي الباقي ثابتا بذلك النظم بعينه فلم يكن نسخا, وإذا ثبت قيد الإيمان لم يكن المؤمنة ثابتة بذلك النص الأول بنظمه
ـــــــ
الإمام عن عهدة إقامة الواجب وسقوط شهادة القاذف إذا كان الحد حد القذف; لأنه متعلق بالحد عندنا وبعض الحد ليس بحد.
وإنما قال عندنا; لأن سقوط الشهادة عند الشافعي رحمه الله متعلق بالقذف الذي هو فسق عنده على ما عرف فيثبت أن الحكم الأولى قد انتهى وإن هذا أي التقييد في المطلق نسخ لوصف الإطلاق بمنزلة نسخ جملته أي بمنزلة نسخ أصله ثم بين الشيخ رحمه الله أن التقييد ليس بتخصيص على ما زعم الخصم بوجهين أحدهما أن التخصيص تصرف في اللفظ ببيان أن بعض ما تناوله النظم بظاهره لولا دليل التخصيص غير مراد به.
والقيد لا يتناوله الإطلاق أي لا دلالة للمطلق على القيد بوجه كاسم الرقبة لا يتناول صفة الإيمان والكفر; لأن المطلق هو المتعرض للذات دون الصفات فكان التقييد تصرفا فيما لم يكن اللفظ متناولا له فلا يكون تخصيصا ألا ترى توضيح قوله: والقيد لا يتناوله الإطلاق يعني الإطلاق عبارة عن العدم أي عدم القيد, والتقييد عبارة عن الوجود أي وجود القيد فكيف يتناول الإطلاق التقييد مع تنافيهما, وإذا لم يتناوله لا يكون التقييد تخصيصا بل يكون إثبات نص ناسخ للإطلاق بالمقايسة أو بخبر الواحد وذلك باطل. وبيانه أن الخصم لما أثبت التقييد في رقبة كفارة اليمين أو الظهار بالقياس بأن قال: تحرير في تكفير فكان الإيمان من شرطه قياسا على كفارة القتل أو بخبر الواحد وهو ما روي أن "معاوية بن الحكم جاء بجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: علي رقبة أفأعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين الله" فقالت: في السماء قال "من أنا" قالت: أنت رسول الله قال "أعتقها فإنها مؤمنة1" فامتحانها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى إلا بالمؤمنة وأن المراد من المطلق المقيد كان هذا منه إثبات نص مقيد للرقبة المذكورة في الكفارة كأنه تعالى قال في الكفارتين {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} كما قال كذلك في كفارة القتل, وإثبات مثل هذا النص بالقياس وخبر الواحد لا يجوز. والثاني أن العام إذا خص منه شيء وخرج المخصوص من أن يكون مرادا به بقي الحكم فيما وراءه ثابتا بذلك النظم بعينه كلفظ
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساجد حديث رقم 537 ،وأبو داود في الإيمان حديث رقم 3283 ،وأبو داود في الإيمان والنذور حديث رقم 3282، والإمام أحمد في المسند 2/291.

(3/288)


بل بهذا القيد فيكون للإثبات ابتداء ودليل الخصوص للإخراج لا للإثبات. ولا يشكل أن النفي إذا ألحق بالجلد لم يبق الجلد حدا، ولهذا لم
ـــــــ
المشركين إذا خص منه أهل الذمة ومن بمعناهم بقي الحكم في غيرهم ثابتا بذلك اللفظ بعينه حتى وجب قتل من لا أمان له لأنه مشرك فلم يكن أي التخصيص نسخا; لأن النسخ بيان هذا الحكم الثابت, وهذا لم يكن ثابتا, وإذا ثبت قيد إيمان في الرقبة المذكورة في كفارة اليمين أو الظهار وخرجت الكافرة من الجملة لم يكن الحكم في المؤمنة ثابتا بذلك النص الأول وهو الرقبة بنظمه أي بصيغته لما قلنا: إنه لا دلالة للمطلق على المقيد بوجه بل يكون ثابتا بهذا القيد فيكون التقييد لإثبات ابتداء من غير أن يكون للمطلق دلالة عليه ودليل الخصوص لإخراج ما كان ثابتا لولا التخصيص لا للإثبات ابتداء ولا تشابه بين إخراج ما كان داخلا في الجملة وبين إثبات ما ليس بثابت فعرفنا أنه نسخ وليس بتخصيص. وعبارة القاضي الإمام رحمه الله هي أن الزيادة ليست بتخصيص, فإن حكم العموم إذا أخص منه بقي الحكم فيما لم يخص منه بالنص العام نفسه لا بشيء آخر فلم يكن نسخا إذا بقي من الحكم بقدر ما بقي على ما كان ومتى زيدت لم يبق للنص الأول حكم, فإن نص الزنا جعل الجلد حدا ولا يبقى حد بنفسه بعد ثبوت النفي حدا معه وآية الكفارة جعلت الرقبة بدون صفة الإيمان كفارة ولا تبقى بعد قيد الإيمان كفارة; لأن الكافرة تخرج من الجملة والمؤمنة تجوز لا لأنها رقبة على ما قال الله تعالى بل للوصف الزائد الذي ليس في الكتاب وبدونه لا يكون ما يبقى كفارة ولا بعضها فالزيادة نسخ معنى وبيان صورة.
قوله "ولا يشكل أن النفي" كذا جواب عن قولهم: النفي تقرير للجلد فلم يكن نسخا فقال نحن لا ندعي أنه نسخ لنفس الجلد بل هو نسخ لكونه حدا لصيرورته بعض الحد وليس لبعض الحد حكم الحد وذكر أبو الحسين البصري في المعتمد أن النظر في هذه المسألة يعني في الزيادة على النص يتعلق بأمور ثلاثة: أحدها أن الزيادة على النص تقتضي زوال شيء لا محالة, وأقله زوال عدمها الذي كان ثابتا وثانيها أن المزال بهذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكان الزيادة متراخيا سميت تلك الزيادة نسخا وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لا تسمى نسخا وثالثها أن الزائل بالزيادة إن كان حكم العقل يجوز الزيادة بخبر الواحد والقياس, وإن كان الزائل حكما شرعيا, فإن كان دليل الزيادة بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات الزيادة وإلا فلا وخرج عليه الفروع فقال: زيادة التغريب لا تزيل إلا نفي وجوب ما زاد على المائة وهذا النفي غير معلوم بالشرع; لأن الشرع لم يتعرض لما زاد عليها نفيا ولا إثباتا بل هو معلوم بالعقل

(3/289)


نجعل قراءة الفاتحة فرضا; لأنه زيادة ولم نجعل الطهارة في الطواف شرطا
ـــــــ
بالبراءة الأصلية وأما كون المائة وحدها مجزئة وكونها كمال الحد وحصول الخروج عن عهدة الواجب للإمام بإقامتها فكلها تابع لنفي وجوب الزيادة ولما كان نفي الزيادة معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه كما أن الفروض لو كانت خمسة لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا هاهنا, فأما لو قال الله تعالى المائة وحدها كمال الحد وإنها وحدها مجزئة فلا يقبل في الزيادة هاهنا خبر الواحد والقياس; لأن نفي الزيادة ثبت بدليل شرعي. وحاصله أن كلية الحد فيها ليست بحكم شرعي فلا يكون رفعها نسخا وأجاب صاحب الميزان عنه بأنا لا نسلم أنه ليس بحكم شرعي; لأن حكم الشرع ما لا يثبت إلا بالشرع وتقدير الحد لا يعرف إلا بالشرع فكان شرعيا ولأن الحد متى كان واجبا ثم جاء نص التغريب متراخيا فيكون النبي عليه السلام ساكتا عن حكم التغريب والسكوت عند الحاجة بيان فصار وجوب انتفاء التغريب حكما شرعيا بدلالة السكوت, فإذا جاء خبر الواحد بإيجاب التغريب كان نسخا لحكم شرعي وهو وجوب انتفاء التغريب بسكوته ولو أمر صاحب الشرع نصا فقال: اجلدوا ولا تغربوا وعرف ذلك قطعا ثم جاء خبر الواحد في إيجاب التغريب أليس يكون نسخا فكذا هذا ولكن يلزم عليه إيجاب عبادة بعد أخرى, فإن سكوته عليه السلام بعد إيجاب عبادة يدل على أن غيرها ليس بواجب بمنزلة ما لو نص عليها ثم جاز إيجاب عبادة بعدها بخبر الواحد والقياس بالإجماع فيجوز هاهنا أيضا
وأجاب غيره بأن زيادة النفي نسخ لتحريم الزيادة على المائة, فإنه حكم شرعي معلوم ثبوته في الشرع بطريقه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر, فإنها نسخ لتحريم الزيادة على الركعتين, فإنه قد ثبت في الشرع في الفرائض المقدرة تحريم الزيادة على مقاديرها بخلاف زيادة عبادة, فإنها لا تقتضي تغيير حكم مقصود
وذكر عبد القاهر البغدادي أن زيادة التغريب على الجلد إن كان نسخا لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخا; لآية الوضوء وأن يكون وجوب الوضوء بالقهقهة نسخا لما ذكر الله تعالى من الأحداث الناقضة للطهارة. وإذا أثبتم ذلك فكأنكم أجزتم الزيادة على النص بأخبار ضعاف ولم تجيزوا بأخبار صحاح قال: ومن زاد الخلوة على آيتي الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة وتكميل المهر بخبر عمر رضي الله عنه مع مخالفة غيره له وامتنع عن الزيادة على النص بخبر صحيح كان حاكما في دين الله برأيه. وأجيب عنه بأن النبيذ في حكم الماء; لأن النبي عليه السلام أشار بقوله: "تمرة طيبة

(3/290)


لأنه زيادة ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إن القليل من المثلث لا يحرم; لأنه بعض المسكر وليس لبعض العلة حكم العلة
ـــــــ
وماء طهور1" إلى أن المائية لم تزل بإلقاء التمر فيه فيكون داخلا في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فلا يكون نسخا وأما جعل القهقهة من الأحداث أو من النواقض فنظير إيجاب عبادة بعد عبادة فلا يكون من النسخ في شيء وأما تكميل المهر بالخلوة فثبت عندنا بقوله تعالى: {كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وبدلائل أخر عرفت في موضعها فلا يكون من باب الزيادة على النص بخبر الواحد
قوله "ولهذا" أي ولأن الزيادة على النص نسخ ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز لم يجعل قراءة الفاتحة في الصلاة فرضا; لأن إطلاق قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. وعمومه يقتضي الجواز بدون الفاتحة فكان تقييد القراءة بالفاتحة نسخا لذلك الإطلاق فلا يجوز بخبر الواحد وهو قوله عليه السلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف يعني ولأنه ليس لبعض الشيء حكم جملته قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله شرب القليل من المثلث وهو ما ذهب ثلثاه بالطبخ ثم صار مسكرا لا يحرم وهو رواية عن محمد رحمه الله; لأن المحرم في غير الخمر هو السكر بالنص وهو قوله عليه السلام "حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب" وذلك يحصل بشرب الكثير منه دون القليل فكان شرب القليل مباشرة بعض علة السكر وليس لبعض العلة حكم العلة فلا يكون داخلا تحت التحريم وقال محمد رحمه الله في رواية يكره شربه وفي رواية يحرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لما روي أنه عليه السلام قال: "كل مسكر حرام2" وفي رواية "ما أسكر كثيره فقليله حرام3" وفي رواية "ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام" ولأن المثلث بعدما اشتد خمر; لأن الخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل لا لكونها نيا وهي موجودة في سائر الأشربة المسكرة وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر" ولو سماه
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة حديث رقم 84، والترمذي في الطهارة حديث رقم 147،وابن ماجة في الطهارة حديث رقم 384، والإمام أحمد في المسند 1/402.
2 أخرجه البخاري في الأدب باب رقم 80، ومسلم في الأشربة حديث رقم 73، والنسائي في الأشربة باب رقم 563، وابن ماجة في الأشربة باب رقم 9.
3 أخرجه الترمذي في الأشربة باب رقم 1865 وأبو داود في الأشربة باب رقم 3681 الإمام أحمد في المسند 3/343 وابن ماجة حديث رقم 3393 وابن ماجة في الأشربة حديث رقم 3394.

(3/291)


بوجه وكذلك الجنب والمحدث لا يستعملان الماء القليل عندنا; لأنه بعض
ـــــــ
أحد من أهل اللغة لكان يستدل بقوله على إثبات هذا الاسم, فإذا سماه صاحب الشرع به وهو أفصح العرب كان أولى. والجواب عنه أن الجمع إذا أمكن بين الآثار فهو أولى من الأخذ ببعضها والإعراض عن البعض وقد أمكن هاهنا بأن يحمل هذا الحديث على الشرب على قصد السكر, فإن شرب القليل والكثير على هذا القصد حرام والحديث الأول على الشرب لاستمراء الطعام, فإن القليل بهذا القصد حرام وبدونه لا يحرم كالمشي على قصد الزنا يكون حراما وعلى قصد الطاعة يكون طاعة أو بأن يحمل على أن التحريم كان في الابتداء لتحقيق الزجر كتحريم الانتباذ في الدباء والحنتم ثم ثبت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه. والمراد بقوله عليه السلام "كل مسكر خمر" تشبيه بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي والمعقول الذي ذكروه قياس في اللغة فلا يقبل قال أبو الفضل رحمه الله في إشارات الأسرار واعلم أن من وقع في أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة وشنع عليه في أنه أباح مثل هذا الشراب ولم يسلك فيه طريقة الاحتياط فهذا من القائل سفه وقلة ديانة إذ الأصل أن تحريم ما أحله الله تعالى بمنزلة تحليل ما حرمه لا فرقان بينهما ومتى لم يقم لأبي حنيفة رحمه الله دليل يدل على حرمته وبلغته الآثار المشهورة عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم كانوا يشربونه ويسقون الأضياف ويجلدون على السكر منه كيف يسوغ له في الشرع الفتوى بالحرمة وفيه تعرض لحدود الدين من تحريم شيء لم يرد به الشرع وأمر التقوى والأخذ بالثقة يرجع إلى العمل به دون الفتوى التي هي بيان حدود الدين ولهذا قال محمد بن مقاتل الرازي لو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما شربته ولو أعطيت الدنيا بحذافيرها ما أفتيت بأنه حرام
قوله "وكذلك" أي وكما أن شرب القليل من المثلث لا يحرم; لأنه بعض العلة لا يجب على الجنب والمحدث استعمال الماء القليل لصحة التيمم وصورته إذا وجد المحدث ماء لا يكفي الوضوء أو الجنب ماء لا يكفي الاغتسال يجوز له التيمم عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لا يجوز قبل استعماله; لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ذكره منكرا في موضع النفي من غير اعتبار قدر منه فيكون عدمه شرطا لجوازه فما لم يوجد الشرط لا يكون التراب طهورا ثم استعمال هذا القدر مفيد للطهارة حقيقة وحكما بدليل أنه لو استعمله ثم أصاب ماء آخر لم يجب عليه إعادة الأول فكان بمنزلة العاري إذا وجد ما يستر به بعض عورته يلزمه استعماله بقدره وكذا إذا كان به نجاسة حقيقة فوجد ما يزيل بعضها يجب استعماله في ذلك القدر كذا هاهنا ولنا أن عدم الطهور قد تحقق فيباح له التيمم وذلك; لأن قولنا طهور لا يراد به

(3/292)


المطهر فلم يكن مطهرا كاملا.ولأن دليل النسخ ما لو جاء مقارنا كان معارضا والقيد بعارض الإطلاق بمنزلة سائر وجوه النسخ ونظير هذا الأصل اختلاف الشهود في قدر الثمن أن البيع لا يثبت; لأن الزيادة على الثمن يجعل الأول بعضه
ـــــــ
طهارة حسية بل المراد به طهارة حكمية أي محللة للصلاة وباستعمال هذا الماء لا يحصل شيء من الحل يقينا بل الحل موقوف على الكمال, فإنه حكم والعلة غسل الأعضاء كلها ولا يثبت شيء من حكم العلة كبعض النصاب في حق الزكاة وبعض علة الربا في حق الربا وهذا كمن وجد بعض الرقبة في باب الكفارات دون الكمال حل له التكفير بالصوم كما لو عدم الرقبة أصلا; لأن الأصل رقبة تكون كفارة, وهذا البعض لا يصلح كفارة; لأنها لا تتجزأ كحكم الطهارة هاهنا وتبين بهذا أن المراد بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] ماء طهور أي محلل للصلاة باستعماله في هذه الأعضاء أو رافع للحدث عنها, فإن الآية سيقت لبيان هذه الطهارة لا غير, والماء المحلل ماء مقدر لا نفس الماء. وهذا بخلاف النجاسة الحقيقية وستر العورة; لأن الواجب مما يزال فيهما أمر حسي عورة ظاهرة ونجاسة حقيقية, وإذا كان حسيا اعتبر الزوال حسيا لا حكما والزوال حسا ثابت بقدر الماء الذي معه, وكذا زوال الانكشاف ثابت بقدر الثوب كذا في الأسرار.
قوله "ولأن دليل النسخ" دليل آخر على أن القيد نسخ للإطلاق وجواب عما قال بعضهم إنه ليس بنسخ له بدليل إمكان الجمع بينهما إذا كانا مقارنين بأن جهل التاريخ بينهما فقال لا نسلم ذلك بل لو جهل التاريخ بينهما كان القيد معارضا للإطلاق ومانعا عن العمل يعني إذا كانا في الحكم كسائر دلائل النسخ فعند معرفة التاريخ يكون التقييد نسخا للإطلاق أيضا.
قوله "ونظير هذا الأصل" وهو أن الزيادة نسخ معنى اختلاف الشهود في قدر الثمن جواب عن اعتبارهم الزيادة بحقوق العباد, فإن الزيادة فيها من جنسها لا توجب تغيير ما كان كما ذكرنا من شهادة الشاهدين على ألف وشهادة الآخرين على ألف وخمسمائة فقال الشيخ ليس ذلك الفرع نظير هذا الأصل; لأن تلك الزيادة لا توجب تغييرا بل نظيره اختلاف الشهود في قدر الثمن بأن شهد أحد الشاهدين بالبيع بألف والآخر بالبيع بألف وخمسمائة لا تقبل الشهادة في إثبات العقد بألف, وإن اتفق عليه الشاهدان ظاهرا; لأن الذي شهد بألف وخمسمائة قد جعل الألف بعض الثمن. وانعقاد البيع بجميع الثمن المسمى لا ببعضه فمن هذا الوجه كل واحد منهما في المعنى شاهد بعقد آخر والألف المذكور في شهادة الآخر كان بحيث يثبت به العقد لو لا وصل شيء آخر به بمنزلة التخيير في الطلاق والعتاق فيصير شيئا آخر إذا اتصل به التعليق بالشرط فحكم الزيادة يكون بهذه الصفة أيضا والله أعلم

(3/293)


وقد صار كلا من وجه فصارا غيرين ولم يكن للبعض حكم الوجود والله أعلم.
ـــــــ
"فصل"
ذكر الأصوليون فروقا بين التخصيص والنسخ ونقل عن الشيخ الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه الله فروق أيضا بين التقييد والنسخ والتعليق وغيرها فألحقتها بهذا الباب تتميما للفائدة ثم النسخ والتخصيص وإن اشتركا من حيث إن كل واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ إلا أنهما يفترقان من جهة أن التخصيص يبين أن العام لم يتناول المخصوص والنسخ يرفع بعد الثبوت وأن التخصيص لا يرد إلا على العام والنسخ يرد عليه وعلى غيره وأنه يجب أن يكون متصلا عندنا, والنسخ لا يكون إلا متراخيا وأنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شيء والنسخ يجوز كذلك وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها والنسخ لا يجوز إلا بالسمع وأنه يكون معلوما ومجهولا والنسخ لا يكون إلا معلوما وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولا به في مستقبل الزمان والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك وأنه يرد في الأخبار والأحكام والنسخ لا يرد إلا في الأحكام وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ودليل النسخ لا يقبله
والفرق بين التخصيص والتقييد أن التقييد تصرف فيما كان الأول ساكتا عنه والتخصيص تصرف فيما تناوله اللفظ ظاهرا وأن التقييد مفرد والتخصيص جملة وأن في التقييد يعمل بالقيد لا بالأصل وفي التخصيص يعمل بالأصل وهو المخصوص منه والفرق بين التخصيص والاستثناء أن التخصيص مستبد بنفسه وأنه يقبل التعليل بخلاف الاستثناء
وأن لدليل الخصوص حكما بخلاف الاستثناء. والفرق بين الاستثناء والنسخ أن الاستثناء غير مستقل بنفسه وأنه يرد في الأخبار والأحكام وأنه لا يكون إلا متصلا بخلاف النسخ في هذه الجملة كلها
والفرق بين التقييد والنسخ من كل وجه أن التقييد مفرد والنسخ جملة وأنه وصف للأول والنسخ ليس كذلك وأنه قد يكون مقارنا والنسخ لا يكون إلا متأخرا
والفرق بين التعليق والاستثناء أن الاستثناء لا يعمل في جميع المستثنى منه بل يعمل في بعضه بالإبطال, والتعليق يعمل في جميع المعلق بالتغيير وأن الاستثناء مع المستثنى منه ليس بيمين بل هو إيجاب, والتعليق يمين وأن التعليق يصح في الإيجاب دون الخبر والاستثناء يصح فيهما
والفرق بين التعليق والتقييد أن التعليق تبديل من الإيجاب إلى اليمين والتقييد ليس بتبديل صورة بل زيادة أمر آخر.

(3/294)


-------------------------------------------------------
ـــــــ
والفرق بين التقييد والاستثناء أن التقييد يثبت أمرا لم يكن ثابتا بالأول والاستثناء يخرج عن الأول ما كان ثابتا صورة وأن التقييد لا يخرج الأول عن حقيقته صورة, فإن الرقبة بزيادة وصف لا تخرج عن كونها رقبة بل تبقى رقبة لكن لم يبق الجواز بها والاستثناء قد يخرج الأول عن حقيقته كما لو استثني من الألف شيء لا يبقى ألفا.
والفرق بين النسخ والتعليق أن التعليق لا يصح إلا مقارنا والنسخ على عكسه. وأن الشرط مع المشروط يمين والناسخ مع المنسوخ ليس كذلك وأن المعلق بعرضية أن يصير إيجابا والمنسوخ ليس كذلك والفرق بين التخصيص والتعليق أن التخصيص لا يرد إلا على العام ولا يشترط في التعليق ذلك وأن التخصيص له حكم على ضد الأول وليس في التعليق ذلك وأن دليل الخصوص مستقل والشرط ليس كذلك وأنه يقبل التعليل والتعليق لا يقبله وقس عليه والله أعلم.

(3/295)