كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"باب المعارضة"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه وليس للسائل بعد الممانعة إلا المعارضة,
ـــــــ
"باب المعارضة"
قد مر تفسير المعارضة فيما سبق والمراد من المعارضة هنا تسليم المعترض دلالة ما ذكره المستدل من الوصف على مطلوبه, وإنشاء دليل آخر يدل على خلاف مطلوبه وقيل هي ممانعة في الحكم مع بقاء دليل المستدل إذ السائل يقول للمجيب ما ذكرت من الوصف, وإن دل على الحكم لكن عندي من الدليل ما يدل على خلافه فليس فيه تعرض لدليله بالإبطال ثم المعارضة من السائل مقبولة عند جمهور المحققين من الفقهاء والمتكلمين وزعم بعض الجدليين أنها غير مقبولة منه; لأنه ينتهض حينئذ مستدلا, وليس له ذلك بل له الاعتراض المحض وذلك; لأن العلة لا تصح إلا بعد إقامة الدليل على صحتها فإذا انتصب السائل لذلك كان بانيا مستدلا لا هادما معترضا. وحجة الجمهور: أن المعارضة اعتراض على العلة فتكون مقبولة كالممانعة وذلك; لأن العلة التي تمسك بها المجيب لا تتم حجة ما لم تسلم عن المعارضة فإن المعارضة توجب وقوف الحجة بدليل البينات وبدليل أن القول إنما صار حجة عند السلامة عن المعارضة فكانت المعارضة اعتراضا على العلة من حيث المعنى فتكون مقبولة. وإن المعتمد في القياس قوة الظن, وإذا تعارض الدليلان يفوت به قوة الظن ويخرج كل واحد منهما حينئذ من أن يترجح أحدهما فكانت المعارضة بيان أن ما ذكره المستدل ليس بعلة فتكون اعتراضا صحيحا.
فإن قيل إن السائل, وإن قصد الاعتراض ولكنه أتى بدليل مبتدأ صورة فيكون ممنوعا عن ذلك كما في المفارقة بين الأصل والفرع قلنا صورة الأدلة ما امتنعت عن السائل من حيث إنها أدلة, وإنما امتنعت إذا كان السائل معرضا عن الاعتراض آتيا بكلام مبتدأ, وقد بينا أنه معترض بهذه المعارضة فتسمع. ألا ترى أنه يسمع منه اعتراض لا يستقل بنفسه إفادة فلأن يقبل منه اعتراض يستقل بالإفادة وبقدح في كلام الخصم كان أولى. ثم ذكر الشيخ هاهنا أنه ليس للسائل بعد الممانعة إلا المعارضة. وذكر في نسخة أخرى بعد بيان

(4/74)


وهي نوعان معارضة فيها مناقضة ومعارضة خالصة أما المعارضة التي فيها مناقضة فالقلب وهو نوعان ويقابله العكس وهو نوعان لكن العكس ليس من هذا الباب أما القلب فله معنيان في اللغة يقوم بكل واحد منهما ضرب من
ـــــــ
أنواع الممانعة أن التأثير إذا ثبت للوصف تجاوز السائل عن الممانعة إلى القول بموجب العلة إن أمكن ثم إلى القلب ثم إلى العكس الكاسر ثم إلى المعارضة, وهو أوضح; لأن الدفع إذا أمكن بتسليم ما علله الخصم مع بقاء الخلاف مع أنه أقرب إلى الممانعة من المعارضة كان أولى من الذهاب إلى المعارضة التي هي أسوأ أحوال السائل معارضة فيها مناقضة أي معارضة متضمنة لإبطال تعليل المعلل ومعارضة خالصة أي محضة لا تتضمن إبطالا.
فإن قيل كيف يصح الجمع بين المعارضة والمناقضة وبينهما تناف إذ المعارضة تستلزم تسليم دليل المعلل وصحة دلالته على الحكم والمناقضة تتضمن بطلان دليله, وفساد دلالته على الحكم, وقد اختار الشيخ أيضا أن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة فكيف يقبل هذا النوع من المعارضة بعد ظهور التأثير. قلنا لا نسلم أن المعارضة تسليم الدليل مطلقا بل هي ممانعة في الحكم صورة, وممانعة للدليل معنى بدعوى عدم سلامته عن المعارض فلا يكون بينهما تناف إذ المقصود من كل واحد منهما الإبطال ثم هذه المناقضة تثبت في ضمن المعارضة فلا تمنع القبول إذ الاعتبار في مثل هذا للمتضمن دون المتضمن; ولأن الدليل بعد بيان التأثير لما قبل الإبطال علم أنه لم يكن مؤثرا, وإن ما ذكره المعلل مشبه بالأثر, وليس بأثر في التحقيق والمناقضة إنما تمتنع على ما هو مؤثر حقيقة كذا ذكره الإمام العلامة مولانا حميد الملة والدين رحمه الله.
ويقابله العكس أي يقابل القلب العكس; لأن القلب يذكر لإبطال تعليل المستدل, والعكس يذكر لتصحيحه ولهذا يذكره المعلل دون السائل فكان في مقابلته ولهذا لم يكن من هذا الباب أي باب المعارضة; لأن أحد نوعيه على ما ذكر في هذا الكتاب من مرجحات العلة, والنوع الثاني ليس بعكس حقيقة بل هو من أنواع القلب على ما سيأتيك بيانه فلا يكون من هذا الباب في التحقيق لكن القلب لما ذكر في هذا الباب ذكر العكس بمقابلته أيضا لا باعتبار معنى المعارضة.
قوله: "أما القلب فله معنيان في اللغة" معنى القلب في اللغة تغيير هيئة الشيء على خلاف الهيئة التي كان عليها والمعنيان المذكوران يرجعان إليه وبالمعنيين استعمل في باب القياس, ويرجع المعنيان فيه إلى معنى واحد أيضا, وهو تغيير التعليل إلى هيئة تخالف

(4/75)


الاعتراض أما الأول فأن يجعل الشيء منكوسا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ومثاله من الاعتراض أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا; لأن العلة أصل والحكم تابع فإذا قلبته فقد جعلته منكوسا, وكان هذا معارضة فيها مناقضة; لأن ما جعله المعلل علة لما صار حكما في الأصل واحتمل ذلك فساد الأصل فبطل القياس, وإنما يصح هذا فيما يكون التعليل بالحكم فأما بالوصف المحض فلا
ـــــــ
الهيئة التي كان عليها أما الأول أي المعنى الأول لغة فهو أن يجعل الشيء منكوسا أعلاه أسفله بنصب اللام, وأسفله برفعها أعلاه كقلب الإناء ومثاله أي مثال هذا المعنى اللغوي من الاعتراض على التعليل جعل المعلول علة والعلة معلولا; لأن العلة أصل يعني في إثبات الحكم حيث يفتقر ثبوت الحكم إليها, ولا يفتقر وجودها إلى الحكم لسبقها عليه ذهنا كما هو مذهب العامة وزمانا كما هو مذهب البعض. والحكم تابع يعني في الوجود حيث يفتقر وجوده إليها فإذا قلبته يعني التعليل فقد جعلته منكوسا بجعل الأصل الذي هو أعلى من الفرع تابعا له وجعل الفرع الذي هو دون الأصل أعلى منه فكان هذا أي هذا النوع من القلب معارضة أي من حيث الصورة فيها مناقضة أي إبطال لتعليل المعلل.
ولم يذكر القاضي الإمام شمس الأئمة وعامة الأصوليين معنى المعارضة في هذا النوع من القلب; لأن حقيقة المعارضة, وهي ذكر دليل يوجب خلاف ما أوجبه دليل المستدل لم يوجد إذ الحكم الثابت بتعليل القالب لا يتعرض للحكم الثابت بتعليل المستدل بنفي, ولا إثبات وإنما يدل تعليله على فساد تعليل المستدل فكان هذا إبطالا لا معارضة لكن الشيخ اعتبر صورة المعارضة من حيث إن القالب عارض تعليل المستدل بتعليل يلزم منه بطلان تعليل المستدل ثم يلزم منه بطلان حكمه المرتب عليه فجعله من أقسام المعارضة ثم أقام الدليل على معنى المناقضة فقال ما جعله المعلل علة لما صار حكما في الأصل أي في المقيس عليه بتعليل القالب واحتمل ذلك أي احتمل ما جعله علة صيرورته حكما فسد الأصل أي خرج من أن يكون مقيسا عليه للمستدل في الحكم المطلوب فبقي قياسه بلا مقيس عليه فبطل وإنما يصح هذا النوع من القلب فيما إذا علل المستدل بالحكم بأن جعل حكما في الأصل علة لحكم آخر فيه ثم عداه إلى الفرع. فأما إذا علل بالوصف المحض أي بالمعنى فلا يرد عليه هذا القلب; لأن الوصف لا يصير حكما بوجه, ولا يصير الحكم الثابت علة له أصلا; لأنه سابق على الحكم فإذا عللنا في الجص مثلا بأنه مكيل جنس فيجري فيه الربا كالحنطة لا يمكن قلبه بأن يقال إنما كانت الحنطة مكيل جنس; لأنه يجري فيه الربا; لأن كونه مكيل جنس سابق عليه.

(4/76)


يرد عليه القلب مثاله قولهم الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين, ومثل قولهم القراءة تكررت في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين كالركوع والسجود فقلنا المسلمون إنما جلد بكرهم مائة; لأن ثيبهم يرجم, وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين; لأنه تكرر فرضا في الأخريين.
ـــــــ
مثاله أي مثال ما يتحقق فيه هذا النوع من القلب قولهم أي قول أصحاب الشافعي في أن الإسلام ليس من شرائط الإحصان حتى لو زنى الذمي الحر الثيب يرجم عندهم, الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين الأحرار منهم وبقوله مائة أشار إلى ذلك فإن البكر من العبيد لما لم يجلد مائة لم يرجم الثيب منهم والبكر والثيب يقعان على الذكر والأنثى ومثل قولهم في فرضية القراءة في جميع الركعات القراءة تكررت فرضا في الأوليين إلى آخره, واحترزوا بقولهم فرضا عن السورة فإنها تكررت, ولكن غير فرض فجعلوا جلد المائة علة لوجوب الرجم, والتكرر في الأوليين علة للوجوب في الباقي فقلنا المسلمون إنما يجلد بكرهم لأن ثيبهم يرجم لا أنه يرجم ثيبهم; لأنه يجلد بكرهم فجعلنا ما نصبه علة في الأصل, وهو جلد المائة حكما, وما جعله حكما فيه, وهو رجم الثيب علة فانتقض تعليلهم بهذا القلب وبطل لبقائه بلا أصل إذ لم يبق إلا قولهم: الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم, وهذا ليس بشبهة فضلا من أن يكون حجة إذ لا مستند له أصلا. وذكر في بعض الشروح, وكان هذا معارضة أيضا; لأنه تعرض للمتنازع فيه من حيث عدم الدليل على ثبوته فإن القالب لما ادعى أن علة ثبوت الجلد في حق المسلم الرجم لم يبق الجلد علة للرجم فعدم في حق المتنازع فيه, وهو الكافر الذمي علة الرجم فيكون الرجم منتفيا لانتفاء دليله فيكون معارضة من هذا الوجه, ولعمري هو أقرب إلى الممانعة منه إلى المعارضة; لأنه في الحقيقة منع نفس الدليل وصلاحيته لإثبات الحكم المتنازع فيه مع أنه تعليل بالعدم, وهو فاسد فكيف يصلح معارضا للتعليل بالمعنى الوجودي.
واعلم بأن تجويز الشيخ رحمه الله الاعتراض على العلل المؤثرة بالقلب بعد منعه الاعتراض عليها بالمناقضة, وفساد الوضع, مشكل; لأن العلة بعدما ثبت تأثيرها بدليل مجمع عليه لا يحتمل القلب كما لا يحتمل المناقضة, وفساد الوضع فإنه لو ثبت التأثير لوجوب الجلد في إيجاب الرجم في حق المسلمين لا يمكن قلبه بجعل الرجم علة للجلد ألا ترى أن في قولنا في المدبر مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يجوز بيعه كأم الولد لما ظهر التأثير لتعليق العتق بالموت في المنع عن البيع في أم الولد لا يمكن قلبه بأن يقال إنما تعلق العتق بالموت; لأن البيع لم يجز. وكذا لا يمكن للقالب بيان التأثير لتعليله بعدما

(4/77)


والمخلص عن هذا أن يخرج الكلام مخرج الاستدلال; لأن الشيء يجوز أن يكون دليلا على شيء, وذلك دليل عليه أيضا, وإنما يصح المخلص إذا ثبت أنهما نظيران مثل التوأم وذلك قولنا ما يلتزم بالشروع إذا صح كالحج فقالوا الحج
ـــــــ
ظهر تأثير التعليل الأول وبدون بيان التأثير لا يقبل منه قلبه; لأن القلب معارضة وغير المؤثر لا يصلح معارضا للمؤثر إذا كان كذلك ينبغي أن لا يرد القلب على العلل المؤثرة كفساد الوضع والمناقضة, وإنما يرد على الطردية. يؤيده ما ذكر صدر الإسلام أبو اليسر بعد بيان نوعي القلب, والقلب الأول إنما يجيء في كل طرد جعل الحكم علة, والقلب الثاني يجيء على كل طرد ما لم يظهر التأثير, وما ذكر في نسخة أخرى من أصول الفقه والمخلص من القلب بذكر تأثير الوصف في الحكم الذي علل دون الحكم الذي قاله خصمه فتبين أن الاعتراض بالقلب بعد التأثير غير صحيح وأنه كالمناقضة, وفساد الوضع من غير فرق.
قوله: "المخلص من هذا" أي من هذا النوع من القلب, وليس المراد أنه إذا ورد يدفعه بهذا الطريق بعد وروده بل معناه أنه إذا أراد أن لا يرد عليه هذا القلب فطريقه أن يخرج الكلام بطريق الاستدلال لا بطريق التعليل; لأن الشيء يجوز أن يكون دليلا على شيء وذلك الشيء يكون دليلا عليه كما في العقليات فإنه يجوز أن يقال موجود فيجوز رؤيته, وأن يقال يجوز رؤيته فيكون موجودا, وكذا يكون الدخان دليلا على النار والنار دليلا على الدخان والاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في الحوادث على ما مر بيانه. وإنما يصح هذا المخلص إذا ثبت أن الشيئين نظيران أي مثلان متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه بمنزلة التوأمين فإنه يثبت حرية الأصل لأحدهما بثبوتها في الآخر ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته في الآخر, وكذا النسب يثبت فيهما بثبوته لأحدهما وهذا; لأن الدليل غير مثبت بل هو مظهر فجاز أن يكون كل واحد منهما دليلا على الآخر في عين ما كان هو مدلوله كما بينا في التوأمين فأما العلة فمثبتة فلا يجوز أن يكون الشيء ثابتا بشيء, ومثبتا له; لأن العلة لا بد من أن تكون سابقة على الحكم رتبة, ولا يتصور أن يسبق كل واحد منهما على الآخر والتوأم اسم للولد إذا كان معه آخر في بطن واحد يقال هما توأمان, وقولهم هما توأم خطأ كذا في المغرب وذلك أي المخلص وهو الإخراج مخرج الاستدلال يتحقق فيما قال علماؤنا في هاتين المسألتين المذكورتين لوجود شرطه, وهو المساواة في الحكمين لا فيما ذكر الشافعي فإن علماءنا استدلوا في أن الشروع في النافلة ملزم كالنذر فقالوا ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع إذا صح الشروع واحترز به عن صوم يوم النحر, كالحج فإنه يلزم بالشروع كما يلزم بالنذر.

(4/78)


إنما يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فقالوا إنما يولى على البكر في مالها; لأنه يولى عليها في نفسها فقلنا: النذر لما وقع لله تعالى على سبيل التقرب إليه تسبيبا لزمته مراعاته بابتداء المباشرة, وهو منفصل عن النذر وبالشروع حصل فعل القربة فلأن يجب مراعاته بالثبات عليه أولى وكذلك الولاية شرعت للعجز والحاجة على من هو قادر على قضاء الحاجة,
ـــــــ
وقالوا في ثبوت ولاية التزويج على الثيب الصغيرة للولي إنه - الضمير للشان - يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة فقلب عليهم في المسألتين كما ذكر في الكتاب. فأشار الشيخ إلى بيان المخلص بقوله فقلنا النذر لما وقع لله تعالى على سبيل التقرب إليه تسببا يعني النذر سبب قربة يباشره العبد على سبيل التقرب ثم لزمته مراعاة النذر الذي هو سبب القربة وليس بقربة بابتداء مباشرة فعل الذي هو حقيقة القربة صيانة للسبب عن البطلان مع أن ابتداء المباشرة منفصل عن النذر وبالشروع حصل فعل القربة حقيقة فلأن يجب مراعاة هذا الفعل الموجود قربة بالثبات عليه أي بإلزام الإتمام صيانة له عن البطلان كان أولى; لأن البقاء أسهل من الابتداء وحقيقة القربة أولى بالصيانة من سببها, وقد مر بيانه في باب العزيمة والرخصة. قال شمس الأئمة رحمه الله: ولا يستقيم قلبهم علينا; لأنا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى على وجه يكون المضي فيها لازما والرجوع عنها بعد الأداء حرام, وإبطالها بعد الصحة جناية فبعد ثبوت المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذلك تارة وذلك على هذا تارة قال الشيخ رحمه الله في شرح التقويم الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر; لأن النذر إنما صار سببا; لأن الناذر عهد أن يطيع الله تعالى فلزمه الوفاء به بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فكذا الشارع في عبادة عازم على إبقائه فلزمه الوفاء بإبقاء ما أدى بقوله عز اسمه: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ولا يتصور إبقاء ما أدى إلا بانضمام سائر الأجزاء إليه فوجب عليه الضم صيانة لما أدى عن البطلان ثم إبطال ما أدى فوق ترك الأداء, وقد وجب عليه الأداء تحقيقا للوفاء بالعهد فلأن يلزم إتمام ما أدى وإبقاؤه عبادة بعد الأداء تحقيقا للوفاء كان أحرى وأولى. وكذلك الولاية أي, وكما أن النذر والشروع متساويان في معنى الإيجاب الولاية على المال والولاية على النفس متساويتان في الثبوت أيضا; لأن الولاية شرعت أي ثبتت ووجبت للعجز أي لعجز المولى عليه عن التصرف لنفسه بنفسه مع حاجته إليه على من هو قادر على قضاء حوائجه وهو الولي وذلك; لأن الأصل عدم الولاية لحر على حر مثله وثبوت الولاية للشخص

(4/79)


والنفس والمال والثيب والبكر فيه سواء فأما الجلد والرجم فليسا بسواء في أنفسهما وفي شروطهما أيضا حتى افترقا في شرط الثانية, وكذلك القراءة والركوع والسجود ليسا بسواء; لأن القراءة ركن زائد تسقط بالاقتداء عندنا وتسقط لخوف فوت الركعة عنده, ومن عجز عن الأفعال لم يصلح الذكر أصلا بخلاف الأفعال, وكذلك الشفع الأول والثاني ليسا بسواء في القراءة ألا ترى أن أحد شطري القراءة سقط عنه, وهو السورة ويسقط أحد وصفيه, وهو الجهر فلم
ـــــــ
على نفسه إذ الأصل رأيه لكن إذا عدم رأيه بالصغر أو الجنون أقيم رأي الغير مقام رأيه وانتقلت الولاية إلى الغير نظرا للمولى عليه ولهذا كانت تصرفاته مقيدة بشرط النظر فالولاية, وإن كانت ثابتة للولي على المولى عليه ظاهرا, ولكنها وجبت على الولي للمولى عليه معنى نظرا له في قضاء حوائجه لنفسه والمالية, ولهذا لا يتمكن الولي من ردها, ولو امتنع عن إقامة مصالح المولى عليه, وقضاء حوائجه يأثم. والنفس والمال والثيب والبكر فيه أي في المعنى الذي ثبتت به الولاية, وهو العجز والحاجة سواء ألا ترى أن الولايتين حال وجود الرأي على السواء فكذا تستويان في حال عدمه, وإذا ثبت التساوي بينهما يمكن الاستدلال بثبوت إحداهما على الأخرى ولا يقال المساواة بين النفس والمال غير مسلمة; لأن النفس مبتذل والمال مبتذل; لأنا نقول: المساواة بين الشيئين غير مشروطة من كل الوجوه لصحة الاستدلال بل المشروط المساواة في المعنى الذي بني الاستدلال عليه, وقد وجد هاهنا; لأن النفس والمال في الحاجة إلى التصرف النافع التي بني الاستدلال عليها سواء. فإن قيل لا نسلم المساواة في الحاجة أيضا; لأن الحاجة إلى التصرف في المال متحققة في الحال للتثمير كي لا تأكله النفقة لكن الحاجة في حق النفس متأخرة إلى ما بعد البلوغ فينبغي أن لا تثبت الولاية على النفس عملا بالأصل. قلنا: الحاجة في النفس قد تتحقق في الحال على تقدير فوات الكفؤ, وفي المال قد لا يقع الحاجة بأن كان كثيرا فكانا سواء لاجتماع جهة الحاجة في كل واحد منهما. ثم شرع في بيان أن لا مخلص للخصم عن القلب الذي ذكرنا فقال فأما الجلد والرجم فليسا بسواء في أنفسهما; لأن أحدهما نهاية في العقوبة يأتي على النفس والآخر تأديب محله ظاهر البدن. وفي شروطها فإن الثيابة بصفة الكمال, وهي الثيابة بملك النكاح دون ملك اليمين شرط في وجوب الرجم دون وجوب الجلد, وإذا انتفى التساوي بينهما لا يصح الاستدلال بوجودهما على الآخر, وكيف يستدل بالأخف على الأغلظ وبالابتداء على النهاية وكذلك القراءة والركوع والسجود ليسوا بسواء, ولو قيل ليست بسواء, أو ليس بسواء لكان أحسن, ومن عجز عن الأفعال لم يصلح الذكر أصلا يعني لو كان عاجزا عن الأفعال دون الأذكار كالمريض الذي لا يقدر على الإيماء لم يجب عليه أداء الصلاة بخلاف الأفعال فإن من قدر عليها دون الأذكار

(4/80)


يجهر بحال ففسد الاستدلال. وأما النوع الثاني منه فهو قلب الشيء ظهرا لبطن وذلك أن يكون الوصف شاهدا عليك فقلبته فجعلته شاهدا لك, وكان ظهره إليك فصار وجهه إليك فنقض كل واحد منهما صاحبه فصارت معارضة فيها مناقضة بخلاف المعارضة بقياس آخر; لأنه يوجب الاشتباه إلا بترجيح ولا يوجب تناقضا إلا أن هذا لا يكون إلا بوصف زائد فيه تقرير للأول وتفسيره فكان دون القسم الأول مثاله قولهم في صوم رمضان إنه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعين النية كصوم القضاء فقلنا لما كان صوما فرضا استغنى عن
ـــــــ
كالأخرس والأمي تجب الصلاة عليه, يسقط منه أي من الشفع الثاني أو من المصلي في الشفع الثاني أحد وصفيه أي أحد وصفي الواجب, وهو القراءة فلم يجهر بحال إماما كان أو منفردا ففسد الاستدلال أي لم يصح الاستدلال بوجوب الركوع والسجود في جميع الركعات على وجوب القراءة في الجميع لعدم المساواة.
قوله: "وأما" "النوع الثاني منه" أي من القلب فهو من قلب الشيء أي مأخوذ من قلب الشيء ظهرا لبطن أي جعل ظهره بطنا وبطنه ظهرا مثل قلب الجراب, وذلك أي القلب المأخوذ من هذا المعنى أن يكون الوصف شاهدا أي حجة عليك فقلبته فجعلته شاهدا لك فنقض أي أبطل كل واحد منهما أي من الشهادتين أو من التعليلين صاحبه لما نبين فصارت أي صار هذا النوع من القلب, والتأنيث لتأنيث الخبر معارضة; لأنه يوجب خلاف ما أوجبه تعليل المعلل ومعنى المعارضة في هذا النوع أظهر منه في النوع الأول لوجود حد المعارضة فيه فيها مناقضة أي إبطال للتعليل الأول; لأن المطلوب هو الحكم والوصف الذي يشهد بثبوته من وجه وبانتفائه من وجه آخر تكون متناقضا في نفسه بمنزلة الشاهد الذي يشهد لأحد الخصمين على الآخر في حادثة ثم للخصم الآخر عليه في عين تلك الحادثة فإنه يتناقض كلامه بخلاف المعارضة بقياس آخر حيث لا تكون مناقضة; لأنه أي التعارض يوجب الاشتباه فيتعذر العمل للاشتباه إلى أن يتبين رجحان لأحدهما على الآخر, وهذا لا يوجب تناقضا أي إبطالا للأول إلا أن هذا أي هذا النوع من القلب لا يكون أي لا يتحقق إلا بوصف زائد على الوصف الذي ذكره المعلل. فيه أي في ذلك الوصف الزائد تقرير للوصف الأول, وهذا جواب عما يقال القلب يكون بتعليق الحكم بذلك الوصف بعينه فإذا زيد عليه وصف آخر لم يبق بعينه علة فيكون هذا تعليق الحكم بعلة أخرى فيكون معارضة محضة غير متضمنة لمعنى الإبطال فقال هذه الزيادة تفسير للوصف الأول, وتقرير له لا تغيير فلا تجعله في حكم شيء آخر, وإنما قلنا ذلك; لأن

(4/81)


تعيين النية بعد تعينه كصوم القضاء لكنه إنما يتعين بالشروع, وهذا تعين قبل الشروع, ومثل قولهم في مسح الرأس إنه ركن في الوضوء فيسن بثلاثة
ـــــــ
الخصم قال في صوم رمضان هذا صوم فرض, ولم يبين أنه متعين في هذا الوقت لعدم بقاء غيره من الصيامات مشروعا معه في هذا الوقت تلبيسا علينا فنحن فسرنا الصوم المذكور تفسيرا تركه الخصم وبينا محل النزاع فكان قياس هذا الصوم من القضاء ما بعد الشروع وكذلك قال في مسح الرأس إنه ركن, ولم يفسر أنه إكمال بأمثال الفرض في محل الفرض فنحن بينا ذلك فلم يكن تغييرا بل كان قلبا لذلك الوصف بعينه فبطل الأول; لأن الوصف لا يتعلق به حكمان مختلفان في حالة واحدة فإذا تعارضا سقط كلام المجيب لكنه أي القضاء تعين بالشروع وهذا أي صوم رمضان تعين قبل الشروع وبهذا القدر لا تقع المفارقة. واعلم أن القلب على هذا التفسير والتقسيم هو المذكور في عامة كتب أصحابنا, ولم يذكر عامة أصحاب الشافعي القسم الأول في كتبهم, وفسروا القلب بأنه تعليق نقيض الحكم المذكور على العلة المذكورة في قياس بالرد إلى ذلك الأصل بعينه, وأرادوا بالنقيض ما ينافي الحكم المذكور ولا يجمع معه, وإنما اشترط الرد إلى ذلك الأصل بعينه; لأنه لو رد إلى أصل آخر فحكم ذلك الأصل الآخر إن وجد في هذا الأصل كان الرد إليه أولى; لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك العلة فيه ويمكنه منع وجودها في أصل آخر, وإن لم يوجد فيه كان أصل القياس الأول نقضا على تلك العلة; لأن ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم الحكم.
ثم قسموه على قسمين: أحدهما أن يبين المعترض أن ما ذكره المستدل يدل على الحكم, ولا يدل عليه. والثاني أن يبين أن ما ذكره دليل على المستدل, وإن كان دليلا له أيضا والأول قلما يتفق له مثال في الشرعيات في غير النصوص وذلك كما لو استدل من ورث الخال بقوله عليه السلام: "الخال وارث من لا وارث له" 1 فيعترض عليه بأن المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما في قولهم الجرع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له.
والثاني ثلاثة أقسام أحدها أن يتعرض القالب في القلب لتصحيح مذهبه, وثانيها أن يتعرض لإبطال مذهب الخصم صريحا. وثالثها أن يتعرض لإبطاله بطريق الالتزام بأن
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الفرائض حديث رقم 1204 وأبو داود في الفرائض حديث رقم 2899 والإمام أحمد في المسند 4/131.

(4/82)


......................................................
يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل مثال الأول ما لو قال الحنفي في مسألة الاعتكاف: لبث مخصوص فلا يكون قربة بنفسه بل لا بد من اعتبار عبادة في كونه قربة كالوقوف بعرفة فيقول الشافعي: لبث مخصوص فلا يكون الصوم من شرطه كالوقوف بعرفة فقد تعرض كل منهما لتصحيح مذهبه إلا أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا. وقد يتفق تعرض كل منهما لتصحيح مذهبه صريحا كقول الشافعية في إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث, وقول الحنفية اعتراضا طهارة لأجل الصلاة فتصح بغير الماء كطهارة الحدث فقد تعرض كل منهما لتصحيح مذهبه صريحا. ومثال الثاني ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس عضوا من أعضاء الوضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه اسم الرأس كغيره من أعضاء الوضوء فيقول الشافعي عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر بالربع كسائر أعضاء الوضوء فقد تعرض كل منهما في دليله لإبطال مذهب خصمه صريحا وليس ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه لا يلزم من إبطال كل منهما تصحيح الآخر لجواز أن يكون الصحيح مذهب مالك رحمه الله, وهو الاستيعاب, وإنما يلزم ذلك لو كان القائل في المسألة قائلين, والاتفاق واقعا على نفي قول ثالث. ومثال الثالث: ما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح. فيقول الشافعي عقده معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فالمعترض لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل وهو القول بالصحة صريحا بل بطريق الالتزام; لأن من قال بالصحة قال بخيار الرؤية فهما متلازمان عنده فيلزم من انتفاء خيار الرؤية انتفاء الصحة.
قلت هذه أقيسة ليست بمناسبة فضلا من أن تكون مؤثرة بل بعضها طردية وبعضها شبهية فأصحاب أبي حنيفة رحمه الله الشارطون للتأثير المعترضون من الطرد والشبه كيف يخطر ببالهم مثل هذه الأقيسة, وكيف يعللون بها, والالتفات إلى مثلها ليس من دأبهم وهجيرهم لكن المخالفين وضعوها من عند أنفسهم ونسبوها إلى أصحابنا, وأوردوها أمثلة في كتبهم ليتضح فهم أقسام القلب التي ذكروها ثم ذكروا أن القلب على الأوجه التي ذكرناها نوع معارضة لكنها تفارق مطلق المعارضة بأنها نشأت من نفس دليل المستدل, وبأنها لا يمكن فيها الزيادة على العلة لوجوب اتحاد العلة فيها, وبأنها لا يمكن فيها منع وجود العلة في الفرع والأصل; لأن أصل القالب, وفرعه هو أصل المستدل. وفرعه بخلاف سائر المعارضات فيما ذكرنا ولهذا كان القلب أولى بالقبول من مطلق المعارضة

(4/83)


كغسل الوجه فيقال لهم: لما كان ركنا في الوضوء وجب أن لا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض كغسل الوجه. وبيانه أن مسح الرأس يتأدى بالقليل فيكون استيعابه تكميلا للفرض في محله بزيادة عليه بمنزلة التكرار في الوجه. وأما العكس فليس من هذا الباب لكنه لما استعمل في مقابلة القلب ألحق به,
ـــــــ
لأن الاشتراك في الأصل والجامع أقوى في الناقصة مما إذا لم يكن كذلك; لأنه مانع للمستدل من ترجيح أصله وجامعه على أصل القالب وجامعه للاتحاد بخلاف سائر المعارضات. وزعم بعض الأصوليين أن القلب مردود; لأن المعترض إن لم يتعرض في القلب لنقيض حكم المستدل فلا يقدح ذلك في الدليل لجواز أن يكون للعلة الواحدة وللأصل الواحد حكمان غير متنافيين, وإن تعرض لنقيضه فلا يمكن اعتباره بأصل المستدل, ولا إثباته بعلته لاستحالة اجتماع النقيضين في محل واحد واستحالة اقتضاء العلة الواحدة حكمين متنافيين لتعذر مناسبتها إياهما. والجواب عن الأول أنه إن لم يتعرض لنقض حكم المستدل فلا يخرج بذلك عن كونه قادحا في الدليل إذا كان ما تعرض لنفيه من لوازم حكم المستدل كما ذكرنا في الأمثلة. وعن الثاني إن شرط القلب اشتمال الأصل على حكمين غيره متنافيين في ذاتيهما قد امتنع اجتماعهما في النوع بدليل منفصل, وأن لا يكون مناسبة الوصف للحكم ونقيضه حقيقة لاستحالته. وإذا كان كذلك يصح حصولهما في الأصل من غير استحالة لعدم تنافيهما في ذاتيهما ويمكن أن يكون العلة مناسبة لحكم في نظر المستدل ولنقيضه في نظر السائل, وإذا اندفعت الاستحالة صح القلب. ولما ثبت أن القلب صحيح, وهو معارضة كان للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل, وأن يقدح في تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه بيان أن اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القلب مناقضا لحكمه; لأن قلب القالب إذا أفسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب كذا في عامة نسخ الأصول ورأيت في بعض فوائد هذا الكتاب أنه لا يسمع القلب والنقض على القلب; لأنه خرج مخرج الإفساد لكلام الخصم لا على سبيل التعليل, ولا يندفع إلا ببيان أن هذا القلب لا يخرج في دلالة الوصف على الحكم, ولكن الأول أصح; لأنه تعليل في مقابلة تعليل المعلل فيرد عليه ما يرد على الأول. قوله: "وأما العكس فليس من هذا الباب" أي ليس بمعارضة; لأن المعارضة للدفع والعكس للتصحيح فلا يكون العكس من المعارضة فكان ينبغي أن لا يذكر في هذا الباب. لكنه أي العكس لما استعمل في مقابلة القلب لما قلنا إن القلب للإبطال والعكس للتصحيح ألحق العكس بالقلب أي بيان العكس ببيان القلب; لأن ذكر مقابل الشيء بعد ذكره من محسنات الكلام والثاني معارضة فاسدة لا يقال لما كان هذا

(4/84)


وهو نوعان أحدهما يصلح لترجيح العلل والثاني معارضة فاسدة وأصله رد الشيء على سننه الأول مثل عكس المرآة إذا رد نور البصر بنوره حتى انعكس فأبصر نفسه كأن له وجها في المرآة وذلك مثل قولنا ما يلتزم بالنذر يلتزم
ـــــــ
النوع من العكس معارضة فاسدة كان من هذا الباب فلم يستقم نفيه بالعكس من هذا الباب على الإطلاق ولا يندفع بأن نفيه يصح باعتبار الفساد إذ الفاسد في حكم العدم فإنه قد ذكر أنواع المعارضة في الأصل مع فسادها من هذا الباب; لأنا نقول المراد من قوله العكس ليس من هذا الباب القسم الأول دون الثاني; لأن الثاني ليس بعكس حقيقة بل هو قلب على ما ذكر في الكتاب لكنه لما تشابه العكس من وجه أدخله في هذا القسم. وأصله أي أصل العكس لغة رد الشيء على سننه أي رجعه من ورائه على طريقه الأول مثل عكس المرآة إذا ردت المرآة نور بصر الناظر بنورها حتى انعكس نور البصر فأبصر الناظر بانعكاس نور بصره إلى نفسه نفسه كان له وجهان في المرآة قال صدر الإسلام: وهذا قول ثمامة1 المتكلم, وهو قول المعتزلة وقال عامة أهل السنة والأشعرية: إن الانعكاس لا يستقيم بل يرى ما يرى بإرادة الله تعالى فإنه جل جلاله يحدث صور الأشياء فيها عند مقابلة مخصوصة إذا توسط بينهما جسم شفاف كما يحدث الروح في البدن عند استعداده وصلاحيته للقبول والدليل على أنه ليس بطريق الانعكاس إن صور الأشياء تحدث فيها عند المقابلة, وإن لم يكن هناك ناظر ونعلم قطعا أن الأعمى إذا قابل المرآة بوجهه يحدث صورته فيه, ولم يكن لبصره نور ينعكس. وكذا لو نظر من انطبع صورته في المرآة في تلك الحالة إلى شيء آخر خارج المرآة لا تزول صورته عنها, ولو كان بطريق الانعكاس ينبغي أن لا يبقي الصورة فيها بعدما صرف طرفه عن المرآة فعرفنا أن القول بالانعكاس ليس بصحيح إلا أن غرض الشيخ منه التمثيل, وقد وقع عند الناس أن إبصار الصور في المرآة بهذا الطريق فذكره على ما وقع عندهم تقريبا إلى الفهم. وذكر في بعض نسخ الأصول أن العكس في اللغة هو رد أول الشيء إلى آخره وآخره إلى أوله, وأصله شد رأس البعير بخطامه إلى ذراعه, وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو انتقاء الحكم لانتفاء علته, وقيل هو تعليق نقيض الحكم المذكور بنقيض العلة المذكورة ورده إلى أصل آخر.
وذلك أي العكس بالمعنى المذكور مثل قولنا في أن الشروع في النفل فلزم ما يلتزم بالنذر ويلتزم بالشروع كالحج وعكسه الوضوء يعني عكسه أن ما لا يلتزم بالنذر لا
ـــــــ
1 هو أبو معين ثمامة بن أشرش النميري المعتزلي المتوفي سنة 213 هـ انظر مروج الذهب 3/420 – 421.

(4/85)


بالشروع كالحج, وعكسه الوضوء, وهذا وما أشبهه مما يصلح لترجيح العلل على ما نذكره إن شاء الله تعالى والنوع الثاني إن رد على خلاف سننه مثل قولهم هذه عبادة لا يمضي في فسادها فلا تلتزم بالشروع كالوضوء فيقال لهم لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه عمل النذر والشروع كالوضوء, وهذا ضعيف
ـــــــ
يلتزم بالشروع كالوضوء فعكست الحكم بقلب الوصف الذي جعلته علة في الطرد. وهذا أي العكس المذكور في هذه المسألة, وما أشبهه كقولنا في الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فيولى عليها في نفسها كالبكر الصغيرة, وعكسه الثيب البالغة فإنه لا يولى عليها في مالها فلا يولى عليها في نفسها مما لا يصلح لترجيح العلل يعني هذا النوع من العكس ليس بقادح في العلل أصلا بل هو يصلح مرجحا للعلة التي تطرد وتنعكس على التي تطرد, ولا تنعكس; لأن الانعكاس يدل على زيادة تعلق للحكم بالوصف ويوجب زيادة قوة في ظن كون الوصف علة. والثاني أن يرد على خلاف سننه أي يرد الحكم إلى خلافه لا على سننه بل سنن غير سننه كذا لفظ التقويم وهذا النوع ليس بعكس حقيقة; لأنه ليس بداخل في تعريف العكس بل هو في أقسام القلب, ولهذا ذكره صدر الإسلام وعامة الأصوليين في أقسام القلب, ولم يذكروه في العكس لكنه لما كان يشبه العكس من حيث إنه رد للحكم الذي اطرد, وإن كان على خلاف سننه أورده الشيخ في هذا القسم مثل قولهم هذا أي الصوم النفل عبادة لا يمضي في فاسدها يعني إذا فسدت لا يجب, ولا يجوز إتمامها والمضي فيها, واحترز به عن الحج فإنه وجب بالشروع; لأن المضي يجب فيه بعد الفساد فيحتمل أن يلزم بالشروع لما كان كذلك أي لما كان الشأن كما قلنا إن الصوم عبادة لا يمضى في فاسدها أو لما كان صوم النفل على الوصف الذي ذكرنا وجب أن يستوي فيه أي في الصوم النفل عمل النذر والشروع كما استوى عملهما في الوضوء يعني استوى عملهما في الوضوء باعتبار أنه لا يمضى في فاسده, وهذا المعنى موجود في التنازع فيه; لأنه لا يمضى في فاسده أيضا فوجب أن يثبت استواؤهما فيه كما في الوضوء وهذا أي هذا النوع ضعيف أي فاسد من وجوه القلب, ويسمى هذا قلب التسوية. وقد اختلفوا فيه فذهب بعض من صحح القلب إلى قبول هذا النوع لوجود حد القلب فيه إذ السائل قد جعل الوصف المذكور بعدما كان شاهدا عليه شاهدا لنفسه فيما ادعاه من الحكم المستلزم لمخالفة دعوى المستدل; لأن استواء الشروع والنذر لو ثبت يلزم منه كون الشروع ملزما كالنذر, وهو خلاف دعوى المستدل وذهب آخرون إلى أنه لا يقبل بوجوه أربعة ذكرت في الكتاب أحدها أن السائل جاء بحكم آخر ليس بناقض للحكم الأول; لأن المستدل لم ينف التسوية ليكون إثباتها مناقضا لمدعاه, وإذا كان كذلك ذهبت المناقضة التي هي شرط

(4/86)


من وجوه القلب; لأنه لما جاء بحكم آخر ذهبت المناقضة, ولذلك لم يكن من هذا الباب في الحقيقة; ولأنه لما جاء بحكم مجمل لا يصح من السائل إلا بطريق الابتداء; ولأن المفسر أولى; ولأن المقصود من الكلام معناه, والاستواء مختلف في المعنى سقوط من وجه وثبوت من وجه على التضاد وذلك مبطل للقياس. وأما المعارضة الخالصة فخمسة أنواع في الفرع وثلاثة في الأصل
ـــــــ
صحة القلب فلم يكن دفعا لدعوى المستدل فلا يقبل إلا أن الفريق الأول يقولون ليس تناقض الحكمين ذاتا شرطا لصحة القلب بل انتفاء الجمع بينهما بدليل منفصل كاف لصحته, وقد وجد; لأن ثبوت الاستواء مستلزم لانتفاء مدعى المستدل, وفي بيان الوجه الرابع دفع هذا السؤال.
ولذلك أي ولانتفاء المناقضة بين الحكمين لم يكن هذا النوع من باب المعارضة في الحقيقة, وإن كان معارضة صورة, وإيراده في هذا الباب باعتبار الصورة ولهذا كان معارضة فاسدة.
والثاني أن السائل جاء بحكم مجمل إذ الاستواء يحتمل المساواة في الإلزام المساواة في السقوط, ولا يمكنه البيان إلا بكلام مبتدأ بأن يثبت التسوية بين الشروع والنذر في الإلزام وليس إلى السائل ذلك.
والثالث أن الحكم الذي ذكره السائل مجمل لما قلنا والحكم الذي ذكره المستدل مفسر والمجمل لا يصلح معارضا للمفسر لثبوت الاحتمال في المجمل وانتفائه عن المفسر.
والرابع إن المقصود من الكلام معناه فإن ما لا معنى له من الألفاظ ليس بكلام والسائل, وإن علق بالوصف المذكور حكم الاستواء, ولكن المقصود شيء آخر يختلف معنى الاستواء فيه بالنسبة إلى الفرع والأصل فإن استواء النذر والشروع في الأصل, وهو الوضوء باعتبار عدم الإلزام فإنه لا أثر للنذر, ولا للشروع في إيجاب الوضوء بالإجماع واستواؤها في الفرع, وهو الصوم النفل باعتبار الإلزام, وهو معنى قوله ثبوت من وجه سقوط من وجه. والمعنيان مختلفان على وجه التضاد أي التنافي واختلاف المعنى في الأصل مبطل للقياس; لأنه إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر, ويستحيل أن يتعدى من الأصل إلى الفرع حكم لا يوجد في الأصل فكان هذا نظير إثبات الحرمة في الفرع بالقياس على الحل من حيث المعنى, وإنما يستقيم هذا التعليل إذا كان الاستواء بنفسه مقصودا, وذلك ليس بمقصود.

(4/87)


أما التي في الفرع فأصح وجوهها المعارضة بضد ذلك الحكم فيقع بذلك محض المقابلة فيمتنع العمل وينسد الطريق إلا بترجيح مثاله قولهم إن المسح ركن في وضوء فيسن تثليثه كالغسل فيقال إنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف. والثاني معارضة بزيادة هي تفسير للأول وتقرير له فمثل قولنا إن المسح
ـــــــ
قوله: "وأما المعارضة الخافضة" أي المعارضة التي خلصت عن معنى المناقضة والإبطال فثمانية أنواع, خمسة منها تتحقق في الفرع, وثلاثة في الأصل ثم اثنان من الخمسة الواقعة في الفرع صحيحان بلا شبهة وثلاثة منها فيها شبهة الصحة, والثلاثة التي في الأصل فاسدة كلها من كل وجه, وإنما أورد الفاسدة منها في هذا الباب لبيان جميع أقسامها, وإحاطة سائر أنواعها.
أما التي في الفرع أي المعارضات التي في الفرع فأصح وجوهها. المعارضة بضد ذلك الحكم أي بما يخالف حكم المستدل بأن يذكر علة أخرى توجب خلاف ما توجبه علة المستدل من غير زيادة وتغيير فيه في ذلك المحل بعينه فيقع بذلك أي بإيراد الضد محض المقابلة من غير تعرض لإبطال علة الخصم فيمتنع العمل بهما بمدافعة كل واحدة منهما ما يقابلها ويفسد طريق العمل إلا بترجح إحدى العلتين على الأخرى فإذا ترجحت إحداهما وجب العمل بالراجحة حينئذ. قال صدر الإسلام, وهذه المعارضة تجيء على كل علة يذكرها المعلل. مثاله أي مثال هذا النوع من المعارضة يتحقق في قول أصحاب الشافعي في تثليث المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فيقال لهم: إنه مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف فهذه معارضة خالصة صحيحة لما فيها من إثبات حكم مخالف للحكم الأول بعلة أخرى في ذلك المحل من غير زيادة وتغيير. والنوع الثاني, وهو قولنا في هذا الموضع ركن في الوضوء فلا يسن تثليثه بعد إكماله كالغسل معارضة بتغيير هو تفسير للحكم الأول وتقرير له وهي صحيحة أيضا حتى وجب المصير إلى الترجيح فيها كما في المعارضة الأولى ولكنها دون الأولى فإن الأولى تصح بدون الزيادة, وهذه لا تصح بدونها كذا ذكر في بعض نسخ أصول الفقه لأصحابنا. وكان ينبغي أن يكون هذا القسم أقوى من القسم الأول في الدفع, ومقدما عليه; لأنه أحد وجهي القلب, والقلب مقدم على المعارضة المحضة عند عامة الأصوليين لتضمنه إبطال علة الخصم ثم إيراد الشيخ رحمه الله هذا النوع هاهنا مشكل; لأنه في بيان المعارضة المحضة الخالصة عن تضمن معنى الإبطال, وهذا النوع ليس بمعارضة خالصة, وقد ذكره في المعارضة التي فيها مناقضة فكيف يصح إيراده في المعارضة الخالصة وما ذكر في بعض الشروح أن هذا القسم معارضة ذاتا, ومناقضة ضمنا فيصح إيراده هاهنا باعتبار معنى المعارضة, ويصح إيراده

(4/88)


ركن في الوضوء فلا يسن تثليثه بعد إكماله كالغسل, وهذا أحد وجهي القلب على ما قلنا. وأما الثالث فما فيه نفي لما أثبته الأول أو إثبات لما نفاه لكن بضرب تغيير مثل قولنا في الثيب اليتيمة إنها صغيرة فتنكح كالتي لها أب أي فقالوا هي صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال, وهذا تغيير للأول; لأن التعليل لإثبات الولاية لا لتعيين الولي إلا أن تحت هذه الجملة نفي للأول; لأن
ـــــــ
في القسم الأول أيضا باعتبار معنى المناقضة, وما ذكر في بعض نسخ الأصول لأصحابنا أن هذه معارضة فيها معنى القلب فالسائل بالخيار إن شاء يأتي به على وجه المعارضة, وإن شاء يأتي به على وجه القلب لا يدفعان هذا الإشكال; لأن الشيخ قيد المعارضة بالخالصة وبإيراد هذا النوع في هذا الموضع لا يحدث الخلوص فيه. وكذا بإيراد السائل إياه على وجه المعارضة لا يصير معارضة خالصة فلا يستقيم إيراده في المعارضة الخالصة بوجه وذكر القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله أقسام المعارضة في الفرع والأصل على وجه المذكور في الكتاب لكنهما ذكرا القلب والعكس في فصل على حدة, وذكرا أقسام المعارضة في فصل آخر, ولم يقيدا المعارضة بالخلوص فاستقام إيراد هذا القسم منهما في أقسام المعارضة كما استقام إيراده في أقسام القلب ولكن الشيخ لما تصرف وجعل الكل من باب المعارضة ثم قسم المعارضة على قسمين خالصة وغيرها اشتبه إيراده في القسمين لاستلزامه كون هذا النوع معارضة خالصة وغير خالصة, ولا أعرف وجه التقصي عنه.
قوله: "وأما الثالث" أي القسم الثالث من أقسام المعارضة الخالصة في الفرع فما فيه أي فالمعارضة التي فيها نفي لما أثبته المستدل أو إثبات لما نفاه, ولكن بضرب تغير فيه إخلال بموضع النزاع. مثل قولنا في أن لغير الأب والجد من الأولياء كالأخ والعم ولاية تزويج الصغيرة عند عدم الأب والجد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله أنها أي اليتيمة صغيرة عليها فيثبت ولاية التزويج كالتي لها أب فقالوا أي أصحاب الشافعي هذه صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة قياسا على المال فإنه لا ولاية للأخ على مال الصغيرة بالاتفاق, وهذا تغيير الأول أي تعيين الأخ زيادة توجب تغييرا للحكم الأول الذي وقع النزاع فيه; لأن التعليل وقع لإثبات ولاية التزويج عليها على الإطلاق لا لتعيين الولي الزوج لها والخصم بهذه المعارضة علل لنفي الولاية في محل خاص, وهو الأخ فمن هذا الوجه لم يكن هذا الحكم عين ذلك الحكم فلم تكن هذه المعارضة دفعا إلا أن أي لكن تحت هذه الجملة, وهي التعليل لنفي ولاية الأخ في التزويج نفي الحكم الأول, وهو إثبات ولاية الإنكاح على الصغيرة لغير الأب والجد من الأولياء على الإطلاق; لأن قرابة الأخوة أقرب القرابات بعد قرابة الولادة, والأخ هو الأصل بعد الأب والجد في الولاية; لأن الولاية لسائر

(4/89)


ولاية الأخوة إذا بطلت بطل سائرها بناء عليها بالإجماع. وأما الرابع فالقسم الثاني من قسمي العكس على ما بينا ففيه صحة من وجه وعلى ذلك ما قلنا الكافر يملك بيع العبد المسلم فيملك شراءه كالمسلم فقالوا بهذا المعنى وجب أن يستوي ابتداؤه وقراره كالمسلم. وأما الخامس فالمعارضة في حكم غير الأول
ـــــــ
الأقارب تثبت بعد ولاية الأخ بالإجماع كما تثبت ولاية الأخ بعد ولاية الأب والجد فلما انتفى بهذه المعارضة ولاية الأخ الذي هو الأقرب والأصل; فلأن تنتفي ولاية سائر الأقارب التي هي مبنية على ولاية الأخ كان الأخ أولى, أو يقال ولاية الأخ منتفية عنها بهذه المعارضة وولاية من سوى الأخ من الأولياء منتفية عنها بالأخ فيكون كل الولايات منتفية بهذه المعارضة فمن هذا الوجه يظهر معنى الصحة فيها, وإن لم يكن قويا.
قوله: "ففيه صحة من وجه" يعني إيراده في المعارضة بعدما بينا فيه ما يوجب فساده باعتبار أن فيه صحة من وجه, وهو أنه لو ثبت ما ادعاه السائل من الاستواء على الإطلاق يلزم منه انتفاء حكم المستدل فمن حيث إنه لم يثبت بهذه المعارضة خلاف حكم المستدل صريحا وقصدا لم يتحقق معنى المعارضة فيه فتكون فاسدة, ومن حيث إن ما ادعاه السائل من الحكم يستلزم نفي حكم المستدل يظهر فيها جهة الصحة وعلى ذلك أي على أن في هذه المعارضة جهة الصحة قلنا كذا فقالوا كذا. الكافر إذا اشترى عبدا مسلما يجوز شراؤه عندنا ولكنه يؤمر بإخراجه من ملكه بالبيع من مسلم أو بالإعتاق أو نحو ذلك, ويجبر عليه وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز شراؤه فعلل أصحابنا بأن العبد المسلم مال يملك الكافر بيعه فيملك شراءه قياسا على المسلم فعارضوه بأن الكافر لما ملك بيعه, وهو المراد بقوله بهذا المعنى وجب أن يستوي ابتداؤه أي ابتداء الملك. وقوله كالمسلم وفي التقويم وجب أن يستوي حكم الشراء والتقرير عليه كالمسلم ثم العبد المسلم ليس بمحل لقرار ملك الكافر فيه بالاتفاق فوجب أن لا يكون محلا لثبوت الملك فيه ابتداء ففي هذه المعارضة إثبات ما لم ينفه المستدل; لأنه لم ينف التسوية بين الابتداء والقرار, وإنما أثبت التسوية بين البيع والشراء فلا تكون متصلة بموضع النزاع فتكون فاسدة إلا أن فيها شبهة الصحة; لأنه إذا ثبت استواء البقاء والابتداء ظهرت المفارقة بين البيع والشراء فيصح البيع, ولا يصح الشراء; لأنه يوجب الملك ابتداء فيتصل بموضع النزاع من هذا الوجه لكن الاتصال لما لم يثبت إلا بعد البناء بإثبات التسوية بين الابتداء والبقاء, وليس إلى السائل البناء ترجحت جهة الفساد في هذه المعارضة فلا تصلح لدفع تعليل المستدل إليه أشير في التقويم وفي إيراد هذا النوع من المعارضة في أقسام المعارضة الخالصة من السؤال ما في إيراد النوع الثاني; لأن جهة صحة المعارضة في هذا النوع يستلزم إبطال تعليل المستدل أيضا فعلى تقدير كونه معارضة لا يكون خالصة.

(4/90)


لكن فيه نفي للأول أيضا مثل قول أبي حنيفة في التي نعي إليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول حيا أن الأول أحق بالولد; لأنه صاحب فراش صحيح فإن عارضه الخصم بأن الثاني صاحب فراش فاسد فيستوجب به نسب الولد كرجل تزوج امرأة بغير شهود فولدت فهذه المعارضة في الظاهر فاسدة لاختلاف الحكم إلا أن النسب لما لم يصح إثباته من زيد بعد ثبوته من عمرو صحت المعارضة بما يصلح سببا لاستحقاق النسب فاحتاج الخصم إلى الترجيح بأن فراش الأول
ـــــــ
قوله: "وأما الخامس فالمعارضة في حكم غير الأول" يعني يأتي السائل بحكم يخالف حكما آخر, وإلا يخالف الحكم الأول صورة لكن فيه أي فيما يثبت بهذه المعارضة من الحكم نفي من الحكم الأول من حيث المعنى كما في القسم الثالث والرابع, وإليه أشير بلفظه أيضا فإن قول السائل في المثال المذكور إن الثاني يستوجب نسب الولد يعارض عدم ثبوت النسب للثاني, ولا يعارض ثبوت النسب للأول صورة إلا أن الفرق بين هذا النوع وبين ما تقدم إن محل حكمي المستدل والسائل مختلف في هذا النوع. وفيما تقدم كان المحل واحدا مثل قول أبي حنيفة أي مثل معارضة قول أبي حنيفة رحمه الله في المرأة التي نعي إليها زوجها أي أخبرت بموته من نعى الناعي الميت نعيا إذا أخبر بموته, وهو منعي فاعتدت المرأة وتزوجت بزوج آخر وجاءت بولد ثم حضر الزوج الأول أن الولد يكون للأول; لأنه صاحب فراش صحيح لقيام النكاح بينهما بصفة الصحة فكان أحق بالولد كما إذا لم تتزوج بزوج آخر وجاءت بالأولاد في حال غيبته بأن الثاني صاحب فراش فاسد إلى آخره فهذه معارضة فاسدة في الظاهر لاختلاف الحكم يعني من شرط المعارضة أن يكون الحكم الذي يتوارد عليه النفي والإثبات واحدا; لأنها صارت حجة للمدافعة والمدافعة إنما تتحقق فيما قلنا, وهاهنا الحكم مختلف; لأن المستدل علل لإثبات النسب من الأول, والسائل علل لإثباته من الثاني, وكان ينبغي أن يعلل لنفيه عن الأول ليتوارد النفي والإثبات على حكم واحد ففسدت المعارضة من هذا الوجه ولم يتعرض في التقويم وغيره لاختلاف الحكم في هذا النوع, وإنما تعرض لاختلاف المحل فقيل هو إثبات للحكم الأول في محل غير الأول, وهو أوضح; لأن التعليل لإثبات النسب من الأول. والسائل أثبت النسب للثاني فكان محل الحكم مختلفا ففسدت المعارضة لاختلاف المحل إذ من شرطها اتحاد المحل, ولم يوجد إلا أن فيها صحة من وجه, وهو أن النسب متى ثبت من عمرو مثلا وهو الثاني لا يمكن إثباته من زيد, وهو الأول لعدم تصور ثبوته من شخصين فتضمنت هذه المعارضة نفي النسب عن الأول, وقد وجد ما يصلح سببا لاستحقاق النسب في حق الثاني, وهو الفراش الفاسد فصحت من هذا الوجه. قال الشيخ رحمه الله في شرح

(4/91)


صحيح ثم عارضه الخصم بأن الثاني شاهد والماء ماؤه فتبين به فقه المسألة, وهو أن الصحة والملك أحق بالاعتبار من الحضرة; لأن الفاسد شبهة فلا يعارض الحقيقة فيفسد الترجيح. وأما المعارضات في الأصل فثلاثة معارضة بمعنى لا يتعدى وذلك باطل لعدم حكمه ولفساده لو أفاد تعدية والثاني أن يتعدى إلى
ـــــــ
التقويم: إن فيها شبهة الصحة; لأن النسب لو ثبت من الحاضر انتفى من الغائب لكن الحكم الذي ادعاه المجيب لا ينتفي إلا بعد إثبات السائل الحكم الذي ادعاه, وليس إليه إثباته, وإنما إليه الإبطال بالمدافعة وذلك إنما يتحقق في محل واحد فتكون معارضة فاسدة فاحتاج الخصم إلى الترجيح, ولما صحت المعارضة من الوجه الذي ذكر احتاج الخصم, وهو المجيب إلى ترجيح ما ادعاه على ما ذكره السائل بأن يقول فراش الزوج الأول صحيح والملك قائم حقيقة, وفراش الزوج الثاني فاسد لا حقيقة له فكان الأول أحق بالاعتبار. كما لو كانا حاضرين, واحد الفراشين صحيح والآخر فاسد, ثم عارضه الخصم, وهو السائل بأن الثاني شاهد أي حاضر والماء ماؤه, وقد وجد ما يثبت به النسب, وهو الفراش الفاسد فيكون أولى بالاعتبار من الأول فيتبين بهذا أي بالترجيح من الجانبين فقه المسألة, وهو أن صحة فراش الأول, وقيام ملكه مع غيبته أحق بالاعتبار من حضرة الثاني, وكونه صاحب الماء مع فساد فراشه وانتفاء ملكه حقيقة; لأن الفاسد يوجب الشبهة, والصحيح يوجب الحقيقة فكانت الحقيقة أولى بالاعتبار من الشبهة كذا في بعض نسخ أصول الفقه قال شمس الأئمة رحمه الله الفراش الصحيح الذي للغائب يوجب استحقاق النسب للأول, والفراش الفاسد مع قرائنه المذكورة ليس مثلا للصحيح فلا ينسخ به حكم الاستحقاق الثابت بالصحيح; لأن الشيء لا ينسخ إلا بما هو فوقه أو مثله وبعدما صار النسب مستحقا لزيد لا يمكن إثباته لعمرو بوجه ما.
قوله: "وأما المعارضات في الأصل" أي في المقيس عليه المعارضة في الأصل أن يذكر السائل علة أخرى في المقيس عليه تفقد هي في الفرع, ويسند الحكم إليها معارضا للمجيب في علته, وهي باطلة لما عرفت أن الوصف الذي يدعيه السائل متعديا كان أو غير متعد لا ينافي الوصف الذي يدعيه المجيب إذ الحكم في الأصل يجوز أن يثبت بعلل مختلفة. كما لو وقعت في دن قطرة بول ودم وخمر تنجس بنجاسة البول والدم والخمر حتى لو توهمنا زوال البعض يبقى الباقي منجسا.
ثم أشار الشيخ إلى بيان فساد أنواعها مفصلة فقال: وأما المعارضات في الأصل فثلاثة أي ثلاثة أنواع معارضة بمعنى لا يتعدى أي بذكر السائل علة في الأصل لا يتعدى إلى فرع كما إذا علل المجيب في بيع الحديد بالحديد بأنه موزون قوبل بجنسه فلا

(4/92)


.....................................................
يجوز بيعه به متفاضلا كالذهب والفضة فيعارضه السائل بأن العلة في الأصل الثمينة دون الوزن, وأنها عدمت في الفرع فلا يثبت فيه الحرمة, وذلك باطل أي هذا النوع من المعارضة باطل إذ التعليل بمعنى لا يتعدى باطل; لعدم حكمه, وهو التعدية فإنا قد بينا أن حكم التعليل ليس إلا التعدية فإذا خلا تعليل عن التعدية بطل الخلوة عن الفائدة إذ الحكم في الأصل ثابت بالنص دون العلة ولا فرع يثبت الحكم فيه بالعلة, وإذا بطل التعليل بطلت المعارضة به. ولفساده لو أفاد تعدية يعني لو عارض السائل بمعنى يفيد تعدية كانت المعارضة فاسدة أيضا سواء تعدى إلى فرع مجمع عليه أو إلى فرع مختلف فيه لعدم اتصال هذه المعارضة بموضع النزاع إلا من حيث إنه تنعدم تلك العلة في هذا الموضع, وقد مر غير مرة أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم, ولا يصلح دليلا عند عدم حجة أخرى فكيف يصلح دليلا عند مقابلة حجة. مثال التعدية إلى فصل مجمع عليه ما إذا علل المجيب في حرمة بيع الجص بجنسه متفاضلا بأنه مكيل قوبل بجنسه فيحرم بيعه به متفاضلا كالحنطة والشعير فيعارضه السائل بأن المعنى ليس في الأصل ما ذكرت, ولكنه الاقتيات والادخار, وقد فقد هذا المعنى في الفرع, وهذا المعنى يتعدى إلى فصل مجمع عليه, وهو الأرز والدخن ونحوهما إذ لا يناقش المجيب السائل فيها لكن المعارضة في هذا الموضع لا تفيد للسائل إلا من حيث إنه ليس بموجود في الجص, وقد قلنا إن عدم العلة لا يصلح دليلا. ومثال ما إذا تعدى إلى فرع مختلف فيه ما إذا عارض السائل في هذه المسألة أيضا بأن يقول ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, ولكنه الطعم, ولم يوجد في الفرع فهذا المعنى يتعدى إلى فرع مختلف فيه وهو الفواكه, وما دون الكيل وأقوى الوجوه الثلاثة المعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مجمع عليه, وإذا ثبت فساد هذا الوجه كان فساد ما سواه أولى بالثبوت ثم في لفظ الكتاب نوع اشتباه فإن اللام في قوله ولفساده متعلقة بقوله: وذلك باطل كاللام الأولى والضمير فيه راجع إلى المعنى فصار التقدير المعارضة بالمعنى الذي لا يتعدى باطلة لكذا ولفساد المعنى الذي لا يتعدى لو أفاد تعدية, وهذا لا يصلح تعليلا لما ذكره; لأن ما لا يتعدى لا يفيد تعدية بوجه إذ لو أفاد تعدية لم يبق غير متعدد. وكان ينبغي أن يقال بهذا الترتيب المعارضات في الأصل ثلاثة أنواع معارضة بمعنى لا يتعدى, ومعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مجمع عليه, ومعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مختلف فيه, والكل باطل لعدم حكم التعليل, وهو التعدية إن كان المعنى الذي عارض به السائل غير متعد ولفساده لو أفاد تعدية; لأنه لا يتعلق بمواضع النزاع إلا أن نظر المشايخ لما كان إلى تصحيح المعنى لم يلتفتوا إلى رعاية اللفظ في جميع المواضع.

(4/93)


فصل مجمع عليه; لأنه لا ينفي العلة الأولى, والثالث أن يتعدى إلى معنى مختلف فيه ومن أهل النظر في أصحابنا من جعل هذه المعارضة حسنة لإجماع الفقهاء على أن العلة أحدهما فصارتا متدافعتين بالإجماع فيصير إثبات
ـــــــ
ثم إن الشيخ ذكر لفظ البطلان فيما إذا كان المعنى غير متعد, ولفظ الفساد فيما إذا كان متعديا; لأن الفساد في الأول من وجهين عدم صحته في نفسه; لأن التعليل بعلة قاصرة غير صحيح وعدم تعلقه بموضع النزاع, وفي الثاني من وجه واحد, وهو عدم تعلقه بالمتنازع فيه.
قوله: "ومن أهل النظر من أصحابنا من جعل هذه المعارضة" أي المعارضة في الأصل بأقسامها الثلاثة حسنة كذا في بعض الفوائد وهذا لا يستقيم في القسم الأول; لأن أحدا من أصحابنا لم يقل بجواز التعليل بعلة قاصرة فيكون المعارضة بمعنى لا يتعدى فاسدة بلا خلاف بينهم ثم سياق كلام القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة رحمه الله يشير إلى أن الخلاف في القسم الأخير, وهو المعارضة بمعنى يتعدى إلى فرع مختلف فيه فإنهما ذكرا إفساد القسمين الأولين, وأقاما الدليل عليه من غير ذكر خلاف ثم قالا وكذلك ما يتعدى إلى فرع مختلف فيه وبينا الخلاف فيه فقالا, ومن الناس من زعم أن هذه معارضة حسنة وكذا الدليل المذكور في الكتاب يشير إليه أيضا فإنهم تمسكوا بأن العلة أحد الوصفين لا كلاهما بالإجماع فصارتا متدافعتين أي متنافيتين بالإجماع فيصير إثبات العلة الأخرى من السائل إبطالا لعلة المجيب من طريق الضرورة فيكون في هذه المعارضة معنى الممانعة والمدافعة فتصح فهذا الاستدلال منهم إنما يستقيم في القسم الأخير دون الأولين إذ لا يمكن للمجيب فيه أن يقول ثبت الحكم في الأصل بالمعنيين جميعا لإنكاره ثبوت الحكم بالعلة التي ذكرها السائل, ولا يمكن ذلك للسائل أيضا فيثبت التدافع بالاتفاق فيبطل المعنيان بالتعارض ويبقى الأصل بلا معنى فلا يبقى حجة فيتحقق معنى الممانعة في هذه المعارضة من هذا الوجه, فأما في القسمين الأولين فيمكن للمجيب أن يجمع بين المعنيين ويقول الحكم ثابت بالمعنيين جميعا فلا يتحقق الإجماع في هذين القسمين على أن العلة أحد المعنيين فلا يثبت التدافع فتكون المعارضة فاسدة بالاتفاق لفوات معنى الممانعة أصلا. وبيان ما ذكرنا أن السائل إذا عارض في تعليل الحنطة بالكيل والجنس للتعديد إلى الجص بأن المعنى في الأصل الطعم دون الكيل والجنس لا يمكن للمجيب أن يقول يجوز أن يكون الحكم ثابتا بالعلتين لإنكاره ثبوت الحرمة في التفاحة بالتفاحتين والحفنة بالحفنتين الذي هو موجب علة السائل فيثبت التدافع فأما إذا عارض في هذه الصورة بالاقتيات والإدخار أو عارض في مسألة بيع الحديد بأن العلة في الأصل الثمنية دون الوزنية فيمكن له أن يجمع بينهما فيقول يجوز أن يكون الحكم ثابتا

(4/94)


الأخرى إبطالا من طريق الضرورة والجواب: أن الإجماع انعقد على فساد أحدهما لمعنى فيه لا لصحة الآخر كالكيل والطعم والصحيح أحدهما لا غير لكن الفساد ليس لصحة الآخر لكن لمعنى فيه يفسده فإثبات الفساد لصحة الآخر
ـــــــ
بالمعنيين فلا يكون في هذه المعارضة معنى الممانعة فتكون فاسدة بالاتفاق. والجواب عن كلامهم أن الإجماع لم ينعقد على أن العلة أحد الوصفين قصدا بل الاتفاق واقع على أنه لا تنافي بينهما ذاتا لجواز تعلق الحكم بكل واحد منهما بانفراده ولهذا لو نص الشارع على ذلك جاز وحينئذ يتعدى الحكم بأحدهما إلى فروع وبالآخر إلى فروع أخر. وإنما أجمعوا على فساد إحدى العلتين لمعنى فيها لا لصحة الأخرى ألا ترى أن أصحابنا, وأصحاب الشافعي, وإن اتفقوا على أن العلة في الحنطة الكيل أو الطعم, وأن الصحيح أحدهما دون الآخر لم يقولوا بفساد أحدهما لصحة الآخر, ولا بصحة أحدهما لفساد الآخر بل قال كل فريق بصحة ما ادعاه علة لمعنى فيه يوجب الصحة وبفساد علة صاحبه لمعنى فيها يوجب الفساد, وإذا كان كذلك كان إثبات الفساد لإحدى العلتين بثبوت صحة الأخرى باطلا بل لا بد من ذكر معنى مفسد في نفس الوصف لثبوت الفساد فيه كما لا بد من ذكر معنى مصحح لثبوت الصحة فيه ألا ترى أن لظهور فساد إحدى العلتين لا يثبت التأثير في الأخرى بالإجماع كذلك عكسه.
فإن قيل لو لم يثبت فساد إحدى العلتين عند ثبوت صحة الأخرى لزم اجتماعهم على الباطل; لأن الإجماع انعقد على صحة أحديهما دون صحتهما. قلنا: إنما يلزم ذلك أن لو ثبت صحتها قطعا ولكنها لم تثبت بل احتمل أن تكون الفاسدة هي التي بين صحتها والأخرى هي الصحيحة أو يقول الإجماع غير مسلم بدون بيان المفسد.
واعلم أن المعارضة في الأصل هي المفارقة التي ذكرناها عند جمهور الأصوليين, وهو مختار الشيخ رحمه الله; لأن المقصود منهما واحد, وهو نفي الحكم عن الفرع لانتفاء العلة وعند بعضهم إن صرح السائل في هذه المعارضة بالفرق بأن يقول لا يلزم مما ذكرت ثبوت الحكم في الفرع لوجود الفرق بينه وبين الأصل باعتبار أن الحكم في الأصل متعلق بوصف كذا, وهو مفقود في الفرع فهي متفارقة, وإن لم يصرح بالفرق بل قصد بالمعارضة بيان عدم انتهاض الدليل عليه, وقال دليلك إنما كان ينتهض علي لو كان ما ذكرته مستقلا بالعلية وليس كذلك لدلالة الدليل على أنه لا بد من إدراج الوصف الذي أقوله في التعليل فهي ليست بمفارقة ولهذا قبلوا هذه المعارضة, ولم يقبلوا المفارقة; لأن حاصل هذه المعارضة راجع إلى الممانعة. وقال بعضهم المفارقة هي المعارضة في الأصل والفرع جميعا حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا ولما كانت هذه المعارضة مفارقة, وهي من الأسئلة

(4/95)


باطل فبطلت المعارضة, وكل كلام صحيح في الأصل يذكر على سبيل المفارقة فاذكره على سبيل الممانعة كقولهم في إعتاق الراهن أنه تصرف من الراهن يلاقي حق المرتهن بالإبطال, وكان مردودا كالبيع فقالوا ليس كالبيع; لأنه يحتمل الفسخ بخلاف العتق والوجه فيه أن نقول إن القياس لتعدية حكم النص دون تغييره, وإنا لا نسلم وجود هذا الشرط هنا, وبيانه أن حكم الأصل وقف ما
ـــــــ
الفاسدة التي لا تقبل من السائل مع أنه قد يقع الفرق بمعنى فقهي صحيح في نفسه بين الشيخ وجه إيراده على طريق يقبل منه فقال: وكل كلام صحيح في الأصل أي في نفسه يذكر على سبيل المفارقة أي يذكره أهل الطرد على وجه الفرق ولا يقبل منهم فاذكره أنت على سبيل الممانعة ليكون ذلك مفاقهة صحيحة على حد الإنكار فيقبل منك لا محالة كقولهم في إعتاق الراهن. إذا أعتق الراهن العبد المرهون نفذ عتقه عندنا سواء كان الراهن موسرا أو معسرا إلا أنه إذا كان معسرا يؤمر العبد بالسعاية في أقل من قيمته, ومن الدين ثم يرجع على المولى عند اليسار وعند الشافعي رحمه الله لا ينفذ إعتاقه إذا كان معسرا قولا واحدا, وله قولان في الموسر فعلل أصحابه في هذه المسألة بأن الإعتاق تصرف من الراهن إلا في حق المرتهن بالإبطال أي يبطل حقه في الرهن بدون رضاء به, وهو البيع بالدين عنده, فكان مردودا كالبيع أي كما إذا باع الراهن المرهون بغير إذن المرتهن.
فقالوا أي فرق أهل الطرد من أصحابنا بين البيع هو الأصل وبين الإعتاق الذي هو الفرع فقالوا ليس الإعتاق مثل البيع لأن البيع يحتمل الفسخ بعد وقوعه فيظهر أثر حق المرتهن في المنع من النفاذ فينعقد على وجه يتمكن المرتهن من فسخه بخلاف الإعتاق فإنه لا يحتمل الفسخ بعدما صدر من الأصل في محله فلا يظهر أثر حق المرتهن في المنع من النفاذ فينعقد لازما, وهذا فرق فقهي صحيح في نفسه, ولكنه فسد لصدوره ممن ليس له ولاية الفرق وهو السائل فلم يقبل. والوجه في إيراده على وجه الممانعة ليقبل أن يقول السائل إن القياس لتعدية حكم النص أي الأصل دون تغييره, وأنا لا أسلم وجود هذا الشرط, وهو التعدية بدون التغيير في المتنازع فيه وبيانه أي بيان فوات هذا الشرط أن حكم الأصل, وهو البيع, وقف أي توقف ما يحتمل الرد في ابتدائه والفسخ بعد ثبوته; لأن حق المرتهن لا يمنع انعقاد البيع عليه من الراهن بالإجماع حتى لو تربص إلى أن يذهب حق المرتهن تم البيع كذا في الأسرار وأنت في الفرع, وهو الإعتاق تبطل أصلا ما لا يحتمل الفسخ والرد أي تلغي من الأصل شيئا لا يحتمل الفسخ بعد ثبوته والرد في ابتدائه فإن العبد لو رد الإعتاق لا يرتد, ولو أراد هو والمولى أن يفسخاه لا ينفسخ بوجه بخلاف البيع. وهذا تغيير لحكم الأصل; لأن الإبطال من الأصل غير الانعقاد على وجه

(4/96)


يحتمل الرد والفسخ وأنت في الفرع تبطل أصلا ما لا يحتمل الرد والفسخ كذلك إن اعتبره بإعتاق المريض; لأن حكم الإجماع ثمة توقف العتق ولزوم الإعتاق وأنت قد عديت البطلان أصلا فإن ادعى في الأصل حكما غير ما قلنا لا نسلم ومثل قولهم قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ; لأن ثمة المثل
ـــــــ
التوقف وأصلا نصب على التمييز أو على المصدر لا على أنه مفعول به كما ظنه البعض وما مفعول به, وكذلك إن اعتبره بإعتاق المريض أي, ومثل اعتبار الخصم الإعتاق بالبيع اعتباره إياه بإعتاق المريض في لزوم تغيير حكم الأصل فإنه لما لزمه ما ذكرنا من الفساد في اعتباره الإعتاق بالبيع ألحقه بإعتاق المريض; لأنه لا ينفذ مع أنه لا يقبل الرد والفسخ. وقال: إنه تصرف يبطل حق المرتهن المتعلق بالعبد فلا يصح كإعتاق المريض المديون عبده ولا مال له غيره وهذا; لأن حق المرتهن في العبد المرهون أقوى من حق الغرماء في عبد المريض بدليل أنه لا يمتنع البيع على المريض لحق الغرماء ويمتنع على الراهن ثم إن حقهم يمنع نفوذ إعتاق المريض إذا مات في مرضه فحق المرتهن أولى ففي هذا التعليل تغيير لحكم الأصل; لأن حكم الإجماع ثمة في إعتاق المريض توقف العتق إلى أداء ما وجب عليه من السعاية; لأنه كالمكاتب ما دام يسعى في بدل رقبته ولزوم الإعتاق بحيث لا سبيل إلى إبطاله ورد العبد إلى الرق أصلا وأنت عديت الإبطال أصلا أي أبطلت الإعتاق في الفرع من الأصل بحيث لو أجازه المرتهن بعد لا ينفذ فكان تغييرا لحكم الأصل في الفرع. قال شمس الأئمة رحمه الله في المبسوط وعتق المريض عندنا لا يلغوا قيام حق الغرماء, ولكنه يخرج إلى الحرية بالسعاية لا محالة فهاهنا أيضا ينبغي أن لا يلغو إلا أن هناك هو بمنزلة المكاتب ما دام يسعى, وهاهنا يكون حرا, وإن لزمته السعاية عند اعتبار الراهن; لأن العتق في المرض وصية والوصية تتأخر عن الدين إلا أن العتق لا يمكن رده فيجب عليه السعاية في قيمته لرد الوصية قال وبهذا يتبين أن هناك الواجب عليه بدل رقبته, ولا يسلم له المبدل ما لم يرد البدل, وهاهنا السعاية على العبد ليست في بدل رقبته بل في الدين الذي في ذمة الراهن; لأن حق المرتهن ذلك فوجوب السعاية عليه لا يكون مانعا نفوذ عتقه في الحال ولهذا قلنا لو أيسر الراهن هذا رجع العبد عليه بما أدى من السعاية, وهناك لا يرجع العبد على أحد بما سعى فيه من قيمته فإن ادعى أي المعلل في الأصل, وهو البيع أو إعتاق المريض حكما غير ما قلنا بأن يقول حكم البيع البطلان لا التوقف, وكذا حكم إعتاق المريض فلا يكون في هذا التعليل تغيير حكم الأصل لم نسلم; لأن عندنا حكمهما ما ذكرنا فإن وافقنا فيه يلزم التغيير ضرورة, وإن خالفنا فيه بأن قال عندي حكمهما البطلان يكون هذا رد المختلف إلى المختلف, وهو فاسد أيضا; لأنه ليس بحجة على الخصم.

(4/97)


غير مقدور عليه وسبيله ما قلنا أن لا نسلم قيام شرط القياس وتفسيره أن حكم الأصل شرع المال خلفا عن القود وأنت جعلته مزاحما له وقد بينا أن المناقضة لا ترد على العلل المؤثرة بعد صحة أثرها, وإنما تبين ذلك بوجوه أربعة, وهذا.
ـــــــ
قوله: "ومثل قولهم" أي مثل تعليل أصحاب الشافعي في إيجاب الدية في القتل العمد بأنه قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالقتل الخطأ فإن فرق السائل بأن العمد ليس كالخطأ في لزوم المال; لأن وجوب المال في الخطأ باعتبار تعذر إيجاب المثل من جنسه; لأن الخاطئ معذور لعدم القصد فيصير إلى إيجاب المال خلفا عنه صونا للدم عن الهدر, وقد عدم هذا المعنى في الفرع وهو العمد لوجوب القصاص فيه بالاتفاق, فهذا فرق صحيح في نفسه, ولكنه غير مقبول من السائل فسبيله أن يقول لا أسلم قيام شرط القياس, وهو عدم تغيير حكم الأصل. وتفسيره أي بيان عدم قيام شرط القياس أن حكم الأصل وهو القتل خطأ شرع المال خلفا عن القود عند العجز عن استيفائه, وأنت بهذا التعليل جعلت المال مزاحما للقود حيث أثبته بطريق الأصالة كالقود, والخلف قط لا يزاحم الأصل فكان هذا تقليلا يوجب تغيير حكم الأصل فكان باطلا, وهو نظير مذهبه في إيجاب الفدية على الحائض مع الصوم إذا أخرت القضاء إلى السنة الثانية فإنه جعل الفدية التي هي خلف عن الصوم مزاحما له في الوجوب حيث أوجبهما جميعا. وقد بينا يعني في أول باب دفع العلل أن المناقضة الحقيقية لا ترد على العلل المؤثرة بعد صحة أثرها; لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه, ومثل ذلك الدليل لا يقبل النقض, وإنما يرد المناقضة على العلل الطردية; لأن دليل صحتها الاطراد وبالمناقضة لم يبق الإطراد, ولكن قد يرد النقض صورة على العلل المؤثرة فيحتاج إلى دفعه ببيان أنه ليس بنقض, وإنما نبين ذلك أي عدم ورود النقض على العلل المؤثرة حقيقة, وإن يتراءى نقضا صورة بطرق أربعة, والله أعلم.

(4/98)