شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الأيْمَانِ وَالنُّذُورِ
- باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (الآية [المائدة: 89]
/ 1 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ
يَحْنَثُ فِى يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ
كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَقَالَ: لا أَحْلِفُ عَلَى
يَمِينٍ، فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا
أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى.
/ 2 - وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ:
قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ،
لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ
مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ
غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ) .
/ 3 - وفيه: أَبُو موسى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه
السَّلام، فِى رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ
أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ، لا أَحْمِلُكُمْ
وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ، قَالَ: ثُمَّ
لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَلْبَثَ، ثُمَّ أُتِىَ
بِثَلاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَحَمَلَنَا عَلَيْهَا،
فَلَمَّا انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: - أَوْ قَالَ بَعْضُنَا -
وَاللَّهِ، لا يُبَارَكُ لَنَا أَتَيْنَا النَّبِىَّ (صلى
الله عليه وسلم) نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لا
يَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا، فَارْجِعُوا بِنَا إِلَى
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَنُذَكِّرُهُ، فَأَتَيْنَاهُ،
فَقَالَ: (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ
حَمَلَكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لا
أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
(6/88)
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا
كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ،
أَوْ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ
يَمِينِى) . / 4 - وفيه: هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ:
هَذَا مَا حَدَّثَنَاه أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ
السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ لأنْ يَلِجَّ
أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِى أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِىَ كَفَّارَتَهُ الَّتِى
افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . / 5 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنِ
اسْتَلَجَّ فِى أَهْلِهِ بِيَمِينٍ، هُوَ أَعْظَمُ
إِثْمًا، لِيَبَرَّ) ، يَعْنِى الْكَفَّارَةَ. (ليبر) ،
يعنى الكفارة، للنسفى، وكذا عند ابن الفاسى. قال المؤلف:
حض النبى - عليه السلام - أمته على الكفارة إذا كان
إتيانها خيرًا من التمادى على اليمين، وأقسم عليه السلام
أنه كذلك يفعل هو، ألا ترى أنه حلف ألا يحمل الأشعريين حين
لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فلما أتى بالإبل حملهم عليها،
وأقسم أيضًا أن التمادى على اليمين والاستلجاج فيها أشد
إثمًا من إعطاء الكفارة. والاستلجاج فى أهله وهو أن يحلف
ألا ينيلها خيرًا، أو لا يجامعها، أو لا يأذن لها فى زيارة
قرابة أو مسير إلى المسجد، فتماديه فى هذه اليمين وبره
فيها آثم له عند الله من إثمه أن لا يكفر يمينه؛ لأن من
فعل ذلك دخل فى قوله: تألى ألا يفعل خيرًا، وهذا منهى عنه،
وقد جاء مصداق هذه الأحاديث فى كتاب الله - تعالى - قال
(6/89)
تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن
تبروا وتتقوا (الآية. قال أهل التفسير: نزلت هذه الآية فى
الرجل يحلف أن لا يبر ولا يصل قرابته ورحمه، ولا يصلح بين
اثنين، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس.
والعرضة فى كلام العرب: القوة والشدة، يقال: هذا الأمر
عرضة لك أى: قوة وشدة على أسبابك، فمعناه على هذا: لا
تجعلوا يمينكم قوة لكم فى ترك فعل الخير. وأما قوله فى
حديث أبى هريرة: (ليست تغنى الكفارة) . هكذا رواه جماعة،
وروى أبو الحسن بن القابسى (ليبر، يعنى: الكفارة) وكذلك
رواه النسفى، وهو الصواب، ومن روى: ليس تغنى الكفارة فلا
معنى له؛ لأن الكفارة تغنى غناءً شديدًا، وقد جعلها الله
تحلة الأيمان، ومعنى قوله: (ليبر) أى ليأت البر، ثم فسر
ذلك البر ما هو بقوله: (يعنى الكفارة) خوفًا من أن يظن أنه
من إبرار القسم والتمادى على اليمين، وهذا الحديث يرد قول
مسروق وعكرمة وسعيد بن جبير، فإنهم ذهبوا إلى أنه يفعل
الذى هو خير، ولا كفارة عليه، وقولهم خلاف الأحاديث، فلا
معنى له. قال المهلب: وقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله
باللغو فى أيمانكم (الآية يدل أن الله لا يعذب إلا على ما
كسبت القلوب بالقصد والعمل من الجوارح، لقوله: (ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (وبقوله عليه السلام: (الأعمال
بالنيات) وسيأتى تفسير وجوه اللغو فى بابه - إن شاء الله.
(6/90)
وقوله: (غُر الُذرى) يعنى بيض الأسنمة،
والأغر: الأبيض فى حُسن، ومن ذلك قيل للثنايا إذا كانت
بيضًا حسانًا: هن غُر، وذروة كل شىء أعلاه.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (وَايْمُ اللَّهِ
/ 6 - فيه: ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ
زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِى إِمْرَتِهِ، فَقَامَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ
تَطْعَنُونَ فِى إِمْرَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ
فِى إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ
كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ
النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ) . اختلف أهل العلم بلسان العرب
فى معنى (ايم الله) فقال أبو القاسم الزجاجى: ايم الله
وايمن الله ومَ الله كل هذه لغات فيها، واشتقاقها عند
سيبويه من اليمن والبركة، وألفها عنده ألف وصل، واستدل على
ذلك بقول بعضهم وايمن الله بكسر الألف، ولو كانت ألف قطع
لم تكسر، وسقوطها مع لام الابتداء قال الشاعر: وقال فريق
ليمن الله ما ندرى وإنما التقدير لأيمن الله
(6/91)
وقال الفراء: ألفها ألف قطع، وهى جمع يمين
عنده، ومعنى قولهم: يمين الله أى يمين الحالف بالله؛ لأن
الله لا يجوز أن يوصف بأنه يحلف بيمين، وإنما هذه من صفات
المخلوقين، وروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يحلفان
بايم الله، ورأى الحلف بها الحسن البصرى وإبراهيم النخعى،
وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أن ايم الله عنده يمين. وقال
الطحاوى: (ايم الله) يمين عند أصحابنا، وهو قول مالك، وقال
الشافعى: إن لم يرد بأيم الله يمينًا فليست بيمين، وقال
إسحاق بن راهويه. إذا أراد بها يمينًا كانت يمينًا
بالإرادة وعقد القلب.
3 - باب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِىِّ عليه السَّلام؟
قَالَ سَعْدٌ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ) . وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام:
لاهَا اللَّهِ، ويُقَالُ: وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ
وَتَاللَّهِ. / 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ
يَمِينُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا،
وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . / 8 - وفيه: جَابِرِ بْنِ
سَمُرَةَ، وأَبُو هُريرة، قَالَ عليه السَّلام: (إِذَا
هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ
كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى
بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ
اللَّهِ) .
(6/92)
/ 9 - وفيه: عَائِشَةَ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ
وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَبَكَيْتُمْ
كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلا) . / 10 - وفيه:
عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ
عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، لأنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ
شَىْءٍ إِلا نَفْسِى، فَقَالَ عليه السَّلام: (لا،
وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ
إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ
الآنَ، وَاللَّهِ لأنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى،
فَقَالَ عليه السَّلام: (الآنَ يَا عُمَرُ) . / 11 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أنَّ النَّبِىّ،
عليه السَّلام، قَالَ: (أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ،
لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا
غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ، فَرَدٌّ عَلَيْكَ. . . .) ،
الحديث. / 12 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ
عليه السَّلام: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ
وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَمِّى
تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ
خَابُوا وَخَسِرُوا) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ:
(وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ) . /
13 - وفيه: أَبُو حُمَيْد، أَنَّ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، اسْتَعْمَلَ عَامِلا، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ. . .
. الحديث، فَقَالَ عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسى
بِيَدِهِ، لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا. . . .
.) الحديث. / 14 - وفيه: أَبُو ذَرّ، انْتَهَيْتُ إِلى
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ،
وَهُوَ يَقُولُ: (هُمُ الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ)
، مرتين، يعنى الأكثرين. . . . . الحديث، إِلا مَنْ قَالَ:
(هَكَذَا وَهَكَذَا) .
(6/93)
/ 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ سُلَيْمَانُ:
لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً،
كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ، يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَايْمُ
الَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ
شَاءَ اللَّهُ؛ لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ
فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) . / 16 - وفيه: الْبَرَاء،
أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، سَرَقَةٌ مِنْ
حَرِيرٍ، فَقَالَ عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسِى
بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ من
هذا) . / 17 - وفيه: عَائِشَةَ، إِنَّ هِنْدَ ابِنة
عُتْبَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى
ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ، شَكَّ
يَحْيَى - أَحَبَّ إِلَىَّ من أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ
أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ
الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبَّ
إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ -
أَوْ خِبَائِكَ - قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(وَأَيْضًا، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) الحديث.
/ 18 - وفيه: ابْن مَسْعُود،، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا
رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
(أَفَتَرْضُوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)
؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (فَوَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ،
إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)
. / 19 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) للذى قرأ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (:
(وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ
الْقُرْآنِ) . / 20 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام:
(أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى
بِيَدِهِ، إِنِّى لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِى إِذَا مَا
رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) . / 21 - وفيه: أَنَس، أَنَّ
امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) مَعَهَا أَوْلاَدٌهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِى
نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ) ،
ثَلاثًا.
(6/94)
قال المؤلف: أما قوله: (والذى نفسى بيده) و
(لا ومقلب القلوب) فهذه أيمان النبى - عليه السلام -
فالسنة أن يحلف بهما وبما شابههما من أسماء الله وصفاته -
تعالى - وقد قال عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله
أو ليصمت) . وأجمع العلماء أنه من حلف فقال: والله أو
بالله أو تالله أن عليه الكفارة؛ لأن الواو والباء والتاء
هى حروف القسم عند العرب، والواو والباء يدخلان على كل
محلوف به، ولا تدخل الفاء إلا على الله وحده. وقولهم: (لا
ها الله) أصله لا والله، حذف حرف القسم وعوض منه (ها) التى
للتنبيه، فصار واو القسم خافضًا مضمرًا مثله مظهرًا، غير
أنه لا يجوز أن يظهر مع ما هو عوض منه. وأجمعوا أنه من حلف
باسم من أسماء الله - تعالى - أن عليه الكفارة واختلفوا
فيمن حلف بصفاته، وسيأتى ذلك فى بابه - إن شاء الله. واحتج
من أوجب الكفارة فى الأيمان بالصفات كلها بحديث ابن عمر
(أن النبى - عليه السلام - كانت يمينه لا ومقلب القلوب) ،
وصفاته تعالى كلها منه، وليس شىء مخلوق. وقوله: (خباء أو
أخباء) : فالمعروف فى جمع خباء أخبية، وكذلك تجمع فعال
وفعيل فى القليل على أفعلة، كمثال وأمثلة، وسقاء وأسقية،
ورغيف وأرغفة، وقد جمع فعيل على أفعال كيتيم وأيتام، وشريف
وأشراف، ويمين وأيمان، وهذا قياس خباء وأخباء.
(6/95)
فإن قال قائل: بم يتعلق القسم فى قوله عليه
السلام فى حديث هند (وأيضًا والذى نفسى بيده) ؟ قيل: قد
فسر المعنى معمر فى روايته عن الزهرى قال معمر: (لتزدادن)
. قال المؤلف: يعنى لتزدادن محبة فيما ذكرت إذا قوى إسلامك
وتحكم الإيمان فى قلبك، كما قال عليه السلام: (والله لا
يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ومن الناس
أجمعين) يريد لا يبلغ حقيقة الإيمان وأعلى درجاته.
4 - باب لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
/ 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
أَدْرَكَ عُمَرَ، وَهُوَ يَسِيرُ فِى رَكْبٍ فَحْلِفُ
بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ
تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا،
فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) . قَالَ عُمَرُ:
فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، ذَاكِرًا وَلا آثِرًا. قَالَ
مُجَاهِدٌ: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) [الأحقاف: 4]
يَأْثُرُ عِلْمًا. / 23 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه
السَّلام: (لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) . / 24 - وفيه:
أَبُو مُوسَى، (وَاللَّهِ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ،
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. . . .) الحديث. قال
المهلب: كانت العرب فى الجاهلية تحلف بآبائها وآلهتها،
فأراد الله أن ينسخ من قلوبها وألسنتها ذكر كل شىء سواه،
ويبقى
(6/96)
ذكره تعالى، لأنه الحق المعبود، فالسنة
اليمين بالله، كما رواه أبو موسى وغيره عن النبى، والحلف
بالمخلوقات فى حكم الحلف بالآباء، لا يجوز عند الفقهاء شىء
من ذلك. قال الطبرى فى حديث عمر: إن الأيمان لا تصلح بغير
الله - تعالى - كائنًا ما كان، وأن من قال والكعبة أو
وجبريل وميكائيل أو آدم وحوا ونوح أو قال: وعذاب الله، أو
ثواب الله أنه قد قال من القول هجرًا، وتقدم على ما نهى
النبى - عليه السلام - عنه، ولزمه الاستغفار من قوله ذلك
دون الكفارة، لثبوت الحجة أنه لا كفارة على الحالف بذلك.
قال غيره: فإن قال قائل: فأين ما فى القرآن من الإقسام
بالمخلوقات نحو قوله) والطور وكتاب مسطور () والتين
والزيتون () والسماء والطارق (وما كان مثله؟ . قيل: المعنى
فيه عند المفسرين: ورب السماء والطارق، ورب الطور، ورب
النجم، فعلى هذا القول هى إقسام بالله - تعالى - لا بغيره.
قال ابن المنذر: فالجواب أن الله أقسم بما شاء من خلقه، ثم
بين الرسول ما أراد الله من عباده أنه لا يجوز لأحد أن
يحلف بغيره، لقوله: (من كان حالفًا فليحلف بالله) . قال
الشعبى: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغى
له أن يقسم إلا بالخالق، والذى نفسى بيده لأن أقسم بالله
فأحنث أحب إلى من أن أقسم بغيره فأبر. وذكر ابن القصار
مثله عن ابن عمر.
(6/97)
وقال قطرب: إنما أقسم الله بهذه الأشياء
ليعجب منها المخلوقين، ويعرفهم قدرته فيها ليعظم شأنها
عندهم، ولدلالتها على خالقها، فلا يجوز لأحد أن يقسم بهذه
الأقسام وشبهها، لأجماع العلماء أنه من وجبت له يمين على
رجل أنه لا يحلف له إلا بالله، ولو حلف له بالنجم أو
بالسماء والطارق وقال: نويت رب ذلك، لم يكن عندهم يمينًا.
وقال ابن المنذر: من حلف بغير الله وهو عالم بالنهى فهو
عاص. قال: واختلف أهل العلم فى معنى نهى النبى عن الحلف
بغير الله، أهو عام فى الأيمان كلها، أو هو خاص فى بعضها؟
فقالت طائفة: الأيمان النهى عنها، هى الأيمان التى كان أهل
الجاهلية يحلفون بها تعظيما منهم لغير الله، كاليمين
باللات والعزى والآباء والكعبة والمسيح وبملل الشرك، فهذه
المنهى عنها ولا كفارة فيها، وأما ما كان من الأيمان مما
يئول الأمر فيه إلى تعظيم الله فهى غير تلك، وذلك كقول
الرجل: وحق النبى، وحق الإسلام، وكاليمين بالحج والعمرة
والصدقة والعتق وشبهه، فكل هذا من حقوق الله ومن تعظيمه،
وقال أبو عبيد: إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به
تعظيم الله والقربة إليه، ومن القربة إليه اليمين بالعتق
والمشى والهدى والصدقة. قال ابن المنذر: وقد مال إلى هذا
القول غير واحد ممن لقيناه، واستدل بعضهم بما روى عن أصحاب
النبى - عليه السلام - من إيجابهم على الحالف بالعتق وصدقة
المال والهدى ما أوجبوه
(6/98)
مع روايتهم هذه الأخبار التى فيها التغليظ
فى اليمين بغير الله، أن معنى النهى فى ذلك غير عام، إذ لو
كان عاما ما أوجبوا فيه من الكفارات ما أوجبوا، ولنهوا عن
ذلك. وقوله: (ذاكرًا) يعنى متكلمًا به، كقولك: ذكرت لفلان
حديثًا حسنا، وليس من الذكر الذى هو ضد النسيان. وقوله:
(ولا آثرًا) يقول: ولا مخبرًا عن غيرى أنه حلف به. وقال
الطبرى: ومنه حديث مأثور عن فلان، أى تحدث به عنه.
5 - باب لا يُحْلَفُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى وَلا
بِالطَّوَاغِيتِ
/ 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ
وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ
قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ، أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ)
. قال المهلب: كان أهل الجاهلية قد جرى على ألسنتهم الحلف
باللات والعزى، فلما أسلموا ربما جروا على عادتهم من ذلك
من غير قصد منهم فكان من حلف بذلك فكأنه قد راجع حاله إلى
حالة الشرك، وتشبه بهم فى تعظيمهم غير الله، فأمر النبى -
عليه السلام - من عرض له ذلك بتجديد ما أنساهم الشيطان أن
يقولوا: لا إله إلا الله، فهو كفارة له، إذ ذلك براءة من
اللات والعزى ومن كل ما يعبد من دون الله. قال الطبرى:
وقول ذلك واجب عليه مع إحداث التوبة،
(6/99)
والندم على ما قال من ذلك، والعزم على ألا
يعود، ولا يعظم غير الله، وقد روى أبو إسحاق السبيعى، عن
مصعب بن سعد، عن أبيه قال: (حلفت باللات والعزى، فقال
أصحابى: ما نراك قلت إلا هجرًا. فأتيت النبى فقلت: إن
العهد كان قريبًا فحلفت باللات والعزى. فقال: قل: لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل
شىء قدير، ثلاث مرات، وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوذ بالله
من الشيطان الرجيم، ولا تعد) . قال الطبرى: وفيه الإبانة
أن كل من أتى أمرًا يكرهه الله، ثم أتبعه من العمل بما
يرضاه الله ويحبه بخلافه، وندم عليه، وترك العود له، فإن
ذلك واضع عنه وزر عمله، وماح إثم خطيئته، وذلك كالقائل
يقول: كفر بالله إن فعل كذا، فالصواب له أن يندم على قوله
ندامة [.] على حلفه، وأن يحدث من قول الحق خلاف ما قال من
الباطل، وكذلك أعمال الجوارح، كالرجل يهم بركوب معصية، فإن
توبته ترك العزم عليه، والانصراف عن فعل ما هم به، وأن يهم
بعمل طاعة لله مكان همه بالمعصية، كما قال عليه السلام
لمعاذ فى وصيته: (إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها) .
قال غيره: وأما قوله عليه السلام: (من قال لصاحبه: تعالى
أقامرك، فليتصدق) فهو محمول عند الفقهاء على الندب لا على
الإيجاب، بدليل أنه من أراد أن يعصى الله ولم يفعل ذلك
فليس عليه صدقة ولا غيرها، وقد روى ابن عباس عن النبى -
عليه السلام - أنه قال: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له
حسنة) وروى أبو
(6/100)
هريرة عن النبى أنه قال: (من هم بسيئة فلم
يعملها لم تكتب عليه شىء) . واحتج ابن عباس لروايته بقول
الله - تعالى -) ولمن خاف مقام ربه جنتان (قال: هو العبد
يهم بالمعصية ثم يتركها من خوف الله - تعالى - وستأتى
زيادة فى معنى هذه الحديث فى آخر كتاب الاستئذان فى باب كل
لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومعنى قوله: (ومن قال
لصاحبه: تعال أقامرك) ، إن شاء الله. والطاغوت قد اختلف
السلف فى معناه، فقال جماعة: هو الشيطان. روى ذلك عن عمر
ومجاهد والشعبى وقتادة وجماعة. وقال آخرون: هو الساحر، روى
ذلك عن أبى العالية وابن سيرين وغيرهما. وقال آخرون: هو
الكاهن، روى ذلك عن جابر وسعيد بن جبير. قال الطبرى: وهو
عندى فعلوت من الطغيان، كالجبروت من التجبر، والجلبوت من
الجلب، قيل ذلك لكل من طغى على ربه، فعبد من دونه إنسانًا
كان ذلك الطاغى أو شيطانًا أو صنمًا.
6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّىْءِ وَإِنْ لَمْ
يُحَلَّفْ
/ 26 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ يَلْبَسُهُ،
فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِى بَاطِنِ كَفِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ
جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ: (إِنِّى
كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ
مِنْ دَاخِلٍ، فَرَمَى بِهِ) ، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ لا
أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) .
(6/101)
قال المهلب: إنما كان النبى يحلف على
تضاعيف كلامه وكثير من فتواه، متبرعًا بذلك لينسخ ما كانت
الجاهلية عليه من الحلف بآبائها وآلهتها من الأصنام
وغيرها، ليعرفهم ألا محلوف به إلا الله، وليتدربوا على ذلك
حتى ينسوا ما كانون عليه من الحلف بغير الله. وقوله: (لا
ألبسه أبدًا) أراد بذلك تأكيد الكراهية فى نفوس الناس
بيمينه؛ لئلا يتوهم الناس أنه كرهه لمعنى، فإن زال ذلك
المعنى لم يكن بلبسه بأس، وأكد بالحلف ألا يلبسه على جميع
وجوهه. وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالحلف على ما يحب المرء
تركه، أو على ما يحب فعله من سائر الأفعال.
7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإسْلامِ
وَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ بِاللاتِ
وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) ،
وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ. / 27 - وفيه: ثَابِتِ
بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإسْلامِ فَهُوَ
كَمَا قَالَ) ، قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ،
عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ
كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ
كَقَتْلِهِ) . قال المهلب: قوله: (فهو كما قال) يعنى هو
كاذب فى يمينه لا كافر؛ لأنه لا يخلو أن يعتقد الملة التى
حلف بها، فلا كفارة له إلا الرجوع إلى الإسلام، أو يكون
معتقدًا للإسلام بعد الحنث فهو كاذب فيما قاله، بمنزلة من
حلف يمين الغموس لا كفارة عليه،
(6/102)
ألا ترى قوله عليه السلام: (من حلف باللات
والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ، ولم ينسبه إلى الكفر.
قال ابن المنذر: وفسر ابن المبارك الكفر فى هذه الأحاديث
أن المراد به التغليظ وليس بالكفر، كما روى عن ابن عباس فى
قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون (أنه ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله،
وكذلك قال عطاء: كفر دون كفر، وفسق دون فسق وظلم دون ظلم،
وكما قال عليه السلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) أى
كفر بما أمر به ألا يقتل بعضهم بعضًا. قال غيره: والأمة
مجمعة أن من حلف باللات والعزى فلا كفارة عليه، فكذلك من
حلف بملة سوى الإسلام لا فرق بينهما، ومعنى الحديث عن
الحلف بما حلف من ذلك والزجر عنه. فإن ظن ظان أن فى هذا
الحديث دليلا على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقًا،
لاشتراطه فى هذا الحديث أن يحلف بذلك كاذبًا. قيل له: ليس
كما توهمت؛ لورود نهى رسول الله عن الحلف بغير الله نهيًا
مطلقًا، فاستوى الكاذب والصادق فى النهى، وقد تقدم معنى
هذا الحديث فى آخر كتاب الجنائز فى باب قاتل النفس، وستأتى
زيادة فى بيانه فى كتاب الأدب فى باب من كفر أخاه بغير
تأويل فهو كما قال - إن شاء الله. وقوله: (من قتل نفسه
بشىء عذب به فى نار جهنم) هو على الوعيد، والله - تعالى -
فيه بالخيار.
(6/103)
وقوله: (ولعن المؤمن كقتله) فيه تأويلان.
قال المهلب: وهو معنى قوله الطبرى: اللعن فى اللغة هو
الإبعاد. فمن لعن مؤمنًا فكأنه أخرجه من جماعة الإسلام،
فأفقدهم منافعه وتكثير عددهم، فكان كمن أفقدهم منافعه
بقتله، ويفسر هذا قوله للذى لعن ناقته: (انزل عنها فقد
أجيبت دعوتك) فسرحها ولم ينتفع بها أحد بعد ذلك، فأفقد
منافعها لما أجيبت دعوته، فكذلك يخشى أن تجاب دعوة اللاعن
فيهلك الملعون. والتأويل الآخر: أن الله حرم لعن المؤمن
كما حرم قتله فهما سواء فى التحريم، وهذا يقتضى تحذير لعن
المؤمنين والزجر عنه؛ لأن الله - تعالى - قال: (إنما
المؤمنون إخوة (فأكد حرمة الإسلام، وشبهها بإخوة النسب،
وكذلك معنى قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) يعنى فى
تحريم ذلك عليه - والله أعلم. فإن قيل: هذا التأويل يعارض
ما ثبت عن رسول الله أنه لعن جماعة من المؤمنين فلعن
المخنثين من الرجال، ولعن شارب الخمر، ولعن فيه عشرة، ولعن
المصورين، ولعن من غير تخوم الأرض، ولعن من انتمى إلى غير
مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ولعن من سب والديه،
وجماعة سواهم. قيل: لا تعارض فى شىء من ذلك، والمؤمن الذين
حرم رسول الله لعنهم هم غير من لعنهم، فنهى عن لعن من لم
يظهر الكبائر ولا استباح ركوب ما نهى الله عنه، وأمر
بموالاتهم وموآخاتهم فى الله والتودد إليهم، ولعن من خالف
أمره واستباح نهيه، وأمر
(6/104)
بإظهار النكير عليهم، وترك موالاتهم
والانبساط إليهم والرضا عن أفعالهم، فالحديثان مختلفان؛
فانتفى التعارض بحمد الله. واختلف العلماء فى الرجل يقول:
أكفر بالله أو أشرك بالله ثم يحنث، فقال مالك: لا كفارة
عليه، وليس بكافر ولا مشرك حتى يكون قلبه مضمرًا على الشرك
والكفر، وليستغفر الله، وبئس ما صنع. وهو قول عطاء ومحمد
بن على وقتادة، وبه قال الشافعى وأبو ثور وأبوعبيد. وقال
أبو حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى: من قال هو يهودى
أو نصرانى أو كفرت بالله أو أشركت بالله أو برئت من الله
أو من الإسلام؛ فهو يمين، وعليه الكفارة إن حنث؛ لأنه
تعظيم لله، فهو كاليمين بالله. وبه قال أحمد بن حنبل
وإسحاق. وممن رأى الكفارة على من قال هو يهودى أو نصرانى:
عبد الله بن عمر، وعائشة، والشعبى، والحسن، وطاوس،
والنخعى، والحكم. قال ابن المنذر: وقول من لم يرها يمينًا
أصح؛ لقول النبى - عليه السلام -: (من حلف باللات والعزى
فليقل: لا إله إلا الله) ولم يأمره بكفارة. قال ابن
القصار: وبقوله عليه السلام: (من حلف بملة غير الإسلام فهو
كما قال) ومعناه النهى عن مواقعة ذلك اللفظ والتحذير منه؛
لا أنه يكون كافرًا بالله بقول ذلك. قال ابن القصار: وإنما
أراد التغليظ فى هذه الأيمان حتى لا يجترئ عليها أحد.
وكذلك قال ابن
(6/105)
عباس وأبو هريرة والمسور، ثم تلاهم
التابعون فلم يوجبوا على من أقدم عليها الكفارة. قال: وأما
قولهم: إذا قال أنا يهودى فقد عظم الإسلام وأراد الامتناع
من الفعل، فالجواب أنهم يقولون: لو قال: وحق القرآن وحق
المصحف ثم حنث أنه لا كفارة عليه، وفى هذا من التعظيم لله
وللإسلام ما ليس لما ذكروه، فسقط قولهم، وأيضًا فإنه إذا
قال: هو يهودى، أو كفر بالله، فليس من طريق التعظيم، وإنما
هو من الجرأة والإقدام على المحرمات، كالغموس وسائر
الكبائر، وهى أعظم من أن يكون فيها كفارة.
8 - بَاب لا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَهَلْ
يَقُولُ: أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ
/ 28 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ،
عليه السَّلام، يَقُولُ: (إِنَّ ثَلاثَةً فِى بَنِى
إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ،
فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأبْرَصَ، فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ
بِىَ الْحِبَالُ فَلا بَلاغَ لِى إِلا بِاللَّهِ، ثُمَّ
بِكَ. . .) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قال المهلب: إنما أراد
البخارى أن يجيز (ما شاء الله ثم شئت) استدلالا بقوله عليه
السلام فى حديث أبى هريرة: (ولا بلاغ لى إلا بالله ثم بك)
وإنما لم يجز أن نقول: ما شاء الله وشئت؛ لأن الواو تشرك
المشيئتين جميعًا، وقد روى هذا المعنى عن النبى - عليه
السلام - أنه قال: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء
فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان) وإنما أجاز
دخول (ثم) مكان الواو؛ لأن مشيئة الله متقدمة على مشيئة
خلقه، قال تعالى: (ما تشاءون إلا أن يشاء الله (.
(6/106)
فهذا من الأدب، وذكر عبد الرزاق عن إبراهيم
النخعى أنه كان لا يرى بأسًا أن يقول: ما شاء الله ثم شئت.
وكان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، حتى يقول: ثم بك.
والحديث فى ذلك رواه محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد
الزبيرى، قال: حدثنا مسعر عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن
يسار، عن قتيلة امرأة من جهينة قالت: (جاء يهودى إلى النبى
- عليه السلام - فقال: إنكم تشركون وإنكم تجعلون لله ندا،
تقولون: والكعبة، وتقولون ما شاء وشئت، فأمرهم النبى -
عليه السلام - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب
الكعبة، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) ، وهذا
الحديث رأى البخارى ولم يكن من شرط كتابه، فترجم به
واستنبط معناه من حديث أبى هريرة - والله أعلم.
9 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ) [الأنعام: 109]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ
فِى الرُّؤْيَا، قَالَ: (لا تُقْسِمْ) . / 29 - فيه:
الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام،
بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. / 30 - وفيه: أُسَامَةَ، أَنَّ
ابِنْة للنَّبِىّ، عليه السَّلام، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ:
أَنَّ ابْنِى قَدِ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا، فَأَرْسَلَ
يَقْرَأُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا
أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى. . . .) الحديث.
فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا
مَعَهُ. الحديث.
(6/107)
/ 31 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه
السَّلام: (لا يَمُوتُ لأحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فتَمَسُّهُ النَّارُ إِلا
تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) . / 32 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ
وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام،
يَقُولُ: (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؟
كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لأبَرَّهُ، وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ
مُسْتَكْبِرٍ) . قال المؤلف: من روى (بإبرار المقسم) بفتح
السين، فمعناه بإبرار الإقسام؛ لأنه قد يأتى المصدر على
لفظ المفعول، كقوله: أدخلته مدخلا بمعنى إدخال، وأخرجته
مخرجًا بمعنى إخراج. وقال المهلب: قوله تعالى: (وأقسموا
بالله جهد أيمانهم (دليل على أن الحلف بالله - عز وجل -
أكبر الأيمان كلها؛ لأن الجهد شدة المشقة. اختلف العلماء
فى قول الرجل: أقسمت بالله، أو أقسمت ولم يقل بالله، فذهب
أبو حنيفة والثورى أنها أيمان، سواء أريد بها اليمين أم
لا. وقال مالك: (أقسم) لا تكون يميًا حتى يقول: أقسم بالله
أو ينوى بقوله: (أقسم) اليمين، فإذا لم ينوه فليست بيمين.
وروى مثله عن الحسن وعطاء وقتادة والزهرى. وقال الشافعى:
(أقسم) ليست بيمين سواء أراد بها اليمين أم لا، و (أقسم
بالله) يمين إن أراد بها اليمين. وروى عنه الربيع: إذا قال
أقسم، ولم يقل: بالله فهو كقوله: والله. وحجة الكوفيين
رواية من روى فى حديث أبى بكر: (أقسمت
(6/108)
عليك يا رسول الله لتحدثنى فقال النبى: لا
تقسم) واحتجوا بحديث البراء قال: (أمرنا النبى - عليه
السلام - بإبرار المقسم) قالوا: ولم يقل: بالله، وبحديث
أسامة (أن ابنة النبى أرسلت تقسم عليه) ولم يقل: بالله،
وبقوله عليه السلام: (لو أقسم على الله لأبره) ولم يأت فى
شىء من هذه الأحاديث ذكر اسم الله، قالوا: وقد جاء فى
القرآن ذكر الله مع القسم فى موضع، ولم يأت فى موضع آخر؛
اكتفاء بما دل عليه اللفظ، قال تعالى: (وأقسموا بالله
(فذكر اسمه، قال تعالى: (إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين (،
فحذف اسمه، فدل على أن أحد الموضعين يفيد ما أفاده الآخر.
وقال السيرافى: لا تكون (أقسم) إلا يمينًا؛ لدخول اللام فى
جوابها، ولو كانت غير يمين لما دخلت اللام فى الجواب؛ لأنك
لا تقول: ضربت لأفعلن، كما تقول: أقسمت لأفعلن. وحجة مالك
قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى)
ومن لم ينو اليمين فلا يمين له، وأيضًا فإن العادة جرت بأن
يحلف الناس على ضروب، فمنها اللغو يصرحون فيه باسم الله،
ثم لا تلزمهم الكفارة؛ لعدم قصدهم إلى الأيمان، فالموضع
الذى عدم فيه التصريح والقصد أولى ألا تجب فيه كفارة، قاله
ابن القصار قال: وقال أصحاب الشافعى:
(6/109)
اليمين تكون يمينًا لحرمة اللفظ، وإذا قال:
أقسمت، فلا لفظ هاهنا له حرمة، وكل ما احتج به الكوفيون
فهو حجة على الشافعى. قال ابن القصار: ويقال للشافعى: قال
الله - تعالى -: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم (فوصل القسم
باسمه تعالى، فكان يمينًا وقال فى موضع آخر: (إذا أقسموا
ليصرمنها مصبحين (فأطلق القسم ولم يقيده بشىء، فوجب أن
يبنى المطلق على المقيد، كالشهادة قرنت بالعدالة فى موضع،
وعريت فى موضع من ذكر العدالة، كالرقبة فى الكفارة، قيد فى
موضع مؤمنة، وأطلق فى موضع، فبنى المطلق على المقيد. قال
ابن المنذر: وأمر النبى - عليه السلام - بإبرار المقسم أمر
ندب لا أمر وجوب؛ لأن أبا بكر أقسم على النبى فلم يبر
قسمه، ولو كان ذلك واجبًا لم يشأ رجل أن يسأل آخر بأن يخرج
له من كل ما يملك، ويطلق زوجته، ثم يحلف على الإمام فى حد
أصابه أن يُسقط عنه؛ إلا تم له، وفى ذلك تعطيل الحدود وترك
الاقتصاص مما فيه القصاص، وإذا لم يجز ذلك كان معنى الحديث
الندب فيما يجوز الوقوف عنه دون ما لا يجوز تعطيله. وقال
المهلب: إبرار القسم إنما يستحب إذا لم يكن فى ذلك ضرر على
المحلوف عليه أو على جماعة أهل الدين؛ لأن الذى سكت عنه
النبى - عليه السلام - من بيان موضع الخطأ فى تعبير أبى
بكر، هو عائد على المسلمين بهم وغم؛ لأنه عبر قصة عثمان
بأنه
(6/110)
يخلع ثم يراجع الخلافة، فلو أخبره النبى
بخطئه لأخبر الناس بأنه يقتل ولا يرجع إلى الخلافة، فكان
يُدخل على الناس فتنة بقصة عثمان من قبل كونها، وكذلك لو
أقسم على رجل ليشربن الخمر ما وجب عليه إبرار قسمه، بل
الفرض عليه ألا يبره. واختلف الفقهاء إذا أقسم على الرجل
فحنثه، فروى عن ابن عمر أن الحالف يُكفر، وروى مثله عن
عطاء وقتادة، وهو قول أهل المدينة والعراق والأوزاعى.
وفيها قول ثان روى عن عائشة أم المؤمنين: (أن مولاة لها
أقسمت لها فى قديدة تأكلها فأحنثتها عائشة، فجعل النبى
تكفير اليمين على عائشة) قال ابن المنذر: وإسناده لا يثبت.
وفيها قول ثالث روى عن أبى هريرة وعبيد الله بن عبد الله
بن عتبة بن مسعود: أنهما لم يجعلا فى ذلك كفارة، قال عبيد
الله، ألا ترى أن أبا بكر قال للنبى فى الرؤيا: (أقسمت
عليك لتخبرنى بالذى أخطأت، فقال النبى: لا تقسم) قال: ولم
يبلغنا أنه أمره بالتكفير. قال ابن المنذر: ويقال للذى
قال: إن الكفارة تجب على المقسم عليه: ينبغى أن يوجب
الكفارة على النبى حين أقسم عليه أبو بكر فلم يخبره. وقال
أبو زيد الأنصارى: الجواظ: الكثير اللحم، المختال فى
مشيته، يقال: جاظ يجوظ جوظانا، وقال الأصمعى مثله، وأنشد
لرؤبة: وفى العين: يعلو به ذا العضل الجواظا
(6/111)
وفي العين: الجواظ: الأكول، ويقال: الفاجر،
والعتل: الأكول.
- باب إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ شَهِدْتُ
بِاللَّهِ
/ 33 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، سُئِلَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (قَرْنِى، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،
ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ
يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) . قَالَ
إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنَا -
وَنَحْنُ غِلْمَانٌ - أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ
وَالْعَهْدِ. قال المؤلف: إنما قصد البخارى من هذا الحديث
إلى قول إبراهيم: وكان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف
بالشهادة والعهد يريد: أشهد الله، وعلى عهد الله فدل نهيهم
عن الحلف بذلك أنهما يمينان مغلظان، ووجه النهى عنهما -
والله أعلم - أن قوله: أشهد بالله، يقتضى معنى العلم
بالقطع وعهد الله لا يقدر أحد على التزامه بما يجب فيه،
واختلف العلماء فى ذلك، فقال النخعى وهو قول أبى حنيفة
والثورى -: أشهد وأحلف وأعزم كلها أيمان تجب فيها الكفارة.
وقال ربيعة والأوزاعى: إذا قال: أشهد لا أفعل كذا ثم حنث،
فهى يمين. وقال مالك: (أشهد) لا تكون يمينا حتى يقول أشهد
(6/112)
بالله، وكذلك (أحلف) و (أعزم) إذا أراد
الله، وإن لم يرد ذلك فليست بأيمان. قال ابن خواز بنداد:
وضعف مالك (أعزم الله) وكأنه لم يره يمينًا إلا أن يريد به
اليمين؛ لأنه يكون على وجه الاستعانة، فيقول الرجل: أعزم
بالله وأصول بالله، كأنه يقول: أستعين بالله، ولا يجوز أن
يقال: إن قول الرجل: (أستعين بالله) تكون يمينًا. وقال
المزنى: قال الشافعى: (أشهد بالله) و (أعزم بالله) إن نوى
اليمين فيمين. وروى عنه الربيع: إن قال: (أشهد) و (أعزم)
ولم يقل: (بالله) فهو كقوله: والله، وإن قال: (أحلف) فلا
شىء عليه إلا أن ينوى اليمين. واحتج الكوفيون بقوله تعالى:
(والله يعلم إنك لرسوله (ثم قال: (اتخذوا أيمانهم جنة (فدل
على أن قول القائل: (أشهد) يمين؛ لأن هذا اللفظ عبارة عن
القسم بالله وإنما يحذف اسم الله اكتفاءً بما دل عليه
اللفظ. واحتج أصحاب مالك أن قولك: أشهد لأفعلن كذا ليس
بصريح يمين؛ لأنه يحتمل أن يريد أشهد عليك بشىء إن فعلت
كذا، وقد تقول: أشهد بالكعبة وبالنبى، فلا يكون يمينًا.
وأنكر أبو عبيد أن تكون (أشهد) يمينًا، وقال: (الحالف غير
الشاهد) ، قال: وهذا خارج من الكتاب والسنة ومن كلام
العرب. قال الطحاوى: وقوله عليه السلام: (ثم يجىء قوم تسبق
شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) إنما أراد أنهم يكثرون
الأيمان على كل
(6/113)
شىء حتى تصير لهم عادة، فيحلف أحدهم حيث لا
يراد منه اليمين وقبل أن يُستحلف، يدل على ذلك قول النخعى:
وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة العهد. يعنى
أن نحلف بالشهادة بالله وعلى عهد الله، كما قال تعالى:
(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم (والشهادة هاهنا اليمين
بالله قال تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله (أى
أربع أيمان بالله.
- باب عَهْدِ اللَّهِ
/ 34 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ عليه
السَّلام: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ،
يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ - أَوْ قَالَ:
أَخِيهِ - لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ () [آل
عمران 77] . قَالَ سُلَيْمَانُ فِى حَدِيثِهِ: فَمَرَّ
الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ. . . . الحديث. اختلف العلماء فيمن
قال: على عهد الله، فقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعى: من
حلف بذلك وجبت عليه الكفارة سواء نوى اليمين أو لا، وروى
هذه القول عن طاوس، والشعبى، والنخعى، والحكم، والحسن
البصرى، وقتادة، ومجاهد. وروى عن عطاء: ليس ذلك بيمين إلا
أن ينوى اليمين، وهو قول الشافعى وأبى ثور وأبى عبيد.
والحجة للقول الأول قوله: (إن الذين يشترون بعهد الله
وأيمانهم ثمنًا قليلاً (فخص عهد الله بالتقدمة على سائر
الأيمان؛ فدل على
(6/114)
تأكيد الحلف به ولذلك قال إبراهيم: كانوا
ينهوننا عن الحلف بالعهد وليس ذلك إلا لغلظ اليمين به
وخشية التقصير فى الوفاء به، فعهد الله ما أخذه على عباده
وما أعطاه عباده قال تعالى: (ومنهم من عاهد الله (إلى
قوله: (بما أخلفوا الله ما وعدوه (فذمهم على ترك الوفاء؛
لأن تاركه مُستخِف بمن كان عاهده فى منعه ما كان وعده. قال
ابن القصار: واحتجوا بقوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا
عاهدتم (فأمر بالوفاء بعهده ثم عطف عليه بقوله: (ولا
تنقضوا الأيمان بعد توكيدها (ولم يتقدم ذكر غير العهد،
فأعلمنا أنه يمين مؤكد، ألا ترى قوله: (وقد جعلتم الله
عليكم كفيلا (. وقال يحيى بن سعيد فى قوله: (ولا تنقضوا
الأيمان (قال: العهود. وقد روى عن جابر بن عبد الله فى
قوله تعالى: (أوفوا بالعقود (قال: عقدة الطلاق، وعقدة
البيع، وعقد الحلف، وعقد العهد، فإذا قال: علىَّ عهد الله،
فقد عقد على نفسه عقدًا يجب الوفاء به؛ لقوله تعالى:
(أوفوا بالعقود (وروى عن ابن عباس: إذا قال: علىَّ عهد
الله، فحنث يعتق رقبة. فإن قال الشافعى: فإذا قال: علىَّ
عهد الله، يحتمل أن يريد معهود الله، وهو ما ذكره تعالى فى
قوله: (ألم أعهد إليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان
(وإذا كان هذا معهود الله، وهو محدث فهو كقوله: فرض الله،
يكون عبارة عن مفروض الله، ولا يكون
(6/115)
يمينًا، لأنه يمين بمحدث؛ قيل: قوله: علىَّ
عهد الله، غير قوله: معهود الله؛ لأنه لم يجر العرف
والعادة بأن يقول أحد: علىَّ معهود الله، وإنما جرى بأن
يراد بذلك اليمين. وقال مالك: إذا قال: علىَّ عهد الله
وميثاقه، فعليه كفارتان إلا أن ينوى التأكيد فتكون يمينًا
واحدةً. وقال الشافعى: عليه كفارة واحدة، وهو قول مطرف
وابن الماجشون وعيسى بن دينار. والحجة لمالك أنه لما خالف
بين اللفظين، وكل واحد يجوز أن يستأنف به اليمين كانت
يمينين ووجب أن يكون لكل لفظ فائدة محددة.
- باب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
وَكَلاَمِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام،
يَقُولُ: (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ) . وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (يَبْقَى
رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُولُ: يَا
رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، يَقُولُ: لا
وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) . وَقَالَ أَيُّوبُ:
(وَعِزَّتِكَ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ) . / 35 - فيه:
أَنَس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تَزَالُ
جَهَنَّمُ: تَقُولُ: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حَتَّى
يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ:
قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى
بَعْضٍ) .
(6/116)
اختلف العلماء فى اليمين بصفات الله، فقال
مالك فى المدونة: الحلف بأسماء الله وصفاته لازم كقوله:
والعزيز، والسميع، والبصير، والعليم، والخبير، واللطيف، أو
قال: وعزة الله وكبريائه، وعظمة الله وقدرته، وأمانته،
وحقه، فهى أيمان كلها تُكفر، وذكر ابن المنذر مثله عن
الكوفيين أنه إذا قال: وعظمة الله، وعزة الله، وجلال الله،
وكبرياء الله، وأمانة الله: وجبت عليه الكفارة، وكذلك فى
كل اسم من أسمائه تعالى. وقال الشافعى فى جلال الله، وعظمة
الله، وقدرة الله، وحق الله، وأمانة الله: إن نوى بها
اليمين فهى أيمان، وإن لم ينو اليمين فليست بيمين؛ لأنه
يحتمل: وحق الله واجب، وقدرة الله ماضية. وقال أبو بكر
الرازى: عن أبى حنيفة أن قول الرجل: وحق الله، وأمانة
الله. ليست بيمين. قال أبو حنيفة: قال الله - تعالى -:
(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها (الآية، المراد بذلك الإيمان والشرائع. وهو قول
سعيد بن جبير، وقال مجاهد: الصلاة. وقال أبو يوسف: وحق
الله يمين وفيها الكفارة. وحجة القول الأول أن أهل السنة
أجمعوا على أن صفات الله أسماء له، ولا يجوز أن تكون صفاته
غيره، فالحلف بها كالحلف بأسمائه تجب فيها الكفارة، ألا
ترى أن النبى - عليه السلام - كثيرًا ما كان يحلف: (لا
ومقلب القلوب) وتقليبه لقلوب عبادة صفة من صفاته، ولا يجوز
على النبى أن يحلف بما ليس بيمين؛ لأنه قال: (من كان
حالفًا فليحلف بالله) .
(6/117)
قال أشهب: من حلف بأمانة الله التى هى صفة
من صفاته، فهى يمين، وإن حلف بأمانة الله التى بين العباد،
فلا شىء عليه، وكذلك عزة الله التى هى صفة ذاته، وأما
العزة التى خلقها فى خلقه فلا شىء عليه. وقال ابن سحنون:
معنى قوله: (سبحان ربك رب العزة (أنها العزة التى هى غير
صفته التى خلقها فى خلقه، التى يتعازون بها، قال: وقد جاء
فى التفسير أن العزة هاهنا يراد بها الملائكة. قال المؤلف:
وإنما ذهب ابن سحنون إلى هذا القول - والله أعلم - فرارًا
من أن تكون العزة التى هى صفة الله مربوبة، فيلزمه الحدث؛
وليس كما توهم لأن لفظ الرب قد يأتى فى كلام العرب لصاحب
الشىء ومستحقه، ولا يدل ذلك على الحدث والخلق، فتقول لصاحب
الدابة: رب الدابة، ولصاحب الماشية: رب الماشية، ولا تريد
بذلك معنى الخلق، قال تعالى: (وتعز من تشاء وتذل من تشاء
(فليس إعزازه بعلة، ولا إذلاله بعلة، بل هما حاصلان
بالقضاء والمشيئة، وقوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله
العزة جميعًا (وقوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (فكيف
الجمع بينهما، فإن إحدى الآيتين توجب انفراده تعالى
بالعزة، والثانية تشير إلى أن لغيره عزا؟ قيل: لا منافاة
بينهما فى الحقيقة؛ لأن العز الذى للرسول وللمؤمنين فهو
لله ملكًا وخلقًا، وعزه سبحانه له وصفًا، فإذن العز كله -
لله تعالى - فقوله: (سبحان ربك رب العزة (يريد صاحب
(6/118)
العزة ومستحقها، وهى نهاية العزة وغايتها
التى لم يزل موصوفا بها قبل خلقه الخلق، التى لا تشبه عزة
المخلوقين، ألا ترى أنه تعالى نزه نفسه بها فقال: (سبحان
ربك رب العزة عما يصفون (ولا ينزه نفسه تعالى إلا بما
يباين به صفات عباده، ويتعالى عن أشباهم، إذا ليس كمثله
شىء. واختلفوا فيمن حلف بالقرآن أو المصحف، أو بما أنزل
الله فحنث، فروى عن ابن مسعود: أن عليه بكل آية كفارة
يمين. وهو قول الحسن البصرى وأحمد بن حنبل، وقال ابن
القاسم فى العتبية: عليه إذا حلف بالمصحف كفارة يمين. وهو
قول الشافعى فيمن حلف بالقرآن، قال: لأن القرآن كلام الله.
وإليه ذهب أبو عبيد. وقال أبو حنيفة: من حلف بالقرآن فلا
كفارة عليه. وهو قول عطاء، وروى عن على ابن زياد عن مالك
نحوه، غير أن المعروف من أصل مذهبه ما يخالف هذه الرواية؛
روى إسماعيل بن أبى أويس عن مالك أنه قال: القرآن كلام
الله وكلام الله من الله وليس من الله شىء مخلوق، فهذا
القول منه يقطع أن الحالف بالقرآن إذا حنث أن عليه
الكفارة، كما إذا حلف بالله أو باسم من أسمائه، وهذا مذهب
جماعة أهل السنة. , وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنهم
قالوا: إذا كانوا يوجبون الكفارة على من حلف بعظمة الله،
وعزة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، فلم لا يوجبون على
من حلف بكلام الله وهو صفة الله،
(6/119)
وما الفرق بين ذلك؟ ويسألون عمن حلف بوجه
الله فحنث. فإن قالوا: عليه الكفارة. قيل: وكذلك تجب
الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث. وأما قول ابن
مسعود: عليه لكل آية كفارة يمين، فهو منه على التغليظ، ولا
دليل على صحته، لأنه لا فرق ببينه وبين آخر لو قال: إن
عليه لكل سورة كفارة، وآخر لو قال: عليه لكل كلمة كفارة.
وهذا لا أصل له، وحسبه إذا حلف بالقرآن فقد حلف بصفة من
صفات الله. قال المهلب: وقوله فى حديث أنس: (يضع فيها
قدمه) أى ما قدم لها من خلقه، وسبق لها به مشيئته ووعده
ممن يدخلها ومثله قوله تعالى: (لهم قدم صدق عند ربهم (أى
متقدم صدق.
(6/120)
- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَمْرُكَ: لَعَيْشُكَ. / 36 -
فيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا
قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، فَقَامَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ،
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ: (لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) . قال أبو
القاسم الزجاجى: (لعمر الله) كأنه حلف ببقائه تعالى،
وقوله: لعمرك، مرفوع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير
لعمرك ما أُقسم به، وكذلك (لعمر الله) . واختلف الفقهاء فى
قول الرجل: لعمر الله، فقال مالك والكوفيون: هى يمين. وقال
الشافعى: إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين، وهو قول
إسحاق. والحجة لمالك والكوفيين أن أهل اللغة قالوا: إنها
بمعنى بقاء الله، وبقاؤه صفة ذاته، فهى لفظة موضوعة لليمين
فوجب فيها كفارة. وأما قولهم: (العمرى) فقال الحسن البصرى:
عليه كفارة إذا حنث فيها، وسائر الفقهاء لا يرون فيها
كفارة؛ لأنها ليست بيمين عندهم. قال ابن المنذر: وأما قوله
تعالى: (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون (فإن الله يقسم بما
شاء من خلقه، وقد نهى النبى عن الحلف بغير الله.
(6/121)
- باب) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (الآية [البقرة: 225]
/ 37 - فيه: عَائِشَةَ،) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِى
قَوْلِهِ: لا وَاللَّهِ، وبَلَى وَاللَّهِ. اختلف العلماء
فى لغو اليمين، فذهب إلى قول عائشة: ابن عمر، وابن عباس -
فى رواية - وروى ذلك عن القاسم، وعطاء، وعكرمة، والحكم،
وطاوس، والحسن، والنخعى. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن
أبى قلابة قال: لا والله، وبلى والله لغة من لغات العرب لا
يراد بها اليمين، وهى من صلة الكلام. وإليه ذهب أبو حنيفة
وأصحابه والشافعى، إلا أن أبا حنيفة قال: اللغو قول الرجل:
لا والله، وبلى والله، فيما يظن أنه صادق فيه على الماضى،
وعند الشافعى سواء كانت فى الماضى أو المستقبل. وفيها قول
ثان روى عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن يحلف الرجل
على الشىء يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على غير ذلك.
وروى هذا القول أيضًا عن عائشة، ذكره ابن وهب عن عمر بن
قيس، عن عطاء، عن عائشة. وروى مثله أيضًا إسماعيل القاضى
عن النخعى، والحسن وقتادة، وهو قول ربيعة، ومكحول، ومالك،
والليث، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل: اللغو: الوجهان
جميعًا. وجعل مالك لا والله، وبلى والله موضوعة لليمين،
ورأى فيها الكفارة إلا ألا يراد به اليمين.
(6/122)
وجعلها الشافعى ومن لم ير فيها الكفارة
موضوعة لغير اليمين إلا أن يراد بها اليمين، ورأى الشافعى
فى اللغو الذى عند مالك الكفارة؛ لأن حقيقة اللغو عند
الشافعى ما لم يقصد له الحالف لكن سبق لسانه، كأنه يريد أن
يتكلم بشىء فتبدر منه اليمين. قال إسماعيل: وأعلى الرواية
وأمثلها فى تأويل الآية أن ما جاء فى قول الرجل: لا والله،
وبلى والله، وهو لا يريد اليمين فلم يكن عليه يمين؛ لأنه
لم ينوها، وقال رسول الله: (الأعمال بالنيات) وما جرى على
لسان الرجل من قول لم يقصده ولا نواه سقطت عنه الكفارة؛
إذا جعل بمنزلة من لم يحلف، ألا ترى قول أبى قلابة فى
قوله: لا والله، وبلى والله، أنهما من لغة العرب ليست
بيمين. وقال غيره: فى اللغو ثلاثة أقوال غير هذين. أحدهما:
ما رواه طاوس عن ابن عباس قال: اللغو أن يحلف الرجل وهو
غضبان. والثانى: قال الشعبى: اللغو فى اليمين كل يمين على
معصية فليس لها كفارة، ثم قال لمن يُكفر، للشيطان؟
والثالث: قول سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، كقول الرجل:
هذا الطعام علىَّ حرام فيأكله، فلا كفارة عليه. قال
إسماعيل بن إسحاق: وقول سعيد بن جبير ليس على مجرى ما ذهب
إليه أهل العلم فى ذلك. ولا حجة له. وإنما يرجع معنى
(6/123)
قوله إلى معنى الحديث الذى فيه: (فليأت
الذى هو خير، وليكفر عن يمينه) ، لأن من حلف ألا يأكل
طعامًا، أو لا يدخل على أخيه؛ فقد حرم على نفسه ما أحل
الله له. قال غيره: وأما قول ابن عباس اللغو يمين الغضبان،
فإنما يشبه الغاضب بمن لم يقصد إلى اليمين ولا أراده،
وكأنه غلبه الغضب، فهو كمن لم ينو اليمين فلا كفارة عليه
وهذا معنى ضعيف؛ لأن جمهور الفقهاء على أن الغاضب عندهم
قاصد إلى أفعاله، والغضب يزيده تأكيدًا وقوة فى قصده،
وستأتى مذاهب العلماء فيمن حلف على معصية أو نذرها فى باب
النذر فيما لا يملك، ولا نذر فى معصية بعد هذا - إن شاء
الله.
- باب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب:
5] وَقَالَ: (لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ) [الكهف: 73]
/ 38 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: (إِنَّ
اللَّهَ تَجَاوَزَ لأمَّتِى عَمَّا وَسْوَسَتْ - أَوْ
حَدَّثَتْ بِهِ - أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ
أَوْ تَكَلَّمْ) . / 39 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ
عَمْرِو، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَيْنَمَا هُوَ
يَخْطُبنا فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: كُنْتُ
أَحْسِبُ كَذَا قَبْلَ كَذَا، ثُمَّ قَامَ إليه آخَرُ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا،
فَقَالَ عليه السَّلام: (افْعَلْ وَلا حَرَجَ. . . .)
الحديث.
(6/124)
/ 40 - وفيه: ابن عباس مثله. / 41 - وفيه:
أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ
يُصَلَّى، وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَاحِيَةِ
الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:
(ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَرَجَعَ
فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: (وَعَلَيْكَ ارْجِعْ
فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَقَالَ فِى
الثَّالِثَةِ: علِمْنِى، فَقَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى
الصَّلاةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ
الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ
مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ
قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا،
ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا،
ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ
حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى
صَلاتِكَ كُلِّهَا) . / 42 - وفيه: عَائِشَةَ، هُزِمَ
الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ،
فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ،
فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِىَ وَأُخْرَاهُمْ،
فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ ابْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ
بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أَبِى، أَبِى، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ
مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ:
غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللَّهِ مَا
زَالَتْ فِى حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى
لَقِىَ اللَّهَ. / 43 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
عليه السَّلام: (مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ،
فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ
وَسَقَاهُ) . / 44 - وفيه: ابْن بُحَيْنَةَ، صَلَّى بِنَا
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَامَ فِى الرَّكْعَتَيْنِ
الأولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ،
فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ،
فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ
وَسَلَّمَ. / 45 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ
النَّبِىّ، عليه السَّلام، صَلَّى بِهِمْ صَلاةَ
الظُّهْرِ،
(6/125)
فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا فقِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟
قَالَ: (وَمَا ذَاكَ) ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا،
قَالَ: فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:
(هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ زَادَ فِى
صَلاتِهِ أَمْ نَقَصَ، فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَيُتِمُّ
مَا بَقِىَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) . / 46 - وفيه:
أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، قَالَ: (لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلا
تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا) [الكهف: 73] قَالَ:
(كَانَتِ الأولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا) . / 47 - وفيه:
الْبَرَاء، كَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ، فَأَمَرَ أَهْلَهُ
أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِيَأْكُلَ
ضَيْفُهُمْ، فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاةِ، فَذَكَرُوا
ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَهُ أَنْ
يُعِيدَ الذَّبْحَ. / 48 - وفيه: جُنْدَب، شَهِدْتُ
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ، ثُمَّ
خَطَبَ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ فَلْيُعد مَكَانَهَا،
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ)
. اختلف العلماء فيمن حنث ناسيًا، هل تجب عليه كفارة أم
لا؟ فقال عطاء وعمرو بن دينار فى الرجل يحلف بالطلاق على
أمر لا يفعله ففعله ناسيًا: لا شىء عليه. وبه قال إسحاق.
وأوجبت طائفة الكفارة عليه فى كل شىء، هذا قول سعيد بن
جبير، وقتادة، والزهرى، وربيعة، وبه قال مالك والكوفيون.
واختلف قول الشافعى، فمرة قال: لا يحنث، ومرة قال: يحنث.
وقاله أحمد بن حنبل فى الطلاق خاصة.
(6/126)
واحتج من أسقط الكفارة بقوله تعالى: (ليس
عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم (فبين أنه
لا جناح علينا إلا فيما تعمدت قلوبنا، واحتجوا بقوله عليه
السلام: (رُفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
فوجب أن يكون مرفوعًا من كل وجه إلا أن يقوم دليل، قالوا:
ووجدنا النسيان لا حكم له فى الشرع، مثل كلام الناسى فى
الصلاة، فوجب أن يُحمل عليه كلامه إذا حنث ناسيًا. فعارضهم
من أوجب الكفارة فقال: قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما
أخطأتم به (لا ينفى وجوب الكفارة؛ لأنه قد أوقع الحنث، فلا
يكون عليه جناح والكفارة تجب، وإنما أراد برفع الجناح
الضيق والإثم، ألا ترى أن الكفارة تجب فى قتل الخطأ مع رفع
الجناح والإثم. قال المهلب: وهذه الأحاديث التى أدخل
البخارى فى هذه الباب إنما حاول فيها إثبات العذر بالجهل
والنسيان وإسقاط الكفارة، وجعلها كلها فى معنى واحد عند
الله، واستدل بأفعال النبى وأقواله، وما بسطه من عذر من
جهل أو تأول فأخطأ، وبما حكم به فى النسيان فى الصلاة
وغيرها، والذى يوافق تبويبه قوله عليه السلام: (إن الله
تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها) وحديث أبى هريرة: (من أكل
ناسيًا فليتم صومه) ولم يأمره بالإعادة، وحديث ابن بحينة
فيما نسيه النبى - عليه السلام - من الجلوس فى الصلاة فلم
يعد عليه السلام على حسب ما نسيه، ولا قضاه، وكذلك نسيان
موسى
(6/127)
لم يطالبه به الخضر بعد أن كان شرط عليه
ألا يسأله عن شىء، فلما سمح له الخضر وهو عبد من عباد
الله؛ كان الله أولى بالعفو عن مثل ذلك، فصدر البخارى على
سبيل قوة الرجاء فى عفو الله، وكذلك قوله: (ليس عليكم جناح
فيما أخطأتم به (يعنى فى قضية التبنى الذى قد كان لصق
بقلوب العرب، وغلب عليهم من نسبة المتبنين إلى من تبناهم
لا لآبائهم، فعذرهم الله بغلبة العادة وآخذهم بما تعمدوه
من ذلك. وأما غير ذلك مما ذكره من المعانى فى هذا الباب
فإنما هى على التشبيه، فأما قوله: (لا حرج) فيما قدم من
النسك، فإنما عذرهم بالجهالة لحدود ما أنزل الله فى كتابه،
وكان فرض الحج لم تنتشر كيفيته عند العرب حتى كان عليه
السلام هو تولى بيانه عملا بنفسه، فلم يوجب على المخطئ فى
التقديم والتأخير فدية لغلبة الجهالة. فإن قيل: فإن فى
الأحاديث التى ذكرها البخارى فى هذا الباب ما يدل على سقوط
الكفارة فى النسيان، ومنها ما يدل على إثباتها، فأما ما
يدل على إثباتها فقوله عليه السلام: (ارجع فصل فإنك لم
تصل) ومنها حديث ابن مسعود أنه عليه السلام قال: (من لم
يدر ما صلى فليتحر الصواب فيتم ما بقى ثم يسجد سجدتين) ،
ومنها حديث ابن نيار فى إعادة الأضحية. قيل: أما قوله عليه
السلام: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فإنه قد كان تقدم العلم
بحدود الصلاة من النبى عيانًا، فلم يعذر
(6/128)
الناقص منها، فأمره بالإعادة لصلاته تلك ثم
أوسعه لما حلف له أنه لا يعرف غير هذا ما أوسع أهل الجهالة
من أن لم يأمره بعد يمينه بالإعادة لصلاته تلك ولا لما سلف
من صلاته قبلها. وأما ما ذكره لحديثى السهو فمعناهما
مختلف؛ لأن المتروك من السنن نسيانًا لا يرجع إليه، بل
يجبره بغيره من السنن، كما جبر الجلسة المتروكة بالسجدتين
المسنونتين، وأما ما ترك من الفرائض فلا بد من الإتيان به،
وإرغام أنف الشيطان بالسجود لله الذى بتركه خلده الله فى
الجحيم، وذلك لتقدم المعرفة بهيئة الصلاة سننًا وفرائض.
وأما إعادة الأضحية فعذر النبى ابن نيار بما توهمه جائزًا
له من أجل إكرام الضيف وإطعام جاعة الجيران، فجوز عنه ما
لا يجزئ عن أحد بعده، وأوجب عليه الإعادة لتقدم المعرفة
بالسنن، وقطع الذريعة إلى الاشتغال بالأكل عن الصلاة
الفاضلة التى أمر عليه السلام بإخراج ذوات الخدور والحيض
من النساء إليها، لما فى شهودها من الخير وبركة دعوة
المسلمين، وأما حديث حذيفة فإنه أسقط الدية عن قاتلى أبيه،
وعذرهم بالجهالة؛ لأن دية الخطأ كانت عليهم بنص القرآن،
وبقيت الكفارة عليهم فيما بينهم وبين ربهم. وقد يدخل
البخارى نصوص الأحاديث المختلفة الألفاظ؛ لاختلاف الناس
فيها، وينشرها لأهل النظر والفقه، وليستنبط كل واحد منهم
ما يوافق مذهبه، كحديث جابر فى بيع الجمل فيه لفظ اشتراط
(6/129)
ظهره، ولفظ إفقار ظهره، والإفقار تفضل،
والاشتراط كراء وكحديثه فيما دون الحد من العقوبات، فكذلك
أدخل فى هذا الباب أحاديث فى ظاهرها ما يتعارض لينظر
الناظر ويتدبر المستبحر فالله أعلم. وإنما يصح معنى الحديث
فى نسيان اليمين إذا فات بالموت، فحينئذ يمكن أن يعذر
بالنسيان، ويرجى له تجاوز الله وعفوه، وأما متى ذكره
فالكفارة تلزمه فيه والله الموفق.
- باب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَقَوْلِ اللَّه: (َلا
تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ
قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا (الآية
[النحل: 94] دَخَلا: مَكْرًا وَخِيَانَةً. / 49 - فيه:
عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ عليه السلام:
(الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ
الْغَمُوسُ) . اليمين الغموس هو أن يحلف الرجل على الشىء
وهو يعلم أنه كاذب؛ ليرضى بذلك أحدًا، أو يقتطع بها مالا،
وهى أعظم من أن يكفر، وجمهور العلماء لا يرى فيها الكفارة،
وهو قول
(6/130)
النخعى والحسن البصرى ومالك ومن تبعه من
أهل المدينة، والأوزاعى فى أهل الشام، والثورى وسائر أهل
الكوفة، وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد وأصحاب الحديث.
وفيها قول ثانٍ روى عن الحكم بن عتيبة وعطاء: أن اليمين
الغموس فيها كفارة. قال عطاء: ولا يريد بالكفارة إلا
خيرًا. وهو قول الشافعى، واحتج الشافعى بأن قال: جاءت
السنة فيمن حلف ثم رأى خيرًا مما حلف عليه أن يُحنث نفسه
ثم يكفر، وهذا قد تعمد الحنث وأمر بالكفارة، فقيل له:
النبى أمره أن يحنث فعلم أن ذلك طاعة فينبغى أن يُجوز
للحالف باليمين الغموس أن يحلف ويكون ذلك طاعة فلما كان
عاصيًا والحانث مطيعًا؛ افترق حكمهما. قال ابن المنذر:
وقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا
منها، فليأت الذى هو خير ويكفر) يدل أن الكفارة إنما تجب
فيمن حلف على فعل يفعله فيما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل
لا يفعله فيما يستقبل ففعله، وليس هذا المعنى فى اليمين
الغموس، ألا ترى أن الرجل إذا حلف على المستقبل أو قاله من
غير أن يحلف عليه، فإنما عقد شيئًا قد يكون وقد لا يكون،
فخرج من باب الكذب. قال إسماعيل: وينبغى للشافعى ألا يسمى
من تعمد الحلف على الكذب آثمًا إذا كفر يمينه؛ لأن الله
جعل الكفارة فى تكفير اليمين، وقد قال تعالى: (ويحلفون على
الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابًا شديدًا إنهم ساء
(الآية. وقال ابن مسعود: كنا نعد الذنب الذى لا كفارة له
اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه
(6/131)
كاذبًا ليقتطعه - ولا مخالف له من الصحابة،
فصار كالإجماع، وقد أخبر عليه السلام أن من فعل ذلك فقد
حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. قال ابن المنذر:
وأما قوله: (وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا (فلا
يجوز أن يقاس ذلك على اليمنى الغموس؛ لأنه لا يقاس أصل على
أصل، ولو جاز قياس أحدهما على الآخر لكان أحدهما فرعًا،
وللزم أن يكون على الحالف بهذه اليمين التى شبهت بالظهار
كفارة الظهار، وليس لأحد أن يوجب كفارة إلا حيث أوجبها
الله ورسوله. ومن الحجة فى إسقاط الكفارة حديث عبد الله بن
عمرو وقد أجمعت الأمة أن الإشراك بالله وعقوق الوالدين
وقتل النفس لا كفارة فيها، وإنما كفارتها تركها والتوبة
منها فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكر معها فى الحديث
فى سقوط الكفارة. والدليل على أن الحالف بها لا يسمى
عاقدًا ليمينه قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو فى
أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (والعقد فى اللغة
عبارة عن الإلزام والتوثق، يقال: عقدت على نفسى أن أفعل
أى: التزمت، فمن قال: لقيت زيدًا. وما لقيه، فلم يلزم نفسه
شيئًا، ولا ألزم غيره أمرًا يجب الامتناع منه أو
(6/132)
الإقدام عليه، فلا يسمى عاقدًا، ومعنى
الاستيثاق: وهو أن يستوثق بالعقد حتى لا يواقع المحلوف
عليه، وهذا معنىُ لا يحصل فى اليمين الغموس؛ لأنها منحلة
بوجود الحنث معها، فلا يسمى عقدًا، ألا ترى أن اللغو لما
لم يكن يمينًا معقودة لم تجب فيها كفارة، كذلك اليمين
الغموس، عن ابن القصار.
- باب قوله تَعَالَى) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ (الآية [آل عمران: 77] وَقَوْلِهِ: (وَلا
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) [البقرة: 224]
وَقَوْلِهِ: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا
قَلِيلا (إلى) كَفِيلا) [النحل: 91]
/ 50 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ
صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ
اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ (الآيَةِ، وذكر الحديق. وبهذه الآيات والحديث احتج
جمهور العلماء فى أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لأنه
عليه السلام ذكر فى هذه اليمين المقصود بها الحنث والعصيان
العقوبة والإثم ولم يذكر هاهنا كفارة، ولو كان هاهنا كفارة
لذكرها كما ذكر فى اليمين المعقودة فقال: (فليكفر عن يمينه
وليأت الذى هو خير) ويقوى هذا المعنى قوله عليه السلام فى
المتلاعنين بعد تكرار أيمانهما: (الله يعلم أن أحدكما
كاذب، فهل منكما تائب؟) ولم يوجب كفارة، ولو وجبت لذكرها
كما قال: (هل منكما تائب؟) .
(6/133)
قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن
اليمين التى يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حرامًا هى أعظم
أن يكفرها ما يكفر اليمين، ولا نعلم سنةً تدل على قول من
أوجب فيها الكفارة، بل هى دالة على قول من لم يوجبها، قال
تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقووا
وتصلحوا بين الناس (قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل
قرابته، فجعل الله له مخرجًا فى التفكير، وأمره ألا يعتل
بالله، ويكفر يمينه ويبر. ويمين الصبر هو أن يحبس السلطان
الرجل على اليمين حتى يحلف بها، ويقال: صبرت يمينه أى:
حلفته بالله.
- باب الْيَمِينِ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَفِى الْمَعْصِيَةِ
وَفِى الْغَضَبِ
/ 51 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَرْسَلَنِى أَصْحَابِى إِلَى
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَسْأَلُهُ الْحُمْلانَ،
فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَىْءٍ) ،
وَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ،
قَالَ: (انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ
اللَّهَ، أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
يَحْمِلُكُمْ) . / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ
لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ،
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ
لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ
عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِى قَالَ
لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا) [النور:
22] ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّى
لأحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِى، فَرَجَعَ إِلَى
مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِى كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ،
وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَنْزِعُهَا مَنْهُ أَبَدًا. / 53 -
وفيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
فِى نَفَرٍ مِنَ
(6/134)
الأشْعَرِيِّينَ، فَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ
غَضْبَانُ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَحَلَفَ أَنْ لا
يَحْمِلَنَا، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَا، إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ،
وَتَحَلَّلْتُهَا) . واليمين فيما لا يملك فى حديث
الأشعريين معناه أن النبى حلف ألا يحملهم، فكان ظاهر هذه
اليمين الإطلاق والعموم، ثم آنسهم بقوله: (وما عندى ما
أحملكم عليه) ومثال هذا أن يحلف رجل ألا يهب ولا يتصدق ولا
يعتق، وهو فى حال يمينه لا يملك، ثم يطرأ له بعد ذلك مال،
فيهب أو يتصدق أو يعتق، فعند جماعة الفقهاء تلزمه الكفارة
إن فعل شيئًا من ذلك، كما فعل عليه السلام بالأشعريين، أنه
تحلل من يمينه، وأتى الذى هو خير، ولو حلف ألا يهب ولا
يتصدق ما دام معدمًا، وجعل العدم عله لامتناعه من ذلك، ثم
طرأ له بعد ذلك مال، لم يلزمه عند الفقهاء كفارة إن وهب أو
تصدق أو أعتق، لأنه إنما أوقع يمينه على حالة العدم لا على
حالة الوجود، هذا ما فى حديث أبى موسى من معنى اليمين فيما
لا يملك. واختلفوا من هذا المعنى إذا حلف الرجل يعتق ما لا
يملك إن ملكه فى المستأنف، فقال مالك: إن عين أحدًا أو
قبيلة أو جنسًا لزمه العتق، وإن قال: كل مملوك أملكه أبدًا
حر، لم يلزمه عتق، وكذلك فى الطلاق إن عين قبيلة أو بلدة
أو صفة ما، لزمه الحنث، وإن لم يعين لم يلزمه. وقال أبو
حنيفة وأصحابه: يلزمه الطلاق والعتق سواء عم أو خص. وقال
الشافعى: لا يلزمه ما خص ولا ما عم.
(6/135)
وحجة مالك أن الله نهى عباده أن يحرموا ما
أحل لهم، ومن استثنى موضع نكاح أو عتق، فلم يحرم على نفسه
كل ما أحل الله له. وحجة الكوفيين أنها طاعة لله يلزمه
الوفاء بها إن قدر عليها، ومخرجها مخرج النذر كما يقول
مالك فى الأيمان. وحجة الشافعى قوله عليه السلام: (لا نذر
فى معصية، ولا فيما لم يملك ابن آدم) . وإذا لم يلزمه
النذر فيما لا يملك فاليمين أولى ألا تلزمه، وأما الطلاق
فإن الله - تعالى - إنما جعله فى كتابه بعد النكاح، فقال
تعالى) إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن (و (ثم) لا توجب
غير التعقيب. وأجمعوا إذا حلف بعتق عبيد غيره، أنه لا
يلزمه شىء من ذلك، إلا ابن أبى ليلى فإنه كان يقول: إن كان
موسرًا بأثمانهم لزمه عتقهم. ثم رجع عن ذلك. وإن حلف على
غيره مثل: أن يحلف على امرأته النصرانية أن تسلم، أو حلفه
على رجل ليسلفنه مالا، أو حلف على غريمه ليقضينه حقه، فإن
ضرب لذلك أجلا وكان الدين إلى أجل أُخر إلى الأجل وإن لم
يقض، وإلا تلوم له على قدر ما يراه. هذا قول ابن القاسم عن
مالك قال مالك: إن لم يضرب لذلك أجلا، فلا يكون من امرأته
موليًا إن حلف بالطلاق، ولكن يتلوم له على قدر الطلبة إلى
المحلوف عليه بفعل ما حلف عليه. وروى ابن الماجشون عن مالك
وغيره من علماء المدينة: إن حلف
(6/136)
بالطلاق، أو بالعتاق على فعل غيره مثل حلفه
على فعل نفسه فى جميع وجوه ذلك، ويدخل عليه الإيلاء فى
حلفه بالطلاق. وأما حديث عائشة فى يمين أبى بكر ألا ينفق
على مسطح، فإنما هى يمين فى ترك طاعة وفضيلة فى حال غضبه،
ولا خلاف بين علماء المدينة فى وجوب الكفارة على من حلف أن
يمتنع من فعل الطاعة إذا رأى غير ما حلف عليه، وكذلك فعل
أبو بكر كفر عن يمينه. وجمهور الفقهاء يلزمون الغاضب
الكفارة، ويجعلون غضبه مؤكدًا ليمينه، وقد روى عن ابن عباس
أن الغضبان يمينه لغو، ولا كفارة فيها. وروى عن مسروق،
والشعبى، وجماعة أن الغضبان لا يلزمه يمين ولا طلاق ولا
عتق، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا طلاق فى إغلاق، ولا
عتق قبل ملك) وفى حديث الأشعريين رد لهذه المقالة، لأن
النبى - عليه السلام - حلف وهو غاضب ثم قال: (والله لا
أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذى هو خير
وتحللتها) وهذه حجة قاطعة، وكذلك فعل أبو بكر. وأما الحديث
(لا طلاق فى إغلاق) فليس بثابت، ولا مما يعارض به مثل هذه
الأحاديث الثابتة، وتأول المدنيون والكوفيون معنى هذا
الحديث (لا طلاق فى إغلاق) يعنى لا طلاق فى إكراه، هذا
معنى الحديث عندهم. وأما اليمين فى المعصية فليس هذا الباب
موضعه، وسيأتى عند قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله
فلا يعصه) ، إن شاء الله.
(6/137)
- باب إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لا
أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ، فَصَلَّى، أَوْ قَرَأَ، أَوْ
سَبَّحَ، أَوْ كَبَّرَ، أَوْ حَمِدَ، أَوْ هَلَّلَ، فَهُوَ
عَلَى نِيَّتِهِ
وَقَالَ عليه السَّلام: (أفْضَلُ الْكَلامِ أَرْبَعة:
سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) . وقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى هِرَقْلَ:
(تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران 64] ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةُ
التَّوحيد: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. / 54 - فيه: سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ
أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) فَقَالَ: (قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،
كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) . / 54 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام:
(كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ
فِى الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ،
سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ
الْعَظِيمِ) . / 56 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ
النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى،
قَالَ: (مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ
النَّارَ) ، وَقُلْتُ أُخْرَى: مَنْ مَاتَ لا يَجْعَلُ
لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ. أما قول البخارى: فهو
على نيته. فالمعنى عند العلماء فى الحالف ألا يتكلم اليوم
أنه محمول على كلام الناس لا على التلاوة والتسبيح، وقد
أجمعوا أن الكلام محرم فى الصلاة، وأن تلاوة القرآن وفيها
من القربات إلى الله - تعالى - وقال زيد بن أرقم: لما
نزلت: (وقوموا لله قانتين (أمرنا بالسكوت، ونهينا عن
الكلام، فتراه نهى عن القراءة؟ . وقال عليه السلام: (إن
صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام
(6/138)
الناس، إنما هو التهليل والتحميد وتلاوة
القرآن) ، فحكم للذكر كله والتلاوة بغير حكم كلام الناس،
والحالف إذا حلف ألا يتكلم، فإنما هو محمول عند العلماء
على كلام الناس، لا على الذكر والتلاوة وهذا لا أعلم فيه
خلافا، إلا أنه إذا نوى ألا يقرأ ولا يذكر الله فهو على
نيته كما قال البخارى. وأجمعوا أنه إذا حلف ألا يتكلم
وتكلم بالفارسية أو بأى لغة تكلم أن حانث، ويشبه معنى هذا
الباب إذا حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه أو أرسل إليه
رسولا، فقال مالك: يحنث فيهما جميعًا إلا أن تكون له نية
على المشافهة، ثم ذكر أنه رجع بعد ذلك فقال: لا ينوى فى
الكتاب، وأراه حانثًا إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله فلا
يحنث. وحكى ابن أبى أويس أنه قال: الرسول أهون من الكتاب؛
لأن الكتاب سر لا يعلمه إلا هو وصاحبه، وإذا أرسل إليه
رسولا علم ذلك الرسول. وقال الكوفيون والليث والشافعى: لا
يحنث فيهما. وهو قول ابن أبى ليلى، وقال أبو ثور: لا يحنث
فى الكتاب. واختلفوا إذا أشار إليه بالسلام، فقال مالك:
يحنث. واحتج ابن حبيب فى أن الإشارة بالسلام كلام بقوله
تعالى لزكريا: (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (.
وقال عيسى عن ابن القاسم: ما أرى الإشارة بالسلام كلامًا.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا يحنث فى الإشارة بالسلام، ولا
فى الرسول، ولا فى الكتاب؛ لأنه لم يكلمه فى ذلك كله.
(6/139)
واحتج أبو عبيد فقال: الكلام غير الخط
والإشارة، وأصل هذا - قال -: أن الله قال لزكريا: (آيتك
ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (. وقال فى موضع آخر:
(فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (والرمز: الإشارة بالعين
والحاجب. والوحى: الخط والإشارة، ويقال: كتب إليهم وأشار
إليهم وفى قصة مريم: (إنى نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم
اليوم إنسيا (ثم قال: (فأشارت إليه (فصار الإيماء والخط
خارجين من معنى النطق. واختلفوا لو سلم على قوم هو فيهم،
فقال مالك والكوفيون: قد حنث، قال ابن القاسم عن مالك: علم
أنه فيهم أو لم يعلم إلا أن يحاشيه. وقال الشافعى: لا يحنث
إلا أن ينويه بالسلام. واحتج أبو عبيد لقول مالك والكوفيين
فقال: ومما يبين أن السلام كلام أن إمامًا لو سلم بين
ركعتين متعمدًا كان قاطعًا للصلاة، كما يقطعها المتكلم،
وقد نهى النبى عن الهجرة وأمر بإفشاء السلام، فبان بأمره
بهذا ونهيه عن هذا أنهما متضادان، وأن المسلم على صاحبه
ليس بهاجر له.
(6/140)
ولو صلى ورآه فرد عليه السلام، فقال ابن
القاسم: لا يحنث؛ لأن رده السلام من سنة الصلاة، وليس من
معنى، المكالمة. وقال ابن وهب: يحنث؛ لأنه كان قادرًا على
أن يجتزئ بتسليمه عن يمينه وأخرى عن يساره ولا يرد على
الإمام، وقالوا: لو تعايا ففتح عليه الحالف حنث، ولو كتب
إليه المحلوف عليه، فروى عيسى وأبو زيد عن ابن القاسم أنه
إذا قرأ كتابه حنث. وقال ابن حبيب: لا يحنث، وكذلك روى
أصبغ عن ابن القاسم.
- باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ
شَهْرًا فَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
/ 57 - فيه: أَنَسٍ، آلَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ،
فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً،
ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ
شَهْرًا؟ فَقَالَ: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا
وَعِشْرِينَ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا حلف
ألا يكلم رجلا شهرًا، فكلمه بعد مضى تسعة وعشرين يومًا أنه
لا يحنث، واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم فى ذلك آخرون
فقالوا: إن حلف مع رؤية الهلال فهو على ذلك الشهر كان
ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين، وإن كان حلف فى بعض شهر
فيمينه على ثلاثين يومًا. وهو قول مالك والكوفيين
والشافعى، واحتجوا بقوله عليه السلام: (الشهر تسعة وعشرون
يومًا، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين) ، أفلا تراه
(6/141)
أوجب عليهم ثلاثين يومًا وجعله على الكمال
حتى يروا الهلال قبل ذلك؟ وأخبر أنه إنما يكون تسعة وعشرين
برؤية الهلال قبل الثلاثين، وقد روى هذا عن الحسن البصرى،
ودل نزوله من المشربة لتسع وعشرين أنه كان حلف مع غرة
الهلال، هذا وجه الحديث، ومن هذا الحديث قال مالك وأبو
حنيفة والشافعى: إنه من نذر صوم شهور بغير عينها فله أن
يصومها للأهلة أو لغير الأهلة، فإن صامها للأهلة فكان
الشهر تسعة وعشرين يومًا أجزأه، وما صام لغير الأهلة
أكملها ثلاثين يومًا. وروى ابن وهب عن مالك: من أفطر رمضان
كله فى سفر أو مرض فكان تسعة وعشرين يومًا، فأخذ فى قضائه
شهرًا فكان ثلاثين يومًا؛ أنه يصومه كله، وإن كان شهر
القضاء تسعة وعشرين يومًا ورمضان ثلاثين يومًا أجزأه. وقال
محمد بن عبد الحكم: إنما يصوم عدد الأيام التى أفطر. وفى
رواية ابن وهب مراعاة شهر القضاء، وعلى قول ابن عبد الحكم
مراعاة الشهر الفائت، وهو أصح فى القياس؛ لأن الله افترض
عليه عدد الأيام التى أفطر.
- باب من حَلَفَ أَنْ لا يَشْرَبَ النَبِيذ فَشَرِبَ
الطِلاء، أَوْ سَكَرًا، أَوْ عَصِيرًا، لَمْ يَحْنَثْ فِى
قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ
عِنْدَهُ
/ 58 - فيه: سَهْل، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عرَسَ، فَدَعَا النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ الْعَرُوسُ
خَادِمَهُمْ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ
(6/142)
مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ
تَمْرًا فِى تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ
عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ. / 59 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) ، قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا
مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ
شَنًّا. قال المؤلف: زعم أبو حنيفة أن الطلاء والعصير ليسا
بنبيذ فى الحقيقية، وإنما النبيذ ما نبذ فى الماء ونقع
فيه، ومنه سمى المنبوذ منبوذًا، لأنه نبذ أى: طرح. ومعنى
قوله: من شرب سكرًا يعنى ما يسكر مما يعصر ولا ينبذ، ويعنى
قوله: ما كان عصيرًا: ما كان حديث العصر من العنب ولم يبلغ
حد السكر، وبالطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى بلغ إلى ما
لا يسكر، فلا يحنث عند أبى حنيفة فى شرب شىء من هذه
الثلاثة، لأنها لم تنبذ، وإنما يحنث عنده بشرب ما نبذ فى
الماء من غير العنب، سواء أسكر أو لم يسكر. قال المهلب:
والذى عند جمهور الفقهاء أنه إذا حلف ألا يشرب النبيذ
بعينه دون سائر المشروبات أنه لا يحنث بشرب العصير والطبيخ
وشبهه، وإن كان إنما حلف على النبيذ خشية منه لما يكون من
السكر وفساد العقل كان حانثًا فى كل ما شرب مما يكون فيه
المعنى الذى حلف عليه، ويجوز أن تسمى سائر الأشربة من
الطبيخ والعصير نبيذًا لمشابهتها له فى المعنى، ومن حلف
عندهم ألا يشرب شرابًا ولا نية له، فأى شراب شربه مما يقع
عليه اسم شراب فهو حانث.
(6/143)
قال المؤلف: ووجه تعلق البخارى من حديث سهل
فى الرد على أبى حنيفة هو أن سهلا إنما عرف أصحابه بأنه لم
يسق النبى إلا نبيذًا قريب العهد بالانتباذ مما يحل شربه،
ألا ترى قوله: (أنقعت له تمرًا فى تور من الليل حتى أصبح
عليه فسقته إياه) وكان ينتبذ له عليه السلام ليلا ويشربه
غدوة، وينتبذ له غدوة ويشربه عشية، ولو كان بعيد العهد
بالانتباذ مما بلغ حد السكر لم يجز أن يسقيه النبى - عليه
السلام - ففهم من هذا أن ما بلغ حد السكر من الأنبذة حرام
كالمسكر من عصير العنب، وأن من شرب مسكرًا من أى نوع سواء
كان معتصرًا أو منتبذًا فإنه يحنث لاجتماعهما فى حدوث
السكر، وكونها كلها خمرًا. ووجه استدلاله من حديث سودة:
أنهم حبسوا مسك الشاة للانتباذ فيه الذى يجوز لهم شربه غير
المسكر، ووقع عليه اسم نبيذ، ولو ذكر حديث أنس حين كسر
الجرار من نبيذ التمر كان أقرب للتعلق وأوضح للمعنى، لأنهم
لم يكسروا جرار نبيذ التمر المسكر، وهم القدوة فى اللغة
والحجة فيها، إلا أن معنى نبيذ التمر المسكر فى معنى عصير
العنب المسكر فى التحريم، لأنهم كانوا أتقى لله من أن
يتلفوا نعم الله ويهريقوها استخفافًا بها، وقد نهى النبى
عن إضاعة المال، ولو كان المسكر غير خمر لجاز ملكه وبيعه
وشربه وهبته وكانت إراقته من الفساد فى الأرض.
(6/144)
- باب إِذَا حَلَفَ أَلاَّ يَأْتَدِمَ
فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ الأدْمِ؟
/ 60 - فيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى
الله عليه وسلم) مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. / 61 - وفيه: أَنَس،
قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ
صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضَعِيفًا
أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ؟
قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ،
ثُمَّ أَخرجت خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ
بِبَعْضِهِ، وَأَرْسَلَتْنِى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ. . .
. الحديث. . فَأَتَتْ بالْخُبْزِ، وأَمَرَ بِهَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عُكَّةً لَهَا،
فَأَدَمَت، ثُمَّ قَالَ فِيهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ. . . . . الحديث. اختلف
العلماء فيمن حلف ألا يأكل إدامًا فأكل لحمًا مشويًا، فقال
مالك والشافعى، قد حنث كما لو أكل زيتًا وخلا. وقال أبو
حنيفة وأبو يوسف: الإدام ما يصطبغ به مثل الزيت والعسل
والخل، فأما ما لا يصطبغ به مثل اللحم المشوى والجبن
والبيض فليس بإدام. وقال محمد: ما كان الغالب فيه أنه يؤكل
بالخبز فهو إدام. واحتج الكوفيون أن حقيقة الإدام هو اسم
للجمع بين شيئين، قال عليه السلام: (إذا أراد أحدكم أن
يتزوج المرأة فلينظر إليها قبل أن يتزوجها، فإنه أحرى أن
يؤدم بينهما) معناه يجمع بينهما، وليس كل اسم يتناوله
إطلاق الاسم، بدليل أن من جمع بين لقمتين لا يسمى بهذا
الاسم، وإنما المراد أن يستهلك فيه الخبز ويكون تابعًا له
بأن
(6/145)
تتداخل أجزاؤه بأجزاء غيره، وهذا لا يحصل
إلا فيما يصطبغ به وهذا الوجه مجمع عليه، وما سواه مختلف
فيه؛ فلا يصح إثباته إلا بلغة أو عادة، وقد قال تعالى:
(وصبغ للآكلين (. قال ابن القصار: فيقال لهم: لا خلاف بين
أهل اللغة أن من أكل خبزًا بلحم مشوى انه قد ائتدم به، ولو
قال: أكلت خبزى بلا أدم لكان كاذبًا. ولو قال: أكلت خبزى
بإدام كان صادقا. فيقال لهم: أما قولكم: إن الأدم اسم
للجمع بين شيئين، فكذلك نقول، وليس الجمع بين الشيئين هو
امتزاجهما واختلاطهما، بل هو صفة زائدة على الجمع؛ لأننا
نعلم أن الخبز بالعسل ليس يستهلك أحدهما صاحبه، ولا الخبز
مع الزيت أيضًا، فلم يراع فى الشريعة فى الجمع الاستهلاك،
وأما الخل والزيت فهو وإن يشربه فليس يستهلك فيه ولو كان
كذلك لم يبن لونه ولا طعمه، وإنما المراعى فى الجمع بين
الشيئين فى الأكل هو أن يؤكل هذا بهذا على طريق الائتدام
به، سواء كان مائعًا أو غير مائع كالسمن الذائب والعسل.
قال غيره: والدليل على أن كل ما يؤتدم به يسمى إدامًا ما
روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (تكون الأرض خبزة
يوم القيامة، إدامها زائدة كبد نون وثور) ، فجعل الكبد
إدامًا، فكذلك التمر، وكل شىء غير مائع فهو إدام كالكبد.
وروى حفص بن غياث عن محمد بن أبى يحيى الأسلمى، عن يزيد
الأعور، عن ابن أبى أمية، عن يوسف، عن عبد الله بن سلام
قال: (رأيت النبى
(6/146)
- عليه السلام - أخذ كسرة من خبز شعير،
فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه، فأكلها) . وروى
القاسم بن محمد عن عائشة قالت: (دخل على رسول الله والبرمة
تفور بلحم، فقربت إليه أدمًا من أدم البيت، فقال: ألم أر
برمة فيها لحم. . .) الحديث، فدل هذا الحديث أن كل ما فى
البيت مما جرت العادة بالائتدام به فهو إدام، مائعًا كان
أو جامدًا.
- باب النِّيَّةِ فِى الأيْمَانِ
/ 62 - فيه: عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّمَا
الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى،
فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ،
فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)
. قال المهلب وغيره: إذا كانت اليمين بين العبد وربه وأتى
مستفتيًا، فلا خلاف بين العلماء أنه ينوى ويحمل على نيته،
وأما إذا كانت اليمين بينه وبين آدمى وادعى فى نية اليمين
غير الظاهر لم يقبل قوله، وحمل على ظاهر كلامه إذا كانت
عليه بينة بإجماع. وإنما اختلفوا فى النية إذا كانت نية
الحالف أو نية المحلوف له، فقالت طائفة: النية فى حقوق
الآدميين نية المحلوف له على كل حال، وهو قول مالك. وقال
آخرون: النية نية الحالف أبدًا، وله أن يورى ويورك،
واحتجوا بقوله: (الأعمال بالنيات) .
(6/147)
وحجة مالك أن الحالف إنما ينبغى أن تكون
يمينه على ما يدعى عليه صاحبه؛ لأنه عليه يحلفه. وقد
أجمعوا على أنه لا ينتفع بالتورية إذا اقتطع مال امرئ مسلم
بيمينه، فكذلك لا ينتفع بالتورية فى سائر الأيمان، وسيأتى
اختلافهم فى يمين المكره، وحيث تجوز التورية فى آخر كتاب
الإكراه وأول كتاب ترك الحيل - إن شاء الله - وشىء منه
مذكور فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى آخر كتاب الأدب
أيضًا.
- باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ أوَ
التَّوْبَةِ
/ 63 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فِى حَدِيثِهِ: (وَعَلَى
الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118] ، فَقَالَ
فِى آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنِّى
أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِى. اختلفوا فى الرجل يقول: مالى فى
سبيل الله. فقالت طائفة: لا شىء عليه. هذا قول الشعبى،
وابن أبى ليلى، والحكم، وطاوس. وفيها قول ثان: أن عليه
كفارة يمين. روى عن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وهو
قول عطاء، وإليه ذهب الثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد،
وإسحاق، وأبو ثور. وفيها قول ثالث: وهو أن يتصدق من ماله
بقدر الزكاة. روى هذا القول أيضًا عن ابن عمر وابن عباس،
وبه قال ربيعة. وفيها قول رابع: وهو أن يخرج ثلث ماله
فيتصدق به، وهو قول مالك.
(6/148)
وفيها قول خامس: وهو أن يخرج ماله كله، روى
هذا عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة وزفر، إلا أن أبا حنيفة
قال: يتصدق بالأموال التى تجب فيها الزكاة خاصة، وقال زفر:
يحبس لنفسه من ماله قوت شهرين ثم يتصدق بمثله إذا أفاد.
وحجة من قال: لا يلزمه شىء أنه لو قال: مالى حرام، لم يحرم
عليه بإجماع، فكذلك فى هذه المسألة. واحتج الشافعى بما
رواه أبو الخير عن عقبة بن عامر أن النبى - عليه السلام -
قال: (كفارة النذر كفارة يمين) فظاهره يقتضى أن كل نذر
كفارته كفارة يمين إلا ما قام دليله. وذهب ربيعة إلى أن
الزكاة جعلها الله طهرًا للأموال، فكذلك هذا الحالف بصدقة
ماله يطهره ما تطهر الزكاة. واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى:
(ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن (الآية،
فبين تعالى أنه لما لم يفوا بما عاهدوا الله عليه استحقوا
الوعيد والذم، فلزمهم الوفاء به. واحتج ابن شهاب لمن قال:
يجزئه الثلث بأن النبى - عليه السلام - قال لكعب بن مالك
حين قال: إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة لله قال:
(أمسك عليك بعض مالك) وقال عليه السلام لأبى لبابة فى مثل
ذلك: (يكفيك الثلث) . فكان حديث أبى لبابة مبينًا لما أجمل
فى حديث كعب من مقدار الجزء المتصدق به، فثبت التقدير
بحديث أبى لبابة، وسقطت سائر الأقاويل.
(6/149)
قال ابن القصار: ومن الحجة لمالك قوله:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا (فأمر الله - تعالى - نبيه بأن
لا ينسى نصيبه من الدنيا لما بالخلق ضرورة إليه من القوت
وما لا بد منه، ووجب الاقتصار على إخراج الثلث، لحديث أبى
لبابة، ويدل على صحة هذا القول أن المريض لما منع من إخراج
ماله إلا الثلث، نظرًا لورثته وإبقاء عليهم، وجب أن يبقى
المرء على نفسه قصد إخراج ماله كله. وأما من قال: يخرج
زكاة ماله. فلا وجه له، لأن الزكاة تجب على الإنسان سواء
نذرها أم لا. وأما قول أبى حنيفة أنه لا يخرج إلا الأموال
التى تجب فيها الزكاة فقط، فإننا نقول: إن الأموال تشتمل
على ما فيه الزكاة وعلى ما لا زكاة فيه، قال تعالى:
(وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم (ولم يفرق بين عبيدهم
وعروضهم، وبين العين والورق، والحرث والماشية.
- باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا
أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم: 1] ،
وَقَوْلُهُ: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87]
. / 64 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه
السَّلام، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ،
وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا
وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَلْتَقُلْ له: إِنِّى أَجِدُ
مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ
(6/150)
عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ
زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ:
(يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ (، إلى) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ
(لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ،) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ
إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) [التحريم: 3]
لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا. وقَالَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ: وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ
حَلَفْتُ فَلا تُخْبِرِى بِذَلِكِ أَحَدًا. اختلف العلماء
فيمن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أحله الله له، فقالت
طائفة: لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين. هذا قول أبى
حنيفة وأصحابه والأوزاعى. وقال مالك: لا يكون الحرام
يمينًا فى طعام ولا شراب إلا فى المرأة فإنه يكون طلاقًا
يحرمها عليه. وروى الربيع عن الشافعى: إن حرم على نفسه
طعامًا أو شرابًا فهو حلال له ولا كفارة عليه، كقول مالك.
وروى عن بعض التابعين أن التحريم ليس بشىء، وسواء حرم على
نفسه زوجته أو شيئًا من ماله لا تلزمه كفارة فى شىء من
ذلك، وهو قول أبى سلمة ومسروق والشعبى. وحجة من لم يوجب
الكفارة حديث عائشة أن الآية نزلت فى شرب العسل الذى حرمه
النبى (صلى الله عليه وسلم) على نفسه لم تذكر فى ذلك
كفارة. وحجة من أوجب الكفارة فى ذلك أنه زعم أن سبب نزل
الآية أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حرم جاريته
القبطية على نفسه؛ لأنه أصابها فى بيت
(6/151)
حفصة وفى يومها، وقيل: كان فى بيت عائشة،
ذكره الزجاج فوجدت حفصة من ذلك وقالت: يا رسول الله، لقد
جئت إلى شيئًا ما جئته إلى أحد من أزواجك فى يومى، وفى
بيتى وعلى فراشى، فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها،
فحرمها وقال لها: لا تذكرى ذلك لأحد، فذكرت ذلك لعائشة،
فأظهره الله عليه، فنزلت الآيات، وكفر النبى يمينه وأصاب
جاريته، هذا قول قتادة وغيره. قال إسماعيل بن إسحاق:
والحكم فى ذلك واحد؛ لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق
بالتحريم، فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب، ولعل
القصتين كانتا جميعًا فى وقتين مختلفين، غير أن أمر
الجارية فى هذا الموضع أشبه، لقوله تعالى: (تبتغى مرضات
أزواجك (ولقوله تعالى: (وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه
حديثا (فكان ذلك فى الأمة أشبه؛ لأن الرجل يغشى أمته فى
ستر، ولا يشرب العسل فى ستر، وتحريم الأمة فيه مرضاة لهن،
وتحريم الشراب إنما حرمه للرائحة، وقد يمكن أن يكون حرمها
وحلف كما روى، ويمكن أن يكون حرمها بيمينه بالله؛ لأن
الرجل إذا قال لأمته: والله لا أقربك. فقد حرمها على نفسه
باليمين فإذا غشيها وجبت عليه اليمين، وإذا قال لأمته: أنت
على حرام، فلم يحلف وإنما أوجب على نفسه شيئًا لا يجب فلم
تحرم عليه، ولم تكن كفارة؛ لأنه لم يحلف، وقوله لامرأته:
أنت على حرام مثل قوله: أنت طالق، فلا تحرم به، وكذلك أنت
خلية وبرية
(6/152)
وبائن، ليس فى شىء منه يمين، وإنما هو فراق
أوجبه الإنسان على نفسه، فإن كان شيئًا يجب وجب، وإن كان
شيئًا لا يجب لم يجب، وقد قال عليه السلام: (من نذرك أن
يعصى الله فلا يعصه) ، فلم يوجب عليه كفارة كما أوجبها فى
قوله: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن
يمينه) . قال المهلب: والتحريم إنما هو لله - تعالى -
ولرسوله، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئًا، وقد وبخ الله من فعل
ذلك فقال تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم (الآية
فجعل ذلك من الاعتداء، وقال: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم
الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب (فهذا
كله حجة فى أن تحريم الناس ليس بشىء. وقال الكسائى وأبو
عمرو المغافير: شىء شبيه بالصمغ يكون فى الرمث، وفيه
حلاوة. وقال غيره: وهو شىء ينضحه العُرفط، حلو كالناطف،
وله ريح منكرة. وقال أبو عمرو: يقال منه: أغفر الرمث: إذا
ظهر ذلك فيه. وفال الكسائى: يقال: قد خرج الناس يتمغفرون:
إذا خرجوا يجنونه من ثمره، وواحد المغافير مغفور. وقال
غيره: ويقال: مغثور - بالثاء - أيضًا كما يقال: فوم وثوم،
وجدف وجدث.
(6/153)
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
- باب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(يُوفُونَ بِالنَّذْر) [الإنسان: 7]
/ 65 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ
عليه الصلاة والسَّلام: (إِنَّ النَّذْرَ لا يُقَدِّمُ
شَيْئًا وَلا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ
بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ) . وَقَالَ مرة: لاَ يرد
شيئًا. / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه،
قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَأْتِى بنِى آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ أَكُنْ
قَدَّرَتَهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى
الْقَدَرِ قَدْ قَدَّرَتَهُ، فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ
مِنَ الْبَخِيلِ، فَيُؤْتِى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ
يُؤْتِى عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) . العلماء متفقون أن الوفاء
بالنذر إذا كان طاعة واجب لازم لمن قدر عليه؛ لقوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (وقوله: (يوفون بالنذر
(فمدحهم بذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطع
الله فليطعه) وإنما اختلفوا فى اليمين بالطاعة، كالصدقة
بالمال أو المشى إلى مكة، فذهب مالك - رحمة الله - إلى أن
اليمين بذلك كالنذر، وان كفارتها الوفاء بها، ورأى بعض
العلماء أنها أيمان يكفرها ما يكفر اليمين، وليست فى
(6/154)
معنى النذر فيلزم الوفاء بها، لأن النذر
قصد به التبرر والطاعة لله - عز وجل - وهذه الأيمان إنما
قصد بها إلى أشياء من أمور الدنيا، كقولهم: مالى صدقة إن
فعلت كذا. فافترقا لهذه العلة - والله أعلم. قال المهلب:
وقوله: (لا يقدم شيئًا ولا يؤخره) يعنى من قدر الله
ومشيئته. وقوله: (يستخرج به من البخيل) يعنى: من الناس من
لا يسمح بالصدقة والصوم إلا إذا نذر شيئًا لخوف أو طمع،
فكأنه لولا ذلك الشىء الذى طمع فيه أو خافه لم يسمح بإخراج
ما نذره لله تعالى ولا يفعله، فهو بخيل، وسيأتى تفسير هذا
الحديث مستوعبًا فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى. وقوله:
(فيؤتينى عليه) يعنى فيؤتى ما يجعله الناذر على نفسه لله -
تعالى - مما لم يكن يفعله بغير نذر.
- باب إِثْمِ مَنْ لا يَفِى بِالنَّذْرِ
/ 67 - فيه: عِمْرَانَ، رضى الله عنه، قَالَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،
ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ،
وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا
يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) .
(6/155)
هذا الحديث يوجب الذم والنقص لمن لم يف
بالنذر، وهذا من أشراط الساعة، وقرن النبى (صلى الله عليه
وسلم) ذم من لم يف بالنذر بخيانة الأمانة شهد به كتاب الله
العزيز وجاء به على لسان الرسول، وذلك أن من لم يف لله بما
عاهده فقد خان أمانته فى نقضه ما جعل لربه - عز وجل - على
نفسه فأشبه ذلك من خان غيره فيما ائتمنه عليه، والأول أعظم
خيانة وأشد إثمًا، وأثنى الله - تعالى - على أهل الوفاء
فقال: (يوفون بالنذر ويخافون (الآية. فدل هذا أن الوفاء
بالنذر مما يدفع به شر ذلك اليوم، وقوله: (ويظهر فيهم
السمن) هو كناية عن رغبتهم فى الدنيا، وإيثارهم شهواتها
على الآخرة وما أعد الله فيها لأوليائه من الشهوات التى
تنفد، والنعيم الذى لا يبيد، فهم يأكلون فى الدنيا كما
تأكل الأنعام، ولا يقتدون بمن كان قبلهم من السلف الذين
كانت همتهم من الدنيا فى أخذ القوت والبلغة، وتوفير
الشهوات إلى الآخرة.
- باب النَّذْرِ فِى الطَّاعَةِ
/ 68 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام:
(مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ
نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) . النذر فى الطاعة
واجب الوفاء به عند جماعة الفقهاء لمن قدر عليه، وإن كانت
تلك الطاعة قبل النذر غير لازمة له فنذره لها قد أوجبها
عليه؛ لأنه ألزمها نفسه لله - تعالى - فكل من ألزم نفسه
شيئًا
(6/156)
لله فقد تعين عليه فرض الأداء فيه، وقد ذم
الله من أوجب على نفسه شيئًا ولم يف به، قال تعالى:
(ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم (الآية، وسيأتى
اختلاف العلماء فى النذر فى المعصية فى بابه، إن شاء الله.
- باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لا يُكَلِّمَ
إِنْسَانًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ
/ 69 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ
أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟
قَالَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ) . اختلف العلماء فيمن نذر فى
الجاهلية نذرًا مما يوجبه المسلمون لله ثم أسلم، فقال
الشافعى وأبو ثور: واجب عليه الوفاء بنذره، وإن حنث بعد
إسلامه فعليه الكفارة. وهو قول الطبرى. واحتجوا بقوله عليه
السلام لعمر: (أوف بنذرك) قالوا: وأوامر الرسول على
الوجوب، وهو قول المغيرة المخزومى، والى هذا ذهب البخارى،
وحمل قوله: (أوف بنذرك) على الوجوب، فقاس اليمين على
النذر، فإن كان النذر مما الوفاء به طاعة فى الإسلام لزمه
الوفاء به، وإن كان النذر واليمين مما لا ينبغى الوفاء به،
كيمينه ألا يكلم إنسانًا، فعليه الكفارة فى الإسلام، وكذلك
يقول الشافعى وأبو ثور فيمن نذر معصية أن عليه كفارة يمين.
وقال آخرون: لا يجب عليه شىء من ذلك، وكل من حلف فى كفره
فحنث بعد إسلامه فلا شىء عليه فى كل الأيمان. هذا قول مالك
والثورى والكوفيين.
(6/157)
قال الطحاوى: والحجة فى ذلك قوله عليه
السلام: (ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه) وقالوا: لما كانت
النذور إنما تجب إذا كانت مما يتقرب بها إلى الله - تعالى
- ولا تجب إذا كانت معاصى، وكان الكافر إذا قال: لله على
اعتكاف أو صيام، ثم فعل ذلك، لم يكن بذلك متقربًا إلى
الله، فأشبه ذلك قوله عليه السلام: (لا نذر فى معصية) لأن
ما لم يصح أن يكون طاعة لا يلزم الوفاء به، وقد يجوز أن
يكون قول رسول الله لعمر: (أوف بنذرك) ليس على طريق
الوجوب، ولكن لما كان عمر قد سمح فى حال نذره أن يفعله،
استحب له عليه السلام أن يفى به؛ لأن فعله الآن طاعة لله،
فكان ما أمره به خلاف ما أوجبه هو على نفسه؛ لأن الإسلام
يهدم أمر الجاهلية وقد تقدم فى كتاب الاعتكاف شىء من معنى
هذا الباب فى باب الاعتكاف ليلا.
30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى
نَفْسِهَا صَلاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ: صَلِّى عَنْهَا،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. / 70 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى
أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ،
فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً
بَعْدُه.
(6/158)
/ 71 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى
رَجُلٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَهُ:
إِنَّ أُخْتِى قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا
مَاتَتْ،؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ) ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاقْضِ اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ
بِالْقَضَاءِ) . اختلف العلماء فى وجوب قضاء النذر عن
الميت على ورثته، فقال أهل الظاهر: يقضيه عنه وليه، وهو
واجب عليه صومًا كان أو مالا. وقال جمهور العلماء: ليس ذلك
فى الوارث بواجب، وإن فعل أحسن إن كان صدقة أو عتقًا،
واختلفوا فى الصوم. واختلفوا أيضًا إذا أوصى به، فقالت
طائفة: هو فى ثلثه. وهو قول مالك، وقال آخرون: كل واجب إذا
أوصى به فهو من رأس ماله. وأما أمر ابن عمر وابن عباس
بالصلاة بقباء، فهو على وجه الرأى لا على وجه الإلزام، وقد
روى عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما حكى البخارى عنهما، ذكر
مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا
يصلى أحد عن أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحد. وروى أيوب بن موسى
عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس قال: لا يصلى أحد عن
أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحد. وأجمع الفقهاء أنه لا يصلى أحد
عن أحد فرضًا وجب عليه من الصلاة ولا سنة، لا عن حى ولا عن
ميت. قال المهلب: لو جاز أن يصلى أحد عن أحد؛ لجاز ذلك فى
جميع ما يلزم الأبدان من الشرائع، ولجاز أن يؤمن إنسان عن
آخر، وما كان أحد أحق بذلك من النبى - عليه السلام - أن
يؤمن عن أبويه وعمه أبى طالب ولما نهى عن الاستغفار لمن
استغفر له، ولبطل
(6/159)
معنى قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا
عليها (وإنما أراد - والله أعلم - كسب الفرائض، وأما
النوافل فقد أمر عليه السلام الأعقاب بقضائها عن الأموات
وغيرهم تبرعًا بذلك. وقوله: (كانت سنة) أى سنة فى الحض على
التبرر عن الميت. قال ابن القابسى: وهذا يدل أن الموتى
ينفعهم العمل الصالح، وإن كان من غير أموالهم، وقد قال
تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (لكن فعل هذا سنة لمن
فعله. واختلف العلماء فى النذر الذى كان على أم سعد بن
عبادة، فقال: قوم كان صيامًا. واستدلوا بحديث الأعمش عن
مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (جاء رجل
إلى النبى فقال: إن أمى ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟
قال: نعم) . قال بعض العلماء: لا يصح أن يجعل حديث الأعمش
مفسرًا لحديث الزهرى؛ لأنه قد اختلف فيه على الأعمش، فقال
فيه قوم عنه: (إن امرأة جاءت إلى النبى فقالت: يا رسول
الله، إن أمى ماتت وعليها صيام) . وهذا يدل أنه ليس السائل
عن ذلك سعد بن عبادة، وأنها كانت امرأة، وقد ذكرنا أن ابن
عباس كان يفتى بألا يصوم أحد عن أحد. وقال آخرون: إن النذر
الذى كان على أم سعد كان عتقا، واستدلوا على ذلك بحديث
القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال:
(6/160)
(يا رسول الله، إن أمى هلكت، فهل ينفعها أن
أعتق عنها؟ قال: نعم) ، قالوا: وهذا يفسر النذر المجمل فى
حديث ابن عباس. وقال آخرون: كان النذر صدقة، واستدلوا
بحديث مالك عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن
عبادة، عن أبيه، عن جده (أن سعد بن عبادة خرج فى بعض
المغازى فحضرت أمه الوفاة، فقيل لها: أوصى، فقالت: فيم
أوصى، وإنما المال مال سعد؟ فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فلما
قدم سعد ذُكر ذلك له، فقال سعد: يا رسول الله، هل ينفعها
أن أتصدق عنها؟ فقال: نعم) ، وليس فى هذا بيان النذر
المذكور بل الظاهر فى الحديث أنه وصية، والوصية غير النذر،
ولا خلاف بين العلماء فى جواز صدقة الحى عن الميت نذرًا
كان أو غيره. وقال آخرون: كان نذر أم سعد نذرًا مطلقًا، لا
ذكر فيه لصيام ولا عتق ولا صدقة. قالوا: ومن جعل على نفسه
نذرًا مبهما فكفارته كفارة يمين. روى هذا عن ابن عباس
وعائشة وجابر، وهو قول جمهور الفقهاء. وروى عن سعيد بن
جبير وقتادة أن النذر المبهم أغلظ الأيمان، وله أغلظ
الكفارات: عتق أو كسوة أو إطعام. والصحيح قول من جعل فيه
كفارة يمين، لما رواه ابن أبى شيبة عن وكيع، عن إسماعيل
ابن رافع عن خالد بن يزيد، عن
(6/161)
عقبة بن عامر قال: قال رسول الله: (من نذر
نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين) . وأما الحج عن الميت
فهو مذكور فى كتاب الحج. قال المهلب: وقوله: (أرأيت لو كان
عليها دين) هو تمثيل من النبى (صلى الله عليه وسلم) وتعليم
لأمته القياس والاستدلال، ويبين ذلك أن الديون لازمة
للأموات فى ذمته، فإن لم تكن لهم ذمة من المال لم يلزمهم
الدين إلا فى الآخرة، فحذر النبى - عليه السلام - من أن
يبقى على الميت تباعة من دين كان لخلقه أو من طاعة كان
نذرها، وعرف أن ما لزمه لله أحق أن يقضى مما لزمه لأحدٍ من
عباده حضا وندبًا - والله الموفق.
31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَلاَ نَذْرٍ فِى
مَعْصِيَةٍ
/ 72 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ نَذَرَ
أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ
يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) . / 73 - وفيه: أَنَس، قَالَ
عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ تَعْذِيبِ
هَذَا نَفْسَهُ، وَرَآهُ يَمْشِى بَيْنَ ابْنَيْهِ) . / 74
- وفيه: ابْن عَبَّاس: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) رَأَى رَجُلا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ
غَيْرِهِ، فَقَطَعَهُ. وَقَالَ مرة: يَقُودُ إِنْسَانًا
بِخِزَامَةٍ فِى أَنْفِهِ، فَقَطَعَهَا النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ
بِيَدِهِ.
(6/162)
/ 75 - وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة:
بَيْنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ، إِذ هُوَ
بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو
إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا
يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ عليه
السَّلام: (مُرْهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ،
وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) . ليس فى هذه
الأحاديث شىء من معنى النذر فيما لا يملك، وقد تقدم قبل
هذا شىء منه، وإنما فى هذه الأحاديث من نذر معصية أو ما
ليس بطاعة. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: من نذر
معصية كقوله: لله على أن أشرب الخمر أو أزنى أو أسفك دمًا،
فلا شىء عليه وليستغفر الله، استدلالا بقوله عليه السلام:
(ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه) ولم يذكر كفارة. قال
مالك: وكذلك إذا نذر ما ليس لله بطاعة ولا معصية كقوله:
لله على أن أدخل الدار أو آكل أو أشرب، فلا شىء عليه
أيضًا؛ لأنه ليس فى شىء من ذلك لله طاعة، استدلالا بحديث
أبى إسرائيل. قال مالك: ولم أسمع رسول الله أمره بكفارة.
وقد أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما خالف ذلك. وقول
الشافعى كقول مالك. وقال أبو حنيفة والثورى: من نذر معصية
كان عليه مع تركها كفارة يمين، واحتجوا بحديث عمران بن
حصين وأبى هريرة أن الرسول قال: (لا نذر فى معصية الله،
وكفارته كفارة يمين) ، وهذا حديث لا أصل له؛ لأن حديث أبى
هريرة إنما يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث،
وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن
(6/163)
محمد عن أبيه، وأبوه مجهول، لم يرو عنه غير
ابنه زهير، وزهير أيضًا عنده مناكير. وفى قوله عليه
السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) حجة لمن قال: إن
من نذر ينحر ابنه فلا كفارة عليه؛ لأنه لا معصية أعظم من
إراقة دم مسلم بغير حق، ولا معنى للاعتبار فى ذلك بكفارة
الظهار فى قول المنكر والزور، كما اعتبر ذلك ابن عباس؛ لأن
الظهار ليس بنذر، والنذر فى المعصية قد جاء فيه نص عن
النبى - عليه السلام. قال مالك: من نذرك أن ينحر ابنه ولم
ولم يقل عند مقام إبراهيم، فلا شىء عليه، وكذلك إن لم يرد
أن يحجه، وإن نوى وجه ما ينحر فعليه الهدى. وقال أبو
حنيفة: علية شاة إذا حلف أن ينحر ولده. وقال أبو يوسف: لا
شىء عليه. وبه يأخذ الطحاوى. وفى حديث أبى إسرائيل دليل
على السكوت عن المباح أو عن ذكر الله ليس من طاعة الله،
وكذلك الجلوس فى الشمس، وفى معناه كل ما يتأذى به الإنسان
مما لا طاعة لله فيه ولا قربة بنص كتاب أو
(6/164)
سنة كالجهاد وغيره، وإنما الطاعة ما أمر
الله ورسوله مما يُتقرب بعمله لله، ألا ترى أنه عليه
السلام أمره بإتمام الصيام لما كان لله طاعة.
32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ
يَوْم الْفِطْرَ أَو النَّحْرَ
/ 76 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن رَجلا سَأله عَنْ رَجُل
نَذَرَ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلا صَامه،
فَوَافَقَ يَوْمَ الأَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَقَالَ: (لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)
[الأحزاب: 21] لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأضْحَى
وَالْفِطْرِ، وَلا يَرَى صِيَامَهُمَا. / 77 - وَقَالَ
زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَل ابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ،
فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاثَاءَ -
أَوْ أَرْبِعَاءَ - مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا
الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ فَقَالَ: (أَمَرَ اللَّهُ
بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ
النَّحْرِ) ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ، لا
يَزِيدُ عَلَيْهِ. العلماء مجمعون أنه لا يجوز لأحد صوم
يوم الفطر والنحر، وأن صومهما محرم على قاضٍ فرضًا أو
ناذر، ومن نذر صومهما فقد نذر معصية، وهو داخل تحت قوله
عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) . واختلفوا
فى قضائهما لمن نذر صيام يوم بعينه فوافقهما، وقد تقدم فى
كتاب الصيام، فأغنى عن إعادته.
(6/165)
33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِى الأيْمَانِ
وَالنُّذُورِ الأرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ
وَالأمْتِعَةُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ عليه
السَّلام: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ
أَنْفَسَ مِنْهُ، قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ
أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) . وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ
لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَحَبُّ أَمْوَالِى
إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ
الْمَسْجِدِ. / 78 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، خَرَجْنَا
مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ
نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً، إِلا الأمْوَالَ
وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِى
الضُّبَيْبِ، يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ إلى النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) غُلامًا، يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. . .
الحديث. قال المهلب: إنما أراد البخارى أن يبين أن المال
يقع على كل متملك، ألا ترى قول عمر للنبى: (إنى أصبت أرضًا
لم أصب مالا قط أنفس منه) وقول أبى طلحة: (أحب أموالى إلى
بيرحاء) . وهم القدوة فى الفصاحة ومعرفة لسان العرب. وأما
قوله فى حديث أبى هريرة: (فلم نغنم ذهبًا ولا فضة إلا
الأموال والثياب والمتاع) . فقد اختلفت الرواية فى ذلك عن
مالك، فروى ابن القاسم عنه مثل رواية البخارى، وروى يحيى
بن يحيى وجماعة عن مالك: (إلا الأموال والمتاع والثياب)
وإنما تخرج هذه الرواية على لغة دوس قبيل أبى هريرة، فإنها
لا تسمى العين مالا، وإنما الأموال عندهم العروض والثياب،
وعند غيرهم المال
(6/166)
الصامت من الذهب والفضة خاصة، والمعروف من
كلام العرب أن كل ما تمول وتملك فهو مال، وإنما أراد
البخارى - والله أعلم - الرد على أبى حنيفة فإنه يقول إن
من حلف أو نذر أن يتصدق بمال كله، فإنه لا يقع يمينه ولا
نذره من الأموال إلا على ما فيه الزكاة خاصة، وعند مالك
ومن تبعه تقع يمينه على جميع ما يقع عليه اسم مال، وأحاديث
هذا الباب تشهد لقول مالك، وهو الصحيح.
(6/167)
|