شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

54 - كتاب الشروط
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(كتاب الشروط) جمع شرط وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فخرج بالقيد الأوّل المانع فإنه لا يلزم من عدمه شيء، وبالثاني السبب فانه يلزم من وجوده الوجود وبالثالث مقارنة الشرط للسبب فيلزم الوجود كوجود الحول الذي هو شرط لوجوب الزكاة مع النصاب الذي هو سبب للوجوب ومقارنة المانع كالدين على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة فيلزم العدم والوجود فلزوم الوجود والعدم في ذلك لوجود السبب والمانع لا لذات الشرط ثم هو عقلي كالحياة للعلم وشرعي كالطهارة للصلاة وعادي كنصب السلم لصعود السطح ولغوي وهو المخصص كما في أكرم بني إن جاؤوا أي الجائين منهم فينعدم الإكرام المأمور به بانعدام المجيء ويوجد بوجوده إذا امتثل الأمر قاله الجلال المحلي وسقط قوله كتاب الشروط لغير أبي ذر.

1 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ، وَالأَحْكَامِ، وَالْمُبَايَعَةِ
(باب ما يجوز من الشروط) عند الدخول (في الإسلام) كشرط عدم التكلف بالنقلة من بلد إلى أخرى لا أنه لا يصلّي مثلاً (و) ما يجوز من الشروط في (الأحكام) أي العقود والفسوخ وغيرهما من المعاملات (والمبايعة) من عطف الخاص على العام.
2711 , 2712 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَن لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ -وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ- إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلاَّ ذَلِكَ فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. وَجَاءَت الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ -وَهْيَ عَاتِقٌ- فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ -إِلَى قَوْلِهِ- وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 1].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) المخزومي مولاهم المصري ونسبه إلى جدّه لشهرته به واسم أبيه عبد الله قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد الأموي مولاهم (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة بن الزبير) بن العوّام (أنه سمع مروان) بن الحكم ولا صحبة له (والمسور بن مخرمة) وله سماع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكنه إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح وكانت قصة الحديبية الآتي حديثها هنا مختصرًا قبل بسنتين (-رضي الله عنهما- يخبران عن أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهم عدول ولا يقدح عدم معرفة من لم يسم منهم (قال) كلٌّ منهما (لما كاتب سهيل بن عمرو) بضم السين مصغرًا وعمرو بفتح العين وسكون الميم أحد أشراف قريش وخطيبهم وهو من مسلمة الفتح (يومئذٍ) أي يوم صلح الحديبية (كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يأتيك منا أحد) من قريش (وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه) بعين مهملة فضاد معجمة أي غضبوا من هذا الشرط وأنفوا منه وقال ابن الأثير شقّ عليهم وعظم (وأبي سهيل إلا ذلك) الشرط (فكاتبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك فرد) عليه الصلاة والسلام (يومئذٍ أبا جندل) العاصي حين حضر من مكة إلى الحديبية يرسف في قيوده (إلى أبيه سهيل بن عمرو) لأنه لا يبلغ به

(4/431)


في الغالب الهلاك (ولم يأته) بكسر الهاء عليه الصلاة والسلام (أحد من الرجال إلا ردّه) إلى قريش (في تلك المدة وان كان مسلمًا) وفاء بالشرط (وجاء المؤمنات) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وجاءت المؤمنات (مهاجرات) نصب على الحال من المؤمنات (وكانت أم كلثوم) بضم الكاف وسكون اللام وضم المثلثة (بنت عقبة بن أبي معيط) بضم العين وسكون القاف وفتح الموحدة ومعيط بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون التحتية (ممن خرج إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذٍ وهي عاتق) بعين مهملة فألف فمثناة فوقية فقاف وهي شابة أول بلوغها الحلم (فجاء أهلها يسألون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرجعها إليهم) بفتح ياء المضارعة لأن ماضيه ثلاث قال تعالى: {فإن رجعك الله} (فلم يرجعها) عليه الصلاة والسلام (إليهم لما) بكسر اللام وتخفيف الميم (أنزل الله فيهنّ) في المهاجرات ({إذا جاءكم المؤمنات}) سماهن به لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بكلمة الشهادة ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك ({مهاجرات}) من دار الكفر إلى دار الإسلام ({فامتحنوهن}) فاختبروهن بالحلف والنظر في العلامات ليغلب على ظنكم صدق إيمانهن ({الله أعلم بإيمانهنّ}) منكم لأن عنده حقيقة العلم (إلى قوله) تعالى ({ولا هم يحلون لهن}) [الممتحنة: 10] لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك.
2713 - قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ -إِلَى- غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَدْ بَايَعْتُكِ" كَلاَمًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ". [الحديث 2713 - أطرافه في: 2733، 4182، 4891، 5288، 7214].
(قال عروة) بن الزبير متصل بالإسناد السابق أولاً (فأخبرتني عائشة) -رضي الله عنها- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يمتحنهن) يختبرهن (بهذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} إلى {غفور رحيم}) وسقط لفظ فامتحنوهن لأبي ذر (قال عروة قالت عائشة فمن أقرّ بهذا الشرط منهن قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قد بايعتك) حال كونه (كلامًا يكلمها به والله ما مسّت يده) عليه الصلاة والسلام (يد امرأة قطّ في المبايعة) بفتح الياء (وما بايعهنّ إلا بقوله).
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الطلاق ويأتي إن شاء الله تعالى تامًّا قريبًا من وجه آخر عن ابن شهاب.
2714 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرًا -رضي الله عنه- يَقُولُ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاشْتَرَطَ عَلَىَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن زياد بن علاقة) بعين مهملة مكسورة وبقاف الثعلبي بالمثلثة والعين المهملة الكوفي أنه (قال: سمعت جربرًا) بفتح الجيم وكسر الراء الأولى (-رضي الله عنه- يقول): (بايعت رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاشترط علي والنصح) بالنصب (لكل مسلم) وفي نسخة في الفرع وأصله وغيرهما وعليه شرح الكرماني والنصح بالجر عطفًا على مقدّر يعلم من الحديث بعده أي على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
2715 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن إسماعيل) بن أبي خالد البجلي أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (قيس بن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي البجلي أيضًا (عن جرير بن عبد الله) البجلي (-رضي الله عنه-) أنه (قال): (بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على إقام الصلاة) حذف تاء إقامة لأن المضاف إليه عوض عنها (وإيتاء الزكاة والنصح) بالجر عطفًا على السابق (لكل مسلم) ولأبي ذر والنصح بالرفع كما في الفرع وأصله.

2 - باب إِذَا بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ
هذا (باب) بالتنوين (إذا باع) شخص (نخلاً) حال كونها (قد أبرت) بضم الهمزة وتشديد الموحدة ولأبي ذر أبرت بتخفيفها وهو الأكثر أي لقحت وزاد في رواية أبي ذر عن الكشميهني ولم يشترط الثمرة أي المشتري وجواب الشرط محذوف تقديره فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المشتري.
2716 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من باع نخلاً قد أبرت) مبني للمفعول مع تشديد الموحدة ولأبي ذر أبرت بتخفيفها (فثمرتها للبائع) بالمثلثة وبالمثناة بعد الراء ولأبي ذر فثمرتها بحذف المثناة (إلا أن يشترط المبتاع) أي المشتري.
وتقدم هذا الحديث في باب من باع نخلاً قد أبرت من كتاب البيوع.

3 - باب الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ
(باب الشروط في البيع) ولأبي ذر في البيوع بالجمع.
2717 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةََ-رضي الله عنها- أَخْبَرَتْهُ: "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهَا: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر في نسخة: أخبرنا

(4/432)


(عبد الله بن مسلمة) بن قعنب الحرثي القعنبي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام ولأبي ذر حدّثنا ليث (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عروة) بن الزبير (أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن) بريرة (قضت) لمواليها (من كتابتها شيئًا) وكانت كاتبتهم على تسع أواق في كل عام أوقية (قالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك) بكسر الكاف أي مواليك (فإن أحبّوا أن أقضي عنك كتابتك) وأعتقك (ويكون) بالنصب عطفًا على السابق (ولاؤك) الذي هو سبب الإرث (لي فعلت) ذلك (فذكرت ذلك) الذي قالته عائشة (بريرة إلى أهلها) ولأبي ذر لأهلها (فأبوا) امتنعوا (وقالوا: إن
شاءت أن تحتسب عليك) بكسر الكاف (فلتفعل ويكون) بالنصب عطفًا على المنصوب السابق (لنا ولاؤك، فذكرت ذلك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لها):
(ابتاعيـ) ها (فأعتقيـ) ـها بهمزة قطع وحذف الضمير المنصوب في الموضعين للعلم به (فإنما الولاء لمن أعتق). وفيه دليل لقول الشافعي في القديم إنه يصح بيع رقبة المكاتب ويملكه المشتري مكاتبًا ويعتق بأداء النجوم إليه والولاء له أما على الجديد فلا يصح.
وترجمة المؤلّف هنا مطلقة تحتمل جواز الاشتراط في البيع وعدم الجواز ومذهب الشافعية لا يجوز بيع وشرط كبيع بشرط بيع أو قرض للنهي عنه في حديث أبي داود وغيره إلا في ست عشرة مسألة.
أولها: شرط الرهن.
ثانيها: الكفيل المعين لثمن في الذمة للحاجة إليهما في معاملة من لا يرضى إلا بهما ولا بدّ من كون الرهن غير المبيع فإن شرط رهنه بالثمن أو غيره بطل البيع لاشتماله على شرط رهن ما لم يملكه بعد.
ثالثها: الإشهاد لقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}.
رابعها: الخيار.
خامسها: الأجل المعين.
سادسها: العتق للمبيع في الأصح لأن عائشة -رضي الله عنها- اشترت بريرة بشرط العتق والولاء ولم ينكر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الولاء لهم بقوله ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله إلى آخره ولأن استعقاب البيع العتق عهد في شراء القريب فاحتمل شرطه والثاني البطلان كما لو شرط بيعه أو هبته، وقيل يصح البيع ويبطل الشرط.
سابعها: شرط الولاء لغير المشتري مع العتق في أضعف القولين فيصح البيع ويبطل الشرط لظاهر حديث بريرة والأصح بطلانهما لما تقرر في الشرع من أن الولاء لمن أعتق، وأما قوله لعائشة:
واشترطي لهم الولاء فأجيب عنه بأن الشرط لم يقع في العقد وبأنه خاص بقضية عائشة وبأن لهم بمعنى عليهم.
ثامنها: البراءة من العيوب في المبيع.
تاسعها: نقله من مكان البائع لأنه تصريح بمقتضى العقد.
عاشرها وحادي عاشرها: قطع الثمار أو تبقيتها بعد الصلاح.
ثاني عشرها: أن يعمل فيه البائع عملاً معلومًا كأن باع ثوبًا بشرط أن يخيطه في أضعف الأقوال وهو في المعنى بيع وإجارة يوزع المسمى عليها باعتبار القيمة، وقيل يبطل الشرط ويصح البيع بما يقابل المبيع من المسمى والأصح بطلانهما لاشتمال البيع على شرط عمل فيما لم يملكه بعد.
ثالث عشرها: أن يشترط كون العبد فيه وصف مقصود.
رابع عشرها: أن لا يسلم المبيع حتى يستوفي الثمن.
خامس عشرها: الردّ بالعيب.
سادس عشرها: خيار الرؤية فيما إذا باع ما لم يره على القول بصحته للحاجة إلى ذلك وهذا الحديث قد سبق في البيع والعتق وغيرهما.

4 - باب إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا اشترط البائع) على المشتري (ظهر الدابة) أي ركوب ظهر الدابة التي باعها (إلى مكان مسمى) معين (جاز) هذا البيع.
2718 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ - رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَمَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ بِعْنِيهِ بِأَوقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ, فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي. فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِي قَالَ: مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ ذَلِكَ فَهْوَ مَالُكَ".
قَالَ شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ: "أَفْقَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَهْرَهُ إِلَىَ الْمَدِينَةِ". وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ: "فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ". وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: "وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ: "شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ: "وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ" وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: "أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ". وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ: "تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ". قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: الاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي. وقال عُبَيْدُ اللَّهِ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: "اشْتَرَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَوقِيَّةٍ". وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ: "أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ" وَهَذَا يَكُونُ أوَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَلَمْ يُبَيِّنِ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ "أَوقِيَّةٍ ذَهَبٍ". وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ "بِمِائَتَىْ دِرْهَمٍ" وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ
اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ". وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ: "اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا". وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ "بِأَوْقِيَةٍ" أَكْثَرُ. الاِشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي. قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا زكريا) بن أبي زائدة الكوفي (قال: سمعت عامرًا) الشعبي (يقول: حدّثني) بالإفراد (جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (-رضي الله عنه- أنه كان يسير على جمل له) في غزوة تبوك أو ذات الرقاع (قد أعيا) أي تعب (فمرّ) به (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضربه فدعا له) بالفاء فيهما وكأنه عقب الدعاء له بضربة، ولمسلم وأحمد من هذا الوجه فضربه برجله ودعا له ولأحمد من هذا الوجه أيضًا قلت: يا رسول الله أبطأ جملي هذا. قال:

(4/433)


(أنخه) وأناخ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال (أعطني هذه العصا أو اقطع لي عصا من الشجرة) ففعلت فأخذها فنسخه بها نسخات ثم قال (اركب) فركبت (فسار بسير) بلفظ الجار والمجرور والمصدر ولأبي ذر سيرًا بإسقاط حرف الجر (ليس يسير مثله) بلفظ المضارع ولابن سعد من هذا الوجه فانبعث فما كدت أمسكه ولمسلم من رواية أبي الزبير عن جابر فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه (ثم قال) عليه الصلاة والسلام:
(بعنيه) أي الجمل (بوقية) بفتح الواو مع إسقاط الهمزة ولأبي ذر بأوقية بهمزة مضمومة والتحتية مشددة فيهما (قلت: لا) أبيعه، وللنسائي من هذا الوجه وكانت لي إليه حاجة شديدة.
وقال ابن التين قوله لا غير محفوظ إلا أن يريد لا أبيعكه هو لك بغير ثمن وكأنه نزّه جابرًا عن قوله لا لسؤال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, لكن قد ثبت قوله لا لكن النفي متوجه لترك البيع وعند أحمد من رواية وهب بن كيسان عن جابر أتبيعني جملك هذا يا جابر قلت بل أهبه لك (ثم قال) عليه الصلاة والسلام ثانيًا (بعنيه بوقية) ولأبي ذر بأوقية (فبعته) بها امتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام وإلاّ فقد كان عرضه أن يهبه للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فاستثنيت) أي اشترطت (حملانه) بضم الحاء المهملة وسكون الميم أي حمله إياي فحذف المفعول (إلى أهلي فلما قدمنا) إلى المدينة (أتيته بالجمل).
وفي الاستقراض: في باب الشفاعة في وضع الدين من طريق مغيرة عن الشعبي، فلما دنونا من المدينة استأذنت فقلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعرس. قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما تزوجت بكرًا أم ثيّبًا؟
قلت: ثيّبًا أصيب عبد الله وترك جواري صغارًا فتزوّجت ثيّبًا تعلّمهنّ وتؤدّبهنّ ثم قال: (ائت أهلك) فقدمت فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني زاد في رواية وهب بن كيسان في البيوع قال: "فدع الجمل وادخل فصلِّ ركعتين (ونقدني) بالنون والقاف أي أعطاني (ثمنه) على يد بلال زاد في الاستقراض وسهمي مع القوم (ثم انصرفت فأرسل) عليه الصلاة والسلام (على أثري) بكسر الهمزة وسكون المثلثة فلما جئته (قال) (ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك) هبة (فهو مالك) برفع اللام وعند أحمد من رواية يحيى القطان عن زكريا قال أظننت حين ماكستك أذهب بجملك خذ جملك وثمنه فهما لك والمماكسة المناقصة في الثمن وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع.
(قال) ولأبي ذر وقال (شعبة) بن الحجاج فيما وصله البيهقي من طريق يحيى بن كثير عنه (عن مغيرة) بن مقسم الكوفي (عن عامر) الشعبي (عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (أفقرني) بفتح الهمزة وسكون الفاء فقاف مفتوحة فراء (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظهره) أي حملني عليه (إلى المدينة، وقال إسحاق) بن راهويه مما وصله في الجهاد (عن جرير) هو ابن عبد الحميد (عن مغيرة) بن مقسم الكوفي عن عامر عن جابر (فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة) فيه الاشتراط بخلاف التعليق السابق. (وقال عطاء) هو ابن أبي رباح (وغيره) أي عن جابر مما سبق مطوّلاً في باب الوكالة (لك) ولأبي ذر ولك (ظهره إلى المدينة) وليس فيه دلالة على الاشتراط. (وقال محمد بن المنكدر) مما وصله البيهقي من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه (عن جابر شرط ظهره إلى المدينة، وقال زيد بن أسلم عن جابر: ولك ظهره حتى ترجع) أي إلى المدينة وكذا وصله الطبراني أيضًا وليس فيه ذكر الاشتراط أيضًا. (وقال أبو الزبير) محمد بن أسلم بن تدرس مما وصله البيهقي (عن جابر أفقرناك ظهره إلى المدينة) وهو عند مسلم من هذا الوجه لكن قال قلت على أن لي ظهره إلى المدينة قال (ولك ظهره إلى المدينة). (وقال الأعمش) سليمان بن مهران مما وصله الإمام أحمد ومسلم (عن سالم) هو ابن أبي الجعد (عن جابر تبلغ) بفوقية وموحدة مفتوحتين ولام مشددة فغين معجمة بصيغة الأمر (عليه إلى أهلك) وليس فيه ما يدل على الاشتراط

(4/434)


وللنسائي من طريق ابن عيينة عن أيوب: وقد أعرتك ظهره إلى المدينة.
(قال أبو عبد الله) البخاري (الاشتراط) في العقد عند البيع (أكثر) طرفًا (وأصح عندي) مخرجًا من الرواية التي لا تدل عليه لأن الكثرة تفيد القوة وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح، ويترجح أيضًا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة وهم حفاظ فيكون حجة وليست رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره لأن قوله لك ظهره وأفقرناك ظهره وتبلغ عليه لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك.
وبهذا الحديث تمسك الحنابلة لصحة شرط البائع نفعًا معلومًا في المبيع وهو مذهب المالكية في الزمن اليسير دون الكثير، وذهب الجمهور إلى بطلان البيع لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد وأجابوا عن حديث الباب بأن ألفاظه اختلفت، فمنهم من ذكر فيه الشرط، ومنهم من ذكر ما يدل عليه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان بطريق الهبة وهي واقعة عين يطرقها الاحتمال، وقد عارضه حديث عائشة في قصة بريرة ففيه بطلان الشرط المخالف لمقتضى العقد، وصحّ من حديث جابر أيضًا النهي عن بيع الثنيا أخرجه أصحاب السنن وإسناده صحيح، وورد النهي عن بيع وشرط. وقال الإسماعيلي قوله ولك ظهره وعد قام مقام الشرط لأن وعده لا خلف فيه وهبته لا رجوع فيها لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبر عنه بالشرط، ولا يجوز أن يصح ذلك في حق غيره، وحاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد وإنما وقع سابقًا أو لاحقًا فتبرع بمنفعته أوّلاً كما تبرع آخرًا وسقط في رواية غير أبي ذر قال أبو عبد الله إلى آخره.
(وقال عبيد الله) مصغرًا ابن عمر العمري فيما وصله المؤلّف في البيوع (وابن إسحاق) محمد مما وصله أحمد وأبو يعلى والبزار (عن وهب) بسكون الهاء ابن كيسان (عن جابر) -رضي الله عنه- (اشتراه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوقية) ولأبي ذر: بأوقية.
(وتابعه) ولأبي ذر بإسقاط الواو أي تابع وهبًا (زيد بن أسلم عن جابر) في ذكر الأوقية وهذه المتابعة وصلها البيهقي. (وقال ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز فيما وصله البخاري في الوكالة (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (وغيره) بالجر عطفًا على المجرور السابق (عن جابر) (أخذته) أي قال عليه الصلاة والسلام: "أخذت الجمل" (بأربعة دنانير) ذهبًا قال البخاري (وهذا) أي ما ذكر من أربعة الدنانير (يكون وقية) ولأبي ذر: أوقية (على حساب الدينار) الواحد (بعشرة دراهم).
قال الكرماني وتبعه ابن حجر: الدينار مبتدأ وقوله بعشرة دراهم خبره والحساب مضاف إلى الجملة أي دينار من الذهب بعشرة دراهم وأربعة دنانير تكون أوقية من الفضة، وتعقبه العيني فقال:
هذا تصرف عجيب ليس له وجه أصلاً لأن لفظ الدينار وقع مضافًا إليه وهو مجرور بالإضافة، ولا وجه لقطع لفظ حساب عن الإضافة ولا ضرورة إليه، والمعنى أصح ما يكون انتهى.
وسقط قوله دراهم في رواية أبي ذر (ولم يبين الثمن مغيرة) بن مقسم فيما وصله في الاستقراض (عن الشعبي) عامر (عن جابر و) كذا لم يبين الثمن (ابن المنكدر) محمد فيما وصله الطبراني (وأبو الزيير) محمد بن أسلم فيما وصله النسائي (عن جابر) نعم وقع في رواية أبي الزبير عند مسلم تعيينها بخمس أواق وفي فوائد تمام بأربعين درهمًا.
(وقال الأعمش) سليمان بن مهران فيما وصله أحمد ومسلم وغيرهما (عن سالم) هو ابن أبي الجعد (عن جابر وقية ذهب) ولأبي ذر: أوقية ذهب، (وقال أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي مما لم يقف الحافظ ابن حجر على وصله (عن سالم عن جابر بمائتي درهم بالتثنية, (وقال داود بن قيس) الفراء الدباغ أبو سليمان (عن عبيد الله بن مقسم) بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين المهملة وعبيد الله بضم العين مصغرًا القرشي المدني (عن جابر اشتراه) أي اشترى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجمل (بطريق تبوك) وجزم ابن إسحاق عن وهب بن كيسان في روايته المشار إليها قبل بأن ذلك كان في غزوة ذات

(4/435)


الرقاع. قال ابن حجر وهي الراجحة في نظري لأن أهل المغازي أضبط لذلك من غيرهم (أحسبه قال: بأربع أواق) كقاضٍ ولأبوي ذر والوقت والأصيلي أواقي بإثبات الياء فجزم بزمان القصة وشك في مقدار الثمن وقد وافقه على ما جزم به علي بن زيد بن جدعان عن أبي المتوكل عن جابر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ بجابر في غزوة تبوك.
(وقال أبو نضرة) بنون مفتوحة فضاد معجمة ساكنة المنذر بن مالك العبدي فيما وصله ابن ماجه (عن جابر اشتراه بعشرين دينارًا) قال المؤلّف: (وقول الشعبي) عامر بن شراحيل (بوقية) ولأبي
ذر بأوقية (أكثر) من غيره في أكثر الروايات (الاشتراط أكثر) طرقًا (وأصح عندي) مخرجًا (قاله أبو عبد الله) أي البخاري.
وهذا قد سبق قريبًا وزيد هنا في نسخة وسقط في نسخ، والحاصل من الروايات في الثمن أنه في رواية الأكثر أوقية وأربعة دنانير وهي لا تخالفها وأوقية ذهب وأربع أواق وخمس أواق ومائتا درهم وعشرون دينارًا وعند أحمد والبزار من رواية علي بن زيد عن أبي المتوكل ثلاثة عشر دينارًا، وقد جمع القاضي عياض بين هذه الروايات بأن سبب الاختلاف الرواية بالمعنى، وأن المراد أوقية الذهب وأربع الأواقي والخمس بقدر ثمن الأوقية الذهب وأربعة الدنانير مع العشرين دينارًا محمولة على اختلاف الوزن والعدد وكذلك الأربعين درهمًا مع المائتي درهم قال: وكأن الإخبار بالفضة عما وقع عليه العقد وبالذهب عما حصل به الوفاء أو بالعكس.

5 - باب الشُّرُوطِ فِي الْمُعَامَلَةِ
(باب الشروط في المعاملة) مزارعة وغيرها.
2719 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَتِ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: لاَ. فَقَالُوا: تَكْفُونَنا الْمَؤُونَةَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا".
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان الزيات (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قالت الأنصار للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لما قدم المدينة مهاجرًا: يا رسول الله (أقسم بيننا وبين إخواننا) المهاجرين (النخيل) بكسر الخاء المعجمة (قال) عليه الصلاة والسلام:
(لا) أقسم كراهية أن يخرج عنهم شيئًا من رقبة نخلهم الذي به قوام أمرهم شفقة عليهم (فقال الأنصار) أيها المهاجرون (تكفونا) ولأبي ذر تكفوننا (المؤونة) في النخيل بتعهده في السقي والتربية والجداد (ونشرككم) بفتح أوله وثالثه أو بضم ثم كسر (في الثمرة) وهذا موضع الترجمة لأن تقديره ان تكفونا المؤونة نقسم بينكم أو نشرككم وهو شرط لغوي اعتبره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قالوا) أي المهاجرون والأنصار (سمعنا وأطعنا).
وهذا الحديث قد سبق في المزارعة في باب إذا قال اكفني مؤونة النخل.
2720 - حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ إسماعيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي وسقط لأبي ذر بن إسماعيل قال: (حدّثنا جويرية بن أسماء عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله) أي ابن عمر (-رضي الله عنه-) وعن أبيه أنه (قال): (أعطى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر اليهود أن) وفي باب المزارعة مع اليهود من طريق عبد الله عن نافع على أن (يعملوها) أي يتعاهدوا أشجارها بالسقي وإصلاح مجاري الماء وغير ذلك (ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها) من ثمر أو زرع.
ومطاقته للترجمة ظاهرة، لكن الأكثرون على المنع من كراء الأرض بجزء مما يخرج منها لكن حمله بعضهم على أن المعاملة كانت مساقاة على النخل والبياض المتخلل بين النخيل كان يسيرًا فتقع المزارعة تبعًا للمساقاة وسبق الحديث في المزارعة.

6 - باب الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ
(باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح) بضم العين وسكون القاف أي وقت عقده.
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلَكَ مَا شَرَطْتَ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي فصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي".
(وقال عمر) هو ابن الخطاب -رضي الله عنه- فيما وصله ابن أبي شيبة (أن مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت، وقال المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو ابن مخرمة فيما وصله في الخمس (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر صهرًا له) هو أبو العاص بن الربيع من مسلمة الفتح (فأثنى عليه) خيرًا (في مصاهرته) وكان قد تزوّج زينب بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل البعثة (فأحسن) الثناء عليه (قال): (حدّثني وصدقني) بتخفيف الدال في حديثه بالواو في اليونينية

(4/436)


وفي الفرع فصدقني بالفاء بدل الواو (ووعدني) أي أن يرسل إليّ زينب وذلك أنه لما أسر ببدر مع المشركين فدته زينب فشرط عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرسلها إليه (فوفى لي) بذلك فأثنى عليه لأجل وفائه بما شرط له.
وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب النكاح.
2721 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ». [الحديث 2721 - طرفه في: 5151].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (قال: حدّثني) بالإفراد (يزيد بن أبي حبيب) من الزيادة البصري واسم أبيه سويد (عن أبي الخير) مرثد بفتح
الميم والمثلثة ابن عبد الله اليزني (عن عقبة بن عامر) الجهني (رضي الله عنه) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) معناه عند الجمهور أولى الشروط وحمله بعضهم على الوجوب. قال أبو عبد الله الأبي: وهو الأظهر لأنه على الأول يلزم أن لا يجب شرط مطلقًا لأنه إذا كان الشرط الذي تستباح به الفروج ليس بواجب فغيره أحرى، ومعلوم أن لنا في البياعات وغيرها شروط لازمة لأن لفظ الشروط هنا عام، وإنما كان النكاح كذلك لأن أمره أحوط وبابه أضيق والمراد شروط لا تنافي مقتضى عقد النكاح بل تكون من مقاصده كاشتراط العشرة بالمعروف وأن لا يقصر في شيء من حقوقها أما شرط يخالف مقتضاه كشرط أن لا يتسرى عليها ولا يسافر بها فلا يجب الوفاء به بل يلغوا الشرط ويصح النكاح بمهر المثل فهو عام مخصوص لأنه تخرج منه الشروط الفاسدة، وقال أحمد: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا لحديث أحق الشروط قاله النووي في شرح مسلم، لكن رأيت في تنقيح المرداوي من الحنابلة تفصيلاً في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في باب الشروط في النكاح من كتابه مع بقية ما في الحديث من المباحث.
وقد أخرج هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه في النكاح والنسائي فيه وفي الشروط.

7 - باب الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ
(باب) (الشروط في المزارعة) هذه الترجمة أخص من سابقة السابقة.
2722 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلاً، فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ نُنْهَ عَنِ الْوَرِقِ".
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) ابن زياد بن درهم أبو غسان النهدي الكوفي قال: (حدّثنا ابن عيينة) سفيان قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: سمعت حنظلة الزرقي) بن قيس (قال: سمعت رافع بن خديج) بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال وبعد التحتية جيم (-رضي الله عنه- يقول: كنا أكثر الأنصار حقلاً) بحاء مهملة مفتوحة وقاف ساكنة منصوب على التمييز أي زرعًا (فكنا نكري الأرض) بضم نون نكري وفي باب ما يكره من الشروط في المزارعة عن صدقة بن الفضل وكان أحدنا يكري أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك (فربما أخرجت هذه) القطعة من الأرض (ولم تخرج ذه) بذال معجمة مكسورة وهاء مكسورة مع الاختلاس أو الإشباع وحذف الهاء قبل المعجمة والأصل ذي فجيء بالهاء للوقف أي ولم تخرج القطعة الأخرى فيفوز صاحب تلك بكل ما حصل ويضيع الآخر بالكلية (فنهينا) وفي حديث صدقة بن الفضل المذكور فنهاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن
ذلك) لما فيه من حصول المخاطرة المنهي عنها (ولم ننه) بضم النون الأولى وسكون الثانية وفتح الهاء مبنيًّا للمفعول أي لم ينهنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن الورق) بكسر الراء أي عن الإكراء بالدراهم.

8 - باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
(باب ما لا يجوز من الشروط في) عقد (النكاح).
2723 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَزِيدَنَّ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبَنَّ عَلَى خِطْبَتِهِ. وَلاَ تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) بضم الميم وفتح المهملة وتشديد المهملة الأولى ابن مسرهد قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بتقديم الزاي على الراء مصغرًا أبو معاوية البصري قال: (حدّثنا معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سعيد) هو ابن المسيب (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا يبيع) بإثبات التحتية بعد الموحدة على أن لا نافية وللأصيلي لا يبع بحذفها وسكون العين على أنها ناهية (حاضر لبادٍ) متاعًا يقدم به من البادية ليبيعه بسعر يومه بأن يقول له اتركه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى (و) قال عليه الصلاة

(4/437)


والسلام (لا تناجشوا) الأصل تتناجشوا حذفت إحدى التاءين تخفيفًا من النجش بالنون والجيم والمعجمة وهو أن يزيد في الثمن بلا رغبة بل ليغرّ غيره (ولا يزيدن) بنون التأكيد الثقيلة وفي البيع من حديث عليّ بن المديني عن ابن عيينة ولا يبيع الرجل (على بيع أخيه ولا يخطبن) بنون التوكيد الثقيلة (على خطبته) بكسر الخاء المعجمة (ولا تسأل المرأة) بكسر اللام لالتقاء الساكنين على النهي (طلاق أختها) قال النووي: نهى المرأة الأجنبية أن تسأل رجلاً طلاق زوجته وأن يتزوّجها هي فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة وعبّر عن ذلك بقوله (لتستكفئ) بسين مهملة ساكنة بين المثناتين الفوقيتين أي لتقلب (إناءها) قال: والمراد بأختها نسبًا أو رضاعًا أو دينًا ويلتحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختًا في الدين إما لأن المراد الغالب أو أنها أختها في الجنس الآدمي، وقال ابن عبد البر: المراد الضرة.
وهذا الحديث سبق في البيوع ويأتي إن شاء الله تعالى في النكاح.

9 - باب الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي الْحُدُودِ
(باب الشروط التي لا تحل في الحدود).
2724 , 2725 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالاَ: "إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهْوَ أَفْقَهُ مِنْهُ-: نَعَمْ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرُجِمَتْ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البغلاني قال: (حدّثنا ليث) بلام واحدة ابن سعد الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله) مصغرًا (ابن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون المثناة الفوقية (ابن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب) لم يسم كغيره من المبهمات في هذا الحديث (أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله أنشدك الله) بفتح الهمزة وضم المعجمة والمهملة أي سألتك الله أي بالله ومعنى السؤال هنا القسم كأنه قال أقسمت عليك بالله أو ذكرتك الله بتشديد الكاف وحينئذ فلا حاجة لتقدير حرف جر فيه (إلا قضيت) أي ما أطلب منك إلا قضاءك (لي بكتاب الله) أي بحكم الله أو المراد به ما كان من القرآن متلوًّا فنسخت تلاوته وبقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله (فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه) أي بحسن مخاطبته وأدبه أو أفقه منه في هذه القصة لوصفها على وجهها (نعم فاقضِ بيننا بكتاب الله) الفاء جواب شرط محذوف (وائذن لي) هو بهمزتين الأولى همزة وصل تحذف في الدرج والثانية فاء الفعل ساكنة فإذا ابتدأت بها ظهرت همزة الوصل وقلبت همزة الفعل ياء من جنس حركة الهمزة قبلها على قاعدة اجتماع الهمزتين وحذف المفعول المعدّى بحرف الخفض للعلم به من السياق، والتقدير وائذن لي في أن أقول وهذا الاستئذان من حسن الأدب في مخاطبة الكبير (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قل) (قال إن ابني كان عسيفًا) القائل أن ابني إلخ هو الخصم الثاني كما هو ظاهر السياق، وجزم الكرماني بأنه الأوّل وعبارته ولفظ ائذن لي عطف على اقضِ إذا المستأذن هو الرجل الأعرابي لا خصمه انتهى.
والظاهر أنه استدلّ لذلك بما تقدم في كتاب الصلح عن آدم عن ابن أبي ذئب فقال الأعرابي: إن ابني بعد قوله في الحديث جاء أعرابي وفيه فقال خصمه، لكن قال الحافظ ابن حجر: إن هذه الزيادة شاذة يعني قوله فقال الأعرابيّ والمحفوظ في سائر الطرق كما هنا انتهى.
وينظر في قول الكرماني إذ المستأذن هو الرجل الأعرابي لا خصمه حيث جعله علّة لقوله ائذن لي عطف على اقضِ لأن ظاهره التدافع على ما لا يخفى وكذا قول العيني في باب الاعتراف بالزنا من كتاب الحدود وقوله وائذن لي أي في الكلام لأتكلم، وهذا من جملة كلام الرجل لا الخصم وهذا من جملة فقهه حيث استأذن بحسن الأدب وترك رفع الصوت انتهى فليتأمل.
والعسيف بالسين المهملة والفاء أي كان أجيرًا (على هذا فزنى) أي ابنه (بامرأته) بامرأة الرجل (وإني أخبرت) بضم الهمزة وكسر الموحدة (أن على ابني الرجم) لكونه كان بكرًا واعترف (فافتديت) ابني (منه بمائة شاة) من الغنم (ووليدة) جارية (فسألت أهل العلم) الصحابة الذين كانوا يفتون في العصر النبويّ

(4/438)


وهم الخلفاء الأربعة وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت الأنصاريون وزاد ابن سعد عبد الرحمن بن عوف (فأخبروني إنما على ابني جلد مائة) بإضافة جلد إلى مائة ولأبي ذر مائة جلدة (وتغريب عام) من البلد الذي وقع فيه ذلك (وإن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله) أي بحكمه أو بما كان قرآنًا قبل نسخ لفظه (الوليدة والغنم رد) أي مردود (عليك) فأطلق المصدر على المفعول مثل نسج اليمن أي يجب ردّهما عليك وسقط قوله عليك لغير أبي ذر (وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) لأنه كان بكرًا واعترف هو بالزنا لأن إقرار الأب عليه لا يقبل نعم إن كان هذا من باب الفتوى، فيكون المعنى إن كان ابنك زنى وهو بكر فحدّه ذلك (اغد يا أنيس) بضم الهمزة وفتح النون مصغرًا (إلى امرأة هذا فإن اعترفت) بالزنا وشهد عليها اثنان (فارجمها) لأنها كانت محصنة (قال: فغدا عليها) أنيس (فاعترفت) بالزنا (فأمر بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرجمت) يحتمل أن يكون هذا الأمر هو الذي في قوله: فإن اعترفت فارجمها، وأن يكون ذكر له أنها اعترفت فأمره ثانيًا أن يرجمها وبعث أنيس كما قاله النووي محمول عند العلماء من أصحابنا على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه فلها عليه حدّ القذف فتطالب به أو تعفو عنه إلا أن تعترف بالزنا فلا يجب عليه حدّ القذف بل عليها حدّ الزنا وهو الرجم قال: ولا بدّ من هذا التأويل لأن ظاهره أنه بعث ليطلب إقامة حدّ الزنا وهذا غير مراد لأن حدّ الزنا لا يحتاط له بالتجسس بل لو أقرّ الزاني استحب أن يعرض له بالرجوع.
ومطابقة الحديث للترجمة قيل في قوله فافتديت منه بمائة شاة ووليدة لأن ابن هذا كان عليه جلد مائة وتغريب عام وعلى المرأة الرجم فجعلوا في الحد الفداء بمائة شاة ووليدة كأنهما وقعا شرطًا لسقوط الحدّ عنهما فلا يحل هذا في الحدود، كذا قالوا وفيه تعسف لا يخفى لأن الذي وقع إنما هو صلح.
وهذا الحديث قد ذكره البخاري في مواضع مختصرًا ومطوّلاً في الصلح والأحكام والمحاربين والوكالة والاعتصام وخبر الواحد وأخرجه بقية الجماعة.

10 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ
(باب ما يجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق) بضم أوله وفتح ثالثه وكلمة على للتعليل كهي في قوله تعالى {ولتكبروا الله على ما هداكم} أي إذا رضي بالبيع لأجل عتقه.
2726 - حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَىَّ بَرِيرَةُ وَهْيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرِينِي، فَإِنَّ أَهْلِي يَبِيعُونِي فَأَعْتِقِينِي. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي لاَ يَبِيعُونني حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي. قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ. فَسَمِعَ ذَلِكَ رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَوْ بَلَغَهُ- فَقَالَ: مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ؟ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاؤُوا. قَالَتْ فَاشْتَرَيْتُهَا فَأَعْتَقْتُهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ".
وبه قال: (حدّثنا خلاد بن يحيى) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ابن صفوان السلمي أبو محمد الكوفي نزيل مكة صدوق رمي بالإرجاء قال: (حدّثنا عبد الواحد بن أيمن) ضد أيسر الحبشي مولى ابن أبي عمرو المخزومي القرشي (المكي عن أبيه) أيمن أنه (قال: دخلت على عائشة -رضي الله عنها-) قبل آية الحجاب أو من وراء الحجاب (قالت: دخلت عليّ بريرة وهي مكاتبة) الواو للحال ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا وكانت كاتبتهم على تسع أواق في كل سنة وقية (فقالت يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعوني) ولأبي ذر: يبيعونني بنونين على الأصل (فأعتقيني) بهمزة قطع (قالت) عائشة فقلت لها (نعم) أشتريك فأعتقك (قالت) بريرة (إن أهلي لا يبيعوني) ولأبي ذر: لا يبعونني (حتى يشترطوا ولائي) الذي هو سبب الإرث أن يكون لهم (قالت) عائشة فقلت لها (لا حاجة لي فيك) حينئذ (فسمع ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بلغه) شك الراوي (فقال):
(ما شأن بريرة)؟ أي فذكرت له شأنها (فقال) ولأبي ذر قال: (اشتريها فأعتقيها) بهمزة وصل في الأولى وقطع في الأخرى (وليشترطوا) بلام ساكنة ولأبي ذر ويشترطوا بإسقاطها (ما شاؤوا) (قالت) عائشة (فاشتريتها فأعتقتها) ولأبي ذر قال أي الراوي فاشترتها أي عائشة فأعتقتها (واشترط أهلها ولاءها) أن يكون لهم (فقال: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط).
ومطابقته للترجمة من كون بريرة شرطت على عائشة أن تعتقها إذا اشترتها وقد تكرر ذكر هذا الحديث مرات.

11 - باب الشُّرُوطِ فِي الطَّلاَقِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَأَ بِالطَّلاَقِ أَوْ أَخَّرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ.
(باب الشروط في الطلاق. وقال ابن المسيب) سعيد (والحسن) البصري

(4/439)


(وعطاء) هو ابن أبي رباح فيما وصله عبد الرزاق (إن بدا) بغير همزة في الفرع وأصله وفي غيرها بإثباته في الشرط (بالطلاق) بأن قال: أنت طالق إن دخلت الدار (أو أخّر) بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق (فهو أحق بشرطه).
2727 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ التَّلَقِّي، وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلأَعْرَابِيِّ. وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. وَنَهَى عَنِ النَّجْشِ، وَعَنِ التَّصْرِيَةِ".
تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ.
وَقَالَ غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: "نُهِيَ". وَقَالَ آدَمُ: "نُهِينَا". وَقَالَ النَّضْرُ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: "نَهَى".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) الناجي السامي بالسين المهملة القرشي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي (عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمان الأشجعي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال):
(نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التلقي) للركبان لشراء متاعهم قبل معرفة سعر البلد (وأن يبتاع) يشتري (المهاجر) أي المقيم (للأعرابي) الذي يسكن البادية (وأن تشترط المرأة) عند العقد (طلاق أختها) أعم من أن تكون معها في العصمة كالضرّة أو لا تكون في العصمة كالأجنبية.
وهذا موضع الترجمة كما قاله ابن بطال لأن مفهومه أنها إذا اشترطت ذلك فطلق أختها وقع الطلاق لأنه لو لم يقع لم يكن للنهي عنه معنى.
(وأن يستام الرجل على سوم أخيه) بأن يقول لمن اتفق مع غيره في بيع ولم يعقداه أنا أشتريه بأزيد أو أنا أبيعك خيرًا منه بأرخص منه فيحرم بعد استقرار الثمن بالتراضي صريحًا وقبل العقد (ونهى) عليه الصلاة والسلام أيضًا (عن النجش) بنون مفتوحة فجيم ساكنة فشين معجمة وهو أن يزيد في الثمن بلا رغبة بل ليغرّ غيره (وعن التصرية) وهي ربط البائع ضرع ذات اللبن من مأكول اللحم ليكثر لبنها لتغرير المشتري.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في البيوع وكذا النسائي.
(تابعه) أي تابع محمد بن عرعرة في تصريحه برفع الحديث إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (معاذ) أي ابن معاذ بن نصر بن حسان العنبري البصري فيما وصله مسلم (وعبد الصمد) بن عبد الوارث فيما وصله مسلم أيضًا (عن شعبة) بن الحجاج (وقال غندر) محمد بن جعفر فيما وصله مسلم أيضًا،
وأبو نعيم في مستخرجه كما في المقدمة (وعبد الرحمن) بن مهدي (نهي) بضم النون وكسر الهاء مبنيًّا للمفعول: (وقال آدم) بن أبي إياس عن شعبة (نهينا) بضم النون وكسر الهاء مع ضمير الجمع، (وقال النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل (وحجاج بن منهال) بكسر الميم وسكون النون (نهي) بفتح النون والهاء مبنيًّا للمعلوم من الماضي المفرد ولم يعينا الفاعل وبعد هاء نهي ياء وفي رواية أبي ذر كما في الفرع نها بألف بدل الياء. قال الحافظ ابن حجر في المقدمة ورواية آدم وعبد الرحمن والنضر لم أقف عليها أي موصولة ورواية حجاج وصلها البيهقي وقال في الفتح: رواية آدم رويناها في نسخته وأما رواية النضر فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه.

12 - باب الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ
(باب الشروط مع الناس بالقول) أي دون الإشهاد والكتابة.
2728 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ -يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ- قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: كَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا. {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} , {لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ}، {فَانْطَلَقنا ... فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ}. قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ "أَمَامَهُمْ مَلِكٌ".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء أبو إسحاق الرازي قال: (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني قاضيها (أن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أخبره) ولأبي ذر أخبرهم بميم الجمع (قال: أخبرني) بالإفراد (يعلى بن مسلم) على وزن يرضى ابن هرمز (وعمرو بن دينار) بفتح العين وسكون الميم (عن سعيد بن جبير) الكوفي (يزبد أحدهما على صاحبه وغيرهما) بالرفع عطفًا على فاعل أخبرني (قد سمعته) الضمير المرفوع لابن جريج والمنصوب للغير (يحدّثه عن سعيد بن جبير) أنه (قال: إنّا لعند ابن عباس) بفتح اللام للتأكيد (-رضي الله عنهما- قال: حدّثني) بالإفراد (أُبيّ بن كعب) -رضي الله عنه- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(موسى رسول الله) مبتدأ وخبر أي صاحب الخضر هو موسى بن عمران كليم الله ورسوله لا موسى آخر كما يزعم نوف البكالي (فذكر الحديث) في قصة موسى والخضر. (قال) أي الخضر لموسى ({ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا} كانت) المسألة (الأولى) من موسى (نسيانًا) بالنصب خبر كان (و) المسألة (الوسطى) شرطًا يعني كانت بالشرط بالقول (و) المسألة (الثالثة عمدًا) وأشار إلى
الأولى بقوله: ({قال لا تؤاخدني

(4/440)


بما نسيت}) أي بالذي نسيته أو بنسياني أو بشيء نسيته يعني وصيته بأن لا يعترض عليه وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها قاله البيضاوي. وقال السمرقندي، قال ابن عباس: هذا من معاريض الكلام لأن موسى لم ينس، ولكن قال: لا تؤاخذني بما نسيت إذا كان مني نسيان فلا تؤاخذني به ({ولا ترهقني من أمري عسرًا}) لا تكلفني من أمري شدة وأشار إلى الوسطى التي كانت بالشرط بقوله: ({لقيا غلامًا فقتله}) إلى الثالثة بقوله (فانطلقنا {فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض}) أي تدانى إلى أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارقة ({فأقامه}) بعمارته أو بعمود عمد به وقيل مسحه بيده فقام (قرأها ابن عباس) أي وراءهم من قوله تعالى: ({أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم} (أمامهم ملك).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله والوسطى شرطًا لأن المراد به قوله إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني والتزم موسى بذلك ولم يكتبا ذلك ولم يشهدا أحدًا وفيه دلالة على العمل بمقتضى ما دلّ عليه الشرط فإن الخضر قال لموسى لما أخلف الشرط هذا فراق بيني وبينك ولم ينكر عليه موسى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في مواضع كثيرة تزيد على العشرة مطوّلاً ومختصرًا.

13 - باب الشُّرُوطِ فِي الْوَلاَءِ
(باب الشروط في الولاء).
2729 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقَالَتْ: إِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ -وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ- فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- , فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) ابن أبي أويس الأصبحي ابن أُخت إمام الأئمة مالك بن أنس قال: (حدّثنا مالك) هو خالد الإمام الأعظم (عن هشام بن عروة) وسقط لأبي ذر بن عروة (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة) -رضي الله عنها- أنها (قالت: جاءتني بريرة فقالت:
كاتبت أهلي) موالي (على تسع أواق) بالتنوين من غير ياء (في كل عام أوقية فأعينيني) وفي كتاب المكاتبة مما ذكره معلقًا، ووصله الذهلي في الزهريات عن الليث عن يونس عن ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين، لكن المشهور ما في رواية هشام بن عروة تسع أواق، وجزم الإسماعيلي بأن الرواية المعلقة غلط لكن جمع بينهما بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام ويشهد له أن في رواية عمرة عن عائشة في أبواب المساجد فقال: أهلها إن شئت أعطيت ما يبقى (فقالت) عائشة لبريرة (إن أحبوا) أهلك (أن أعدّها لهم) أي الأواقي التسع وهو يشكل على الجمع الذي ذكرته فليتأمل (ويكون) نصب عطفًا على المنصوب السابق (ولاؤك لي) بعد أن أعتقك وجواب الشرط (فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم) ما قالته عائشة (فأبوا عليها) أي فامتنعوا أن يكون الولاء لعائشة (فجاءت من عندهم) إلى عائشة (ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس) عندها (فقالت: إني قد عرضت ذلك) بكسر الكاف (عليهم) تعني أهلها (فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرت عائشة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(خذيها) اشتريها فأعتقيها (واشترطي لهم الولاء) أي عليهم فاللام بمعنى على كذا رويناه عن حرملة عن الشافعي، لكن ضعفه النووي بأنه عليه الصلاة والسلام أنكر الاشتراط فلو كانت بمعنى على لم ينكره. قال وأقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القصة، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل أو المراد التوبيخ لهم لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد بيّن لهم أن الشرط لا يصح فلما لجّوا في اشتراطه قال ذلك أي لا تبالي به سواء شرطيته أم لا. والحكمة في إذنه ثم إبطاله أن يكون أبلغ في قطع عادتهم وزجرهم عن مثله، وقد أشار الشافعي في الأم إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، لكن قال الطحاوي: حدّثني المزني به عن الشافعي بلفظ: وأشرطي لهم الولاء بهمزة قطع بغير مثناة فوقية ثم وجهها بأن المعنى أظهري لهم حكم الولاء ولا يلزم أن يكون ما نقله الطحاوي عن المزني مذكورًا في الأم (فإنما الولاء لمن أعتق) (ففعلت عائشة)

(4/441)


الشراء والعتق (ثم قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الناس) خطيبًا (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال): (ما بال رجال) ما شأنهم (يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله) أي ليست في حكمه وقضائه (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) أو أكثر (قضاء الله أحق) أي الحق (وشرط الله) الذي شرطه وجعله شرعًا (أوثق) أي القوي وما سواه واهٍ فأفعل التفضيل فيهما ليس على بابه (وإنما الولاء لمن أعتق).
وهذا الحديث قد ذكره المؤلّف في مواضع كثيرة بوجوه مختلفة وطرق متباينة قال العيني وهذا هو الرابع عشر موضعًا.

14 - باب إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ "إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ"
هذا (باب) بالتنوين (إذا اشترط) صاحب الأرض (في) عقد (المزارعة إذا شئت أخرجتك).
2730 - حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو غَسَّانَ الْكِنَانِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهَمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ. فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُن بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ. فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ. فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالاً وَإِبِلاً وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ".
رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اخْتَصَرَهُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو أحمد) غير مسمى ولا منسوب، ولأبي ذر وابن السكن عن الفربري أبو أحمد مرار بن حمويه بفتح الميم وتشديد الراء الأولى وأبوه بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم الهمداني بفتح الميم والمعجمة النهاوندي وليس له كشيخه في البخاري سوى هذا الحديث، ويقال إنه محمد بن يوسف البيكندي، ويقال إنه محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: (حدّثنا محمد بن يحيى) بن علي (أبو غسان) بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المشددة (الكناني) قال (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: لما فدع) بالفاء والدال والعين المهملتين محركتين، وضبطه الكرماني كالصغاني بالغين المعجمة وتشديد الدال المهملة من الفدع وهو كسر الشيء المجوّف (أهل خيبر) بالرفع على الفاعلية ومفعوله (عبد الله بن عمر قام) أبوه (عمر) -رضي الله عنه- (خطيبًا فقال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان عامل يهود خيبر على أموالهم) أي التي كانت لهم قبل أن يفيئها الله على المسلمين (وقال) لهم:
(نقركم) بضم النون وكسر القاف فيها (ما أقركم الله) أي ما قدر الله أنا نترككم فإذا شئنا فأخرجناكم منها تبين أن الله قد أخرجكم (وأن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هنالك) بخفض ماله (فعُدِيَ عليه) بضم العين وكسر الدال المخففة أي ظلم على ماله (من الليل) وألقوه من فوق بيت (ففدعت) بضم الفاء الثانية وكسر الدال مبنيًّا للمفعول والنائب عن الفاعل قوله (يداه ورجلاه).
قال في القاموس: الفدع محركة اعوجاج الرسغ من اليد والرجل حتى ينقلب الكف أو القدم إلى إنسيها أو هو المشي على ظهر القدم أو ارتفاع أخمص القدم حتى لو وطئ الأفدع عصفورًا ما آذاه، أو هو عوج في المفاصل كأنها قد زالت عن موضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ خلقة أو زيغ بين القدم وبين عظم الساق، ومنه حديث ابن عمر أن يهود خيبر دفعوه من بيت ففدعت قدمه.
(وليس لنا هناك عدوّ غيرهم هم عدونا وتهمتنا) بضم الفوقية وفتح الهاء، ولأبي ذر: وتهمتنا بسكون الهاء أي الذين نتهمهم (وقد رأيت إجلاءهم) بكسر الهمزة وسكون الجيم ممدودًا إخراجهم من أوطانهم (فلما أجمع عمر على ذلك) أي عزم عليه (أتاه أحد بني أبي الحقيق) بضم الحاء المهملة وفتح الأولى وسكون التحتية رؤساء اليهود (فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا) بهمزة الاستفهام الإنكاري (وقد أقرّنا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الواو في وقد للحال (وعاملنا على الأموال) بفتح الميم واللام من وعاملنا (وشرط ذلك) أي إقرارنا في أوطاننا (لنا؟ فقال) له (عمر: أظننت) بهمزة الاستفهام الإنكاري (أني نسيت قول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. كيف بك إذا أخرجت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول وتاء الخطاب (من خيبر تعدو) بعين مهملة أي تجري (بك قلوصك ليلة بعد ليلة) بفتح القاف وضم اللام والصاد المهملة بينهما واو ساكنة الناقة الصابرة على السير أو الأنثى أو الطويلة القوائم، وأشار -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى إخراجهم من خيبر فهو من أعلام النبوّة (فقال) أحد بني أبي الحقيق: (كانت هذه) وللحموي والمستملي كان ذلك (هزيلة من أبي القاسم) بضم الهاء وفتح الزاي تصغير هزلة ضدّ الجد وفي اليونينية هزيلة بكسر الزاي أي لم تكن حقيقة وكذب عدوّ الله (قال) عمر، ولأبي ذر: فقال (كذبت يا عدوّ الله فأجلاهم عمر وأعطاهم) بعد أن

(4/442)


أجلاهم (قيمة ما كان لهم من الثمر) بالمثلثة وفتح الميم (مالاً وإبلاً وعروضًا) نصب تمييزًا للقيمة (من أقتاب وحبال وغير ذلك) والأقتاب جمع قتب وهو أكاف الجمل، وإنما ترك عمر مطالبتهم بالقصاص لأنه فادع ليلاً وهو نائم فلم يعرف عبد الله من فدعه فأشكل الأمر.
(رواه) أي الحديث (حماد بن سلمة) فيما وصله أبو يعلى (عن عبيد الله) مصغرًا العمري (أحسبه عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اختصره) حماد وشك في وصله رواه الوليد بن صالح عن حماد بغير شك فيما قاله البغوي.

15 - باب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ
(باب) بيان (الشروط في الجهاد و) بيان (المصالحة مع أهل الحروب) وفي الفرع كأصله أيضًا الحرب بفتح الحاء وسكون الراء (وكتابة الشروط) زاد أبو ذر عن المستملي مع الناس بالقول. قال في الفتح: وهي زيادة مستغنى عنها لأنها تقدمت في ترجمة مستقلة إلا أن تحمل الأولى على الاشتراط بالقول خاصة وهذه على الاشتراط بالقول والفعل معًا انتهى. فليتأمل مع قوله: وكتابة الشروط.
2731 , 2732 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ -يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ- قَالاَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ. فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ. فَأَلَحَّتْ. فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ. وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا. ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ. قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ -وَكَانُوا عَبيةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ- فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ الْعُودُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ. وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا. وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ. فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ. قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا. فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرُونَا عَنْهُ بِشَىْءٍ. وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ. قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عليكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قَالُوا ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ. فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَىْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لأَرَى أْشَوَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟
فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَىْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ. ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَيْنَيْهِ. قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، فإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ. فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِيكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ يتَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّموا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ. وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا فُلاَنٌ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا مِكْرَزٌ، وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ. فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ. قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا. فَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا "الرَّحْمَنُ" فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هِيَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اكْتُبْ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ». ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ -وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ- إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَجِزْهُ لِي، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهْوَ نَاصِرِي. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهْوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ -حَتَّى بَلَغَ- بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهْوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ ثُمَّ جَرَّبْتُ. فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُ: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ. فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا. فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُنَاشِدُهُ اللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ -حَتَّى بَلَغَ- الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْت".
قال أبو عبد الله معرة العر: الجرب. تزيلوا: انمازوا. وحميت القوم: منعتهم حماية. وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل. وأحميت الرجل إذا أغضبته إحماء.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدثنا (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدثنا عبد الرزاق) بن همام اليماني قال: (أخبرنا معمر) بفتح الميمين وسكون المهملة بينهما ابن راشد (قال: أخبرني) بالإفراد (الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبروني) بالإفراد أيضًا (عروة بن الزبير) بن العوام (عن المسور بن مخرمة ومروان) بن الحكم وروايتهما مرسلة لأن مروان لا صحبة له ومسورًا وإن كان له صحبة لكنه لم يحضر القصة وإنما سمعناها من جماعة من الصحابة شهدوها (يصدق كل واحد منهما) من المسور ومروان (حديث صاحبه) والجملة حالية (قالا: خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من المدينة (زمن الحديبية) بالتخفيف يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة في بضع عشرة مائة فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث بسرًا
بضم الموحدة وسكون السين المهملة ابن سفيان عينًا لخبر قريش (حتى كانوا) ولأبي ذر حتى إذا كانوا (ببعض الطريق قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن خالد بن الوليد بالغميم) بفتح الغين المعجمة وكسر الميم بوزن عظيم وفي المشارق بضم الغين وفتح الميم. قال ابن حبيب: موضع قريب من مكة بين رابغ والجحفة (في خيل لقريش) وكانوا كما عند ابن سعد مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل حال كونهم (طليعة) وهي مقدمة الجيش ولأبي ذر طليعة بالرفع (فخذوا ذات اليمين) وهي بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار بكسر الميم وتخفيف الراء مهبط الحديبية من أسفل مكة قال ابن هشام فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش وهو معنى قوله (فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش) بفتح القاف والمثناة الفوقية وسكنها في الفرع غباره الأسود (فانطلق) خالد حال كونه (يركض يضرب برجله دابته استعجالاً للسير حال كونه (نديرًا) منذرًا (لقريش) بمجيء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وسار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى إذا كان بالثنية) أي ثنية المرار بكسر الميم (التي يهبط) بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول أي على قريش (منها بركت به) عليه الصلاة والسلام (راحلته فقال الناس: حل حل) بفتح الحاء المهملة وسكون اللام فيهما زجر للراحلة إذا حملها على السير.
وقال الخطابي إن قلت: حل واحدة فبالسكون وإن أعدتها نوّنت الأولى وسكنت الثانية، وحكي السكون فيهما والتنوين كنظيره في بخ بخ وهو معنى قوله في القاموس حل حل منوّنتين أو حل واحدة اهـ. لكن الرواية بالسكون فيهما.
(فألحت) بتشديد الحاء المهملة وفتح الهمزة أي تمادت في البروك فلم تبرح من مكانها (فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء) مرتين وخلأت بفتح الخاء المعجمة واللام والهمزة والقصواء بفتح القاف وسكون الصاد المهملة وفتح الواو مهموزًا ممدودًا اسم لناقته عليه الصلاة والسلام أي حزنت وتصعبت (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (ما خلأت القصواء) أي ما حزنت (وما ذاك لها بخلق)

(4/443)


بضم الخاء المعجمة واللام أي ليس الخلاء لها بعادة كما حسبتم (ولكن حبسها) أي القصواء (حابس الفيل) زاد ابن إسحاق عن مكة أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن مكة لأنهم لو دخلوا مكة على تلك الهيئة وصدّهم قريش عن ذلك لوقع بينهم ما يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال لكن سبق في العلم القديم أنه يدخل في الإسلام منهم جماعات.
(ثم قال) عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده لا يسألوني) أي قريش ولأبي ذر لا يسألونني بنونين على الأصل (خطة) بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي خصلة (يعظمون فيها حرمات الله) يكفون بسببها عن القتال في الحرم تعظيمًا له (إلا أعطيتهم إياها) أي أجبتهم إليها وإن كان في ذلك تحمل مشقة (ثم زجرها) أي زجر عليه الصلاة والسلام الناقة (فوثبت) بالمثلثة وآخره مثناة أي
قامت (قال فعدل) عليه الصلاة والسلام (عنهم) وفي رواية ابن سعد فولى راجعًا (حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد) بفتح الثاء والميم آخره دال مهملة (قليل الماء) قال في القاموس: الثمد ويحرك وككتاب الماء القليل لا مادة له أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف اهـ.
وقوله قليل الماء قيل تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول إن الثمد الماء الكثير وعورض بأنه إنما يتوجه أن لو ثبت في اللغة أن الثمد الماء الكثير، واعترض في المصابيح قوله تأكيد بأنه لو اقتصر على قليل أمكن أما مع إضافته إلى الماء فيشكل وذلك لأنك لا تقول هذا ماء قليل الماء. نعم قال الداودي: الثمد العين وقال غيره: حفرة فيها ماء فإن صح فلا إشكال.
(يتبرضه) بالموحدة المفتوحة بعد المثناتين التحتية والفوقية فراء مشددة فضاد معجمة أي يأخذه (الناس تبرضًا) نصب على أنه مفعول مطلق من باب التفعل للتكلف أي قليلاً قليلاً وقال صاحب العين التبرض جمع الماء بالكفّين (فلم يلبثه) بضم أوله وفتح اللام وتشديد الموحدة وسكون المثلثة في الفرع وأصله وغيرهما مصححًا عليه، ونسبه في الفتح وتبعه في العمدة لقول ابن التين، وضبطناه بسكون اللام مضارع ألبث أي لم يتركوه يلبث أي يقيم (الناس حتى نزحوه) لم يبقوا منه شيئًا يقال نزحت البئر على صيغة واحدة في التعدي واللزوم.
(وشكي) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العطش) بالرفع نائبًا عن الفاعل (فانتزع سهمًا من كنانته) بكسر الكاف جعبته التي فيها النبل (ثم أمرهم أن يجعلوه) أي السهم (فيه) في الثمد، وروى ابن سعد من طريق أبي مروان حدّثني أربعة عشر رجلاً من الصحابة أن الذي نزل البئر ناجية بن الأعجم، وقيل هو ناجية بن جندب، وقيل البراء بن عازب، وقيل عباد بن خالد حكاه عن الواقدي، ووقع في الاستيعاب خالد بن عبادة قاله في المقدمة. وقال في الفتح: ويمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره (فوالله ما زال يجيش) بفتح أوله وكسر الجيم آخره شين معجمة بعد تحتية ساكنة يفور ويرتفع (لهم بالري) بكسر الراء (حتى صدروا عنه) أي رجعوا رواء بعد ورودهم، وزاد ابن سعد حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسًا على شفير البئر، (فبينما) بالميم ولأبي ذر عن الكشميهني فبينا بإسقاطها (هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء) بضم الموحدة وفتح الدال المهملة مصغرًا وأبوه بفتح الواو وسكون الراء وبالقاف ممدودًا (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة الصحابيّ المشهور (في نفر من قومه من خزاعة) منهم عمرو بن سالم، وخراش بن أمية فيما قاله الواقدي، وخارجة بن كرز، ويزيد بن أمية كما في رواية أبي الأسود عن عروة (وكانوا) أي بديل والنفر الذين معه (عيبة نصح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة ويصح بضم النون أي موضع سرّه وأمانته فشبّه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع خير الثياب وكانت خزاعة (من أهل تهامة) بكسر المثناة الفوقية مكة وما حولها زاد ابن إسحاق في روايته، وكانت خزاعة عيبة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئًا كان بمكة (فقال) بديل (إني تركت كعب بن

(4/444)


لؤي وعامر بن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة
وتشديد الياء فيهما (نزلوا أعداد مياه الحديبية) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة جمع عد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع لمادّته كالعين والبئر وفيه أنه كان بالحديبية مياه كثيرة وأن قريشًا سبقوا إلى النزول عليها، ولذا عطش المسلمون حتى نزلوا على الثمد المذكور وذكر أبو الأسود في روايته عن عروة وسبقت قريش إلى الماء ونزلوا عليه (ومعهم العوذ) بضم العين المهملة وسكون الواو وآخره ذال معجمة جمع عائذ أي النوق الحديثات النتاج ذات اللبن (المطافيل) بفتح الميم والطاء المهملة وبعد الألف فاء مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فلام الأمهات التي معها أطفالها ومراده أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزوّدوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه. وقال ابن قتيبة: يريد النساء والصبيان ولكنه استعار ذلك يعني أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم وعند ابن سعد معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان (وهم مقاتلوك وصادّوك) أي مانعوك (عن البيت) الحرام (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنّا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وأن قريشًا قد نهكتهم الحرب) بفتح أوله وبفتح الهاء وكسرها في الفرع كأصله أي أبلغت فيهم حتى أضعفت قوّتهم وهزلتهم أو أضعفت أموالهم (وأضرّت بهم فإن شاؤوا ماددتهم) أي جعلت بيني وبينهم (مدة) معينة أترك قتالهم فيها (ويخلوا بيني وبين الناس) أي من كفار العرب وغيرهم زاد أبو ذر عن المستملي والكشميهني إن شاؤوا (فإن أظهر) بالجزم (فإن شاؤوا) شرط معطوف على الشرط الأول (أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس) من طاعتي وجواب الشرطين قوله (فعلوا وإلا) أي وإن لم أظهر (فقد جمعوا) بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة أي استراحوا من جهد القتال، ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري: فإن ظهر الناس عليّ فذلك الذي يبغون فصرّح بما حذفه هنا من القسم الأول والتردد في قوله فإن أظهر ليس شكًّا في وعد الله أنه سينصره ويظهره بل على طريق التنزيل وفرض الأمر على ما زعم الخصم (وإن هم أبوا) امتنعوا (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي) بالسين المهملة وككسر اللام أي حتى تنفصل رقبتي أي حتى أموت أو حتى أموت وأبقى منفردًا في قبري (ولينفذن الله أمره) بضم المثناة التحتية وسكون النون وبالذال المعجمة وتشديد النون وضبطه في المصابيح كالتنقيح بتشديد الفاء المكسورة أي ليمضين الله أمره في نصر دينه.
(فقال بديل: سأبلغهم) بفتح الموحدة وتشديد اللام (ما تقول. قال فانطلق) بديل (حتى أتى قريشًا قال: إنّا جئناكم من هذا الرجل) يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم) قال في الفتح: سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل، والحكم بن أبي وقاص: (لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات) بكسر التاء أي أعطني (ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدّثهم بما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقام عروة بن مسعود) هو ابن معتب بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة الثقفي أسلم ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فقتلوه (فقال: أي قوم) أي يا قوم (ألستم بالوالد) أي مثل الأب في الشفقة لولده؟
(قالوا: بلى. قال: أو لستم بالولد) مثل الابن في النصح لوالده؟ (قالوا: بلى) وعند ابن إسحاق عن الزهري أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف فأراد بقوله ألستم بالوالد إنكم قد ولدتموني في الجملة لكون أمي منكم، ولأبي ذر فيما قاله الحافظ ابن حجر ألستم بالولد وألست بالوالد والأول هو الصواب وهو الذي في رواية أحمد وابن إسحاق وغيرهما (قال: فهل تتهموني)؟ ولأبي ذر تتهمونني بنوني على الأصل أي هل تنسبونني إلى التهمة (قالوا: لا). نتهمك (قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ) بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وآخره ظاء معجمة غير منصرف لأبي ذر ولغيره بالتنوين أي دعوتهم

(4/445)


للقتال نصرة لكم (فلما بلحوا علّي) بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم حاء مهملة مضمومة امتنعوا أو عجزوا (جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: فإن هذا) يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقد عرض لكم) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عليكم (خطة رشد) بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي خصلة خير وصلاح وإنصاف (اقبلوها ودعوني) اتركوني (آتيه) بالمد والياء على الاستئناف أي أنا آتيه، ولأبي ذر: آته مجزومًا بحذف الياء على جواب الأمر والهاء مكسورة أي أجيء إليه (قالوا ائته) بهمزة وصل فهمزة قطع ساكنة فمثناة فوقية مكسورة فهاء مكسورة أمر من أتى يأتي (فأتاه) عليه الصلاة والسلام عروة (فجعل يكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لعروة (نحوًا من قوله لبديل) السابق.
وزاد ابن إسحاق وأخبره أنه لم يأت يريد حربًا (فقال عروة عند ذلك) أي عند قوله لأقاتلنّهم (أي محمد) أي يا محمد (أرأيت) أي أخبرني (إن استأصلت أمر قومك) أي استهلكتهم بالكلية (هل سمعت بأحد من العرب اجتاح) بتقديم الجيم على الحاء المهملة أهلك (أهله قبلك) بالكلية ولأبي ذر في نسخة أصله كذا في الفرع كأصله وضبب على الأولى (وإن تكن الأخرى) قال الكرماني وتبعه العيني: وإن تكن الدولة لقومك فلا يخفى ما يفعلون بكم فجواب الشرط محذوف وفيه رعاية الأدب مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث لم يصرح إلا بشق غالبيته، وقال في المصابيح: التقدير وإن تكن الأخرى لم ينفعك أصحابك، وأما قول الزركشي: التقدير وإن كانت الأخرى كانت الدولة للعدوّ وكان الظفر لهم عليك وعلى أصحابك فقال في المصابيح: هذا التقدير غير مستقيم لما يلزم عليه من اتحاد الشرط والجزاء لأن الأخرى هي انتصار العدوّ وظفرهم فيؤل التقدير إلى أنه إن انتصر أعداؤك وظفروا كانت الدولة لهم وظفروا.
(فإني والله لا أرى وجوهًا) أي أعيان الناس (وإني لأرى أشوابًا من الناس) بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وتقديمها على الواو أخلاطًا من الناس من قبائل شتى ولأبي ذر عن الكشميهني: أو شابًّا بتقديم الواو على المعجمة ويروى أوباشًا بتقديم الواو والموحدة أخلاطًا من السفلة (خليقًا) بالخاء المعجمة والقاف حقيقًا (أن يفروا) أي بأن يفروا (ويدعوك) يتركوك لأن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار بخلاف من كان من قبيلة واحدة فإنهم يأنفون الفرار في العادة وما علم عروة أن مودة الإسلام أبلغ من مودة القرابة (فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-)
ولأبي ذر: أبو بكر الصديق وكان خلف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاعدًا فيما ذكره ابن إسحاق (امصص) بهمزة وصل فميم ساكنة فصادين مهملتين الأولى مفتوحة بصيغة الأمر من مصص يمصص من باب علم يعلم، ولأبي ذر وحكاه ابن التين عن رواية القابسي امصص بضم الصاد وخطأها (ببظر اللات) بفتح الموحدة بعد الجارة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. وقال الداودي: البظر فرج المرأة. قال السفاقسي: والذي عند أهل اللغة أنه ما يخفض من فرج المرأة أي يقطع عند خفاضها.
وقال في القاموس: البظر ما بين اسكتي المرأة الجمع بظور كالبيظر والبنظر بالنون كقنفذ والبظارة وتفتح وأمة بظراء طويلته والاسم البظر محركة واللام اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وقد كانت عادة العرب الشتم بذلك تقول: ليمصص بظر أمه فاستعار ذلك أبو بكر -رضي الله عنه- في اللات لتعظيمهم إياه فقصد المبالغة في سبّ عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار ولأبي ذر: بظر بإسقاط حرف الجر (أنحن نفرّ عنه وندعه)؟ استفهام إنكاري، (فقال) أي عروة (من ذا)؟ أي المتكلم (قالوا: أبو بكر. قال) عروة (أما) بالتخفيف حرف استفتاح (والذي نفسي بيده لولا يد) أي نعمة ومنّة (كانت لك عندي لم أجزك) بفتح الهمزة وسكون الجيم وبالزاي أي لم أكافئك (بها لأجبتك) وبين عبد العزيز الإمامي عن الزهري في هذا الحديث أن اليد المذكورة أن عروة كان تحمل بدية فأعانه

(4/446)


فيها أبو بكر بعون حسن وفي رواية الواقدي عشر قلائص قاله الحافظ ابن حجر.
(قال وجعل) عروة (يكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكلما تكلم) زاد أبو ذر عن الحموي والكشميهني كلمة والذي في اليونينية كلمه بدل قوله تكلم. وفي نسخة فكلما كلمه (أخذ بلحيته) الشريفة على عادة العرب من تناول الرجل لحية من يكلمه لا سيما عند الملاطفة (ومغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه سيف) قصدًا لحراسته (وعليه) أي على المغيرة (المغفر) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء ليستخفي من عروة عمه (فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضرب يده) إجلالاً للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيمًا (بنعل السيف) وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها (وقال له: أخّر يدك عن لحية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد عروة بن الزبير فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه (فرفع عروة رأسه فقال: من هذا)؟ الذي يضرب يدي (قالوا) ولأبي ذر قال (المغيرة بن شعبة) وعند ابن إسحاق فتبسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال في الفتح. وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح وأخرجه ابن حبان.
(فقال) عروة مخاطبًا للمغيرة (أي غدرًا) بضم الغين المعجمة وفتح الدال أي يا غدر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر (ألست أسعى في غدرتك) أي ألست أسعى في دفع شرّ خيانتك ببذل المال (وكان المغيرة) قبل إسلامه (صحب قومًا في الجاهلية) من ثقيف من بني مالك لما خرجوا زائرين المقوقس بمصر فأحسن إليهم وقصر بالمغيرة فحصلت له الغيرة منهم لأنه ليس من القوم فلما كانوا
بالطريق شربوا الخمر فلما سكروا وناموا غدر بهم (فقتلهم) جميعًا (وأخذ أموالهم) فلما بلغ ثقيفًا فعل المغيرة تداعوا للقتال فسعى عروة عم المغيرة حتى أخذوا منه ديّة ثلاثة عشر نفسًا واصطلحوا فهذا هو سبب قوله أي غدر (ثم جاء) إلى المدينة (فأسلم) فقال له أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتخمس أو ليري رأيه فيها (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أما الإسلام) بالنصب على المفعولية (فأقبل) بلفظ المضارع أي أقبله (وأما المال فلست منه في شيء) أي لا أتعرض له لكونه أخذه غدرًا لأن أموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحلّ أخذها عند الأمن، فإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أمّن كل واحد منهما صاحبه فسفك الدماء وأخذ الأموال عند ذلك غدر والغدر بالكفار وغيرهم محظور وإنما تحل أموالهم بالمحاربة والمغالبة ولعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيردّ إليهم أموالهم.
(ثم وإن عروة جعل يرمق) بضم الميم أي يلحظ (أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعينيه) بالتثنية (قال: فوالله ما تنخم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نخامة) بضم النون ما يصعد من الصدر إلى الفم (إلا وقعت في كل رجل منهم فدلك بها) أي بالنخامة (وجهه وجلده) تبركًا بفضلاته وزاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه (وإذا أمرهم ابتدروا أمره) أي أسرعوا إلى فعله (وإذا توضأ كانوا يقتتلون على وضوئه) بفتح الواو وفضلة الماء الذي توضأ به أو على ما يجتمع من القطرات وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء، (وإذا تكلم) عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر وإذا تكلموا أي الصحابة (خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون) بضم التحتية مبنيًّا للمفعول في اليونينية بالحاء المهملة (إليه النظر) أي ما يتأملونه ولا يديمون النظر إليه (تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم) أي يا قوم (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر) غير منصرف للعجمة وهو لقب لكلٍّ من ملك الروم (وكسرى) بكسر الكاف وتفتح اسم لكل من ملك الفرس (والنجاشي) بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة وتشديد التحتية وتخفف لقب من ملك الحبشة، وهذا من باب عطف الخاص على العام وخصّ الثلاثة بالذكر لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان (والله إن)

(4/447)


بكسر الهمزة نافية أي ما (رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (محمدًا والله إن) بكسر الهمزة نافية أي ما (تنخم) بلفظ الماضي ولأبي ذر يتنخم (نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم) عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر تكلموا بضمير الجمع أي الصحابة (خفضوا أصواتهم عنده) إجلالاً له وتوقيرًا (وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له وإنه) بكسر الهمزة عليه الصلاة والسلام (قد عرض عليكم خطة رشد) بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة أي خصلة خير وصلاح (فاقبلوها) بهمزة وصل وفتح الموحدة.
(فقال رجل من بني كنانة) هو الحليس بمهملتين مصغرًا ابن علقمة سيد الأحابيش كما ذكره الزبير بن بكار (دعوني آتيه) بتحتية قبل الهاء ولأبي ذر آته بحذفها مجزومًا مع كسر الهاء (فقالوا ائته) بهمزة ساكنة وكسر الهاء فأتى (فلما أشرف على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن) بضم الموحدة وسكون الدال المهملة جمع بدنة وهي من الإبل والبقر (فابعثوها) أي أثيروها (له) (فبعثت له واستقبله الناس) حال كونهم (يلبون) بالعمرة (فلما رأى) الكناني (ذلك) المذكور من البدن واستقبال الناس له بالتلبية (قال) متعجبًا (سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا) بضم أوله وفتح الصاد المهملة أي يمنعوا (عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال) لهم: (رأيت البدن قد قلدت) بضم القاف وكسر اللام المشددة أي علق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي (وأشعرت) بضم أوّله وسكون المعجمة وكسر المهملة أي طعن في سنامها بحيث سأل دمها ليكون علامة للهدي أيضًا (فما رأى) بفتح الهمزة (أن يصدوا عن البيت) زاد ابن إسحاق وغضب وقال: يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم أيصدّ عن بيت الله من جاء معظّمًا له. فقالوا: كفّ عنّا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى.
(فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي ابن الأخيف بخاء معجمة فتحتية ففاء وهو من بني عامر بن لؤي (فقال: دعوني آتيه) ولأبي ذر آته بحذف التحتية (فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم) على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (هذا مكرز وهو رجل فاجر) أي غادر لأنه كان مشهورًا بالغدر ولم يصدر منه في قصة الحديبية فجور ظاهر (فجعل) أي مكرز (يكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبينما) بالميم (هو) أي مكرز (يكلمه) عليه الصلاة والسلام (إذ جاء سهيل بن عمرو (تصغير سهل وعمرو بفتح العين (قال معمر) هو ابن راشد بالإسناد السابق (فأخبرني) بالإفراد (أيوب) هو السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (أنه لما جاء سهيل بن عمرو) سقط لأبي ذر ابن عمرو (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (لقد) ولأبي ذر: قد (سهل لكم من أمركم) بفتح السين المهملة وضم الهاء وهذا مرسل، وله شاهد موصول عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال: بعثت قريش بسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليصالحوه، فلما رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سهيلاً قال: "قد سهل لكم من أمركم" وهذا من باب التفاؤل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل الحسن وأتى بمن التبعيضية في قوله: من أمركم إيذانًا بأن السهولة الواقعة في هذه القصة ليست عظيمة قيل ولعله عليه الصلاة والسلام أخذ ذلك من التصغير الواقع في سهيل فإن تصغيره يقتضي كونه ليس عظيمًا.
(قال معمر) بالإسناد السابق أيضًا (قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (في حديثه) السابق فحديث عكرمة معترض في أثنائه (فجاء سهيل بن عمرو) في رواية ابن إسحاق فلما انتهى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب عشر سنين وأن يؤمن بعضهم بعضًا وأن يرجع عنهم عامهم (فقال) سهيل (هات) بكسر التاء (اكتب بيننا وبينكم كتابًا
فدعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكاتب) هو عليّ بن أبي طالب

(4/448)


(فقال) له (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) (قال) ولأبي ذر فقال: (سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ما هي بتأنيث الضمير أي كلمة الرحمن (ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب) وكان عليه الصلاة والسلام يكتب كذلك في بدء الإسلام كما كانوا يكتبونها في الجاهلية فلما نزلت آية النمل كتب بسم الله الرحمن الرحيم فأدركتم حمية الجاهلية (فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): لعلي -رضي الله عنه- (اكتب باسمك اللهم ثم قال) عليه الصلاة والسلام اكتب (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني) بتشديد المعجمة وجزاؤه محذوف (اكتب محمد بن عبد الله). (قال الزهري): محمد بن مسلم بن شهاب بالسند السابق (وذلك) أي أجابته لسؤال سهيل حيث قال: اكتب باسمك اللهم، واكتب محمد بن عبد الله (لقوله) عليه الصلاة والسلام السابق (لا يسألوني) أي قريش، ولأبي ذر: لا يسألونني بنوني على الأصل (خطة) بضم الخاء المعجمة خصلة (يعظمون فيها حرمات الله) يكفون بها عن القتال في الحرم (إلا أعطيتهم إياها) أي أجبتهم إليها (فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (على أن تخلوا بيننا وبين البيت) العتيق (فنطوف به) بالتخفيف وبالنصب عطفًا على المنصوب السابق وفي نسخة فنطوف بالرفع على الاستئناف وفي أخرى فنطوّف بتشديد الطاء والواو وأصله نتطوّف وبالنصب والرفع (فقال سهيل: والله لا) نخلي بينك وبين البيت الحرام (تتحدث العرب أنا أخذنا) بضم الهمزة وكسر الخاء (ضغطة) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين وبالنصب على التمييز قهرًا والجملة استئنافية وليست مدخولة لا (ولكن ذلك) أي التخلية (من العام المقبل فكتب) علّي ذلك. (فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا). وفي رواية عقيل عن الزهري في أوّل الشروط لا يأتيك منا أحد وهي تعمّ بالرجال والنساء فيدخلن في هذا الصلح ثم نسخ ذلك الحكم فيهن أو لم يدخلن إلا بطريق العموم فخصصن.
(قال المسلمون) قال في الفتح وقائل ذلك يشبه أن يكون عمر لما سيأتي، وممن قال أيضًا
أسيد بن حضير وسعد بن عبادة كما قاله الواقدي وسهل بن حنيف (سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء) حال كونه (مسلمًا فبينما هم كذلك) بالميم في بينما (إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو) بالجيم والنون بوزن جعفر وسهيل بضم السين مصغرًا وعمرو بفتح العين واسم أبي جندل العاص وكان حبس حين أسلم وعذب فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين حال كونه (يرسف) بفتح أوّله وسكون الراء وضم السين المهملة آخره فاء يمشي (في قيوده) مشي المقيد المثقل (وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال) أبوه: (سهيل هذا يا محمد أوّل ما) ولأبي ذر عن الكشميهني من (أقاضيك عليه أن تردّه إليّ فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إنّا لم نقضِ الكتاب بعد) بنون مفتوحة فقاف ساكنة فضاد معجمة أي لم نفرغ من
كتابته، ولأبي ذر عن المستملي والحموي: لن نفض بالفاء وتشديد المعجمة. (قال) سهيل: (فوالله إذًا) بالتنوين (لم أصالحك) وفي نسخة لا أصالحك (على شيء أبدًا. قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (فأجزه) بهمزة مفتوحة فجيم مكسورة فزاي ساكنة أي امض (لي) فعلي فيه فلا أردّه إليك (قال) سهيل: (ما أنا بمجيزه) ولأبي ذر: بمجيز ذلك (لك. قال) عليه الصلاة والسلام: (بلى فافعل) (قال) سهيل: (ما أنا بفاعل. قال مكرز) بكسر الميم وسكون الكاف وبعد الراء المفتوحة زاي ابن حفص وكان ممن أقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح (بل قد أجزناه) بحرف الإضراب وللكشميهني كما في الفتح بلى أي نعم. وفي نسخة قال مكرز قد أجزناه (لك. قال أبو

(4/449)


جندل أي معشر المسلمين أردّ) بضم الهمزة وفتح الراء (إلى المشركين وقد جئت) حال كوني (مسلمًا ألا ترون ما قد لقيت) بفتح القاف في اليونينية فقط وفي غيرها لقيت بكسرها (وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله) زاد ابن إسحاق فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنّا لا نغدر وإن الله جاعل لك فرجًا ومخرجًا".
وقول الكرماني فإن قلت: لم رد أبا جندل إلى المشركين وقد قال مكرز أجزناه لك؟ وجوابه: بأن المتصدي لعقد المهادنة هو سهيل لا مكرز فالاعتبار بقول المباشر لا بقول مكرز متعقب بما نقله في فتح الباري عن الواقدي أنه روى أن مكرزًا كان ممن جاء في الصلح مع سهيل وكان معهما حويطب بن عبد العزى، وأنه ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل بل في تأمينه من التعذيب، وأن مكرزًا وحويطبًا أخذا أبا جندل فأدخلاه فسطاطًا وكفا أباه عنه. وقال الخطابي: إنما ردّه إلى أبيه والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك.
(فقال) ولأبي ذر قال (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه-: (فأتيت نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت) له (ألست نبي الله) بالنصب خبر ليس (حقًّا؟ قال) عليه الصلاة والسلام (بلى) (قلت ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال) عليه الصلاة والسلام: (بلى) (قلت: فلِمَ نُعطي الدنيّة) بفتح الدال والمهملة وكسر النون وتشديد التحتية والأصل فيه الهمزة لكنه خفّف وهو صفة لمحذوف أي الحالة الدنيّة الخبيثة (في ديننا إذًا) بالتنوين أي حينئذٍ (قال): (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) فيه تنبيه لعمر- رضي الله عنه- على إزالة ما حصل عنده من القلق، وأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يفعل ذلك إلا لأمر أطلعه الله عليه من حبس الناقة وأنه لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله. قال عمر -رضي الله عنه- (قلت) له عليه الصلاة والسلام: (أوليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به) بالتخفيف وفي نسخة فنطّوّف بتشديد الطاء والواو وعند الواقدي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت فلما رأوا تأخير ذلك شقّ عليهم (قال) عليه الصلاة والسلام: (بلى فأخبرتك أنّا نأتيه العام) هذا (قال) عمر (قلت لا. قال: فإنك آتيه ومطوّف به) بتشديد الطاء المفتوحة والواو المكسورة المشددة أيضًا.
(قال) عمر (فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا)؟ وفي اليونينية نبي الله بالنصب (قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي) الخصلة (الدنيّة) الخبيثة (في ديننا إذًا) أي حينئذٍ (قال) أبو بكر -رضي الله عنه- مخاطبًا لعمر رضي الله
عنهما (أيها الرجل إنه لرسول الله) ولأبي ذر إنه رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه) بفتح العين المعجمة وبعد الراء الساكنة زاي وهو للإبل بمنزلة الركاب للفرس أي فتمسك بأمره ولا تخالفه كما يتمسك المرء بركاب الفارس فلا يفارقه، (فوالله إنه على الحق) قال عمر: (قلت أليس كان) عليه الصلاة والسلام: (يحدّثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به) ولأبي ذر فنطوّف بالفاء بدل الواو والتشديد (قال) أبو بكر: (بلى أفأخبرك) عليه الصلاة والسلام (أنك تأتيه العام) هذا قال عمر: (قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّف به) بالتشديد مع كسر الواو وفي ذلك دلالة على فضيلة أبي بكر ووفور عمله لكونه أجاب به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب بالسند السابق (قال عمر) -رضي الله عنه- (فعملت لذلك) التوقف في الامتثال ابتداء (أعمالاً) صالحة. وعند ابن إسحاق فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذٍ مخافة كلامي الذي تكلمت به، وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر -رضي الله عنه-: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابًا وصمت دهرًا الحديث. ولم يكن هذا شكًّا منه في الدين بل ليقف على الحكمة في القضية وتنكشف عنه الشبهة وللحثّ على إذلال الكفار كما عرف من قوّته في نصرة الدين وقول الزهري هذا منقطع بينه وبين عمر.
(قال: فلما فرغ من قضية الكتاب)

(4/450)


وأشهد على الصلح رجالاً من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعليّ ورجالاً من المشركين منهم مكرز بن حفص (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه): (قوموا فانحروا) الهدي (ثم احلقوا) رؤوسكم (قال فوالله ما قام منهم رجل) رجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ليتم لهم قضاء نسكهم أو لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور (حتى قال) عليه السلام لهم (ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل) عليه السلام (على أم سلمة) -رضي الله عنها- (فذكر لها ما لقي من الناس) من كونهم لم يفعلوا ما أمرهم به (فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك)؟ وعند ابن إسحاق قالت أم سلمة: يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقّة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح ويحتمل أنها فهمت من الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرهم بالتحلّل أخذًا بالرخصة في حقهم وأنه هو يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه فأشارت عليه أن يتحلل لينفي عنهم هذا الاحتمال فقالت: (اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك) بضم الموحدة وسكون المهملة (وتدعو حالقك) بنصب الفعل عطفًا على الفعل المنصوب قبله (فيلحقك فخرج) عليه الصلاة والسلام (فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه) بضم الموحدة وسكون المهملة وكانوا سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل في رأسه برّة من فضة ولأبي ذر عن الكشميهني هديه (ودعا حالقه) هو خراش بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي الكعبي (فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا) هديهم ممتثلين ما أمرهم به إذ لم تبق بعد ذلك غاية تنتظر (وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا) أي
ازدحامًا وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها، وقد قال إمام الحرمين في النهاية: قيل ما أشارت امرأة بصواب إلا أم سلمة في هذه القضية.
(ثم جاءه) عليه الصلاة والسلام (نسوة مؤمنات) بعد ذلك في أثناء مدة الصلح (فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}) نصب على الحال ({فامتحنوهن}) فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن (حتى بلغ {بعصم الكوافر}) [الممتحنة: 10] بما تعتصم به الكافرات من عقد ونسب جمع عصمة والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات وبقية الآية {الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله: {لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنّ وآتوهم ما أنفقوا} أي ما دفعوا إليهن من المهور، وهذه الآية على رواية لا يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددته تكون مخصصة للسنة وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة من قبيل نسخ السنة بالكتاب، أما على رواية: لا يأتيك منا رجل فلا إشكال فيه.
(فطلق عمر) -رضي الله عنه- (يومئذٍ امرأتين) قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي كما في الرواية التالية (كانتا له في الشرك) لقوله تعالى في الآية {لا هنّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنّ} [الممتحنة: 10] وقد كان ذلك جائزًا في ابتداء الإسلام (فتزوّج إحداهما) وهي قريبة (معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية) وفي الرواية اللاحقة وتزوج الأخرى أبو جهم.
(ثم رجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة فجاءه أبو بصير) بفتح الموحدة وكسر الصاد المهملة (رجل من قريش) بدل من أبو بصير ومعنى كونه من قريش أنه منهم بالحلف وإلاّ فهو ثقفي واسمه عتبة بضم العين المهملة وسكون الفوقية ابن أسيد بفتح الهمزة على الصحيح ابن جارية بالجيم الثقفي حليف بني زهرة وبنو زهرة من قريش (وهو مسلم) جملة حالية (فأرسلوا) أي قريش (في طلبه رجلين) هما خنيس بخاء معجمة مضمومة ونون مفتوحة آخره سين مهملة مصغرًا ابن جابر وأزهر بن عوف لزهريّ إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقالوا العهد الذي جعلت لنا) يوم الحديبية أن ترد إلينا من جاء منا وإن كان على دينك وسألوه أن يردّ إليهم أبا بصير كما وقع في الصلح (فدفعه) عليه السلام (إلى الرجلين) وفاء بالعهد (فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد

(4/451)


الرحلين) في رواية ابن سعد لخنيس بن جابر ولابن إسحاق للعامري (والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا فاستلّه الآخر) أي أخرج السيف صاحبه من غمده (فقال: أجل) نعم (والله إنه لجيد لقد جرّبت به ثم جرّبت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي به بدل منه أي بيده (فضربه) أبو بصير (حتى برد) بفتح الموحدة والراء أي مات (وفرّ الآخر) وعند ابن إسحاق وخرج المولى يشتد أي هربًا وهو مولى خنيس واسمه كوثر (حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو) بالعين المهملة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين رآه) (لقد رأى هذا ذعرًا) بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة خوفًا (فلما انتهى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال قتل) بضم القاف مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر قتل بفتح
القاف والتاء أي قتل أبو بصير (والله صاحبي وإني لمقتول) أي إن لم تردّوه عني (فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك) كان القياس أن يقول والله قد أوفى الله ذمتك لكن القسم محذوف والمذكور مؤكد له ولغير أبي ذر إليك ذمتك (قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (ويل أمه) برفع اللام في رواية أبي ذر خبر مبتدأ أي هو ويل لأمه وقطع همزة أمه وتشديد ميمها مكسورة وفي نسخة ويل أمه بحذف الهمزة تخفيفًا، وفي أخرى ويل أمه بنصب اللام على أنه مفعول مطلق. قال الجوهري: وإذا أضفته فليس فيه إلا النصب وفي اليونينية ويل أمه بكسر اللام وقطع الهمزة. قال ابن مالك تبعًا للخليل: وي كلمة تعجب وهي من أسماء الأفعال واللام بعدها مكسورة ويجوز ضمها إتباعًا للهمزة وحذف الهمزة تخفيفًا. وقال الفراء أصل قولهم ويل فلان وي لفلان أي حزن له فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها وأعربوها (مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين بالنصب على التمييز أو الحال مثل لله درّه فارسًا ولأبي ذر مسعر بالرفع أي هو مسعر وحرب مجرور بالإضافة وأصل ويل دعاء عليه واستعمل هنا للتعجب من إقدامه في الحرب والإيقاد لنارها وسرعة النهوض لها (لو كان له أحد) ينصره لإسعار الحرب لأثار الفتنة وأفسد الصلح، (فلما سمع) أبو بصير (ذلك عرف أنه) عليه السلام (سيردّه إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر) بكسر السين المهملة وسكون التحتية وبعدها فاء أي ساحله في موضع يسمى العيص بكسر العين المهملة وسكون التحتية آخره صاد مهملة على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام.
(قال وينفلت) بالفاء والمثناة الفوقية أي ويتخلص (منهم أبو جندل بن سهيل) أي من أبيه وأهله من مكة وعبّر بصيغة الاستقبال إشارة إلى إرادة مشاهدة الحال على حدّ قوله تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا} [الروم: 48] وفي رواية أبي الأسود عن عروة وانفلت أبو جندل في سبعين راكبًا مسلمين (فلحق بأبي بصير) بسيف البحر (فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة) بكسر العين جماعة ولا واحد لها من لفظها وهي تطلق على الأربعين فما دونها، لكن عند ابن إسحاق أنهم بلغوا نحوًا من سبعين بل جزم به عروة في المغازي وزاد وكرهوا أن يقدموا المدينة في مدة الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين وسمى الواقدي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة. (فوالله ما يسمعون بعير) بخبر عير بكسر العين قافلة (خرجت) من مكة (لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها) وقفوا لها في طريقها بالعرض وذلك كناية عن منعهم لها من المسير، (فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش) أبا سفيان بن حرب (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تناشده بالله والرحم) تقول له سألتك بالله وبحق القرابة ولأبي ذر تناشده الله والرحم (لما) بالتشديد أي ألا (أرسل) إلى أبي بصير وأصحابه بالامتناع عن إيذاء قريش (فمن أتاه) منهم مسلمًا (فهو آمن) من الرد إلى قريش (فأرسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم) زاد في رواية أبي الأسود فقدموا عليه، وفيها: فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خير مما كرهوا

(4/452)


(فأنزل الله تعالى {وهو الذي كفّ أيديهم عنكم}) أي أيدي كفار مكة ({وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم
عليهم}) [الفتح: 24] أي أظهركم عليهم (حتى بلغ الحمية حمية الجاهلية) أي التي تمنع الإذعان للحق وسقط لأبي ذر قوله: {ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} وقوله: الحمية من قوله حتى بلغ الحمية (وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبيّ الله، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت) وظاهر قوله فأنزل الله {وهو الذي كفّ أيديهم} أنها نزلت في شأن أبي بصير وفيه نظر والمشهور أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا المسلمين غرّة فطفروا بهم فعفا عنهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنزلت. رواه مسلم وغيره زاد أبو ذر عن المستملي.
قال أبو عبد الله البخاري مفسرًا لبعض غريب في بعض الآية من المجاز لأبي عبيدة معرة مفعلة من العرّ بضم العين وتشديد الراء الجرب بالجيم يعني أن المعرة مشتقة من عرّه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه والعر هو الجرب. قال الجوهري: العر بالفتح الجرب وبالضم قروح مثل القوباء تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها يسيل منها مثل الماء الأصفر فتكوى الصحاح لئلا تعديها المراض.
تزيلوا: انمازوا أي تميز بعضهم وقوله: انمازوا ليس في الفرع وأصله وحميت القوم منعتهم من حصول الشر والأذى إليهم ومصدره حماية على وزن فعالة بالكسر وأحميت الحمى بكسر الحاء وفتح الميم مقصورًا جعلته حمى لا يدخل فيه ولا يقرب منه وهو بضم الياء وفتح الخاء مبنيًّا للمفعول، وأحميت الحديد في النار فهو محمي وأحميت الرجل إذا أغضبته ومصدره إحماء بكسر الهمزة وسكون الحاء المهملة.
2733 - وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: "قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ. وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لاَ يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ -قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ. وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَ الأُخْرَى أَبُو جَهْمٍ. فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] وَالْعَقِبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللاَّئِي هَاجَرْنَ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا. وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِيَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِي الْمُدَّةِ، فَكَتَبَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
(وقال عقيل) بضم العين فيما تقدم موصولاً في الشروط (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال عروة) بن الزبير (فأخبرتني عائشة) -رضي الله عنها- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يمتحنهن) أي يختبر المهاجرات بالحلف والنظر في الإمارات.
قال الزهري فيما وصله ابن مردويه في تفسيره: (وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى أن يردّوا إلى المشركين ما أنففوا على من هاجر من أزواجهم) أي من الأصدقة (وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعِصَم الكوافر أن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (طلق امرأتين قريبة) بضم القاف وفتح الراء وبعد التحتية موحدة وللكشميهني قريبة بفتح القاف وكسر الراء (بنت أبي أمية وابنة جرول) بفتح الجيم وسكون الراء أم عبد الله بن عمر (الخزاعي) بالخاء المضمومة والزاي المعجمتين (فتزوّج قريبة) وللحموي والمستملي قريبة بضمّ القاف (معاوية بن أبي سفيان وتزوّج الأخرى أبو جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء عامر بن حذيفة الأموي (فلما أبى الكفار أن يقرّوا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم) المأمور به في قوله تعالى: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} [الممتحنة: 20] أي وطالبوا بما أنفقتم من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار وليطالبوا بما أنفقوا من مهور أزواجهن اللاتي هاجرن إلى المسلمين (أنزل الله تعالى {وإن فاتكم}) وإن سبقكم وانفلت منكم مرتدًّا ({شيء}) أحد ({من أزواجكم}) وإيقاع شيء موقع أحد للتحقير والمبالغة في التعميم أي شيء من مهورهن ({إلى الكفار فعاقبتم} [الممتحنة: 11] والعقب) بفتح العين وسكون القاف في اليونينية وقد تفتح هو (ما يؤدي المسلمون) من المهر (إلى من هاجرت امرأته) المسلمة (من الكفار) إلى المسلمين (فأمر) الله تعالى (أن يعطى) بضم الياء مبنيًّا للمفعول (من ذهب له زوج من المسلمين) إلى الكفار مرتدة مثل (ما أنفق) عليها من المهر مفعول ثانٍ ليعطى (من صداق نساء الكفار) الجار والمجرور متعلق بيعطى (اللاتي) أسلمن و (هاجرن) إلى المسلمين إذا تزوّجن ولا يعطى الزوج الكافر شيئًا (وما نعلم أحدًا) ولأبي ذر: وما نعلم أن أحدًا (من المهاجرات ارتدّت بعد إيمانها).
قال الزهري: (وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد) بفتح الهمزة (الثففي) بالمثلثة فالقاف فالفاء وهذا من مرسل الزهري بخلافه في رواية معمر فإنه موصول إلى المسور (قدم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (مؤمنًا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من منى قال الحافظ ابن حجر وهو تصحيف (مهاجرًا)

(4/453)


حال من الأحوال المترادفة أو المتداخلة (في المدة) التي وقع الصلح عليها (فكتب الأخنس) بهمزة مفتوحة فخاء معجمة ساكنة وبعد النون المفتوحة سين مهملة (ابن شريق) بشين معجمة مفتوحة فراء مكسورة وبعد التحتية الساكنة قاف (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأله أبا بصير) أن يردّه إليهم وفاء بالعهد (فذكر الحديث) الى آخره.
وفي الرواية السابقة فأرسلوا في طلبه رجلين وقد سماهما ابن سعد في طبقاته خنيس بمعجمة ونون مصغرًا ابن جابر ومولى له يقال له كوثر، وقال ابن إسحاق: فكتب الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتابًا وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه ببكرين انتهى.
قال في الفتح: والأخنس من ثقيف رهط أبي بصير وأزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير فلكلٍّ منهما المطالبة بردّه.

16 - باب الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ -رضي الله عنهما-: إِذَا أَجَّلَهُ عن الْقَرْضِ جَازَ
(باب الشروط في القرض. وقال ابن عمر) بن الخطاب (وعطاء) هو ابن أبي رباح (-رضي الله عنهما- إذا أجله) إلى أجل معلوم (في القرض جاز) أي التأجيل أي صح القرض بشرطه وهذا قد سبق معناه في باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى.
2734 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارِ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى".
(وقال الليث) بن سعد الإمام فيما وصله في باب التجارة في البحر من رواية أبي ذر عن المستملي فقال: حدّثني عبد الله بن صالح قال حدّثني الليث قال: (حدّثني) بالإفراد (جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل بن حسنة القرشي (عن عبد الرحمن بن هرمز) الأعرج (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (أنه ذكر رجلاً سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فدفعها) المسلف (إليه) أي المستلف (إلى أجل مسمى) معلوم والذي أسلم هو النجاشي كما سماه في مسند الصحابة الذين نزلوا مصر لمحمد بن الربيع الجيزيّ بإسناد له فيه مجهول من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا.
والحديث سبق تامًّا في باب الكفالة في القرض، وهذا الباب جميعه ثابت في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي ساقط لغيرهما وقال في الفتح: إنه ساقط للنسفي لكن زاد في الترجمة التي تليه فقال: باب الشروط في القرض والمكاتب إلخ ... وفي الفرع كأصله علامة تأخير الحديث عن الأثر.

17 - باب الْمُكَاتَبِ، وَمَا لاَ يَحِلُّ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- فِي الْمُكَاتَبِ: شُرُوطُهُمْ بَيْنَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -أَوْ عُمَرُ-: كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ عَنْ كِلَيْهِمَا، عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ.
(باب) حكم (المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله) أي حكم كتاب الله وهو أعم من أن يكون نصًّا أو استنباطًا (وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-) مما وصله سفيان الثوري في كتاب الفرائض له من طريق مجاهد عن جابر (في المكاتب شروطهم) أي شروط المكاتبين
وساداتهم (بينهم) معتبرة، (وقال ابن عمر أو) أبوه (عمر) بن الخطاب كذا وقع بالشك ولم يقل في رواية النسفيّ أو عمر (-رضي الله عنهما- كل شرط خالف كتاب الله) أي حكم كتاب الله (فهو باطل وإن اشترط مائة شرط. وقال أبو عبد الله) البخاري: (يقال عن كليهما عن عمر وابن عمر) كذا في رواية كريمة وسقط قوله: وقال أبو عبد الله إلى آخره عند أبي ذر.
2735 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ".
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن يحيى) بن سعيد الأنصاري (عن عمرة) بنت عبد الرحمن الأنصارية (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: أتتها بريرة تسألها) أن تعينها (في كتابتها) وفي رواية عروة عن عائشة تستعينها في كتابتها (فقالت) عائشة لها (إن شئت أعطيت أهلك) ثمنك وأعتقتك (ويكون الولاء) عليك (لي) فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم (فلما جاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لعائشة (ذكرته ذلك) بتخفيف كاف ذكرته ولأبي ذر ذكرته بتشديدها وفتح الراء وسكون الفوقية وفي نسخة بسكون الراء وضم الفوقية (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ابتاعيها) بهمزة وصل (فأعتقيها) بهمزة قطع (فإنما الولاء لمن أعتق) لا غيره (ثم قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المنبر) خطيبًا (فقال: ما بال) ما شأن (أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله) أي ليست في حكم الله الذي كتبه على عباده وشرعه لهم وليس المراد به خصوص القرآن لأن كون الولاء للمعتق غير منصوص في القرآن، ولكن الكتاب أمر بطاعة الرسول واتباع حكمه وقد حكم

(4/454)


بأن الولاء لمن أعتق (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط) التقييد بالمائة للتأكيد لأن العموم في قوله: من اشترط دال على بطلان جميع الشروط المذكورة فلو زادت الشروط على المائة كان الحكم كذلك لما دلّت عليه الصيغة. وهذا الحديث قد سبق غير مرة.

18 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاِشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِقْرَارِ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ. وَإِذَا قَالَ مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَدْخِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهْوَ
عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ رَجُلاً بَاعَ طَعَامًا. قَالَ: إِنْ لَمْ آتِكَ الأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ، فَلَمْ يَجِئْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْتَ، فَقَضَى عَلَيْهِ.
(باب) بيان (ما يجوز من الاشتراط والثنيا) بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتية مقصورًا الاستثناء (في الإقرار و) بيان (الشروط التي يتعارفها) ولأبي ذر عن الكشميهني يتعارفه (الناس بينهم) كشرط نقل المبيع من مكان البائع فإنه جائز لأنه تصريح بمقتضى العقد أو شرط قطع الثمار أو تبقيتها بعد الصلاح، أو شرط أن يعمل فيه البائع عملاً معلومًا كأن باع ثوبًا بشرط أن يخيطه في أضعف الأقوال وهو في المعنى بيع وإجارة يوزع المسمى عليهما باعتبار القيمة، وقيل يبطل الشرط ويصح البيع بما يقابل المبيع من المسمى والأصح بطلانهما لاشتمال البيع على شرط عمل فيما لم يملكه بعد (وإذا قال) لفلان عليّ (مائة إلا واحدة أو اثنتين) بكسر المثلثة وهذا استثناء قليل من كثير لا خلاف فيه فيصحّ ويلزمه في قوله إلاّ واحدة تسعة وتسعون درهمًا وفي قوله الاثنتين ثمانية وتسعون.
(وقال ابن عون) بفتح العين المهملة وبعد الواو الساكنة نون عبد الله بن أرطبان البصري مما وصله سعيد بن منصور عن هشيم عنه (عن ابن سيرين) محمد (قال رجل) ولأبي ذر عن الكشميهني قال الرجل بالتعريف (لكريه) بفتح الكاف وكسر الراء وتشديد التحتية بوزن فعيل المكاري، وقال الجوهري: يطلق على المكري وعلى المكتري أيضًا (أدخل) بهمزة مفتوحة فدال مهملة ساكنة فحاء معجمة مكسورة أمر من الإدخال، ولأبي ذر عن الكشميهني: ارحل بهمزة مكسورة فراء ساكنة فحاء مهملة مفتوحة (ركابك) بكسر الراء منصوب بأدخل الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة لا واحد لها من لفظها أي أدخلها فناءك لأرحل معك يوم كذا وكذا (فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج) أي لم يرحل معه (فقال شريح) القاضي: (من شرط على نفسه) شيئًا حال كونه (طائعًا) مختارًا (غير مكره) عليه (فهو) أي الشرط الذي شرطه (عليه) أي يلزمه، وقال الجمهور: هي عدة فلا يلزم الوفاء بها.
(وقال أيوب) السختياني مما وصله سعيد بن منصور (عن ابن سيرين) محمد (أن رجلاً باع طعامًا) لآخر (وقال) المشتري للبائع (إن لم آتك الأربعاء) بكسر الموحدة أي يوم الأربعاء (فليس بيني وبينك بيع فلم يجيء) أي المشتري، (فقال شريح) القاضي: (للمشتري) عند التحكيم إليه (أنت أخلفت) الميعاد (فقضى عليه) برفع البيع وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وقال مالك والشافعي: يصح البيع ويبطل الشرط.
2736 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ». [الحديث 2736 - طرفاه في: 6410، 7392].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن لله تسعة وتسعين اسمًا) بالنصب على التمييز وليس فيه نفي غيرها وقد نقل ابن العربي إن لله ألف اسم قال وهذا قليل فيها ولو كان البحر مدادًا لأسماء ربي لنفد البحر قبل أن تنفد أسماء ربي ولو جئنا بسبعة أبحر مثله مدادًا.
وفي الحديث "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" وإنما خص هذه لشهرتها. ولما كانت معرفة أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية إنما تعلم من طريق الوحي والسُّنّة، ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما لم يهتدِ إليه مبلغ علمنا ومنتهى عقولنا، وقد منعنا عن إطلاق ما لم يرد به التوقيف في ذلك وإن جوّزه العقل وحكم به القياس كان الخطأ في ذلك غيرهن والمخطئ فيه غير معذور والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضي، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعًا باشتباه تسعة

(4/455)


وتسعين في زلّة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وسبعين أو سبعة وتسعين أو تسعة وسبعين فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور أكده حسمًا للمادة وإرشادًا إلى الاحتياط بقوله:
(مائة) بالنصب على البدلية (إلا) اسمًا (واحدًا) ولأبي ذر إلا واحدة بالتأنيث ذهابًا إلى معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة (من أحصاها) علمًا وإيمانًا أو عدًّا لها حتى يستوفيها فلا يقتصر على بعضها بل يثني على الله ويدعوه بجميعها أو من عقلها وأحاط بمعانيها أو حفظها (دخل الجنة).
وبقية مباحث هذا الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في محالها، وكأن المؤلّف أورده ليستدل به على أن الكلام إنما يتم بآخره فإذا كان فيه استثناء أو شرط عمل به وأخذ ذلك من قوله مائة إلا واحدًا وهو في الاستثناء مسلم فلو قال في البيع: بعث من هذه الصبرة مائة صاع إلا صاعًا صح وعمل به وكان بائعًا لتسعة وتسعين صاعًا، وكذا في الإقرار كما مرّ ولا يؤخذ بأوّل كلامه ويلغى آخره، لكن في استنباط ذلك من هذا الحديث نظر لأن قوله: مائة إلا واحدًا إنما ذكر تأكيدًا لما تقدم فلم يستفد به فائدة مستأنفة حتى يستنبط منه هذا الحكم لحصول هذا المقصود بقوله تسعة وتسعين اسمًا. وأما الشروط فليست صورة الحديث قاله الوليّ بن العراقي.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في التوحيد والترمذي في الدعوات والنسائي في النعوت وابن ماجة في الدعاء.

19 - باب الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ
(باب الشروط في الوقف).
2737 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَنْبَأَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ. وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، ولاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ". قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: "غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي البغلاني قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري) قال: (حدّثنا ابن عون) بفتح المهملة وبالنون عبد الله البصري (قال: أنبأني) بالإفراد أي أخبرني والإنباء يطلق على الإجازة أيضًا كما عرف في موضعه (نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن) أباه (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستأمره) أي يستشيره (فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر) تسمى ثمغ بفتح المثلثة وسكون الميم وبالغين المعجمة (لم أصب مالاّ قطّ أنفس) أي أجود (عندي منه فما تأمرني به) أن أفعل فيها (قال) عليه السلام:
(إن شئت حبست) بتشديد الموحدة أي وقفت (أصلها وتصدقت بها) (قال: فتصدّق بها عمر أنه لا يباع) أصلها (ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها على الفقراء وفي القربى) القرابة في الرحم (وفي) فك (الرقاب) وهم المكاتبون بأن يدفع إليهم شيء من الوقف تفك به رقابهم (وفي سبيل الله) منقطع الحاج ومنقطع الغزاة (وابن السبيل) الذي له مال في بلدة لا يصل إليها وهو فقير (والضيف) من عطف العام على الخاص (لا جناح) لا إثم (على من وليها) ولي التحدّث على تلك الأرض (أن يأكل منها) من ريعها (بالمعروف) بحسب ما يحتمل ريع الوقف على الوجه المعتاد (ويطعم) بالنصب عطفًا على المنصوب بضم الياء من الإطعام بأن يطعم غيره حال كونه (غير متموّل. قال) ابن عون (فحدّثت به) بهذا الحديث (ابن سيرين) محمدًا (فقال غير متأثل) بضم الميم وفتح الفوقية وبعد الهمزة المفتوحة مثلثة مشدّدة مكسورة فلام أي جامع (مالاً) وقول الزركشي مالاً نصب على التمييز. قال الإمام بدر الدين الدماميني: إنه خطأ وإنما نصب على أنه مفعول به أي لمتأثل.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الوصايا وكذا مسلم وأخرجه النسائي في الأحباس والله تعالى أعلم.

(4/456)