شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب كَفَّارَة الأيْمَانِ
وقَوْلِ اللَّهِ: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) [المائدة: 89] ، وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ نَزَلَتْ: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] . وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِى الْقُرْآنِ (أَوْ) ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ خَيَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَعْبًا فِى الْفِدْيَةِ. / 1 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُهُ - يَعْنِى النَّبِىَّ، عليه السَّلام - فَقَالَ: (ادْنُ) ، فَدَنَوْتُ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ) . وَقَالَ أَيُّوبَ: صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ، وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ. والعلماء متفقون أن (أو) تقتضى التخيير، وأن الحانث فى يمينه بالخيار إن شاء كسا، وإن شاء أطعم، وإن شاء أعتق. واختلفوا فى مقدار الإطعام فى كفارة الأيمان، فقالت طائفة: يجزئه لكل إنسان مد من طعام بمد النبى - عليه السلام - وروى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبى هريرة، وهو قول عطاء، والقاسم، وسالم، والفقهاء السبعة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق، غير أن مالكًا قال: إن أطعم بالمدينة فمدًا لكل مسكين؛ لأنه وسط عيشهم وسائر الأمصار وسطًا من عيشتهم.

(6/168)


وقال ابن القاسم: يجزئه مد بمد النبى حيث ما أخرجه. وقالت طائفة: يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة، وإن أعطى تمرًا أو شعيرًا فصاعًا صاعًا، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعلى، ورواية عن زيد بن ثابت، وهو قول النخعى، والشعبى، والثورى، وسائر الكوفيين. واحتجوا بحديث كعب بن عجرة أن النبى أمره أن يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة فى فدية الأذى على ما ثبت فى كتاب الحج فى حديث كعب. والحجة للقول الأول أن النبى - عليه السلام - أمر فى كفارة الواقع على أهله فى رمضان بإطعام مد لكل مسكين، وإنما ذكر البخارى حديث كعب بن عجرة فى فدية الأذى فى باب كفارة اليمين من أجل التخيير فى كفارة الأذى كما هى فى كفارة اليمين. قال ابن القصار: ومن الحجة لهذه المقالة قوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم (وأوسط ما نطعم أهلينا ما غلب فى العرف، وهو ما يغدى ويعشى ويشبع، وليس فى العرف أن يأكل الواحد صاعًا من شعير أو تمر، الذى هو عندهم ثمانية أرطال، ولا نصف صاع من بر، وهو أربعة أرطال، والحكم معلق على الغالب لا على النادر، ويجوز أن يغدى المساكين ويعشيهم عند مالك والكوفيين، وقال الشافعى: لا يعطيهم المد إلا دفعة واحدة. قال ابن القصار: والجميع عندنا يجوز لقوله: (فكفارته إطعام (

(6/169)


ولم يخص، فإن أطعم بالغداة والعشى فقد أطعم، وعلى أصل مالك يجوز أن يغديهم ويعشيهم دون إدام؛ لأن الأصل عنده مد دون إدام. وذهب مالك فى الأدم إلى الزيت، قال إسماعيل: وأحسبه ذهب إلى الزيت؛ لأنه الوسط من أدم أهل المدينة، وقال غيره: من ذهب إلى مد بمد النبى تأول قوله: (من أوسط ما تطعمون (أنه أراد الوسط من الشبع، ومن ذهب إلى مدين من بر أو صاع من شعير ذهب إلى الشبع، وتأول فى أوسط ما تطعمون الخبز واللبن، والخبز والسمن، والخبز والزيت، قالوا: والأعلى الخبز واللحم، والأدون خبز دون إدام، ولا يجوز عندهم الأدون لقوله: (من أوسط (. واختلف فيما يجزئ من الكسوة فى الكفارة، فقال مالك: ما يستر عورة المصلى، فالرجل يستره القميص، والمرأة قميص ومقنعة؛ لأنها عورة لا يجوز أن يظهر فى الصلاة إلا وجهها وكفاها. وقال أبو حنيفة والشافعى يجزئه ما يقع عليه اسم كسوة. وحجة مالك قوله تعالى) من أوسط (فعطف بالكسوة على الأوسط، فكما يطعم الأوسط، فكذلك يكسو الأوسط. وذهب مالك إلى أنه إذا عدم فى الكفارة العتق والإطعام والكسوة

(6/170)


حتى وجب عليه صيام ثلاثة أيام أنه يجوز له تفريق صومها، وأحب إليه متابعتها، وعند أبى حنيفة لا يجزئه إذا فرقها، وهو أحد قولى الشافعى، وحجة مالك أن الله ذكر صيامًا ولم يشترط فيه التتابع، كما لم يشترط فى فدية الأذى، وحجة الكوفيين أن ابن مسعود قرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات (.
- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) [التحريم: 2] ومَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِىِّ وَالْفَقِيرِ
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ: (تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (اجْلِسْ) ، فَجَلَسَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَذَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَذَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ - قَالَ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ. . .) الحديث. أراد البخارى أن يعرفك أن الكفارة تجب بعد الحنث وانتهاك الذنب، وستأتى مذاهب العلماء فى الكفارة قبل الحنث أو بعده، بعد هذا - إن شاء الله - وقد تقدم ما للعلماء فى الفقير تجب عليه الكفارة ولا يجد ما يكفر، هل تسقط عنه أو تبقى فى ذمته إلى حال يسره فى كتاب الصيام. واستدل مالك والشافعى بهذا الحديث أن الإطعام فى كفارة الأيمان مُد لكل مسكين؛ لأن المكتل الذى أتى به عليه السلام وقال للواطئ:

(6/171)


خذه فتصدق به. كان فيه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مدا، فالذى يصيب كل مسكين منهم مُد. وزعم الكوفيون أنه قد يجوز أن يكون النبى لما علم حاجة الرجل أعطاه المكتل من التمر بالخمسة عشر صاعًا ليستعين به فيما وجب عليه لا على أنه جميع ما وجب عليه، كالرجل يشكو إلى الرجل ضعف حاله وما عليه من الدين، فيقول له خذ هذه العشرة دراهم فاقض بها دينك، ليس على أنها تكون قضاء عن جميع دينه، ولكن على أن تكون قضاء لمقدارها من دينه. وهذه دعوى لا دليل عليها إلا الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئًا، وقول مالك أولى بالصواب، وهو ظاهر الحديث؛ لأن النبى - عليه السلام - لم يذكر مقدار ما تبقى عليه من الكفارة بعد الخمسة عشر صاعًا ولم يكن يسعه السكوت عن ذلك حتى يبينه؛ لأنه بُعث معلمًا.
- باب يُعْطِى فِى الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ لَهُ: (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . قال المهلب: قال تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين (فجاء هذا اللفظ مبهمًا بغير شرط قريب ولا بعيد، وبين النبى - عليه السلام - فى كفارة المفطر فى رمضان أنه جائز فى الأقارب لقوله: (أطعمه أهلك) فقاس البخارى بذلك المبهم من كفارة الأيمان بالله؛ لأنه مفسر، والمفسر يقضى على المجمل، إلا أن أكثر العلماء

(6/172)


على أن الفقير تبقى الكفارة فى ذمته، فمن قال هذا لا يجيز أن يعطى الكفارة أحدًا من أهله ممن تلزمه نفقته إلا وتكون باقية فى ذمته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقتهم فيجوز أن يعطيهم، ويجزئه فى الكفارة، وقد تقدم بيان هذا فى كتاب الصيام.
3 - باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
/ 4 - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ. / 5 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُعْطِى زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُدِّ الأوَّلِ، وَفِى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ، فَضَرَبَ لكم مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِأَىِّ شَىْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْتُ: كُنَّا نُعْطِى بِمُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: أَفَلا تَرَى أَنَّ الأمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 6 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ) . وقوله: (كان الصاع على عهد النبى مدا وثلثًا) يدل أن مدهم ذلك الوقت حين حدث به السائب وزنه أربعة أرطال، وإذا زيد

(6/173)


عليه ثلثه، وذلك رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث، وهو الصاع بدليل أن مد النبى - عليه السلام - فيه رطل وثلث، وصاعه أربعة أمداد بمده عليه السلام، وأما مقدار ما زيد فيه فى زمن عمر بن عبد العزيز فلا يعلم ذلك إلا بخبر. وقوله: إن ابن عمر كان يعطى زكاة رمضان وفى كفارة اليمين بمد النبى - عليه السلام - الأول، فإنما وصف مد النبى - عليه السلام - بالأول ليفرق بينه وبين مد هشام الحادث الذى أحدثه أهل المدينة فى كفارة الظهار، ليغلظها على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورًا، فجعلوها بمد هشام، وهو أكبر من مد النبى بثلثى مد، ولم يكن للنبى - عليه السلام - إلا مد واحد، وهو الذى نقله أهل المدينة، وعمل به الناس إلى اليوم. والفقهاء على قولين فى كفارة الأيمان، فطائفة تقول: إن الكفارات كلها بمد النبى - عليه السلام - مد مد لكل مسكين، وكذلك الإطعام عمن فرط فى صيام رمضان حتى يأتى رمضان آخر، وهو قول مالك والشافعى على ما ثبت فى هذه الأحاديث وحديث الواقع على أهله فى رمضان. وقال أهل العراق: الكفارات كلها مدان مدان لكل مسكين قياسًا على ما أجمعوا عليه من فدية الأذى فى حديث كعب بن عجرة أن النبى أمره أن يطعم كل مسكين نصف صاع. قال المهلب: وإنما دعا النبى - عليه السلام - لهم بالبركة فى مكيالهم وصاعهم ومدهم، فإنه خصهم من بركة دعوته بما أضطر أهل الأرض كلها أن يشخصوا إلى المدينة ليأخذوا هذا المعيار المدعو له

(6/174)


بالبركة، وينقلوه إلى بلدانهم، ويكون ذلك سنة فى معايشهم وما افترض الله عليهم لعيالهم، وقد تقدم فى كتاب الوضوء والغسل الحجة لمقدار مده وصاعه عليه السلام بما فيه مقنع.
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ: (فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة (وَأَىُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟
/ 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ) . اختلف العلماء فى عتق غير المؤمنة فى كفارة اليمين، فقال مالك والأوزاعى والشافعى: لا تجزئ إلا برقبة مؤمنة، وأجاز عطاء بن أبى رباح عتق غير المؤمنة، وهو قول الكوفيين وأبى ثور، واحتج الكوفيون أن الله إنما شرط الرقبة المؤمنة فى كفارة قتل الخطأ خاصة، ولم يشترط المؤمنة فى كفارة اليمين بالله، ولا فى كفارة الظهار، فلا يجب أن يتعدى بالمؤمنة غير الموضع الذى ذكرها الله فيه. قال الطحاوى: فلا تقاس الرقبة على الرقبة، كما لم يقس الصوم المطلق على المتتابع، وكما لم يجعل الإطعام فى القتل بدلا من الصوم قياسًا على الظهار. وحجة القول الأول أن الله - تعالى - لما شرط فى كفارة قتل الخطأ الرقبة المؤمنة، وكانت كفارة ثم ذكر فى كفارة اليمين وكفارة الظهار

(6/175)


رقبة، ولم يذكر مؤمنة ولا غير مؤمنة، وكانت كفارات كلها، وجب اعتبار المؤمنة فى كل موضع، ألا ترى أن الله شرط العدالة فى الشهادة بقوله: (ممن ترضون من الشهداء (ثم قال فى موضع آخر: (وأشهدوا إذا تبايعتم (ولم يختلف العلماء أن العدالة من شرط الإشهاد فى التبايع، وجب أن يكون مثل ذلك فى الرقبة، وهذا عندهم من باب المجمل الذى يقضى عليه المفسر، فلما فسر أمر الرقبة فى الموضع الواحد استغنى عن إعادتها فى كل موضع، ألا ترى أن النبى إنما حض على عتق المؤمن، لأنه أزكى وأطهر، ولم يختلف العلماء فى جواز عتق الكافر فى التطوع، واحتج مالك فى ذلك بقول الله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (فالمن: العتق للمشركين، وقد من رسول الله على جماعة منهم.
5 - باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِى الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
وَقَالَ طَاوُسٌ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ. / 8 - فيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ عليه السَّلام، فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى) ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك: لا يجوز أن يعتق فى الرقاب الواجبة مكاتب ولا مدبر ولا أم ولد ولا معتق إلى سنين.

(6/176)


وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، إلا أن الشافعى أجاز عتق المدبر. وأن الكوفيين والأوزاعى قالوا: إن كان المكاتب قد أدى شيئًا من كتابته فلا يجوز عتقه فى الكفارة، وإن لم يؤد شيئًا جاز عتقه وبه قال الليث وأحمد وإسحاق. وفيه قول ثالث: أن عتقه يجزئ وإن أدى بعض كتابته، قال: لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم فهو يباع، وقد اشترت عائشة بريرة بأمر النبى عليه السلام. وهذا قول أبى ثور. وحجة مالك ومن وافقه أن المكاتب والمدبر وأم الولد قد ثبت لهم عقد حرية لا سبيل إلى دفعها، والله - تعالى - إنما ألزم من عليه عتق رقبة واجبة أن يبتدئ عتقها من غير عقد حرية تقدمت فيها قبل عتقه فقال تعالى: (فتحرير رقبة (ولم يقل بعض رقبة. واحتج الشافعى فى المدبر يجزئ عتقه فى الكفارة بحديث جابر أن النبى - عليه السلام - باع المدبر على الذى لم يكن له مال غيره من نعيم النحام، وقال: لما جاز بيعه جاز عتقه فى الكفارة وغيرها؛ لأنه لو كانت فيه شعبة من الحرية لم يبعه النبى - عليه السلام. وقال المالكيون: من جعل جواز البيع حجة على جواز عتقه فقوله غير صحيح؛ لأن كثيرًا ممن يجوز بيعه لا يجوز عتقه مثل الأعمى والمقعد وشبهه. وقال مالك والكوفيون: إنما بيع المدبر فى حديث جابر؛ لأن تدبيره

(6/177)


كان سفهًا، وكان من الإعلان بسوء النظر لنفسه، فلذلك رده النبى - عليه السلام - لأن تدبيره كلا تدبير، وبهذا الحديث احتج بعض العلماء فى جواز نقض أفعال السفيه قبل أن يولى عليه، وأما التدبير الصحيح بخلاف هذا، لا يجوز أن يباع من ثبت له ذلك؛ لأنه قد ثبت له شرط الحرية بعد الموت. وأما عتق أم الولد فى الرقاب الواجبة، فإن فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز عتقها فى ذلك من أجل أنه قد ثبت لها شرط الحرية بعد موت سيدها، على ما حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة، وما ذكره البخارى عن طاوس أنه أجاز عتقها فى الرقاب الواجبة، فهو قول النخعى والحسن البصرى، وحجتهم الإجماع على أن أحكامها فى جراحها وحدودها أحكام أمة، لا أحكام حرة. وأما عتق ولد الزنا فى الرقاب الواجبة، فأجاز عتقه جمهور الفقهاء روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب، وعائشة، وجماعة من الصحابة - رضى الله عنهم - وقال عطاء والشعبى والنخعى: لا يجوز عتقه، وهو قول الأوزاعى وما روى عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام - قال فيه: (إنه شر الثلاثة) . فقد روى عن ابن عباس وعائشة إنكار ذلك، قال ابن عباس: لو كان شر الثلاثة ما استوى بأمه حتى تضعه، وقالت عائشة: ما عليه من ذنب أبويه شىء، ثم قرأت: (ولا تز وازرة وزر أخرى (.

(6/178)


6 - باب إِذَا أَعْتَقَ عبدًا بينه وبين آخر فِى الْكَفَّارَةِ، لِمَنْ يَكُونُ وَلاؤُهُ؟
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك والأوزاعى: إذا أعتق أحد الشريكين عبدًا بينه وبين غيره عن الكفارة، إن كان موسرًا أجزأه ويضمن لشريكه حصته، وإن كان معسرًا لم يجزئه، وهو قول محمد وأبى يوسف والشافعى وأبى ثور. وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: لا يجزئه عن الكفارة موسرًا كان أو معسرًا. وحجة مالك أن للمعتق الموسر إذا لم يكن شريكه يعتق نصيبه، فالعبد كله على الموسر حر، فلذلك أجزأ عنده، وحجة من لم يجز العتق أنه أعتق نصف عبد لا عبدًا كاملا؛ لأن أصل أبى حنيفة أن الشريك مخير، إن شاء قوم على شريكه، وإن شاء استسعى العبد فى نصف قيمته، وإن شاء أعتق فيكون الولاء بينهما نصفين. وأما الولاء فهو للمكفر المعتق عند جمهور العلماء؛ لأنه لما أعتق نصيبه وكان موسرًا أوجب عليه عتقه كله، وقد قال عليه

(6/179)


السلام: (الولاء لمن أعتق) فلذلك أدخل البخارى حديث بريرة فى هذا الباب.
7 - باب الاسْتِثْنَاءِ فِى الأيْمَانِ
/ 10 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، مَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ) ، ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأُتِىَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاثَةِ ذَوْدٍ، فقلنا: لا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فأخبرناه، فَقَالَ: (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ إِنِّى وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرِهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى. / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلٌّهن تَلِدُ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ - يَعْنِى الْمَلَكَ -: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَسِىَ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلا وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلامٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تَرَوْنَهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِى حَاجَتِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ عليه السَّلام: (لَوِ اسْتَثْنَى) . اختلف العلماء فى الوقت الذى إذا استثنى فيه الحالف سقطت عنه الكفارة، فقال مالك والكوفيون والأوزاعى والليث

(6/180)


والشافعى وجمهور العلماء: الثُنَيا لصاحبها فى اليمين ما كان من ذلك نسقًا يبتع بعضه بعضًا، ولم يقطع كلامه قطعًا يشغل عن الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه، فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له. وقال الحسن البصرى وطاوس: للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: أو يتكلم. وقال أحمد: يكون له الاستثناء ما دام فى ذلك الأمر. وكذلك قال إسحاق، إلا أن يكون سكوت ثم عود إلى الأمر، وعن عطاء رواية أخرى، وهو أن له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة، وقال سعيد بن جبير: له ذلك بعد أربعة أشهر. وقال مجاهد: له ذلك بعد سنتين. وروى عن ابن عباس أنه قال: يصح له الاستثناء ولو بعد حين. فقيل: أراد به سنة. وقال ابن القصار: وقيل: أراد به أبدًا. وروى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: يستثنى فى يمينه متى ذكر، واحتج بقوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت (. واحتج من أجاز الاستثناء بعد السكوت بما روى قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى - عليه السلام - قال: (والله لأغزون قريشًا - ثلاثًا - ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله) . قال ابن القصار: ولا حجة فى هذا؛ لأن حديث ابن عباس رواه شريك عن سماك عن عكرمة، عن النبى، فالحديث مرسل،

(6/181)


ولو صح عن ابن عباس لم يرد به إسقاط الحنث، وإنما أراد - والله أعلم - أن الله - تعالى - أوجب الاستثناء على كل قائل أنه يفعل شيئًا بقوله: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (يقول: فإذا نسى: إن شاء الله، فليقله أى وقت ذكره ولو بعد سنةٍ، حتى يخرج بذلك عن المخالفة، لا أنه يجوز هذا فى اليمين، ولو صح الخبر عن النبى - عليه السلام - احتمل أن يكون ناويًا للاستثناء وسكوته ليتذكر شيئًا أراده فى اليمين حتى إذا تممه استثنى، ويجوز أن يكون لانقطاع نَفَسٍ، أو لشىء شغله عن اتصال الاستثناء حتى يتمكن منه. ومن حجة أهل المقالة الأولى أيضًا قوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه) ولو أمكنه أن يخرج من هذه اليمين بقوله: إن شاء الله، لما أوجب كفارة على حانث أبدًا، ولقال له عليه السلام: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فاستثن وائت الذى هو خير ولم يذكر كفارة، ولبطل معنى قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (وكذلك معنى حديث سليمان أن كان حلف بالله ليطوفن على نسائه، فإن الاستثناء بعد يمينه متى أرادها كانت تخرجه من الحنث، لو كان كما زعم من خالف أئمة الفتوى.

(6/182)


وقد قيل: إن قوله: (لأطوفن) لم يكن يمينًا على ما يأتى بيانه فى هذا الباب - إن شاء الله. قال المهلب: وإنما جعل الله الاستثناء فى اليمين رفقًا منه بعباده فى أموالهم؛ ليوفر بذلك الكفارة عليه إذا ردوا المشيئة إليه تعالى. واختلفوا فى الاستثناء فى الطلاق والعتق، فقال مالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى: لا يجوز فيه الاستثناء وروى مثله عن ابن عباس، وابن المسيب، والشعبى، والحسن، وعطاء، ومكحول، وقتادة، والزهرى. وأجاز الاستثناء فيهما طاوس والنخعى والحكم ورواية عن عطاء، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى وإسحاق، واحتج لهم بعموم قوله عليه السلام فى حديث سليمان: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) وأن قول الحالف: إن شاء الله، عامل فى جميع الأيمان، لأنه لم يخص بعض الأيمان من بعض، فوجب أن يرفع الاستثناء الحنث فى الطلاق والعتق وجميع الأيمان. وحجة من أوجب الطلاق والعتق ومنع دخول الاستثناء فيهما، أن الاستثناء لا يكون إلا فى اليمين بالله وحده، وبذلك ورد الأثر عن النبى أنه قال: (من حلف بالله ثم قال: إن شاء الله، فلا حنث عليه) أسنده أيوب السختيانى، وكثير بن فرقد، وأيوب بن موسى

(6/183)


عن نافع، عن ابن عمر - فى اليمين - عن النبى - عليه السلام - وذكره مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر من قوله. قال الأبهرى: فكان ذكره الاستثناء إنما هو فى اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدى ذلك إلى غيرها بغير دليل، وأما من جهة القياس، فلما كان الطلاق والعتق لا تحله الكفارة التى هى العتق والإطعام والكسوة، وهى أقوى فعلا وأغلظ على النفوس من الاستثناء الذى هو القول لم يحله القول، لأن ما لا يحله الأوكد لم يحله الأضعف، ولا تعلق لهم بحديث سليمان، لأن ظاهر قوله: (لأطوفن) لم يكن معه يمين، وإنما كان قولاً جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله، فعاقبه الله بالحرمان، كما قال تعالى لمحمد نبيه: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (وأدب عباده بذلك ليتبرءوا إليه تعالى من الحول والقوة، ولم يكن قول سليمان يمينا بالله يوجب عليه الكفارة فتسقط عنه بالاستثناء. فإن قيل: قوله عليه السلام: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) يدل أنه كان يمينًا. قيل: معنى قوله: (لم يحنث) لم يأثم على تركه استثناء مشيئة الله - تعالى - فلما أعطى لنفسه الحول عاقبه الله بالحرمان وخيبه، فكأنه تحنيث لقوله، والحنث فى لسان العرب: الإثم.

(6/184)


ومن لم يرد المشيئة إلى الله - تعالى - فى جميع أموره فقد أثم وحرج، والحنث أيضًا أن لا يبر ولا يصدق. ووقع فى رواية أبى زيد: (بشائل) مكان قوله: (بإبل) وأظنه (بشوائل) إن صحت الرواية، وقال أبو عبيد عن الأصمعى: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها، فهى حينئذ شائل، وجمعها: شوائل. وفى كتاب العين: ناقة شائلة، ونوق شول للتى جف لبنها. وشولت الإبل: لزقت بطونها بظهورها.
8 - باب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
/ 12 - فيه: حديث أَبِى مُوسَى، إلى قوله عليه السَّلام: (إِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا) . / 13 - وفيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ. . . . . .) إلى قوله: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ) . اختلف العلماء فى جواز الكفارة قبل الحنث، فقال ربيعة ومالك والثورى والليث والأوزاعى: تجزئ قبل الحنث. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وروى مثله عن ابن عباس وعائشة وابن عمر. وقال الشافعى: يجوز تقديم الرقبة والكسوة والإطعام قبل

(6/185)


الحنث، ولا يجوز تقديم الصوم. وقال أبو جنيفة وأصحابه: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. قال ابن القصار: ولا سلف لأبى حنيفة فى ذلك. واحتج له الطحاوى بقوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم (والمراد إذا حلفتم فحنثتم. ولم يذكر البخارى فى حديث أبى موسى ولا فى حديث عبد الرحمن بن سمرة فى هذا الباب تقديم الكفارة قبل الحنث، وقد ذكر ذلك فى باب الاستثناء فى الأيمان، وفى أول كتاب الأيمان، وهو قوله عليه السلام: (إلا كفرت عن يمينى وأتيت الذى هو خير، أو أتيت الذى هو خير وكفرت عن يمينى) . وقال ابن المنذر: قد قال بعض أصحابنا: إنه ليس فى اختلاف ألفاظ هذه الأحاديث إيجاب لتقديم أحدهما على الآخر، إنما أمر الحالف بأمرين: أمر بالحنث والكفارة، فإذا أتى بهما جميعًا فقد أطاع وفعل ما أمر به كقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله (فأيهما قدم على الآخر فقد أتى بما عليه، كذلك إذا أتى بالذى هو خير وكفر فقد أتى بما عليه. قال ابن القصار: وقد رأى جواز تقديم الكفارة قبل الحنث أربعة عشر من الصحابة، وهم: ابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وأبو الدرداء، وأبو أيوب، وأبو موسى، وأبو مسعود،

(6/186)


وحذيفة، وسلمان، ومسلمة بن مخلد، وابن الزبير، ومعقل، ورجل لم يذكر، وبعدهم من التابعين: سعيد بن المسيب وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سرين، وعلقمة، والنخعى، والحكم بن عتيبة، ومكحول. فهؤلاء أعلام أئمة الأمصار، ولا نعلم لهم مخالفًا إلا أبا حنيفة، على أن أبا حنيفة يقول ما هو أعظم من تقديم الكفارة، وذلك لو أن رجلا أخرج عنزا من الظباء من الحرم، فولدت له أولادًا ثم ماتت فى يده هى وأولادها، أن عليه الجزاء عنها وعن أولادها، وإن كان حين أخرجها أدى جزاءها ثم ولدت أولادًا ثم ماتت هى وأولادها لم يكن عليه فيها ولا فى أولادها شىء. ولا شك أن الجزاء الذى أخرجه عنها وعن أولادها كان قبل أن تموت هى وأولادها، ومن قال هذا لم ينبغ له أن ينكر تقديم الكفارة قبل الحنث. وأما قوله: تقدير الآية: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتهم فحنثتم؛ فتقدير الآية عندنا: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأردتم أن تحنثوا. وأما قول الشافعى: لا يجوز تقديم الصيام على الحنث، فيرد عليه قوله عليه السلام: (فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير) ولم يخص شيئًا من جنس الكفارة فى جواز التقديم، فإن قال: إن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها

(6/187)


كالصلاة، والعتق والكسوة والإطعام من حقوق الأموال فهى كالزكاة يجوز تقديمها. قيل له: ليس كل حق يتعلق بالمال يجوز تقديمه قبل وقته، ألا ترى أن كفارة القتل وجزاء الصيد لا يجوز تقديمه قبل وجوبه، وقد جاز تقديم العتق والإطعام والكسوة فى كفارة اليمين قبل وجوبه، فكذلك يجوز تقديم صيامها. وقال الأبهرى: وأما جواز تقديم ذلك من طريق النظر؛ فلأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء إذا اتصل باليمين وإنما هو قول؛ كانت الكفارة بأن تحل عقد اليمين أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها ترفع حكم الحنث حتى كأنه لم يكن فكذلك ترفع حكم العقد حتى كأنه لم يكن وتشبيهه الإطعام والكسوة والعتق بالزكاة يجوز تقديمها فغير صحيح؛ لأن الزكاة لما كان وجوبها معلقًا بوقت لم يجز تقديمها، كما لا يجوز فى الصلاة والصيام، ووقت الكفارة غير معلق بوقت، وإنما هو على حسب ما يريده المكفر من الحنث، فكان فعلها جائزًا قبل الحنث وبعده.

(6/188)