كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم"
وهي أربعة أقسام: مباح, ومستحب, وواجب, وفرض, وفيها قسم آخر وهو الزلة لكن ليس من هذا الباب في شيء; لأنه لا يصلح للاقتداء ولا يخلو عن بيان مقرون به من جهة الفاعل أو من الله تبارك وتعالى كما قال جل وعز {وَعَصَى آدَمُ} وقال جل وعز حكاية عن موسى من قتل القبطي {قَالَ هَذَا
ـــــــ
"باب أفعال النبي: عليه السلام"
والأفعال على ضربين ما ليس له صفة زائدة على وجوده كبعض أفعال النائم والساهي, فإنه لا يوصف بحسن ولا قبح, وماله صفة زائدة على وجوده كسائر أفعال المكلفين وإنها تنقسم إلى حسن وقبيح والحسن منها ينقسم إلى واجب ومندوب ومباح والقبيح منها ينقسم إلى محظور ومكروه وهذه الأقسام سوى القسم الأخير يصح وقوعها عن جميع المكلفين من الأنبياء وغيرهم فأما القسم الأخير فيصح وقوعه عن غير الأنبياء من بني آدم ولكن لا يصح وقوع ما هو معصية منه عن الأنبياء عليهم السلام, فإنهم عصموا عن الكبائر عند عامة المسلمين وعن الصغائر عند أصحابنا خلافا لبعض الأشعرية وإن لم يعصموا عن الزلات فتبين بهذا أن المراد من الأفعال في هذا الباب الأفعال التي تقع عن قصد ولم تكن من قبيل الزلة; لأن الباب لبيان الاقتداء وما وقع بطريق الزلة أو وقع لا عن قصد مثل ما يحصل في حالة النوم والإغماء لا يصلح للاقتداء. وقد يقترن البيان بالزلة لا محالة إما من جهة الفاعل كقوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام حين قتل القبطي {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] أي هيج غضبي حتى ضربته فوقع قتلا فأضافه إليه تسببا وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان; لأن قتله كان قبل الإذن في القتل وقيل; لأنه كان مستأمنا فيهم وليس للمستأمن قتل الكافر الحربي وهو لم يقصد قتله فكان زلة أو من الله تعالى كما قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} أي بأكل الشجرة التي نهي عنها والعصيان ترك الأمر أو ارتكاب المنهي عنه إلا أنه إن كان عمدا كان ذنبا وإن كان خطأ كان زلة {فَغَوَى} [طه: 121] أي فعل ما لم يكن فعله وقيل أخطأ حيث طلب الملك والخلد بأكل ما نهي عنه, وإذا كان البيان مقترنا به لا محالة علم أنه غير صالح للاقتداء به

(3/296)


من عمل الشيطانإِنَّهُ} [القصص: 15] والزلة اسم لفعل غير مقصود في عينه لكنه اتصل الفاعل به عن فعل مباح قصده فزل بشغله عنه إلى ما هو حرام ولم يقصده أصلا بخلاف المعصية فإنها اسم لفعل حرام مقصود بعينه اختلفوا في سائر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس بسهو ولا طبع لأن البشر لا يخلو عما جبل
ـــــــ
ثم الشيخ وشمس الأئمة رحمهما الله قسما أفعاله عليه السلام سوى الزلة وما ليس عن قصد على أربعة أقسام فرض وواجب ومستحب ومباح والقاضي الإمام وسائر الأصوليين قسموها على ثلاثة أقسام واجب مستحب ومباح وأرادوا بالواجب الفرض وهذا أقرب إلى الصواب; لأن الواجب الاصطلاحي ما ثبت بدليل فيه اضطراب ولا يتصور ذلك في حقه عليه السلام; لأن الدلائل الموجبة كلها في حقه قطعية ويمكن أن يحمل على أن المراد تقسيم أفعاله بالنسبة إلينا كما أشير إليه في آخر الباب وحينئذ يتحقق فيها الواجب الاصطلاحي لتصور ثبوت وجوب بعض أفعاله في حقنا بدليل مضطرب
قوله "والزلة اسم" لكذا قال شمس الأئمة رحمه الله أما الزلة, فإنه لا يوجد فيها القصد إلى عينها ولكن يوجد القصد إلى أصل الفعل. قال وبيان هذا أن الزلة أخذت من قول القائل زل الرجل في الطين إذا لم يوجد القصد إلى الوقوع ولا إلى الثبات بعد الوقوع ولكن وجد القصد إلى المشي في الطريق فعرفنا بهذا أن الزلة ما يتصل بالفاعل عند فعله ما لم يكن قصده بعينه ولكنه زل فاشتغل به عما قصده بعينه والمعصية عند الإطلاق إنما يتناول ما يقصده المباشر بعينه وإن كان قد أطلق الشرع ذلك على الزلة مجازا.
فإن قيل لما لم يكن الفعل الحرام مقصودا في الزلة ففيم العتاب قلنا: إن الزلة لا تخلو عن نوع تقصير يمكن للمكلف الاحتراز عنه عند التثبت فاستحقاق العتاب بناء عليه كمن زل في الطريق يستحق اللوم لترك التثبت والتقصير قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله في عصمة الأنبياء وليس معنى الزلة أنهم زلوا عن الحق إلى الباطل وعن الطاعة إلى المعصية ولكن معناها الزلل عن الأفضل إلى الفاضل والأصوب إلى الصواب وكانوا يعاقبون لجلال قدرهم ومنزلتهم ومكانتهم من الله تعالى.
قوله "بشغله عنه" الباء للسببية, والضمير الأول للفاعل والثاني للفعل المباح أي زل الفاعل بسبب شغله عن الفعل المباح الذي قصده أي بسبب غفلته عنه إلى ما هو حرام لم يقصد أصلا, فإنها أي المعصية اسم لفعل حرام مقصود بعينه أي نفس الفعل مقصود مع العلم بحرمته دون مخالفة الأمر, فإنها لو كانت مقصودة لكان كفرا.
قوله "واختلفوا في سائر أفعال النبي" أي باقي أفعاله صلى الله عليه وسلم بعد الزلة مما ليس بسهو مثل تسليمه على رأس الركعتين في الظهر حتى قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم

(3/297)


عليه فقال بعضهم: يجب الوقف فيها وقال بعضهم بل يلزمنا اتباعه فيها وقال الكرخي نعتقد فيها الإباحة فلا يثبت الفضل إلا بدليل ولا يثبت
ـــــــ
نسيت ولا طبع مثل الأفعال التي لا يخلو ذو الروح عنها كالتنفس والقيام والقعود والأكل والشرب ونحوها, فإنها على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته بلا خلاف ولا بد لتلخيص محل النزاع من قيود أخرى وهي أن لا يكون هذا الفعل بيانا لمجمل الكتاب, فإنه حينئذ يكون تابعا للمبين في الوجوب والندب والإباحة وأن لا يكون امتثالا وتنفيذا لأمر سابق, فإنه تابع للأمر أيضا بالاتفاق في الوجوب والندب وأن لا يكون مختصا به كوجوب الضحى والتهجد والزيادة على الأربع في النكاح وصفي المغنم وخمس الخمس, فإنه لا يدل على التشريك بيننا وبينه بالاتفاق.
ثم بعد ذلك إما أن علمت صفة ذلك الفعل في حقه عليه السلام أو لم تعلم, فإن علمت فالجمهور على أن أمته مثله في كونهم متعبدين في التأسي به بإتيان مثل ذلك الفعل على تلك الصفة وذهب شرذمة إلى أن حكم ما علمت صفته كحكم ما لم تعلم صفته هكذا ذكر بعض الأصوليين. قال أبو اليسر رحمه الله: وأما إذا قام دليل صفة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الحسن الكرخي من أصحابنا وجميع الأشعرية وأبو بكر الدقاق من أصحاب الشافعي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوص به حتى يقوم دليل على مشاركة غيره إياه وقال أبو بكر الرازي وأبو عبد الله الجرجاني من أصحابنا والشافعي وجميع المعتزلة أنه يثبت لأمته عليه السلام شركة حتى يقوم دليل على الخصوص وإن لم تعلم صفته بأن كان ذلك الفعل من جملة المعاملات ففعله يدل على الإباحة بالإجماع كذا قال أبو اليسر.
وإن كان من جملة القرب فاختلف فيه فقال بعضهم يجب الوقف فيها أي في هذه الأفعال التي لم تعرف صفتها فلا يحكم فيها بوجوب ولا ندب ولا إباحة ولا يثبت لنا فيها متابعة حتى يقوم دليل يبين الوصف ويثبت الشركة وإليه ذهب عامة الأشعرية وجماعة من أصحاب الشافعي كالغزالي وأبي بكر الدقاق وأبي القاسم بن كج1 وقال بعضهم يلزمنا اتباعه أي اتباع النبي فيها أي في تلك الأفعال وتكون واجبة في حقه وفي حقها وهو مذهب مالك وبه قال من أصحاب الشافعي أبو العباس بن شريح والإصطخري وأبو علي بن أبي هريرة وأبو علي بن خيران2 والحنابلة وجماعة من المعتزلة وقال أبو الحسن
ـــــــ
1 هو أبو القاسم يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج الدينوري القاضي الشافعي قتله العيارون سنة 405، وفيات الأعيان 7/65.
2 هو أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي الفقيه الشافعي.توفي سنة 320هـ.طبفات السبكي 2/213 - 214.

(3/298)


المتابعة منا إياه فيها إلا بدليل وقال الجصاص مثل قول الكرخي
ـــــــ
الكرخي يعتقد الإباحة فيها في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت الفضل على الإباحة وهو الوجوب أو الندب في حقه إلا بدليل.
قوله "ولا يثبت المتابعة" ذكر في التقويم قال أبو الحسن رحمه الله يعتقد الإباحة حتى يقوم دليل بيان سائر الأوصاف, وإذا قام الدليل على وصف زائد نحو الوجوب مثلا كان النبي عليه السلام مخصوصا به حتى يقوم دليل المشاركة وذكر شمس الأئمة رحمه الله وقال أبو الحسن إن علم صفة فعله أنه فعله واجبا أو ندبا أو مباحا, فإنه يتبع فيه بتلك الصفة وإن لم يعلم, فإنه يثبت فيه صفة الإباحة ثم لا يكون الاتباع فيه ثابتا إلا بقيام الدليل. فعلى ما ذكر في التقويم يكون معنى قوله ولا يثبت المتابعة منا إياه لا يصح متابعتنا للنبي عليه السلام في أفعاله سواء علمت صفاتها أو لم تعلم إلا بدليل يوجب المشاركة وعلى ما ذكر شمس الأئمة يكون معناه ولا يثبت المتابعة في الأفعال التي لم يعرف صفاتها إلا بدليل وما ذكر أبو اليسر يؤيد المذكور في التقويم وما ذكرناه أولا يؤيده ما ذكره شمس الأئمة.
قوله "وقال الجصاص" ذكر في التقويم وقال أبو بكر الرازي يعتقد الإباحة ما لم يقم دليل البيان على صفة فعل رسول الله عليه السلام ثم يلزمنا يعني بعد البيان على ذلك الوصف حتى يقوم دليل اختصاصه به. وقال شمس الأئمة وكان الجصاص يقول بقول الكرخي إلا أنه يقول إذا لم يعلم فالاتباع له في ذلك ثابت حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا فما ذكر في التقويم يشير إلى أنه إنما يثبت الاتباع عنده إذا عرف وصف ذلك الفعل كما صرح به أبو اليسر وما ذكر شمس الأئمة يدل على أن الاتباع ثابت عنده بكل حال ويحتمل أن يكون المذكور في التقويم موافقا لما ذكر شمس الأئمة أيضا يعرف بالتأمل وقوله إلا أنه قال علينا اتباعه معناه لنا جواز متابعته فيه لا يترك ذلك أي لا يحمل على الخصوصية إلا بدليل أو معناه وجب علينا اعتقاد إباحته في حقنا لا يترك ذلك الاعتقاد إلا بدليل والفرق بين قول الجصاص وبين قول الفريق الثاني أن الاتباع واجب عندهم على اعتقاد أن ذلك الفعل واجب في حقه وفي حقنا, والاتباع في قول أبي بكر ثابت على اعتقاد أنه مباح في حقه وفي حقنا كما لو ثبت بالتنصيص إباحة فعل له من غير تخصيص وجه قول الواقفية أن الاتباع ليس بواجب في أفعاله; لأن التكليف بحسب المصالح وليس يجب اشتراك المكلفين في المصالح إذ يجوز أن يكون فعل مصلحة في حق شخص ولا يكون مصلحة في حق آخر فإذا يجوز أن يكون الفعل مصلحة في حق النبي عليه السلام ولا يكون مصلحة في حقنا ألا ترى أنه قد أبيح له ما لم يبح لنا من العدد في

(3/299)


إلا أنه قال علينا اتباعه لا نترك ذلك إلا بدليل وهذا أصح عندنا أما الواقفون فقد قالوا إن صفة الفعل إذا كانت مشكلة امتنع الاقتداء; لأن الاقتداء في المتابعة في أصله ووصفه, فإذا خالفه في الوصف لم يكن مقتديا فوجب الوقف إلى أن يظهر. وأما الآخرون فقد احتجوا بالنص الموجب لطاعة الرسول عليه السلام قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]
ـــــــ
النكاح والصفي من المغنم وغيرهما وقد أوجب عليه ما لم يوجب علينا مثل قيام الليل والضحى ونحوهما, وإذا كان كذلك لا يلزمنا متابعته حتى يقوم دليل على الشركة. لئن سلمنا أن الاتباع واجب فذلك ليس بممكن هاهنا; لأن المتابعة في الفعل عبارة عن إتيان مثل فعل الغير على الوجه الذي فعله من أجل أنه فعله حتى لو لم يكن هذا الفعل مثل الأول كالقيام والقعود أو لم يكن على الوجه الذي فعله بأن كان أحدهما واجبا والآخر نفلا أو لم يكن من أجل أنه فعله بأن صلى رجلان الظهر منفردين امتثالا للأمر لا يكون متابعة, وإذا كان كذلك لا يتحقق المتابعة قبل معرفة صفة الفعل ولا وجه إلى المخالفة أيضا فيجب التوقف إلى أن يظهر وصف الفعل بالدليل قال شمس الأئمة رحمه الله وهذا الكلام عند التأمل باطل; لأن هذا القائل إن كان يمنع الأمة من أن يفعلوا مثل فعله بهذا الطريق ويلومهم على ذلك فقد أثبت صفة الحظر في الاتباع وإن كان لا يمنعهم من ذلك ولا يلومهم عليه فقد أثبت صفة الإباحة فعرفنا أن القول بالوقف لا يتحقق في هذا الفصل.
وأما الآخرون وهم الذين قالوا بوجوب الاتباع فقد احتجوا بالنصوص الموجبة لطاعة الرسول عليه السلام على الإطلاق مثل قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي عن شأن الرسول وسمته وطريقته كما في قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي شأنه وطريقته ومذهبه قالوا وحمل الأمر على الشأن هاهنا أولى من حمله على القول لانتظام الشأن القول والفعل على وجه واحد. والنصوص فيها أي في طاعة الرسول ووجوب اتباعه كثيرة مثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]و[المائدة: 92]و[النور: 54]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 58] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7], فإن هذه النصوص وأمثالها توجب اتباعه مطلقا من غير فصل بين القول والفعل ومثل ما روي أنه عليه السلام خلع نعله في الصلاة فخلعوا استدلالا بفعله فأقرهم على استدلالهم1 ولم ينكر عليهم بل بين العلة بقوله أخبرني جبرائيل أن فيها قذرا.وأمرهم بالحلق عام
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصلاة حديث رقم: 650، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 3/92.

(3/300)


والنصوص في ذلك كثيرة وأما الكرخي فقد زعم أن الإباحة من هذه الأقسام هي ثابتة بيقين فلم يجز إثبات غيره إلا بدليل ووجب إثبات اليقين كمن وكل رجلا بماله يثبت الحفظ به; لأنه يقين وقد وجدنا اختصاص الرسول ببعض ما فعله ووجدنا الاشتراك أيضا فوجب الوقف فيه أيضا, ووجه قول الآخر أن الإتباع
ـــــــ
الحديبية فتربصوا وتوقفوا فلما فعل بنفسه تبادروا إلى الحلق1 فدل أن للفعل من المكانة في القلوب ما ليس للقول ولما "قبل عمر رضي الله عنه الحجر قال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكني رأيت رسول الله يقبلك2" فرأى أن متابعته على الظاهر من فعله واجبة والصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون المبادرة إلى متابعة أفعاله مثل المبادرة إلى متابعة أقواله وأما الكرخي فقد زعم أي قال بأن الإباحة من هذه الأقسام وهي الوجوب والندب والإباحة هي الثابتة في حقه عليه السلام بيقين لتحققها في كل الأحوال فوجب إثباتها ولم يجز إثبات غيرها إلا بدليل لوقوع الشك فيه ثم لما ثبتت الإباحة بهذا الطريق على ما اختاره شمس الأئمة أو قام دليل يبين صفة الفعل على ما نقله القاضي الإمام لم يجز متابعة فيه إلا بدليل; لأنا قد وجدنا اختصاص الرسول عليه السلام ببعض الأفعال كما ذكرنا ووجدنا الاشتراك أي اشتراك النبي والأمة في البعض وهذا الفعل يحتمل أن يكون مما اختص هو به ويحتمل أن يكون مما هو غير مخصوص به فعند احتمال الوجهين على السواء يجب التوقف حتى يقوم الدليل لتحقق المعارضة.
قوله "ووجه القول الآخر" بكسر الخاء وهو الجصاص أن الاتباع أصل إلى آخره قال شمس الأئمة رحمه الله الصحيح ما ذهب إليه الجصاص; لأن في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] تنصيص على جواز التأسي به في أفعاله فيكون هذا النص معمولا به حتى يقوم الدليل المانع وهو ما يوجب تخصيصه بذلك وقد دل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] وفي هذا بيان أن ثبوت الحل في حقه مطلقا دليل ثبوته في حق الأمة ألا ترى أنه نص على تخصيصه فيما كان هو مخصوصا به بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وهو النكاح بغير مهر فلو لم يكن مطلق
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الجهاد حديث رقم 2765.
2 أخرجه البخاري في الحج باب رقم 57، ومسلم في الحج حديث رقم:1270، وأبو داود في المناسك حديث رقم 2943، والإمام أحمد في المسند 1/21.

(3/301)


أصل; لأنه إمام يقتدى به كما قال تعالى لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة 124] فوجب التمسك بالأصل حتى يقوم الدليل على غيره هذا الذي ذكرنا تقسيم السنن في حقنا وهذا
ـــــــ
فعله دليلا للأمة في الإقدام على مثله لم يكن لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} فائدة, فإن الخصوصية ثابتة بدون هذه الكلمة والدليل عليه أنه لما "قال عليه السلام لعبد الله بن رواحة حين صلى على الأرض في يوم قد مطروا في السفر "ألم يكن لك في أسوة" فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال: "إني مع هذا أرجو أن أكون أخشاكم لله" ولما "سألت امرأة أم سلمة رضي الله عنها عن القبلة للصائم قالت: إن رسول الله يقبل وهو صائم فقالت لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ثم سألت أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤالها فقال "هلا أخبرتها أني أقبل وأنا صائم" فقالت: قد أخبرتها بذلك فقالت كذا فقال: "إني أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم بحدوده1" ففي هذا بيان أن اتباعه فيما يثبت من أفعاله أصل حتى يقوم الدليل على كونه مخصوصا بفعل. وهذا لأن الرسل عليهم السلام أئمة يقتدى بهم كما قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فالأصل في كل فعل يكون منهم جواز الاقتداء بهم إلا ما يثبت فيه دليل الخصوصية باعتبار أحوالهم وعلو منازلهم, وإذا كان الأصل هذا ففي كل فعل يكون منهم بصفة الخصوص يجب بيان الخصوصية مقارنا به إذ الحاجة إلى ذلك ماسة عند كل فعل يكون حكمه بخلاف هذا الأصل والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه دليل النفي فترك بيان الخصوصية يكون دليلا على أنه من جملة الأفعال التي هو فيها قدوة أمته والله أعلم فصار الحاصل أن عند أبي الحسن الأصل هو الاختصاص والاشتراك لعارض وعند الجصاص الأصل هو الاتباع والخصوصية بعارض كما أن الأصل في الكلام الحقيقة والمجاز بعارض والعارض لا يثبت إلا بدليل.
قوله "وهذا الذي ذكرنا تقسيم السنن في حقنا" أي هذا الباب لتقسيم أفعال النبي عليه السلام في حقنا, فإنه لبيان أنواع الاتباع الذي هو راجع إلينا ولهذا أدخل فيه الواجب كما أشرنا إليه أو ما ذكرنا من أول أقسام السنة إلى ما انتهينا إليه تقسيم السنة وما يتصل بها بالنسبة إلينا وهذا الباب الذي نشرع فيه.
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيام حديث رقم 1108.

(3/302)