مختصر التحرير شرح الكوكب المنير "بَابُ
الاسْتِدْلالِ"
مِنْ جُمْلَةِ الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِلأَحْكَامِ،
وَلِهَذَا ذُكِرَ عَقِبَ الأَدِلَّةِ الأَرْبَعَةِ،
وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ،
وَالْقِيَاسُ.
وَهُوَ "لُغَةً: طَلَبُ الدَّلِيلِ، وَاصْطِلاحًا" أَيْ
فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ "هُنَا إقَامَةُ دَلِيلٍ
لَيْسَ بِنَصٍّ وَلا إجْمَاعٍ وَلا قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ1.
"فَدَخَلَ" الْقِيَاسُ "الاقْتِرَانِيُّ، وَهُوَ" قِيَاسٌ
"مُؤَلَّفٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ مَتَى سَلِمَتَا" أَيْ
الْقَضِيَّتَيْنِ مِنْ مُعَارِضٍ "لَزِمَ عَنْهُمَا
لِذَاتِهِمَا
ـــــــ
1 انظر تعريف الاستدلال في "الإحكام لابن حزم 1/37، 2/676،
العدة 1/132، المسودة ص 451، الكافية في الجدل ص 47، شرح
تنقيح الفصول ص 450، جمع الجوامع والمحلي عليه 2/342،
البرهان 2/1130، الإحكام للآمدي 4/118، العضد على ابن
الحاجب 2/280، تيسير التحرير 4/172، الحدود للباجي ص 41،
التعريفات للجرجاني ص 12، المنهاج في ترتيب الحجاج ص 11.
(4/397)
قَوْلٌ آخَرُ"
أَيْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى نَتِيجَةٌ1 لَهُمَا، كَقَوْلِنَا:
الْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ،
فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، وَكَمَا2
يُقَالُ: هَذَا حُكْمٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ، وَكُلُّ
مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ
فَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. وَكَمَا يُقَالُ: مَا ذَكَرْته
مُعَارَضٌ بِالإِجْمَاعِ وَكُلُّ مُعَارَضٌ بِالإِجْمَاعِ
بَاطِلٌ، فَمَا ذَكَرْته بَاطِلٌ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ3.
"وَ" دَخَلَ فِيهِ أَيْضًا الْقِيَاسُ "الاسْتِثْنَائِيُّ"
وَيَكُونُ فِي الشَّرْطِيَّاتِ "وَهُوَ مَا4 تُذْكَرُ5
فِيهِ النَّتِيجَةُ أَوْ نَقِيضُهَا" أَيْ نَقِيضُ
النَّتِيجَةِ6.
ـــــــ
1 في ض: يتجه. وفي ش: تنتجه.
2 في ب: كأن.
3 سمي هذا القياس بالقياس الاقتراني لاقتران أجزائه، وهي
حدوده، من الأصغر والأكبر والوسط.
انظر: المحلي والبناني على جمع الجوامع 2/343، الإحكام
للآمدي 4/119، تيسير التحرير 4/172، إرشاد الفحول ص 236.
4 في ش: له مدخل في.
5 في ض ز: يذكر.
6 وسمي هذا الفياس بالقياس الاستثنائي لاشتماله على معنى
الاستثناء بكلمة "لكن"، والقياس الاقتراني والاستثنائي
نوعان للقياس المنطقي، وهو قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم
عنه لذاته قول آخر، فإن كان اللازم، وهو النتيجة أو
نقيضها، مذكوراً فيه بالفعل فهو الاستثنائي، وإن كان
مذكوراً فيه بالقوة، بأن لم يتصل فيه طرفاه، فهو
الاقتراني.
انظر: المحلي والبناني على جمع الجوامع 2/342، الإحكام
للآمدي 4/125، نهاية السول 3/150، مناهج العقول 3/150،
تيسير التحرير 4/172.
(4/398)
فَفِي
الْمُتَّصِلاتِ كَمَا يُقَالُ: إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا1
فَهُوَ حَيَوَانٌ، لَكِنَّهُ2 لَيْسَ بِحَيَوَانٍ يَنْتِجُ
أَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، أَوْ أَنَّهُ إنْسَانٌ،
يَنْتِجُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ
الأَوَّلِ يُنْتِجُ عَيْنَ الثَّانِي3، وَاسْتِثْنَاءُ
نَقِيضِ الثَّانِي4 يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ،
وَعَيْنُ الثَّانِي5 لا يُنْتِجُ عَيْنَ الأَوَّلِ،
لاحْتِمَالِ كَوْنِهِ عَامًّا، وَلا يَلْزَمُ مِنْ
إثْبَاتِ الْعَامِّ إثْبَاتُ الْخَاصِّ، كَمَا فِي
الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَ6 لا
يَسْتَلْزِمُ وُجُودُ الإِنْسَانِ، وَكَذَا نَقِيضُ
الإِنْسَانِ لا يَسْتَلْزِمُ نَقِيضَ الْحَيَوَانِ؛
لِوُجُودِهِ فِي الْفَرَسِ.
وَفِي الْمُنْفَصِلاتِ، كَمَا يُقَالُ: الْعَدَدُ7 إمَّا
زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، لَكِنَّهُ زَوْجٌ يَنْتِجُ أَنَّهُ
لَيْسَ بِفَرْدٍ، أَوْ فَرْدٌ، يَنْتِجُ أَنَّهُ لَيْسَ
بِزَوْجٍ. مِثَالُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ: الضَّبُّ إمَّا
حَلالٌ أَوْ8 حَرَامٌ، لَكِنَّهُ حَلالٌ؛ لأَنَّهُ أُكِلَ
عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ9 فَلَيْسَ بِحَرَامٍ،
ـــــــ
1 في ش ض: إنسان.
2 في ش ض: لكن.
3 في ش: التالي.
4 في ش: التالي.
5 في ش: التالي.
6 ساقطة من ش.
7 في ش ض: المعدود.
8 في ش: وإما.
9 هذا حديث صحيح، رواه الجماعة إلا الترمذي، وسبق تخريجه
2/165.
(4/399)
مِثَالٌ آخَرُ:
صَيْدُ الْمُحْرِمِ إمَّا حَلالٌ أَوْ حَرَامٌ1، لَكِنَّهُ
حَرَامٌ2؛ لأَنَّهُ3 نُهِيَ عَنْهُ، فَلَيْسَ بِحَلالٍ.
"وَ" دَخَلَ فِيهِ أَيْضًا "قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ مَا
يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ
يَبْطُلُ، فَيَصِحُّ الْمَطْلُوبُ" نَحْوَ قَوْله
تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 4 فَإِنَّهُ
اسْتَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْقُرْآنِ بِإِبْطَالِ
نَقِيضِهِ. وَهُوَ وُجْدَانُ الاخْتِلافِ فِيهِ5.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ: يَدْخُلُ فِيهِ قِيَاسُ الْعَكْسِ،
وَهُوَ إثْبَاتُ6 عَكْسِ حُكْمِ شَيْءٍ لِمِثْلِهِ7
لِتَعَاكُسِهِمَا فِي الْعِلَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
حَدِيثِ مُسْلِمٍ8 "أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ
فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي
حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟" . انْتَهَى9.
ـــــــ
1 في ش: حرام أو حلال، وفي ن: حلال وإما حرام.
2 ساقطة من ن.
3 ساقطة من ض ز.
4 الآية 82 من النساء.
5 ساقطة من ض.
6 ساقطة من ض.
7 اللفظة من المحلي، وفي ش ض بز: بمثله.
8 صحيح مسلم بشرح النووي 7/92
9 المحلي على جمع الجوامع 2/342.
وانظر قياس العكس في "تيسير التحرير 4/173، 174، جمع
الجوامع 2/343".
(4/400)
"وَنَحْوَ:
وُجِدَ1 السَّبَبُ فَثَبَتَ2 الْحُكْمُ وَ" نَحْوُهُ
"وُجِدَ الْمَانِعُ" فَانْتَفَى الْحُكْمُ "أَوْ فَاتَ
الشَّرْطُ فَانْتَفَى" الْحُكْمُ3 "دَعْوَى دَلِيلٍ لا
نَفْسِهِ" أَيْ لا نَفْسِ الدَّلِيلِ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى
إحْدَى الْمُقَدَّمَتَيْنِ، اعْتِمَادًا عَلَى شُهْرَةِ
الأُخْرَى4، كَقَوْلِنَا " وُجِدَ السَّبَبُ فَثَبَتَ
الْحُكْمُ "فَإِنَّهُ يَنْتُجُ مَعَ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى
مُقَدَّرَةٍ وَهِيَ قَوْلُنَا: وَكُلُّ سَبَبٍ إذَا وُجِدَ
وُجِدَ الْحُكْمُ، فَلَمْ تُذْكَرْ لِظُهُورِهَا، كَمَا
فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 5 فَإِنَّ حُصُولَ
النَّتِيجَةِ مِنْهُ يَتَوَقَّفُ6 عَلَى مُقَدِّمَةٍ
أُخْرَى ظَاهِرَةٍ تَقْدِيرُهَا: وَمَا فَسَدَتَا.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا، فَالأَكْثَرُ: عَلَى أَنَّهُ
دَعْوَى دَلِيلٍ، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ فَإِنَّا إذَا
قُلْنَا: وُجِدَ السَّبَبُ، أَوْ قُلْنَا: وُجِدَ
الْمُقْتَضِي، مَعْنَاهُ الدَّلِيلُ. وَلَمْ يَقُمْ عَلَى
وُجُودِهِ دَلِيلٌ.
وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ وَجَمْعٌ: أَنَّهُ دَلِيلٌ
فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ ثُبُوتُ الْمَطْلُوبِ7.
ـــــــ
1 في ب: وجدان.
2 في المختصر: فوجد.
3 ساقطة من ش.
4 في ش ض ب: أخرى.
5 الآية 22 من الأنبياء.
6 في ب ز: تتوقف.
7 وهذا ما أيده الآمدي ونص عليه أنه دليل، لأن الدليل ما
يلزم من ثبوته لزوم =
(4/401)
وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ قِيلَ: إنَّهُ اسْتِدْلالٌ مُطْلَقٌ؛
لانْطِبَاقِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: إنْ ثَبَتَ وُجُودُ السَّبَبِ أَوْ الْمَانِعِ،
أَوْ فُقِدَ الشَّرْطُ، يَعْنِي النَّصَّ وَالإِجْمَاعَ
وَالْقِيَاسَ. وَإِلاَّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا ثَبَتَ
بِهِ.
قَالَ الْكُورَانِيُّ: هَذَا مُخْتَارُ الْمُحَقِّقِينَ؛
لأَنَّهُ يُقَالُ1: هَذَا حُكْمٌ وُجِدَ سَبَبُهُ. وَكُلُّ
مَا وُجِدَ سَبَبُهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ فَكُبْرَى
الْقِيَاسِ -وَهِيَ قَوْلُنَا: كُلُّ مَا وُجِدَ سَبَبُهُ
فَهُوَ مَوْجُودٌ- قَطْعِيَّةٌ، لا يُخَالِفُ فِيهَا
أَحَدٌ.
ـــــــ
= المطلوب قطعاً أو ظاهراً، وهو ما اختاره ابن رجب ووافقه
العضد عليه، وأيده الشوكاني.
1 انظر: الإحكام للآمدي 4/118، ابن الحاجب والعضد عليه
2/281، إرشاد الفحول ص 237.
في ش ب ز: يقول.
(4/402)
|