كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب الممانعة"
قال الشيخ الإمام, وهي أساس النظر; لأن السائل منكر فسبيله أن لا يتعدى حد المنع والإنكار, وهي أربعة أوجه الممانعة في نفس الحجة, والممانعة في الوصف الذي جعل علة أموجود في الفرع والأصل أم لا, والممانعة في شرط العلة, والممانعة في المعنى الذي به صار دليلا.
ـــــــ
"باب الممانعة"
الممانعة أوقع سؤال على العلل, وهي أساس النظر أي أصل المناظرة; لأنها وضعت على مثال الخصومات في الدعاوى الواقعة في حقوق العبادة فالمعلل يدعي لزوم الحكم الذي رام إثباته على السائل, والسائل مدعى عليه فكان سبيله الإنكار كما أن سبيل المدعى عليه في الحقوق الإنكار ودفع الدعاوى عن نفسه والأصل في الإنكار الممانعة فكانت الممانعة أساس المناظرة فلا ينبغي له أن يتجاوز إلى غيرها إلا عند الضرورة, وهي أنه إذا ثبت ما ادعاه المجيب مؤثرا في الحكم فيتجاوز عنها إلى القول بموجب العلة إن أمكنه ذلك, وإلا فيشتغل بالقلب ثم العكس ثم بالمعارضة فإذا آل الكلام إلى المعارضة سهل الأمر على المجيب فثبت أن الأساس هو الممانعة فلا بد من معرفة وجوهها كذا في شرح التقويم.
وهي أربعة أوجه. الممانعة في نفس الحجة أي بمنع كون ما تمسك به المجيب علة بأن يقول لا أسلم أن ما ذكرت من الوصف صالح لكونه علة ثم الممانعة في الوصف يعني بعدما ثبت صلاحية الوصف لكونه دليلا على الحكم لا بد من وجوده في المقيس والمقيس عليه فله أن يمنع ذلك ليثبته المجيب بالدليل.
ثم الممانعة في شروط العلة, وهي التي مر ذكرها في باب شروط القياس.
ثم الممانعة في المعنى الذي صار الوصف به دليلا على الحكم, وهو الأثر.
أما الأول أي صحة الوجه الأول, وهو الممانعة في نفس الحجة فلأن من الناس من يتمسك بما لا يصلح دليلا ويعتقده حجة. مثل قول الشافعي كذا فإنه تمسك بلا دليل;

(4/70)


أما الأول فلأن من الناس من يتمسك بما لا يصلح دليلا مثل قول الشافعي رحمه الله في النكاح إنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال; لأنا قد قلنا إن الاحتجاج بالنفي والتعليل به باطل, وكذلك من تمسك بالطرد. وأما الممانعة في الوصف; فلأن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه مثل قولنا في إيداع الصبي إنه مسلط على الاستهلاك, ومثل قولنا في صوم يوم النحر إنه منهي, وإن النهي يدل على التحقق; لأن هذا نسخ عند الخصم, والنهي عن الشرعي لا يدل على التحقق عنده. ومثل قول الشافعي رحمه الله في الغموس إنها معقودة وذلك أكثر من
ـــــــ
لأنا قد قلنا يعني في باب المقالة الثانية إن الاحتجاج بالنفي والتعليل به باطل. وكذا من تمسك بالطرد واستصحاب الحال وتعارض الحال وتعارض الأشباه محتج بلا دليل فلو تركت الممانعة يكون قبولا من الخصم ما لا يكون حجة أصلا وذلك دليل الجهل فكانت الممانعة في هذا الموضع دليل الفقاهة كذا قال شمس الأئمة. وأما الممانعة في الوصف أي صحة الممانعة في وجود الوصف بعدما سلم أنه صالح فلأن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه أي مختلف في وجوده لا في كونه علة. مثل قولنا يعني قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في إيداع الصبي أي فيما إذا أودع من الصبي شيئا أنه مسلط على الاستهلاك لما مر بيانه فهذا الوصف ممنوع عند الخصم; لأن الإيداع ليس بتسليط عنده إذ لو كان تسليطا عنده لما بقي النزاع في الحكم. ومثل قول الشافعي في إيجاب الكفارة في الغموس أنها معقودة, هذا تعليل بوصف مختلف فيه; لأن معنى العقد عنده القصد وعندنا ارتباط اللفظين لإيجاب حكم البر على ما عرف فلا يصح الاحتجاج به على الخصم بل كان له أن يقول لا أسلم أنها معقودة; لأن معنى العقد عندي كذا أو لم يوجد. وذلك أي التعليل بالوصف المختلف فيه أكثر من أن يحصى. مثل قول الشافعي: المذهب في السلم الحال أسلم في مقدور التسليم فيجوز فيقال له لم قلت إنه مقدور التسليم بل القدرة معدومة; لأنها تحصل بالأجل, ولم يوجد. ومثل قوله في شراء ما لم يره هذا شراء شيء مجهول فلا يجوز فيقال لا نسلم أنه مجهول; لأن الشراء عندنا واقع على العين, وهي معلومة فلم يكن الوصف الذي ادعاه علة موجودا. ومثل قول أبي حنيفة رحمه الله فيمن اشترى قريبه مع غيره إن الأجنبي رضي بالذي وقع العتق به بعينه فيقول الخصم لا أسلم أن الرضاء كان موجودا.

(4/71)


أن يحصى, وأما الممانعة في الشرط فقد ذكرنا شروط التعليل وإنما يجب أن يمنع شرطا منها هو شرط بالإجماع, وقد عدم في الفرع أو الأصل مثل قول الشافعي في السلم الحال إنه أحد عوضي البيع فثبت حالا, ومؤجلا كثمن البيع فيقال له لا خلاف أن من شرط التعليل أن لا يغير حكما, والنص أن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس بحكمه, وأنا لا نسلم هذا الشرط ههنا والممانعة في المعنى الذي به صار دليلا فهو ما ذكرنا من الأثر; لأن مجرى الوصف بلا أثر ليس بحجة عنده فلا يصح الاحتجاج به من الخصم على من لا يراه دليلا حتى
ـــــــ
قوله: "وإنما يجب أن يمنع السائل شرطا منها" أي من شروط القياس ما هو شرط بالإجماع ليفيد منعه بطلان التعليل في عين المتنازع فيه فأما إذا منع شرطا مختلفا فيه فيقول المعلل ذلك ليس بشرط عندي وحينئذ يؤول الكلام إلى أن ما منعه السائل هل هو شرط لصحة القياس أم لا وذلك يخل بالمقصود إذ المقصود إثبات حكم المتنازع فيه دون إثبات شرط القياس ومع هذا لو منع شرطا مختلفا فيه يجوز; لأنه يفيد دفع إلزام المعلل عن نفسه, وإن لزم منه انتقال الكلام إلى محل آخر. ولفظ ما في قوله ما هو شرط في محل النصب على البدل من "شرطا" لا على أنه مفعول به. مثل قول الشافعي أي الشافعي المذهب بدليل قوله فيقال له: ونحن لا نسلم هذا الشرط أي وجود هذين الشرطين هاهنا; لأن حكم النصب يتغير بهذا التعليل فيصير ما هو رخصة نقل رخصة إسقاط على ما مر بيانه. وكذا جواز السلم ثبت معدولا به عن القياس أيضا لكون المبيع معدوما حقيقة فلا يجري فيه القياس.
وأما الممانعة في المعنى يعني إذا ثبت صلاح الوصف ووجوده في الأصل والفرع وتحقق شرائط القياس كان للسائل أن يقول لا أسلم أن العمل بهذا الوصف واجب بل العمل به جائز, وليس كل ما جاز وجب كالنوافل فإنها جائزة غير واجبة, وكالقضاء بشهادة مستور الحال فإذ لا بد من بيانه أنه واجب العمل ليتم الإلزام على السائل وذلك ببيان الأثر كالكافر يقيم الشهادة على المسلم إن كان الشاهد مسلما يكون شهادته حجة يجب العمل بها, وإن كان كافرا لا تكون حجة على المسلم, وإن كان حجة عند المدعي; لأن المدعي بإقامة البينة يريد الإيجاب على المسلم كذا هاهنا. وسبيله أي سبيل السائل في هذا كله أي فيما ذكرنا من وجوه الممانعة الإنكار, وأن لا يتعرض للدعوى, ولا يتكلم بكلام هو في صورة الدعوى. فإذا تكلم بما هو في صورة الدعوى لم يضره ذلك إذا كان إنكارا بمعناه; لأن العبرة للمعاني دون الصور كالمودع إذا ادعى رد الوديعة, وأنكره المودع كان

(4/72)


يبين أثره وسبيله في هذا كله الإنكار, وإنما يعتبر الإنكار معنى لا صورة مثل قولنا في المودع يدعي الرد, إن القول قوله, وهو مدع صورة, والله أعلم.
ـــــــ
القول قول المودع; لأنه ينكر وجوب الضمان عليه معنى, وإن كان مدعيا للرد صورة. وكذا البكر إذا قالت بلغني خبر النكاح فرددت, وقال الزوج ما ردت بل سكتت كان القول قولها عند علمائنا الثلاثة خلافا لزفر; لأنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها ولزوم العقد معنى, وإن كانت تدعي الرد صورة فالوجوه المذكورة من الممانعة إنكار صورة, ومعنى فكانت صحيحة. ولو قال السائل إن الحكم ما تعلق بهذا الوصف فقط بل به وبقرينة أخرى يكون إنكارا معنى, وإن كان دعوى صورة; لأن الحكم المتعلق بعلة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين فيكون هذا ممانعة صحيحة. وذلك كما لو علل في اليمين المعقودة على أمر في المستقبل بأنها يمين بالله مقصودة فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس فيقول: الحكم ثبت في الأصل بهذا الوصف مع قرينة, وهي توهم البر فيها فيكون هذا منعا لما ادعاه الخصم ويحتاج الخصم إلى إثبات دعواه بالحجة فأما قول السائل ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, وإنما المعنى فيه كذا فإنكار صورة, ولكنه من حيث المعنى دعوى فلا يكون ممانعة بل هو دعوى في موضع النزاع غير مفيدة كما بينا, والله أعلم.

(4/73)