كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

باب العوارض المكتسبة
الجهل
...
"باب العوارض المكتسبة"
وهي نوعان من المرء على نفسه ومن غيره عليه أما التي من جهته فالجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر والذي من غيره عليه الإكراه أما الجهل فأربعة أنواع جهل باطل بلا شبهة لا يصلح عذرا أصلا في الآخرة
ـــــــ
"باب العوارض المكتسبة"
إنما جعل الجهل من العوارض وإن كان أمرا أصليا; لأنه أمر زائد على حقيقة الإنسان وثابت في حال دون حال كالصغر ومن المكتسبة; لأن إزالته باكتساب العلم في قدرة العبد فكان ترك تحصيل العلم منه اختيارا بمنزلة اكتساب الجهل باختيار بقائه فكان مكتسبا من هذا الوجه وجعل السكر من العوارض المكتسبة وإن لم يكن حصوله في قدرة العبد; لأن سببه وهو شرب المسكر باختياره وغرضه من الشرب حصول السكر كما أن غرض شارب الماء حصول الري فكان السكر مضافا إلى كسبه نظرا إلى السبب والغرض ولا يلزم عليه الرق فإنه جعل من العوارض السماوية وإن كان سببه وهو الكفر باختيار العبد; لأن غرضه من الكفر ليس حصول الرق ولأن السبب هو الاستيلاء على الكافر لا الكفر المجرد والاستيلاء ليس في قدرته واختياره فكان الرق سماويا.
"الجهل"
قوله: "أما الجهل فكذا" قيل الجهل اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به واعترض عليه بأنه يستلزم كون المعدوم شيئا إذ الجهل يتحقق بالمعدوم كما يتحقق بالموجود أو كون المعدوم المجهول غير داخل في الحد وكلاهما فاسد وقيل هو صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره واحترز به عن الأشياء التي لا علم لها فإنها لا توصف بالجهل لعدم تصور العلم فيها قال السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله في كتاب رياضة الأخلاق الجهل يذكر ويراد به عدم الشعور ويذكر ويراد به الشعور بالشيء على خلاف ما هو به ويذكر ويراد به السفه قال الله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

(4/457)


وجهل هو دونه لكنه باطل لا يصلح عذرا أيضا في الآخرة وجهل يصلح شبهة وجهل يصلح عذرا أما الأول فالكفر من الكافر لا يصلح عذرا; لأنه مكابرة وجحود بعد وضوح الدليل واختلف في ديانة الكافر على خلاف حكم الإسلام أما أبو حنيفة رحمه الله فقد قال إنها تصلح دافعة للتعرض ودافعة لدليل الشرع
ـــــــ
فالقسم الأول فطرية وليس بعيب لشموله قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78] وإنما العيب التقصير في إزالة الجهل ودواؤه التعلم. والقسم الثاني هو الغلط ودواؤه التوقف والتثبت وسببه الجهل الخلقي مع العجلة والعجب. والقسم الثالث سيذكر في موضعه إن شاء الله عز وجل المكابرة والجحود الإنكار بعد حصول العلم ووضوح الدليل قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] وعن هذا قيل لو سأل القاضي المدعى عليه بعد دعوى المدعي أتجحد أم تقر فبأيهما أجاب يكون إقرارا فالكفر جحود بعد وضوح الدليل; لأن الآيات الدالة على وحدانية الصانع جل جلاله وكمال قدرته وعظمة ألوهيته لا تعد كثرة ولا تخفى على من له أدنى لب كما قال أبو العتاهية:
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده جاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد.
وكذا الدليل على صحة رسالة الرسل من المعجزات القاهرة والحجج الباهرة ظاهرة محسوسة في زمانهم لا وجه إلى ردها وإنكارها وقد نقلت تلك المعجزات بعد انقراض زمانهم بالتواتر قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا فكان إنكارها بمنزلة إنكار المحسوس فلذلك لم يجعل عذرا بوجه.
قوله: "وقد اختلف في ديانة الكافر على خلاف الإسلام" أي في اعتقاده حكما من الأحكام على خلاف ما ثبت في الإسلام فقال أبو حنيفة رحمه الله إنها تصلح دافعة للتعرض حتى لو باشر ما دان به لا يتعرض له بوجه وهذا بالاتفاق ودافعة لدليل الشرع يعني ديانته تمنع بلوغ دليل الشرع إليه في الأحكام التي تحتمل التغير مثل تحريم الخمر والخنزير وتحريم نكاح المحارم ونحوها فلا يثبت الخطاب في حقه فيبقى الحكم الذي كان قبل الخطاب في حقه على الصحة كما كان لقصور الخطاب عنه. والدليل على قصور الخطاب عنه أن الأصل فيما يتبدل من الأحكام بشرع جديد أن لا يثبت في حقنا بنزول الخطاب حتى يبلغنا; لأنه لا يمكن الإيمان والعمل به قبل البلوغ إلا أن الخطاب بعدما شاع يلزم لكل من علم به ومن لم يعلم; لأن الرسول عليه السلام لا يمكنه التبليغ إلى كل واحد من

(4/458)


في الأحكام التي تحتمل التغير ليصير الخطاب قاصرا عنهم في أحكام الدنيا استدراجا بهم ومكرا عليهم وتركا لهم على الجهل وتمهيدا لعقاب الآخرة والخلود في النار وتحقيقا لقول النبي عليه السلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" فأما في حكم لا يحتمل التبدل فلا حتى إنه لا يعطي للكفر حكم الصحة بحال ولا يبتنى على هذا أنه جعل حكم الصحة بحال ويبتنى على هذا أنه جعل الخطاب بتحريم الخمر كأنه غير نازل في حقهم في أحكام الدنيا من
ـــــــ
أفراد الناس وإنما في وسعه الإشاعة في الناس لا غير فصارت الإشاعة بمنزلة التبليغ إلى كل واحد منهم فلا يعذر الجاهل بالخطاب بعد الإشاعة لبلوغ الخطاب إليه حكما يصير بمنزلة من بلغه الخطاب فلم يعمل به ثم بلوغ الخطاب لم يثبت في حق الكافر; لأنه لا يعتقد صدق المبلغ ولا يرى كلامه حجة والشرع أمرنا أن لا يتعرض له إذا قبل الذمة فبقي على الجهل كما في الخطاب الذي لم يشع وخطاب نبي لم يثبت معجزته بعد وخرج الخطاب بإنكاره الرسول ويأمر الشرع إيانا أن نتركهم عليه عن كونه حجة في حقه فصار البلوغ وعدمه في حقه بمنزلة.
قوله: "استدراجا" متعلق بقاصر أي قصور الخطاب عن الكافر ليس للتخفيف عليه ولكن للاستدراج وهو التقريب إلى العذاب بوجه لا شعور له به يقال استدرجه إلى كذا أي أدناه منه على التدريج ومكرا وهو الأخذ على غرة وتحقيقا لقوله عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" 1 فإنه لا خطاب في الجنة ولا تكليف بل فيها ما تشتهي الأنفس والدنيا للكافر بهذه المثابة. وهذا في كل حكم يثبت بالشرع لا يثبت في حقنا إلا بعد العلم بالخطاب وقبله يبقى على ما كان ثابتا فأما في كل حكم لا يحتمل التبدل فلا أي لا يكون ديانته دافعة لدليل الشرع حتى إنه الضمير للشان لا يعطي للكفر حكم الصحة بحال يعني لا يعتبر ديانة الكافر بعبادة الأوثان والنار وبما يباشره من الكفر أصلا; لأنه مما لا يحتمل أن يحل بحال والمغير إنما يعمل فيما يحتمل ويبتنى على هذا أي على أن ديانتهم دافعة عنده للتعرض والخطاب جميعا أنه أي أبا حنيفة رحمه الله جعل الخطاب بتحريم الخمر كأنه غير نازل في حقهم في أحكام الدنيا بمنزلة الخطاب بتحريم الميتة في حق المضطر وما أشبه ذلك نحو هبة الخمر والوصية والتصدق بها وأخذ العشر من قيمتها وكذلك أي ومثل تحريم الخمر تحريم الخنازير في أن الخطاب بالتحريم غير
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في الزهد والرقائق حديث رقم 2956 والترمذي في الزهد حديث رقم 2324 وابن ماجه في الزهد حديث رقم 4113 والإمام أحمد في المسند 2/323.

(4/459)


التقوم وإيجاب الضمان وجواز البيع وما أشبه ذلك وكذلك الخنازير وجعل لنكاح المحارم بينهم حكم الصحة حتى قال إذا وطئها بذلك ثم أسلما كانا محصنين لو قذفا حد قاذفهما وإذا طلبت المرأة النفقة بذلك النكاح قضي بها عنده ولا يفسخ حتى يترافعا فإن قيل لا خلاف أن الديانة لا تصلح حجة متعديا, ألا يرى أن المجوسي إذا تزوج ابنته ثم هلك عنها وعن ابنة أخرى أنهما ترثان الثلثين ولا ترث المنكوحة منهما بالنكاح; لأن ديانتها لا تصح حجة على الأخرى فكذلك في إيجاب الحد على القاذف واستحقاق القضاء بالنفقة وإيجاب الضمان على متلف الخمر وجب أن لا تجعل حجة متعدية قلنا عنه هذا تناقض; لأنا نجعل الديانة معتبرة; لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة والعشر من خمور أهل الحرب خلافا للشافعي رحمه الله وهذه غير
ـــــــ
نازل في حقهم حتى كان الخمر والخنزير في حقهم كالشاة والخل في حقنا وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أيضا وعند الشافعي رحمه الله لا يجب بإتلاف خمر الذمي شيء سواء أتلفه مسلم أو ذمي وجعل أي أبو حنيفة رحمه الله لنكاح المحارم بين الكفار حكم الصحة إذا دانوا بصحته بمنزلة نكاح المجوسية; لأن التحريم لم يثبت في حقهم لقصور الخطاب عنهم حتى لو تزوج المجوسي بمحرم ودخل بها لم يسقط إحصانها حتى وجب الحد لهما على قاذفهما وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله لا يجب وإذا طلبت المرأة النفقة بذلك النكاح قضى بها عنده خلافا لهم ولو رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وطلب حكم الإسلام لا يفرق بينهما عنده حتى يحتمل على الترافع ويفرق عندهم; لأنه أي ديانة البنت المنكوحة لا تصلح حجة متعدية على البنت الأخرى وضمن التعدي معنى الإجماع فوصل بكلمة على. فكذلك أي فكما لم تجعل الدية متعدية في الإرث وجب أن لا تجعل متعدية في هذه المسائل وحاصله أنه ينبغي أن لا يعتبر ديانتهم في إثبات هذه الأحكام; لأن في اعتبارها إثبات التعدي على الغير كما لم تعتبر في الإرث.
قوله: "هذا يتناقض" أي ما ذكرت من عدم اعتبارها في هذه الصور يؤدي إلى التناقض; لأنا قد اعتبرنا ديانتهم في أخذ العشر; لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة أي من قيمتها إذا مروا بها على العاشر والعشر من خمور أهل الحرب أي من قيمتها باعتبار ديانتهم ويجب ذلك على من تولى ذلك الأمر حتى لو لم يأخذا ثم ولم تعتبر ديانتهم في حقنا لما أخذنا منهم شيئا كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله وكذا الأنكحة

(4/460)


متعدية بل هي حجة عليهم إلا أنه لا يؤخذ من الخنزير; لأن إمام المسلمين ليس له ولاية حماية الخنزير نفسه فلا يتعدى وله ولاية حماية الخمر لنفسه للتخليل فيتعدى وحقيقة الجواب أنا لا نجعل الديانة متعدية; لأن الخمر إذا بقيت متقومة لم يثبت بالديانة إلا دفع الإلزام بدليل, فأما التقوم فباق على الأصل وذلك
ـــــــ
التي هي فاسدة بين المسلمين تقع صحيحة فيما بينهم إذا دانوا بصحتها فإن عامة العلماء قالوا في ذمي تزوج أختين أو عشر نسوة ثم فارق إحدى الأختين أيتهما كانت أو فارق الست من العشر في حال الكفر بقي نكاح من بقي إذا أسلموا على الصحة. وقال محمد والشافعي رحمهما الله في الحربي تزوج خمس نسوة في عقد متفرقة أو عقدة واحدة ثم أسلموا جميعا كان له أن يختار الأربع منهن ولو وقع فاسدا لم ينقلب صحيحا ولذلك قال الشافعي رحمه الله في أهل الذمة تبايعوا الخمور وتقابضوا إن العشر يؤخذ من أثمان الخمور وإن علم به العاشر وإن أسلموا بقوا على ذلك ولو وقع على الفساد لم يطلب الملك الفاسد بالإسلام ولم يثبت الملك على أصله فثبت أن هذه العقود تقع على الصحة بلا خلاف باعتبار ديانتهم كذا في الأسرار فلو لم تعتبر ديانتهم فيما بيننا لم تثبت هذه الأحكام بعد الإسلام وإذا ثبت أن ديانتهم معتبرة بالاتفاق كان القول بعدم اعتبارها بعد ذلك تناقضا وهذه غير متعدية أي هذه الديانة التي توجب علينا أخذ العشر وإثبات هذه الأحكام لا تسمى متعدية بالاتفاق مع وجود إلزام فيها بل هي حجة عليهم في أخذ العشر منهم فكذا فيما نحن فيه. وقوله: إلا أنه أي العشر أو نصف العشر لا يؤخذ من الخنزير جواب عما يقال لما كان أخذ العشر بناء على ديانتهم وأنهم قد دانوا بتقوم الخنزير كما دانوا بتقوم الخمر فوجب أن يؤخذ العشر أو نصف العشر من قيمة الخنزير كما يؤخذ من قيمة الخمر فأجاب بأن حق الأخذ للإمام بالحماية وليس له ولاية حماية الخنزير لنفسه فلا يملك حمايته لغيره وله ولاية حماية الخمر لنفسه للتخليل فيتعدى إلى غيره.
قوله: "وحقيقة الجواب" كذا يعني ما قلنا إنه تناقض لمنع ورود السؤال وصحته في نفسه فأما على تقدير صحة السؤال فالجواب أنا لا نجعل الديانة متعدية في جميع ما ذكرنا من المسائل. أما في مسألة الخمر فلأنها كانت متقومة في الأصل لكن سقط تقومها بالنص وديانتهم لما منعت الإلزام بالدليل أي ألزامنا إياهم سقوط التقوم بالدليل بقي تقومها على ما كان في الأصل فكانت ديانتهم دافعة للإلزام لا مثبتة للتقوم وذلك أي لتقوم شرط الضمان; لأنه وصف المحل والمحال بأوصافها شروط والضمان وجب جزاء على الجناية فلا يجب بتقوم المتلف لكن يجب بإتلاف المتلف الذي هو فعله القائم به ولهذا سمي ضمان التعدي والكافر بديانته دفع سقوط التقوم فبقي التقوم على ما كان فيجب

(4/461)


شرط الضمان; لأن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف وإذا لم تضف إلى تقوم المحل لم تصر متعدية وكذلك إحصان المقذوف شرط لا علة وإنما العلة هي المقذوف. وأما النفقة فإنما شرعت بطريق الدفع في الأصل. ألا يرى أن الأب يجلس بنفقة الابن الصغير كما يحل دفعه إذا قصد قتله ولا يحبس بدينه جزاء كما لا يقتل قصاصا وإذا كان كذلك صارت الديانة دافعة لا موجبة بخلاف الميراث; لأنه صلة مبتدأة لو وجب بديانتها كانت الديانة بذلك
ـــــــ
الضمان بوجود شرطه مضافا إلى سببه وهو إتلاف مال الذمي الذي في زعم المتلف أنه متقوم في حق الذمي وإذا لم يضف الضمان إلى تقوم المحل لم تصر الديانة متعدية إذ لو كان مضافا إليه لكانت الديانة متعدية حينئذ; لأن التقوم ساقط في حق المسلم فلم يكن السبب موجودا في حقه فلو وجب الضمان لوجب بإثبات التقوم في حقه بديانة الكافر وذلك غير جائز.
وكذلك أي وكما أن التقوم شرط الضمان إحصان المقذوف شرط وجوب حد القذف لا علته إنما العلة هي القذف; لأنه هو الجناية الموجبة للجزاء ولهذا يضاف إليه والكافر بديانته منع سقوط إحصانه الثابت قبل الوطء فيبقى على ما كان فيجب الحد على القاذف مضافا إلى قذفه الذي هو جناية بوجود شرطه وهو الإحصان فكانت الديانة دافعة لا موجبة; لأن وجوب الحد لم يضف إلى الإحصان.
فأما النفقة فإنها شرعت أي وجبت بطريق الدفع في الأصل أي دفع الهلاك عن المنفق عليه; لأن سبب النفقة عجز المنفق عليه ومن أسباب العجز الاحتباس الدائم فإن دوامه من غير إنفاق يؤدي إلى الهلاك إذ لا بقاء للإنسان عادة بدون النفقة فتبين أن إيجاب النفقة على الزوج لدفع الهلاك عن المرأة لكونها محبوسة على الدوام لحقه فكانت المرأة في طلب النفقة دافعة للهلاك عن نفسها بديانتها لبقائها محبوسة لحقه فلا يكون ديانتها موجبة عليه شيئا. والدليل على أن النفقة تجب بطريق الدفع أن الأب يحبس بنفقة الابن الصغير أي بسبب منعها عنه; لأنه بمنع النفقة عنه يصير بمنزلة القاصد لهلاكه إذ لا بقاء له عادة بدون النفقة فيحل للابن دفع الهلاك عن نفسه بحبس أبيه أو يحل للقاضي دفع الهلاك عن الصغير العاجز بحبس أبيه لأجل النفقة كما يحل دفعه أي دفع الأب بالقتل أو دفع الابن أباه بالقتل إذا قصد الأب قتل الابن. ولا يحل حبس الأب بدين الابن جزاء إذ الحبس جزاء الظلم والمماطلة كما لا يحل قتل الأب بسبب قتل الابن قصاصا فثبت أن وجوب النفقة بطريق الدفع. وإذا كان كذلك أي كان وجوب النفقة بطريق الدفع أو كان الشأن كما بينا أن وجوب الضمان والحد والنفقة لم يثبت والديانة بل بشيء آخر كانت الديانة دافعة لا موجبة بخلاف الميراث; لأنه صلة

(4/462)


موجبة لا دافعة وإذا لم يفسخ بمرافعة أحدهما فقد جعلنا الديانة دافعة أيضا هذا جواب قد قيل والجواب الصحيح عندي عن فصل النفقة أنهما لما تناكحا فقد دانا بصحته فقد أخذ الزوج بديانته ولم يصح منازعته من بعد بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما; لأنه لم يلتزم هذه الديانة وأما القاضي فإنما يلزمه
ـــــــ
مبتدأة ليس فيه معنى الدفع. فلو وجب أي ثبت الميراث للبنت المنكوحة بديانتها كانت ديانتها بصحة النكاح موجبة على البنت الأخرى استحقاقها زيادة الميراث لا دافعة. ولا يقال البنت الأخرى قد تدينت بصحة هذا النكاح أيضا حيث اعتقدت المجوسية فيكون استحقاق زيادة الميراث عليها بناء على التزامها بديانتها لأنا نقول لما خاصمت إلى القاضي في الميراث دل على أنها لم تعتقد ذلك. وقد ذكر في الأسرار ولا ترث المنكوحة بالنكاح; لأنه فاسد في حق التي نازعت في الإرث ودانت بالفساد. وذكر في الطريقة البرغرية أن كثيرا من مشايخنا قالوا المذكور في هذه المسألة قولهما فأما على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن تستحق الميراث بالزوجية أيضا; لأن عنده هذا النكاح محكوم بالصحة. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله أن النكاح وإن كان محكوما بالصحة لا يثبت الإرث به; لأنه ثبت لنا بالدليل جواز نكاح المحارم في شريعة آدم عليه السلام ولم يثبت كونه سببا للميراث في دينه فلا يثبت سببا للميراث باعتقادهم وديانتهم; لأنه لا عبرة لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع ولم يثبت بديانتنا; لأن نكاح المحارم في ديانتنا فاسد. بخلاف نكاح الأجانب; لأنه سبب للميراث في ديننا فيكون سببا في حقهم إذا اعتقدوا ذلك.
وإذا لم يفسخ أي نكاح المحارم بمرافعة أحد الزوجين فلم يجعل ديانة الذي لم يرفع الأمر إلى القاضي ملزمة على الذي رفعه إليه ولكن جعلنا ديانته دافعة لما ألزمه صاحبه عليه. وذلك لأنهما قد دانا جميعا بصحة هذا النكاح حين أقدما على مباشرته فإذا جاء أحدهما طالبا لحكم الإسلام فهو الملزم على صاحبه شيئا لم يعتقده والآخر مصر على اعتقاده كما كان فيكون دافعا بديانته إلزام الغير عليه بخلاف ما إذا ترافعا جميعا; لأنهما قد التزما حكم الإسلام في هذه الحادثة فيجري عليهما. هذا أي ما أجبنا عن فصل النفقة جواب قد قيل. فكأنه رحمه الله لم يرض بهذا الجواب; لأن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله لم يسلما أن النفقة تجب بطريق الدفع وجعلاها صلة مبتدأة كالنكاح وسببها النكاح أيضا كما أن سبب الميراث وهو النكاح فلذلك اختار جوابا آخر وأشار إلى فساد هذا الجواب بقوله الجواب الصحيح عندي عن فصل النفقة إنهما لما تناكحا فقد دانا بصحته فأخذ الزوج بديانته; لأن ديانته حجة عليه فوجب عليه النفقة. ولم تصح منازعة الزوج في منع

(4/463)


القضاء بالتقليد دون الخصومة. وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك قالا أيضا إلا أنهما قالا إن تقوم الخمر وإباحة شربها وتقوم الخنزير وإباحته كان حكما ثابتا أصليا فإذا قصر الدليل بالديانة بقي على الأمر الأول فأما نكاح المحارم فلم يكن إلا أصليا يرى أنه كان لا يصلح للرجل أخته من بطن واحد في زمن آدم صلوات الله عليه وإذا كان كذلك لم يجز استبقاؤه بقصر الدليل ولأن
ـــــــ
النفقة بدعوى فساد النكاح من بعد أي من بعد ما أقدم على التزوج ودان بصحته; لأنه التزم موجب النكاح حين أقدم عليه فلا يملك إسقاطه بدون رضا صاحب الحق. بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما في مسألة الإرث وهي البنت الأخرى. لأنها لم تلزم هذه الديانة أي الديانة بصحة النكاح حيث نازعت في الإرث ولم يسبق منها ما يدل على الالتزام. وقوله وأما القاضي جواب عما يقال إن ديانته لو صلحت حجة عليه في الإيجاب لم يصلح حجة على القاضي في إيجاب القضاء عليه بهذه الخصومة فكانت ديانته متعدية إليه فقال إنما لزم القاضي القضاء بالتقلد دون الخصومة فلا يكون الخصومة ملزمة عليه بل تكون شرطا.
قوله: "وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك قالا أيضا" أي قالا كما قال أبو حنيفة رحمه الله إن ديانتهم دافعة للتعرض ودافعة للتعرض لدليل الشرع في الأحكام فيبقى الحكم الثابت قبل الخطاب على ما كان في حقهم لكن هذا في كل حكم كان أصليا قبل الخطاب على وجه لو لم يرد الخطاب لبقي مشروعا في حق المسلمين فأما في حكم ضروري لم يثبت بطريق الأصالة في شريعة قط ولو لم يرد الخطاب في شريعتنا لم يمكن إبقاؤه في حق المسلمين فلا. فتقوم الخمر وإباحة شربها وتقوم الخنزير وإباحته كانت أحكاما أصلية قبل شريعتنا فبقصور الدليل بسبب ديانتهم يمكن أن يبقى على الأمر الأول أي على التقوم والإباحة فيجب القول بتقوم الخمر والخنزير في حقهم وبوجوب الضمان على متلفهما وبصحة تصرفاتهم فيهما كما قال أبو حنيفة رحمه الله. فأما نكاح المحارم فلم يكن أصليا في شريعة وإنما شرع في شريعة آدم عليه السلام بطريق الضرورة بدليل أنه لم يكن يحل للرجل أخته من بطنه وإنما كان يحل له أخته من بطن آخر ولم يبق مشروعا بعده فعلم أنه كان ضروريا. وإذا كان كذلك أي كان جواز نكاح المحارم غير أصلي لم يجز استبقاء جوازه أو حله لقصر الدليل أي بسبب قصوره عنهم. فهذا الطريق يقتضي عدم صحة نكاح المحارم في حقهم إلا أنا لما أمرنا بترك التعرض لهم لم نمنعهم عن ذلك كما لم نمنعهم عن عبادة الأوثان. فإذا رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وجب عليه القضاء بالفسخ لفساد النكاح. وإذا وطئها بهذا النكاح سقط إحصانه; لأنه وطئ بالنكاح الفاسد فلا يجب الحد بقذفه. ولأن حد القذف يعني ولئن سلمنا أن النكاح

(4/464)


حد القذف من جنس ما يدرأ بالشبهات فلا بد من أن يصير قيام دليل التحريم شبهة وبالقضاء بالنفقة على الطريق الأول باطل لما قلنا. وأما على هذا الطريق فلأنه من جنس الصلات المستحقة ابتداء حتى لم يشترط لها حاجة المستحق. والجواب لأبي حنيفة رحمه الله أن الحاجة الدائمة بدوام الجنس لا يردها المال المقدر فتحققت الحاجة لا محالة. وأما الشافعي رحمه الله فإنه جعل الديانة دافعة للتعرض لا غير حتى لا يحد الذمي بشرب الخمر فأما سائر الأحكام فلا
ـــــــ
صحيح فيما بينهم لا يجب الحد على قاذفه أيضا. لأن قيام دليل التحريم أي تحريم الشرع المحارم عاما يصير شبهة في درء الحد عن القاذف فإن في زعم القاذف أنه صادق في قوله يا زان لقيام دليل الحرمة وإن كان في زعم المقذوف أنه كاذب. وهذا الطريق يشير إلى أن النكاح صحيح. والقضاء بالنفقة على الطريق الأول وهو أن نكاح المحارم ليس بأمر أصلي باطل لما قلنا إنه لما لم يكن أصليا لم يجز استبقاؤه لقصور الدليل فلا يوجب النفقة لفساده كالأنكحة الفاسدة بين المسلمين. وأما على هذا الطريق الثاني فكذا يعني أن الطريق الثاني هو أن النكاح صحيح والحد يسقط بالشبهة وإن كان يقتضي أن يصح القضاء بالنفقة; لأنها لا تسقط بالشبهة لكنه لا يصح أيضا على هذا الطريق; لأن النفقة من جنس الصلات المستحقة بالنكاح ابتداء كالميراث لا أنها تجب بطريق الدفع كما قاله أبو حنيفة رحمه الله بدليل أنه لم يشترط لوجوب النفقة على الزوج حاجة المرأة إليها فإنها وإن كانت غنية فائقة في اليسار تستوجب النفقة على الزوج ولو كان وجوبها بطريق الدفع لما وجبت عند عدم الحاجة بوجود اليسار كما لا يجب نفقة الصغير على الأب ونفقة الأبوين على الولد إذا كان لهم مال. وإذا كان كذلك لا يمكن القول بإيجابها على الزوج; لأن ديانتها تصير حينئذ موجبة كما قلنا جميعا في مسألة الميراث وهو خلاف الإجماع. والجواب لأبي حنيفة رحمه الله عن هذا الكلام أن الحاجة الدائمة بدوام الحس لا يردها المال المقدر يعني أنها وإن كانت غنية تحتاج إلى النفقة; لأن احتباسها لحقه على الدوام ومالها وإن كان كثيرا مقدر فلا يفي بالحاجة الدائمة; لأنه لا يبقى مع دوام الحبس فثبت أن وجوب النفقة بطريق الدفع كما قلنا. ولما لم يحل هذا لجواب عن تكلف اختار الشيخ في فصل النفقة جوابا آخر كما بينا.
قوله: "وأما الشافعي رحمه الله فإنه جعل الديانة دافعة للتعرض لا غير" يعني لم يجعلها دافعة للخطاب; لأن خطاب التحريم تناول الكافر كما تناول المسلم وقد بلغه الخطاب حقيقة أو تقديرا بالإشاعة في دار الإسلام وهو من أهل الدار وإنكاره تعنت وجهل والجهل لا على سبيل التعنت ليس بعذر رفع التعنت أولى إلا أن الشرع أمرنا أن لا

(4/465)


يثبت والجواب عنه أن تقويم الأموال وإحصان النفوس من باب العصمة وتفسير العصمة الحفظ فيكون في تحقيق العصمة بديانتهم حفظ عن التعرض أيضا وقد بينا ما يبطل به مذهبه وتبين أن ما قلنا من باب الدفع ولا يلزم عليه استحلالهم الربا وذلك لأن ذلك ليس بديانة بل هو فسق في ديانتهم; لأن من أصل ديانتهم
ـــــــ
نتعرض لهم بسبب عقد الذمة وذلك لا يدل على صحة ما دانوا به من الأحكام كما لا يدل على صحة ما دانوا من الكفر فما يرجع إلى التعرض من الأحكام لا يثبت في حقهم وما لا يرجع إليه يثبت. فلا يجب على الذمي حد الشرب; لأنه شرع زاجرا في المستقبل وفي إيجابه عليه تعرض له في المستقبل. فأما سائر الأحكام مثل إثبات التقوم وإيجاب الضمان على المتلف وصحة البيع وإيجاب النفقة على الزوج وإيجاب الحد على القاذف فلا يثبت; لأن ديانة الكافر ليست بحجة على غيره بل أثرها في دفع التعرض عنه لا غير.
والجواب عنه أي عن كلام الشافعي لأبي حنيفة رحمهما الله أن تقويم الأموال وإحصان النفوس من باب العصمة وتفسيرها الحفظ عن التعرض فيكون في تحقيق العصمة لنفوسهم وأموالهم تحقيق الحفظ لها عن التعرض أيضا يعني كما أن إسقاط حد الشرب عن الكافر بديانته له من باب ترك التعرض, وحفظه عنه إثبات تقوم الخمر وإبقاء الإحصان بديانته من باب الحفظ عن التعرض أيضا; لأن الأموال والنفوس لا تصير معصومة عن تعرض المسلمين إلا بإيجاب الضمان عليهم عند الإتلاف فكان ذلك من ضرورات الحفظ عن التعرض كسقوط حد الشرب. ولا يلزم عليه أي على ما ذكرنا أن ديانتهم معتبرة في دفع التعرض, ودفع الخطاب عنهم عدم اعتبار ديانتهم في استحلال الربا حتى إن الذمي إذا باع درهما بدرهمين من ذمي آخر ثم ترافعا إلى القاضي أو أسلما أو أسلم أحدهما يجب نقضه كما لو باشره مسلم ولم يعتبر في ذلك ديانته لحل ذلك التصرف وجوازه. لأن ذلك أي استحلال الربا منهم ليس بديانة; لأن من ديانتهم تحريم الربا قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً*وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160, 161]. وذلك أي استحلال الربا منهم في كونه فسقا مثل خيانتهم فيما اؤتمنوا من كتبهم بتغيير الأحكام وتبديل صفات النبي صلى الله عليه وسلم. لأنهم نهوا عن ذلك أي عن الخيانة على تأويل المذكور فكانت الخيانة منهم فسقا لا ديانة. ولهذا ذمهم الله بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]. فكذلك الربا وذلك الاستحلال منهم بمنزلة ما لو استحلوا الزنا أو السرقة فإن ذلك لا يعتبر في حقهم حتى يجب إقامة الحد عليهم; لأنه فسق منهم وليس بديانة; لأن الزنا والسرقة حرمان في الأديان كلها فكذلك استحلال الربا ولهذا يستثنى عليهم هذه الأشياء في عقد الذمة فشرط عليهم أن لا

(4/466)


تحريم الربا وذلك مثل خيانتهم فيما اؤتمنوا في كتبهم; لأنهم نهوا عنه فكذلك الربا كاستحلالهم الزنا. وأما القسم الثاني فجهل صاحب الهوى في صفات الله عز وجل وأحكام الآخرة وجهل الباغي; لأنه مخالف للدليل الواضح الصحيح
ـــــــ
يقتلوا وأن لا يسرقوا وأن لا يزنوا وأن لا يستربوا. وإلا يقال ينبغي أن يكون استحلال الربا فسقا من اليهود فإن النهي تحقق في حقهم دون غيرهم من المجوس وعبدة الأوثان الذين لم يؤمنوا بكتاب ولا نبي. لأنا نقول كان شرع تحريم الربا عاما ولم يكن الربا مشروعا قط في دين من الأديان; لأنه من باب الظلم وهو حرام في الأديان كلها ولم يكن عقد الذمة مشروعا في ذلك الوقت ليعتبر مانعا من بلوغ الخطاب فيثبت التحريم في حق الجميع. قال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله وإنما استثنى عليهم أنواع تصرف يقع بيننا وبينهم على الشركة كالربا ونحوه; لأنه لو جاز لهم مباشرتها واعتادوا فيما بينهم فعلوا مثل ذلك في عقودهم معنا فتعذر على التاجر الاحتراز عنه فأما عقود معاملات تجري بينهم خاصة لا يتعدى شرها إلينا فتركوا وديانتهم كالأنكحة وشرب الخمر.
قوله: "وأما القسم الثاني" وهو الجهل الذي دون جهل الكافر ولكنه لا يصلح عذرا أيضا فجهل صاحب الهوى في صفات الله عز وجل مثل جهل المعتزلة بالصفات فإنهم أنكروها حقيقة بقولهم أنه تعالى عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر وكذا في سائر الصفات.
ومثل جهل المشبهة فإنهم قالوا بجواز حدوث صفات الله عز وجل وزوالها عنه مشبهين الله تعالى بخلقه في صفاته. وهذا الجهل باطل لا يصلح عذرا في الآخرة; لأنه مخالف للدليل الواضح الذي لا شبهة فيه سمعا وعقلا. أما السمع فقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. {أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58]. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] إلى غيرها من الآيات فإنها تدل على أن لله تعالى صفات هي معان وراء الذات. وأما العقل فهو أن المحدثات كما دلت على وجود الصانع جل جلاله دلت على كونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فوجب أن يكون له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وأن تكون هذه الصفات معاني وراء الذات إذ يحيل العقل أن يحكم بعالم لا علم له وحي لا حياة له وقادر لا قدرة له ولا يفرق بين قول القائل ليس بعالم وبين قوله لا علم له وكذا في جميع الصفات. وقد عرف بدلالة العقل أيضا أن ما هو محل الحوادث حادث فلا يجوز أن تكون صفاته تعالى حادثة لاستلزامه حدوث الذات الذي هو محال فثبت بالدليل الواضح الذي لا شبهة فيه أنه تعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن النقيصة والزوال وأن

(4/467)


.........................................................
صفاته قائمة بذاته وليست بأعراض تحدث وتزول بل هي أزلية لا أول لها أبدية لا آخر لها فكان ما ذهب إليه أهل الأهواء باطلا وجهلا بعد وضوح الدليل فلا يصلح عذرا في الآخرة.
وكذا جهلهم بأحكام الآخرة مثل جهل المعتزلة بسؤال المنكر والنكير وعذاب القبر والميزان والشفاعة لأهل الكبائر وجواز العفو عما دون الشرك وجواز إخراج أهل الكبائر الموحدين من النار وإنكارهم إياها. ومثل إنكار الجهمية خلود الجنة والنار وأهاليهما جهل باطل; لأن الدلائل الناطقة بهذه الأحكام من الكتاب والسنة كثيرة واضحة لا تخفى على من تأمل فيها عن إنصاف فالجهل بها لا يكون عذرا في الآخرة كجهل الكافر. وكذلك جهل الباغي وهو الذي خرج عن طاعة الإمام الحق ظانا أنه على الحق والإمام على الباطل متمسكا في ذلك بتأويل فاسد فإن لم يكن له تأويل فحكمه حكم اللصوص كما سنبينه لا يصلح عذرا; لأنه مخالف للدليل الواضح فإن الدلائل على كون الإمام العادل على الحق مثل الخلفاء الراشدين ومن سلك طريقتهم لائحة على وجه يعد جاحدها مكابرا معاندا. وتوضيحه يتوقف على معرفة قصة البغاة وهي ما روي أن المخالفة لما استحكمت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وكثر القتال والقتل بين المسلمين جعل أصحاب معاوية المصاحف على رءوس الرماح وقالوا لأصحاب علي رضي الله عنه بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ندعوكم إلى العمل به فأجاب أصحاب علي رضي الله عنه إلى ذلك وامتنعوا عن القتال ثم اتفقوا على أن يأخذوا حكما من كل جانب فمن اتفق الحكمان على إمامته فهو الإمام وكان علي رضي الله عنه لا يرضى بذلك حتى اجتمع عليه أصحابه فوافقهم عليه فاختير من جانب معاوية عمرو بن العاص وكان داهيا ومن جانب علي أبي موسى الأشعري وكان من شيوخ الصحابة فقال عمرو لأبي موسى نعزلهما أولا ثم نتفق على واحد منهما فأجابه أبو موسى إليه ثم قال لأبي موسى أنت أكبر سنا مني فاعزل عليا أولا عن الإمامة فصعد أبو موسى المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه ودعا للمؤمنين والمؤمنات, وذكر الفتنة ثم أخرج خاتمه من أصبعه. وقال أخرجت عليا عن الخلافة كما أخرجت خاتمي من أصبعي ونزل ثم صعد عمرو المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ودعا للمؤمنين والمؤمنات, وذكر الفتنة ثم أخذ خاتمه وأدخله في أصبعه وقال أدخلت معاوية في الخلافة كما أدخلت خاتمي هذا في أصبعي فعرف علي رضي الله عنه أنهم أفسدوا عليه الأمر فخرج على علي رضي الله عنه قريب من اثني عشر ألف رجل من عسكره زاعمين أن عليا كفر حين ترك حكم الله وأخذ بحكم الحكمين فهؤلاء هم الخوارج الذين تفرقوا في البلاد

(4/468)


الذي لا شبهة فيه فكان باطلا كالأول إلا أنه متأول بالقران فكان دون الأول ولكنه لما كان من المسلمين أو ممن ينحل الإسلام لزمنا مناظرته وإلزامه فلم
ـــــــ
وزعموا أن من أذنب فقد كفر. وكان هذا منهم جهلا باطلا; لأنه مخالف للدليل الواضح فإن إمامة علي رضي الله عنه ثبتت باختيار كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار كما ثبتت إمامة من قبله به والرضاء بحكم الحكم فيما لا نص فيه أمر أجمع المسلمون على جوازه منصوص عليه في الكتاب فكيف يكون معصية. وكذا المسلم لا يكفر بالمعصية فإن الله تعالى أطلق اسم الإيمان على مرتكب الذنب في كثير من الآيات كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8]. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] ونحوها فجهلهم بعد وضوح الأدلة لا يكون عذرا كجهل الكافر.
إلا أنه أي لكن صاحب الهوى أو الباغي. متأول بالقرآن أي متمسك به مؤول له على وفق رأيه فإن نافي الصفات تمسك بأنه تعالى وصف ذاته بالوحدانية في القرآن ونزه نفسه عن الشريك في آيات كثيرة فلو أثبتنا الصفات له لكانت قديمة ولكانت أغيارا للذات., وإثبات الأغيار في الأزل مناف للتوحيد. ومجوز الحدوث في الصفات تعلق بنحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]. والباغي احتج بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: 14]. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً} [النساء: 93] فكان هذا الجهل دون الجهل الأول من هذا الوجه وإن كان لا يصلح عذرا في الآخرة. ولكنه أي هذا الجاهل وهو الباغي وصاحب الهوى لما كان من المسلمين; لأنه بالبغي لم يخرج عن الإسلام وكذلك بالهوى إذا لم يغل فيه. أو ممن ينتحل الإسلام يعني إذا غلا في هواه حتى كفر ولكنه ينتسب إلى الإسلام مع ذلك كغلاة الروافض والمجسمة. لزمنا مناظرته وإلزامه قبول الحق بالدليل فلم نعمل بتأويله الفاسد. فإذا استحل الباغي الأموال أو الدماء بتأويل أن مباشرة الذنب كفر لا يحكم بإباحتها في حقه بتأويله كما حكمنا بإباحة الخمر في حق الكافر بديانته; لأنه يعتقد الإسلام حقا فأمكن مناظرته وإلزام الحجة عليه بخلاف الكافر; لأن ولاية المناظرة والإلزام منقطعة فوجب العمل بديانته في حقه. فلذلك قلنا إذا أتلف الباغي مال العادل أي

(4/469)


نعمل بتأويله الفاسد وقلنا في الباغي إذا أتلف مال العادل أو نفسه ولا منعة له يضمن وكذلك سائر الأحكام تلزمه فإذا صار للباغي منعة سقط عنه ولاية الإلزام فوجب العمل بتأويله الفاسد فلم يؤخذ بضمان ووجبت المجاهدة لمحاربتهم
ـــــــ
نفسه ولا منعة له يضمن كما لو أتلفه غيره لبقاء ولاية الإلزام وكذلك أي وكوجوب الضمان سائر الأحكام التي تلزم المسلمين تلزمه; لأنه مسلم وولاية الإلزام باقية. فإذا صار للباغي منعة سقط عنه ولاية الإلزام بالدليل حسا وحقيقة فوجب العمل بتأويله الفاسد فلم يؤخذ بضمان في نفس ولا مال بعد التوبة كما لم يؤخذ أهل الحرب به بعد الإسلام. وقال الشافعي رحمه الله يلزم الضمان وإن كان له منعة; لأنه مسلم ملتزم أحكام الإسلام وقد أتلف بغير حق فيجب عليه الضمان; لأنه من أحكام الإسلام ولا عبرة لتأويله; لأنه مبطل في ذلك وكيف يعتبر اعتقاده بعدما التزم أحكام الإسلام لإثبات أمر على خلافه. بخلاف الحربي; لأنه غير ملتزم حكم الإسلام أصلا. ولنا حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متوافرين فاتفقوا على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع. وأن تبليغ الحجة الشرعية قد انقطعت بمنعه قائمة حسا فلم تثبت حجة الإسلام في حقهم كما لو انقطعت بحجر شرعي بأن قبل الكافر الذمة; لأن حجج الشرع فيما يحتمل الثبوت والسقوط لا تلزم إلا بعد البلوغ فإذا انقطع البلوغ عدمت الحجة فكان تدين كل قوم عن تأويل بمنزلة تدين الآخر من غير مزية لأحدهما على الآخر, والاستحلال بحكم مخالفة الدين حكم يجوز أن يكون كما جاز لنا في البغاة وإن كانوا مسلمين فساوى تدينهم تديننا حال قيام الحرب وانقطاع ولاية الإلزام بالمنعة القائمة كما جعل كذلك في أهل الحرب وحق الأنكحة. وهذا بخلاف الإثم فإن الباغي يأثم وإن كان له منعة; لأن المنعة لا تظهر في حق الشارع والخروج على الله تعالى حرام أبدا والجزاء واجب لله تعالى أبدا إلا أن يعفو فأما ضمان العباد فيحتمل أن لا يكون كما في الخمر وإنما وجب شرعا فلا يجب إلا بعلم الخطاب والتأمل فيه. وبخلاف الباغي الذي ليس بممتنع; لأن المانع من التبليغ وهو المنعة لم يتحقق فكان جهله بالحجة بسبب تعنته في الإعراض عن سماع الحجة والتأمل فيه ولا عبرة للتعنت فصار العدم به كأن لا عدم, كذا في الأسرار.
وهذا إذا هلك المال في يده فإن كان قائما في يده وجب رده على صاحبه; لأنه لم يملك ذلك بالأخذ كما لا نملك مال أهل البغي, والتسوية بين الفئتين المقاتلتين بتأويل الدين في الأحكام أصل. وقد روي عن محمد رحمه الله أنه قال أفتي في أهل البغي إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والأموال ولا ألزمهم ذلك في الحكم; لأنهم كانوا معتقدين الإسلام وقد ظهر لهم خطؤهم في التأويل إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة

(4/470)


ووجب قتل أسراهم والتذفيف على جريحهم ولم نضمن نحن أموالهم ودماءهم ولم نحرم عن الميراث بقتلهم; لأن الإسلام جامع والقتل حق وهم لم يحرموا أيضا إن قتلوا أيضا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله; لأن القتل منهم في حكم الدنيا بشرط المنعة في حكم الجهاد بناء على ديانتهم وإن كان باطلا في حقيقة
ـــــــ
للمنعة فلا يجبرون على أداء الضمان في الحكم ولكن نفتي به فيما بينهم وبين ربهم ولا نفتي أهل العدل بمثله; لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر كذا في المبسوط. وحاصل هذا الفصل أن المغير للحكم اجتماع التأويل والمنعة فإذا تجرد أحدهما عن الآخر لا يتغير الحكم في حق ضمان المصاب حتى لو أن قوما غير متأولين غلبوا على مدينة فقتلوا الأنفس واستهلكوا الأموال ثم ظهر عليهم أهل العدل أخذوا بجميع ذلك لتجرد المنعة عن التأويل.
قوله: "ووجبت المجاهدة لمحاربتهم" أي لأجل محاربتهم يعني إنما وجبت مقاتلتهم بطريق الدفع لا أن تجب ابتداء كما تجب مقاتلة الكفار فإن عليا رضي الله عنه قال للخوارج في خطبته ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا يعني حتى تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل فدل أنهم ما لم يعزموا على الخروج لا يتعرض لهم بالقتل والحبس فإذا تجمعوا وعزموا على الخروج وجب على كل من يقوى على القتال أن يقاتلهم مع إمام المسلمين لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] والأمر للوجوب ولأنهم قصدوا أذى المسلمين وتهييج الفتنة, وإماطة الأذى وتسكين الفتنة من أبواب الدين. وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهي عن المنكر وهو فرض. والإمام فيه علي رضي الله عنه فإنه قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين. ووجب قتل أسرائهم والتذفيف على جريحهم ذكر هاهنا لفظ الوجوب, وذكر في المبسوط بلفظه لا بأس فقيل لا بأس بقتل أسيرهم إذا كانت لهم فئة; لأن شره لم يندفع ولكنه مقهور لو تخلص لتحيز إلى فئته فإذا رأى الإمام مصلحة في قتله فلا بأس بأن يقتله. وإذا لم يبق لهم فئة لا يقتل; لأن إباحة القتل لدفع البغي وقد اندفع وكان علي رضي الله عنه يحلف من باشره منهم أن لا يخرج عليه ثم يخلي سبيله. وكذلك لا بأس بأن يجهز على جريحهم إذا كانت فئتهم باقية; لأنه إذا برئ عاد إلى الفتنة والشر بقوة تلك الفئة. ولأن في قتل الأسير والإجهاز كسر شوكة أصحابه فإذا بقيت لهم فئة يحصل هذا المقصود بذلك بخلاف ما إذا لم تبق لهم فئة والتذفيف الإسراع في القتل والمراد من التذفيف هاهنا إتمام القتل ولم نضمن نحن أموالهم بالإتلاف لما ذكر في الكتاب ودماءهم; لأن قتلهم واجب على المسلمين

(4/471)


ووجب حبس أموالهم زجرا لهم ولم نملك أموالهم; لأن أصل الدار واحدة وهي بحكم الديانة مختلفة فثبتت العصمة من وجه وهو الإسلام دون وجه فلم يجب الضمان بالشك ولم يجب الملك بالشبهة بخلاف أهل الحرب; لأن الدار مختلفة والمنعة متباينة من كل وجه فبطلت العصمة لنا في حقهم ولهم في حقنا من كل وجه
ـــــــ
فلا يوجب ضمانا. ولم نحرم عن الميراث حتى لو قتل العادل في الحرب مورثه الباغي ورثه; لأن الإسلام جامع بين الوارث والمورث في الدين فلم يثبت اختلاف الدين الذي هو مانع من الإرث باختلاف ديانتهما والقتل بحق فلا يصلح سببا للحرمان كالقتل رجما أو قصاصا; لأن حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل محظور فالقتل المأمور به لا يصلح أن يكون سببا له. وهم أي أهل البغي لم يحرموا عن الميراث حتى لو قتل الباغي أخاه العادل وقال كنت على الحق وأنا الآن على الحق ورثه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن قال كنت على باطل لم يرثه وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرثه بحال; لأنه قتل بغير حق فيحرم به عن الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا; لأن اعتقاده وتأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته إنما يعتبر ذلك في حقه خاصة. يوضحه أن تأويل أهل البغي عند انضمام المنعة إليه يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق أهل الحرب وتأثير ذلك في إسقاط ضمان النفس والمال لا في حكم التوريث فكذلك تأويل أهل البغي. ولهما أن المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين فتستويان في الأحكام وإن اختلفا في الإمام كما في سقوط الضمان, وذلك لأن ولاية الإلزام لما انقطعت بالمنعة كان القتل منهم في حكم الدنيا في حكم الجهاد بناء على ديانتهم; لأنهم اعتقدوا أنفسهم على الحق وخصومهم على الباطل فكانت مقاتلتهم الخصوم جهادا في زعمهم وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وإن كان باطلا في الحقيقة. وقوله اعتقاده لا يكون حجة على مورثه العادل فاسد; لأن اعتقاده كما لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث لا يكون حجة في حكم سقوط حقه عن الضمان ولكن لما انقطعت ولاية الإلزام بانضمام المنعة إلى التأويل جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذا في حق التوريث كذا في المبسوط.
قوله: "ووجب حبس الأموال" أي أموال أهل البغي زجرا لهم عن البغي وعقوبة كما وجب قتل نفوسهم. فإذا تفرق جمعهم وانكسرت شوكتهم ترد عليهم أموالهم; لأنها لم تتملك لبقاء العصمة والإحراز فيها. ولأن الملك بطريق الاستيلاء لا يثبت ما لم يتم بالإحراز بدار تخالف دار المستولى عليه ولم يوجد; لأن دار الفئتين واحدة. وقيل لعلي رضي الله عنه يوم الجمل ألا تقسم بيننا ما أفاء الله علينا قال فمن يأخذ منكم عائشة

(4/472)


وكذلك جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة من علماء الشريعة وأئمة الفقه أوعمل بالغريب من السنة على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة فمردود باطل ليس بعذر أصلا مثل الفتوى ببيع أمهات الأولاد ومثل القول بالقصاص في القسامة ومثل استباحة متروك التسمية عمدا والقضاء بالشاهد
ـــــــ
وإنما قال ذلك استبعادا لكلامهم وإظهارا لخطئهم فيما طلبوا وقد جمع ما أصاب من عسكر أهل النهروان في رحبة الكوفة فمن كان يعرف شيئا أخذه. وهي بحكم الديانة مختلفة حيث اعتقد كل واحد من الفريقين أن الفريق الآخر على الباطل وأن دماءهم مباحة وقد غلبوا على دار الإسلام وجعلوها دار الحرب حيث لزمنا محاربتهم.
قوله: "وكذلك" أي ومثل جهل الباغي وصاحب الهوى جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة. الواو بمعنى أو مثل الفتوى ببيع أمهات الأولاد. كان بشر المريسي وداود الأصبهاني ومن تابعه من أصحاب الظواهر يقولون بجواز بيع أم الولد متمسكين في ذلك بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبأن المالية والمحلية للبيع قبل الولادة معلومة فيها بيقين فلا ترتفع بعد الولادة بالشك. وعند جمهور العلماء لا يجوز بيعها لدلالة الآثار المشهورة عليه مثل قوله عليه السلام لمارية: "أعتقها ولدها" 1. وقوله عليه السلام: "أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه" 2 رواه ابن عباس رضي الله عنهما. وما روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتق أمهات الأولاد من غير الثلث وأن لا يبعن في دين. وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينادي على المنبر إلا أن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق عليها بعد موت مولاها وقد تلقاها القرن الثاني بالقبول وانعقد الإجماع على عدم جواز بيعها فكان القول بالجواز مخالفا للأحاديث المشهورة والإجماع فكان مردودا.
ومثل القول بالقصاص في القسامة. إذا وجد القتيل ولا يدرى قاتله تجب القسامة على أهل المحلة والدية على عواقل أهل المحلة عندنا ولا يجب القصاص بحال. وقال مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في القديم إن كان بين القتيل وأهل المحلة عداوة ظاهرة أو لوث وهو ما يغلب به على ظن القاضي والسامع صدق المدعي يؤمر الولي بأن يعين القاتل منهم ثم يحلف الولي خمسين يمينا أنه قتله عمدا فإذا حلف يقتص له من القاتل,
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في العتق حديث رقم 2516.
2 أخرجه ابن ماجه في العتق حديث رقم 2515 والإمام أحمد في المسند 1/317.

(4/473)


الواحد ويمين المدعي; لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم وعلى هذا يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ وأما القسم
ـــــــ
متمسكين في ذلك بظاهر قوله عليه السلام لأولياء المقتول الذي وجد في خيبر: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" الحديث أي دم قاتل صاحبكم. وحجة من أبى وجوب القصاص بالقسامة الأحاديث المشهورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة والدية على اليهود في قتيل وجد بين أظهرهم. وروى زياد بن أبي مريم أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان فقال: "اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فقال وليس لي من أخي إلا هذا قال: "نعم ولك مائة من الإبل" وفي الحديث. أن قتيلا وجد بين وداعة وأرحب وكان إلى وداعة أقرب فقضى عمر رضي الله عنه عليهم بالقسامة والدية فقالوا لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا فقال حقنتم دماءكم بأيمانكم وأغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم وكان ذلك منه بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع فكان القول بوجوب القصاص بها مخالفا لهذه الأدلة الظاهرة المشهورة, ولقوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" فكان مردودا.
ومثل استباحة متروك التسمية عمدا عملا بقوله عليه السلام: "تسمية الله في قلب كل مؤمن" وبالقياس على متروك التسمية بالنسيان مخالف لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. ومثل إيجاب القضاء بالشاهد الواحد ويمين المدعي عملا بما روي أن النبي عليه السلام قضى بذلك مخالف للكتاب وهو قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلى أن قال: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وللحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" كما مر بيانه في باب الانقطاع فيكون مردودا. ففي هذه المسائل ونظائرها إن اعتمد الخصم على القياس فهو منه عمل بالاجتهاد على خلاف الكتاب أو السنة, وإن اعتمد على الخبر فهو عمل منه بالغريب من السنة على خلافهما أو خلاف أحدهما فيكون فاسدا. لأنا أمرنا متصل بقوله ليس بعذر أصلا أي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم ومن المعروف العمل بالكتاب والسنة المشهورة ومن المنكر مخالفتهما أو مخالفة أحدهما ومن النصيحة الإرشاد إلى الصواب وإظهار الحق بالمناظرة وإقامة الدليل فيجب علينا ذلك ويجب على الخصم الطلب والقبول فلا يكون جهله عذرا بوجه. وعلى هذا وهو أن العمل بالاجتهاد على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة باطل يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ فإن وجد فيه العمل بخلاف الكتاب أو السنة كما في هذه الأمثلة لا ينفذ; لأنه باطل وإن عدم فيه ذلك كما في عامة المجتهدات ينفذ.

(4/474)


الثالث فهو الجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أو في غير موضع الاجتهاد لكن في موضع الشبهة أما الأول فإن من صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر بوضوء وعنده أن الظهر قد أجزأه فالعصر فاسدة; لأن هذا جهل على خلاف الإجماع وإن قضى الظهر ثم صلى المغرب وعنده أن العصر أجزأ عنه جاز ذلك; لأنه جهل في موضع الاجتهاد في ترتيب الفوائت وقال أصحابنا رحمهم
ـــــــ
قوله: "وأما القسم الثالث" وهو الجهل الذي يصلح شبهة فهو الجهل في موضع تحقق فيه الاجتهاد من غير أن يكون مخالفا للكتاب أو السنة وهو المراد بالصحيح. أو في غير موضع الاجتهاد أي لم يوجد فيه اجتهاد ولكنه موضع الاشتباه. صلى الظهر على غير وضوء يعني غير عالم بعدم الوضوء. ثم صلى العصر على وضوء ذاكرا لذلك وهو يظن أن الظهر أجزأه لكونه غير عالم بعدم الوضوء فيه فالعصر فاسدة كالظهر عندنا فكان عليه أن يعيدهما جميعا; لأن ظنه بجواز الظهر جهل واقع على خلاف الإجماع; لأن ظهره فاسد بلا خلاف فكان من القسم الثاني لا من هذا القسم. وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول إنما يجب مراعاة الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم به فليس عليه ذلك; لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه في حق من لا يعلم به. وكان زفر رحمه الله يقول إذا كان عنده أن ذلك يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه فرض الوقت. ولأن العصر لو لم يجز إنما لا يجوز باعتبار الترتيب وهو مجتهد فيه فكان ظنه في موضع الاجتهاد فيعتبر. لكنا نقول إن كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب ليست بفرض فهو دليل شرعي وكذلك إن كان ناسيا فهو معذور غير مخاطب بأداء الفائتة قبل أن يتذكر فأما إذا كان ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر. فإن قضى الظهر وحدها وهذا الفرع هو المقصود من إيراد هذا المثال ثم صلى المغرب وهو يظن أن العصر أجزأته جاز المغرب ويعيد العصر فقط; لأن ظنه بجواز العصر جهل في موضع الاجتهاد في ترتيب الفوائت فإن الخلاف بين العلماء في وجوب الترتيب خلاف معتبر فكان دليلا شرعيا. وحاصل الفرق أن فساد الظهر بترك الوضوء فساد قوي مجمع عليه فكانت متروكة بيقين فيظهر أثر الفساد فيما يؤدي بعدها ولم يعذر بالجهل فأما فساد العصر بسبب ترك الترتيب فضعيف مختلف فيه فلا تكون متروكة بيقين فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى; لأن وجوب الترتيب ثبت بالسنة في متروكة بيقين علما وعملا وهو كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد بطل العقد فيهما بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر كذا في المبسوط.
قوله: "وقال أصحابنا" إلى آخره إذا كان الدم بين اثنتين فعفا أحدهما ثم قتله الآخر عمدا فإن لم يعلم بعفو الشريك أو علم بذلك ولم يعلم أن بعفو أحدهما يسقط

(4/475)


الله فيمن قتل وله وليان فعفا أحدهما عن القصاص ثم قتله الثاني وهو يظن أن القصاص باق له على الكمال وأنه وجب لكل واحد منهم قصاص كامل فإنه لا قصاص عليه; لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد وفي حكم يسقط بالشبهة
ـــــــ
القود فعليه الدية كاملة في ماله عندنا. وقال زفر رحمه الله عليه القصاص; لأن القود سقط بعفو أحدهما علم الآخر به أو لم يعلم اشتبه عليه حكمه أو لم يشتبه فبقي مجرد الظن في حق الآخر والظن غير مانع من وجوب القصاص بعدما تقرر سبب كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا كان عليه القصاص. وحجتنا في ذلك أنه قد علم وجوب القصاص وما علم ثبوته فالأصل بقاؤه واجبا في حقه ظاهرا والظاهر يصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات. وكذا إذا علم بالعفو ولم يعلم أن القود سقط به; لأن الظاهر أن تصرف الغير في حقه غير نافذ وسقوط القود عند عفو أحدهما باعتبار معنى خفي وهو أن القصاص لا يحتمل التجزي فإنما اشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير ذلك بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة. بخلاف ما إذا علم أن القود سقط بالعفو ثم قتله عمدا حيث يجب القصاص; لأن هناك قد ظهر المسقط عنده وأقدم على القتل مع العلم بالحرمة. وقد يجوز أن يسقط القود باعتبار ظنه كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا فإذا هو مسلم وإذا سقط القود عنه بالشبهة لزمته الدية في ماله; لأن فعله عمد ثم يحسب له منها بنصف الدية لأن يعفو الشريك وجب له نصف الدية على المقتول فيصير نصف الدية قصاصا بالنصف ويؤدي ما بقي كذا في المبسوط. فعلى هذا كان المراد من قوله; لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد أن الاجتهاد يقتضي أن يثبت لكل واحد منهما ولاية الاستيفاء على الكمال; لأن إثبات ما لا يتجزأ لاثنين يوجب ثبوته لكل واحد منهما كاملا كولاية الإنكاح على ما مر بيانه لا أن المراد منه أن بقاء ولاية الاستيفاء بعد عفو أحد الشريكين للآخر أمر مجتهد فيه كما أن الترتيب في المسألة الأولى أمر مجتهد فيه فإن أحدا من الفقهاء لم يقل بذلك. وذكر في التهذيب أن القصاص إذا ثبت لاثنين كان لكل واحد منهما أن ينفرد بقتله عند بعض أهل المدينة حتى لو عفا أحدهما كان للآخر قتله. فعلى هذا كان سقوط القصاص بعفو البعض أمرا مجتهدا فيه إن كان ذلك الاجتهاد صحيحا فلا يحتاج كلام الشيخ إلى تأويل. وفي حكم يسقط بالشبهة يعني بعدما حصل جهله في موضع الاجتهاد حصل في حكم يسقط بالشبهة وهو القصاص فكان أولى بالاعتبار من الجهل في المسألة الأولى.
قوله: "وكذلك" أي وكالولي القاتل في أن الجهل يصلح شبهة. صائم احتجم ثم أفطر على ظن أن الحجامة فطرته. وظن أن على ذلك التقدير أي تقدير أن الحجامة فطرته لم تلزمه الكفارة بالإفطار بعدها. أو ظن أن على تقدير الأكل بعد حصول الإفطار

(4/476)


وكذلك صائم احتجم ثم أفطر على ظن أن الحجامة فطرته وعلى ذلك التقدير لم تلزمه الكفارة لما قلنا ومثله كثير ومن زنى بجارية امرأته أو جارية والده وظن
ـــــــ
بالحجامة لم تلزمه الكفارة. وقوله لما قلنا متعلق بكذلك; لأنه يتضمن جواب المسألة فإن جوابها ليس بمذكور صريحا على هذا الوجه الذي بينا يعني وكما يسقط القصاص بجهل الولي تسقط الكفارة بجهل صائم إلى آخره لما قلنا إن حصول الجهل في موضع الاجتهاد وفي حكم يسقط بالشبهة معتبر, وظن هذا الصائم في موضع الاجتهاد, إذ الأوزاعي يقول بفساد الصوم بالحجامة معتمدا على قوله عليه السلام حين رأى رجلين حجم أحدهما صاحبه: "أفطر الحاجم والمحجوم" 1. وفي موضع يسقط بالشبهة; لأن كفارة الصوم تسقط بالشبهات لترجح جانب العقوبة فيها على ما مر بيانه. وظني أن قوله وعلى ذلك التقدير زيادة وقعت من الكاتب وأن قوله لم تلزمه الكفارة جواب المسألة ولما قلنا متعلق به; لأن الكلام مستقيم متضح بدون تلك الزيادة.
ثم ما ذكر الشيخ من سقوط الكفارة بالظن في هذه المسألة ليس بمجرى على ظاهره فإن شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله ذكر في شرح كتاب الصوم أن الصائم لو احتجم فظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا ولم يستفت عالما ولم يبلغه الحديث نسخه أو بلغه وعرف تأويله وجبت عليه الكفارة; لأن ظنه حصل في غير موضعه فإن انعدام ركن الصوم بوصول الشيء إلى باطنه ولم يوجد وفساده بالاستقاء والحيض بخلاف القياس فيكون ظنه مجرد جهل وهو غير معتبر. فإن استفتى فقيها يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه فأفتاه بالفساد فأفطر بعد ذلك متعمدا لا تجب عليه الكفارة; لأن على العامي أن يعمل بفتوى المفتي إذا كان المفتي ممن يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه وإن كان يجوز أن يكون مخطئا فيما يفتي; لأنه لا دليل للعامي سوى هذا فكان معذورا فيما صنع ولا عقوبة على المعذور ولو لم يستفت ولكن بلغه الحديث ولم يعرف نسخه ولا تأويله, قال أبو حنيفة ومحمد والحسن بن زياد رحمهما الله لا كفارة عليه; لأن الحديث وإن كان منسوخا لا يكون أدنى درجة من الفتوى إذا لم يبلغه النسخ فيصير شبهة. وقال أبو يوسف رضي الله عنه عليه الكفارة; لأن معرفة الأخبار والتمييز بين صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها مفوض إلى الفقهاء فليس للعامي أن يأخذ بظاهر الحديث لجواز أن يكون مصروفا عن ظاهره أو منسوخا إنما له الرجوع إلى الفقهاء والسؤال عنهم فإذا لم يسأل فقد قصر فلا يعذر وهكذا ذكر الإمام شمس الأئمة رحمه الله أيضا فتبين أن الظن في هذه المسألة
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الصيام حديث رقم 774 وأبو داود في الصوم حديث رقم 2367 – 2371.

(4/477)


أنها تحل له لم يلزمه الحد فيصير الجهل والتأويل في موضع الاشتباه شبهة في الحدود دون النسب والعدة بخلاف ما إذا وطئ جارية أخيه وأخته وكذلك
ـــــــ
بدون اعتماده على فتوى أو حديث ليس بمعتبر وأن قول الأوزاعي لا يصير شبهة; لأنه مخالف للقياس.
قوله: "ومن زنى بجارية امرأته" بيان القسم الثاني وهو الجهل في موضع الشبهة أي الاشتباه. واعلم أن الشبهة الدارئة للحد نوعان شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه; لأنها تنشأ من الاشتباه. وشبهة في المحل وتسمى شبهة الدليل والشبهة الحكمية فالأولى هي أن يظن الإنسان ما ليس بدليل الحل دليلا فيه ولا بد فيها من الظن ليتحقق الاشتباه والثانية أن يوجد الدليل الشرعي النافي للحرمة في ذاته مع تخلف حكمه عنه لمانع اتصل به وهذا النوع لا يتوقف تحققه على ظن الجاني واعتقاده فمن هذا القسم ما لو وطئ الأب جارية ابنه فإنه لا يجب عليه الحد وإن قال علمت أنها علي حرام; لأن المؤثر في إيراث الشبهة الدليل الشرعي وهو قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وهو قائم فلا يفترق في الحال بين الظن وعدمه في سقوط الحد ومن القسم الأول ما إذا وطئ الابن جارية أبيه وجارية أمه أو وطئ الرجل جارية امرأته فإن قال ظننت أنها تحل لي لا يجب الحد عليهما عندنا وقال زفر رحمه الله يجب عليهما الحد; لأن السبب وهو الزنا قد تقرر بدليل أنهما لو قالا علمنا بالحرمة يلزمهما الحد فلو سقط إنما يسقط بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا كمن وطئ جارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي ولكنا نقول قد تمكنت بينهما شبهة اشتباه; لأن مال المرأة من وجه مال لزوج. وقيل في تأويل قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8] أي بمال خديجة ولأنها حلال له فربما يشتبه عليه أن حال جاريتها كحالها وكذا في جارية الأب والأم قد يشتبه ذلك باعتبار أن الأملاك متصلة بين الآباء والأبناء والمنافي دائرة والولد جزء أبيه وأمه فربما يشتبه أنها لما كانت حلالا للأصل تكون حلالا للجزء أيضا.
فيصير الجهل أي الجهل بالحرمة والتأويل أي تأويل أن الجارية تحل لي كما تحل نفس المرأة وكما تحل جاريتي لأبي بالتملك شبهة في سقوط الحد; لأن شبهة الاشتباه مؤثرة في سقوط الحد على من اشتبه عليه كقوم سقوا على مائدة خمرا فمن علم منهم أنه خمر يجب عليه الحد ومن لم يعلم لا يحد دون النسب والعدة يعني يثبت النسب بهذه الشبهة وإن ادعاه ولا تجب العدة بها; لأن الفعل تمحض زنا في نفسه فيمنع ثبوت النسب ووجوب العدة وإن سقط الحد للاشتباه بخلاف الشبهة الحكمية حيث لا يثبت بها النسب ويجب بها العدة كما يسقط بها الحد; لأن الفعل لم يتمحض زنا نظرا إلى

(4/478)


حربي أسلم ودخل دارنا فشرب الخمر وقال لم أعلم بالحرمة لم يحد بخلاف ما إذا زنى وبخلاف الذمي إذا أسلم ثم شرب الخمر وقال لم أعلم بحرمتها فإنه يحد هذا بناء على هذا الأصل الذي ذكرنا. وأما القسم الرابع فهو الجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر أنه يكون عذرا في الشرائع حتى إنها لا تلزمه; لأن
ـــــــ
قيام الدليل لهذا لم يفترق الحال فيها بين العلم بالحرمة وعدمه وهذا بخلاف ما لو زنى بجارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي حيث لم يجعل الجهل شبهة في سقوط الحد; لأن منافع الأملاك بينهما متباينة عادة فلا يكون هذا محل الاشتباه فلا يصير الجهل شبهة. وكذلك أي كما لا يحد الولد بوطء جارية أبيه عند عدم العلم بالحرمة ويصير جهله شبهة في سقوط الحد لا يحد الحربي الذي أسلم ودخل دارنا فشرب الخمر إذا لم يعلم بالحرمة يصير جهله شبهة في سقوطه بخلاف ما إذا زنى ظانا أنه ليس بحرام وبخلاف الذمي الذي أسلم وشرب الخمر ظانا أنها حلال حيث يحدان جميعا وهذا أي التفرقة بين شرب الخمر وبين الزنا في الحربي والتفرقة بين الحربي وبين الذمي في شرب الخمر بناء على الأصل الذي ذكرناه وهو أن الجهل في موضع الاشتباه يصلح شبهة دارئة للحد وفي غير موضع الاشتباه لا يصلح لذلك فجهل الحربي بحرمة الخمر في موضع الاشتباه; لأنها ثبتت بالخطاب وهو منقطع عن أهل الحرب ودارهم دار الجهل وضياع الأحكام فيصلح جهله شبهة دارئة للحد. فأما جهله بحرمة الزنا ففي غير محله; لأن الزنا حرام في الأديان كلها فلم يتوقف العلم بحرمته على بلوغ خطاب الشرع لتحقق حرمته قبله فلا يصلح شبهة في سقوط الحد وكذا جهل الذمي بحرمة الخمر; لأنه من أهل دار الإسلام وتحريم الخمر شائع فيها فلم يصر جهله شبهة لعدم مصادفته محله بل الاشتباه وقع من تقصيره في الطلب فلا يعذر.
قوله: "وأما القسم الرابع" وهو الذي يصلح عذرا فهو كذا والفرق بين هذا القسم وبين القسم الثالث أن هذا القسم بناء على عدم الدليل والقسم الثالث بناء على اشتباه ما ليس بدليل بالدليل كذا قيل فالجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر يكون عذرا في الشرائع حتى لو مكث مدة ولم يصل فيها أو لم يصم ولم يعلم أن عليه الصلاة والصوم لا يكون عليه قضاؤهما وقال زفر رحمه الله يجب عليه قضاؤهما; لأن بقبول الإسلام صار ملتزما لأحكامه ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به وذلك لا يسقط القضاء بعد تقرر السبب الموجب كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة ونحن نقول إن الخطاب النازل خفي في حقه لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع ولا تقديرا باستفاضته وشهرته; لأن دار الحرب ليست بمحل استفاضة أحكام الإسلام. فيصير الجهل بالخطاب عذرا; لأنه غير مقصر

(4/479)


الخطاب النازل خفي فيصير الجهل به عذرا; لأنه غير مقصر وإنما جاء من قبل خفاء الدليل في نفسه وكذلك الخطاب في أول ما ينزل فإن من لم يبلغه كان معذورا مثل ما روينا في قصة أهل قبا وقصة تحريم الخمر قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية فأما إذا انتشر
ـــــــ
في طلب الدليل وإنما جاء الجهل من قبل خفاء الدليل في نفسه حيث لم يشتهر في دار الحرب بسبب انقطاع ولاية التبليغ عنهم وكذلك أي وكالخطاب في حق أهل الحرب في الخفاء الخطاب في أول ما ينزل فإنه خفي في حق من لم يبلغه من المسلمين لعدم استفاضته بينهم فيصير الجهل به عذرا مثل ما روينا بضم الراء في قصة أهل قباء فإنهم صلوا صلاة الظهر إلى بيت المقدس بعد نزول فرض التوجه إلى الكعبة وافتتحوا العصر متوجهين إليه أيضا فأخبروا بتحول القبلة إلى الكعبة وهم في الصلاة فتوجهوا إليها وأتموا صلاتهم وجوز ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأن الخطاب لم يبلغهم وعليه حمل الشيخ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس والمذكور في التفسير أن النبي عليه السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف من مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت هذه الآية1 وقصة تحريم الخمر فإن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية وعن ابن كيسان لما نزل تحريم الخمر والميسر قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا الميسر وكيف بالغاصبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها وهم يطعمونها فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي من الأموات والأحياء في البلدان إثم فيما طعموا من الخمر والقمار: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93] ما حرم الله عليهم سواهما. وقيل اتقوا الشرك وآمنوا بالله وعملوا الصالحات في إيمانهم: {ثُمَّ اتَّقَوْا} يعني الأحياء في البلدان الخمر والقمار إذا جاءهم تحريمها وآمنوا صدقوا بتحريمها ثم اتقوا ما تحرم عليهم بعد هذا بنص يرد في التحريم لبعض ما أحل لهم: {وَأَحْسَنُوا} فيما تعبدهم الله والله يحب المحسنين فهذا معنى ذكر التقوى ثلاثا في هذه الآية كذا في التيسير.
فثبت بما ذكرنا أن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب قبل علمه به إذ ليس
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 2964 وأبو داود في السنة حديث رقم 4680 وابن حبان حديث رقم 1718 والإمام أحمد في المسند 1/347.

(4/480)


الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع فمن جهل من بعد فإنما أتي من قبل تقصيره لا من قبل خفاء الدليل فلا يعذر كمن لم يطلب الماء في العمران ولكنه تيمم والماء موجود فصلى لم يجزه وكذلك جهل الوكيل بالوكالة وجهل المأذون بالإذن يكون عذرا; لأنه فيه ضرب إيجاب وإلزام فلا بد من
ـــــــ
في وسعه الائتمار قبل العلم فلذلك يعذر, فأما إذا انتشر الخطاب في دار الإسلام فقد تم التبليغ من صاحب الشرع إذ ليس في وسعه التبليغ إلى كل واحد إنما الذي في وسعه الإشاعة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل نفسه مبلغا إلى الكافة يبعث الكتب والرسل إلى ملوك الأطراف حتى كان يقول ألا هل بلغت اللهم فاشهد فعلم أن التبليغ يتم باشتهار الخطاب واستفاضته فمن جهل من بعد شهرته فإنما أتي من قبل تقصيره أي ابتلي بالجهل من هذه الجهة يقال من هاهنا أتيت أي من هاهنا دخل عليك البلاء ومنه قول الأعرابي وهل أتيت إلا من الصوم أي وهل أتاني المحذور إلا من الصوم; لأن الخطاب صار متيسر الإصابة بالاشتهار لا من قبل خفاء الدليل. فلذلك قلنا إذا أسلم الذمي في دار الإسلام ومكث مدة ولم يصل ولم يعلم بوجوبها كان عليه قضاؤها; لأنه في دار شيوع الأحكام ويرى شهود الناس الجماعات ويمكنه السؤال عن أحكام الإسلام فترك السؤال والطلب تقصير منه فلا يعذر كمن لم يطلب الماء في العمر ظانا أن الماء معدوم فتيمم وصلى والماء موجود لم تجز صلاته; لأنه مقصر في ترك الطلب في موضع الماء غالبا بخلاف ما إذا ترك الطلب في المفازة على ظن عدم الماء وتيمم وصلى حيث جازت صلاته; لأنه ليس بمقصر بترك الطلب في هذا الموضع فإذا لم يكن على طمع من الماء لم يلزمه الطلب لعدم الفائدة وإنما قيد بقوله والماء موجود; لأنه إذا لم يكن موجودا في الواقع جازت صلاته كذا في بعض الحواشي.
قوله: "وكذلك" أي وكجهل من أسلم في دار الحرب جهل الوكيل بالوكالة وجهل المأذون بالإذن يكون عذرا حتى لو تصرفا قبل بلوغ الخبر إليهما لم ينفذ تصرفهما على الموكل والمولى. ولو وكله ببيع شيء يتسارع إليه الفساد ولم يعلم بالوكالة حتى فسد ذلك الشيء لم يضمن شيئا ولو وكله بشراء شيء بعينه فاشتراه الوكيل لنفسه قبل العلم بالوكالة يصح وبعد العلم لا يصح ولو باع متاعا للموكل قبل العلم بالوكالة لا ينفذ على الموكل بل يتوقف على إجازته كبيع الفضولي لأن فيه أي في التوكيل والإذن ضرب إيجاب وإلزام حيث يلزمهما حقوق العقد من التسليم والتسلم ونحوهما ويمتنع على الوكيل شراء شيء وكل بشرائه بعينه وبيع شيء وكل بيعه ممن لا يقبل شهادته له ويطالب العبد بعهدة تصرفاته بعد الإذن في الحال ولم يكن مطالبا بها قبل الإذن فكما لا يثبت

(4/481)


عمله إلا أنه لا يشترط فيمن يبلغه العدالة وإن كان فضوليا; لأنه ليس بإلزام محض بل هو مخير وجهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر وجهل مولى العبد الجاني فيما يتصرف فيه وجهل الشفيع بالشفعة يكون عذرا; لأن الدليل خفي وفيه إلزام فشرط أبو حنيفة رحمه الله في الذي يبلغه من غير رسالة العدالة أو العدد وكذلك جهل المرأة البكر بإنكاح الولي مثله, وكذلك قوله في تبليغ
ـــــــ
حكم العزل والحجر في حقهما قبل العلم لدفع الضرر عنهما لا يثبت حكم الوكالة والإذن لذلك أيضا ألا ترى أن حكم الشرع لا يلزم في حقه مع كمال ولايته قبل العلم به فلأن لا يثبت حكم من جهة العبد الذي هو قاصر الولاية كان أولى. إلا أنه أي لكنه لا يشترط فيمن يبلغ الوكيل أو العبد أو يبلغ الإذن أو الوكالة إليهما العدالة بالاتفاق وإن كان المبلغ فضوليا; لأن التوكيل أو الإذن ليس بإلزام محض وإن كان فيه إلزام من الوجه الذي قلنا بل هو أي الوكيل أو العبد يخير بعد بلوغ الخبر إليه في قبول الوكالة والإذن, وتحقق معنى الإلزام من الوجه الذي بينا لا يخل بهذا الاختيار بوجه فلذلك لا يشترط فيه شيء من شرائط الإلزام أي الشهادة وجهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر عذر لخفاء الدليل ولزوم الضرر على كل واحد منهما بصحة العزل والحجر إذ الوكيل يتصرف على أن يلزم تصرفه على الموكل والعبد يتصرف على أن يقضي دينه من كسبه ورقبته وبالعزل والحجر يلزم التصرف على الوكيل ويتأخر دين العبد إلى العتق ويؤدي بعد العتق من خالص ملكه وفيه من الضرر ما لا يخفى.
قوله: "وجهل مولى العبد الجاني فيما يتصرف فيه" أي في العبد إذا جنى العبد جناية يخير المولى بين الدفع والفداء فإذا تصرف المولى في هذا الجاني بالبيع أو بالإعتاق ونحوهما بعد العلم بجنايته يصير مختارا للفداء وهو الأرش فإن لم يعلم بالجناية حتى تصرف فيه ببيع ونحوه لا يصير مختارا للفداء بل يجب عليه الأقل من القيمة ومن الأرش ويصير جهله بالجناية عذرا وجهل الشفيع بالشفعة أي بسبب ثبوت الشفعة وهو البيع يكون عذرا حتى إذا علم بالبيع بعد زمان يثبت له حق الشفعة لأن الدليل أي دليل العلم في الصور الأربع خفي في حق هؤلاء; لأن هذه الأمور لا تكون مشهورة ويستبد الموكل بالعزل والمولى بالحجر والعبد بالجناية وصاحب الدار بالبيع فأنى يحصل العلم للوكيل والعبد والمولى والشفيع بهذه الأمور وفيه أي في كل واحد من هذه الأمور إلزام ضرر حيث يلزم التصرف بالعزل على الوكيل وتصير العين مضمونة عليه وتبطل ولاية المأذون في التصرفات بالحجر ويلزم على المولى الدفع أو الفداء بجناية العبد ويلزم على الشفيع ضرر الجار بالبيع وإذا كان كذلك يتوقف ثبوتها على العلم كأحكام الشرع فشرط

(4/482)


الشرائع إلى الحربي الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا إذا لم يكن المبلغ رسول الإمام, وكذلك جهل الأمة المنكوحة إذا أعتقت بالإعتاق أو بالخيار بعد العلم بالإعتاق يجعل عذرا; لأن الدليل خفي في حقها ولأنها دافعة بخلاف
ـــــــ
أبو حنيفة يعني ولما كان في كل واحد منها معنى الإلزام شرط أبو حنيفة رحمه الله في الذي يبلغه من غير رسالة العدد أو العدالة ولم يشترط كليهما; لأنه من حيث إنه تصرف في حق نفسه دون الإلزامات المحضة في الأموال وغيرها فلذلك لم يشترط فيه إلا أحد شطري الشهادة وقد مر تحقيقه في باب بيان محل الخبر وكذلك أي ومثل قوله في اشتراط أحد شطري الشهادة في تبليغ هذه الأمور قوله في تبليغ الشرائع إلى الحربي الذي أسلم ولم يهاجر يعني تشترط العدالة أو العدد عنده ولا تشترط عندهما. ومنهم من يقول تشترط العدالة في قولهم جميعا; لأنه من أخبار الدين والعدالة فيها شرط بالاتفاق ومنهم من يقول لا تشترط وهو الأصح; لأن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ قال عليه السلام: "نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها" فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل وفي خبر الرسول لا تشترط العدالة في المخبر فكذا هذا وقد مر بيان هذه المسألة أيضا وكذلك أي ومثل جهل هؤلاء المذكور من جهل المرأة البكر البالغة بإنكاح الولي يكون عذرا حتى لا يكون سكوتها قبل العلم رضا بالنكاح; لأن دليل العلم خفي في حقها لاستبداد الولي بالإنكاح وفيه إلزام حكم النكاح عليها فيشترط العدد أو العدالة في المبلغ عنده ولا يشترط عندهما وكان قوله مثله وقع زائدا لا حاجة إلى ذكره; لأن قوله وكذلك يدل على ما يدل هو عليه.
قوله: "وكذلك" أي وكجهل هؤلاء جهل الأمة إذا أعتقت الأمة المنكوحة ثبت لها الخيار إن شاءت أقامت مع الزوج وإن شاءت فارقته لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبريدة حين عتقت: " ملكت بضعك فاختاري" وهو يمتد إلى آخر المجلس; لأنه ثابت بتخيير الشرع فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج ويسمى هذا خيار العتاقة. فإن لم تعلم بالإعتاق أو علمت به ولكن لم تعلم بثبوت الخيار لها شرعا كان الجهل منها عذرا حتى كان لها مجلس العلم بعد ذلك لأن الدليل أي دليل العلم بكل واحد منهما خفي في حقها أما في الإعتاق فظاهر; لأن المولى مستبد به فلا يمكنها الوقوف عليه قبل الإخبار وأما في الخيار فلما ذكر شمس الأئمة رحمه الله أن سبب ثبوت الخيار وهو زيادة الملك عليها خفي لا يعلمه إلا الخواص من الناس ولأنها مشغولة بخدمة المولى فلا تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع فلا يقوم اشتهار الدليل في دار الإسلام مقام العلم ولأنها دافعة عن نفسها لزوم زيادة الملك عليها والجهل يصلح عذرا للدفع بخلاف الصغيرة إذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الأب من

(4/483)


الصغيرة البكر إذا بلغت وقد أنكحها أخوها فلم يعلم بالخيار لم تعذر وجعل سكوتها رضا; لأن دليل العلم في حقها مشهور غير مستور ولأنها تريد بذلك إلزام الفسخ ابتداء لا الدفع عن نفسها والمعتقة تدفع الزيادة عن نفسها ولهذا افترق الخياران في شرط القضاء وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
ـــــــ
الأولياء يصح النكاح ويثبت لهما الخيار في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما; لأن التزويج صدر ممن هو قاصر الشفقة بالنسبة إلى الأب وقد ظهر تأثير القصور في امتناع ثبوت الولاية في المال فيثبت لهما الخيار إذا ملكا أمر نفسهما بالبلوغ كالأمة إذا أعتقت ويسمى هذا خيار البلوغ وهو يبطل بالسكوت في جانبها إذا كانت بكرا; لأن ثبوت الخيار لها لعدم تمام الرضاء منها ورضاء البكر البالغة يتم بسكوتها شرعا كما لو زوجت بعد البلوغ فسكتت ولذا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لا يبطل خيار الغلام به. فإن لم تعلم بالنكاح وقت البلوغ كان الجهل منها عذرا لخفاء الدليل إذ الولي مستبد بالإنكاح وإن علمت بالنكاح ولم تعلم بالخيار لم تعذر وجعل سكوتها رضاء; لأن دليل العلم بالخيار في حقها مشهور غير مستور لاشتهار أحكام الشرع في دار الإسلام وعدم المانع من التعلم قال شمس الأئمة رحمه الله خيار البلوغ أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولظهوره ظن بعض الناس أنه يثبت في إنكاح الأب أيضا وهي لم تكن مشغولة قبل البلوغ بشيء يمنعها عن التعلم فكان سبيلها أن تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلا يتعذر بالجهل ولأنها أي الصغيرة تريد بذلك أي بالجهل بالخيار إلزام فسخ إنكاح على الزوج; لأن خيار البلوغ شرع لإلزام النقض لا للدفع; لأن من له الخيار لا يدفع ضررا ظاهرا فإن المسألة مصورة فيما إذا كان الزوج كفؤا والمهر وافرا ولم يفعل ذلك مجانة وفسقا فثبت أنه شرع للإلزام في حق الخصم الآخر والجهل لا يصلح حجة للإلزام والمعتقة تدفع الزيادة عن نفسها والجهل يصلح حجة للدفع ولهذا أي ولأن خيار البلوغ للإلزام وخيار المعتقة للدفع افترق الخياران في شرط القضاء فشرط القضاء لوقوع الفرقة في خيار البلوغ حتى لو مات أحدهما بعد الاختيار قبل القضاء يرثه الآخر ولم يشترط في خيار العتق بل تثبت الفرقة بنفس الخيار; لأن السبب زيادة ملك الزوج عليها فإنه قبل العتق كان يملك مراجعتها في قرأين ولم يملك عليها تطليقتين وقد ازداد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن إثبات دفع الملك عند عدم رضاها يتم بها ولا يتوقف على القضاء فكذلك دفع زيادة الملك فأما في خيار البلوغ فلا يزداد الملك وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من الولي وذلك غير متيقن به فلا تتم الفرقة إلا بالقضاء. فصار الحاصل أن الدفع في خيار العتاقة ظاهر مقصود

(4/484)


في صاحب خيار الشرط في البيع إذا فسخ العقد بغير محضر من صاحبه: إن ذلك لا يصح إلا بمحضر منه; لأن الخيار وضع لاستثناء حكم العقد لعدم الاختيار فيصير العقد به غير لازم ثم يفسخ لفوت اللزوم لا أن الخيار للفسخ لا محالة فصير هذا بالفسخ متصرفا على الآخر بما فيه إلزام فلا يصح إلا بعلمه فإن بلغه
ـــــــ
والإلزام ضمني فلا يتوقف على القضاء في خيار البلوغ الإلزام قصدي والدفع متوهم ضمني فيتوقف عليه.
قوله: "وعلى هذا الأصل" وهو أن ما فيه إلزام على الغير لا يثبت بدون علمه قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في صاحب خيار الشرط في البيع مشتريا كان أو بائعا إذا فسخ بغير محضر من صاحبه أي بغير علمه أن ذلك الفسخ لا يصح وله أن يرضى بعد ذلك ما لم يعلم الآخر بفسخه في مدة الخيار فإن علم ذلك في المدة تم الفسخ وليس له أن يرضى بعد ذلك وإن لم يعلم حتى مضت المدة بطل ذلك الفسخ وتم البيع وقال أبو يوسف رحمه الله فسخه جائز بغير محضر من الآخر وبغير علمه; لأن الخيار خالص حق من له الخيار ولهذا لا يشترط رضاء صاحبه في تصرفه بحكم الخيار وموجب الخيار الفسخ أو الإجازة ثم الإجازة تتم بغير محضر الآخر كما تتم بغير رضاه فكذا الفسخ بل أولى; لأن الخيار يشترط للفسخ لا للنفاذ إذ النفاذ ثابت بدون الخيار وهذا لأنه بمساعدة صاحبه على الشرط صار مسلطا على الفسخ من جهته ولهذا لا يشترط رضاه في تصرفه فلا يتوقف تصرفه على علمه كالوكيل إذا تصرف بغير حضرة الموكل وكالمخيرة إذا اختارت نفسها بغير حضرة الزوج بأن بلغها الخبر وهي غائبة. وهذا بخلاف عزل الوكيل حيث يتوقف على علمه; لأن الموكل ما تسلط على عزله بمعنى من قبل الوكيل وبخلاف خيار العيب; لأن المشتري هناك غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه ولهما أنه بالفسخ يلزم غيره حكما جديدا لم يكن فلا يثبت حكم تصرفه في حق ذلك الغير ما لم يعلم به كالموكل إذا عزل الوكيل حال غيبته يثبت حكم العزل في حقه ما لم يعلم به وهذا لأن الخيار وضع في الشرع لاستثناء حكم العقد لعدم الاختيار أي يمنع حكم العقد وهو الملك عن الثبوت لعدم رضاء صاحب الخيار به; لأن هذا الشرط أو الخيار داخل في الحكم دون السبب فيؤثر فيه بالمنع بمنزلة الاستثناء يمنع دخول المستثنى في صدر الكلام فيصير العقد به أي باستثناء الحكم وامتناعه عن الثبوت أو بعدم الاختيار غير لازم; لأن لفوات الاختيار والرضاء أثر في سلب اللزوم عن العقد كما في بيع المكره والهازل ثم يفسخ سائر العقود الجائزة من الوكالات والشركات والمضاربات لا أن الخيار

(4/485)


رسول صاحب الخيار صح في الثلث بلا شرط عدالة وبعد الثلاث لا يصح وإن بلغه فضولي شرط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة خلافا لمحمد رحمهما
ـــــــ
للفسخ لا محالة يعني لا أن يكون شرع الخيار لأجل الفسخ قصدا بغير علم صاحبه كما قال أبو يوسف رحمه الله إذ لو كان الخيار للفسخ لا محالة لم يكن له ولاية الإجازة; لأنها ضد الفسخ وكيف يكون للفسخ وفيه سعي في نقض ما تم من جهته وهو باطل., ألا ترى أنهما نصا على العقد وإثبات الخيار لا على الفسخ والفسخ ضد العقد فلا يكون موجبه كذا في الأسرار توضيحه أن اشتراط الخيار في العقود التي هي غير لازمة كالوكالة والشركة والمضاربة لا يجوز ولو كان اشتراط الخيار ليتمكن به من الفسخ بغير علم صاحبه لصح في هذه العقود لكونه محتاجا إليه فيها إذ هو لا يتمكن من فسخها بدون علم صاحبه وإن كان يتمكن بغير رضاه وحيث لم يصح عرفنا أن موجبه رفع صفة اللزوم فقط قال القاضي الإمام رحمه الله إن الخيار كان ثابتا للعاقد في أصل مباشرة العقد وإلزام الحكم جميعا فاستثناء أحد الخيارين ليبقى على ما كان لا يكون بإيجاب الغير له ذلك وتسليطه عليه كما إذا باع العبد إلا نصفه بقي النصف في ملكه كما كان لا أن المشتري أوجب له ملك النصف وإنما اعتبر مساعدة صاحبه; لأنه لا يرضى بعقد لا حكم له والعقد يقوم بهما فلا يثبت إلا على الوجه الذي يتراضيان عليه ثم إذا رضي به فامتناع الحكم لعدم المثبت فثبت بما ذكرنا أن ولاية الفسخ له لانتفاء صفة اللزوم في حقه لا للتسليط فيصير هذا أي صاحب الخيار بالفسخ متصرفا على الآخر بما فيه إلزام أي إلزام يوجب الفسخ عليه بغير رضاه أو إلزام الضرر عليه; لأنه ربما يتصرف في الثمن بعد مضي المدة معتمدا على صيرورة العقد لازما فيضمن فلا يصح إلا بعلمه كعزل الوكيل وحجر المأذون فصار الحاصل أن أبا يوسف رحمه الله يقول إن الخيار وإن شابه الاستثناء لكن لا بد فيه من مساعدة صاحبه في ثبوت الشرط فأشبه التسليط وهما نظرا إلى الحقيقة فقالا لما كان الخيار استثناء وهو منع الثبوت وذلك غير ثابت يعني بمعنى من الآخر كان حق الفسخ غير مسند إلى تسليط الآخر فشابه عزل الوكيل فعلى هذا الحرف تدور المسألة. فإن قيل فائدة الخيار أن لا يلزمه حكم العقد إلا برضاه وفي التوقيف على علم صاحبه إضرار به; لأن مدة الخيار مقدرة ومن الجائز أن يغيب في مدة الخيار فتفوت فائدة شرط الخيار; لأن العقد يلزمه بدون رضاه قلنا إن التصرف متى توقف على شرطه فامتناع نفاذه لعدم الشرط لا يعد من باب الإضرار كالموكل لا يملك عزل الوكيل وتدارك حقه فيما بدا له من العزل لعدم شرط استيفاء حقه بلا شرط عدالة; لأن الرسول قائم مقام المرسل وبعد الثلث لا يصح أصلا كما لو أخبره بنفسه للزوم العقد بمضي المدة وإن بلغه فضولي شرط العدد

(4/486)


الله فإن وجد أحدهما صح التبليغ في الثلاث ونفذ الفسخ وبعد الثلاث لا يصح وبطل الفسخ وأبو يوسف جعل صاحب الخيار مسلطا على الفسخ من قبل صاحبه فأضيف ما يلزمه صاحبه إلى التزامه والله أعلم.
ـــــــ
أو العدالة عند أبي حنيفة رحمه الله لوجود معنى الإلزام في هذا الخبر خلافا لمحمد رحمه الله; لأنه وإن وافقه في تحقق معنى الإلزام فيه لكنه لا يشترط في مثل هذا الخبر عددا ولا عدالة ونفذ الفسخ لوجود شرطه وهو علم صاحبه به في مدة الخيار وبعد الثلاث لا يصح التبليغ وإن وجد العدد والعدالة جميعا لصيرورة العقد; لأنه ما يمضي المدة وبطل الفسخ لفوات شرطه وهو حصول العلم في المدة واشتراط الثلاث في هذه المسائل على أصل أبي حنيفة فأما عند محمد رحمهما الله فيعتبر نفس المدة ثلثا كانت أو غيره والله أعلم.

(4/487)


فصل في السكر
وهو القسم الثاني السكر
نوعان سكر بطريق مباح وسكر بطريق محظور أما السكر بالمباح مثل من أكره على شرب الخمر بالقتل فإنه يحل له, وكذلك المضطر إذا شرب منها ما يرد به العطش فسكر به, وكذلك إذا شرب دواء فسكر به مثل البنج والأفيون أو
ـــــــ
"فصل السكر"
وهو القسم الثاني يعني من أقسام العوارض المكتسبة قيل هو سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب الموجبة له فيمنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله ولهذا بقي السكران أهلا للخطاب فعلى هذا القول لا يكون ما حصل من شرب الدواء مثل الأفيون من أقسام السكر; لأنه ليس بسرور وقيل هو غفلة تلحق الإنسان مع فتور في الأعضاء بمباشرة بعض الأسباب الموجبة لها من غير مرض وعلة وقيل هو معنى يزول به العقل عند مباشرة بعض الأسباب المزيلة فعلى هذا القول بقاؤه مخاطبا بعد زوال العقل يكون أمرا حكميا ثابتا بطريق الزجر عليه لمباشرته المحرم لا أن يكون العقل باقيا حقيقة; لأنه يعرف بأثره ولم يبق للسكران من آثار العقل شيء فلا يحكم ببقائه قال الشيخ الحكيم محمد بن علي الترمذي رحمه الله في نوادره العقل في الرأس وشعاعه في الصدر والقلب فالقلب يهتدي بنوره لتدبير الأمور وتمييز الحسن من القبيح فإذا شرب الخمر خلص أثرها إلى الصدر فحال بينه وبين نور العقل فبقي الصدر مظلما فلم ينتفع القلب بنور العقل فسمي ذلك سكرا; لأنه سكر حاجز بينه وبين نور العقل فمن أجاز طلاق السكران يفرق بينه وبين الصبي فيقول إن السكر سد والعقل وراء السد قائم والصبي لم يعط عقل الحجة وهو تمام العقل الذي تقوم به حجة الله تعالى على عباده.
قوله: "مثل البنج" ذكر القاضي الإمام فخر الدين المعروف بخان رحمه الله في فتاويه وشرحه للجامع الصغير ناقلا عن أبي حنيفة وسفيان الثوري أن الرجل إن كان عالما بفعل البنج وتأثيره في العقل ثم أقدم على أكله فإنه يصح طلاقه وعتاقه وذكر في

(4/488)


شرب لبنا فسكر به, وكذلك على قول أبي حنيفة إذا شرب شرابا يتخذ من الحنطة والشعير والعسل فسكر منه حتى لم يحد على قوله في ظاهر الجواب فإن السكر في هذه المواضع بمنزلة الإغماء يمنع من صحة الطلاق والعتاق وسائر التصرفات; لأن ذلك ليس من جنس اللهو فصار من أقسام المرض, وبعض
ـــــــ
المبسوط لا بأس أن يتداوى الإنسان بالبنج فإذا أراد أن يذهب عقله منه به فلا ينبغي له أن يفعل ذلك; لأن الشرب على قصد السكر حرام.
قوله: "حتى لم يحد على قوله في ظاهر الجواب" ذكر الشيخ رحمه الله في شرح الجامع الصغير أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل حلال في قول أبي حنيفة رحمه الله حتى إن الحد لا يجب وإن سكر في قوله وروي عن محمد رحمه الله أن ذلك حرام يجب الحد بالسكر منه وكذلك السكران منه إذا طلق امرأته لم يقع عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة الطلاق من النائم والمغمى عليه وعند محمد رحمه الله يقع بمنزلة السكران من الأشربة المحرمة ولم يذكر تفصيلا بين المطبوخ وغيره وذكر القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله في شرح الجامع الصغير أن المتخذ من الحبوب والفواكه والعسل إذا غلى واشتد إن كان مطبوخا أدنى طبخة يحل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بمنزلة نقيع الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة واختلف المشايخ على قول محمد رحمه الله قال بعضهم يحل شربه إلا القدح المسكر. وروى القاضي أبو جعفر رواية عن محمد أنه يكره وإن لم يطبخ حتى غلى واشتد فعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله روايتان في رواية لا يحل شربه كنقيع الزبيب إذا لم يكن مطبوخا وفي رواية يحل شربه; لأن هذه الأشربة لم تتخذ من أصل الخمر فلا يشترط فيه الطبخ بخلاف نقيع الزبيب وهذا إذا لم يستكثر فإن استكثر حتى سكر فالسكر حرام بالإجماع واختلف في وجوب الحد وفي نفاذ تصرفاته فمن أوجب الحد ألحقه بنبيذ التمر ومن لم يوجب قال هو متخذ مما ليس من أصل الخمر فكان بمنزلة لبن الرماك. وذكر شمس الأئمة في المبسوط بعد ذكر الأشربة المحرمة ولا بأس بالشرب من سائر الأنبذة من العسل والذرة والحنطة والشعير معتقا كان أو غير معتق مطبوخا أو غير مطبوخ في ظاهر الرواية, وروي في النوادر هشام عن محمد رحمهما الله إن شرب النيء منه بعدما اشتد لا يحل. وذكر الدلائل من الجانبين ثم قال ولا حد على من شرب مما يتخذ من العسل والحنطة والشعير والذرة والفانيذ والكمثرى وما أشبه ذلك سكر أو لم يسكر; لأن النص ورد بالحد في الخمر وهذا ليس في معناه فلو أوجبنا فيه الحد كان بطريق القياس ولم يذكر فيه خلافا لأن ذلك أي ما ذكرنا من الأشربة ليس من جنس ما يتلهى به أو السكر الحاصل بها ليس من جنس اللهو وبعض هذه الجملة

(4/489)


هذه الجملة مذكور في النوادر. وأما السكر المحظور فهو السكر من كل شراب محرم, وكذلك السكر من النبيذ المثلث أو نبيذ الزبيب المطبوخ المعتق; لأن هذا وإن كان حلالا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فإنما يحل بشرط أن لا يسكر منه وذلك من جنس ما يتلهى به فيصير السكر منه مثل السكر من الشراب المحرم. ألا ترى أنه يوجب الحد وهذا السكر بالإجماع لا ينافي الخطاب قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وإن كان هذا خطابا في حال السكر فلا شبهة فيه وإن كان في
ـــــــ
وهو البنج ولبن الرماك والأفيون مذكور في النوادر فأما المتخذ من الشعير والحنطة والعسل فمذكور في الجامع الصغير والمبسوط.
قوله: "وكذا السكر من النبيذ المثلث" عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه بالنار وبقي ثلثه ثم رقق بالماء وترك حتى اشتد يسمى مثلثا ويحل شربه عند أبي حنيفة وأبي يوسف لاستمراء الطعام والتداوي والتقوي دون التلهي واللعب. وقال محمد رحمه الله لا يحل شربه ويروى عنه أنه مكروه واتفق أصحابنا أنه لو سكر منه يجب الحد وإن طلاق السكران منه وبيعه وإقراره جائز ونبيذ الزبيب ونقيعه هو الماء الذي ألقي فيه الزبيب ليخرج حلاوته إليه ثم هو إن لم يطبخ حتى اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو حرام للآثار الواردة فيه وإن اشتد بعد ما طبخ أدنى طبخة يحل شرب القليل منه عندهما في ظاهر الرواية وروى هشام في النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ لا يحل كالعصير فقوله من النبيذ المثلث يحتمل أن يكون المراد منه المثلث الذي بينا; لأنه في معنى النبيذ من حيث إنه يخلط بالماء للترقيق. ويجوز أن يراد منه نبيذ الزبيب المثلث على رواية هشام ومن الثاني المطبوخ أدنى طبخة والشرب إلى السكر من جميع هذه الأشربة حرام بالاتفاق لقوله عليه السلام: "حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب" والمعتق المشتد وتعتيق الخمر تركها لتصير عتيقة أي قديمة شديدة لأن ذلك أي المثلث أو نبيذ الزبيب من جنس ما يتلهى به; لأنه متخذ من العنب كالخمر والفساق يستعملونه استعمال الخمر للتلهي والفسق فيكون السكر منه محظورا, ألا يرى أنه يوجب الحد; لأنه مشروع للزجر عن ارتكاب سببه ودعا الطبع إلى الشراب المتخذ من العنب والزبيب حاصل فيحتاج إلى الزاجر بخلاف المتخذ من الحبوب.
قوله: "وهذا السكر" أي السكر المحظور لا ينافي الخطاب بالإجماع; لأنه تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}

(4/490)


حال الصحو فكذلك, ألا ترى أنه لا يقال للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا وإذا ثبت أنه مخاطب ثبت أن السكر لا يبطل شيئا من الأهلية فيلزمه أحكام الشرع
ـــــــ
[النساء: 43] فإن كان هذا خطابا في حال سكره بلا شبهة فيه أي في أنه لا ينافي الخطاب وإن كان في حال الصحو فكذلك أي يدل على أنه لا ينافي الخطاب أيضا إذ لو كان منافيا له لصار كأنه قيل لهم إذا سكرتم وخرجتم عن أهلية الخطاب فلا تصلوا; لأن الواو للحال والأحوال شروط وحينئذ يصير كقولك للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا وفساده ظاهر; لأنه إضافة الخطاب إلى حالة منافية له ولما صح هاهنا عرفنا أنه أهل للخطاب في حالة السكر فإن قيل السكر يعجزه عن استعمال العقل وفهم الخطاب كالنوم والإغماء فينبغي أن يسقط الخطاب عنه أو يتأخر كالنائم والمغمى عليه وإن لا يصح منه ما تبتنى على صحة العبارة.
قلنا الخطاب إنما يتوجه على العبد باعتدال الحال وأقيم السبب الظاهر وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا لعذر للوقوف على حقيقته وبالسكر لا يفوت هذا المعنى ثم قدرته على فهم الخطاب إن فاتت بآفة سماوية يصلح عذرا في سقوط الخطاب أو تأخره عنه لئلا يؤدي إلى تكليف ما ليس في الوسع وإلى الحرج فأما إذا فاتت من جهة العبد بسبب هو معصية عدت قائمة زجرا عليه فبقي الخطاب متوجها عليه, وذلك لأنه لما كان في وسعه دفع السكر عن نفسه بالامتناع عن الشرب كان هو بالإقدام على الشرب مضيعا للقدرة فيبقى التكليف متوجها عليه في حق الإثم وإن لم تبق في حق الأداء وبهذا الطريق بقي التكليف بالعبادات في حقه وإن كان لا يقدر على الأداء ولا يصح منه الأداء كذا في شرح التأويلات وإذا ثبت أن السكران مخاطب ثبت أن السكر لا يبطل شيئا من الأهلية; لأنها بالعقل والبلوغ, والسكر لا يؤثر في العقل بالإعدام فيلزمه أحكام الشرع كلها من الصلاة والصوم وغيرهما وتصح عباراته كلها بالطلاق والعتاق وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وفي قوله الآخر لا يصح وهو قول مالك أو اختيار أبي الحسن الكرخي وأبي جعفر الطحاوي من أصحابنا ونقل ذلك عن عثمان رضي الله عنه أيضا; لأن غفلته فوق غفلة النائم فإن النائم ينتبه إذا نبه والسكران لا ينتبه ثم طلاق النائم وعتاقه لا يقع فطلاق السكران وعتاقه أولى وقد مر الجواب عنه. ويصح بيعه وشراؤه وإقراره وتزويجه الولد الصغير وتزوجه وإقراضه واستقراضه وسائر تصرفاته قولا وفعلا عندنا; لأنه مخاطب كالصاحي وبالسكر لا ينعدم عقله إنما يغلب عليه السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يؤثر في تصرفه سواء شرب مكرها أو طائعا كذا في أشربة المبسوط, وذكر في شرح الجامع الصغير لقاضي خان رحمه الله وإن شرب المسكر مكرها ثم طلق أو أعتق اختلفوا

(4/491)


كلها ويصح عباراته كلها بالطلاق والعتاق والبيع والشري والأقارير وإنما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة حتى إن السكران إذا تكلم بكلمة الكفر لم تبن منه امرأته استحسانا وإذا أسلم يجب أن يصح إسلامه كإسلام المكره وإذا أقره
ـــــــ
به والصحيح أنه كما لا يجب عليه الحد لا ينفذ تصرفه وإنما ينعدم بالسكر القصد أي القصد الصحيح وهو العزم على الشيء; لأن ذلك ينشأ عن نور العقل وقد احتجب ذلك عنه بالسكر دون العبارة; لأنها توجد حسا وصحتها تبتنى على أهل العقل حتى إن السكران إذا تكلم بكلمة الكفر لم تبن منه امرأته استحسانا وفي القياس وهو قول أبي يوسف على ما ذكر في شرح التأويلات تبين منه امرأته; لأنه مخاطب كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله وجه الاستحسان أن الردة تبتنى على القصد والاعتقاد ونحن نعلم أن السكران غير معتقد لما يقول بدليل أنه لا يذكره بعد الصحو وما كان عن عقد القلب لا ينسى خصوصا المذاهب فإنها تختار عن فكر ورؤية وعما هو الأحق من الأمور عنده وإذا كان كذلك كان هذا عمل اللسان دون القلب فلا يكون اللسان معبرا عما في الضمير فجعل كأنه لم ينطق به حكما كما لو جرى على لسان الصاحي كلمة الكفر خطأ كيف ولا ينجو سكران من التكلم بكلمة الكفر عادة وهذا بخلاف ما إذا تكلم بالكفر هازلا; لأنه بنفسه استخفاف بالدين وهو كفر وقد صدر عن قصد صحيح فيعتبر. وتمسك بعضهم بما روي أن واحدا من كبار الصحابة سكر حين كان الشراب حلالا فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنتم إلا عبيدي وعبيد آبائي ولم يجعل ذلك منه كفرا وقرأ سكران سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في صلاة المغرب وترك اللاءات فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} 1 [النساء: 43] ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره ولا بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان فدل أن بالتكلم بكلمة الكفر في حال السكر لا يحكم بالردة كما لا يحكم بها في حالة الخطأ والجنون فلا تبين منه امرأته.
ولقائل أن يقول هذا التمسك غير مستقيم هاهنا أن كلامنا في السكر المحظور وكان ذلك السكر مباحا; لأن الشرب كان حلالا فصيرورته عذرا في عدم اعتبار الردة لا يدل على صيرورته المحظور عذرا فيه. وإذا أسلم الكافر في حال السكر يجب أن يصح إسلامه بوجود أحد الركنين ترجيحا لجانب الإسلام كما في المكره ولا يقال ينبغي أن لا يصح إيمانه أن دليل الرجوع وهو السكر يقارنه فيمنعه من الثبوت لأنا نقول إنه لا يقبل الرجوع; لأن الرجوع ردة فلا يؤثر فيه دليل الرجوع ولو أثبتنا الردة فالسكر مانع من صحتها فلا
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 3026 وأبو داود في الأشربة حديث رقم 3671.

(4/492)


بالقصاص أو باشر سبب القصاص لزمه حكمه وإذا قذف أو أقر به لزمه الحد; لأن السكر دليل الرجوع وذلك لا يبطل بصريحه فبدليله أولى وإن زنى في سكره حد إذا صحا وإذا أقر أنه سكر من الخمر طائعا لم يحد حتى يصحو فيقر أو يقوم عليه البينة وإذا أقر بشيء من الحدود لم يؤخذ به إلا بحد القذف وإنما لم يوضع عنه الخطاب ولزمه أحكام الشرع; لأن السكر لا يزيل العقل لكنه سرور غلبه فإن كان سببه معصية لم يعد عذرا, وكذلك. إذا كان مباحا مقيدا وهو مما
ـــــــ
يمكن إثباتها بما يمنع عن ثبوتها; لأن السكر دليل الرجوع إذ السكران لا يكاد يستقر على أمر ويثبت على كلام وذلك أي الإقرار بالقصاص والقذف ومباشرة سببهما لا يبطل بصريح الرجوع; لأن مباشرة السبب أمر معاين لا يقبل الرجوع وكذا الإقرار بالقصاص والقذف; لأنهما من حقوق العباد فبدليل الرجوع وهو السكر أولى أن لا يبطل وفي المبسوط وإذا قذف السكران رجلا حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ثم يحبس حتى يجف عليه الضرب ثم يحد للسكر; لأن حد القذف فيه معنى حق العباد فيقدم على حد السكر ولا يوالي بينهما في الإقامة لئلا يؤدي إلى التلف وسكره لا يمنع وجوب الحد عليه بالقذف; لأنه مع سكره مخاطب. ألا ترى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذوا حد الشرب من حد القذف على ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله تعالى ثمانون جلدة وإذا زنى في سكره حد إذا صحا يعني إذا ثبت ذلك بالبينة; لأنه أمر مشاهد لأمر دله والسكر لا يصلح شبهة دارئة; لأنه حصل بسبب هو معصية فلا يصلح سببا للتخفيف لكن الحد يؤخر إلى الصحو; لأن المقصود وهو الانزجار لا يحصل بالإقامة في حالة السكر. وإذا أقر أنه سكر من الخمر طائعا لم يحد حتى يصحو فيقر ثانيا أو تقوم عليه البينة أنه سكر طائعا لما قلنا إن السكر أن لا يثبت على كلام ولكنه يتكلم بالشيء وضده والإصرار على الإقرار بالسبب لا بد منه لإيجاب حد الخمر وإذا أقر بشيء من الحدود لم يؤخذ به إلا بحد القذف; لأن الرجوع عن الإقرار بالحدود يصح فيما سوى حد القذف وقد قارنه هاهنا دليل الرجوع وهو السكر فمنعه عن الثبوت; لأن المنع أسهل من الرفع ثم أشار الشيخ رحمه الله إلى دلائل ما ذكر بقوله من الأحكام وإنما لم يوضع عن السكران إلى آخره فإن كان سببه أي سبب السكر معصية بأن شرب الخمر أو الباذق أو نحوهما من الأشربة المحرمة لم يعد السكر عذرا في سقوط الخطاب; لأن المعصية لا تصلح سببا للتخفيف وكذلك أي وكذا الحكم إن كان سببه مباحا مقيدا بشرط الاحتراز عن السكر وذلك السبب مما يتلهى به في أصل وضعه كالمثلث ونبيذ الزبيب المطبوخ المعتق ونحوهما. وقوله: وهو مما يتلهى به بيان التقيد

(4/493)


يتلهى به في الأصل وإذا كان مباحا جعل عذرا. وأما ما تعتمد الاعتقاد مثل الردة فإن ذلك لا يثبت استحسانا لعدم ركنه لا أن السكر جعل عذرا وما يبتنى على صحة العبارة فقد وجد ركنه والسكر لا يصلح عذرا. وأما الحدود فإنها تقام عليه إذا صحا لما بينا أن السكر بعينه ليس بعذر ولا شبهة إلا أن من عادة السكر أن اختلاط الكلام هو أصله ولا ثبات له على الكلام, ألا ترى أنهم اتفقوا أن السكر لا يثبت بدون هذا الحد وقد زاد أبو حنيفة في حق الحدود فيحتمل أن يكون حده في غير الحد هو أن يختلط كلامه ويهذي غالبا وإذا كان ذلك أقيم السكر
ـــــــ
بالاحتراز عن السكر فيما يتلهى به لا في غيره وإذا كان سببه مباحا يعني على الإطلاق غير مقيد بالاحتراز عن السكر كالأشربة المتخذة من الحبوب ونحوها جعل عذرا; لأن هذه الأشياء لم تكن للتلهي في الأصل بل هي للتغذي ولا أثر لتغيرها في الحرمة; لأن تغير الطعام لا يؤثر في الحرمة وكذا نفس الشدة لا توجب الحرمة; لأنها توجد في بعض الأدوية كالبنج وفي بعض الأشربة كاللبن كذا في المبسوط.
قوله: "لأن السكر جعل عذرا" إشارة إلى الجواب عما يقال قد جعل السكر المحظور عذرا في الردة حتى منع صحتها فيجوز أن يجعل عذرا في غيرها أيضا فقال عدم صحة الردة لفوات ركنها وهو تبدل الاعتقاد, لا لأن السكر جعل عذرا فيها بخلاف ما يبتنى على العبارة من الأحكام مثل الطلاق والعتاق والعقود; لأن ركن التصرف قد تحقق فيها من الأهل مضافا إلى المحل فوجب القول بصحتها إلا أن أي لكن استدراك من قوله أما الحدود فإنها تقام عليه يعني السكر غير مانع من صحة الإقرار بسببه; لأن من عادة السكران اختلاط الكلام وعدم الثبات على كلام هو أصله أي اختلاط الكلام أصل في السكر ألا ترى أن أصحابنا اتفقوا أن السكر لا يثبت بدون هذا الحد أي بدون اختلاط الكلام فعرفنا أنه هو الأصل فيه وزاد عليه أي على اشتراط اختلاط الكلام لثبوت السكر أبو حنيفة رحمه الله شرطا آخر في حق وجوب الحد عليه فقال السكر الذي يتعلق به الحد أن لا يعرف الأرض من السماء ولا الأنثى من الذكر اعتبارا للنهاية في السبب الموجب للحد كما في الزنا والسرقة; لأنه إذا كان يميز بين الأشياء كان مستعملا لعقله من وجه فلا يكون ذلك نهاية السكر وفي اليقظان شبهة العدم والحد يندرئ بالشبهات فيحتمل أن يكون حده أي حد السكر على قوله في حق غير وجوب الحد من الأحكام هو اختلاط الكلام وغلبة الهذيان كما هو مذهبهما حتى لا يصح إقراره بالحدود ولا ارتداده في هذه الحالة بالاتفاق; لأن من اختلط كلامه بالشرب يعد سكران في الناس عرفا ويؤيده قوله تعالى: {لا

(4/494)


مقام الرجوع فلم تعمل فيما يعاين من أسباب الحد وعمل في الإقرار الذي يحتمل الرجوع ولم يعمل فيما لا يحتمله وهو الإقرار بحد القذف والقصاص.
ـــــــ
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قال شمس الأئمة رحمه الله وقد وافقهما يعني أبا حنيفة رحمه الله في أن المعتبر في السكر الذي يحرم عنده الشرب هو اختلاط الكلام; لأن اعتبار النهاية فيما يندرئ بالشبهة فأما الحل والحرمة فيؤخذ فيهما بالاحتياط قال وأكثر مشايخنا على قولهما. وإذا كان كذلك أي كان السكران مختلط الكلام أو كان اختلاط الكلام أصلا في السكر أقيم السكر مقام الرجوع إلى آخره والله أعلم.

(4/495)


"فصل الهزل"
وهو القسم الثالث
وأما الهزل فتفسيره اللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له وهو ضد الجد وهو أن يراد بالشيء ما وضع له فصار الهزل ينافي اختيار الحكم والرضا به ولا ينافي الرضاء بالمباشرة واختيار المباشرة فصار بمعنى خيار الشرط في البيع
ـــــــ
"فصل الهزل"
وأما الهزل فتفسيره اللعب وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ليس المراد من الوضع هاهنا وضع أهل اللغة لا غير كالأسد للهيكل المعلوم والإنسان للحيوان الناطق بل المراد وضع العقل أو الشرع فإن الكلام موضوع عقلا لإفادة معناه حقيقة كان أو مجازا والتصرف الشرعي موضوع لإفادة حكمه فإذا أريد بالكلام غير موضوعه العقلي وهو عدم إفادة معناه أصلا أريد بالتصرف غير موضوعه الشرعي وهو عدم إفادته الحكم أصلا فهو الهزل وتبين بما ذكرنا الفرق بين المجاز والهزل فإن الموضوع العقلي الكلام وهو إفادة المعنى في المجاز مرادا وإن لم يكن الموضوع له اللغوي مرادا وفي الهزل كلاهما ليس بمراد ولهذا فسره الشيخ باللعب إذ اللعب ما لا يفيد فائدة أصلا وهو معنى ما نقل عن الشيخ أبي منصور رحمه الله أن الهزل ما لا يراد به معنى وعبارة بعضهم أن الهزل كلام لا يقصد به ما صلح له الكلام بطريق الحقيقة ولا ما صلح له بطريق المجاز. وقوله وهو ضد الجد إشارة إلى أنه مخالف للمجاز كما أنه مخالف للحقيقة; لأن مقابل المجاز الحقيقة ومقابل الهزل الجد والمجاز داخل في الجد كالحقيقة فكان الهزل مخالفا لهما ولهذا جاز المجاز في كلام صاحب الشرع ولا يجوز الهزل فيه لاستلزامه خلوه عن الإفادة وهو باطل فصار الهزل ينافي اختيار الحكم والرضاء به يعني لما كان تفسير الهزل ما قلنا إنه لا يرد به ما وضع له كان الهزل منافيا لاختيار الحكم والرضاء به ضرورة ولكنه لا ينافي الرضاء بمباشرة السبب واختيار المباشرة; لأن الهازل يتكلم بما هزل به عن اختيار ورضاء فصار الهزل في جميع التصرفات بمنزلة خيار الشرط فإن الخيار بعدم الرضاء والاختيار

(4/496)


أنه بعدم الرضاء والاختيار جميعا في حق الحكم ولا يعدم الرضاء والاختيار في حق مباشرة السبب هذا تفسير الهزل وأثره وشرطه أن يكون صريحا مشروطا باللسان إلا أنه لا يشترط ذكره في نفس العقد بخلاف خيار الشرط والتلجئة هي الهزل وإذا كان كذلك لم يكن منافيا للأهلية ولا لوجوب شيء من الأحكام ولا عذرا في وضع الخطاب بحال لكنه لما كان أثره ما. قلنا وجب النظر في الأحكام كيف ينقسم في حق الرضاء والاختيار فيجب تخريجها على هذا الحد وذلك على وجوه إما إن يدخل التلجئة والهزل فيما لا يحتمل النقض أو فيما يحتمله فهذا وجه ووجه آخر أن يدخل على الإقرار بما ينفسخ أو لا ووجه آخر أن يدخل فيما
ـــــــ
جميعا في حق الحكم; لأن عمله في الحكم لا غير ولا يعدم الرضاء والاختيار في حق مباشرة السبب; لأن قوله بعت واشتريت يوجد برضاء العاقد واختياره فكذا في الهزل يوجد الرضاء والاختيار في حق السبب ولا يوجد في حق الحكم إلا أن الهزل في البيع يفسده وخيار الشرط لا يفسده على ما سنبينه وإنما جمع بين الرضاء والاختيار; لأن الاختيار قد ينفك عن الرضاء كما في مسائل الإكراه وشرطه أي شرط ثبوت الهزل واعتباره في التصرفات أن يكون صريحا مشروطا باللسان بأن تقول إني أبيع هذا الشيء هازلا أو أتصرف التصرف الفلاني هازلا ولا يكتفى فيه بدلالة الحال. إلا أنه لا يشترط ذكر الهازل في العقد إذ لو شرط ذلك لا يحصل المقصود وهو أن يعتقد الناس التصرف الذي هزل به جدا ولا يكون كذلك حقيقة بخلاف خيار الشرط فإنه يشترط ذكره في نفس العقد ولا يكتفى باشتراطه باللسان قبل العقد; لأنه لدفع الغبن ومنع الحكم عن الثبوت بعد انعقاد السبب ولا يحصل ذلك إلا بأن يكون متصلا بالعقد والتلجئة هي الهزل ذكر في المغرب أن التلجئة أن تلجئك إلى أن تأتي أمرا باطنه خلاف ظاهره فتكون التلجئة نوعا من الهزل والهزل أعم منها; لأن اشتراطه قد يكون سابقا على العقد وقد يكون مقارنا له بأن نقول بعتك هازلا واشتراط التلجئة لا يكون إلا سابقا على العقد كذا قيل والأظهر أنهما سواء في الاصطلاح كما أشار إليه الشيخ وفي المبسوط معنى قوله ألجئ إليك داري أجعلك ظهرا لا تمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا والمراد هذا المعنى وقيل معناه أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع معك ولست بقاصد حقيقة لكنه الضمير للشأن لما كان أثر الهزل ما قلنا إنه ينافي اختيار الحكم والرضاء به فيجب تخريجها أي تخريج الأحكام مع الهزل على هذا الحد أي على انقسامها في حكم الرضاء والاختيار فكل حكم يتعلق بالسبب ولا يتوقف ثبوته على الرضاء والاختيار يثبت مع الهزل وكل حكم يتعلق بالرضاء والاختيار لا يثبت مع الهزل كما

(4/497)


يبتنى على الاعتقاد وذلك وجهان الإيمان والردة, فأما إذا دخل فيما تحتمل النقض مثل البيع والإجارة وذلك على ثلاثة أوجه إما أن يهزلا بأصله أو بقدر العوض أو بجنسه وكل وجه على أربعة أوجه إما إن يتواضعا على الهزل ثم يتفقا على الإعراض أو على البناء أو على أن لا يحضرهما شيء أو يختلفا فأما إذا تواضعا على الهزل بأصله ثم اتفقا على البناء فإن البيع منعقد لما قلنا إن الهازل مختار وراض بمباشرة السبب لكنه غير مختار ولا راض بحكمه وكان بمنزلة خيار الشرط مؤبدا فانعقد العقد فاسدا غير موجب للملك كخيار المتبايعين معا على احتمال الجواز كرجل باع عبدا على أنه بالخيار أبدا أو على أنهما بالخيار
ـــــــ
سيأتيك بيانه. وذلك أي تخريج الأحكام مع الهزل بحسب انقسامها في الرضاء على وجوه فيما يحتمل النقض, مثل البيع والإجارة أو فيما لا يحتمله, مثل الطلاق والعتاق فهذا وجه إنما جعلهما وجها ليصير الجميع أربعة إذ أكثر تقاسيم الكتاب عليها. المواضعة الموافقة يقال واضعته في الأمر إذا وافقته عليه والتواضع هاهنا بمعنى التوافق على الشيء فانعقد العقد فاسدا غير موجب للملك وإن حصل القبض بخلاف ما إذا كان الفساد في البيع بوجه آخر حيث يوجب الملك عند القبض; لأن الهزل ألحق بشرط الخيار وأنه يمنع ثبوت الملك في العقد الصحيح ففي العقد الفاسد أولى أن يمنع كخيار المتبايعين معا يعني إذا شرط الخيار لكل واحد من المتبايعين في العقد لا يثبت الملك به لواحد منهما; لأن خيار كل واحد يمنع زوال ملكه عما في يده فكذا الهزل; لأنهما لما اتفقا عليه صار كل واحد منهما هازلا فكان بمنزلة اشتراط الخيار لهما على احتمال الجواز متصل بقوله انعقد فاسدا فإن نقض العقد أحدهما يعني في مسألة الهزل انتقضت; لأن لكل واحد منهما ولاية النقض فينفرد به وإن أجازاه جاز; لأن البيع إنما لم يكن مفيدا حكمه لعدم اختيارهما للحكم وقد اختار ذلك بالإجازة وإن أجاز أحدهما وسكت الآخر لم يجز على صاحبه; لأن الهزل لما كان بمنزلة اشتراط الخيار لهما كان المخير مسقطا خياره ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد فإن أجاز صاحبه بعد فالبيع جائز; لأنهما قد أسقطا خيارهما. وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون وقت الإجازة مقدرا بالثلاث حتى لو أجازاه في الثلاث صح العقد بعده لم يصح كما في الخيار المؤبد لو أسقطاه في الثلث يصح لتقرر الفساد بمضي المدة كذا هاهنا.
ولهذا أي ولأن الهزل بمنزلة خيار المتبايعين لم يقع الملك بهذا البيع هزلا وإن اتصل به القبض حتى لو كان المبيع عبدا فقبضه المشتري وأعتقه لا ينفذ; لأن الملك غير

(4/498)


أبدا فإن نقضه أحدهما ينقض وإن أجازاه جاز وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن تكون مقدرا بالثلاث وهذا لم يقع الملك بهذا البيع وإن اتصل به القبض ودلالة هذه الجملة أن الهزل لا يؤثر في النكاح بالسنة فعلم به أنه لا ينافي الإيجاب وإنما دخل على الحكم. وأما إذا اتفقا على الإعراض فإن البيع صحيح وقد بطل الهزل بإعراضهما عن المواضعة وإن اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا في البناء والإعراض فإن العقد صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله في الحالين فجعل صحة الإيجاب أولى إذا سكتا, وكذلك إذا اختلفا, وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا سكتا واتفقا على أنه لم يحضرهما شيء فإن العقد باطل وإن اختلفا فالقول قول من يدعي البناء فاعتبر المواضعة وأوجب العمل بها إلا أن يوجد النص على ما ينقضها كذلك حكى محمد عن أبي
ـــــــ
ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فيتوقف الحكم على اختيارهما له فقبل الاختيار لا ملك للمشتري فلا ينفذ إعتاقه بخلاف المشتري من المكره مختارا للحكم غير راض به; لأن الحكم للجد من الكلام وإنما أكره على الجد وأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ إعتاقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيع تلجئة فباعه لم يجز إعتاق المشتري فيه أيضا ودلالة هذه الجملة أي الدليل على ما ذكرنا أن الهزل لا ينافي الأهلية ولا الاختيار والرضاء بمباشرة السبب أن الهزل لا يؤثر في النكاح بالنسبة وهي قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين" فعلم به أي بعدم تأثيره في النكاح أنه لا ينافي الإيجاب أي السبب إذ لو كان منافيا لنفس الكلام وانعقاده سببا لما صح النكاح; لأنه لا ينعقد بالكلام الفاسد, ألا ترى أنه لا ينعقد بعبارة المجنون لفسادها فعلم أن كلام الهازل صحيح في انعقاده سببا.
قوله: "وأما إذا اتفقا على الإعراض" عن المواضعة فالبيع صحيح لازم; لأن تلك المواضعة لم تكن لازمة فترتفع بما قصدا من الجد, ألا ترى أن العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد الأول فالعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء عند العقد أو اختلفا في البناء والإعراض فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر بل أعرضنا عنها فإن العقد صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله في الحالين أي فيما إذا لم يحضرهما شيء وفيما إذا اختلفا فإن العقد باطل أي فاسد إلا أن يوجد النص على ما ينقضها وهو اتفاقهما على الإعراض كذلك أي كما بينا أن العقد صحيح قوله أي قول أبي حنيفة رحمه الله في كتاب الإقرار لكن أبا يوسف قال قال أبو

(4/499)


يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله قوله في كتاب الإقرار لكنه قال: قال أبو حنيفة رحمه الله فيما أعلم, وقول أبي يوسف فيما أعلم ليس بشك في الرواية; لأن مذهب أبي يوسف رحمه الله أن من قال لفلان علي ألف درهم فيما أعلم أنه لازم ومنهم من اعتبر هذا بقول الشاهد عند القاضي أشهد أن لهذا على هذا ألف درهم فيما أعلم أنه باطل فلم يثبت الاختلاف. والصحيح هو الأول وقوله فيما أعلم ملحق برواية أبي يوسف لا بفتوى أبي حنيفة قال أبو حنيفة
ـــــــ
حنيفة رحمهما الله فيما أعلم يعني ذكر أبو يوسف لفظة فيما أعلم حين روى قول أبي حنيفة وذلك لا يوجب شكا في الرواية; لأن من مذهب أبي يوسف رحمه الله أن من قال لفلان علي ألف درهم فيما أعلم أنه لازم; لأنه يخبر عن واجب عليه والإنسان يعرف حقيقة الحال فيما عليه فكان قوله فيما أعلم بمنزلة قوله فيما أتيقن به وكان الإخبار عن نفسه بالعلم مؤكدا لإقراره لا مبطلا له فكذلك هاهنا يكون قوله فيما أعلم تأكيدا للرواية أنه يخبر عن تحقق لا تشكيكا فيكون الخلاف ثابتا في المسألتين ومنهم أي ومن المشايخ من اعتبر هذا أي قوله فيما أعلم هاهنا بقول الشاهد أشهد أن لهذا على هذا ألف درهم فيما أعلم أنه أي قول الشاهد باطل بالاتفاق; لأن قوله فيما أعلم استثناء ليقينه وبيان لشكه بمنزلة فيما أحسب أو أظن فكذا هاهنا يكون قوله فيما أعلم تشكيكا; لأن الرواية عن الغير كالشهادة عليه فلم يثبت الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله; لأن ما روي لما لم يثبت للشك والأصل هو الموافقة لم يثبت الاختلاف فيكون البيع فاسدا في المسألتين بالاتفاق. والصحيح هو الأول وهو أن قوله هاهنا للتحقيق لا للتشكيك فكان الاختلاف ثابتا; لأن المعلى روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله مطلقا أن البيع جائز ولأن اعتبار قوله هاهنا فيما أعلم بمسألة الإقرار أولى من اعتباره بمسألة الشهادة; لأن الإقرار إخبار محض عما كان ثابتا في الزمان الماضي ولم يشترط لصحته زيادة توكيد والرواية مثله فتلحق به فأما الشهادة ففيها معنى الإلزام ويشترط فيها زيادة توكيد حتى اختصت بلفظة الشهادة الدالة على المعاينة وحضور الحادثة ولا تتأدى بلفظة أعلم أو أتيقن فكان قول الشاهد فيما أعلم موهما للشك في الشهادة فلذلك ترد الشهادة كذا في بعض الشروح وقوله فيما أعلم ملحق برواية أبي يوسف لا بفتوى أبي حنيفة رد لما زعم بعض المشايخ أنه ملحق بجواب أبي حنيفة لا بكلام أبي يوسف رحمهما الله حتى قال الإمام خواهر زاده رحمه الله في هاتين المسألتين قال أبو حنيفة رحمه الله في كتاب الإقرار البيع جائز فيما أعلم. وذكر في كتاب الإكراه أن البيع جائز على قول أبي حنيفة فيما يعلمه أبو يوسف رحمهما الله وقالا البيع فاسد فألحق قوله

(4/500)


رحمه الله العقد المشروع لإيجاب حكمه في الظاهر جد; لأن الهزل غير متصل به نصا فهو أولى بالتحقيق من المواضعة وهما اعتبرا لعادة وهو تحقيق المواضعة ما أمكن. ألا ترى أنها أسبق الأمرين وقال أبو حنيفة رحمه الله الآخر ناسخ وأما
ـــــــ
فيما أعلم بقول أبي حنيفة وعلى تقدير أن يكون ملحقا بقوله لا يكون الاختلاف ثابتا; لأن من مذهبه أن قوله فيما أعلم موجب للشك في جميع المواضع فلا يثبت قوله مع التردد والشك. كما لو قال أنا أشك في جواب هذه المسألة فلا يثبت الاختلاف وغرض الشيخ رحمه الله إثبات الاختلاف فقال هو ملحق برواية أبي يوسف وقد تبين أن عنده هذا اللفظ لا يوجب شكا في الرواية فيكون الاختلاف ثابتا فصار كأن أبا يوسف قال إن فيما أتيقن وأعلم ما قال أبو حنيفة رحمه الله في هاتين المسألتين أن البيع جائز.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم وإنما يتغير لعارض فمن ادعى عدم البناء على المواضعة فهو متمسك بالأصل فكان القول قوله وكان دعوى الآخر البناء على المواضعة كدعواه خيار الشرط فلا يقبل يوضحه أن تلك المواضعة لم تكن لازمة بل ينفرد أحدهما بإبطالها فإعراض أحدهما عن تلك المواضعة كإعراضهما وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة ولو ادعى أحدهما المواضعة السابقة وجحده الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما فكذا إذا اختلفا في البناء عليها. وفيما إذا اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء إنما صح البيع; لأن مطلقه يقتضي الصحة والمواضعة السابقة لم تذكر في العقد فلا تكون مؤثرة فيه. كما لو تواضعا على شرط خيار أو أجل ولم يذكرا ذلك في العقد لم يثبت الخيار والأجل فهذا مثله وهو معنى قوله العقد المشروع لإيجاب حكمه في الظاهر جد أي العقد شرع لإيجاب حكمه وهو الملك في الأصل وهو في الظاهر جد هاهنا لعدم اتصال الهزل به نصا فهو أي الجد أولى بالتحقيق لكونه أصلا من المواضعة التي هي عارضة وجه قولهما أن الظاهر يشهد لمن يدعي البناء على المواضعة; لأنهما ما تواضعا إلا ليبنيا عليه صونا للمال عن يد المتغلب فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يتحقق خلافه; لأنه إذا لم يجعل بناء عليها كان اشتغالهما بها اشتغالا بما لا يفيد ولو سلمنا أن الظاهر هو الصحة كما قال أبو حنيفة رحمه الله كان هذا الظاهر معارضا له فترجح السابق منهما إذ السبق من أسباب الترجيح, وذلك لأن حالة الهزل لم يعارضها شيء فثبت حكمه بلا معارض والسكوت في حالة العقد أو الاختلاف في البناء والإعراض لا يصلح معارضا; لأنه غير متعرض للجد ولا للهزل فلذلك وجب العمل بالسابق. والجواب لأبي

(4/501)


إذا اتفقا على الجد في العقد لكنهما تواضعا على البيع بألفين على أن أحدهما هزل وتلجئة فإن اتفقا على الإعراض كان الثمن باليقين وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فالهزل باطل والتسمية صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما العمل بالمواضعة واجب والألف الذي هزلا به باطل لما ذكر من الأصل وأما إذا اتفقا على البناء على المواضعة فإن الثمن ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنهما جدا في العقد, والعمل بالمواضعة يجعله شرطا فاسدا فيفسد
ـــــــ
حنيفة رحمه الله أن الآخر يصلح ناسخا للأول إذا لم يتصل به ما يوجب تغيره نصا; لأن الجد هو الأصل في الكلام شرعا وعقلا وكما يجب حمل الكلام عليه إذا لم تسبقه مواضعة على الهزل يجب حمله عليه إذا سبقه مواضعة إن أمكن عملا بالأصل وقد أمكن هاهنا لخلوه عن الهزل نصا وعدم اتفاقهما على البناء على الهزل فيحمل عليه ويجعل ناسخا للمواضعة السابقة; لأنها تحتمل الإبطال. بخلاف ما إذا اتفقا على البناء على المواضعة لوجود التصريح بالعمل بخلاف موجب الشرع والعقل فلا يمكن الحمل على الصحة والتسمية صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله حتى ينعقد البيع بألفين عنده وهو أصح الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى ينعقد البيع بينهما بألف والألف الذي هزلا به باطل وهو قولهما لما ذكرنا من الأصل يعني من الجانبين فإن عنده الأصل هو الجد والعمل به أولى ما أمكن وعندهما الأصل هو المواضعة فكان العمل بها أحق عند الإمكان.
قوله: "وأما إذا اتفقا على البناء على المواضعة فإن الثمن ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله" أيضا في إحدى الروايتين عنه وهي رواية كتاب الإقرار وهي الأصح وعندهما ينعقد البيع بألف درهم وهو رواية محمد في الإملاء عن أبي حنيفة رحمهما الله; لأنهما قصدا السمعة بذكر أحد الألفين ولا حاجة في تصحيح العقد إلى اعتبار تسميتهما الألف الذي هزلا به فكان ذكره والسكوت عنه سواء كما في النكاح ولأبي حنيفة رحمه الله أن المواضعة السابقة إنما تعتبر إذا لم يوجد منهما ما يدل على الإعراض عنها وقد وجد هاهنا ما يدل عليه; لأنهما جدا في أصل العقد وقصدا بيعا جائزا ولو اعتبرت المواضعة في البدل لصار العقد فاسدا; لأن أحد الألفين غير داخل في العقد فيصير قبول العقد فيه شرطا لانعقاد البيع بألف ويصير كأنه قال بعتك بألفين على أن لا يجب أحد الألفين; لأن عمل الهزل في منع الوجوب لا في الإخراج بعد الوجوب بمنزلة شرط الخيار وهذا شرط فاسد; لأنه ليس من مقتضيات العقد وفيه نفع لأحد المتعاقدين أو لهما فيفسد به العقد كما إذا جمع بين حر وعبد في البيع وفصل الثمن. وإذا كان كذلك لم يمكن العمل بما قصدا من تصحيح العقد وهو المراد بالمواضعة في أصل العقد مع العمل بالمواضعة في البدل لاندفاع كل

(4/502)


البيع فكان العمل بالأصل عند التعارض أولى من العمل بالوصف أعني تعارض المواضعة في البدل والمواضعة في أصل العقد بخلاف تلك المواضعة, وقد ذكر أبو يوسف رحمه الله عليه في هذا الفصل في روايته فيما أعلم كما في الفصل الأول. وأما إذا تواضعا على البيع بمائة دينار وأن ذلك تلجئة وإنما الثمن كذا كذا درهما فإن البيع جائز على كل حال ها هنا ففرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا وبين الهزل في القدر قالا; لأن العمل بالمواضعتين ممكن ثمة; لأن البيع يصح بأحد الألفين, والهزل بالألف الأخرى شرط لا طالب له فلا
ـــــــ
واحد من المواضعتين بالأخرى فكان العمل بالمواضعة في أصل العقد وهي أن ينعقد البيع صحيحا عند تعارض المواضعتين أولا من العمل بالمواضعة في الوصف وهي أن لا يجب الألف الثاني; لأن الوصف تابع والأصل متبوع فكان هو أولى بالاعتبار من الوصف ودليل كون الثمن بمنزلة الوصف قد مر في باب النهي وإذا كان العمل بالأصل أولى وجب اعتبار التسمية فكان الثمن ألفين بخلاف تلك المواضعة يعني المواضعة على الهزل بأصل العقد إذا اتفقا على البناء حيث العمل بها بالاتفاق; لأنه لم يوجد هناك معارض يمنع عن العمل بها, وقد وجد المعارض هاهنا وهو قصدهما إلى تصحيح العقد فلذلك سقط العمل بها وقد ذكر أبو يوسف رحمه الله في هذا الفصل أي في الهزل بقدر البدل في روايته قول أبي حنيفة رحمه الله فيما أعلم كما ذكره في الفصل الأول وهو الهزل بأصل العقد ولكن المعلى روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله قوله مطلقا من غير قيد فيحتمل قوله فيما أعلم على التحقيق لا على التشكيك.
قوله: "وأما إذا تواضعا على البيع بمائة دينار" على أن يكون الثمن ألف درهم فإن البيع جائز بالمسمى بالاتفاق على كل حال سواء اتفقا على الإعراض أو على البناء أو على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا وهذا استحسان وفي القياس البيع فاسد; لأنهما قصدا الهزل بما سميا ولم يذكرا في العقد ما قصدا أن يكون ثمنا ولا يكتفى بالذكر قبل العقد بل يشترط ذكر البدل فيه فبقي البيع بلا ثمن وجه الاستحسان أن البيع لا يصح إلا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل العقد هاهنا فلا بد من تصحيحه وذلك بأن ينعقد البيع بما سميا من البدل يوضح ما ذكرنا أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع إبطال للعقد الأول فإنهما لو تبايعا بمائة دينار ثم تبايعا بألف درهم كان البيع الثاني مبطلا للأول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه مبطلا للمواضعة كذا في المبسوط ففرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا أي بين الهزل في جنس البدل وبين الهزل في قدره وقالا ينعقد البيع هناك بالألف; لأن العمل بالمواضعتين وهما

(4/503)


يفسد البيع فأما ها هنا فإن العمل بالمواضعة في العقد مع المواضعة بالهزل غير ممكن; لأن البيع لا يصح لغير ثمن فصار العمل بالمواضعة في العقد أولى. وأما ما لا يحتمل النقض فثلاثة أنواع ما لا مال فيه وما كان المال فيه تبعا وما كان المال فيه مقصودا أما الذي لا مال فيه هو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر وذلك كله صحيح والهزل باطل بقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين" ولأن الهازل مختار للسبب راض به دون حكمه وحكم هذه الأسباب لا يحتمل الرد والتراخي, ألا ترى أنه لا يحتمل
ـــــــ
المواضعة على صحة أصل العقد والمواضعة على الهزل في مقدار البدل ممكن بأن يجعل العقد منعقدا بألف وإن كان المسمى ألفين; لأن الألف في الألفين موجود والهزل بالألف الآخر شرط لا طالب له; لأنهما وإن ذكراه في العقد لا يطلبه واحد منهما لاتفاقهما على أنه هزل وليس لغيرهما ولاية المطالبة وكل شرط لا طالب له من جهة العباد لا يفسد به العقد كما إذا اشترى فرسا على أن يعلفه كل يوم كذا منا من الشعير أو اشترى حمارا على أن لا يحمل عليه أكثر من كذا منا من الحنطة لا يفسد به العقد كذا هنا. وهو جواب عن كلام أبي حنيفة رحمه الله وإذا كان كذلك ينعقد البيع بألف ويبطل الآخر فأما هاهنا أي في الهزل بجنس البدل فالعمل بالمواضعة في العقد وهي أن يقع العقد صحيحا مع المواضعة بالهزل أي مع العمل بها غير ممكن لما ذكر فصار العمل بالمواضعة في العقد وهي أن ينعقد صحيحا أولى; لأن العقد أصل والثمن تبع ولا يمكن العمل بها إلا باعتبار التسمية فلذلك انعقد البيع على الدنانير المسماة لا على الدراهم.
قوله: "أما فيما لا يحتمل النقض" أي لا يجري فيه الفسخ والإقالة بعد ثبوته فكذا لا مال فيه أصلا أي لا يثبت المال فيه بدون الشرط والذكر ولم يذكر أيضا قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد" الحديث ففي المنصوص عليه الحكم ثابت بالنص وفي الباقي ثابت بالدلالة لا بالقياس كذا قيل وحكم هذه الأسباب أي العلل لا يحتمل الرد والتراخي أي لا يحتمل الرد بالإقالة والفسخ ولا التراخي بخيار الشرط وبالتعليق بسائر الشروط; لأن خيار الشرط لا يؤثر في هذه الأشياء بل يبطل والتعليق بسائر الشروط يؤخر السبب بحكمه إلى حين وجود الشرط ولا يلزم عليه الطلاق المضاف فإنه سبب في الحال وقد تراخى حكمه لأنا نقول المراد من الأسباب العلل, والطلاق المضاف سبب مفض إلى الوقوع وليس بعلة في الحال ولهذا لا يستند حكمه إلى وقت الإيجاب ولو كان علة لاستند كما في البيع بشرط الخيار فثبت أن هذه الأسباب لا تقبل الفصل عن أحكامها فلا يؤثر فيها الهزل كما لا يؤثر خيار الشرط; لأن الهزل لا يمنع من انعقاد السبب وإذا انعقد وجد

(4/504)


خيار الشرط. وأما الذي يكون المال تبعا مثل النكاح فعلى أوجه إما أن يهزلا بأصله أو بقدر البدل أو بجنسه أما الهزل بأصله فباطل والعقد لازم وأما الهزل بالقدر فيه فإن اتفقا على الإعراض فإن المهر ألفان وإن اتفقا على البناء فالمهر ألف بخلاف مسألة البيع عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنه بالشرط الفاسد يفسد والنكاح بمثله لا يفسد وإن اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فإن محمدا رحمه الله ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أن النكاح جائز بألف بخلاف البيع; لأن المهر تابع في هذا فلا يجعل مقصودا بالصحة وروى أبو يوسف عن
ـــــــ
حكمه لا محالة بخلاف البيع فإنه يقبل الرد والفسخ, وحكمه يقبل التراخي عنه بشرط الخيار فلا جرم أثر فيه الهزل ألا ترى أنه أي هذا النوع.
قوله: "أما الهزل بأصله فباطل" وصورته أن يقول لامرأة إني أريد أن أتزوجك بألف تزوجا باطلا وهزلا ووافقته المرأة ووليها على ذلك وحضر الشهود هذه المقالة ثم تزوجها كان النكاح لازما في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى بما سميا من المهر للحديث ولما ذكرنا أن الهزل إنما يؤثر فيما يحتمل الفسخ بعد تمامه والنكاح غير محتمل للفسخ ولهذا لا يجري فيه الرد بالعيب وخيار الرؤية فلا يؤثر فيه الهزل.
وأما الهزل بالقدر فيه أي بقدر البدل في النكاح بأن يقول لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها إني أريد أن أتزوجك أو أتزوج فلانة بألف درهم وأظهر في العلانية ألفين وأجابه الولي أو المرأة إلى ذلك فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزا بكل حال والمهر ألفان إن اتفقا على الإعراض وألف بالاتفاق إن اتفقا على البناء; لأنهما قصدا الهزل بذكر أحد الألفين والمال مع الهزل لا يجب بخلاف مسألة البيع عند أبي حنيفة رحمه الله في هذا الوجه حيث يجب تمام الألفين عنده; لأن ذكر أحد الألفين على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد يؤثر في البيع ولا يؤثر في النكاح لا في أصل العقد ولا في الصداق كذا في المبسوط أن النكاح جائز بألف بخلاف البيع حيث ينعقد بألفين في هاتين الصورتين; لأن المهر تابع في النكاح إذ المقصود الأصلي فيه ثبوت الحل في الجانبين الذي به يحصل التناسل وإنما شرع المال فيه إظهارا لخطر المحل لا مقصودا ولهذا يصح النكاح بدون ذكر المهر ويتحمل فيه من الجهالة ما لا يتحمل في غيره. فلا يجعل أي المهر مقصودا بالصحة أي بصحة التسمية بأن يرجح جانب الجد على الهزل إذ لو اعتبرت صحة التسمية فيه كما في البيع وجعل المهر ألفين لصار المهر بنفسه مقصودا بالصحة إذ أصل النكاح صحيح بلا شبهة لعدم تأثير الهزل فيه ولعدم افتقاره في الصحة إلى

(4/505)


أبي حنيفة رحمهما الله أن المهر ألفان فإن التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع جعل أبو حنيفة رحمه الله العمل بصحة الإيجاب أولى من العمل بصحة المواضعة فكذلك هذا وهذا أصح. وأما إذا تواضعا على الدنانير على أن المهر في الحقيقة دراهم فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ما سميا وإن اتفقا على البناء
ـــــــ
ذكر المهر وهو لا يصلح مقصودا فيه بخلاف الثمن في البيع فإنه مقصود فيه بالصحة; لأنه أحد ركني البيع ولهذا يفسد البيع بفساده وجهالته كما يفسد بفساد المبيع وجهالته ولا يصح البيع بدون ذكره وإذا كان مقصودا وجب تصحيحه بترجيح جانب الجد على الهزل إذا أمكن ولا يقال الثمن تابع في البيع أيضا; لأنه بمنزلة الوصف على ما مر لأنا نقول وهو تابع بالنسبة إلى المبيع في محلية البيع ولكنه مقصود بالنسبة إلى البائع إذ لا غرض له في البيع سوى حصول الثمن ولهذا كان أحد ركني البيع; لأنه مبادلة مال بمال ولا يتحقق المبادلة بدونه إلا أنه ركن زائد كالقراءة في الصلاة مع سائر الأركان والإقرار مع التصديق في الأيمان فأما المهر في النكاح فليس بمقصود أصلا; لأن الغرض منه ثبوت الحل في الجانبين كما بينا فلذلك افترقا. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المهر ألفان في هذين الوجهين كما في البيع; لأن التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع أي التسمية بالمهر في حكم الصحة وافتقاره إليها مثل ابتداء البيع من حيث إن التسمية في النكاح لا تثبت إلا قصدا ونصا كابتداء البيع لا يثبت إلا قصدا ونصا وكذا الجهالة الفاحشة تمنع صحتها كما تمنع صحة البيع وكذا الهزل يؤثر فيها بالإفساد كما يؤثر في ابتداء البيع وفي ابتداء البيع أي فيما هزلا بأصل البيع واتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا جعل أبو حنيفة رحمه الله العمل بصحة الإيجاب في الصورتين أولى من العمل بالمواضعة ترجيحا للصحة على الفساد فكذلك هذا أي فكالبيع المهر; لأن الهزل مؤثر في تسميته بالإفساد كما في البيع وهذا أصح; لأن فيه إهدار جانب الهزل واعتبار الجد الذي هو الأصل في الكلام.
قوله: "وإن اتفقا على البناء وجب مهر المثل" بالإجماع; لأنهما قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا بينهما لم يذكراه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار كأنه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف فصل الألف والألفين; لأن هناك قد سميا ما تواضعا على أن يكون مهرا وزيادة; لأن في تسمية الألفين تسمية الألف وبخلاف البيع; لأن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فيجب الإعراض عن المواضعة واعتبار التسمية ضرورة والنكاح يصح بلا تسمية فيمكن العمل بالمواضعة وتؤثر في فساد التسمية. وإن

(4/506)


وجب مهر المثل بالإجماع بخلاف البيع; لأنه لا يصح إلا بتسمية الثمن والنكاح يصح بلا تسمية وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فعلى شيء أو اختلفا فعلى رواية محمد وجب مهر المثل بلا خلاف وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله يجب المسمى ويطلب المواضعة وعندهما يجب مهر المثل. وأما الذي يكون المال فيه مقصودا, مثل الخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد فإن ذلك على هذه الأوجه أيضا فإن هزلا بأصله واتفقا على البناء فقد ذكر في كتاب الإكراه في الخلع أن الطلاق واقع والمال لازم وهذا عندنا قول أبي يوسف ومحمد
ـــــــ
اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا فعلى رواية محمد وجب مهر المثل بلا خلاف; لأن المهر تابع فيجب العمل بالهزل لئلا يصير مقصودا بالصحة إذ لا حاجة لانعقاد النكاح إلى صحته كما في الألف والألفين في هذين الوجهين وإذا وجب العمل بالهزل بطلت التسمية فيبقى النكاح بلا تسمية فيجب مهر المثل وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله يجب المسمى وبطلت المواضعة كما في البيع; لأن التسمية في حكم الصحة مثل ابتداء البيع إلى آخر ما بينا.
قوله: "وأما الذي يكون المال فيه مقصودا" إنما كان المال في هذا القسم مقصودا; لأن المال لا يجب فيه بدون الذكر فلما شرطا المال فيه علم أنه فيه مقصود فإن ذلك على هذه الأوجه أيضا يعني الأوجه الثلاثة المنقسمة على اثني عشر وجها فإنهما إما إن هزلا بأصل التصرف أو بقدر البدل فيه أو بجنسه وكل وجه على أربعة أوجه فإن هزلا بأصله الضمير راجع إلى الذي بان طلق امرأته على مال أو خالعها بطريق الهزل أو أعتق عبده على مال على وجه الهزل أو صالح عن دم العمد هازلا وقد تواضعا قبل ذلك على أنه هزل ثم اتفقا على البناء فقد ذكر في كتاب الإكراه في الخلع; لأن الطلاق واقع والمال لازم من غير ذكر خلاف. قال الشيخ رحمهم الله وهذا الجواب عندنا أراد به نفسه قول أبي يوسف ومحمد فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فالطلاق لا يقع; لأن الهزل بمنزلة خيار الشرط لما مر. وقد نص عن أبي حنيفة رحمه الله يعني في الجامع الصغير إلى آخره فقد ذكر فيه رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا على ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت قبلت إن ردت الطلاق في الثلاثة الأيام بطل الطلاق وإن اختارت الطلاق في الثلاثة الأيام أو لم ترد حتى مضت المدة فالطلاق واقع والألف لازم للزوج وأما على قولهما فالطلاق واقع والمال لازم والخيار باطل; لأن قبولها شرط لليمين فلا يحتمل الخيار كسائر الشروط ولأبي حنيفة رحمه الله إن جانبها يشبه البيع; لأنه تمليك مال بعوض. ألا ترى أن البداية لو كانت من جانبها فرجعت قبل قبول الزوج صح رجوعها ولو قامت عن مجلسها قبل قبول الزوج

(4/507)


رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن الطلاق لا يقع; لأنه بمنزلة خيار الشرط وقد نص عن أبي حنيفة رحمه الله في خيار الشرط في الخلع في جانب المرأة أن الطلاق لا يقع ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فيقع الطلاق ويجب المال لما عرف ثمة وعندهما الطلاق واقع والمال واجب والخيار باطل فكذلك هذا لكنه غير مقدر بالثلاث في هذا بخلاف البيع وإن هزلا بالكل لكنهما أعرضا
ـــــــ
بطل كما في البيع وإنما جعل ذلك شرطا في حق الزوج فأما في نفسه فهو تمليك مال جعل شرطا بهذا الوصف كرجل قال لآخر إن بعتك هذا العبد بكذا فعبدي هذا الآخر حر إنه معلق بالمعارضة فكذلك هذا وإذا كان كذلك ثبت فيه الخيار فإذا بطل بحكم الخيار بطل كونه شرطا; لأن كونه شرطا بهذا الوصف وهو أنه تمليك مال كذا في شرح الجامع الصغير للمصنف رحمه الله وهو المراد من قوله لما عرف ثمة أي في الموضع الذي نص عليه فيه فكذلك هذا أي مثل الخيار الهزل يكون على الاختلاف لكنه أي لكن خيار الشرط غير مقدر بالثلاث في الخلع وأمثاله عنده حتى لو اشترطا الخيار أكثر من ثلاث جاز بخلاف البيع; لأن الشرط في باب الخلع على وفاق القياس إذ الطلاق من الإسقاطات وتعليقها بالشروط جائز مطلقا فلا يجب التقدير بمدة. أما الشرط في البيع فعلى خلاف القياس; لأنه من الإثباتات وتعليقها بالشروط لا يجوز لكنه ثبت فيه بالنص مقدرا بالثلث فيجب اعتبار هذه المدة ويبطل اشتراط الخيار فيما وراء الثلاث عملا بالقياس كذا في بعض الشروح فعلى هذا لا يبطل خيار المرأة فيما نحن فيه بمضي الثلاث; لأن الهزل بمنزلة شرط الخيار مؤبدا فيكون لها خيار ثابت فيما فوق الثلاث كما هو ثابت لها في الثلاث فكان لها ولاية النقض والإثبات متى شاءت عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يبطل الهزل.
ولقائل أن يقول ينبغي أن يكون الخيار مقدرا بالثلاث في الخلع وأمثاله; لأن ثبوته في جانب من وجب عليه المال باعتبار معنى المعاوضة لا باعتبار معنى الطلاق وإذا كان كذلك وجب أن يتقدر بالثلاث كما في حقيقة البيع ويمكن أن يجاب عنه بأن المال وإن كان مقصودا فيه بالنظر إلى العاقد لكنه تابع في الثبوت للطلاق الذي هو مقصود العقد كمال الثمن تابع في البيع وبالنظر المقصود يلزم أن لا يتقدر بالثلاث كما بينا.
وإن هزلا بالكل أي بأصل التصرف والبدل جميعا لكنهما أعرضا عن المواضعة وقع الطلاق ووجب المال بالإجماع أما عندهما فظاهر إذ الهزل لا يمنع من وقوع الطلاق ووجوب المال وأما عنده فكذلك لبطلان الهزل باتفاقهما على الإعراض عنه وإن اختلفا فالقول قول من يدعي الإعراض عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لزم التصرف ووجب المال;

(4/508)


عن المواضعة وقع الطلاق ووجب المال بالإجماع وأن القول قول من يدعي الإعراض عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنه جعل ذلك مؤثرا في أصل الطلاق وعندهما هو جائز ولا يفيد الاختلاف وإن سكتا ولم يحضرهما شيء فهو جائز لازم بإجماع. وأما إذا تواضعا على الهزل في بعض البدل فإن اتفقا على البناء فعندهما الطلاق واقع والمال كله لازم; لأنهما جعلا المال لازما بطريق التبعية وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يتعلق الطلاق باختيارها; لأن الطلاق يتعلق
ـــــــ
لأنه جعل الهزل مؤثرا في أصل الطلاق بالمنع من الوقوع كما جعله مؤثرا في البيع ثم عند اختلاف المتعاقدين في البيع يعتبر قول من يدعي الإعراض ترجيحا للجد الذي هو أصل عنده على الهزل الذي هو خلاف الأصل وكذلك هاهنا وعندهما هو أي التصرف جائز أي لازم والمال واجب. ولا يفيد الاختلاف أي اختلاف المتعاقدين في البناء على الهزل والإعراض عنه; لأن الهزل عندهما لا يؤثر في أصل التصرف ولا في المال في حال اتفاقهما على البناء ففي حال الاختلاف أولى وإن سكتا ولم يحضرهما شيء فالتصرف جائز لازم حتى وقع الطلاق ولزم المال بالإجماع لبطلان الهزل عندهما ولرجحان الجد عنده فصار الجواب في الفصلين واحدا وحصل الاتفاق على الجواب فيهما مع اختلاف التجرع.
قوله: "فإن اتفقا على البناء فعندهما الطلاق واقع"; لأن الهزل لا يؤثر فيه بالمنع عندهما مع أنهما جادان في أصل التصرف والمال كله لازم; لأن الهزل وإن كان مؤثرا في المال لكن المال ثابت في ضمن الخلع تبعا فلا يؤثر فيه الهزل إذ العبرة للمتضمن لا للمتضمن كالوكالة الثابتة في ضمن عقد الرهن تلزم بلزومه فلذلك يجب تمام المسمى فإن قيل لا يستقيم جعل المال في هذا النوع تبعا; لأنه سماه فيه مقصودا بقوله وأما الذي يكون المال فيه مقصودا ولئن سلمنا أنه فيه تبع لا نسلم أن الهزل لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في أصله; لأن المال في النكاح تابع وقد أثر الهزل فيه حتى كان المهر ألفا فيما إذا هزلا فيه بقدر البدل دون الألفين كما مر بيانه قلنا المال هاهنا مقصود بالنظر إلى العاقد. فأما في حق الثبوت فهو تابع للطلاق أو العتاق الذي هو مقصود العقد; لأنه بمنزلة الشرط فيه والشروط أتباع على ما عرف فيؤخذ حكمه من الأصل فلا يؤثر فيه الهزل فأما المال في النكاح فتابع بالنظر إلى العاقدين; لأن مقصود كل واحد في الأصل حل الاستمتاع بالآخر وحصول الازدواج دون المال فأما في حق الثبوت فله نوع أصالة حيث لا يتوقف ثبوته على اشتراط العاقدين بل يثبت بلا ذكر ويثبت مع النفي صريحا وإذا كان كذلك يعتبر هو بنفسه في حكم الهزل فيؤثر فيه الهزل كما يؤثر في سائر الأموال على أن الإمام شمس الأئمة رحمه الله ذكر في شرح كتاب الإكراه في باب التلجئة أنهما لو تواضعا في النكاح

(4/509)


بكل البدل وقد تعلق بعضه بالشرط وإن اتفقا على الإعراض لزم الطلاق والمال كله وإن اتفقا على أنه يحضرهما شيء وقع الطلاق ووجب المال كله عند أبي حنيفة رحمه الله; لأنه حمل ذلك على الجد وجعل ذلك أولى من المواضعة وعندهما كذلك لما قلنا, وكذلك إن اختلفا. وأما إذا هزلا بأصل المال فذكرا الدنانير تلجئة وغرضهما الدراهم فإن المسمى هو الواجب عندهما في هذا بكل
ـــــــ
على ألف في السر ثم عقدا في العلانية بألفين كان النكاح جائزا بألف ثم قال وكذا الطلاق على مال والعتاق عليه ولم يذكر خلافا فعلى هذه الرواية كان الطلاق على مال مثل النكاح إذا كان الهزل في قدر البدل في أن البدل ما تواضعا عليه في السر دون المسمى فلا يحتاج إلى فرق وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب على الأصل الذي ذكرنا له أن يتعلق الطلاق باختيارها أي باختيار المرأة الطلاق بجميع المسمى على سبيل الجد لأن يتعلق بكل البدل; لأنه إنما يتعلق بما علقه الزوج به إذ هو المالك للطلاق وهو إنما علقه بجميع البدل حيث ذكر الألفين في العقد دون الألف وقد عرف أن الهزل غير مؤثر في جانبه كما لا يؤثر خيار الشرط; لأن الخلع في جانبه يمين فإنه تعليق الطلاق بقبول المرأة البدل والهزل لا يؤثر في اليمين فكان الهزل والجد فيه سواء, وإذا كان كذلك كان الطلاق متعلقا بجميع البدل. وقد تعلق بعضه أي بعض البدل بالشرط وهو اختيار المرأة يعني لما تعلق الطلاق بجميع البدل كان شرط وقوعه قبول الجميع, والمرأة لم تقبل الجميع; لأنها هازلة في قبول أحد الألفين والهزل مؤثر في جانبها كخيار الشرط فصار كأنها قبلت أحد الألفين في الحال وتعلق قبولها الألف الآخر بإعراضها عن الهزل وقبولها إياه بطريق الجد فهو معنى قوله وقد تعلق بعضه بالشرط وإذا كان كذلك لا يقع الطلاق في الحال كما لو قال أنت طالق على ألفين فقبلت أحد الألفين ولم تقبل الآخر وعلى رواية المبسوط يقع الطلاق ويلزم الألف.
فإن قيل لما ألحق جانب المرأة بالبيع ينبغي أن يقع الطلاق في الحال بجميع البدل عنده كما في البيع في هذا الفصل فإنه ينعقد بجميع المسمى قلنا إنما ينعقد البيع بتمام المسمى لعدم إمكان العمل بالمواضعة فإنه يؤدي إلى فساد العقد على ما بينا فأما الخلع فلا يفسد بالشروط الفاسدة فأمكن العمل بالمواضعة فيه والعمل بها يوجب هاهنا أن يتعلق الطلاق بجميع البدل ولا يقع في الحال فلذلك افترقا.
قوله وأما إذا هزلا بأصل المال أي بجنسه فذكرا الدنانير تلجئة وغرضهما الدراهم فإن المسمى في العقد هو الواجب عندهما في هذا الوجه بكل حال سواء اتفقا على البناء أو على الإعراض أو على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا; لأن الهزل غير مؤثر في

(4/510)


حال وصار كالذي لا يحتمل الفسخ تبعا. وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن اتفقا على الإعراض وجب المسمى وإن اتفقا على البناء توقف الطلاق وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء وجب المسمى ووقع الطلاق وإن اختلفا فالقول قول من يدعي الإعراض, وكذلك هذا في نظائره. وأما تسليم الشفعة فإن كان قبل طلب المواثبة فإن ذلك كالسكوت مختار فتبطل الشفعة وبعد الطلب والإشهاد السلم باطل; لأنه من جنس ما يبطل بخيار الشرط, وكذلك إبراء الغريم. وأما القسم
ـــــــ
أصل التصرف عندهما ولا في المال تبعا له فصار المسمى بمنزلة ما لا يحتمل الفسخ أيضا تبعا للأصل وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإن اتفقا على البناء توقف الطلاق على قبول المرأة المسمى بطريق الجد واختيارها الطلاق; لأن الهزل لما كان بمنزلة شرط الخيار منع صحة قبول المرأة المسمى في العقد فصار كأنه علق الطلاق بقبول الدنانير وهي لم تقبل فيتوقف إلى القبول كما في شرط الخيار وفي الوجوه الثلاثة الباقية وقع الطلاق ووجب المال اعتبارا للجد وأشير في المبسوط إلى أن الطلاق يقع ويجب المسمى بكل حال من غير ذكر خلاف وكذلك هذا في نظائره أي مثل ثبوت الحكم والتفريع في الخلع ثبوت الحكم والتفريع في نظائره من الإعتاق على مال والصلح عن دم العمد يعني الكل سواء في الحكم والتفريع. قوله وأما تسليم الشفعة أي بطريق الهزل طلب الشفعة على ثلاثة أوجه طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم بالبيع حتى لو لم يطلب على الفور بطلت شفعته. والثاني طلب التقرير والإشهاد وهو أن ينهض بعد الطلب ويشهد على البائع أو على المشتري أو عند العقار على طلب الشفعة فيقول إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك وبهذا الطلب تستقر شفعته حتى لا تبطل بالتأخير بعد في ظاهر الرواية. والثالث طلب الخصومة والتملك فإذا سلم الشفعة هازلا قبل طلب المواثبة بطلت شفعته; لأن التسليم بطريق الهزل كالسكوت مختارا إذ اشتغاله بالتسليم هازلا سكوت عن طلب الشفعة على الفور ضرورة وأنها تبطل بحقيقة السكوت مختارا بعد العلم بالبيع; لأنه دليل الإعراض فكذا بالسكوت حكما وبعد الطلب والإشهاد أي بعد طلب المواثبة وطلب الإشهاد التسليم بطريق الهزل باطل والشفعة باقية; لأن التسليم من جنس ما يبطل بخيار الشرط حتى لو سلم الشفعة بعد طلب المواثبة والتقرير على أنه بالخيار ثلاثة أيام بطل التسليم وبقيت الشفعة; لأن تسليم الشفعة في معنى التجارة; لأنه استبقاء أحد العوضين على ملكه ولهذا يملك الأب والوصي تسليم شفعة الصبي عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله كما يملكان البيع والشراء له فيتوقف على الرضاء بالحكم, والخيار يمنع الرضاء به فيبطل التسليم فكذا الهزل يمنع

(4/511)


الثاني وهو الإقرار فإن الهزل يبطله سواء كان إقرارا بما يحتمله الفسخ أو بما لا يحتمله; لأنه يعتمد صحة المخبر به, والهزل يدل على عدم المخبر به فصار ذلك كله مما يحتمل النقض, ألا ترى أن الإقرار بالطلاق والعتاق يبطل بالكره. وأما
ـــــــ
الرضاء بالحكم فيبطل به التسليم كما يبطل بخيار الشرط وتبقى الشفعة. وكذلك أي ومثل تسليم الشفعة إبراء الغريم في أنه يبطل بالهزل حتى لو أبرأه هازلا لا يصح ويبقى الدين على حاله; لأنه لو قال أبرأتك على أني بالخيار لا يسقط الدين; لأن في الإبراء معنى التمليك ولهذا يرتد بالرد وإلى معنى التمليك أشير في قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] فيؤثر فيه خيار الشرط فكذا الهزل يؤثر فيه; لأنه بمنزلة خيار الشرط. وكذا لو أبرأ الكفيل هازلا لا يصح مع أنه مما لا يرتد بالرد; لأنه يحتمل الفسخ بدليل أنه لو صالح الكفيل على عين وهلكت العين أو ردها بعيب ينفسخ الصلح وتعود الكفالة فإذا كان كذلك يعمل فيه الهزل فيمنعه من الثبوت كالخيار كذا رأيت مكتوبا بخط شيخي قدس الله روحه.
قوله: "وأما القسم الثاني" أي من الأقسام الأربعة المذكورة في أول هذا الفصل ذكر في المبسوط ولو تواضعا على أن يخبرا أنهما تبايعا هذا العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدي هذا يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع; لأن الإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالإخبار به لا يصير حقا. ألا ترى أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا بإخبارهم به وهاهنا ثبت كون المخبر عنه كذبا بالمواضعة السابقة فلا يصير حقا بالإقرار ولو أجمعا على إجازته بعد ذلك لم يكن بيعا; لأن الإجازة إنما تلحق العقد المنعقد وبالإقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه الإجازة. ألا ترى أنهما لو صنعا مثل ذلك في طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك نكاحا ولا طلاقا ولا عتاقا وكذلك لو أقر بشيء من ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن ذلك نكاحا ولا طلاقا ولا عتاقا فيما بينه وبين ربه عز وجل وإن كان القاضي لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر به طائعا فثبت الفرق بين الإقرار والإنشاء في هذه التصرفات مع التلجئة كما ثبت مع الإكراه. لأنه أي الإقرار يعني صحته يعتمد صحة المخبر به أي وجوده وتحققه في الماضي. والهزل يدل على عدم المخبر به في الماضي فيمنع انعقاده أصلا فصار ذلك كله أي الإقرار بما يحتمل الفسخ وبما لا يحتمله من جنس ما يحتمل النقض من حيث إن الجميع يعتمد وجود المخبر به فيؤثر الهزل في الكل ألا ترى أن الإقرار بالطلاق والعتاق يبطل بالكره أصلا حتى كانت المرأة زوجته والعبد عبده كما كانا لما قلنا

(4/512)


القسم الثالث فإن الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل; لأن الهازل جاد في نفس الهزل مختار راض والهزل بكلمة الكفر استخفاف بالدين الحق فصار مرتدا بعينه لا بما هزل به إلا أن أثرهما سواء بخلاف المكره; لأنه غير معتقد لعين ما أكره عليه بخلاف مسألتنا هذه فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ
ـــــــ
إن الإقرار خبر متردد بين الصدق والكذب والإكراه دليل ظاهر على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه فكذلك أي فكما يبطل بالإكراه يبطل بالهزل; لأنه دليل ظاهر على أنه كاذب فيه إذ لو لم يكن كاذبا لما كان هذا الإقرار منه هزلا بطلانا لا يحتمل الإجازة; لأن الإجازة تلحق بشيء ينعقد ويحتمل الصحة والبطلان وهذا الإقرار لم ينعقد موجبا لشيء أصلا لكونه كذبا وبالإجازة لا يصير الكذب صدقا بوجه فكان كبيع الحر بخلاف البيع أو الإجارة هزلا; لأنه إنشاء يعتمد انعقاده أهلية المتكلم وصحة العبارة وقد تحققنا وهو محتمل للصحة والفساد فيجوز أن ينعقد موقوفا على الإجازة.
قوله: "لا بما هزل به" جواب عما يقال إن مبنى الردة على تبدل الاعتقاد ولم يوجد هاهنا لوجود الهزل فإنه ينافي الرضاء بالحكم فينبغي أن لا يكون الهزل بالردة كفرا كما في حال الإكراه والسكر فقال الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل يعني أنا لا نحكم بكفره باعتبار أنه اعتقد ما هزل به من الكفر بل نحكم بكفره باعتبار أن نفس الهزل بالكفر كفر; لأن الهازل وإن لم يكن راضيا بحكم ما هزل به لكونه هازلا فيه فهو جاد في نفس التكلم به مختار للسبب راض به فإنه إذا سب النبي عليه السلام هازلا مثلا أو دعا لله تعالى شريكا هازلا فهو راض بالتكلم به مختار لذلك لذلك وإن لم يكن معتقدا لما يدل عليه كلامه والتكلم بمثل هذه الكلمة هازلا استخفاف بالدين الحق وهو كفر قال الله تعالى: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65, 66] فصار المتكلم بالكفر بطريق الهزل مرتدا بعين الهزل لاستخفافه بالدين الحق لا بما هزل به أي لا باعتقاد ما هزل به إلا أن أثرهما أي أثر الهزل بالكفر وأثر ما هزل به سواء في إزالة الإيمان وإثبات الكفر بخلاف المكره على الكفر; لأنه غير راض بالسبب والحكم جميعا بل يجريه على لسانه اضطرارا ودفعا للشر عن نفسه غير معتقد له أصلا. ولا يقال إن الهازل لا يعتقد الكفر أيضا لأنا نقول هو معتقد للكفر; لأن مما يجب اعتقاده حرمة الاستخفاف بالدين وعدم الرضاء به ولما رضي بالهزل معتقدا له كان كافرا كذا في بعض الشروح.
فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ عن دينه هازلا فيجب أن يحكم بإيمانه في أحكام الدنيا; لأن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد باشر أحد الركنين وهو

(4/513)


عن دينه هازلا يجب أن يحكم بإيمانه كالمكره; لأنه بمنزلة إنشاء لا يحتمل حكمه الرد والتراخي والله أعلم.
ـــــــ
الإقرار باللسان على سبيل الرضاء, والإقرار هو الأصل في أحكام الدنيا فيجب الحكم بالإيمان بناء عليه كالمكره على الإسلام إذا أسلم يحكم بإسلامه بناء على وجود أحد الركنين مع أنه غير راض بالتكلم بكلمة الإسلام وهو بمنزلة إنشاء لا يقبل حكمه الرد والتراخي فإنه إذا أسلم لا يحتمل أن يكون حكم الإسلام متراخيا عنه ولا يحتمل أن يرد إسلامه بسبب كما يرد البيع بخيار العيب والرؤية فكان بمنزلة الطلاق والعتاق فلا يؤثر فيه الهزل.

(4/514)


فصل السفه
...
"السفه"
القسم الرابع وهو السفه السفه هو العمل بخلاف موجب الشرع من وجه واتباع الهوى وخلاف دلالة العقل فإن كان أصله مشروعا وهو السرف والتبذير; لأن أصل البيع والبر والإحسان مشروع إلا أن الإسراف حرام كالإسراف من الطعام
ـــــــ
"السفه"
قوله: "وأما القسم الرابع" أي من أقسام العوارض المكتسبة فهو السفه السفه في اللغة وهو الخفة والتحرك يقال تسفهت الرياح الثوب إذا استخفته وحركته ومنه زمام سفيه أي خفيف وفي الشريعة هو عبارة عن خفة تعتري الإنسان فتحمله على العمل بخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة كذا ذكر في عامة الشروح وهذا التعريف يتناول ارتكاب جميع المحظورات فإن ارتكابها من السفه حقيقة إلا أن الشيخ رحمه الله قيد بقوله من وجه; لأن في اصطلاح الفقهاء غلب هذا الاسم على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع ولم يفهم عند إطلاقه ارتكاب معصية أخرى مثل شرب الخمر والزنا والسرقة وإن كان ذلك سفها حقيقة فكأنه بذكر هذا القيد يشير إلى أن غرضه تعريف السفه المصطلح الذي تكلم الفقهاء فيه وتعلق الأحكام به من منع المال ووجوب الحجر لا جميع أنواع السفه ولهذا فسره بقوله وهو السرف والتبذير الضمير راجع إلى العمل أي نعني بالعمل بخلاف موجب الشرع من وجه إلى آخره السرف والتبذير لأن أصل البر متعلق بقوله وإن كان أصله أي أصل ذلك العمل مشروعا والسرف والإسراف مجاوزة الحد والتبذير تفريق المال إسرافا وذلك أي السفه لا يوجب خللا في الأهلية; لأنه لا يخل بالقدرة ظاهرا لسلامة التركيب وبقاء القوى الغريزية على حالها ولا باطنا لبقاء نور العقل بكماله إلا أنه يكابر عقله في عمله فلا جرم يبقى مخاطبا بتحمل أمانة الله عز وجل فيخاطب بالأداء في الدنيا ابتلاء ويجازى عليه في الآخرة. وإذا بقي أهلا لتحمل أمانة

(4/514)


والشراب وذلك لا يوجب خللا في الأهلية ولا يمنع شيئا من أحكام الشرع ولا يوجب وضع الخطاب بحال وأجمعوا أنه يمنع منه ماله في أول ما بلغ بالنص قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ثم علق الإيتاء بإيناس من الرشد فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] قال أبو حنيفة رحمه الله أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه فإذا امتد الزمان
ـــــــ
الله عز وجل ووجوب حقوقه بقي أهلا في حقوق العباد وهي التصرفات بالطريق الأولى; لأن حقوق الله تعالى أعظم فإنها لا تحمل إلا على من هو كامل الحال. ألا ترى أن الصبي أهل للتصرفات مع أنه ليس بأهل لإيجاب حقوق الله عز وجل وتحمل أمانته فمن هو أهل لتحمل أمانته أولى أن يكون أهلا للتصرفات فثبت أن السفه لا يمنع أحكام الشرع ولا يجب سقوط الخطاب عن السفيه بحال سواء منع منه المال أو لم يمنع حجر عليه أو لم يحجر وأجمعوا أن السفيه يمنع ماله في أول ما يبلغ بالنص يعني إذا بلغ سفيها يمنع عنه ماله لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] أي لا تؤتوا المبذرين أموالكم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي أموالهم التي في أيديكم أضاف الأموال إلى الأولياء وهي في الحقيقة أموال غيرهم; لأنها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وكما تقول لمن قدم طعاما بين يديك هذا طعامي في منزلي كل يوم أي من جنسه أو لأنهم القوامون عليها والمتصرفون فيها: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي تقومون بها ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم ثم علق الإيتاء بإيناس الرشد أي بإبصاره فقال جل جلاله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في العقل وحفظا للمال: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فقال أبو حنيفة رحمه الله إذا بلغ السفيه خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يدفع إلى السفيه ما لم يؤنس منه الرشد; لأنه تعالى علق الإيتاء بإيناس الرشد فلا يجوز قبله; لأن المعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط, ألا ترى أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع إليه المال بهذه الآية فكذا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة; لأن السفه يستحكم بطول المدة. ولأن السفه في حكم منع المال بمنزلة الجنون والعته وإنهما يمنعان دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله فكذلك السفه واستدل أبو حنيفة رحمه الله بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] معناه مخافة أن يكبروا فيلزمكم دفع المال إليهم وبقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] والمراد البالغون وسموا يتامى لقرب عهدهم به فهذا تنصيص على وجوب دفع مال اليتيم إليه بعد البلوغ إلا أنه قام الدليل على منع المال منه عند البلوغ إذا لم

(4/515)


وظهرت الخبرة والتجربة حدث ضرب من الرشد لا محالة والشرط رشد نكرة فسقط المنع; لأنه إما عقوبة وإما حكم لا يعقل معناه فيتعلق بغير النص فإذا دخله شبهة أو صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جراؤه واختلفوا في وجوب النظر للسفيه فقال أبو حنيفة رحمه الله لما كان السفه مكابرة وتركا لما هو
ـــــــ
يؤنس منه الرشد فإنه تعالى قال : {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بيانا إن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال إليه مطلق لما تلونا غير معلق بشرط والمعنى فيه أن منع المال بعد البلوغ لبقاء أثر الصبي وبقاء أثره كبقاء عينه في منع المال وأثره قد يبقى إلى أن يمضي عليه زمان, وينقطع بعدما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان فيجب دفع المال ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال; لأن هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال أو منع المال على سبيل التأديب له, والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب; لأنه يتوهم أن يصير جدا في هذه المدة فلا معنى بعد ذلك لمنع المال منه بطريق التأديب. ثم نقول إن الإنسان في أول أحوال البلوغ قد لا يفارقه السفه لقربه بزمان الصبا وبعد تطاول الزمان به لا بد من أن يستفيد رشدا ما بطريق التجربة والامتحان إذ التجارب تفاح العقول والشرط رشد نكرة فيتحقق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما في سائر الشروط المنكرة فسقط المنع أي منع المال بوجود هذا النوع من الرشد; لأنه أي منع المال إما عقوبة ثبتت زجرا له عن الفعل الحرام وهو التبذير أو حكم لا يعقل معناه; لأن منع المال عن مالكه مع كمال عقله وتميزه غير معقول إذ الملك هو المطلق الحاجز فيتعلق الحكم بعين النص أي المنصوص عليه وهو ما إذا لم يوجد منه رشد تحقيقا ولا تقديرا; لأن ما كان عقوبة أو غير معقول المعنى لا يمكن تعديته فإذا دخله أي منع المال الثابت بطريق العقوبة شبهة بحصول الشرط من وجه وهو إصابة نوع من الرشد بالتجربة سقط; لأن العقوبة تسقط بالشبهة أو صار الشرط أي شرط الدفع في حكم الوجود من وجه بوجود دليله وهو استيفاء مدة التجربة يعني على تقدير أن يكون حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى يسقط أيضا; لأن الشرط الثابت بالنص رشد نكرة فإذا وجد رشد ما فقد تحقق الشرط فوجب جزاؤه وهو دفع المال إليه.
قوله: "واختلفوا في وجوب النظر للسفيه" بجعله محجورا عن التصرفات وإثبات الولاية للغير على ماله صونا لماله عن الضياع كما وجب للصبي والمجنون فقال أبو حنيفة

(4/516)


الواجب عن علم ومعرفة لم يجز أن يكون سببا للنظر, ألا ترى أنه من قصر في حقوق الله عز وجل مجانة وسفها لم يوضع عنه الخطاب نظرا بل كان مؤكدا لازما وقد يحبس عقوبة ولا يوضع عنه الخطاب ولا يبطل في ذلك عباراته ولا يعطل عليه أسباب الحدود والعقوبات وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله النظر
ـــــــ
رحمه الله لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات; لأنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد فإن كونه مخاطبا يثبت أهلية التصرف إذ التصرف كلام ملزم وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام الملزم بكونه مخاطبا وبالحرية تثبت الملكية وبكون المال خالص ملكه تثبت المحلية وبعدما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه إلا لمانع والسفه لا يصلح مانعا من نفوذ التصرف; لأن بالسفه لا ينتقص العقل ولكن السفيه يكابر عقله في التبذير مع علمه بقبحه وفساد عاقبته فلم يجز أن يكون السفه سببا للنظر لكونه معصية والدليل أن السفيه يحبس في ديون العباد بطريق العقوبة ولا يسقط عنه الخطاب بحقوق الشرع حتى يعاقب على تركها ولا يبطل في ذلك أي فيما ذكرنا من حقوق الشرع وحقوق العباد عباراته حتى صح طلاقه وعتاقه ونكاحه ونذره ويمينه وإقراره على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة. ولا يعطل عليه أسباب الحدود والعقوبات حتى لو شرب الخمر أو زنى أو سرق أو قتل إنسانا عمدا يقام عليه الحدود ويجب عليه القصاص وهذه العقوبات تندرئ بالشبهات فلو بقي السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل في إيجاب النظر لكان الأولى أن يعتبر فيما يندرئ بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر لكان الأولى أن يحجر عليه عن الإقرار بالأسباب الموجبة للعقوبة; لأن ضرره يلحق بنفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر له في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ وهي ما يبطله الهزل دون ما لا يبطله كالنكاح والطلاق ونحوهما إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله قالا إن الحجر عليه على سبيل النظر له, وقال الشافعي رحمه الله على سبيل الزجر والعقوبة ويظهر الخلاف فيما إذا كان مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعنده يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر عليه. احتج أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] نص على إثبات الولاية على السفيه وذلك لا يتصور إلا بعد الحجر عليه وبما روي أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما كان يفني ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى للضيافة دارا بمائة ألف وفي رواية بأربعين ألف دينار فطلب علي من

(4/517)


واجب حقا للمسلمين وحقا له لدينه لا لسفهه, ألا ترى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وإن أصر عليها وقاساه بمنع المال وقال أبو
ـــــــ
عثمان رضي الله عنهما أن يحجر عليه فقال الزبير بن العوام لعبد الله أشركني فيها فأشركه فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وهو كان معروفا بالكياسة في التجارة فثبت أنهم كانوا يرون الحجر بسبب التبذير وبأن السفيه مبذر في ماله فيحجر عليه نظرا له كالصبي بل أولى; لأن الصبي إنما يحجر عليه لتوهم التبذير وهو متحقق هاهنا فلأن يكون محجورا عليه كان أولى وكان هذا الحجر بطريق النظر واجبا حقا للمسلمين فإن أبا بكر الجصاص رحمه الله كان يقول ضرر السفه يعود إلى الكافة فإنه لما أفنى ماله بالسفه والتبذير صار وبالا على الناس وعيالا عليهم يستحق النفقة من بيت المال والحجر على الحر لدفع الضرر عن العامة مشروع بالإجماع كما في المفتي لما جن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس وحقا لدينه لا لسفه; لأنه وإن كان عاصيا لسفه فهو مستحق النظر باعتبار أصل دينه فإنه بالنظر إلى أصل دينه حبيب الله تعالى ولهذا لو مات يصلى عليه وكذا كل فاسق حقا لإسلامه والدليل عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهما شرعا بطريق النظر للمأمور والمنهي حقا لدينه وللمسلمين.
قوله: "لا لسفه" إشارة إلى الجواب عما قال أبو حنيفة رحمه الله السفه جناية منه فلا يستحق به النظر وعما قال الشافعي رحمه الله السفيه جان فيستحق الحجر بطريق العقوبة لا بطريق النظر فقال النظر له واجب لا باعتبار أن الجناية مستدعية للنظر ولكن باعتبار أن العبد المسلم يستحق النظر في عامة أحواله وعند السفه يفوت له النظر وتظهر الحالة التي تمس الحاجة إلى وجوب النظر له فنظر الشرع له في هذه الحالة لوجود المعنى الداعي إلى النظر. ألا يرى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن حتى كان العفو عن القصاص وعن كل جناية مندوبا إليه قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وكذا العفو عنه في الآخرة حسن وإن مات مصرا على الكبيرة من غير توبة عند أهل السنة حتى جاز أن يدخله الله الجنة بفضله وكرمه من غير تقديم عقوبة رغما لأنوف المعتزلة وقاساه بمنع المال فإن منع المال عنه كان بطريق النظر ليبقى مصونا عن التلف ولا يضيع بالتبذير والإسراف فكذلك الحجر عليه; لأن منع المال غير مقصود لعينه بل لإبقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإنه إذا كان مطلق التصرف لا يفيد منع المال شيئا وإنما يكون فيه زيادة مؤنة وكلفة على الولي في حفظ ماله إلى أن يتلفه بتصرفه. وإنما لم

(4/518)


حنيفة رحمه الله النظر من هذا الوجه جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوقه وها هنا يتضمن ضررا فوقه وهو وقف أهليته وإلحاقه بالصبيان والمجانين والبهائم بخلاف منع المال لما قلنا إنه غير معقول ولأنه عقوبة لا يحتمل المقايسة ولأن اليد للآدمي نعمة زائدة, واللسان والأهلية نعمة أصلية فيبطل القياس لإبطال أعلى النعمتين باعتبار أدناهما.
ـــــــ
يثبت الحجر في حق الطلاق والعتاق والنكاح ونحوها; لأن المحجور عليه لسبب السفه في التصرفات كالهازل فإن الهازل يخرج كلامه على غير نهج كلام العقلاء لقصد اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله فكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق لا يؤثر فيه السفه أيضا وكل تصرف يؤثر فيه الهزل وهو مما يحتمل الفسخ يؤثر فيه السفه.
قوله: "وقال أبو حنيفة رحمه الله" يعني في الجواب عن كلامهما أن النظر من هذا الوجه وهو أنه مستحق للنظر بعد الجناية جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة يجوز العفو ولا يجب ومن أصلهما أن الحجر واجب فلا يصح الاستدلال ثم النظر على هذا الوجه إنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوق هذا النظر هاهنا قد تضمن ذلك كما ذكر في الكتاب بخلاف منع المال عنه; لأنه إنما ثبت بالنص غير معقول المعنى لما بينا فلا يمكن تعديته إلى غيره ولأنه ثبت بطريق العقوبة عند بعض مشايخنا لا بطريق النظر فإن سببه جناية وهو مكابرة العقل واتباع الهوى والحكم المتعلق به وهو منع المال يصلح جزاء كإيجاب المال فيجعل جزاء فإنا عرفنا سائر الأجزية بهذا الطريق وهو إنا نظرنا إلى سبب فوجدناه جناية ونظرنا إلى الحكم فوجدناه صالحا للعقوبة فسميناه عقوبة كالجلد في الزنا وقطع اليد في السرقة وإذا ثبت أنه عقوبة لا يمكن تعديته إلى منع اللسان وقصر العبارة; لأن القياس لا يجري في العقوبات.
ولا يقال إن المنع لو كان عقوبة لفوض أي الإمام والأولياء هم المخاطبون به دون الأئمة لأنا نقول هو عقوبة تعزير وتأديب لا حد فيجوز أن يفوض إلى الأولياء كما في تعزير العبيد والإماء ولئن سلمنا أن النص معقول المعنى وأنه معلول بعلة النظر لا بالعقوبة لا نسلم جواز قياس الحجر على المنع أيضا لعدم المساواة; لأن منع المال إبطال نعمة زائدة عليه وهي اليد وإلحاقه بالفقراء وإثبات الحجر إبطال ولايته وأهليته وإلحاقه بالبهائم وهي نعمة أصلية; لأن الإنسان يمتاز من سائر الحيوان بالبيان فبان جواز إلحاق ضرر يسير به في منع نعمة زائدة وإلحاقه بالفقراء لتوفير النظر عليه لا يستدل على جواز إلحاق الضرر العظيم

(4/519)


وقالا هذه الأمور صارت حقا للعبد رفقا به فإذا أدى إلى الضرر وجب الرد لدفع الضرر عن المسلمين وإن لم يكن للمسلمين حق في عين المال وهذا قياس ما
ـــــــ
به بتفويت النعمة الأصلية وإلحاقه بالبهائم لمعنى النظر له. والجواب عن الآية أن المراد من السفيه على ما قيل هو الصبي الذي عقل فإن بعض تصرفاته يخرج عن نهج الاستقامة ومن الضعيف الصبي الصغير ومن الذي لا يستطيع أن يمل المجنون وقيل المراد من السفيه هو المبذر الذي اختلفنا فيه ولكن المراد من الولي هو ولي الحق لا ولي السفيه وفي الآية كلام طويل وعن الحديث أن عليا رضي الله عنه لم يطلب الحجر بسبب السفه بدليل أن عثمان رضي الله عنه ترك الحجر بسبب إشراك الزبير ومن يرى الحجة لا يترك بمثل هذا العذر فإن الغبن الواقع في العقد لا يرتفع بإشراك الغير ولكن يحتمل أن عليا رضي الله عنه رآه إسرافا حين أنفق مالا عظيما في شراء دار وهي حظ الدنيا; لأنه متى أنفق على هذا الوجه في كل حظوظ الدنيا ربما يقصر في حظوظ الآخرة فثبت أن ذلك كان على سبيل التخويف وعن قولهم لا فائدة في منع المال مع إطلاق التصرف أن السفيه إنما يتلف ماله عادة في التصرفات التي لا يتم إلا بإثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة والهبة والصدقة فإذا كانت يده مقصورة عن المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وإن كان لا يحجر عليه ثم أجاب الشيخ لهما عما قال أبو حنيفة رحمه الله ميلا منه إلى قولهما بقوله وقالا هذه الأمور يعني اليد واللسان والأهلية صارت حقا للعبد رفقا به يعني ثبتت هذه الأمور للعبد لأجل أن يرتفق بها العبد فإذا أدى ثبوت هذه الأمور إلى الضرر في حقه وفي حق المسلمين وجب الرد أي رد هذه الأشياء لدفع الضرر عن نفسه كي لا يصير ثبوتها عائدا على موضوعه بالنقض ولدفع الضرر عن المسلمين وفي بعض النسخ بدون الواو وهو الأظهر. وقوله وإن لم يكن للمسلمين حق في عين المال أي مال السفيه إشارة إلى رد ما أجيب عن قولهما فإنهما لما قالا النظر واجب بالحجر حقا للمسلمين أجيب عنه بأنه لا ضرر في حقهم; لأنه يتصرف في خالص ملكه لا حق لأحد فيه فلا يجب الحجر فردا ذلك الجواب وقالا إنه وإن تصرف في خالص ملكه ولا حق للمسلمين في ماله يؤدي تصرفه إلى الإضرار بالمسلمين في المال فيجب دفعه عنهم بالحجر في الحال وهذا أي وجوب الرد لدفع الضرر عن المسلمين قياس ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن تصرف في خالص ملكه بما يضر جيرانه يمنع حتى لو اتخذ طاحونة للأجرة يمنع ولو نصب منوالا لاستخراج الإبريسم من الفيلق فللجيران المنع إذا تضرروا بالدخان ورائحة الديدان وللجيران منع دقاق الذهب لتضررهم بدقه وكذا النداف إذا كان ضرره بينا يمنع كذا في مختصر المنية من غير ذكر خلاف فثبت أن شرعية الحجر على السفيه عنه هما بطريق النظر.

(4/520)


روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن تصرف في خالص ملكه بما يضر جيرانه أنه يمنع عنه فصار الحجر عندهما مشروعا بطريق النظر وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدا فلا يلحق بالصبى خاصة ولا بالمريض ولا بالمكره لكن يجب إثبات النظر بأي أصل أمكن اعتباره على ما هو مذكور في المبسوط وهو أنواع عندهما حجر بسبب السفه مطلقا وذلك يثبت عند محمد رحمه الله
ـــــــ
قوله: "وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدا" يعني لا يجعل السفيه عندهما كالهازل في جميع التصرفات ولا كالصبي ولا كالمريض بل المعتبر في حقه توفير النظر عليه; لأن الحجر ثبت لمعنى النظر له فبحسبه يلحق ببعض هذه الأصول. فإذا أعتق عبدا نفذ عتقه; لأن السفه كالهزل ولكنه يسعى في قيمته عند محمد رحمه الله; لأن الحجر ثبت بمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض لغرمائه وورثته وهناك وجبت السعاية للغرماء في كل القيمة وللورثة في ثلثي القيمة إذا لم يكن عليه دين ردا للعتق بقدر الإمكان فكذا هاهنا وإن جاءت جارية بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد لا سبيل عليها لأحد بعد موته; لأن توفير النظر في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاء لحاجته إلى إبقاء نسله وصيانة مائه فيلحق في هذا بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى إنها تعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شيء; لأن حاجته مقدمة على حق غرمائه ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه; لأنه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري شيء من ذلك; لأنه وإن ملكه للقبض فالتزام الثمن أو القيمة منه بالعقد غير صحيح لما فيه من الضرر عليه فهو في هذا الحكم ملحق بالصبي. ولو حلف بالله أو نذر نذورا من هدي أو صدقة لم ينفذ له القاضي شيئا من ذلك ولم يدعه يكفر أيمانه; لأنه محجور عليه عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى الإتلاف فهو ملحق بالصبي في هذا الحكم أيضا ولكنه يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعة وإن كان هو مالكا; لأن يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة ابن السبيل المنقطع عن ماله فله أن يكفر بالصوم.
قوله: "وهو" أي الحجر بسبب النظر عندهما أنواع حجر بسبب السفه مطلقا يعني سواء كان أصليا بأن بلغ سفيها أو عارضا بأن حدث بعد البلوغ رشيدا وذلك أي هذا الحجر يثبت عند محمد بنفس السفه بدون حجر القاضي أصليا كان أو عارضا; لأن الدلالة قد قامت لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والصغر والرق,

(4/521)


بنفس السفه إذا حدث بعد البلوغ أو بلغ كذلك وقال أبو يوسف رحمه الله لا بد
ـــــــ
والحجر يثبت بنفسها من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك بالسفه وأبو يوسف رحمه الله يقول لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي في الوجهين; لأن الحجر عليه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر والضرر ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي يوضحه أن السفه ليس بشيء محسوس وإنما يستدل عليه بأن يغبن في التصرفات وقد يكون ذلك للسفه وقد يكون حيلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان محتملا مترددا لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعته ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين. فلو أدرك سفيها فلم يرفع أمره إلى القاضي حتى باع شيئا من تركة والده وأقر بديون ووهب هبات وتصدق بصدقات صح جميعها عند أبي يوسف خلافا لمحمد. رحمهما الله النوع الثاني من الحجر أن المديون إذا امتنع عن بيع ماله لقضاء الدين باع القاضي عليه أمواله عروضا كان أو عقارا عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يبيع عليه ماله إلا أحد النقدين بالآخر استحسانا لقضاء دينه احتجا في ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه فإنه ركبته الديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص وقال عمر رضي الله عنه في خطبته إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن وإن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال قد سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين عليه ألا إني بائع عليه ماله وقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص ممن كان له عليه دين فليغد ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان هذا اتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله وبأن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل أنه يحبس إذا امتنع منه وهو مما تجري فيه النيابة والأصل أن من امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما تجري فيه النيابة ناب القاضي منابه كالذمي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي, والعنين بعد مضي المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وبأن بيع المال غير مستحق عليه فإن المستحق عليه قضاء الدين وبيع المال غير متعين لقضاء الدين فإنه يتمكن من قضائه بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله عند امتناعه كالإجارة والتزويج. الدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق ولو جاز له بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما فيه من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة.

(4/522)


من حكم القاضي; لأن باب النظر إلى القاضي. والنوع الثاني إذا امتنع المديون عن بيع ماله لقضاء الدين باع القاضي عليه أمواله والعروض والعقار في ذلك سواء
ـــــــ
وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم; لأن عند إصرار المولى على الشرك إخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضي منابه. وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الإمساك بالمعروف استحق عليه التسريح بعينه فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بأن كان عليه دراهم وماله دنانير ففي القياس ليس له أن يباشر هذه المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين وفي الاستحسان يفعل ذلك. الدراهم والدنانير جنسان صورة, وجنس واحد معنى ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان للقاضي أن يقضي به دينه فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى ولكن لا يكون لصاحب الدين ولاية الأخذ من غير قضاء كما لو ظفر بجنس حقه; لأنهما جنسان صورة وإن كانا جنسا واحدا حكما فلعدم المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين بأخذه ولوجود المجانسة معنى كان للقاضي أن يقضي دينه وتأويل حديث معاذ رضي الله عنه أنه عليه السلام إنما باع ماله بسؤاله; لأنه لم يكن وفاء بدينه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير وفاء بدينه. وهذا; لأن عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله حق يحتاج ببيعه عليه بغير رضاه فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ولأجله ركبته الديون فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشهور في حديث أسيفع أن عمر رضي الله عنه قال إني قاسم ماله بين غرمائه فيحمل على أن ماله كان من جنس دينه وإن ثبت البيع فإنما كان برضاه. ألا ترى أن عندهما القاضي لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك وأمرهم أن يغدوا إليه فدل أنه كان ذلك برضاه كذا في المبسوط.
قوله: "والثالث أن يخاف على المديون" إلى آخره إذا خيف على من ركبته الديون أن يلجئ ماله بطريق الإقرار أو البيع فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه لا يحجر القاضي عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وينفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز الحجر عليه عندهما بطريق النظر له فلذلك يحجر عليه لأجل النظر للمسلمين. وعند أبي حنيفة رحمه الله كما لا يحجر على المديون نظرا له لا يحجر عليه نظرا للغرماء لما في الحيلولة بينه وبين التصرفات في ماله من الضرر عليه وإنما

(4/523)


وذلك ضرب حجر. والثالث أن يخاف على المديون أن يلجئ أمواله ببيع أو إقرار فيحجر عليه على أن يصح تصرفه إلا مع هؤلاء الغرماء والرجل غير سفيه فإن ذلك واجب ليعلم أن طريق الحجر عندهما النظر للمسلمين فأما أن يكون السفه من أسباب النظر فلا لكنه بمنزلة العضل من الأولياء.
ـــــــ
يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه ألحق الضرر به إلا بقدر ما ورد الشرع به وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر في إهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي ومحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول فيقول هذا الحجر لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي والحجر على السفيه لأجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فثبت حكمه بدون القضاء فتبين بما ذكرنا من إيجاب الحجر في هذين الوجهين أن طريق الحجر عندهما هو النظر للمسلمين لا أن تكون نفس السفه الذي هو معصية من أسباب النظر فإن السفه لم يوجد في هاتين الصورتين وقد وجب الحجر نظرا للمسلمين هو معنى قوله والرجل غير سفيه إلى آخره. لكنه أي السفه بمنزلة العضل أي المنع من الأولياء في أنه يوجب الحجر نظرا فإن الولي إذا امتنع عن تزويج المرأة عند خطبة الكفء وخيف فوته يزوجها القاضي منه ويصير الولي محجورا ساقط الولاية في هذا العقد حتى لم تكن له ولاية إبطاله نظرا للمرأة لا أن يكون العضل الذي هو ظلم من أسباب النظر له فكذا السفيه إذا أتلف ماله يحجر عليه نظرا للمسلمين لا أن يكون السفه بنفسه من أسباب النظر له.

(4/524)


"السفر"
القسم الخامس وهو السفر السفر هو الخروج المديد وأدناه ثلاثة أيام ولياليها على ما عرف وأنه لا ينافي شيئا من الأهلية ولا يمنع شيئا من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف
ـــــــ
"السفر"
قوله: "القسم الخامس" أي من العوارض المكتسبة وهو السفر السفر قطع المسافة لغة وفي الشريعة هو الخروج على قصد المسير إلى موضع بينه وبين ذلك الموضع مسيرة ثلاثة أيام فوقها سير الإبل ومشي الأقدام على ما عرف يعني في المبسوط وغيره أن ما ذكرنا هو المختار وأن قوله عليه السلام: "يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها" يدل على هذا التقرير المذكور وهو حديث مشهور وأنه لا ينافي شيئا من الأهلية أي لا يحل بها بوجه لبقاء القدرة الظاهرة والباطنة بكمالها. ولا يمنع شيئا أي

(4/524)


بنفسه مطلقا; لأنه من أسباب المشقة لا محالة بخلاف المرض; لأنه متنوع على ما قلنا واختلفوا في أثره في الصلوات فهو عندنا سبب للوضع أصلا حتى إن ظهر المسافر وفجره سواء لا يحتمل الزيادة عليه وقال الشافعي رحمه الله هو سبب رخصة فلا يبطل العزيمة كما قيل في حق الصائم ولنا على ما قلنا دليلان ظاهران ودليلان خفيان أما الأولان فأحدهما أن القصر أصل والإكمال زيادة قالت عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر والأصل لا يحتمل المزيد إلا بالنص. والثاني أنا وجدنا الفضل على ركعتين إن أداه أثيب عليه وإن تركه لا يعاتب عليه وهذا حد النوافل. وأما الوجهان الخفيان أحدهما أن هذه رخصة إسقاط; لأن ذلك حق وضع عنا مثل وضع الإصر والأغلال, قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله مالنا نقصر وقد أمنا فقال النبي عليه السلام: "إن الله تعالى تصدق عليكم بصدقة فاقبلوا صدقته"
ـــــــ
وجوب شيء من الأحكام نحو الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها لكنه جعل في الشرع من أسباب التخفيف بنفسه مطلقا يعني من غير نظر إلى كونه موجبا للمشقة أو غير موجب لها لأنه أي السفر من أسباب المشقة لا محالة يعني في الغالب حتى لو تنزه سلطان من بستان إلى بستان في خدمه وأعوانه لحقه مشقة بالنسبة إلى حال إقامته فلذلك اعتبر نفس السفر سببا للرخص وأقيم مقام المشقة بخلاف المرض حيث لم تتعلق الرخصة بنفسه; لأنه متنوع إلى ما يضر به الصوم وإلى ما لا يضر به بل ينفعه فلذلك تعلقت الرخص بالمرض الذي يوجب المشقة بازدياد المرض لا بما لا يوجبها. ألا ترى أنه لو حدث به برص في حال الصوم لا يمكن أن يرخص له بالإفطار مع أنه من الأمراض الصعبة فعرفنا أن الحكم غير متعلق بنفس المرض كما ظنه بعض أصحاب الحديث.
واختلف في أثر السفر في الصلوات فأثره في حق الصلوات عندنا إسقاط الشطر من ذوات الأربع حتى لم يبق إلا كمال مشروع أصلا فكان ظهر المسافر وفجره سواء وعند الشافعي رحمه الله حكم السفر ثبوت حق الترخص له بأن يصلي ركعتين إن شاء كما في الإفطار حتى لو لم يشأ لم يجزه إلا الأربع وإذا فاتت لزمه قضاء الأربع عنده وقد أوضح الشيخ رحمه الله هذه المسألة هاهنا غاية الإيضاح وقد مر بيانها في باب العزيمة والرخصة فلا يحتاج إلى زيادة شرح دليلان ظاهران من النص والمعقول ودليلان خفيان منهما أيضا القصر أصل قال مقاتل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتان للمسافر وللمقيم أربعا كذا في

(4/525)


وحق الصلاة علينا حق لا يحتمل التمليك ولا مالية فيه وكانت صدقته إسقاطا محضا لا يحتمل الرد أرأيت عفو الله عنا إلا تاما وهبته العتق من النار أيحتمل الرد هذا أمر يعرف ببداءة العقول بخلاف الصوم; لأن النص أوجب تأخيره بالسفر لا سقوطه فبقي فرضا فصح أداؤه وثبت أنه رخصة تأخير وفي الصلاة رخصة إسقاط وفسخ فانعدم أداؤه الثاني أن العبودية تنافي المشيئة المطلقة والاختيار الكامل وإنما ذلك من صفات البار جل جلاله وإنما للعبد اختيار ما يرتفق به ولله تعالى الاختيار المطلق يفعل ما يشاء بلا رفق يعود إليه ولا حق يلزمه. ألا ترى أن الحالف إذا حنث في اليمين خير بين أنواع الثلاثة من الكفارة لرفق يختاره وفي مسألتنا لو ثبت له الاختيار بين القصر والإكمال لكان اختيارا في وضع الشرع; لأنه لا رفق له بل الرفق واليسر متعين في القصر من كل وجه فإذا
ـــــــ
التيسير إلا بنص والنص في حال الإقامة دون السفر: "أن الله تعالى تصدق عليكم فاقبلوا صدقته" يعني القصر المتعلق بالسفر صدقة من الله تعالى عليكم فاعملوا بها واعتقدوها والقصر المذكور في الكتاب المعلق بالخوف غير هذا القصر وهو قصر الأحوال على ما بيناه. لا يحتمل الرد; لأن إثبات حق يحتمل التمليك من الله تعالى لا يحتمل الرد كالإرث فإسقاط حق لا يحتمل التمليك أولى أن لا يحتمل الرد وهذا بخلاف إبراء الدين من العباد حيث يحتمل الرد; لأن فيه معنى التمليك من وجه; لأن الدين مال من وجه دون وجه فلا يكون إسقاطا محضا فيجوز أن يرتد بالرد عملا بجهة التمليك وإن لم يتوقف صحته على القبول عملا بجهة الإسقاط فأما هذا فإسقاط محض فلا يحتمل الرد بوجه; لأنه يتم بالمسقط وهو جواب عن تمسك الخصم بهذا الحديث فإنه قال سماه صدقة وأمر بالقبول فيتوقف الترخص على القبول فأجاب بما ذكر لكان اختيارا في وضع الشرع يعني لو علق الترخص باختياره على معنى إن شاء قبل وإن شاء رد لكان ذلك نصب شريعة مفوضا إلى رأي العباد وصار كأن الشارع قال اقصروا إن شئتم وهذا أمر لا نظير له فأمر الله تعالى من ندب أو إباحة أو وجوب غير متعلق برأي العبد بل حكمه نافذ في الحال ولو علق به لم يكن شرعا في الحال كالطلاق المعلق بالمشيئة وإذا شاء العبد كان الثبوت مضافا إلى المشيئة كما في الطلاق المعلق بالمشيئة بخلاف سائر الشروط; لأن التعليق بالمشيئة تمليك ولا يجوز إضافة نصب الشريعة إلا إلى الله عز وجل أو رسله عليهم السلام بخلاف صدقة العباد فإنها متعلقة باختيار المتصدق عليه; لأن ولاية المتصدق غير نافذة فلهذا تعلق به أما صيرورة الصلاة ركعتين أو أربعا فليس إلينا بل الأداء إلينا ومباشرة العلل من سفر وإقامة دون إثبات الأحكام. ولا يلزم عليه ثبوت الخيار بين المشروعين كما في الجمعة مع الظهر في حق العبد المأذون وكما في أنواع الكفارة; لأن خياره هناك في تعيين

(4/526)


لم يتضمن الاختيار رفقا كان ربوبية لا عبودية وهذا غلط ظاهر وخطأ بين, ألا ترى أن المدبر إذا جنى جناية لم يخير مولاه بين قيمته وهي ألف درهم وبين الدية وهي عشرة آلاف درهم, وكذلك إذا جنى عبد ثم أعتقه وهو لا يعلم بجنايته غرم قيمته إذا كانت دون الأرش من غير خيار. وكذلك المكاتب في جناياته وإذا كان كذلك علم أن الاختيار للرفق ولا رفق في اختيار الكثير على القليل والجنس واحد ويخير في جناية العبدين إمساك رقبته, وقيمته ألف درهم وبين الفداء بعشرة آلاف; لأن ذلك قد يفيد رفقا وفي مسألتنا لا رفق في اختيار الكثير فبقي اختياره مطلقا ومشيئة وهي ربوبية وذلك باطل فإن قيل فيه فضل ثواب قلنا عنه ليس كذلك فما الثواب إلا في حسن الطاعة لا في الطول والقصر. ألا ترى أن ظهر المقيم لا يزيد على فجره ثوابا وأن ظهر العبد لا يزيد على جمعة الحر ثوابا فكذلك هذا على أن الاختيار وهو حكم الدنيا لا يصلح بناؤه على حكم الآخرة وهذا بخلاف الصوم في السفر; لأنه مخير بين وجهين كل
ـــــــ
المشروع لا في أصل المشروع أما هاهنا فليس مشروع الوقت إلا صلاة واحدة مقصورة أو كاملة فمتى تعين القصر مشروعا لم يبق إلا كمال; لأنهما لا يجتمعان كالظهر مع العصر في وقت واحد وهذا; لأن السفر متى أوجب القصر طارئا لم يبق الأربع كالإبراء عن بعض الدين إذا وجب السقوط لم يبق الكمال إلا بالرد فكذلك هاهنا لا تكمل الصلاة إلا برد هذا الشرع وما للعبد هذه الولاية وهذا أي إثبات الخيار على وجه يؤدي إلى الشركة في وضع الشرع غلط ظاهر ألا ترى توضيحا لقوله إنما للعبد اختيار ما يرتفق به وكذلك المكاتب في جناياته يعني يلزمه الأقل من قيمته ومن الأرش ولا يخير بينهما وإذا كان كذلك أي كان الأقل متعينا في هذا المسائل ولم يثبت الخيار والجنس واحد احتراز عن التخيير بين الجمعة والظهر للعبد المأذون في الجمعة الثواب في حسن الطاعة لا في الطول والقصر قال عليه السلام: "ركعتان من تقي خير من ألف ركعة من مخلط" فكذلك أي مثل ظهر العبد وجمعة الحر ظهر المقيم وظهر المسافر لا يصح بناؤه على حكم الآخرة بل يجب بناؤه على ما نعقله في الدنيا من لزوم وبراءة بلا أداء كما في الاختيار في أنواع كفارة اليمين فإنه مبني على اليسر الحالي في الدنيا لا على الثواب.
قوله: "وإنما الحكم" وهو قصر الصلاة بالسفر إذا اتصل السفر بسبب الوجوب وهو الجزء الذي يتصل بالأداء ثبت هذا إذ الجزء الأخير من الوقت حتى ظهر أثره أي أثر السفر في أصل الواجب وهو الأداء بالقصر فظهر في قضائه الذي هو خلفه فلهذا لو فاتته صلاة

(4/527)


واحد منهما يتضمن يسرا من وجه وعسرا من وجه; لأن الصوم في السفر يتضمن يسرا موافقة المسلمين وذلك يسر بلا شبهة ويتضمن عسرا بحكم السفر والتأخير إلى حالة الإقامة يتضمن عسرا من وجه وهو عسر الانفراد ويسرا من وجه وهو الاستمتاع بحال الإقامة فصح التأخير لطلب الرفق بين وجهين مختلفين فكان ذلك عبودية لا ربوبية والله تعالى أعلم. وإنما يثبت هذا الحكم بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب حتى ظهر أثره في أصله وهو الأداء فظهر في قضائه إذا لم يتصل به فلا ولما كان السفر من الأمور المختارة ولم يكن موجبا ضرورة لازمة قيل له إن المسافر إذا نوى الصيام في رمضان وشرع فيه لم يحل له الفطر.
ـــــــ
في السفر قضاها في السفر وفي الحضر ركعتين وإذا لم يتصل السفر بالسبب فلا أي لا يثبت القصر حتى لو فاتته رباعية في الحضر قضاها في السفر أربعا وهذا; لأنه لا بد من أن يقارن المانع المثبت ليمنعه عن العمل فإذا تأخر ثبت الحكم وتقرر فلا يزول إلا بالأداء أو الرافع والسفر مانع لا رافع وعند الشافعي رحمه الله إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلى فيه أربع ركعات ثم خرج مسافرا صلى أربعا وعندنا يصلي ركعتين بناء على أن وجوب الصلاة عنده يتعلق بأول الوقت فإذا كان مقيما في أوله وجب عليه صلاة المقيمين وعندنا الوجوب يتعلق بآخر الوقت; لأنه مخير في أول الوقت بين الأداء والتأخير والوجوب ينفي التخيير فإذا كان مسافرا في آخره كان عليه صلاة السفر.
قوله: "ولما كان السفر من الأمور المختارة" أي الأمور التي يتعلق وجودها باختيار العبد وكسبه ولم يكن موجبا ضرورة لازمه يعني بعدما تحقق لا يوجب ضرورة تدعو إلى الإفطار بحيث لا يمكن دفعها; لأن المسافر قادر على الصوم من غير تكلف ومن غير أن تلحقه آفة في بدنه أو معناه أن الضرورة الداعية إلى الفطر غير لازمة لإمكان دفعها بالامتناع عن السفر; لأنه من الأمور المختارة بخلاف المرض قيل له أي للمسافر إن المسافر هو من قبيل إقامة المظهر مقام المضمر ولو لم تذكر كلمة له لكان أوضح أي أجيب وأفتي في حق المسافر إذا نوى الصيام في رمضان وشرع فيه بأنه لم يحل له الفطر لعدم الضرورة الداعية إليه وتقرر الوجوب بالشروع وإنما قيد بقوله وشرع فيه; لأنه إذا عزم على الصوم ثم فسخه قبل انفجار الصبح يباح له الإفطار كمن عزم على صوم النفل ثم رجع عنه قبل الصبح يباح له الأكل ولا يلزمه القضاء; لأنه لم يوجد منه الشروع في الصوم فكذلك هاهنا بخلاف المريض إذا تكلف للصوم بتحمل زيادة المرض ثم بدا له أن يفطر حل له ذلك لأن الضمير راجع إلى المفهوم أي المرض سبب ضروري للمشقة أي هو

(4/528)


بخلاف المريض إذا تكلف ثم بدا له أن يفطر حل له; لأنه سبب ضروري للمشقة وهذا موضوع لها ولكنه إذا أفطر كان قيام السفر المبيح عذرا وشبهة في الكفارة وإذا أصبح مقيما وعزم على الصوم ثم سافر لم يحل له الفطر بخلاف ما إذا مرض وإذا أفطر لم يلزمه الكفارة عندنا وإذا أفطر ثم سافر لم يسقط عنه الكفارة
ـــــــ
يوجب مشقة لازمة على تقدير الصوم إذ لو لم يوجب مشقة لما صلح سببا للترخص بالإفطار وكذا لا يمكن دفعه; لأنه أمر سماوي.
وهذا أي السفر موضوع للمشقة أي أقيم مقام المشقة في إباحة الإفطار لا أن يكون موجبا للمشقة حقيقة لا محالة فكانت المشقة فيه موجودة تقديرا لا تحقيقا فلا تؤثر في إباحة نقض الصوم الذي شرع فيه مع أن السفر لا ينافي استحقاق الصوم. ولكنه أي المسافر استدراك من قوله لم يحل له الفطر وإذا أصبح رجل مقيما وعزم على الصوم ثم سافر لم يحل له الفطر; لأن أداء الصوم وجب عليه في هذا اليوم حقا لله تعالى وإنما إنشاء السفر باختياره فلا يسقط به ما تقرر وجوبه عليه بخلاف ما إذا مرض المقيم حيث حل له الفطر; لأنه أمر سماوي موجب للمشقة حقيقة فيؤثر في إباحة الإفطار وإذا أفطر أي في حال السفر مع أنه يحل له الفطر لم تلزمه الكفارة عندنا لتمكن الشبهة في وجوب الكفارة باقتران السبب المبيح بالفطر فإن السفر مبيح للفطر في الجملة فصورته تمكن شبهة وإن لم توجب إباحة وذكر عن الشافعي رحمه الله في مختصر البويطي أنه تلزمه الكفارة اعتبارا لآخر النهار بأوله وهذا بعيد فإن في أوله يعري فطره عن شبهة وبعد السفر يقترن السبب المبيح بالفطر ولو وجد هذا السبب في أول النهار يباح له الفطر فإذا وجد في آخره يصير شبهة كذا في المبسوط. وإذا نظر أي المقيم العازم على الصوم ثم سافر لم تسقط عنه الكفارة بخلاف ما إذا مرض بعد الفطر مرضا يبيح الإفطار حيث تسقط به الكفارة عنه لما قلنا إن السفر مكتسب ولا يزيل استحقاق الصوم عليه حق لا يباح له الفطر ولا يصير شبهة في سقوط حكم تقرر عليه شرعا حقا لله تعالى; لأنه يصير كأنه أسقطه باختياره هذا أي المرض سماوي وإذا وجد في آخر النهار يزيل استحقاق الصوم; لأنه يبيح له الفطر لو كان صائما وزوال الاستحقاق لا يتجزأ فيصير زائلا من أوله كالحيض يعدم الصوم من أوله فيصير شبهة في سقوط الكفارة حتى لو صار السفر خارجا عن اختياره أيضا بأن أكرهه السلطان على السفر في اليوم الذي أفطر فيه متعمدا سقط عنه الكفارة أيضا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله كذا في فتاوى قاضي خان رحمه الله.
فإن قيل السبب المبيح إنما يعمل في القائم ولم يبق الصوم فكيف يعمل في

(4/529)


بخلاف المرض لما قلنا إن السفر مكتسب وهذا سماوي وأحكام السفر تثبت بنفس الخروج بالسنة المشهورة عن رسول الله عليه السلام وإن لم يتم السفر علة بعد تحقيقا للرخصة. ألا ترى أنه إذا نوى رفضه صار مقيما وإن كان في غير موضع الإقامة; لأن السفر لما لم يتم علة كانت نية الإقامة نقضا للعارض لإقامة ابتداء علة وإذا سار ثلثا ثم نوى المقام في غير موضع إقامة لم يصح; لأن هذا ابتداء إيجاب فلا يصح في غير محله وإذا اتصل بهذا السفر عصيان مثل سفر الآبق وقاطع الطريق كان من أسباب الترخص عندنا وقال الشافعي رحمه الله ليس ذلك من أسباب الترخص لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}
ـــــــ
المعدوم قلنا ولو كان الصوم قائما لما أوجب الإباحة حقيقة من أول النهار لكنه لما كان معدوما صار شبهة; لأن الفطر إنما يكون علة لوجوب الكفارة باعتبار أن الصوم مستحق وإنما يكون ذلك الجزء مستحقا على تقدير عدم تحقق المبيح إلى آخر النهار; لأنه مما لا يتجزأ ثبوته فإذا زال في البعض زال في الكل.
قوله: "وأحكام السفر" أي الرخص التي تعلقت به ثبت بنفس الخروج من عمر أن المصرح بالسنة المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه عليه السلام كان يترخص ترخص المسافرين حين يخرج إلى السفر وعلي رضي الله عنه حين خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا ثم نظر إلى خص أمامه وقال لو جاوزنا ذلك الخص صلينا ركعتين. وكان القياس أن لا يثبت الأحكام إلا بعد تمام السفر بالمسير ثلاثة أيام; لأن العلة تتم به والحكم لا يثبت قبل تمام العلة لكن ترك القياس بالسنة تحقيقا للرخصة في حق الجميع فإن شرعية رخص السفر للترفيه فلو توقف الترخص بها على تمام العلة بتمام ثلاثة أيام لتعطلت الرخص في حق من لم يكن مقصده سوى مسيرة ثلاثة أيام ولم تفد فائدتها في حقه فتعلقت بنفس الخروج تعميما للحكم في حق الجميع وإثباتا للترفيه في جميع مدة السفر ثم استوضح عدم تمام السفر علة بقوله. ألا ترى أن المسافر إذا نوى رفض السفر بأن بدا له أن يرجع إلى مصره قبل أن يسير ثلاثة أيام صار مقيما حتى صلى صلاة المقيم في انصرافه ولم يشترط لصيرورته مقيما محل الإقامة; لأن السفر لما لم يتم علة بالمسير ثلاثة أيام كانت نية الإقامة منه نقضا للعارض وهو السفر لا ابتداء علة وصار كأن السفر لم يكن وكأنه لم يزل مقيما كما كان فلم يشترط محل الإقامة. وإذا سار ثلاثا ثم نوى الإقامة في غير موضع إقامة لا تصح لأن هذا أي نية الإقامة على تأويل القصد إيجاب أي إثبات إقامة ابتداء لا نقض السفر; لأنه قد تم فلم يصح في غير محله أي لم يصح الإيجاب وهو الإقامة في غير محله وهو المفازة.
قوله لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وجه تمسكه به أنه تعالى

(4/530)


[البقرة: 173] ولأنه عاص في هذا السبب فلم يصلح سبب رخصة وجعل معدوما زجرا وتنكيلا كما سبق في السكر وقلنا نحن إن سبب وجوب الترخص موجود وهو السفر. وأما العصيان فليس فيه بل في أمر ينفصل عنه وهو التمرد على من يلزمه طاعته والبغي على المسلمين والتعدي عليهم بقطع الطريق, ألا ترى أن ذلك ينفصل عنه فإن التمرد على المولى في المصر بغير سفر معصية, وكذلك البغي وقطع الطريق صار جناية لوقوعه على محل العصمة من النفس والمال والسفر فعل يقع على محل آخر. ألا ترى أن الرجل قد يخرج غازيا ثم قد يستقبله عير فيبدو له فيقطع عليهم فصار النهي عن هذه الجملة نهيا لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل مشروعا فلا
ـــــــ
أثبت الترخص بأكل الميتة للمضطر الموصوف بكونه غير باغ أي خارج على الإمام: {وَلا عَادٍ} أي على المسلمين بقطع الطريق فبقيت الحرمة في حق الباغي والعادي بأول الآية كما بقيت في حق غير المضطر وإذا ثبت هذا الشرط في الترخص بقصر الصلاة والإخطار وسائر رخص السفر بطريق الدلالة أو بالقياس أو بعدم القائل بالفصل. ولأنه أي الباغي ومن في معناه عاص في مباشرة هذا السبب; لأن عينه معصية فلم يصلح سبب رخصة; لأنها نعمة وهي لا تستحق بالمعصية وجعل معدوما زجرا وعقوبة كما جعل السكر المحظور معدوما في حق الأحكام بهذا الطريق ولنا أن سبب الترخص وهو السفر موجود; لأنه إنما يتحقق بالخروج والقصد إلى مكان بعيد وقد تحقق ذلك منه مع قصد الإغارة والتمرد فينظر أنه كان مسافرا بقصد الإغارة والتمرد أو بقصده مكانا بعيدا عينه للإغارة فيه فوجدناه مسافرا بقصده المكان البعيد; لأنه لو قصد ذلك الموضع بدون قصد الإغارة يصير مسافرا ولو قصد الإغارة بدون القصد إلى المكان البعيد لم يصر مسافرا وإن طاف الدنيا بهذا القصد فإذا وجد الأمران هاهنا جعلناه مسافرا بقصده ذلك المكان وألغينا قصد الإغارة; لأنه منفصل عنه على ما قرر في الكتاب بخلاف السكر; لأنه حدث من شربه وشرب ما يسكره حرام فصار النهي عن هذه الجملة أي عن سفر البغي وسفر الإباق وسفر قطع الطريق ونحوها من كل وجه احتراز عن النهي لمعنى في غير المنهي عنه متصل به وصفا كصوم يوم العيد. وبذلك أي بالنهي لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه لا يمتنع تحقق الفعل مشروعا بالاتفاق كالصلاة في أرض مغصوبة فلا يمتنع تحقق الفعل سببا للرخصة بهذا النهي بطريق الأولى لأن صفة الحل في السبب دون صفة القربة في المشروع مقصودة; لأنه مشروع للتقرب, وصفة الحل في السبب غير مقصودة; لأن السبب

(4/531)


يمتنع تحقق الفعل سببا للرخصة; لأن صفة الحل في السفر دون صفة القربة في المشروع بخلاف السكر; لأنه عصيان بعينه فلم يصلح أن يتعلق الرخصة بأثره وتبين أن قوله عز وجل: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] في نفس الفعل أن يتعدى المضطر عن الذي به يمسك مهجته, وصيغة الكلام أدل على هذا مما قال وأحكام السفر أكثر من أن تحصى.
ـــــــ
غير مقصود بنفسه بل هو وسيلة إلى المقصود وإنما يحتاج فيه إلى صفة الحل ليصلح سببا للمشروع, ومنافاة النهي القربة أقوى من منافاته الحل; لأن القربة لا تثبت بدون الطلب والندب والحل يثبت بنفس الإباحة فكان النهي الذي هو للمنع أقوى منافاة للطلب من منافاته للحل ثم النهي الذي ورد لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه لا يوجب زوال صفة القربة عن المشروع ولا يمنع تحققه كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة فلأن لا يوجب زوال صفة الحل عن السبب ولا يمنع تحققه كان أولى أو يقال زوال صفة القربة عن المشروع بمثل هذا النهي لا يمنع تحقق المشروع كالطلاق في حالة الحيض فلأن لا يمنع زوال صفة الحل عن السبب بهذا النهي عن تحقق السبب كان أولى كذا في بعض الشروح. والأول أوجه وتبين أن قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ} في نفس الفعل يعني تبين بما ذكرنا أن المراد من قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} البغي والعداء في نفس الفعل وكذلك أي البغي والعداء في نفس الفعل أن يتعدى المضطر إلى الميتة في الأكل عما يمسك به مهجته فعلى هذا كان البغي والعداء بمعنى واحد قال الإمام نجم الدين رحمه الله في التيسير قيل هما واحد ومعناهما مجاوزة قدر الحاجة والتكرار للتأكيد كقوله تعالى: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ} أي طالب للمحرم وهو يجد غيره ولا عاد أي مجاوز قدر ما يقع به دفع الهلاك عن نفسه. وقيل هما تفسير قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] أي المضطر هو الذي يكون غير باغ ولا عاد في الأكل وهو كقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] فإنه تفسير للمحصنات وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ} أي متلذذ ولا عاد أي متزود وفي الكشاف غير باغ على مضطر آخر بالاستيثار عليه ولا عاد سدا لجوعة.
فتبين بهذه التأويلات أن المراد نفي البغي والعدو عن نفس الفعل وهو الأكل وأن التقدير فمن اضطر إلى المحرم فأكله غير باغ ولا عاد في أكله وصيغة الكلام أدل على هذا أي على رجوع البغي والعدو إلى الأكل مما قاله الشافعي من رجوعهما إلى الاضطرار; لأن الآية سيقت لبيان حرمة الأكل وحله فكان صرف البغي والعدو إلى الفعل الذي هو

(4/532)


.........................................................
مقصود الكلام أولى من صرفه إلى ما ليس بمقصود فيه وذكر في شرح التأويلات أنه لا فتوى أضيع من فتواه هذه; لأن أحدا من البغاة وقطاع الطريق لا يأخذ بفتياه; لأنه لما لم يمتنع عن البغي أو قطع الطريق مع أنه لا يلحقه كثير ضرر في الامتناع عنه فكيف يمتنع عن أكل الميتة وفي ذلك هلاكه ثم هذا مناقضة منه فإنه قال في الباغي المقيم يمسح يوما وليلة وإذا سافر هذا الباغي لم يرخص له المسح والمسح كما هو رخصة في السفر رخصة في الحضر فما باله حرم إحدى الرخصتين وأباح الأخرى مع وجود الظلم والبغي ولم يعتبر ما ذكر من المعنى؟.

(4/533)


"الفصل السادس وهو الخطأ"
هذا النوع نوع جعل عذرا صالحا لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد وشبهة في العقوبة حتى قيل إن الخاطئ لا يأثم ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص; لأنه جزاء كامل من أجزئة الأفعال فلا يجب على المعذور ولم يجعل عذرا في حقوق العباد حتى وجب ضمان العدوان على الخاطئ; لأنه ضمان مال
ـــــــ
"الفصل السادس وهو الخطأ"
قال الإمام اللامشي الصواب ما أصيب به المقصود بحكم الشرع والخطأ ضد الصواب والعدول عنه وقيل الخطأ فعل أو قول يصدر عن الإنسان بغير قصده بسبب ترك التثبت عند مباشرة أمر مقصود سواه قال السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله الخطأ يذكر ويراد به ضد الصواب ومنه يسمى الذنب خطيئة ومنه قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الاسراء: 31] هو ضد الصواب لا ضد العمد ويذكر ويراد به ضد العمد كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} [النساء: 92]. وقوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ثم قال والخطأ أن يكون عامدا إلى الفعل لا إلى المفعول كمن رمى إلى إنسان على ظن أنه صيد فهو قاصد إلى الرمي لا إلى المرمي إليه وهو الإنسان هذا النوع جعل عذرا.
اختلف في جواز المؤاخذة على الخطأ فعند المعتزلة لا يجوز المؤاخذة عليه في الحكمة; لأن الخاطئ غير قاصد الخطأ, والجناية لا تتحقق بدون القصد وعند أهل السنة تجوز المؤاخذة عقلا; لأن الله تعالى أمرنا بأن نسأله عدم المؤاخذة بالخطأ في قوله عز ذكره إخبارا عن قول الرسول أو تعليما للعباد: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ولو كان الخطأ غير جائز المؤاخذة به في الحكمة لكانت المؤاخذة جورا وصار الدعاء في التقدير ربنا لا تجر علينا بالمؤاخذة لكن المؤاخذة مع جوازها في الحكمة سقطت بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما قال {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} استجيب له في دعائه فالشيخ رحمه الله بقوله جعل عذرا أشار

(4/534)


لا جزاء فعل ووجبت به الدية لكن الخطأ لما كان عذرا صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة لا يقابل مالا ووجبت عليه الكفارة; لأن الخاطئ لا ينفك عن ضرب تقصير يصلح سببا لما يشبه العبادة والعقوبة; لأنه جزاء قاصر. وصح طلاقه عندنا وقال الشافعي لا يصح لعدم الاختيار منه وصار كالنائم ولو قام البلوغ
ـــــــ
إلى ما ذكرنا يعني أنه وإن كان جائز المؤاخذة باعتبار أنه لا يخلو عن تقصير جعل عذرا صالحا لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد حتى لو أخطأ في القبلة بعدما اجتهد جازت صلاته ولا إثم ولو أخطأ في الفتوى بعدما اجتهد لا يأثم ويستحق أجرا واحدا وكذا لو رمى إلى إنسان على اجتهاد أنه صيد فقتله لا يأثم القتل العمد وإن كان يأثم إثم ترك التثبت ولا يؤاخذ حتى لو زفت إليه غير امرأته فوطئها على ظن أنها امرأته لا يجب الحد. ولم يجعل الخطأ عذرا في سقوط حقوق العباد حتى لو أتلف مال إنسان خطأ بأن رمى إلى شاة أو بقرة على ظن أنها صيد وأكل مال إنسان على ظن أنه ملكه يجب الضمان; لأنه ضمان مال جزاء فعل فيعتمد عصمة المحل, وكونه خاطئا معذور لا ينافي عصمة المحل كما مر بيانه والدليل على أنه بدل المحل لا جزاء الفعل أن جماعة لو أتلفوا مال إنسان يجب على الكل ضمان واحد كما لو كان المتلف واحدا ولو كان جزاء الفعل لوجب على كل واحد ضمان كامل كما في القصاص وجزاء الصيد ووجبت به أي بسبب الخطأ الدية; لأنها من حقوق العباد وجبت ضمان للمحل فلا يمتنع وجوبها بعذر الخطإ وكان ينبغي أن يجب في الحال في مال القاتل كضمان الأموال لكنها وجبت بطريق الصلة على ما مر بيانه والخطأ في نفسه عذر صالح في سقوط بعض الحقوق فيصلح سببا للتخفيف أي في الفعل وهو الأداء فيما هو صلة; لأن مبنى الصلات على التوسع والتخفيف وإن لم يصلح سببا للتخفيف في أصل البدل فلذلك وجبت على العاقلة في ثلاث سنين ووجبت على الخاطئ الكفارة ولم يجعل الخطأ عذرا في وجوبها; لأن الخاطئ لا ينفك عن ضرب تقصير وهو ترك التثبت والاحتياط فصلح الخطأ سببا بالوجوب ما يشبه العبادة والعقوبة وهو الكفارة; لأنه جزاء قاصر فيستدعي سببا مترددا بين الحظر والإباحة والخطأ كذلك; لأن أصل الفعل وهو الرمي إلى الصيد مباح وترك التثبت فيه محظور فكان قاصرا في معنى الجناية فصلح سببا للجزاء القاصر.
قوله: "وصح طلاق الخاطئ" بأن أراد أن يقول مثلا اسقني فجرى على لسانه أنت طالق وقال الشافعي رحمه الله لا يصح; لأن الطلاق يقع بالكلام, والكلام إنما يصح إذا صدر عن قصد صحيح. ألا ترى أن الببغاء إذا لقن فهو والآدمي سواء في صورة الكلام وكذا المجنون والعاقل سواء في أصل الكلام إلا أنه فسد لعدم قصد الصحيح والمخطئ غير

(4/535)


مقام اعتدال العقل لصح طلاق النائم ولقام البلوغ مقام الرضا أيضا فيما يعتمد الرضا. والجواب عنه أن الشيء إنما يقوم مقام غيره إذا صلح دليلا وكان في الوقوف على الأصل حرج فيقل تيسيرا وليس في أصل العمل بالعقل حرج في دركه ولنوم ينافي أصل العمل به ولا حرج في معرفته فلم يقم البلوغ مقامه والرضا عبارة عن امتلاء الاختيار حتى يفضي إلى الظاهر ولهذا كان الرضاء
ـــــــ
قاصد فلا يصح طلاقه كطلاق النائم والمغمى عليه وأصحابنا قالوا القصد أمر باطن لا يوقف عليه فلا يتعلق الحكم بوجوده حقيقة بل يتعلق بالسبب الظاهر الدال عليه وهو أهلية القصد بالعقل والبلوغ نفيا للحرج كما في السفر مع المشقة فأجاب الشافعي عن ذلك بقوله ولو قام البلوغ أي البلوغ عن عقل مقام اعتدال العقل أي مقام العمل باعتدال العقل وهو أن يكون كلامه عن قصد يعني لو كان البلوغ عن عقل مقام القصد في حق طلاق الخاطئ يصح طلاق النائم بهذا الطريق ولقام البلوغ يعني عن عقل مقام الرضا فيما يعتمد الرضا من البيع والإجارة ونحوهما كما قام مقام القصد; لأن الرضا أمر باطن كالقصد; لأنه من أعمال القلب وحيث لم يقم مقامه دل على أن المعتبر حقيقة القصد كحقيقة الرضا ولم يوجد في حقه والجواب عنه أي عن جواب الشافعي لكلامنا أن الشيء إنما يقوم مقام غيره بشرطين أحدهما أنه يصلح دليلا عليه. والثاني أن يكون في الوقوف على الأصل حرج لخفائه فينقل الحكم عند وجود الشرطين إلى دليل ويقام مقام المدلول تيسيرا ودفعا للحرج وأحد الشرطين في حق النائم مفقود; لأنه لا حرج في الوقوف على العمل بأصل العقل فإنه يعرف بالنظر فيما يأتيه ويذره ونحن نعلم يقينا أن النوم ينافي أصل العمل بالعقل; لأن النوم مانع عن استعمال نور العقل فكانت أهلية القصد معدومة بيقين من غير حرج في دركه فلا يصح في حقه إقامة البلوغ عن عقل مقام القصد لانتفاء الشرط. والرضا عبارة عن امتلاء الاختياري أي بلوغه نهايته بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها كما يفضي أثر الغضب إلى الظاهر من حماليق العين والوجه بسبب غليان دم القلب.
ولهذا أي ولأن معنى الرضا ما ذكرنا كان الرضا والغضب الذي هو ضده من المتشابه في صفات الله عز وجل; لأنه لا يمكن القول بثبوتهما في حقه جل جلاله بالمعنى المذكور; لأنه تعالى منزه عن امتلاء الاختيار وعن غليان دم القلب كما لا يمكن القول بثبوت اليد والوجه في حقه تعالى بمعنى الجارحة والعضو الذي هو موضوعهما فلم يجز إقامة غير الرضا وهو البلوغ عن عقل مقامه; لأنه ليس بأمر باطن بل يتعلق الحكم بذلك السبب الظاهر وهو ظهور أثره لا بأهلية الرضا. ولهذا أي ولأن الخطأ لم يصلح سببا

(4/536)


والغضب من المتشابه في صفات الله عز وجل فلم يجز إقامة غيره مقامه فأما دوام العمل بالعقل بلا سهو ولا غفلة فأمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه عند قيام كمال العقل ولما كان الخطأ لا يخلو عن ضرب تقصير لم يصلح سببا للكرامة, ألا تراه صالحا للجزاء ولهذا قلنا إن الناسي استوجب بقاء الصوم من غير أداء وجعل المناقض عدما في حقه فلم يلحق به الخاطئ. وإذا جرى البيع على لسان المرء خطأ بلا قصد وصدقه عليه خصمه يجب أن ينعقد ويكون كبيع المكره لوجود الاختيار وضعا ولعدم الرضا والله أعلم.
ـــــــ
للكرامة قلنا إن من أكل ناسيا للصوم استوجب بقاء الصوم من غير أداء وهذا كرامة ثبتت له شرعا فلم يلحق به الخاطئ وهو الذي أراد أن يمضمض فسبق الماء حلقه في استحقاق هذه الكرامة; لأنه ليس في معنى الناسي لتمكن التقصير في حقه بخلاف الناسي. وإذا جرى البيع على لسان المرء خطأ بأن أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه بعت هذا العين بكذا وقال الآخر قبلت وصدقه عليه أي على الخطإ خصمه ولا يمكن إثباته إلا بهذا الطريق يجب أن ينعقد يعني لا رواية فيه عن أصحابنا ولكنه يجب أن ينعقد انعقاد بيع المكره فاسدا لوجود الاختيار وضعا يعني جريان هذا الكلام على لسانه في أصل وضعه اختياري وليس بطبعي كجريان الماء وطول القامة فينعقد البيع لوجود أصل الاختيار ويفسد لفوات الرضا أو معناه أن الاختيار موجود تقديرا بإقامة البلوغ عن عقل مقام القصد ولكن الرضا فاتت لعدم القصد حقيقة فينعقد ولا ينفذ.

(4/537)


وأما الفصل الآخر فهو:
فصل الإكراه
وهو ثلاثة أنواع نوع بعدم الرضا ويفسد الاختيار وهو الملجئ ونوع بعدم
ـــــــ
"الإكراه"
قوله: "وأما الفصل الآخر" من أقسام العوارض المكتسبة فهو فصل الإكراه قيل الإكراه حمل الغير على أمر يكرهه ولا يريد مباشرته لولا المحل عليه ويدخل في هذا التعريف الأقسام الثلاثة المذكورة في الكتاب وقال شمس الأئمة هو اسم لفعل يفعله الإنسان بغيره فينتفي به رضاؤه أو يفسد به اختياره ولم يدخل فيه القسم الثالث الذي ذكر في الكتاب وكأنه لم يجعله من أقسام الإكراه لعدم ترتب أحكامه عليه ثم قال في الإكراه يعتبر معنى في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره به. فالمعتبر في المكره تمكنه من إيقاع ما هدده به فإنه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان والمعتبر في المكره أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا; لأنه لا يصير ملجأ محمولا عليه طبعا إلا بذلك وفيما أكره به أن يكون متلفا أو مزمنا أو متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الإكراه إما لحقه أو لحق إنسان آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الأحوال يختلف الحكم فعلى هذه ينبغي أن يقال الإكراه حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف بقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفا به فأتت الرضاء بالمباشرة فيتم التعريف بهذه القيود ويمكن أن يجعل فوات الرضا داخلا في الامتناع; لأنه إذا كان ممتنعا عنه قبل الإكراه لم يكن راضيا به فيكفي بذكر أحد القيدين نوع بعدم الرضا ويفسد الاختيار, نحو التهديد بما يخاف به على نفسه أو عضو من أعضائه; لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعا لها والاختيار هو القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد الجانبين على الآخر كذا قيل. والصحيح منه أن يكون الفاعل في قصده مستبدا والفاسد منه أن يكون اختياره مبنيا على اختيار الآخر فإذا

(4/538)


الرضا ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ ونوع آخر لا يعدم الرضا وهو أن يهتم بحبس أبيه أو ولده وما يجري مجراه. والإكراه بجملته لا ينافي أهلية ولا يوجب وضع الخطاب بحال; لأن المكره مبتلى والابتلاء يحقق الخطاب, ألا يرى
ـــــــ
اضطر إلى مباشرة أمر الإكراه كان قصده في المباشرة دفع الإكراه حقيقة فيصير الاختيار فاسدا لابتنائه على اختيار المكره وإن لم ينعدم أصلا ونوع بعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار, نحو الإكراه بالقيد أو الحبس مدة مديدة أو بالضرب الذي لا يخاف به التلف على نفسه وإنما لم يفسد به الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه لتمكنه من الصبر على ما هدد به. ونوع آخر لا يعدم الرضا فلا يفسد به الاختيار ضرورة; لأن الرضا مستلزم لصحة الاختيار وهو أن يهتم أي يقصد المكره بحبس أبي المكره أو ولده أو يغتم المكره بسبب حبس أبيه وما يجري مجراه من حبس زوجته وأخته وأمه وأخيه وكل ذي رحم محرم منه; لأن القرابة المتأبدة بالمحرمية بمنزلة الولاد. وكان ما ذكر جواب القياس فإنه ذكر في المبسوط ولو قيل له لنحبس أباك وابنك في السجن أو لتبيعن عبدك هذا بألف درهم ففعل ففي القياس البيع جائز; لأن هذا ليس بإكراه فإنه لم يهدده بشيء في نفسه وحبس أبيه في السجن لا يلحق ضررا به فالتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته وكذلك في حق كل ذي رحم محرم. وفي الاستحسان ذلك إكراه ولا ينفذ شيء من هذه التصرفات; لأن حبس أبيه يلحق به من الحزن والهم ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر فإن الولد إذا كان بارا يسعى في تخليص أبيه من السجن وإن كان يعلم أنه حبس وربما يدخل السجن مختارا ويجلس مكان أبيه ليخرج أبوه فكما أن التهديد بالحبس في حقه بعدم تمام الرضا فكذلك التهديد بحبس أبيه.
قوله: "والإكراه بجملته" أي بجميع أقسامه لا ينافي أهلية أي لا ينافي أهلية الوجوب ولا أهلية الإكراه; لأنها ثابتة بالذمة, والعقل والبلوغ والإكراه لا يحل بشيء منها ولا يوجب سقوط الخطاب عن المكره بحال سواء كان ملجأ أو لم يكن. ألا ترى أنه أي المكره في الإتيان بما أكره عليه متردد بين فرض أي بين كونه مباشر فرض كما لو أكره على أكل الميتة أو شرب الخمر بما يوجب الإلجاء فإنه يفترض عليه الإقدام على ما أكره عليه حتى لو صبر ولم يأكل ولم يشرب حتى قتل يعاقب عليه لثبوت الإباحة في حقه في هذه الحالة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ومن أكره على مباح يفرض عليه فعله فكذا هاهنا وحظر أي محظور كما في الإكراه على الزنا وقتل النفس المعصومة وإباحة كما في إكراه الصائم على إفساد الصوم فإنه يبيح له الفطر ورخصت كما في الإكراه على الكفر فإنه ترخص له إجراء كلمة الكفر

(4/539)


أنه متردد بين فرض وحظر وإباحة ورخصة وذلك آية الخطاب فيأثم مرة ويؤجر أخرى ولا ينافي الاختيار أيضا; لأنه لو سقط لبطل الإكراه. ألا يرى أنه حمل على الاختيار وقد وافق الحامل فكيف لا يكون مختارا ولذلك كان مخاطبا في عين ما أكره عليه فثبت بهذه الجملة أن الإكراه لا يصلح لإبطال حكم شيء من
ـــــــ
على اللسان ولا حاجة إلى ذكر الإباحة في التحقيق; لأنها داخلة في الفرض أو في الرخصة; لأنه إن أراد بها أن الإقدام على الفعل يباح له بالإكراه ولو صبر حتى قتل لا يأثم فهو معنى الرخصة. وإن أراد بها أنه يباح ولو تركه يأثم فهو معنى الفرض فإكراه الصائم على الفطر إن كان مسافرا من قبيل الإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر حتى لو لم يفطر حتى قتل كان آثما وإن كان مقيما فهو من قبيل الإكراه الكفر حتى لو صبر عليه وقتل كان مأجورا ولا يؤجل هنا ما لا يتعلق بفعله ثواب ولا بتركه عقاب فيثبت أنه لا حاجة إلى ذكر لفظ الإباحة والدليل عليه ما ذكر الإمام البرغري مستدلا على أنه مخاطب أن أفعال المكره منقسمة منها ما هو حرام عليه كالقتل والزنا ومنها فرض عليه كشرب الخمر وأكل الميتة منها ما هو مرخص له فيه كإجراء كلمة الكفر والإفطار وإتلاف مال الغير وهذا علامة كون الشخص مخاطبا فذكر الفرض والحظر والرخصة ولم يذكر الإباحة فعرفنا أنها ليست بقسم آخر إلا أن في نفس الأمر بين الإفطار وبين إجراء كلمة الكفر فرقا في غير حال الإكراه فإن حرمة الإفطار قد تسقط بعذر السفر والمرض وحرمة الكفر لا يسقط بحال فلعل الشيخ فرق بينهما بهذا الاعتبار وذلك أي تردد المكره بين هذه الأمور علامة لثبوت الخطاب في حقه; لأن هذه الأشياء لا تثبت بدون الخطاب ويأثم المكره مرة بالإقدام كما في الإكراه على الزنا وقتل النفس ويؤجر أخرى كما في الإكراه على أكل الميتة فإن الإقدام لما صار فرضا يستحق به الإجراء كما في سائر الفروض أو يأثم بالامتناع مرة كما في الإكراه على الفطر للمسافر والإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر فإن الصبر عنهما إلى أن قتل حرام ويؤجر أخرى كما في الإكراه على الكفر فإن الصبر عنه عزيمة والإثم والأجر متعلقان بالخطاب. ولا ينافي أي الإكراه الاختيار أيضا; لأن الاختيار لو سقط لتعطل الإكراه; لأن الإكراه فيما لا اختيار فيه لا يتصور فإن الطويل لا يكره على أن يكون قصيرا ولا لقصير على أن يكون طويلا وهذا; لأن المكره حمله على اختيار الفعل وقد وافق المكره الحامل فيكون مختارا في الفعل ضرورة إذ لو لم يكن مختارا لم يكن موافقا باله فلا يكون مكرها. ولذلك أي ولكونه مختارا كان مخاطبا في عين ما أكره عليه كما بينا; لأن الخطاب كما يعتمد الأهلية يعتمد الاختيار; لأنه يعتمد القدرة وهي بدون الاختيار لا يتحقق فيثبت بهذه الجملة وهي أن الإكراه لا ينافي أهليته ولا يوجب سقوط الخطاب ولا

(4/540)


الأقوال والأفعال جملة إلا بدليل غيره على مثال فعل الطائع وإنما أثر الإكراه إذا تكامل في تبديل النسبة وأثره إذا قصر في تفويت الرضا وأما في الإهدار فلا فهذا أصل هذه الجملة خلافا للشافعي ثم الحاجة إلى التفصيل وترتيب هذه الجملة. والجملة عند الشافعي أن الإكراه الباطل متى جعل عذرا في الشريعة كان مبطلا للحكم عن المكره أصلا فعلا كان أو قولا لما قلنا إن الإكراه يبطل
ـــــــ
ينافي الاختيار أن الإكراه بنفسه لا يصلح لإبطال حكم شيء من الأقوال مثل الطلاق والعتاق والبيع ونحوها والأفعال مثل القتل وإتلاف المال وإفساد الصوم والصلاة ونحوها فيثبت موجب هذه الجملة لكونها صادرة عن أهلية واختيار إلا بدليل غيره على مثال فعل الطابع الضمير للحكم أي لكن يتغير الحكم بدليل غيره بعدما صح الفعل في نفسه كما يتغير فعل الطابع بدليل يلحق به يوجب تغيير موجبه فإن موجب قوله أنت طالق أو أنت حر وهو وقوع الطلاق أو العتاق يثبت عقيب التكلم به إلا إذا لحق به مغير من تعليق أو استثناء وكذا موجب فعله كشرب الخمر والزنا والسرقة ثابت في الحال إلا إذا تحقق مانع بأن تحققت هذه الأفعال في دار الحرب أو تحققت فيها شبهة فكذا يثبت موجب أقوال المكره وأفعاله إلا عند وجود المغير لما قلنا إنها صادرة عن عقل, والأهلية خطاب واختيار كأفعال الطابع وأقواله.
قوله: "وإنما أثر الإكراه" أي الإكراه جواب عما يقال لما لم يؤثر الإكراه في إبطال الأقوال والأفعال فأين يظهر أثره فقال لا أثر له إلا في أمرين فأثره إذا تكامل بأن كان ملجئا في تبديل النسبة إذا احتمل ما أكره عليه ذلك ولم يمنع عنه مانع حتى يصير الفعل منسوبا إلى المكره وأثره إذا قصر بأن لم يكن ملجئا كالإكراه بالحبس أو القيد في تفويت الرضا لا في تبديل النسبة فإما أن يكون الإكراه مؤثرا في إهدار قول أو فعل فلا. ألا ترى أن المكره على إتلاف المال لا يجعل فعله لغوا بمنزلة فعل البهيمة ولكن يجعل موجبا للضمان على المكره فلو اعتبر الإكراه لإعدام الفعل في جانب المكره من غير أن يصير منسوبا إلى المكره لكان تأثيره في الإلغاء وذلك لا يجوز كذا في المبسوط.
هذا أصل هذه الجملة أي ما ذكرنا أن أثر الإكراه تبديل النسبة أو تفويت الرضا أصل جملة أنواع الإكراه عندنا لا إبطال قول أو فعل خلافا للشافعي رحمه الله وما ذكرنا من أثر الإكراه هو الأصل في جملة الأحكام التي تترتب على الإكراه والجملة أي الأصل الجامع في هذا الباب عند الشافعي رحمه الله أن الإكراه الباطل وهو الذي يحرم الإقدام عليه كما سيأتي بيانه حتى جعل عذرا في الشرعية بقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وبالإجماع حتى سقط الإثم عن المكره في بعض

(4/541)


الاختيار وصحة القول بالقصد والاختيار ليكون ترجمة عما في الضمير فتبطل عند عدمه والإكراه بالحبس مثل الإكراه بالقتل عنده. ألا يرى أنه يعدم الرضا وتحقيق العصمة في دفع الضرر عنه عند عدم الرضا ويبطل البيع والأقارير كلها وإذا وقع الإكراه على الفعل فإذا تم الإكراه بطل حكم الفعل عن الفاعل
ـــــــ
الصور بلا خلاف كان مبطلا للحكم عن المكره أصلا فعلا كان ما أكره عليه أو قولا لما قلنا يعني في المبسوط أن الإكراه يبطل الاختيار. أو لما قلنا في أول هذا الفصل أن الإكراه يبطل الاختيار أي يفسده وصحة القول بالقصد والاختيار ليكون القول باعتبار القصد ترجمة عما في الضمير ودليلا عليه فيبطل أي القول عند عدم القصد ألا يرى أن الكلام لا يصح من النائم لعدم الاختيار ولا من المجنون والصبي لعدم القصد الصحيح فعرفنا أن صحة الكلام باعتبار كونه ترجمة عما في القلب والإكراه دليل على أن المكره متكلم لدفع الشر لا لبيان ما هو مراد قلبه فصار في الإفساد فوق الذي لا قصد له ولم يرد شيئا آخر وكان كل كلامه بمنزلة الإقرار فإن الإكراه لما دل على أن المقر لم يرد إظهار أمر قد سبق بل قصد دفع الشر عن نفسه كان إقراره كإقرار المجنون فكذلك سائر كلامه; لأن الإكراه دال على عدم قصد القلب الذي صحة الكلام تبتنى عليه, والإكراه بالحبس الدائم مثل الإكراه بالقتل عنده في إبطال القول والفعل عن المكره أصلا, ألا يرى أن الإكراه بالحبس بعدم الرضا بالاتفاق وبطلان القول والفعل عن المكره في الإكراه بالقتل لتحقيق عصمة حقوق المكره عليه لئلا يفوت حقوقه بدون اختياره, وتحقيق العصمة هاهنا في دفع الضرر عن المكره عند عدم الرضا بزوال حقه فيجب إلحاق الإكراه بالقتل دفعا للضرر.
قال الشيخ رحمه الله في شرح كتاب الإكراه في جانب الشافعي رحمه الله الإكراه بعدم الرضاء فلو قلنا بأنه يزيل حقوقهم وأملاكهم من غير رضاهم به أدى إلى أن لا تظهر فائدة حرمة الحقوق, والرضا شرط في التصرف في المال فيكون شرطا في غير الأموال; لأن المعنى يجمع الكل وهو صيانة الحقوق المحترمة فوجب إلحاق الإكراه بالحبس لفوات الرضا فيه بالإكراه بالقتل.
وذكر الإمام محيي السنة رحمه الله وحد الإكراه أن يخوفه بعقوبة تنال من بدنه عاجلا لا طاقة له بها, مثل أن يقول إن فعلت كذا وإلا لأقتلنك أو لأقطعن عضوا منك ولأضربنك ضربا مبرحا أو لأخلدنك في السجن وكان القائل ممن يمكنه تحقيق ما يخوفه به فإن خوفه بعقوبة آجلة بأن قال لأضربنك غدا أو بضرب غير مبرح بأن قال لأضربنك سوطا أو سوطين أو بما لا ينال من بدنه بأن قال لأقتلن ولدك أو زوجتك فلا يكون إكراها. والنفي عن البلدان كان فيه تفريق بينه وبين أهله فهو إكراه كالتخليد في السجن وإن لم

(4/542)


وتمامه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل فإن أمكن أن ينسب إلى المكره نسب إليه وإلا فيبطل حكمه أصلا ولهذا قال في الإكراه على إتلاف المال أن الضمان على المكره وقال في الأقوال أجمع أنها تبطل وقال في إتلاف صيد الحرم والإحرام والإفطار أنه لا شيء على الفاعل ولكن الجزاء على المكره وقال في الإكراه على الزنا أنه يوجب الحد على الفاعل; لأنه لم يحل به الفعل وكذلك قال
ـــــــ
يكن فيه وجهان, أما ما يئول إلى إذهاب الجاه, مثل أن تقول للمحتشم لأسودن وجهك أو لأطوفن بك في البلد أو نحو ذلك أو لأتلفن مالك فلا يكون ذلك إكراها إذا كان يكرهه على قتل أو قطع وإن كان يكرهه على إتلاف مال أو على طلاق أو عتاق فهو إكراه على قول بعض أصحابنا وعند بعضهم ليس بإكراه; لأنه لا يصيب بدنه به ما لا يطيقه هذا كله من التهذيب. قوله: "وتمامه" بأن يجعل عذرا يبيح الفعل شرعا كالإكراه بالقتل أو الحبس الدائم على إتلاف مال الغير أو شرب الخمر أو الإفطار في نهار رمضان أو إجراء كلمة الكفر فإنه يبيح الفعل عنده ولكن لا يجب كلمة الردة بالإكراه ويجب غيرها ولا يباح القتل والزنا بالإكراه كذا في ملخصهم.
وإنما جعل الإباحة دليلا على تمام الإكراه; لأنها تدل على تمام العذر في حق الله تعالى كما في حق المضطر فإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه عرف أن الاضطرار قد تحقق وأن الإكراه صار ملجئا فكان تاما ولهذا أي ولما ذكرنا من الأصل له في الإكراه على إتلاف مال الغير أن الضمان يجب على المكره; لأن الفاعل يصلح آلة له في الإتلاف فيمكن أن ينسب الفعل إليه فيجب الضمان عليه. وقال في إتلاف صيد الحرم والإحرام والإفطار بأن إكراه الحلال على قتل صيد الحرم أو إكراه المحرم على قتل صيد أو إكراه الصائم على الإفطار ففعلوا لا شيء على الفاعل من جزاء الصيد ولكن جزاء الصيد على المكره; لأن هذا ضمان بهيمة مضمونة بالإتلاف فأشبه ضمان الشاة ويتصور قتل الصيد من الذي أكره بيد الذي باشر فينسب القتل إلى المكره إذا تم الإكراه وقد تم; لأن الذي باشر أبيح له الإقدام عليه ولا يفسد صومه في صورة الإفطار; لأن الحظر يزول بالإكراه فالتحق الإفطار بابتلاع البزاق والأكل ناسيا بخلاف بالمرض; لأن الحظر وإن زال فصوم العدة لزمه بالنص فالشرع أقام العدة في حقه مقام الشهر لا أن صوم العدة يلزمه قضاء بحكم الإفطار مع زوال الحظر ألا يرى أنه في حكم الأداء حتى لو مات في بعض العدة لم يلزمه قضاء ما بقي وما يجب بحكم الإفطار لا يسقط بالموت وكذلك أي وكما قال في الزنا قال في المكره على القتل إن المكره يقتل لما قلنا إنه لم يحل به الفعل فلم يتم الإكراه فلا يمكن أن يجعل المباشر آلة ولهذا يأثم بالاتفاق ولو صار آلة لما أثم.

(4/543)


في المكره على القتل أنه يقتل لما قلنا. وأما المكره فإنما يقتل بالتسبيب وقال في الإكراه على الإسلام أن المكره إذا كان ذميا لم يصح إسلامه وإن كان حربيا يصح; لأن إكراه الذمي باطل وإكراه الحربي جائز فعد الاختيار قائما وكذلك القاضي إذا أكره المديون على بيع ماله فباعه صح; لأن هذا إكراه حق وكذلك المولى إذا أكره فطلق صح لما قلنا وذلك بعد المدة عنده وقد ذكرنا نحن أن الإكراه لا يعدم الاختيار لكنه يعدم الرضا فكان دون الهزل وشرط الخيار ودون
ـــــــ
قوله: "وأما المكره" جواب عما يقال كما اقتصر الفعل على المكره حتى وجب القصاص عليه ينبغي أن لا يقتص من المكره; لأنه ليس بمباشر حقيقة ولا حكما لاقتصار الفعل على المكره فقال إنما يقتل المكره بالتسبيب لا بالمباشرة حقيقة فإن التسبيب إذا تعين للقتل صار بمنزلة المباشرة, وذلك لأن القصاص شرع للإحياء بسد باب القتل عدوانا ابتداء خوفا من القصاص, والقتل بالإكراه باب مفتوح في الناس للأكابر والمتغلبة فلو لم يلزمه القصاص لما انسد الباب بقتل المباشر; لأنه مضطر إليه والاضطرار جاء من جهة المتغلب وهذا كما يقتل الجماعة بالواحد; لأن قتل الآدمي في العادات إنما يكون بالتغالب والاجتماع عليه; لأن الواحد يدفع الواحد عن نفسه فلو لم تقتل الجماعة بالواحد قصاصا لما انسد باب القتل عدوانا بالقصاص ثم أنه سبب على وجه التعيين; لأن المكره لا يمكنه التخلص إلا بقتل ذلك الشخص بعينه فصار كالسيف له بخلاف حفر البئر ووضع الحجر على الطريق; لأن إكراه الذمي باطل; لأنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون وإكراه الحربي جائز; لأن الشرع أمر بقتال أهل الحرب جبرا لهم على الإسلام فعد الاختيار قائما في حقه إعلاء للإسلام كما عد قائما في حق السكران زجرا له حتى صحت تصرفاته والمعنى فيه أن الإكراه إذا كان بحق فقد أمرنا الشرع بإكراهه على ذلك التصرف فيكون ذلك من الشرع طلبا للتصرف وما كان مطلوبا شرعا يكون محكوما بصحته; لأن الشرع لا يأمر بشيء غير صحيح فأما إذا كان الإكراه باطلا فهو محظور وذلك التصرف ممنوع عنه شرعا فلا يثبت ولا يصح وكذلك أي وكالمديون المولى إذا أكره على التطليق فطلق صح طلاقه لما قلنا إن الإكراه حق وذلك أي وقوع الطلاق بالإكراه بعد المدة عنده أي يتصور بعد مضي مدة الإيلاء على أصله; لأن بمضي المدة لا يقع الطلاق عنده ولكنها تستحق التفريق عليه كامرأة العنين بعد الحول فإذا امتنع عن ذلك فأكره عليه كان الإكراه حقا لا باطلا فلا يمنع من وقوع الطلاق فأما قبل مضي المدة فالإكراه باطل فيمنع وقوع الطلاق.
قوله: "وقد ذكرنا نحن أن الإكراه لا يعدم الاختيار" في السبب والحكم جميعا; لأن المكره طلب منه أن يختار أهون الأمرين عليه فكيف لا يكون مختارا أو لكنه بعدم الرضاء

(4/544)


الخطإ لكنه يفسد الاختيار فإذا عارضه اختيار صحيح وجب ترجيح الصحيح على الفاسد إن أمكن فيجعل الاختيار الفاسد معدوما في مقابلته وإذا جعل معدوما صار بمنزلة عديم الاختيار فيصير آلة للمكره فيما يحتمل ذلك وفيما لا يحتمله لا يستقيم نسبته إلى المكره فلا يقع المعارضة في استحقاق الحكم فبقي منسوبا إلى الاختيار الفاسد; لأنه صالح لذلك وإنما كان يسقط بالترجيح. ألا يرى أن هذا القدر من الاختيار صالح للخطاب وصارت التصرفات كلها
ـــــــ
في السبب والحكم فكان الإكراه دون الهزل وشرط الخيار دون الخطإ في المانعية وقد شبهه بعض مشايخنا بالهزل; لأن الهزل بعدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد والاختيار في نفس السبب وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فإن شرط الخيار بعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب كذا في المبسوط فقال الشيخ هو دونهما دون الخطإ; لأن في الهزل وشرط الخيار عم اختيار الحكم والرضا به أصلا وإن وجد الرضا بالسبب وفي الخطإ الاختيار موجود تقديرا لا تحقيقا فأما في الإكراه فالاختيار في السبب والحكم موجود حقيقة وإن كان فاسدا فكان دون تلك الأشياء في المنع وأقرب إلى فعل الطابع منها فكان تصرف المكره أولى بالاعتبار من تصرف الهازل والخاطئ ولا يقال الرضا بالسبب موجود في الهزل وشرط الخيار دون الإكراه واختيار الحكم موجود في الإكراه دون الهزل وشرط الخيار فيستوي الكل فلا يكون الإكراه دونهما; لأنا نقول الحكم هو المقصود دون السبب فلا يعادل الرضا بالسبب في الهزل وشرط خيار اختيار الحكم في الإكراه فلا تثبت المساواة بين الإكراه والهزل وشرط الخيار بل كان الإكراه دونهما كما بينا وقوله لكنه أي الإكراه يفسد الاختيار جواب عما يقال لما كان الإكراه دون هذه الأشياء في المنع لوجود الاختيار فيه ينبغي أن يقتصر الحكم على المكره كما في الهزل والخطأ. فقال الإكراه لا يعدم الاختيار ولكنه يفسده لما بينا فإذا عارض الاختيار الفاسد اختيار صحيح وهو اختيار المكره وجب ترجيح الصحيح على الفاسد إن أمكن وذلك باحتمال الفعل النسبة إلى المكره بجعل المكره آلة له نسبته أي نسبة الفعل; لأنه أي الاختيار الفاسد صالح لذلك أي لاستحقاق الحكم صالح للخطاب لما بينا أن المكره متردد بين فرض وحظر ورخصة.
ولما فرغ الشيخ رحمه الله من تمهيد أصله وتأسيس قاعدته شرع في ترتيب الأحكام عليه وتفصيل الجملة كما أشار إليه في قوله ثم الحاجة إلى التفصيل وترتيب هذه الجملة فقال وصارت التصرفات الصادرة من المكره كلها منقسمة إلى هذين القسمين ما

(4/545)


منقسمة إلى هذين القسمين الأقوال قسم واحد أن المتكلم فيها لا يصلح آلة لغيره فاقتصرت عليه والأفعال قسمان أحدهما مثل الأقوال. والثاني ما يصلح أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره والأقوال قسمان أيضا ما يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا وما لا يحتمل الفسخ ويتوقف على القصد والاختيار دون الرضا والإكراه نوعان كامل يفسد الاختيار ويوجب الإلجاء وقاصر يعدم الرضا ولا يوجب الإلجاء والحرمات أنواع حرمة لا تنكشف ولا يدخلها رخصة بل هي محكمة وحرمة تحتمل السقوط أصلا وحرمة لا تحتمل السقوط لكن تحتمل الرخصة وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط بعذر المكره واحتملت الرخصة أيضا وجملة الفقه فيه ما قلنا إن الإكراه لا يوجب تبديل الحكم بحال ولا
ـــــــ
يمكن نسبته إلى المكره بجعل المكره آلة له وما لا يمكن نسبته إليه فيقتصر على المكره.
والإكراه نوعان أي الإكراه الذي له أثر في الأحكام نوعان حرمة لا تنكشف أي لا تزول ولا تسقط نحو حرمة الزنا والقتل; لأن القتل لا يحل لضرورة ما فلا يحل بهذه الضرورة أيضا; لأن حرمة نفس غيره مثل حرمة نفسه فلا يجوز أن يجعل إهلاك نفس غيره طريقا لصيانة نفسه والزنا في حكم القتل أيضا وحرمة تحتمل السقوط أصلا مثل حرمة الميتة وشرب الخمر لما مر. وحرمة لا تحتمل السقوط لكنها تحتمل الرخصة نحو حرمة إجراء كلمة الكفر فإنها لا تحتمل السقوط أبدا لكن تدخلها الرخصة أي تسقط المؤاخذة بالمباشرة مع قيام الحرمة على ما مر بيانه في باب العزيمة والرخصة وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط بعذر الإكراه واحتملت الرخصة كحرمة إتلاف مال الغير فإنها تحتمل السقوط بإباحة صاحبه ولم تسقط بعذر الإكراه كما لم تسقط بعذر المخمصة; لأن حرمته لحق الغير وحقه باق في حالة الإكراه والاضطرار لكنها تحتمل الرخصة حتى رخص له الإتلاف بالإكراه والأكل بالمخمصة مع بقاء الحرمة.
قوله: "وجملة الفقه" أي المعنى الذي تدور عليه الأحكام أن الإكراه عندنا لا يوجب تبديل الحكم بحال أي لا يوجب تغير حكم السبب وإبطاله عنه ملجئا كان أو غير ملجئ بل يبقى حكمه كما لو كان طائعا لصدوره عن عقل وتمييز وأهلية خطاب مثل صدوره عن الطائع ولا يلزم عليه أن الإكراه على إجراء كلمة الكفر قد أوجب تبديل الحكم حتى لا يحكم بكفر المكره ولا تبين منه امرأته ولو صدر عن الطائع حكم بكفره وبالبينونة بينه وبين امرأته; لأنا نقول الردة في الحقيقة تثبت بتبديل الاعتقاد, والتكلم باللسان دليل عليه وقيام الإكراه هاهنا منع كون التكلم دليلا على تبدل الاعتقاد كما في

(4/546)


تبديل محل الجناية ولا يوجب النسبة إلا بطريق واحد وهو أن تجعل المكره آلة للمكره لا وجه لنقل الحكم بدون نقل الفعل ولا وجه لنقل الفعل ذاته إلا بهذا الطريق فإن أمكن وإلا وجب القصر على المكره ففي الأقوال كلها لا يصلح أن
ـــــــ
الإكراه على الإقرار فلذلك لم يثبت الارتداد فلا تقع البينونة ولا يوجب تبديل محل الجناية; لأن في تبديل محل الجناية تبديل محل الحكم أيضا على ما يعرف في مسألة إكراه المحرم على قتل الصيد ولا يوجب تبديل النسبة إلا بطريق واحد كأنه أشار به إلى رد ما ذكر بعض مشايخنا أن أثر الإكراه التام في نقل الفعل عن المكره إلى المكره فأشار إلى أنه ليس بصحيح فإنه لا تصور لنقل الفعل الموجود حقيقة من شخص إلى غيره والمسائل تشهد بخلاف هذا أيضا فإن البالغ إذا أكره صبيا على قتل الغير يجب القود على المكره وهذا الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر. بل الصحيح أن تأثير الإكراه في جعل المكره آلة للمكره عند الإمكان فيصير الفعل منسوبا إلى المكره ابتداء بهذا الطريق لا بطريق النقل وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالإكراه يفوت اختياره أصلا ولكن; لأنه يفسد اختياره به لتحقق الإلجاء إذ الإنسان مجبول على حب حياته وذلك بحمله على الإقدام على ما أكره عليه فيفسد به اختياره من هذا الوجه. والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح والمكره يصير آلة له لعدم اختياره حكما في معارضة الاختيار الصحيح وإلى ما ذكر أشار بقوله ولا وجه لنقل الفعل ذاته إلا بهذا الطريق فإن أمكن القول بالنقل بهذا الطريق وجب القول به وإلا وجب قصر الفعل بحكمه على المكره قال الإمام أبو الفضل الكرماني رحمه الله في الإيضاح والمراد من قولنا يصلح آلة أن المكره يمكنه إيجاد الفعل المطلوب بنفسه فإذا حمل غيره عليه بوعيد التلف صار كأنه فعل نفسه ومن قولنا لا يصلح آلة أنه لا يمكنه مباشرة ذلك الفعل بنفسه فإذا حمل عليه غيره يبقى مقصورا عليه ففي الأقوال كلها لا يصلح أن يتكلم المرء بلسان غيره حسا على وجه لا يبقى للسان المتكلم اختيار فاقتصر الأقوال بأحكامها على المتكلم ولا يجعل كأن المكره طلق امرأة المكره أو أعتق عبده.
فإن قيل لا نسلم أن المتكلم لا يصلح آلة للمكره فإن من وكل رجلا بطلاق امرأته وإعتاق عبده يصح ومتى طلق الوكيل كان عاملا للموكل حتى لو حلف الرجل لا يطلق ولا يعتق فوكل غيره بالطلاق والإعتاق حنث فعلم أن الوكيل صار آلة للموكل والدليل عليه أن المكره يرجع بقيمة العبد على المكره وفي الطلاق قبل الدخول يرجع بضمان نصف الصداق على المكره ولو لم يصر آلة له لما رجع وإذا صار آلة للمكره صار كأن المكره طلق امرأة المكره أو أعتق عبده فينبغي أن يلغو.
قلنا المكره إنما يصلح آلة المكره فيما لو أراد المكره مباشرته بنفسه لقدر عليه

(4/547)


يتكلم المرء بلسان غيره فاقتصر على المتكلم ثم ينظر فإن كان من جنس ما لا ينفسخ ولا يتوقف على وجود الرضا والاختيار لم يبطل بالإكراه مثل الطلاق والعتاق والنكاح; لأن ذلك لا يبطل بالهزل وهو ينافي الاختيار والرضا بالحكم ولا يبطل شرط الخيار وهو ينافي الاختيار أصلا فلأن لا يبطل بما يفسد الاختيار أولى. وإذا اتصل الإكراه بقبول المال في الخلع فإن الطلاق يقع والمال لا يجب; لأن الإكراه لا يعدم الاختيار في السبب والحكم جميعا ويعدم الرضا بالسبب والحكم جميعا أو التزام المال ينعدم عند عدم الرضا فكأن المال لم
ـــــــ
فينزل فاعلا بمباشرة غيره تقديرا واعتبارا, فأما فيما لا يقدر عليه بنفسه فلا يمكن أن يجعل فاعلا حكما ففي تطليق امرأة نفسه وإعتاق عبده أمكن أن يجعل متصرفا بنفسه فإذا وكل غيره بذلك واستعمله جعل عاملا تقديرا واعتبارا فأما في تطليق امرأة المكره وإعتاق عبده فلا يمكن أن يجعل مباشرا بنفسه فكيف يجعل المكره آلة له فبقي الفعل مقتصرا على المكره وهكذا نقول في جميع التصرفات الشرعية نحو البيع والهبة وغيرهما فنحن لا ننظر إلى التكلم بلسان الغير; لأنه لا يتصور وإما ننظر إلى المقصود بالكلام وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل ذلك الحكم بنفسه يجعل غيره آلة له ومتى لم يكن في وسعه لم يجعل غيره آلة له كذا في الطريقة البرغرية.
ولا يلزم عليه كلام الرسول فإنه بمنزلة كلام المرسل على ما قيل لسان الرسول لسان المرسل; لأن ما ذكرنا هو الأمر الحقيقي وذلك ضرب من المجاز فلا يرد نقضا عليه وذلك من باب التبليغ لا من باب التكلم بلسان الغير إذ التبليغ قد يكون بلا واسطة كالمشافهة وقد يكون بواسطة كالكتاب والإرسال على وجود الرضا والاختيار أي الاختيار الصحيح ولا يبطل بشرط الخيار وهو ينافي الاختيار أي اختيار الحكم والرضا به أيضا فلأن لا يبطل بما يفسد الاختيار ولا يعدمه أولى. قال القاضي الإمام: الهزل ضد الجد كالكذب ضد الصدق والأحكام الشرعية متعلقة بالجد فلما صحت هذه التصرفات مع الهزل الذي هو ضد الجد فلأن تصح مع الإكراه أولى; لأن المكره جاد في تصرفه; لأنه دعي إلى التصرف بطريق الجد فإن أجاب إلى ما دعي إليه فهو جاد وإن أتى بشيء آخر فهو طابع.
قوله: "وإذا اتصل الإكراه بقبول المال في الخلع" إلى آخره إنما تعرض بجانب المرأة; لأن الرجل إذا أكره على أن يخالع امرأته على ألف وقد دخل بها والمرأة غير مكرهة فالخلع واقع; لأنه من جانب الزوج طلاق والإكراه لا يمنع وقوع الطلاق والمال لازم على المرأة للزوج; لأنها التزمت المال طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة فأما إذا أكرهت امرأة

(4/548)


يوجد فلم يتوقف الطلاق عليه بل وقع كطلاق الصغيرة على مال بخلاف البدل عند أبي حنيفة رضي الله عنه; لأنه يعدم الرضا والاختيار جميعا بالحكم ولا يمنع الرضا ولا الاختيار في السبب وإذا كان كذلك صح إيجاب المال فيتوقف الطلاق كشرط الخيار فإنه لما دخل على الحكم دون السبب أوجب توقف الطلاق على المال كذلك ههنا وأما عندهما فإن الإكراه يعدم الرضا بالسبب والحكم ولا يمنع الاختيار فيهما أيضا فلم يصح إيجاب المال لعدم الرضا بلزوم المال فكأن لم يوجد فوقع بغير مال بخلاف البدل; لأنه يعدم الرضا
ـــــــ
بوعيد تلف أو حبس على أن تقبل من زوجها الخلع على ألف درهم فقبلت لك منه وقد دخل بها فالطلاق يقع ولا يجب على المرأة شيء من المال; لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا وبالإكراه يفوت الرضا سواء كان الإكراه بحبس أو بقتل ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود المقبول كما لو طلق امرأته الصغيرة على مال يتوقف الطلاق على قبولها فإذا قبلت وقع الطلاق ولا يجب المال وبالإكراه لا ينعدم القبول فلهذا كان الطلاق واقعا ثم إن أصحابنا جميعا احتاجوا إلى الفرق بين الإكراه والهزل في الخلع فأشار إلى ذلك بقوله بخلاف الهزل في أصل الخلع وبدله عند أبي حنيفة رحمه الله حيث لا يقع الطلاق ما لم ترض المرأة بالتزام المال; لأن الهزل يعدم الرضا والاختيار بالحكم ولا يمنع الرضا والاختيار في السبب. وإذا كان كذلك أي كان الهزل غير مانع للرضى والاختيار في السبب صح إيجاب المال أي التزامه بالهزل موقوفا على أن يلزم عند تمام الرضا به فيتوقف الطلاق عليه كشرط الخيار لما دخل على الحكم دون السبب وجد الاختيار والرضا بالسبب دون الحكم فيتوقف الحكم وهو وجوب المال ووقوع الطلاق على وجود الاختيار والرضا به فأما الإكراه فلا يعدم الاختيار في السبب والحكم وإنما يعدم الرضا بالحكم فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق ولعدم الرضا لا يجب المال فكأن المال لم يذكر أصلا. هذا هو الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين الإكراه والهزل في الخلع أما بيان الفرق لهما بينهما فهو أن الإكراه بعدم الرضا بالسبب والحكم ولا يعدم الاختيار فيهما أيضا يعني جوابهما في الإكراه كجواب أبي حنيفة رحمه الله فلم يصح إيجاب المال لعدم الرضا فصار كأن المال لم يذكر أصلا فوقع الطلاق بغير مال ثم إن كان الإكراه على قبول الطلاق بمال بأن أكرهت على أن تقبل من زوجها تطليقه على ألف درهم كان الواقع رجعيا بالاتفاق; لأن الواقع بصريح اللفظ رجعي إذا لم يجب عوض بمقابلته وإن كان الإكراه على قبول الخلع بمال ينبغي أن يكون الواقع بائنا; لأنه من الكنايات بخلاف الهزل حيث يقع الطلاق ويجب المال عندهما على ما مر; لأن الهزل

(4/549)


والاختيار في الحكم دون السبب وعندهما ما يدخل على الحكم دون السبب لا يؤثر في بدل الخلع أصلا كشرط الخيار وما دخل على السبب يؤثر في المال دون الطلاق; لأنه لا يجب إلا بالشرط فكان في الإيجاب مثل الثمن وبعد صحة الإيجاب الطلاق الذي هو المقصود وأما الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا مثل البيع والإجارة فإنه يقتصر على المباشر أيضا إلا أنه يفسد لعدم الرضا ولا يصح الأقارير كلها; لأن صحتها تعتمد قيام المخبر به وقد قامت دلالة
ـــــــ
يعدم الرضا والاختيار في الحكم دون السبب فصح إيجاب المال لوجود الرضا في السبب. والأصل عندهما أن ما يدخل على الحكم دون السبب لا يؤثر في بدل الخلع بالمنع أصلا كشرط الخيار; لأن أثره في المنع ولم تؤثر في أحد الحكمين وهو الطلاق بالمنع حتى لم يتوقف على الاختيار فلا يؤثر في الحكم الآخر وهو لزوم المال; لأن المال فيه تابع فيتبع الطلاق ويلزم حسب لزومه فلم يعمل فيه الهزل وشرط الخيار وما دخل على السبب مثل الإكراه يؤثر في المال دون الطلاق; لأن المال لا يجب في الخلع إلا بالشرط بالذكر فيه كما أن الثمن لا يجب في البيع إلا بالذكر. فكان المال في الإيجاب أي في الإثبات في الخلع مثل الثمن في البيع وفي بعض النسخ مثل اليمين وليس بصحيح فكما أنه لا بد من صحة الإيجاب لثبوت الثمن في المبيع لا بد من صحته أيضا لثبوت المال في الخلع وما دخل على السبب بمنع صحة الإيجاب في البيع فكذلك في الخلع وما دخل على الحكم لا يمنع صحة الإيجاب في البيع فلا يمنع في الخلع أيضا إلا أن في البيع ما دخل على الحكم يمنع اللزوم وفي الخلع لا يمنع; لأن المقصود هو الطلاق هاهنا والمال تابع وهذا المانع لا يؤثر في منع لزوم ما هو المقصود فلا يؤثر في منع لزوم التابع أيضا; لأن حكم التابع يؤخذ من المتبوع أبدا.
وهو معنى قوله وبعد صحة الإيجاب يتبع الطلاق الذي هو المقصود.
قوله: "فأما الذي" أي التصرف الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا مثل البيع والإجارة ونحوهما فإنه يقتصر على المباشر أيضا كالذي لا يحتمل الفسخ; لأن الأقوال كلها تقتصر على المتكلم إلا أنه أي لكن الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا يفسد أي بعقد فاسد إلا أن الإكراه لا يمنع انعقاد أصل التصرف لصدوره من أهله في محله ولكنه يمنع نفاذه لفوات الرضا الذي هو شرط النفاذ بالإكراه فينعقد بصفة الفساد فلو أجاز التصرف بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح; لأن رضاءه قد تم وللفساد كان لمعنى في غير ما يتم به العقد فيزول المعنى المفسد بالإجازة كالبيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد إذا أسقط من له الأجل أو الخيار ما شرط له قبل تقرره كان البيع جائزا فكذا هذا ولا يصح

(4/550)


عدمه ولا نسلم قول الخصم أن الضرر موقوف على الرضا بل على الاختيار. ألا يرى أن الإنسان قد يختار الضرر كارها غير راض كالفصد وشرب الدواء وإنما الرضا للزوم فيما يحتمل الفسخ لا غير وهذا بخلاف أقارير السكران فإنها تصح على ما قلنا; لأن السكر لما لم يصلح عذرا لم يصلح دلالة على عدم المخبر به بل جعل دلالة على الرجوع بخلاف السكران إذا ارتد فإن امرأته لا تبين وجعل السكر دلالة على عدم المخبر به; لأن الردة تعتمد محض الاعتقاد وقد وقع فيه الشك والشبهة فلم يثبت وما يعتمد العبارة لا يبطل بالشبهة أيضا والكامل من الإكراه والقاصر في هذا سواء.
ـــــــ
الأقارير كلها حتى لو أكره بقتل أو إتلاف عضو أو حبس أو قيد على أن يقر بعتق ماض أو طلاق أو نكاح أو رجعة أو فيء في إيلاء أو عفو عن دم عمد أو بيع أو إجارة أو دين في ذمته لإنسان أو إبراء عن دين أو على أن يقر بإسلام ماض كان الإقرار باطلا; لأنه إذا هدد بما يخاف التلف على نفسه فهو ملجئ إلى الإقرار محمول عليه والإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب وإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق ودلالته على وجود المخبر به وذلك يفوت بالإلجاء; لأن قيام السيف على رأسه دليل على أن إقراره هذا لا يصلح للدلالة على المخبر به; لأنه يتكلم به دفعا للسيف عن نفسه وهو معنى قوله وقد قامت دلالة عدمه أي عدم المخبر به بهذا الإقرار. وكذا إن هدد بحبس أو قيد; لأن الرضا ينعدم بالحبس والقيد لما يلحقه من الهم, وعدم الرضا يمنع ترجيح جانب الصدق في إقراره ثم قد بينا أن الإكراه مثل الهزل في تفويت الرضا ومن هزل بإقرار لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شيء فكذا إذا أكره عليه.
فإن قيل أليس أن عند أبي حنيفة رحمه الله إذا قال لمن هو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الإقرار مكرها فإذا نفذ العتق ثمة ينفذ هاهنا بالطريق الأولى قلنا أبو حنيفة رحمه الله جعل ذلك الكلام مجازا في الإقرار بالعتق كأنه قال عتق علي من حين ملكته وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في إقراره فأما عند الإكراه فلا يمكن أن يجعل إقراره مجازا في شيء; لأنه أمره بالتكلم بالحقيقة وقد يرجح جهة الكذب فيه بالإكراه فبطل.
قوله: "بخلاف السكران إذا ارتد" جواب عن نقض يرد على إقرار السكران فإن السكر لما لم يصلح دليلا على عدم المخبر به في الإقرار ينبغي أن لا يصلح دليلا على عدمه في الردة أيضا فقال الردة تعتمد محض الاعتقاد أي اعتقاد الكفر والتكلم

(4/551)


والقسم الذي يصلح أن يكون فيه آلة لغيره فمثل إتلاف المال وإتلاف النفس; لأنه يحتمل أن يأخذه فيضرب به نفسا أو مالا فيتلفه فإن كان عليه ما أوجب جرحه وجب به القود في النفس بالإجماع وليس في ذلك تبديل محل
ـــــــ
بكلمة الكفر دليل محض عليه وقد وقع في الاعتقاد الشك; لأن كلامه بالنظر إلى أصل عقله يصلح دليلا على الاعتقاد مثل كلام الصاحي وبالنظر إلى انطماس نور العقل بالسكر لا يصلح دليلا عليه فلا يثبت اعتقاد الكفر بالشك فلا تثبت الردة ولا البينونة بينه وبين امرأته بالشك وما يعتمد العبارة نحو الطلاق والعتاق وغيرهما لا يبطل بالشبهة أيضا; لأن صدور كلامه عن عقل وأهلية خطاب يوجب وقوع الطلاق والعتاق وصحة سائر التصرفات إلا أن قيام السكر يورث شبهة عدم الصحة فيه فلا يبطل ما ثبت بأصل الكلام بهذه الشبهة والكامل من الإكراه وهو الإكراه بالقتل أو القطع والقاصر وهو الإكراه بالحبس أو القيد في هذا أي في الذي يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضا والأقارير كلها سواء; لأن القاصر يعدم الرضا وعدمه يمنع النفاذ ويدل على عدم المخبر به والحد في الحبس الذي هو الإكراه ما يجيء منه الاغتمام البين به وفي الضرب الذي هو إكراه ما يجد منه الألم الشديد وليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص; لأن نصيب المقادير بالرأي لا يكون ولكن ذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه فما رأى أنه إكراه أفسد العقد وأبطل الإقرار به; لأن ذلك يختلف باختلاف الناس فللوجيه الذي يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس والقيد يوما في حقه فوق تأثير حبس شهر في حق غيره فلهذا لم يقدر فيه بشيء وجعل موكولا إلى رأي القاضي ليبني ذلك على حال من ابتلي به كذا في المبسوط.
قوله: "والقسم الذي يصلح أن يكون المكره فيه آلة لغيره فمثل إتلاف المال وإتلاف النفس"; لأنه أي المكره يحتمل أن يأخذه فيضرب المكره به نفسا أو مالا فيتلفه فإن كان على المكره أي معه ما أوجب جرح المقتول بأن قال اقتله بالسيف أو لأقتلنك فقتله به وجب به أي بسبب هذا الإكراه أو القتل أو الجرح القود على المكره بالإجماع وإنما شرط ذلك; لأنه لو أكرهه على القتل بعصا أو بحجر كان بمنزلة قتل المثقل وذلك لا يوجب القصاص عند أبي حنيفة رحمه الله ثم أنه ذكر الإجماع في هذه المسألة. وذكر في الأسرار والمبسوط أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجب القود على المكره وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجب القود على أحد بل تجب الدية على المكره في ماله في ثلاث سنين وعند زفر رحمه الله يجب القود على المكره دون المكره; لأنه قتله لإحياء نفسه عمدا فيلزمه القود كما لو أصابته مخمصة فقتل إنسانا وأكل من لحمه. ألا يرى أنه لا يسقط عن المكره بالإكراه بسائر ما يتعلق بالقتل من الأحكام كالإثم والتفسيق ورد

(4/552)


الجناية أيضا فلذلك جعل آلة فإذا جعل آلة له بالطريق الذي قلنا صار ابتداء وجود الفعل مضافا إليه فلزمه حكم الفعل ابتداء وخرج المكره من الوسط ولذلك وجب القصاص على المكره ولذلك قلنا فيمن أكره على رمي صيد
ـــــــ
الشهادة وإباحة قتله للمقصود بالقتل فكذا القود بل أولى; لأن تأثير الضرورة في إسقاط الإثم دوم الحكم حتى أن من أصابته مخمصة تباح له تناول مال الغير ولا يسقط الضمان وإثم القتل هاهنا لم يسقط عن المكره بالإكراه فلأن لا يسقط عنه حكم القتل أولى واستدل أبو يوسف رحمه الله بأن بقاء الإثم في حق المكره دليل على أن الفعل كله لم يصر منسوبا إلى المكره والقصاص لا يجب إلا بمباشرة جناية تامة وقد عدمت من المكره حقيقة وحكما فلا يلزمه القود. ولنا أن المكره ملجأ إلى هذا الفعل والإلجاء بأبلغ الجهات يجعل الملجأ آلة الملجئ فيما يصلح أن يكون آلة له إذا لم يلزم منه تغيير محل الجناية; لأن الإنسان مجبول على حب الحياة فلما هدد بالقتل يطلب لنفسه مخلصا عن الهلاك ولما لم يتوصل إليه إلا بالإقدام على ما أكره عليه يقدم عليه وإن كان حراما طلبا للخلاص فيفسد اختياره بهذا الطريق ويصير مجبولا على هذا الفعل بقضية الطبع وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التي لا اختيار لها وصار بمنزلة سيف في يد المكره استعمله في قتله فيصير الفعل منسوبا إليه لا إلى الآلة ثم المكره هاهنا يصلح أن يكون آلة للمكره في القتل بأن يأخذ يده مع السكين فيقتل به غيره وليس في ذلك أي في جعله آلة تبديل محل الجناية أيضا; لأن هذا القتل لو كان طوعا من الفاعل لكان جناية على المقتول موجبة للقود وبأن جعل الفاعل آلة ونسب الفعل إلى المكره لا يفوت الجناية على القتيل بل محل الجناية نفس المقتول كما كانت فلذلك أي فلصلاحه للآلة وعدم لزوم تبدل محل الجناية جعل المكره آلة للمكره ونسب الفعل إليه وإذا جعل المكره آلة بالطريق الذي قلنا صار ابتداء وجود الفعل مضافا إلى المكره لا أنه نقل من المكره إليه كما اختاره بعض مشايخنا فلزم المكره حكم الفعل وهو وجوب القصاص ابتداء وخرج المكره من الوسط فلا يلزمه شيء من حكم الفعل من قصاص ولا دية ولا كفارة, ألا ترى أن شيئا من المقصود لا يحصل للمكره فلعل المقتول من أخص أصدقائه فعرفنا أنه بمنزلة الآلة له. ولذلك أي ولصيرورة الفعل منسوبا إلى المكره كأنه باشره بنفسه ثم إن المكره مع فساد اختياره يبقى مخاطبا فلبقائه مخاطبا كان عليه إثم القتل ولفساد اختياره لم يكن عليه شيء من حكم القتل ولا يدل لزوم الإثم على بقاء الحكم كما لو قال لغيره اقطع يدي فقطعها كان آثما ولا شيء عليه من حكم القطع بل في الحكم يجعل كأن الآمر فعل بنفسه كذا هنا وتبين بهذا أن ما استدل به أبو يوسف غير صحيح; لأن المكره مباشر شرعا بدليل أن سائر الأحكام سوى القود نحو

(4/553)


فرماه فأصاب إنسانا أن الدية على عاقلة المكره والكفارة عليه; لأن الدية ضمان المتلف والكفارة جزاء الفعل المحرم لحرمة هذا المحل أيضا وكذلك إتلاف المال ينسب إلى المكره ابتداء وهذه نسبة ثبتت شرعا لما قلنا وهذا كالأمر فإنه متى صح استقام نقل الجناية به أيضا كمن أمر عبده بأن يحفر بئرا في فنائه
ـــــــ
حرمان الميراث والدية والكفارة تجب عليه فكذا القود والأصل فيه قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فقد نسب الفعل إلى اللعين وهو ما كان يباشر صورته ولكنه كان مطاعا يأمر به وأمره إكراه.
قوله: "ولذلك" أي ولأن الفعل منسوب إلى المكره قلنا كذا والكفارة عليه أي على المكره; لأن الدية ضمان المتلف والإتلاف منسوب إلى المكره فيجب الضمان عليه والكفارة جزاء الفعل المحرم لأجل حرمة هذا المحل يعني أن حرمة قتل الآدمي لم تثبت من جهة الفاعل ليقتصر وجوب الكفارة على الفاعل كما في جزاء الصيد بل تثبت لاحترام المحل بدليل أن المحل لو لم يكن محترما لما ثبتت الحرمة ولم تجب الكفارة كما في قتل المرتد وإذا كان وجوب الكفارة باعتبار حرمة في المحل وجبت على المكره كالدية; لأن المكره جعل آلة فيما يرجع إلى المحل وإتلاف المحل بجميع أحكامه منسوب إليه بخلاف كفارة الصيد في حق المحرم; لأنها إنما وجبت لمعنى في الفاعل وهو كونه محرما لا لمعنى في المحل فلا يصلح المكره أن يصير آلة للمكره فيقتصر على الفاعل كما ستعرفه وكذلك أي وكقتل النفس إتلاف المال ينسب إلى المكره ابتداء حتى لا يكون على المكره شيء من حكم الإتلاف بالإجماع ومعلوم أن المباشر والمسبب إن اجتمعنا في الإتلاف وجب الضمان على المباشر دون المسبب لما وجب ضمان المال على المكره علم أن الإتلاف منسوب إلى المكره شرعا ولا طريق للنسبة سوى جعل المكره آلة فعرفنا أنه هو الأصل في باب الإكراه.
فإن قيل نحن لا نقول بأن المكره آلة في الإتلاف بل المتلف والضمان عليه ألا أنه يرجع على المكره; لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة فكذا القاتل هو المباشر فيجب القصاص عليه ثم الرجوع بالقصاص لا يتصور قلنا لا يمكن القول بإيجاب الضمان على المكره المباشر; لأنه لو وجب عليه لما رجع به على المكره; لأن الأمر في ملك الغير فاسد فلا يجعل مستعملا إياه ليرجع بحكم الاستعمال فعلم أن وجوب الضمان على المكره بحكم أنه هو الفاعل لا بحكم الآمر كذا في الطريقة البرغرية.
قوله: "وهذا" أي الإكراه في كونه مؤثرا في تبديل النسبة مثل الأمر فإن الأمر متى

(4/554)


وذلك موضع إشكال قد يخفى على الناس أنه ملكه أو حق المسلمين فحفر فوقع فيه إنسان ومات أن المولى هو القاتل لما قلنا من صحة الأمر وكذلك إذا استأجر حرا أو استعان به وذلك موضع إشكال ولم يبين فإن ضمان ما يعطب به على الآمر استحسانا لما قلنا من صحة الأمر وإذا كان في جادة الطريق لا يشكل حاله بطل الأمر واقتصرت الجناية على المباشر وكذلك من قتل عبد غيره بأمر المولى انتقل إلى المولى نفس القتل في حق حكمه كأنه باشره; لأنه موضع شبهة بخلاف ما إذا قتل حرا بأمر حر آخر في أن الضمان على المباشر والإكراه صحيح بكل
ـــــــ
صح بأن صدر ممن له ولاية على المأمور شرعا استقام نقل الجناية إلى الآمر أيضا كما استقام نسبة الفعل إلى المكره بالإكراه كمن أمر عبده بأن يحفر بئرا في فنائه وهو سعة أمام البيوت اختص صاحب البيت بالانتفاع به من حيث كسر الحطب وإيقاف الدابة وإلقاء الكناسة فيه وذلك الفناء موضع إشكال كما بينه في الكتاب وإنما قيد بالفناء; لأنه لو كان في غير فنائه كان الضمان في رقبة العبد يدفع به أو يفدي كذا في المبسوط وكذلك أي وكأمر العبد إذا استأجر حرا للحفر في ذلك الموضع أو استعان بالحر على الحفر ولم يبين أنه ملكه أم لا فإن ضمان ما يعطب به أي بالحفر أو بالمحفور على الآمر استحسانا والقياس أن يجب الضمان على الأجير أو المعين; لأنه باشر إحداثه في ذلك الموضع وصاحب الدار ممنوع عن إحداثه وإنما يعتبر أمره فيما له أن يفعله بنفسه. وجه الاستحسان أن الأجير يعمل للآجر ولهذا يستوجب عليه الأجر وقد صار مغرورا من جهته حين لم يعلمه أن ذلك الموضع ليس في ملكه أو تصرفه وإنما حفر اعتمادا على أمره وعلى أن ذلك من فنائه فلدفع ضرر الغرور ينقل فعلهم إلى الآمر فيصير كأنه حفر بنفسه وإذا كان الحفر في جادة الطريق لا يشكل حله أي يعلم أنه ليس في فنائه بطل الأمر; لأنه غير مالك للحفر بنفسه في ذلك الموضع وإنما يعتبر أمره لإثبات صفة الحل به أو لدفع الغرور عن الحافر وقد عدما جميعا في ذلك الموضع فسقط اعتبار أمره فاقتصرت الجناية على المباشر فكان الضمان عليه وكذلك أي وكالحر المستأجر من قتل عبد غيره بأمر مولاه انتقل إلى المولى نفس القتل في حق حكمه كأن المولى باشره بنفسه وإن لم ينتقل في حق الإثم حتى لم يجب ضمان ولا قود; لأنه أي قتل العبد بأمر مولاه موضع شبهة أي اشتباه; لأن العبد وإن كان مبقى على أصل الحرية في حق الدم والحياة فلا يصح الأمر بقتله من هذا الوجه ولكن ماليته للمولى فيصح أمره بإتلافها من هذا الوجه كما يصح الأمر بقتل شاة مملوكة له فيصير هذا الوجه شبهة في سقوط القود والضمان بخلاف ما إذا قتل حرا بأمر حر آخر يعني من غير إكراه فإن الضمان على المباشر; لأن هذا الأمر لم يصح بوجه لعدم

(4/555)


حال فوجب أن ينسب الفعل إلى الذي أكرهه وأما الإكراه الذي لا يوجب الإلجاء فلا يوجب النقل; لأنه يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار والمشيئة فلذلك لم يجعل آلة له. وأما القسم الذي لا يحتمل أن يجعل الفاعل فيه آلة لغيره فذلك مثل الأكل والوطء والزنا; لأن الأكل بفم غيره لا يتصور وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره صورة إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الإتلاف صورة وكان ذلك يتبدل بأن يجعل آلة بطل ذلك واقتصر الفعل على
ـــــــ
الولاية فلا يصير شبهة في سقوط القود والضمان. وهذا إذا لم يكن الآمر ذا سلطنة فإن كان سلطانا فأمره بمنزلة الإكراه إذا كان المأمور يخاف على نفسه بمخالفة أمره; لأن من عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ولكنهم يأمرون ثم لا يعاقبون من خالف أمرهم إلا بالقتل فباعتبار هذه العادة كان الأمر من مثله بمنزلة التهديد بالقتل كذا في المبسوط والإكراه صحيح كل حال يعني إنما ينسب الفعل إلى الآمر بالأمر إذا صح الأمر وإذا لم يصح اقتصر على الفاعل كما بينا فأما في الإكراه فينسب الفعل إلى المكره إذا أمكن بكل حال سواء أكره حرا على قتل عبده أو على قتل حر آخر وسواء أكره على الحفر في موضع الاشتباه أو في غير موضع الاشتباه كجادة الطريق; لأن الإكراه صحيح أي متحقق في الوجوه كلها لا يمكن دفعه فوجب نسبة الفعل إلى المكره.
قوله: "وأما الإكراه الذي لا يوجب الإلجاء" كالإكراه بحبس أو بقيد أو بضرب لا يخاف منه على نفسه فلا يوجب نقل الفعل إلى المكره حتى اقتصر الضمان والقود على الفاعل; لأن المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الإلجاء لفساد الاختيار باعتبار خوف التلف على نفسه وليس في التهديد بالحبس والقيد معنى خوف التلف على نفسه فبقي الفعل مقصورا على المكره.
قوله: "مثل الأكل والوطء" الأكل يحتمل النسبة إلى المكره من حيث هو أكل باتفاق الروايات عن أصحابنا حتى لو أكره على الأكل وهو صائم يفسد صومه ولا يفسد صوم المكره لو كان صائما; لأن المكره لا يصلح آلة للمكره في نفس الأكل فيقتصر على المكره فأما نسبته إلى المكره من حيث إنه إتلاف فقد اختلفت الروايات فذكر في شرح الطحاوي والخلاصة وغيرهما أنه لو أكره على أكل مال الغير يجب الضمان على المكره دون المكره وإن كان المكره يصلح آلة له من حيث الإتلاف كما في الإكراه على الإعتاق; لأن منفعة الأكل هاهنا حصلت للمكره فيجب الضمان عليه. كما لو أكره على الزنا لا يجب الحد ويجب العقر على الزاني ولا يرجع على المكره; لأن منفعة الوطء حصلت له

(4/556)


المكره; لأن المحل الذي إذا تبدل كان في تبديله بطلان الإكراه; لأن الإكراه "رابع" لا أثر له في تبديل المحال وفي تبديل المحل خلاف للإكراه وفي خلافه بطلان الإكراه وإذا بطل اقتصر الفعل على الفاعل وعاد الأمر إلى المحل الأولى وبطل التبديل وذلك مثل إكراه المحرم على قتل الصيد أو إكراه الحلال على قتل صيد الحرم
ـــــــ
بخلاف الإكراه على الإعتاق حيث يجب الضمان على المكره; لأن مالية العبد تلفت بالإكراه من غير أن تحصل المنفعة للمكره, وذكر صاحب المحيط في التتمة أنه لو أكره على أكل طعام نفسه فأكل إن كان جائعا لا يرجع على المكره بشيء وإن كان شبعان يرجع عليه بقيمة الطعام; لأن في الفصل الأول حصلت منفعة الأكل للمكره ولم يحصل في الفصل الثاني. قال ولو أكره على أكل طعام الغير فأكل يجب الضمان على المكره لا على المكره وإن كان المكره جائعا وحصل له منفعة الأكل; لأن المكره أكل طعام المكره بإذنه; لأن الإكراه على الأكل إكراه على القبض; لأنه لا يمكنه الأكل بدون القبض في الغالب وكما قبض المكره الطعام صار قبضه منقولا إلى المكره فكأن المكره قبضه بنفسه وقال له كل ولو قبض بنفسه صار غاصبا ثم مالكا للطعام بالضمان ثم أذن له بالأكل وهناك لا يضمن الآكل شيئا; لأنه أكل طعام الغاصب بإذنه كذا هاهنا.
وفي طعام نفسه لم يصر آكلا طعام المكره بإذنه; لأنه لا يمكن أن يجعل المكره غاصبا للطعام قبل الأكل; لأن ضمان الغصب لا يجب إلا بإزالة يد المالك ولا يتصور الإزالة ما دام الطعام في يده أو فمه فتعذر إيجاب ضمان الغصب قبل الأكل فلا يصير الطعام ملكا له قبل الأكل وإذا لم يوجد سبب الضمان صار آكلا طعام نفسه لا طعام المكره إلا أن المكره متى كان شبعان لم يحصل له منفعة الأكل فكان هذا إكراها على إتلاف ماله فيجب الضمان عليه كله من التتمة وكذلك أي ومثل القسم الذي لا يصلح أن يكون المكره آلة في أن الحكم يقتصر عليه كون الفعل مما يتصور إلى آخره إلا أن المحل أي محل الإكراه وكان ذلك أي محل الإكراه بطل ذلك أي جعله آلة وفي تبديل المحل أي محل الإكراه خلاف المكره; لأنه لما أكرهه على إيقاع فعل في محل كان إيقاعه في محل آخر مخالفة له ضرورة.
قوله: "وذلك" أي مثال هذا الفصل إكراه المحرم على قتل الصيد وإكراه الحلال على قتل صيد الحرم أن ذلك يقتصر على الفاعل يعني في حق الإثم والجزاء جميعا في مسألة المحرم وفي حق الإثم دون الجزاء في حق الحلال. فقد ذكر في المبسوط ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا الصيد فقتله لا شيء على الذي أمره; لأنه حلال لو باشر قبل الصيد بيده لم يلزمه شيء فكذا إذا أكره غيره ولا شيء على المأمور في القياس

(4/557)


أن ذلك القتل يقتصر على الفاعل; لأن المكره إنما حمله على أن يجني على إحرام نفسه أو على دين نفسه وهو في ذلك لا يصلح آلة لغيره ولو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيصير محل الجناية إحرام المكره ودينه ولهذا قلنا إن المكره على القتل يأثم; لأن القتل من حيث إنه يوجب المأثم جناية على دين
ـــــــ
أيضا; لأنه صار آلة للمكره بالإلجاء التام فينعدم الفعل في جانبه. ألا يرى أن في قتل المسلم لا يكون المكره ضامنا شيئا لهذا المعنى وإن كان لا يسعه الإقدام على القتل ففي قتل الصيد أولى وفي الاستحسان عليه كفارة; لأن قتل الصيد منه جناية على إحرامه وهو بالجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فيقتصر عليه إذ لا يمكن للمكره أن يجني على إحرام الغير بنفسه فكذلك بالإكراه ولما لم تجب الكفارة هاهنا على الآمر لا بد من إيجابها على المأمور إذا لو لم تجب كان تأثير الإكراه في الإهدار وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار وإن كانا محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما كفارة. وأما على المكره فلما بيناه وأما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده يلزمه الكفارة فكذا إذا باشر بالإكراه ولا حاجة في إيجاب الكفارة هاهنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره; لأن هذه الكفارة تجب على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هاهنا. وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ فإنه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص; لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل في جانب المكره وهاهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابها على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبيب. ولأن السبب هاهنا الجناية على الإحرام وكل واحد منهما جان على إحرام نفسه فأما السبب هناك فهو الجناية على المحل والمحل واحد فإذا أوجبنا الكفارة باعتباره على المكره قلنا لا تجب على المكره. ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففي القياس الجزاء على القاتل دون الآمر; لأن قتل الصيد فعل ولا أثر للإكراه بالحبس في الأفعال وفي الاستحسان الجزاء على كل واحد منهما أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلأن تأثير الإكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والإشارة ويجب الجزاء بهما فبالإكراه بالحبس أولى ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة على المكره; لأن هذا الجزاء في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى بالصوم ولا يجب بالدلالة ولا يتعدد بتعدد الفاعلين وهذا; لأن وجوبه باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطأ فتبين بما ذكرنا أن المراد من الاقتصار على الفاعل في قتل صيد الحرم الاقتصار في حق الإثم دون الجزاء على إحرام نفسه أي في صورة المحرم أو على دين نفسه أي في صورة الحلال; لأنه لا حرمة للصيد

(4/558)


القاتل وهو في ذلك لا يصلح آلة فصار محل الجناية دين المكره لو جعل آلة فصاره في حق الحكم المكره فاعلا وصار المكره في حق المأثم فاعلا فقيل له لا تفعل وصار المكره آثما; لأنه اختار موته وحققه بما في وسعه فلحقه المأثم والمأثم يعتمد عزائم القلوب إذا اتصلت بالفعل ولهذا قلنا في المكره على البيع
ـــــــ
في نفسه بدليل أن الحلال لو اصطاد يحل للمحرم أكله إذا لم يوجد منه صنع من الإشارة ونحوها. وكذا الصيد إذا خرج من الحرم يحل اصطياده فكان محل الجناية هو الإحرام أو الدين في الحقيقة وهو في ذلك أي الجناية على الإحرام أو على الدين لا يصلح آلة لغيره وهو المكره ولو جعل آلة يعني مع أنه لا يصلح آلة لو جعل آلة لتبدل محل الجناية فيصير محل الجناية إحرام المكره لو كان محرما في الفصل الأول ودينه في الفصل الثاني وفي ذلك بطلان الإكراه.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولأن محل الجناية إذا تبدل بالنسبة يقتصر الفعل على الفاعل قلنا إن المكره على القتل يأثم إثم القتل وإن كان القتل مما يصلح الفاعل فيه آلة لغيره; لأن القتل من حيث إنه يوجب المأثم جناية على دين القتل والمكره في ذلك أي في الإثم لا يصلح آلة لغيره; لأن الإنسان في الجناية على الدين لا يصلح أن يكون آلة لغيره إذ لا يمكنه أن يكتسب الإثم على غيره ولو جعلنا المكره آلة كانت الجناية واقعة على دين المكره وأنه لم يأمره بذلك فتبين أنا لو أخرجنا المكره من أن يكون فاعلا في حق الإثم لتبدل به محل الجناية فصار في حق الحكم وهو وجوب القصاص والدية والكفارة وحرمان الإرث المكره فاعلا بنسبة الفعل إليه يجعل المكره آلة له إذ لا يلزم منه تبدل محل الجناية وصار المكره في حق المأثم فاعلا لتعذر النسبة إلى المكره بلزوم تبدل المحل فقيل له أي للمكره لا تفعل يعني لما بقي فاعلا صح أن ينهى عنه شرعا ويلحقه الإثم بالمباشرة ثم بين جهة تأثيمه فقال وصار المكره آثما; لأنه اختار موت المقتول وحقق موته بما في وسعه وهو الجرح الصالح لزهوق الروح وآثر روح نفسه على من هو مثله في الحرمة وأطاع المخلوق في معصية الخالق; لأنه تعالى نهاه عن الإقدام عليه وقصد ذلك وحققه بالفعل والقصد عمل القلب وهو لم يصلح فيه آلة لغيره إذ لا يتصور أن يقصد الإنسان تقلب غيره كما لا يتصور أن يتكلم بلسان غيره فلهذا بقي الإثم عليه وإنما قيد بقوله إذا اتصلت بالفعل إشارة إلى ما ثبت في الحديث "أن الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسهم" .
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولما ذكرنا أن عند تبدل المحل يقتصر الفعل على الفاعل قلنا كذا إذا باع مكرها وسلم مكرها ملكه المشتري ملكا فاسدا حتى نفذ فيه إعتاقه

(4/559)


والتسليم أن تسليمه يقتصر عليه وإن كان فعلا; لأن التسليم تصرف في البيع وإنما أكره ليتصرف في بيع نفسه بالإتمام وهو فيه لا يصلح آلة ولو جعل آلة
ـــــــ
وتدبيره واستيلاده عندنا. وقال زفر رحمه الله لا يملكه ولو سلم طائعا ينفذ البيع ويقع الملك به بالاتفاق; لأنه يصير إجازة للبيع دلالة بخلاف ما إذا أكره على الهبة فوهب وسلم طائعا حيث لا يكون إجازة; لأن الإكراه على الهبة إكراه على التسليم وجه قوله أنا حكمنا بانعقاد بيع المكره; لأنه لا يصلح فيه آلة لغيره فيبقى مقصورا عليه فأما التسليم فأمر حسي يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فينتقل إليه ولهذا وجب عليه الضمان الذي هو من أحكام التسليم وإذا انتقل إليه صار كأنه سلم بنفسه مال المكره إلى المشتري فلا يقع به الملك والدليل على أن الملك لا يقع بهذا التسليم أن المشتري لو وهبه أو تصدق به أو باعه تفسخ عليه هذه التصرفات ولو وقع الملك بهذا التسليم لكان لا تفسخ عليه كما في البيع الفاسد ولنا أن هذا البيع منعقد بصفة الفساد فيوجب الملك عند اتصال القبض كسائر البيوع الفاسدة أما الانعقاد فلمساعدة الخصم عليه فلهذا لو أجاز أو سلم طائعا ينفذ. وأما الفساد فلفوات شرطه وهو الرضا فإن فوات الشرط يوجب الفساد في البيع كفوات شرط المساواة في بدلي الربا يوجب الفساد دون البطلان والبيع الفاسد إذا اتصل به القبض يفيد الملك وقد وجد فإن التسليم قد تحقق من البائع ولم ينتقل إلى المكره بالإكراه; لأن التسليم من البائع متمم سبب الملك ولهذا كان له شبهة بابتداء العقد على ما عرف وقد أكرهه على التصرف في بيع نفسه بالإتمام وهو من هذا الوجه لا يصلح آلة له; لأن المكره لا يقدر على تمليك مال الغير وإتمام تصرفه ليجعل المكره آلة له فيه ولو جعل آلة لتبدل المحل; لأنه يصير حينئذ تصرفا في المغصوب وقد أمر بالتصرف في المبيع ولتبدل ذات الفعل فأنا لو خرجنا هذا التسليم من أن يكون متمما للعقد جعلناه غصبا محضا ابتداء بنسبته إلى المكره وإذا لم يجز أن يتبدل محل الفعل بالإكراه فكيف يجوز أن يتبدل ذاته وإذا كان كذلك بقي التسليم مقتصرا على البائع فيحصل الملك به للمشتري كما لو سلم طائعا وقد نسبناه إلى المكره من حيث هو غصب يعني أن هذا التسليم متمم للتصرف من وجه ومفوت يد المالك من وجه فجعلناه مقتصرا على البائع من حيث إنه إتمام للعقد; لأنه لا يصلح آلة للغير فيه ونسبناه إلى المكره من حيث إنه غصب; لأنه يصلح آلة له فيه فيرجع بالضمان عليه فأما أن يجعله غصبا محضا حتى لا ينفذ إعتاق المشتري أو تسليما محضا حتى لا يكون للبائع الرجوع على المكره بالضمان فلا. ثم هو بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته يوم سلم وإن شاء ضمن المشتري فأما الجواب عن قوله تفسخ التصرفات هاهنا وفي البيع الفاسد لا تفسخ فهو أن القبض مع كون البيع فاسدا حصل بغير

(4/560)


لتبدل المحل ولتبدل دأب الفعل; لأنه حينئذ يصير غصبا محضا وقد نسبناه إلى المكره من حيث هو غصب وإذا ثبت أنه أمر حكمي صرنا إليه استقام ذلك فيما يعقل ولا يحس قلنا إن المكره على الإعتاق بما فيه إلجاء هو المتكلم ومعنى الإتلاف منه منقول إلى الذي أكرهه; لأنه من فصل في الجملة يحتمل للنقل
ـــــــ
رضا البائع وفي البيع الجائز لو حصل القبض قبل نقد الثمن بدون رضا البائع وتصرف المشتري فيه تصرفا يحتمل الفسخ يفسخ ففي الفاسد أولى وحقيقة المعنى فيه أن في البيع الفاسد وجوب الفسخ لحق الشرع فإذا باعه المشتري من غيره تعلق به حق العبد فإذا اجتمع الحقان يرجح حق العبد على حق الشرع إذ الأصل هو ترجيح حق العبد عند اجتماع الحقين لحاجة العبد وغناء الشرع فبطل حق الفسخ فأما هاهنا فحق الفسخ لحق البائع وإذا باعه من غيره وتعلق به حق المشتري أيضا فترجح حق البائع لكونه أسبق فبقيت له ولاية الفسخ إذا كان التصرف محتملا للفسخ وكذا في البيع الفاسد وجد التصرف من المشتري بتسليط صحيح من البائع إياه على ذلك التصرف ولم يوجد التسليط هاهنا ولو وجد فهو تسليط فاسد فافترقا.
"قوله وإذا ثبت أنه" أي انتقال الفعل من المكره إلى المكره يعني نسبته إليه أمر حكمي صرنا إليه في إتلاف النفس والمال لا حسي استقام ذلك الانتقال فيما يعقل ولا يحس أي فيما يعقل وجوده من المكره ولا يحس وجوده منه يعني من شرط هذه النسبة أن يتصور ذلك الفعل من المكره ولكن لا يوجد منه حسا إذ لو لم يتصور وجوده منه لا يستقيم النسبة إليه أصلا ولو تصور وجوده منه ووجد منه حسا كانت النسبة حقيقية لا حكمية. فقلنا إن المكره على الإعتاق بما فيه الإلجاء هو المتكلم حتى كان الولاء له; لأن التكلم بالإعتاق أعني التكلم بما يوجب عتق هذا العبد لا يعقل ولا يتصور من المكره; لأنه ليس بمالك للعبد والإعتاق من غير المالك لا يتصور فلا يمكن أن ينسب إليه بأن يجعل المكره آلة له فيه ومعنى الإتلاف منه أي من هذا الإعتاق منقول إلى الذي أكرهه أي هذا الإعتاق يتضمن إتلاف مالية العبد معنى فينقل ذلك الإتلاف المعنوي إلى المكره; لأنه يتصور منه الإتلاف حسا فيمكن نسبته إليه بجعل المكره آلة له فيه; لأنه أي الإتلاف منفصل عن الإعتاق في الجملة لتحققه بالقتل بلا إعتاق محتمل للنقل إلى المكره بأصله لتصوره من المكره ابتداء كما بينا فلذلك يرجع المكره على المكره بقيمة العبد موسرا كان المكره أو معسرا; لأن ضمان الإتلاف لا يختلف بالإيسار والإعسار ويجوز أن يجب الضمان عليه ويثبت الولاء للغير كما في الرجوع عن الشهادة على العتق فإن الضمان على الشاهد والولاء للمشهود عليه بالعتق وهذا لأن الولاء كالنسب ليس بمال متقوم فلا يمنع

(4/561)


بأصله. وأما بيان ما ذكرنا من تقسيم الحرمات فإن القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح لا يحل ذلك بعذر الإكراه ولا يرخص فيه; لأن دليل الرخصة خوف التلف والمكره والمكره عليه في ذلك سواء فسقط الإكراه في حق تناول دم المكره عليه للتعارض وفي الزنا فساد الفراش وضياع النسل وذلك بمنزلة القتل
ـــــــ
ثبوته للغير وجوب الضمان عليه; ولا سعاية على العبد لأحد; لأن العتق نفذ فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله ولا يلزم على ما ذكرنا المحرم إذا قتل الصيد حيث لا يثبت له الرجوع على المكره بالضمان; لأنه ضمن ضمانا يفتى به ولا يقضى به فلو رجع بضمان يقضى به وقد عرف أن ضمان العدوان مقدر بالمثل فلا يجوز أن يجب عليه زيادة على ما أتلف.
قوله: "فإن القسم الأول" وهو الحرمة التي لا تنكشف ولا تحتمل الرخصة هو كالزناء بالمرأة قيد بالمرأة ليعلم أن المراد به زنا الرجل فإن زنا المرأة يحتمل الرخصة على ما سنذكره لا يحل ذلك أي كل واحد من هذه الأفعال بعذر الإكراه كما يحل شرب الخمر وأكل الميتة به ولا يرخص فيه مع بقاء الحرمة كما رخص في إجراء كلمة الكفر مع الحرمة; لأن دليل ثبوت الرخصة خوف التلف فإنه إذا خاف تلف النفس أو العضو جاز له الترخص بالمحرم وصيانة للنفس أو العضو عن التلف والمكره بفتح الراء والمكره عليه بفتحها أيضا وهو المقصود بالقتل في ذلك أي في استحقاق الصيانة عند خوف التلف سواء فلا يكون له أن يبذل نفس غيره لصيانة نفسه فسقط الإكراه في حق تناول دم المكره عليه للتعارض أي صار الإكراه في حكم العدم في حق إباحة قتل المقصود بالقتل والترخص به لتعارض الحرمتين فإن الترخص لو ثبت بالإكراه لصيانة حرمة نفس المكره منع ثبوته وجوب صيانة حرمة نفس المكره عليه; لأنه مثله في استحقاق الصيانة فلا يثبت للتعارض وفي الزنا فساد الفراش إن كانت المرأة منكوحة الغير وضياع النسل إن لم تكن وذلك بمنزلة القتل أيضا; لأن نسب الولد لما انقطع عن الزاني لا يمكن إيجاب النفقة عليه ولم تكن للمرأة قوة الإنفاق على الولد لعجزها عن الكسب فيهلك الولد ضرورة فكان الزنا بمنزلة الإهلاك حكما فلا يثبت الترخيص فيه بالإكراه للتعارض أيضا قيل فإن ألحق الزنا بالقتل فيما إذا لم تكن المرأة ذات زوج مسلم فأما إذا كانت منكوحة فغير مسلم; لأن الولد حينئذ ينسب إلى الفراش وإن خلق من الزنا لقوله عليه السلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وإذا كان كذلك وجبت نفقة الولد وتربيته على صاحب الفراش فلا يكون الزنا إهلاكا. قلنا الأصل أن ينسب الولد إلى من خلق من مائه وتجب نفقته عليه; لأنه جزؤه فلما انقطع النسب عن الزاني كان إهلاكا حكما بالنظر إلى الأصل وقد ينفي صاحب الفراش نسب مثل هذا الولد

(4/562)


أيضا حتى إن من قيل له لنقتلنك أو لنقطعن يدك حل له; لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده عند التعارض ويد غيره ونفسه سواء والحرمة التي تحتمل السقوط أصلا هي حرمة الخمر والميتة ولحم الخنزير فإن الإكراه الملجئ يوجب إباحته; لأن حرمة هذه الأشياء لم يثبت بالنص إلا عند الاختيار قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] قال تعالى
ـــــــ
عن نفسه عادة فيؤدي إلى الهلاك أيضا وقوله حتى إن من قتل متعلق بالتعارض يعني لو لم يثبت التعارض في صورة التعارض ثبت الترخص كما لو أكره بالقتل على قطع يده حل له القطع وفي المبسوط كان في سعة من ذلك إن شاء الله تعالى; لأن حرمة الطرف تابعة لحرمة النفس والتابع لا يعارض الأصل ولكن يترجح جانب الأصل ففي إقدامه على قطع اليد مراعاة حرمة نفسه وفي امتناعه من ذلك تعريض النفس على التلف وتلفها يوجب تلف الأطراف لا محالة ولا شك أن إتلاف البعض لإبقاء الكل أولى من إتلاف الكل كمن وقعت في يده آكلة يباح له أن يقطع يده ليدفع به الهلاك عن نفسه فهذا المكره في معناه من وجه; لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بقطع يده إلا أن محمدا رحمه الله علقه بالمشيئة; لأنه ليس في معنى الآكلة من كل وجه وحرمة النفس كحرمة الطرف من وجه فلهذا تحرز عن الإثبات وقال هو إن شاء الله في سعة من ذلك ويد غيره ونفسه أي نفس الغير أو نفس المكره سواء حتى لو قيل له لتقطعن يد فلان أو لنقتلنك لا يحل له ذلك ولو فعل كان آثما كما لو قيل له لتقتلن فلانا أو لنقتلنك لا يحل له ذلك ولو فعل كان آثما; لأن لطرف المؤمن من الحرمة ما لنفسه بالنسبة إلى غيره. ألا يرى أن المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله فيتحقق التعارض فلا يثبت الترخص إلا أن في الإكراه على قطع يد نفسه باعتبار مقابلة طرفه بنفسه جوزنا له أن يختار أدنى الضررين وهذا المعنى لا يتحقق عنده مقابلة طرف الغير بنفسه; لأن القطع أشد على الغير من قتل المكره بل من قتل جميع الخلق; لأنه لا يلزم من ذلك فوات طرفه فثبت أنهما في الحرمة سواء عند مقابلة أحدهما بالآخر.
ولا يقال الأطراف ملحقة بالأموال فينبغي أن يرخص في قطع يد الغير عند الإكراه التام كما رخص في إتلاف مال الغير; لأنا نقول إلحاق الطرف بالمال في حق صاحبه لا في حق الغير; لأن الناس لا يبذلون أطرافهم صيانة لنفس الغير ويبذلون أموالهم فيها فلا يلزم من ثبوت الرخصة في إتلاف المال ثبوتها في إتلاف طرفه.
قوله: "يوجب إباحته" أي إباحة كل واحد من هذه الأشياء قال الله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} استثنى حالة الضرورة والاستثناء من التحريم

(4/563)


{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وإن كان التحريم في الأصل يثبت مقيدا بالاستثناء كان الاستثناء خارجة عن التحريم فيبقى على الإباحة المطلقة كالذي لا يضطر إلى ذلك لجوع أو عطش يرى أن رفق التحريم يعود إلى المتناول من خبث في المأكول والمشروب قال الله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فإذا أدى ذلك إلى فوت الكل كان فوت البعض أولى من فوت الكل على مثال قولنا لنقطعن يدك أنت أو لنقتلنك نحن فإذا سقطت الحرمة أصلا كان الممتنع من تناوله وهو مكره مضيعا لدمه فصار آثما وهذا إذا تم الإكراه فأما إذا قصر لم يحل له التناول لعدم الضرورة إلا
ـــــــ
إباحة إذا الكلام صار عبارة عما وراء المستثنى وقد كان مباحا قبل التحريم فبقي على ما كان في حالة الضرورة. وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} نفى الإثم الذي هو نتيجة الحرمة عن المضطر فيدل على انتفاء الحرمة كالذي يضطر إلى ذلك أي إلى الأكل أو الشرب لجوع أو عطش الأصل فيه أن ما يباح تناوله حالة المخمصة يباح حالة الإكراه إذا كان ملجئا وما لا فلا ومعنى الضرورة في المخمصة أنه لو امتنع عن التناول يخاف تلف النفس أو العضو فمتى أكره بالقتل أو بقطع العضو على الأكل أو الشرب فقد تحققت الضرورة المبيحة لتناول الميتة; لأنه خاف على نفسه أو عضو من أعضائه فدخل تحت النص. فصار آثما يعني إذا كان عالما بسقوط الحرمة فإن كان لا يعلم أن ذلك يسعه يرجى أن لا يكون آثما; لأنه قصد إقامة حق الشرع في التحرز عن ارتكاب الحرام في زعمه وهذا لأن انكشاف الحرمة عند الضرورة ودليله خفي فيعذر فيه بالجهل كما أن عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا في ترك ما ثبت بخطاب الشرع كالصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه كذا في المبسوط.
هذا أي سقوط الحرمة إذا تم الإكراه بأن كان ملجئا. فإن قصر بأن أكره بالحبس سنة أو بالحبس المؤبد أو بالقيد مع ذلك من غير أن يمنع عنه طعام ولا شراب لا يسعه الإقدام على شيء من ذلك لعدم الضرورة إذ الحبس أو القيد يوجب الهم والحزن ولا يخاف منه على نفس ولا عضو ولا يسعه تناول الحرام لدفع الحزن, ألا يرى أن شارب الخمر في العادة إنما يقصد بشربها دفع الهم والحزن عن نفسه ولو تحقق الإلجاء بالحبس لتحقق بحبس يوم أو نحوه وذلك بعيد كذا في المبسوط. وقال بعض مشايخ بلخ إنما أجاب

(4/564)


إذا تناول لم يحد; لأنه لو تكامل أوجب الحل فإذا قصر صار شبهة بخلاف المكره على القتل بالحبس إذا قتل فإنه يقتص; لأنه لو تم لم يحل لكنه انتقل عنه فإذا قصر لم ينتقل ولم يصر شبهة. وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة فمثل إجراء كلمة الكفر على اللسان والقلب مطمئن بالإيمان فإن هذا ظلم في الأصل لكنه رخص فيه بالنص في قصة عمار بن ياسر وبقي الكفر عزيمة بحديث خبيب وذلك أن حرمته لا تحتمل السقوط وفي هتك الظاهر مع قرار القلب ضرب جناية لكنه دون القتل; لأن ذلك هتك صورة وهذا هتك صورة ومعنى
ـــــــ
محمد رحمه الله بناء على ما كان من الحبس في زمانه فأما الحبس الذي أحدثوه اليوم في زماننا فإنه يبيح التناول; لأنهم يحبسون تعذيبا كذا في المغني إلا أنه أي المكره بالإكراه القاصر إذا تناول ما يوجب الحد بأن شرب الخمر لم يحد استحسانا وفي القياس يحد; لأنه لا تأثير للإكراه بالحبس في الأفعال فوجوده كعدمه ألا يرى أن العطشان الذي لا يخاف على نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزمه الحد فالمكره بالحبس كذلك وجه الاستحسان أن الإكراه لو تكامل بأن كان ملجئا أوجب الحل فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الجزء في الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عنه بوطئها فإنه يقتص منه ولا يصير قيام الإكراه شبهة; لأن الإكراه لو تم لم يحل للمكره قتل المكره عليه كما بينا. لكنه أي القتل ينتقل به في حق الحكم عن المكره إلى المكره فإذا قصر لا يؤثر في نسبة الفعل إلى المكره ولا في إباحة القتل فلا يصير شبهة في إسقاط القود عن القاتل.
قوله: "وأما الذي" أي القسم الذي لا يسقط من الحرمات ويحتمل الرخصة فمثل إجراء كلمة الكفر على اللسان بشرط اطمئنان القلب فإن هذا أي الإجراء على اللسان ظلم في أصل وضعه; لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه والكفر بهذه الصفة ولهذا سمى الله تعالى الكافر ظالما في آي كثيرة من القرآن لكنه رخص في الإجزاء بالنص في قصة عمار وقد بينا قصته وقصة خبيب رضي الله عنهما في باب العزيمة والرخصة. وذلك أن حرمته أن حرمة إجراء كلمة الكفر لا تحتمل السقوط; لأن التوحيد واجب على العباد إلى الأبد وهو اعتقاد وحدانية الله تعالى والإقرار بها باللسان. والكفر بالله تعالى حرام دائما إلى الأبد لا تسقط حرمته بالإكراه بل بقي حراما مع الإكراه إلا أنه رخص للعبد إجراء كلمة الكفر; لأن فيه فوات التوحيد صورة لا معنى; لأنه معتقد وحدانية الله تعالى بالقلب وهو الأصل والإقرار باللسان مرة واحدة كاف لتمام الإيمان وما بعدها دوام على ذلك الإقرار وبالإجراء يفوت الدوام وذلك لا يوجب خللا في أصل الإيمان لبقاء الطمأنينة ولكن لما

(4/565)


فوجبت الرخصة وبقي الكف عنه عزيمة لبقاء الحرمة نفسها فإذا صبر فقد بذل نفسه لإعزاز دين الله عز وجل فكان شهيدا وإذا أجرى فقد ترخص بالأدنى صيانة للأعلى وكذلك هذا في سائر حقوق الله عز وجل مثل إفساد الصلاة والصيام وقتل صيد الحرم أو في الإحرام لما قلنا وكذلك في استهلاك أموال الناس يرخص فيه بالإكراه التام; لأن حرمة النفس فوق حرمة المال فاستقام أن يجعل
ـــــــ
كان الإجراء كفرا صورة كان حراما; لأن الكفر حرام صورة ومعنى ولو امتنع عنه يفوت حقه في النفس صورة ومعنى فاجتمع هاهنا حقان حق العبد في النفس وحق الله تعالى في الإيمان فترجح حقه على حق الله تعالى لو استوى الحقان لشدة حاجته وغناء الله عز وجل فكيف إذا ترجح حقه هاهنا; لأنه يفوت في الصورة والمعنى وحق الله تعالى لم يفت معنى فلهذا رخص له الإقدام مع كونه حراما كذا في شرح التقويم. لكنه الضمير للضرب دون القتل هو مصدر قتل لا مصدر قتل أي الإجراء على اللسان في هتك حرمة الشرع وكونه جناية على حقه دون أن يقتل المكره; لأن فيه فوات الصورة والمعنى وفي الأولى فوات الصورة لا غير; لأن ذلك أي الإجراء وهذا أي القتل فكان شهيدا لما جاء في الأثر أن: "المخير في نفسه في ظل العرش يوم القيامة إن أبى الكفر حتى يقتل" ولحديث خبيب رضي الله عنه. وكذلك هذا أي وكما بينا من الحكم في صورة الإكراه على الكفر هو الحكم في سائر حقوق الله تعالى حتى لو أكره بما فيه الإلجاء على إفساد الصلاة أو على تركها أو على إفساد الصوم وهو مقيم كان له أن يترخص بما أكره عليه; لأن حقه في نفسه يفوت أصلا وحق صاحب الشرع يفوت إلى خلف فإن صبر ولم يفعل ما أمر به حتى قتل كان مأجورا; لأنه تمسك بالعزيمة; لأن حق الله تعالى وهو الصوم والصلاة لم يسقط عنه بالإكراه وفيما فعله إظهار الصلابة في الدين. وإن كان المكره على الإفطار مسافرا فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما; لأن الله تعالى أباح له الفطر بقوله عز اسمه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فعند خوف الهلاك أيام رمضان في حقه كلياليه وكأيام شعبان في حق غيره فيكون آثما في الامتناع بمنزلة المضطر في فصل الميتة بخلاف المقيم الصحيح لأن الصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والفطر له عند الضرورة رخصة فإن ترخص بالرخصة فهو في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له.
قوله: "وكذلك" أي ومثل إفساد حقوق الله تعالى استهلاك أموال الناس يرخص فيه أي استهلاكها بالإكراه التام دون القاصر حتى لو قيل له لنقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتدفعه إلي أو ترميه في مهلكة كان في سعة من أن يفعل ذلك; لأن حرمة النفس

(4/566)


وقاية لها ولكن أخذ المال وإتلافه ظلم وعصمة صاحبه فيه قائمة فبقي حراما في نفسه لبقاء دليله والرخصة ما يستباح بعذر مع قيام المحرم فإذا صبر حتى قتل فقد بذل نفسه لدفع الظلم ولإقامة حق محترم فصار شهيدا. وكذلك المرأة إذا أكرهت على الزنا بالقتل أو القطع رخص لها في ذلك; لأن ذلك تعرض لحق محترم بمنزلة سائر حقوق الله تعالى وليس في ذلك معنى القتل; لأن نسب الولد عنها لا ينقطع ولهذا قلنا: إنها إذا أكرهت على الزنا بالحبس أنها لا تحد; لأن
ـــــــ
فوق حرمة المال فاستقام أن يجعل المال وقاية للنفس وإن كان مال الغير بخلاف طرف الغير حيث لا يستقيم جعله وقاية للنفس; لأن المال مبتذل في نفسه والحرمة لحق الغير ولهذا يباح بإباحته فأما الطرف فمحترم احترام النفس ولهذا لا يباح قطعه بإذن صاحبه فلا يصلح جعله وقاية للنفس ولكن أخذ المال ظلم يعني كان ينبغي أن لا يجوز له الصبر عنه كما في مال نفسه; لأنه للابتذال في أصل الخلقة وحرمته دون حرمة النفس لكن أخذ مال الغير وإتلافه ظلم وعصمة صاحب المال في المال قائمة أي عصمته لأجل صاحب المال باقية حالة الإكراه; لأنها تثبت للحاجة وحاجته إليه باقية في هذه الحالة فبقي المال حرام التعرض في نفسه لبقاء دليل الاحترام. والرخصة ما يستباح مع قيام المحرم أي يعامل به معاملة المباح فإذا صبر عن التعرض حتى قتل فقد بذل نفسه لدفع الظلم عن مال الغير ولإقامة حق محترم وهو حق صاحب المال فصار شهيدا وألحق محمد رحمه الله الاستثناء بهذا الجواب فقال كان مأجورا إن شاء الله قال شمس الأئمة رحمه الله إنما قيد بالاستثناء; لأنه لم يجد فيه نصا بعينه وإنما قاله بالقياس على الإيمان والصلاة والصوم وليس هذا في معناها من كل وجه; لأن الامتناع من الأخذ هاهنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء.
قوله: "وكذلك المرأة" أي ومن هذا القسم المرأة إذا أكرهت على الزنا بالقتل أو بالقطع رخص لها في ذلك أي في التمكين من الزنا حتى سقط الحد والإثم عنها ولو صبرت كانت مأجورة; لأن ذلك أي تمكينها من الزنا تعرض لحق محترم في المحل لصاحب الشرع بمنزلة سائر حقوقه من الإيمان والصلاة والصوم فيكون حراما وليس في التمكين معنى القتل الذي هو المانع من الترخص في جانب الرجل لما ذكر فيثبت الترخص عند الإكراه الكامل ولهذا أي ولأن الإكراه الكامل في جانبها يوجب الترخص صار القاصر وهو الإكراه بالحبس أو بالقيد شبهة في درء الحد عنها كما في شرب الخمر بخلاف الرجل فإن الكامل لما لم يوجب الترخص في حقه لا يصير القاصر شبهة في سقوط الحد عنه كما في الإكراه على القتل وكان القياس أن لا يسقط الحد عنه بالكامل أيضا كما قال

(4/567)


الكامل يوجب الرخصة فصار القاصر شبهة بخلاف الرجل فصار هذا القسم قسمين قسم حق الله تعالى وفي الإيمان القائم يحتمل السقوط بحال. ألا ترى أنه لما لم يكن في العقيدة ضرورة لم تحتمل الرخصة بالتبديل ودخلت الرخصة في الأداء للضرورة ولما سبق أن أصل الشرع التوحيد والإيمان. والأصل فيه الاعتقاد والأداء فيه ركن ضم إليه فصارت عمدة الشرع وهو أساس الدين لا يحتمل السقوط والتعدي من البشر بحمد الله تعالى وصار غيره عرضة للعوارض وما كان من حقوق العباد من جنس ما يحتمل السقوط ومن حقوق الله
ـــــــ
أبو حنيفة أولا وهو قول زفر رحمهما الله; لأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بانتشار الآلة وذلك دليل الطواعية فإن الانتشار لا يحصل عند الخوف بخلاف المرأة فإن التمكين يتحقق منها مع الخوف فلا يكون تمكينها دليل الطواعية. إلا أن في الاستحسان يسقط كما رجع إليه أبو حنيفة رحمه الله وهو قولهما; لأن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إليه في حالة الإكراه; لأنه كان منزجرا إلى أن تحقق الإكراه وخوف التلف على نفسه وإنما قصد بالإقدام دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك بشبهة في إسقاط الحد عنه وانتشار الآلة لا يدل على عدم الخوف فإنه قد يكون طبعا بالفحولية المركبة في الرجال وقد يكون طوعا ألا يرى أن النائم قد تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له ولا قصد فلا يدل ذلك على عدم الخوف.
قوله: "فصار هذا القسم" أي الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة قسمين قسم لا يحتمل السقوط أصلا مثل حق الله تعالى في الإيمان القائم أي الموجود فإنه مشتمل على ركنين أحدهما الاعتقاد الذي هو الأصل فيه وحرمة تبديله بضده حق الله تعالى لا يحتمل السقوط بوجه ولا يحتمل الرخصة; لأن الضرورة الداعية إلى الترخص لا يتحقق فيه لعدم احتماله التعدي من البشر. والركن الثاني الأداء وهو الإقرار باللسان وحرمة تبديله بضده لا يحتمل السقوط أيضا ولكنه يحتمل الترخص لاحتماله التعدي من البشر فهذا الركن هو أحد القسمين المذكورين.
والثاني منهما ما يحتمل السقوط في نفسه ولكن لما لم يثبت دليل السقوط بقي فعند الضرورة يثبت الترخص فيه مع بقاء الحرمة وذلك مثل حقوق العباد وما يحتمل السقوط من حقوق الله تعالى كحرمة ترك الصلاة والصوم فإنها تحتمل السقوط في ذاتها كما سقطت في حالة الحيض ولكن لما لم يثبت دليل السقوط عند الإكراه بقيت فتثبت الرخصة مع بقاء الحرمة وإنما لم يذكر الركن الأول من إيمان في القسم الأول الذي لا

(4/568)


تعالى قسما آخر أنه يحتمل السقوط بأصله لكن دليل السقوط لما لم يوجد وعارضه أمر فوقه وجب العمل بإثبات الرخصة والعمل وجب بأصله بأن جعل أصله عزيمة وهذا كمن أصابته مخمصة حل له تناول طعام غيره رخصة لا إباحة مطلقة حتى إذا ترك فمات كان شهيدا بخلاف طعام نفسه وإذا استوفاه ضمنه لكونه معصوما في نفسه وذلك مثل تناول محظور الإحرام عن ضرورة بالمحرم أنه يرخص له ويضمن الجزاء فكذلك ههنا والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
يحتمل السقوط رخصة; لأن ذلك القسم في بيان ما لا يحتمل الترخص مع تحقيق الضرورة وهذا الركن لا يحتمل الترخص لعدم احتماله التعدي من البشر المؤدي إلى الضرورة فلم يكن من ذلك القسم ولما سبق بكسر اللام ولأن فيه أي في الإيمان ركنا ضم إلى الاعتقاد أي هو ركن زائد وصار غيره أي غير الاعتقاد وهو الإقرار وعارضه أي هذا القسم أمر آخر فوقه وهو تلف النفس أو العضو وجب العمل به أي بالأمر الذي فوقه وهو صيانة النفس عن التلف والعمل وجب بأصله أي بأصل الحق بإبقاء الحرمة وهذا أي إبقاء العزيمة وإثبات الترخص بالإكراه فيما ذكرنا مثل إثبات الترخص وإبقاء العزيمة بالمخمصة فيمن اضطر إلى تناول طعام الغير حيث ثبت له التناول رخصة لا إباحة مطلقة ولا يصير كطعام نفسه في الإباحة حتى وجب عليه الضمان بالتناول لو صبر كان مأجورا بخلاف طعام نفسه والحمد لله رب العالمين.

(4/569)