شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الْبُيُوعِ
- بَاب مَا جَاءَ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الأرْضِ (إلى آخر السورة وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [الجمعة: 10]
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ؟ وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَقَدْ قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلا وَعَى مَا أَقُولُ) ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَىَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِى، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تِلْكَ مِنْ شَىْءٍ. / 2 - وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّى لأَكْثَرُ الأنْصَارِ مَالا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِى، وَانْظُرْ أَىَّ زَوْجَتَىَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لا حَاجَةَ لِى فِى ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ. . . الحديث.

(6/189)


/ 3 - وفيه: ابْن عَبَّاس كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاء الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ. قال المؤلف: أباح الله التجارة فى كتابه وأمر بالابتغاء من فضله، وكان أفاضل الصحابة يتجرون ويتحرفون فى طلب المعاش، وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرجل لا حرفة له ولا صناعة؛ خشية أن يحتاج إلى الناس فيذل لهم، وقد روى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى، خذ من الدنيا بلاغك، وأنفق من كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا وعلى أعناق الرجال كلا. وروى عن حماد بن زيد أنه قال: كنت عند الأوزاعى فحدثه شيخ كان عنده أن عيسى ابن مريم - عليه السلام - قال: إن الله يحب العبد يتعلم المهنة يستغنى بها عن الناس، وإن الله - تعالى - يبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة. وقال أبو قلابة لأيوب السختيانى: إنى يا أيوب ألزم السوق؛ فإن الغنى من العافية. قال المهلب: وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أنه لا بأس للشريف أن يتصرف فى السوق فى البيع والشراء، ويتعفف بذلك عما يبذل له من المال وغيره. وفيه: الأخذ بالشدة على نفسه فى أمر معاشه، وأن العيش

(6/190)


من الصناعات أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الهبات والصدقات وشبهها. وفيه: بركة التجارة، وفيه: المؤاخاة فى الإسلام على التعاون فى أمر الله، وبذل المال لمن يؤاخى عليه. وفيه معان ستأتى فى كتاب النكاح - إن شاء الله. وفى حديث أبى هريرة: الحرص على التعلم وإيثار طلبه على طلب المال. وفيه: فضيلة لأبى هريرة وهى أن النبى - عليه السلام - خصه بأن يبسط له رداءه، وقال: ضمه، فما نسى من مقالة النبى - عليه السلام - تلك من شىء، وقد تقدم فى كتاب العلم. وأما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (فإن إسماعيل بن إسحاق قال: كل شىء حرمه الله من القمار ومن البيوع الفاسدة فهو من أكل المال بالباطل؛ لأن المقامر يقول لصاحبه: إن كان كذا فلى كذا، وإن لم يكن فلك كذا، وكذلك البيع الفاسد من الغرر؛ لأنه يبيع صاحبه البيع الذى فيه غرر، فإن سلم غلبه المشترى، وإن لم يسلم غلبه البائع. وأما الربا فليس فساده من وجه القمار والغرر، ولكنه أخذ من صاحبه عوضًا للتأخير الذى لم يجعله الله له ثمنًا، والقرض الذى يجر منفعة، وما أشبه ذلك.

(6/191)


وقوله: (من مساكين الصفة) فإن العرب تقول: صففت البيت وأصففته: جعلت له صفة، وهى السقيفة أمامه، وأصحاب الصفة: الملازمون لمسجد النبى - عليه السلام - وقوله: (فبسطت نمرة) النمرة: ثوب مخمل من وبر أو صوف.
- باب الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ
/ 4 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام: (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِى حِمَى اللَّهِ، فَمَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ) . قال المؤلف: ما نص الله على تحليله فهو الحلال البين، كقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم () وأحل الله البيع () وأحل لكم ما وراء ذالكم (وما نص على تحريمه فهو الحرام البين، مثل قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم (إلى آخر الآية) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا (وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدًا أو عقوبة أو وعيدًا فهو الحرام، كأكل أموال اليتامى، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا باب يتسع

(6/192)


القول فيه، وهو واضح يغنى عن تدبره وطلبه. وأما المشتبهات فكل ما تنازعته الأدلة من الكتاب والسنة وتجاذبته المعانى فوجه منه يعضده دليل الحرام ووجه منه يعضده دليل الحلال، فهذا الذى قال فيه عليه السلام: (وبينهما أمور مشتبهة) ، وقال فيه: (من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، فالإمساك عنه ورع، والإقدام عليه لا يقطع عالم بتحريمه؛ لأن الحرام ما عرف بعينه منصوصًا عليه أو فى معنى المنصوص. وقد اختلف العلماء فى معنى الشبهات، فقالت طائفة: الشبهات التى أشار إليها عليه السلام فى هذا الحديث حرام أو فى حيز الحرام، واستدلوا بقوله عليه السلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد واقع الحرام. وقال آخرون: الشبهات المذكورة فى هذا الحديث حلال بدليل قوله عليه السلام فيه: (كالراعى حول الحمى) فجعل الشبهات ما حول الحمى، وما حول الحمى غير الحمى، فدل أن ذلك حلال وأن تركه ورع، والورع عند ابن عمر ومن ذهب مذهبه ترك قطعة من الحلال خوف مواقعة الحرام. وقال آخرون: الشبهات لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام، لأن النبى - عليه السلام - قال: (الحلال بين والحرام بين) وجعل الشبهات غير الحلال البين والحرام البين، فوجب أن نتوقف عندها، وهذا من باب الورع أيضًا، ويقضى عليه قوله عليه السلام:

(6/193)


(لا يعلمها كثير من الناس) فدل أن منهم من يعلمها، فمن علمها فهى عنده فى أحد الحيزين الحلال أو الحرام، وسأتقصى الكلام فى هذا المعنى فى الباب بعد هذا - إن شاء الله تعالى. وقال أبو الحسن بن القابسى: افهموا تكرير أسانيد هذا الحديث، ذكر فى الإسنادين الأولين الشعبى سمعت النعمان، سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) وفى الإسناد الثالث النعمان عن النبى، وفى الرابع النعمان قال النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما ذكر هذا، لأن يحيى بن معين قال: قال أهل المدينة: إن النعمان بن بشير لا يصلح له سماع من النبى (صلى الله عليه وسلم) حديث علنى، أى فلا بد أنه عقل عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مجاوبته لأبيه.
3 - باب تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِى سِنَانٍ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الْوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ. / 5 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ) ؟ وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِى إِهَابٍ. / 6 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) ، (واحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَة لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) .

(6/194)


/ 7 - وفيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْسِلُ كَلْبِى، وَأُسَمِّى فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ لَمْ أُسَمِّ عَلَيْهِ، وَلا أَدْرِى أَيُّهُمَا أَخَذَ، قَالَ: (لا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَرِ) . قد تقدم فى الباب قبل هذا أن الشبهات ما تنازعته الأدلة، وتجاذبته المعانى، وتساوت فيه الأدلة، ولم يغلب أحد الطرفين صاحبه، وبيان ذلك فى حديث عقبة بن الحارث، وذلك أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفتاه بالتحرر من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يُخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة: أنها أرضعتهما، لكنه لم يكن قاطعًا ولا قويا لإجماع العلماء أن شهادة امرأة واحدة لا تجوز فى مثل ذلك، لكن أشار عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالأحوط. وأما حديث ابن وليدة زمعة فإنه عليه السلام حكم فيه بالولد للفراش لزمعة على الظاهر، وأنه أخو سودة على سبيل التغلب لا على سبيل القطع أنه لزمعة عند الله - عز وجل - ثم أمر سودة بالاحتجاب منه؛ للشبهة الداخلة عليه وهى ما رأى من شبهه بعتبة فاحتاط لنفسه وذلك فعل الخائفين لله عز وجل إذ لو كان ابن زمعة فى علم الله فى حكمه هذا لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها. وأما حديث عدى بن حاتم فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفتاه بالتنزه عن الشبهة

(6/195)


أيضًا خشية أن يكون الكلب الذى قتله غير مسمى عليه، فكأنه أهل به، وقد قال الله - تعالى - فى ذلك: (وإنه لفسق (فكأن فى فتياه عليه السلام باجتناب الشبهات دلالة على اختيار القول فى الفتوى، والاحتياط فى النوازل والحوادث المحتملات للتحليل والتحريم التى لا يقف العالم على حلالها وحرامها؛ لاشتباه أسبابها، وهذا معنى قوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) يقول: دع ما تشك فيه ولا تتيقن إباحته، وخذ ما لا شك فيه ولا التباس. وقال ابن المنذر: قال بعضهم: الشبهات تنصرف على وجوه: فمنها شىء يعلمه المرء محرمًا ثم يشك فيه هل حل ذلك أم لا، فما كان من هذا النوع فهو على أصل تحريمه، لا يحل التقدم عليه إلا بيقين، مثل الصيد حرام على المرء أكله قبل ذكاته، وإذا شك فى ذكاته لم يزل عن التحريم إلا بيقين الذكاة، والأصل فيه حديث عدى بن حاتم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (إذا أرسلت كلبك فخالطه كلب لم تسم عليه فلا تأكل؛ فإنك لا تدرى أيهما قتله) ، وهذا أصل لكل محرم أنه على تحريمه حتى يعلم أنه قد صار حلالا بيقين، ومن ذلك أن يكون للرجل أخ له ولا وارث له غيره، فتبلغه وفاته ولأخيه جارية، فهى محرمه عليه حتى يوقن بوفاته، ويعلم أنها قد حلت له. وكذلك لو أن شاتين ذكية وميتة سلختا فلم يدر أيهما الذكية؛ كانتا محرمتين بقين على أصل التحريم حتى يعلم الذكية من الميتة، ولا يحل أن يأكل منهما واحدة بالتحرى؛ لأنهما كانتا محرمتين بيقين، فلا يجوز الانتقال من يقين التحريم إلى شك الإباحة. والوجه الثانى: أن يكون الشىء حلالا فيشك فى تحريمه، فما كان

(6/196)


من هذه الوجه فهو على الإباحة حتى نعلم تحريمه بيقين، كالرجل تكون له الزوجة فيشك فى طلاقها، أو يكون له جارية فيشك فى وقوع العتق عليها، فالأصل فى هذا حديث عبد الله بن زيد أن من شك بالحدث بعد أن أيقن بالطهارة فهو على يقين طهارته؛ لقوله عليه السلام: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) . والوجه الثالث: أن يُشكل الشىء فلا يدرى أحرام هو أو حرام، ويحتمل الأمرين جميعًا ولا دلالة على أحد المعنيين، فالأحسن التنزه عنه كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى التمرة الساقطة.
4 - باب مَا يُتَنَزَّهُ عَنْهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ
/ 8 - فيه: أَنَس، مَرَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ، فَقَالَ: (لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لأكَلْتُهَا) . وقال أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أجد تمرة ساقطة على فراشى) . قال المهلب: إنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل التمرة تنزهًا عنها؛ لجواز أن تكون من تمر الصدقة، وليس على أحد بواجب أن يتبع الجوازات؛ لأن الأشياء مباحة حتى يقوم حتى يقوم الدليل على التحظير، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره ولم يدر أحلال هو أو حرام واحتمل المعنيين، ولا دليل على أحدهما، ولا يجوز أن يحكم على أحد من مثل ذلك أنه أخذ حرامًا؛ لاحتمال أن يكون حلالا، غير أنا نستحب من باب الورع أن نقتدى برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما فعل فى التمرة، وقد قال عليه السلام لوابصة بن معبد حين سأله عن الِبرَ والإثم فقال:

(6/197)


(البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، وقال ابن عمر: لا يبلغ أحد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك فى الصدر. وقال أبو الحسن بن القابسى: إن قال قائل: إذا وجد التمرة فى بيته فقد بلغت محلها وليست من الصدقة. قيل له: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقسم الصدقة ثم ينقلب إلى أهل، فربما علقت تلك التمرة بثوبه فسقطت على فراشه؛ فصارت شبهة. قال غيره: وفيه من الفقه: تحريم قليل الصدقة وكثيرها على النبى (صلى الله عليه وسلم) وآله، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الزكاة. وفيه أيضًا: أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة ويتشاح فى مثله، وأما التمرة واللبابة من الخبز أو التينة أو الزبيبة، وما أشبه ذلك، فقد أجمعوا على أخذها ورفعها من الأرض، وإكرامها بالأكل دون تعريفها، استدلالا بقوله عليه السلام: (لأكلتها) ، وأنها مخالفة لحكم اللقطة، وسيأتى ذلك فى كتاب اللقطة.
5 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ
/ 9 - فيه: عبد الله بن زيد، شُكِىَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الرَّجُلُ يَجِدُ فِى الصَّلاةِ شَيْئًا، أَيَقْطَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ: (لا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) .

(6/198)


وَقَالَ الزُّهْرِىِ: لا وُضُوءَ إِلا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ. / 10 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أقَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِى أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ) . إنما لم يدخل الوسواس فى حكم الشبهات المأمور باجتنابها لقوله عليه السلام: (إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم) ، فالوسوسة ملغاة مطرحة لا حكم لها ما لم تستقر وتثبت، وحديث عبد الله بن زيد محمول عند الفقهاء [. . . . .] الذى يعتريه ذلك كثيرًا، بدليل قوله: (شكى إلى النبى) ذلك، لأن الشكوى إنما تكون من علة، فإذا كثر الشك فى مثل ذلك وجب إلغاؤه وإطراحه، لأنه لو أوجب له عليه السلام حكمًا لما انفك صاحبه من أن يعود إليه مثل ذلك التخيل والظن، فيقع فى ضيق وحرج وقد قال الله - تعالى -: (وما جعل عليكم فى الدين من حرج (وكذلك حديث عائشة مثل هذا المعنى، لأنه لو حمل ذلك الصيد على أنه لم يذكر اسم الله عليه لكان فى ذلك أعظم الحرج، والمسلمون محمولون على السلامة، ولا ينبغى أن يظن بهم ترك التسمية، فضعفت الشبهة فيه فلذلك لم يحكم بها النبى - عليه السلام - وغلب الحكم بضدها؛ لأن المسلمين فى ذلك الزمن كانوا من القرن الذين أُثنى عليهم، فلا يتوجه إليهم سوء الظن فى دينهم. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (سموا لله وكلوا)

(6/199)


؟ قيل: هذا منه عليه السلام من الأخذ بالحزم فى ذلك خشية أن ينسى الذى صاده التسمية، وإن كانت التسمية عند الأكل غير واجبة لما قدمناه من فضل أهل ذلك القرن، وبعدهم عن مخالفة أمر الله ورسوله فى ترك التسمية على الصيد.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) [الجمعة: 11]
/ 11 - فيه: جَابِر، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّأْمِ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِىَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَنَزَلَتْ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا (. تقدير الآية عند المبرد: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه، ثم حذف ضمير الثانى، وأخر ضمير الأول، والمعنى وإذا رأوا ذلك أسرعوا إليه. واللهو ما يصنع عند النكاح من الدف، وقيل: هو الطبل. وقال قتادة: (وتركوك قائما (. قال الحسن: قال النبى - عليه السلام -: (لو اتبع آخرهم أولهم التهب الوادى عليهم نارًا) وقال قتادة: لم يبق مع النبى إلا اثنا عشر رجلا وامرأة. وقال الحسن: إن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر، فلذلك خرجوا إلى العير حين قدمت.) قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة (أى ما عند الله من

(6/200)


الثواب والأجر خير من ذلك لمن جلس واستمع الخطبة) والله خير الرازقين (فارغبوا إليه فى سعة الأرزاق.
7 - باب مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ
/ 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ) . هذا يكون لضعف الدين وعموم الفتن، وقد أخبر عليه السلام أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغير الأحوال، وذلك من علامات نبوته عليه السلام، وقد روى عنه عليه السلام أنه قال: (من بات كالا من عمل الحلال بات والله عنه راضٍ، وأصبح مغفورًا له) و (طلب الحلال فريضة على كل مؤمن، وهو مثل مقارعة الأبطال فى سبيل الله) .
8 - باب التِّجَارَةِ فِى الْبَرِّ وَقَوْلِهِ تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ. / 13 - فيه: الْبَرَاء، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ

(6/201)


(صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلا يَصْلُحُ) . وأما التجارة فى البر فليس فى الباب ما يقتضى تعيينها من بين سائر التجارات، غير أن قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (يدخل فى عمومه جميع أنواع التجارات من البر وغيره، وهذا الحديث يدل أن اسم الصرف إنما يقع على بيع الورق بالذهب، وأما الذهب بالذهب، أو الورق بالورق فإنما يسمى مراطلة ومبادلة. وفيه: أن الصرف لا يكون إلا يدًا بيد، وفى الآية نعت تجار سلف الأمة، وما كانوا عليه من مراعاة حقوق الله، والمحافظة عليها، والتزام ذكر الله فى حال تجارتهم، وصبرهم على أداء الفرائض وإقامتها وخوفهم سوء الحساب والسؤال يوم عرض القيامة، ورأيت فى تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (قال: كانوا حدادين وخرازين، فكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الإشفى فسمع الأذان لم يخرج الإشفى من الغرزة، ولم يوقع المطرقة، ورمى بها وقام إلى الصلاة.
9 - باب الْخُرُوجِ فِى التِّجَارَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَانْتَشِرُوا فِى الأرْضِ) [الجمعة: 10]
/ 14 - فيه: أَبُو مُوسَى، أنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَكَانَ مَشْغُولا، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى فَفَرَغَ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ

(6/202)


عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، ائْذَنُوا لَهُ، قِيلَ: قَدْ رَجَعَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: تَأْتِينِى عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأنْصَارِ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلا أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَذَهَبَ بِأَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَقَالَ عُمَرُ: أَخَفِىَ هَذَا عَلَىَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، يَعْنِى الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ. وقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله (وهو إباحة بعد حظر مثل قوله: (وإذا حللتم فاصطادوا (. قال المهلب: أما قوله: (ألهانى الصفق بالأسواق) مأخوذ من قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها (فقرن التجارة باللهو، فسماها عمر لهوًا مجازًا؛ لأن اللهو المذكور فى الآية غير التجارة؛ لأنه تعالى فصل بينهما بالواو، وهو الدف عند النكاح وشبهه، فدل هذا أنما أراد شغلنى البيع والشراء عن ملازمة النبى - عليه السلام - فى كل أحيانه، حتى حضر من هو أصغر منى ما لم أحضره من العلم. وفيه: أن الصغير قد يكون عنده العلم ما ليس عند الكبير. وفيه: أنه يجب البحث وطلب الدليل على ما ينكره من الأقوال حتى يثبت عنده.

(6/203)


- باب التِّجَارَةِ فِى الْبَحْرِ
وَقَالَ مَطَرٌ: لا بَأْسَ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِى الْقُرْآنِ إِلا بِحَقٍّ ثُمَّ تَلا: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [النحل: 14] . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ. استدلال مطر الوراق من الآية حسن؛ لأن الله - تعالى - جعل تسخيره البحر لعباده لابتغاء فضله من نعمه التى عددها عليه، وأراهم فى ذلك عظيم قدرته، وسخر الرياح باختلافها تحملهم وتردهم، وهذا من عظيم آياته وكبير سلطانه، ونبههم على شكره عليها بقوله: (ولعلكم تشكرون (وهذا يرد قول من منع ركوب البحر فى أبان ركونه، وهو قول يروى عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. فكتب إليه عمر ألا يركبه أحد طوله حياته. فلما كان بعد عمر لم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاتبع فيه رأى عمر بن الخطاب، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الجهاد فى باب ركوب البحر، وذكرت هناك قول من منع ركوبه للحج، وإذا كان الله قد أباح ركوبه للتجارة، فركوبه للحج والجهاد أجوز، ولا حجة لأحد مع مخالفة الكتاب والسنة، فأما إذا كان أبان ارتجاجه فالأمة مجمعة أنه لا يجوز ركوبه؛ لأنه تعرض للهلاك، وقد نهى الله عباده عن ذلك بقوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (وبقوله: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا (ولم يزل البحر يركب

(6/204)


فى قديم الزمان، ألا ترى ما ذكر فى هذا الحديث أنه ركب فى زمن بنى إسرائيل، فلا وجه لقول من منع ركوبه.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267]
/ 16 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) . / 17 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ) . ومعنى هذه الآية أن الله أمر عباده بالأكل والصدقة من حلال كسبهم وتجارتهم، والآية التى ترجم بها وقع فيها غلط من الناسخ - والله أعلم - وصوابها) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (وقال فى موضع آخر: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (. وأما صدقة المرأة من بيت زوجها بغير إذنه فإنما يباح لها أن تتصدق منه بما تعلم أن نفسه تطيب به ولا تشح بمثله، فيؤجر كل واحد منهم لتعاونهم على الطاعة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة.

(6/205)


- باب مَنْ أَحَبَّ الْبَسْطَ فِى الرِّزْقِ
/ 18 - فيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام:: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) . فى هذا الحديث إباحة اختيار الغنى على الفقر، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الرقائق - إن شاء الله تعالى. فإن قيل: هذا الحديث يعارض قوله عليه السلام: (يجمع خلق أحدكم فى بطن أمه أربعين يومًا مضغة: وفيه: (فيكتب رزقه وأجله) . قال المهلب: اختلف العلماء فى وجه الجمع بينهما على قولين: فقيل: معنى البسط فى رزقه هو البركة؛ لأن صلته أقاربه صدقة، والصدقة تُربى المال وتزيد فيه، فينمو بها ويزكو. ومعنى قوله: (وينسأ فى أثره) أى: يبقى ذكره الطيب وثناؤه الجميل مذكورًا على الألسنة، فكأنه لم يمت، والعرب تقول الثناء يضارع الخلود، قال الشاعر: إن الثناء هو الخلود كما يسمى الذم موتًا قال سابق البريرى: قد مات قوم وهم فى الناس أحياء يعنى بسوء أفعالهم وقبح ذكرهم. والقول الثانى: أنه يجوز أن يكتب فى بطن أمه أنه إن وصل رحمه

(6/206)


فإن رزقه وأجله كذا، وإن لم يصل رحمه فكذا، بدلالة قوله تعالى فى قصة نوح: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى (يريد أجلا قد قضى به لكم إن أطعتم يؤخركم إليه لأن أجل الله إذا جاء فى حال معصيتكم لا يؤخر عنكم قال تعالى: (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحياة (وهو الهلاك على الكفر) ومتعناهم إلى حين (فهذا كله من المكتوب فى بطن أمه، أى الأجلين استحق لا يؤخر عنه، ويؤيد هذا قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (وقد روى عن عمر بن الخطاب ما هو تفسير لهذه الآية، روى أنه كان يقول فى دعائه: اللهم إن كنت كتبتنى عندك شقيا، فامحنى واكتبنى سعيدًا، فإنك تقول: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (وستأتى جملة من هذا فى كتاب الأدب فى باب من بُسط له فى الرزق لصلة الرحم، إن شاء الله.
- باب شِرَاءِ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِالنَّسِيئَةِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. / 20 - وفيه: أَنَس، أنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِىٍّ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لأهْلِهِ. . . الحديث.

(6/207)


العلماء مجمعون على جواز البيع بالنسيئة لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) اشترى الشعير من اليهودى نسيئة. وقال ابن عباس: البيع بالنسيئة فى كتاب الله وقرأ: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين (الآية. وسيأتى ما للعلماء فى الرهن والسلم فى موضعه إن شاء الله. وقال أبو عبيدة: الإهالة: الشحم والزيت. وفيه: جواز معاملة من يخالط ماله الحرام ومبايعته؛ لأن الله - تعالى - ذكر أن اليهود أكالون السحت، وقد اشترى النبى من اليهودى طعامًا ورهنه درعه، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، فتأمله هناك.
- باب كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِى أَنَّ حِرْفَتِى لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِى، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِى بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ. / 22 - وفيه: عَائِشَة، كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ؟ . / 23 - وفيه: الْمِقْدَامِ، عَنْ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ

(6/208)


خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) . / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ) . قال المهلب: الحرفة هاهنا التصرف فى المعاش والمتجر فلما اشتغل أبو بكر عنه بأمر المسلمين ضاع أهله، فاحتاج أن يأكل هو وأهله من بيت مال المسلمين، لاستغراقه وقته فى أمورهم واشتغاله عن تعيش أهله. وقوله: (وأحترف لهم فيه) أى: أتجر لهم فى مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما آكل أو أكثر. وليس بواجب على الإمام أن يتجر فى مال المسلمين بقدر مؤنته، إلا أن يتطوع بذلك كما تطوع أبو بكر؛ لأن مؤنته مفروضة فى بيت مال المسلمين بكتاب الله؛ لأنه رأس العاملين عليها. وفى حديث عائشة: ما كان عليه أصحاب النبى من التواضع واستعمال أنفسهم فى أمور دنياهم. وقوله: (لو اغتسلتم) يبين ما روى أبو سعيد الخدرى أن النبى قال: (غسل الجمعة واجب على كل مسلم) . أنه ليس بواجب فرضًا، وأن المراد بذلك الندب إلى النظافة، وتأكيد الغسل عليهم؛ لفضل الجمعة ومن يشهدها من الملائكة والمؤمنين، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الجمعة.

(6/209)


وفى حديث المقدام: أن أفضل الكسب من عمل اليد، ألا ترى أن نبى الله داود كان يأكل من عمل يديه، وقال أبو الزاهرية: كان داود يعمل القفاف، ويأكل منها. قال ابن المنذر: وإنما فُضل عمل اليد على سائر المكاسب، إذا نصح العامل بيده، وروى أبو سعيد المقبرى عن أبى هريرة، أن النبى عليه السلام قال: (خير الكسب يد العامل إذا نصح) وروى عن النبى (أن زكريا كان نجارًا) وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وهل من نبى إلا وقد رعى الغنم) . وقد ذكر معمر عن سليمان أنه كان يعمل الخوص، فقيل له: أتعمل هذا وأنت أمير المدائن، يجرى عليك رزق؟ قال: إنى أحب أن آكل من عمل يدى.
- باب السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِى عَفَافٍ
/ 25 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) . فيه: الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالى الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة فى البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه لأن النبى عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم فى الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك فى الآخرة

(6/210)


فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبى - عليه السلام - فليقتد بهذا الحديث ويعمل به. وفى قوله عليه السلام: (إذا اقتضى) حض على ترك التضييق على الناس عند طلب الحقوق وأخذ العفو منهم، وقد روى يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن نافع، عن ابن عمر وعائشة، أن النبى - عليه السلام - قال: (من طلب حقا فليطلبه فى عفاف واف أو غير واف) ، قال ابن المنذر: وفى هذا الحديث الأمر بحسن المطالبة وإن قبض هذا الطالب دون حقه، وقد جاء فى إنظار المعسر من الفضل ما يذكر فى الباب بعد هذا - إن شاء الله.
- باب مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
/ 26 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (تَلَقَّتِ الْمَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِى أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعسِرِ، قَالَ: فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ) . وقال أبو مالك، عن ربعى قال: كنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر، وتابعه الملك، عن ربعى: أنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر. / 27 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا، قَالَ، لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ) .

(6/211)


قال المهلب: فيه أن الله يغفر الذنوب بأقل حسنة توجد للعبد، وذلك - والله أعلم إذا خلصت النية فيها لله - تعالى - وان يريد بها وجهه، وابتغاء مرضاته، فهو أكرم الأكرمين، ولا يجوز أن يخيب عبده من رحمته، وقد قال فى التنزيل: (من ذا الذى يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له وله أجر كريم (. وروى أبو عيسى الترمذى هذا الحديث، وزاد فيه: (أنه ينظر فلا يجد حسنة ولا شيئًا، فيقال له، فيقول: ما أعرف شيئًا إلا أنى كنت إذا داينت معسرًا تجاوزت عنه، فيقول الله: أنت معسر، ونحن أحق بهذا منك) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث: دليل أن المؤمن يلحقه أجر ما يأمر به من أبواب البر والخير، وإن لم يتول ذلك بنفسه.
- باب إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا
وَيُذْكَرُ عَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: كَتَبَ لِىَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لا دَاءَ وَلا خِبْثَةَ وَلا غَائِلَةَ) . وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَائِلَةُ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالإبَاقُ. وَقِيلَ لإبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّى آرِىَّ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، جَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ، فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً.

(6/212)


وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لا يَحِلُّ لامْرِئٍ بِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلا أَخْبَرَهُ. / 28 - فيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) . وترجم له (باب ما يمحق الكذب والكتمان فى البيع) . وأصل هذه الباب أن نصيحة المسلم للمسلم واجبة، وقد كان رسول الله يأخذها فى البيعة على الناس كما يأخذ عليهم الفرائض، قال جرير: (بايعت رسول الله على السمع والطاعة، فشرط على والنصح لكل مسلم) وأمر المؤمنين بالتحاب والمؤاخاة فى الله، قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فحرم بهذا كله غش المؤمنين وخديعتهم، ألا ترى قول عقبة بن عامر: (لا يحل لامرئ بيع سلعة يعلم بها داءً إلا أخبره) وقد رواه عن النبى - عليه السلام - ذكره ابن المنذر، وذكر مثله من حديث واثلة بن الأسقع عن النبى - عليه السلام. قال ابن المنذر: فكتمان العيوب فى السلع حرام، ومن فعل ذلك فهو متوعد بمحق بركة بيعه فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة. وقال ابن قتيبة: قوله: (لا داء) يعنى لا داء فى العبد من الأدواء التى يرد منها مثل الجنون، والجذام، والبرص، والسل، والأوجاع المتقادمة.

(6/213)


وقوله: (لا غائلة) هو من قولك: اغتالنى فلان، إذا احتال عليك بحيلة يتلف بها بعض مالك، يقال: غائلت فلانًا غولا: إذا أتلفته، والمعنى: لا حيلة عليك فى هذا البيع يغتال بها مالك. و (الخبثة) يريد الأخلاق الخبيثة مثل: الإباق والسرف، والعرب أيضًا تدعو الزنا خبثًا وخبثةً، وقال صاحب العين: الخبثة: الزنية. وقوله: (كان بعض النخاسين يسمى آرى) يريد يسمى موضوع الدابة فى داره ومربطها خراسان وسجستان، ويريد بذلك الخديعة والغرر بالمشترى منه، واختلف أهل اللغة فى تفسير الآرى فقال ابن الأنبارى: الآرى عند العرب الأِخيةُ التى تُحبس بها الدابة وتلزم بها موضعًا واحدًا، وهو مأخوذ من قولهم: قد تأرى الرجل بالمكان، إذا أقام به. قال الأعشى: لا يتأرى لما فى القدر يرقبه فالعامة تخطئ فى الآرى فتظن أنها المعلف. هذا قول ابن الأنبارى. وقال صاحب العين: الآرى: المعلف، وآرت الدابة إلى معلفها تأرى: إذا ألفته.
- باب بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ
/ 29 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، وَلا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ) .

(6/214)


فقه هذا الباب: أن التمر كله جنس واحد رديئه وجيده، لا يجوز التفاضل فى شىء منه، ويدخل فى معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز فى الجنس الواحد منه التفاضل ولا النسيئة بإجماع، فإذا كانا جنسين جاز فيهما التفاضل ولم تجز النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك؛ وعند الشافعى الطعام كله المقتات وغير المقتات، وعند الكوفيين الطعام المكيل والموزون. وفى حديث أبى سعيد من الفقه: أن من لم يعلم بتحريم الشىء فلا حرج عليه حتى يعلمه، والبيع إذا وقع محرمًا فهو مفسوخ مردود لقوله عليه السلام: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) .
- باب مَا قِيلَ فِى اللَّحَّامِ وَالْجَزَّارِ
/ 30 - فيه: أَبُو مَسْعُود، جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، فَقَالَ لِغُلامٍ لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لِى طَعَامًا يَكْفِى خَمْسَةً، فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام - خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإِنِّى قَدْ عَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَدَعَاهُمْ فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ) . قال المهلب: إنما صنع طعام خمسة لعلمه أن النبى - عليه السلام - سيتبعه من أصحابه غيره، فوسع فى الطعام لكى يبلغ النبى شبعه. وفى هذا الحديث من الأدب ألا يدخل المدعو مع نفسه غيره. وفيه: كراهية طعام الطفيلى؛ لأنه مقتحم غير مأذون له، وقيل: إنما استأذن النبى - عليه السلام - للرجل؛ لأنه لم يكن بينه وبين

(6/215)


القصاب الذى دعاه من الذمام والمودة ما كان بينه وبين أبى طلحة، إذ قام هو وجميع من معه، وقد قال الله: (أو صديقكم (. وفيه: الشفاعة؛ لأن النبى - عليه السلام - شفع للرجل عند صاحب الطعام بقوله: (إن شئت أن تأذن له) . وفيه: الحكم بالدليل لقوله: (فإنى قد عرفت فى وجهه الجوع) . وفيه: أكل الإمام والعالم والشريف طعام الجزار، وإن كان فى الجزارة شىء من الضعة؛ لأنه يمتهن فيها نفسه فإن ذلك لا ينقصه ولا يسقط شهادته إذا كان عدلا. والقصاب: الجزار، عن صاحب العين.
- باب قَوْلِ اللَّهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا (الآية [آل عمران: 130]
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ) . نهى الله عباده المؤمنين أن يأكلوا الربا بعد إسلامهم، والربا: هو الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال، عن عطاء ومجاهد. وتدخل فيه كل زيادة محرمة فى المعاملة لا تجوز من جهة المضاعفة، وكان أهل الجاهلية يعطون الدرهم بالدرهمين، والدينار

(6/216)


بالدينارين إلى أجل، فإذا حل الأجل قال: إما أن تقضى وإما أن تربى، وكان كلما أخر عن الأجل إلى غيره زيد زيادة على المال الثانى أضعافًا مضاعفة، فحرم الله ذلك على المؤمنين. وأما وجه حديث أبى هريرة فى هذا الباب، فإن الربا محرم فى القرآن متوعد عليه، فمن لم يبال عن الحرام من أين أخذه، لم يبال عن الربا، لأنه نوع من الحرام.
- باب آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ (الآية [البقرة: 275]
/ 32 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَتْ آخِرُ سُورَة الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِى الْخَمْرِ. / 33 - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا) . أكل الربا من الكبائر، متوعد عليه بمحاربة الله ورسوله، وبما ذكره فى الحديث، وأما شاهداه وكاتبه، فإنما ذكروا مع آكله، لأن كل من أعان على معصية الله - تعالى - فهو شريك فى إثمها بقدر سعيه وعمله إذا علمه، وكان يلزم الكاتب ألا يكتب ما لا يجوز،

(6/217)


والشاهدين ألا يشهدا على جواز ما حرم الله رسوله إذا علموا ذلك، فكل واحد منهما له حظه من الإثم، ألا ترى أن النبى لم يشهد لأبى النعمان بن بشير حين تبين له إيثاره للنعمان وقال: (لا أشهد على جور) وقد روى معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، أن النبى - عليه السلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) فسوى بينهم فى الإثم، ولهذا الحديث ترجم البخارى بهذه الترجمة. ومعنى قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا (يعنى فى الدنيا) لا يقومون (فى الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجانين. والمس: الجنون، وعن مجاهد وقتادة وغيرهم قالوا: يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: (يخرجون من الأجداث سراعًا (إلا أكلة الربا، فإن الربا يربو فى بطونهم، فيقومون ويسقطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون، وقال ابن جبير: يبعث أحدهم حين يبعث ومعه شيطان يخنقه. والمراد فى هذه الآية بالأكل من أخذ الربا، أكله أم لم يأكله، ودخل فى معناه كل ما شابهه فى البيوع والدين وغير ذلك مما بينته السنة، كقرض جر منفعة وشبهه.

(6/218)


- باب مُوكِلِ الرِّبَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا (إلى) وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 278]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام. - 34 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، رَأَيْتُ أَبِى اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ. سوى النبى - عليه السلام - بين آكل الربا وموكله فى النهى، تعظيمًا لإثمه كما سوى بين الراشى والمرشى فى الإثم، وموكل الربا هو معطيه، وآكله هو آخذه، وأمر الله عباده بتركه والتوبة منه بقوله: (اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله (وتوعد تعالى من لم يتب منه بمحاربة الله ورسوله وليس فى جميع المعاصى ما عقوبتها محاربة الله ورسوله غير الربا، فحق على كل مؤمن أن يجتنبه، ولا يتعرض لما لا طاقة له به من محاربة الله ورسوله، ألا ترى فهم عائشة هذا المعنى حيث قالت للمرأة التى قالت لها: بعت من زيد من أرقم جارية إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم ابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، أبلغى زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب. ولم تقل لها: إنه أبطل صلاته ولا صيامه ولا حجه، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن من جاهد فى سبيل الله فقد حارب عن الله، ومن فعل ذلك ثم استباح الربا، فقد استحق محاربة الله،

(6/219)


ومن أربى فقد أبطل حربه عن الله، فكانت عقوبته من جنس ذنبه قال المهلب: هذه الأشياء المنهى عنها فى الحديث مختلفة الأحكام، فمنها على سبيل التنزه مثل: كسب الحجام، وثمن الكلب، وهو مكروه غير محروم، وإنما كره للضعة والسقوط فى بيعه، ومنها حرام بين مثل الربا، وإنما اشترى أبو جحيفة العبد الحجام، ثم قال: نهى النبى عن ثمن الدم ليحجمه ويخلص من إعطاء الحجام أجر حجامته خشية أن يواقع نهى النبى عن ثمن الدم على ما تأوله فى الحديث، وقد جاء هذا بينا فى باب: ثمن الكلب بعد هذا، قال عون ابن أبى جحيفة: (رأيت أبى اشترى حجامًا، فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك، فقال: (إن رسول الله نهى عن ثمن الدم) وإنما فعل ذلك على سبيل التورع والتنزه، وسيأتى القول فى كسب الحجام بعد هذا - إن شاء الله.
- باب) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 267]
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) . قال المهلب: سئل بعض العلماء عن معنى قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات (وقيل له: نحن نرى صاحب الربا يربو ماله، وصاحب الصدقة ربما كان مقلا قال: متى يربى الله

(6/220)


الصدقات؟ إن الصدقة يجدها صاحبها مثل أحد يوم القيامة، كذلك صاحب الربا يجد عمله كله ممحوقًا إن تصدق منه، أو وصل رحمه لم يكتب له بذلك حسنة، وكان عليه إثم الربا بحاله. وقالت طائفة: إن الربا يمحق فى الدنيا والآخرة على عموم اللفظ، واحتجوا على ذلك بقوله عليه السلام: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فلما كان نفاق السلعة بالحلف الكاذبة فى الدنيا كان ممحقًا للبركة فيها فى الدنيا فكذلك محق الربا يكون أيضًا فى الدنيا وذكر عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتى على صاحب الربا أربعون سنه حتى يمحق.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحَلِفِ فِى الْبَيْعِ
/ 36 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، أَنَّ رَجُلا أَقَامَ سِلْعَةً، وَهُوَ فِى السُّوقِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ؛ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا (الآيَةَ [آل عمران 77] . وهو وعيد شديد فى اليمين الغموس، وذلك قوله تعالى: (أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (فجمع الله هذه العقوبات كلها فى هذه اليمين الغموس لما جمعت من المعانى الفاسدة، وذلك كذبه فى اليمين بالله - تعالى - وهو أجل ما يحلف به، ومنها غروره فى سلعته من يقع فيها من أجل يمينه تلك، ومنها استحلاله ماله بالباطل، وهو الثمن القليل الذى لا يدوم له فى الدنيا لتسمية

(6/221)


الله له قليلا عوضًا مما كان يلزمه من تعظيم حق الله - تعالى - والوفاء بعهده، والوقوف عند نهيه وأمره، فخاب تجره، وخسرت صفقته.
- باب مَا قِيلَ فِى الصَّوَّاغِ
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (لا يُخْتَلَى خَلاهَا) . وَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . وَقَالَ أَيْضًا: فِإنَهُ لِصَاغَتِهُمْ. / 37 - فيه: عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ، وَكَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمْسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِى، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرُسِى. فيه أن الصياغة صناعة جائز التكسب منها، وأن الصياغ إذا كان عدلا لا تضره صناعته، لأن الرسول قد أقره. قال المهلب: وفيه: جواز بيع الإذخر وسائر المباحات، والاكتساب منها للرفيع والوضيع. وفيه: الاستعانة بأهل الصناعة فيما ينفق عندهم. وفيه: السعاية على الولائم والتكسب لها من طيب الكسب. وفيه: أن إطعام الوليمة على الناكح.

(6/222)


- باب ذِكْرِ الْقَيْنِ وَالْحَدَّادِ
/ 38 - فيه: خَبَّاب، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِى عَلَى الْعَاصِ ابْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: لا أَكْفُرُ بمحمد حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يبْعَثَك، قَالَ: دَعْنِى حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) [مريم 77] . وهذا الباب كالذى قبله أن الحداد لا تضره مهنته فى صناعته إذا كان عدلا. وفيه: أن الكلمة من الاستهزاء قد يتكلم بها المرء فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة، ألا ترى وعيد الله له على الاستهزاء بقوله: (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا (. يعنى المال والولد بعد إهلاكنا إياه، ويأتينا فردا أى: نبعثه وحده تكذيبًا لظنه، وكان العاص بن وائل لا يؤمن بالبعث، فلذلك قال له خباب: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت وتبعث، ولم يرد خباب أنه إذا بعثه الله بعد الموت أن يكفر بمحمد؛ لأن حينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، ويتمنى العاص ابن وائل وغيره أن لو كانوا ترابًا ولم يكن كافرًا، وبعد البعث يستوى يقين المكذب مع يقين المؤمن، ويرتفع الكفر وتزول الشكوك، فكان غرض خباب فى قوله إياس العاص من كفره، وذكر ابن الكلبى عن جماعة فى الجاهلية أنهم كانوا زنادقة منهم: العاص بن وائل، وعقبة بن أبى معيط، والوليد ابن المغيرة، وأبى بن خلف.

(6/223)


وفيه: جواز الإغلاظ فى اقتضاء الدين لمن خالف الحق، وظهر منه الظلم والتعدى. قال صاحب العين: القين: الحداد، والتقين: التزين بألوان الزينة. وقال ابن دريد: أصل القين: الحداد، ثم صار كل صانع عند العرب قينًا، وجمعه أقيان وقيون، وقد قان الحديدة قينًا: ضربها بالمطرقة، وقان الشىء قيانةً: أصلحه، وقالت أم أيمن: أنا قينت عائشة لرسول الله: أى زينتها. وقان الله الإنسان على الشىء: جعله عليه قينةً، عن صاحب الأفعال.
- باب الْخَيَّاطِ
/ 39 - فيه: أَنَس، إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِىّ، عليه السَّلام، لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَىِ الْقَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. قال المهلب: فيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصانع، وإجابته إلى دعوته. وفيه: مؤاكلة الخدم. وفيه: أن المؤاكل لأهله وخدمه مباح له أن يتبع شهوته

(6/224)


حيث رآها إذا علم أن ذلك لا يُكره منه، وإذا لم يعلم ذلك فلا يأكل إلا مما يليه، وقد سئل مالك عن هذه المسألة، فأجاب بهذا الجواب.
- باب النَّسَّاجِ
/ 40 - فيه: سَهْلَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِىَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِى حَاشِيَتِهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا رسُول اللَّه، عليه السَّلام، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، فَقَالَ: (نَعَمْ) ، فَجَلَسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. قال المهلب: فيه: جواز قبول الهدية من الضعيف إذا كان له مقصدًا من التبرك وشبهه. وفيه: الهبة لما يسأله الإنسان من ثوب أو غيره. وفيه: الأثرة على نفسه وإن كانت به حاجة إلى ذلك الشىء. وفيه: التبرك بثوب الإمام والعالم، رجاء النفع به فى استشعاره كفنًا وشبه ذلك.

(6/225)


- باب النَّجَّارِ
/ 41 - فيه: سَهْل، سأله رجل عَنِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى فُلانَةَ، أَنْ مُرِى غُلامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِى أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَأَمَرَتْهُ يَعْمَلُهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا. / 42 - وقال جَابِر: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِى غُلامًا نَجَّارًا، قَالَ: (إِنْ شِئْتِ) ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِى صُنِعَ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِى كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ، فَنَزَلَ، عليه السَّلام، حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِىِّ الَّذِى يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ) . قال المهلب: هذان الحديثان متعارضان فى الظاهر، وإنما يصح المعنى فيهما أن تكون المرأة هى ابتدأت النبى بسؤال ذلك، ثم أضرب عليه السلام عنه حتى رآه من الصواب، فبعث إليها فيما كانت تبرعت به. وفيه: المطالبة بالوعد، والاستنجاز فيه. وفيه: تكليف العبد ما يفعله العبد، ولا يسأل عن طيب نفس العبد بما عمل. وفيه: كلام ما لا يعرف له كلام من الجمادات وشبهها إذا أتانا ذلك

(6/226)


من طريق النبوة، وكانت هذه آية معجزة أراد الله أن يريها عبادة ليزدادوا إيمانًا، وما جرى على مجرى الإعجاز فهو خرق للعادة، وأما بيننا، فلا يجوز كلام الجمادات بيننا.
30 - باب شِرَاءِ الْحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اشْتَرَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، جَمَلا مِنْ عُمَرَ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ: جَاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ فَاشْتَرَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنْهُ شَاةً وَاشْتَرَى مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا. / 43 - فيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا نَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. فيه من الفقه: مباشرة الشريف والإمام والعالم شراء الحوائج بنفسه وإن كان له من يكفيه؛ إيثارًا للتواضع، وخروجًا عن أحوال المتكبرين؛ لأنه لا يشك أحد أن جميع المؤمنين كانوا حراصًا على كفاية النبى - عليه السلام - ما يعن له من أموره، وما يحتاج إلى التصرف فيه؛ رغبة منهم فى دعوة منه، وتبركًا بذلك.
31 - باب شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحُمُرِ، وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلا وَهُوَ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِعُمَرَ: (بِعْنِيهِ) ، يَعْنِى جَمَلا صَعْبًا.

(6/227)


/ 44 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى غَزَاةٍ، فَأَبْطَأَ بِى جَمَلِى وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَىَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (يَا جَابِرٌ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وقَالَ: (مَا شَأْنُكَ) ؟ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَىَّ جَمَلِى وَأَعْيَا، فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ، ثُمَّ قَالَ: (ارْكَبْ) ، فَرَكِبْتُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (أَتَبِيعُ جَمَلَكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّى بِأُوقِيَّةٍ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِى، عليه السَّلام، قَبْلِى وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ، فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: (الآنَ قَدِمْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَدَعْ جَمَلَكَ، فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَأَمَرَ بِلالا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً، فَوَزَنَ لِى بِلالٌ، فَأَرْجَحَ لِى فِى الْمِيزَانِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ، فَقَالَ: (ادْعُ لِى جَابِرًا) ، قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَىَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْهُ، قَالَ: (خُذْ جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ) . اختلف أهل العلم فى البيع، هل القبض شرط فى صحته أم لا؟ فذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أن البيع يتم بالقول، وليس القبض شرطًا فى صحته، غير الصرف وبيع الطعام بالطعام، وسيأتى فى موضعه - إن شاء الله. وقال أبو حنيفة والشافعى: من تمام العقد القبض، فإن تلف قبل قبض المبتاع فمن مال البائع، وسيأتى حكم تلفه قبل القبض فى موضعه - إن شاء الله. قال ابن المنذر: قد وهب رسول الله الجمل لجابر قبل أن يقبضه، فإذا جاز أن يهب المشترى الشىء المشترى للبائع قبل أن يقبضه؛ جاز أن يهبه لغير البائع، وجاز بيعه، وأن يفعل فيما اشتراه ما يفعله المالك فيما ملك، وليس مع من خالف هذا سنة يدفع بها هذه السنة الثابتة.

(6/228)


وأما قوله: (فوزن لى بلال فأرجح) فذهب مالك والكوفيون والشافعى إلى أن الزيادة فى المبيع من البائع والمشترى، والحط من الثمن يجوز سواء قبض الثمن أم لا على حديث جابر، وهى عندهم هبة مستأنفة. وقال ابن القاسم: الزيادة هبة، فإن وجد بالمبيع عيبًا رجع بالثمن فى الهبة. وقال أبو حنيفة: إن كانت الزيادة فاسدة لحقت بالعقد وأفسدته. وخالفه أبو يوسف ومحمد. وقال الطحاوى: لا تجوز الزيادة فى البيع، وترك أصحابنا فيه القياس، وصاروا إلى حديث جابر. وسأزيد فى بيان هذه المسألة فى كتاب الاستقراض وأداء الديون فى باب استقراض الإبل - إن شاء الله. إلا أنهم اختلفوا فى أحكام الهبة، فعند مالك أنها تجوز وإن لم تقبض، وعند الكوفيين والشافعى لا تجوز حتى تقبض، وهى عندهم هبة، وستأتى أحكام الهبة فى موضعها - إن شاء الله. وقوله: (فنزل يحجنه بمحجنه) ، قال صاحب العين: المحجن: عصا فيها عقافة، والحجن والحجنة: الاعوجاج، ويحجنه بها: يصرفه، يقال: حجنته عن الشىء: صرفته ومنعته.

(6/229)


32 - باب الأسْوَاقِ الَّتِى كَانَتْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِى الإسْلامِ
/ 45 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإسْلامُ تَأَثَّمُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ، قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا. فقه هذا الباب: أن الناس تجروا قبل الإسلام وبعده، وأن التجارة فى الحج وغيره جائزة، وأن ذلك لا يحط أجر الحج إذا أقام الحج على وجهه، وأتى بجميع مناسكه؛ لأن الله - تعالى - قد أباح لنا الابتغاء من فضله. وفيه: أن مواضع المعاصى وأفعال الجاهلية لا يمنع من فعل الطاعة فيها، بل يستحب توخيها وقصدها بالطاعة وبما يرضى الله - تعالى - ألا ترى أن النبى أباح دخول حجر ثمود لمن دخله متعظا باكيًا خائفًا من نقمة الله ونزول سطوته لمن عصاه.
33 - باب شِرَاءِ الإبِلِ الْهِيمِ أَوِ الأجْرَبِ
الْهَائِمُ الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِى كُلِّ شَىْءٍ قَالَ عَمْرٌو: كَانَ هَاهُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَرَى تِلْكَ الإبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ، فَقَالَ: بِعْنَا تِلْكَ الإبِلَ، فَقَال: َ مِمَّنْ بِعْتَهَا، قَالَ: مِنْ شَيْخٍ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ وَاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: إِنَّ شَرِيكِى بَاعَكَ إِبِلا هِيمًا، وَلَمْ يَعْرِفْكَ،

(6/230)


قَالَ: فَاسْتَقْهَا، قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا، قَالَ: دَعْهَا رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا عَدْوَى. فيه من الفقه: أنه يجوز شراء الشىء المعيب وبيعه إذا كان البائع قد عرف المبتاع بالعيب فرضيه، وليس ذلك من الغش إذا بين له، وأما ابن عمر فرضى بالعيب والتزمه، فصحت الصفقة فيه. وقال صاحب العين: الهيام كالمجنون، ويقال الهيوم: أن يذهب على وجهه، والهيمان: العطشان.
34 - باب بَيْعِ السِّلاحِ فِى الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا
وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِى الْفِتْنَةِ / 46 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَامَ حُنَيْنٍ، [فَأَعْطَاهُ، يَعْنِى دِرْعًا] ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ. إنما كره بيع السلاح من المسلمين فى الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وذلك مكروه منهى عنه، ومن هذا الباب منع مالك بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وذهب إلى فسخ البيع فيه، وكره الشافعى، وأجازه إذا وقع؛ لأنه باع حلالا بحلال، وقال الثورى: لا يكره شىء منه، وقال: بع حلالك ممن شئت. أما بيعه فى غير الفتنة من المسلمين فمباح، وداخل فى عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع (.

(6/231)


35 - باب فِى الْعَطَّارِ وَبَيْعِ الْمِسْكِ
/ 47 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً) . وقد تقدم فى كتاب الذبائح اختلاف العلماء فيمن كره المسك ومن استحبه، وهذا الحديث حجة فى جوازه؛ لأن النبى ضرب مثل الجليس الصالح بصاحب المسك، وقال: لا تعدم منه أن تشتريه أو تجد ريحه. فأخبر عليه السلام بعادة الناس فى شرائه، ورغبتهم فى شمه، ولو لم يجز شراؤه لبين ذلك عليه السلام، وقد حرم الله بيع الأنجاس، واستعمال روائح المنتة فلا معنى لقول من كرهه، وإنما خرج كلامه عليه السلام فى هذا الحديث على المثل فى النهى عن مجالسة من يتأذى بمجالسته، كالمغتاب والخائض فى الباطل، والندب إلى مجالسة من ينال فى مجالسته الخير من ذكر الله - تعالى - وتعلم العلم وأفعال البر كلها، وقد روى عن إبراهيم الخليل أنه كان عطارًا.
36 - باب ذِكْرِ الْحَجَّامِ
/ 48 - فيه: أَنَس، قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْ خَرَاجِهِ. / 49 - وَقَالَ ابْن عَبَّاس: احْتَجَمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَعْطَى الَّذِى حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ.

(6/232)


فى هذا الباب بيان أن أجر الحجام حلال كما تأوله ابن عباس، وفيه دليل أنه لا وجه لكراهة أبى حنيفة لأجر الحجام، واستدلاله على ذلك بنهيه عليه السلام عن ثمن الدم، وهذا النهى عن العلماء ليس كنهيه عن ثمن الخمر والميتة، وليس من كسب الحجام فى شىء، بدليل حديث أنس وابن عباس ولو أراد عليه السلام بنهيه عن ثمن الدم النهى عن كسب الحجام لكان منسوخًا بحديث أنس وابن عباس، أو يكون نهيه عنه على سبيل التنزه، لأن قريشًا فى الجاهلية كانت تتكرم عن كسب الحجام، وهو كنهيه عن عسب الفحل وهو خسة وضعة، فأراد عليه السلام أن يرفع أمته عن الصناعات الوضيعة، وسيأتى فى كتاب الإجازات مذاهب العلماء فى كسب الحجام.
37 - باب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
/ 50 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَرْسَلَنى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةِ حَرِيرٍ، أَوْ سِيَرَاءَ فَرَآهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنِّى لَمْ أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا) ، يَعْنِى تَبِيعَهَا. / 51 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ) ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ

(6/233)


رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ الْمَلائِكَةُ) . التجارة فيما يكره لبسه جائزة إذا كان فى المبيع منفعة لغير اللباس وأما إذا لم يكن فيه منفعة لشىء من المنافع فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأن أكل ثمنه من أكل المال بالباطل، وأما بيع الثياب التى فيها الصور المكروهة، فظاهر حديث عائشة يدل بأن بيعها لا يجوز، لكن قد جاءت آثار مرفوعة عن النبى تدل على جواز بيع ما يوطأ ويمتهن من الثياب التى فيها الصور، روى وكيع عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: (سترت سهوة لى بستر فيه تصاوير، فلما قدم النبى - عليه السلام - هتكه، فجعلته مسندتين فرأيت النبى - عليه السلام - متكئًا على إحداهما) وإذا تعارضت الأخبار فالأصل الإباحة حتى يرد الحظر، ويحتمل أن يكون معنى حديث عائشة فى النمرقة لو لم يعارضه غيره محمولا على الكراهية دون التحريم، بدليل أن النبى - عليه السلام - لم يفسخ البيع فى النمرقة التى اشترتها عائشة - والله أعلم. قال صاحب العين: السيراء: برود يخالطها حرير.

(6/234)


38 - باب صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ
/ 52 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ) ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ. لا خلاف بين الأمة أن صاحب السلعة أحق الناس بالسوم فى سلعته، وأولى بطلب الثمن فيها، ولا يجوز ذلك إلا له أو لمن وكله على البيع.
39 - باب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ
/ 54 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِى بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ. / 54 - وفيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) . اختلف الفقهاء فى أمد الخيار، فقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم إلى الأمد الذى اشترط إليه الخيار، هذا قول ابن أبى ليلى والحسن بن صالح وأبى يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبى ثور، عن ابن المنذر. وقال مالك: يجوز شرط الخيار فى بيع الثوب اليوم واليومين، والجارية الخمسة أيام والجمعة، وفى الدابة تركب اليوم وشبهه، ويسار عليها البريد ونحوه، وفى الدار الشهر لتختبر ويستشار

(6/235)


فيها، وما بعد من أجل الخيار فلا خير فيه، لأنه غرر ولا فرق بين شرط الخيار للبائع والمشترى. وقال الثورى: يجوز شرط الخيار للمشترى عشرة أيام وأكثر، ولا يجوز شرطه للبائع. وقال الأوزاعى: يجوز أن يشترط الخيار شهرًا وأكثر. وقال أبو حنيفة وزفر والشافعى: الخيار فى البيع ثلاثة أيام، ولا تجوز الزيادة عليها، فإن زاد فسد البيع، واحتجوا بأن حبان ابن منقذ كان يخدع فى البيوع، فقال له النبى - عليه السلام -: (قل: لا خلابة) وجعل له الخيار ثلاثًا فيما ابتاع، وفى حديث المصراة إثبات الخيار ثلاثًا، قالوا: ولولا الحديث فى الثلاثة الأيام ما جاز الخيار ساعة واحدة. وحجة أهل المقالة الأولى ظاهر قوله عليه السلام: (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) فبان بهذا أن الخيار على الإطلاق دون توقيت مدة، ولم يخص من بيع الخيار بشرط الثلاث أو أكثر، فهو على ما اشترطاه، وقد قال عليه السلام: (المسلمون عند شروطهم) . والحجة لقول مالك أن العبد والجارية لا يعرف أخلاقهما ولا ما هما عليه من الطبائع فى مدة الثلاث، لأنهما يتكلفان ما ليس من طبعهما فى مدة يسيرة، ثم يعودان بعد ذلك إلى الطبع، فوجب أن يكون الخيار مدة يختبران فى مثلها، ليكون المبتاع داخلا على

(6/236)


بصيرة، ومما يدل على صحة هذا أن أجل العنين سنة، لأن حاله يختبر فيها، فكذلك ينبغى أن يكون كل خيار على حسب تعرف حال المختبر، ويقال لأبى حنيفة والشافعى: إن خيار الثلاث فى حديث حبان من رواية ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، وليس فى رواية الثقات الحفاظ، وأما حديث المصراة فهو حجة لنا، لأن المصراة لما كان لا يختبر أمرها فى أقل من ثلاث، جعل فيها هذا المقدار الذى يختبر فى مثله، فوجب أن يكون الخيار فى كل مبيع على قدر المدة التى يختبر فى مثلها. قال الطحاوى: وأما تفريق الثورى بين البائع والمشترى فى جواز الخيار إذا شرط المشترى، وإبطاله للبائع، فلم يقل به أحد من أهل العلم.
40 - باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِى الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ
/ 55 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام قَالَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ) . اختلف العلماء إذا اشترط فى الخيار مدة غير معلومة، فقالت طائفة: البيع جائز والشرط باطل. هذا قول ابن أبى ليلى والأوزاعى، واحتجا بحديث بريدة. وقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم، وللذى شرط الخيار أبدًا وهذا قول أحمد وإسحاق.

(6/237)


وقال مالك: البيع جائز، ويجعل له من الخيار مثل ما يكون له فى تلك السلعة. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يختار بعد الثلاث. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: إذا شرط الخيار بغير مدة معلومة فالبيع فاسد، فإن أجازه فى الثلاث جاز، وإن مضت الثلاث لم يكن له أن يجيزه. وظاهر هذا الحديث يرد هذا القول، ويدل أن الخيار يجوز اشتراطه بغير توقيت، لأن النبى - عليه السلام لما قال: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر) لم يذكر أمد الخيار فى ذلك، وسوى عليه السلام بين تمام البيع بعد التفرق وبعد الأخذ بالخيار إذا شرطاه دون ذكر توقيت مدة، فلا معنى لقول من خالفه.
41 - باب الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ. / 56 - فيه: حَكِيم، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) . / 57 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلا بَيْعَ الْخِيَارِ) . وترجم لهما (باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع) .

(6/238)


اختلف العلماء فى معنى التفرق المذكور فى هذا الحديث، فذهبت طائفة إلى أن المراد به التفرق بالأبدان، وأن المتبايعين إذا عقدا بيعهما، فكل واحد منهما بالخيار فى إتمامه وفسخه ما داما فى مجلسهما لم يفترقا بأبدانهما. روى هذا القول عن ابن عمر وأبى برزة الأسلمى وجماعة من التابعين، ذكرهم البخارى وقد روى عن سعيد بن المسيب والزهرى، وبه قال الليث وابن أبى ذئب والثورى والأوزاعى وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وذهبت طائفة إلى أن البيع يتم بالقول دون الافتراق بالأبدان، ومعنى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) أن البائع إذا قال له: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشترى: قد قبلت. والمتبايعان هما المتساومان. روى هذا القول عن النخعى، وهو قول ربيعة ومالك وأبى حنيفة ومحمد. واحتج من جعل التفرق بالأبدان بأن ابن عمر راوى الحديث، وهو أعلم بمخرجه، وقد روى عنه أنه بايع عثمان بن عفان قال: فرجعت على عقبى كراهة أن يُرادنِى البيع. قالوا: فالتفرق عند ابن عمر بالبدن لا باللفظ. وقالوا: إن من جعل المتبايعين فى هذا الحديث المتساومين لا وجه له؛ لأنه معقول أن كل واحد فى سلعته بالخيار قبل السوم، وما دام متساومًا حتى يمضى البيع ويعقده، وكذلك المشترى بالخيار قبل الشراء وفى حال المساومة،

(6/239)


وإذا كان هذا كذلك بطلت فائدة الخبر، وقد جل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أن يخبر بما لا فائدة فيه. واحتج عليهم من جعل التفرق بالقول فقال: أما قولكم أن من جعل المتبايعين المتساومين لا وجه له؛ لأنه لا يكون فى الكلام فائدة، فالجواب عن ذلك أن فائدته صحيحة، وذلك أن المتبايعين لا يبعد أن يختلفا قبل الافتراق بالأبدان، فلو كان كل واحد منهما بالخيار لم يجب على البائع ثمن ولا ترد؛ لأن التراد إنما يكون فيما تم من البيوع. قال الطحاوى: ومن لم يسم المتساومين متبايعين فقد أغفل سعة اللغة؛ لأنه يحتمل أن يتسميا متبايعين لقربهما من التبايع وإن لم يتبايعا، كما سمى إسحاق ذبيحًا لقربه من الذبح وإن لم يكن ذبح، وقد سمى النبى - عليه السلام - المتساومين متبايعين، فقال عليه السلام: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) وقال: (لا يبع الرجل على بيع أخيه) ومعناهما واحد، ووهو اللازم لهم، والتفرق فى لسان العرب بالكلام معروف كعقد النكاح، وكوقوع الطلاق الذى سماه الله فراقًا، قال تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته (وأجمعت الأمة أن التفرق فى هذه الآية أن يقول لها: أنت طالق. وقال عليه السلام: (تفترق أمتى) ولم يرد التفرق بالأبدان. وأجمعوا أن رجلا لو اشترى قرصًا أو [. . . . .] ماء، فأكل

(6/240)


القرص أو شرب الماء قبل التفرق؛ لكان ذلك له جائزًا، وكان قد أكل ماله، وسيأتى عند ذكر مبايعة ابن عمر لعثمان بعد هذا - إن شاء الله - فبان مذهب ابن عمر، وأنه حجة لم قال التفرق بالكلام. قال ابن المنذر: وإثبات النبى الخيار للمتبايعين ما لم يفترقا إنما هو على ما سوى بيع الخيار لقوله عليه السلام: (المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) . فاستثنى بيع الخيار فيما قد تم فيه البيع بالتفرق، وبقى الخيار فى بيع الخيار بعد التفرق حتى يتم أمد الخيار، فيختار البيع أو يرد.
42 - باب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ
/ 58 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ) . ذهب أكثر العلماء الذين يرون الافتراق بالأبدان إلى أنه إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع، فاختار إمضاء البيع فقد تم البيع وإن لم يفترقا بالأبدان، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: هما بالخيار حتى يفترقا، خيرا أحدهما صاحبه أو لم يُخيره. وأما الذين يجيزون البيع بالكلام دون افتراق الأبدان، فهو عندهم بيع جائز، قال: اختر أو لم يقله، فتحصل من ذلك اتفاق الجميع غير أحمد بن حنبل وحده، وقوله خلاف الحديث، فلا معنى له.

(6/241)


43 - باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ التفرق وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِى أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ
وَقَالَ طَاوُسٌ، فِيمَنْ يَشْتَرِى السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ، وَالرِّبْحُ لَهُ. / 59 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّت مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِى فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ، وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِعُمَرَ: (بِعْنِيهِ) ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بِعْنِيهِ) ، فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ) . / 60 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالا بِالْوَادِى بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا، رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِى حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِى الْبَيْعَ، وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِى وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّى قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّ سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِى إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاثِ لَيَالٍ. هذا الباب حجة لمن يقول الافتراق بالكلام فى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) ، وحديث ابن عمر بين فى ذلك، ألا ترى أن النبى وهب الجمل من ساعته لابن عمر قبل التفرق من عمر، ولو لم يكن الجمل للنبى لما جاز له أن يهبه لابن عمر حتى يحب له بافتراق الأبدان، وأما حديث ابن عمر فى مبايعته لعثمان، فقد احتج به من قال: إن

(6/242)


الافتراق بالأبدان، واحتج به من قال: إن الافتراق بالكلام، وكان من حجة الذين جعلوا الافتراق بالكلام أن قالوا: لو كان معنى الحديث التفرق بالأبدان، لكان المراد به الحض والندب إلى حسن المعاملة من المسلم للمسلم، وألا يفترسه فى البيع على استخباره عن الداء والغائلة، وقد قال عليه السلام: (من أقال نادمًا أقال الله عثرته يوم القيامة) من حديث أبى هريرة، ألا ترى قول ابن عمر: وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار ما لم يفترقا فحكى ابن عمر أن الناس كانوا يلتزمون حينئذ الندب؛ لأنه كان زمن مكارمة، وأن الوقت الذى حدث ابن عمر هذا الحديث كان التفرق بالأبدان متروكًا، ولو كان التفرق بالأبدان على الوجوب ما قال ابن عمر: وكانت السنة بل كان يقول: وكانت السنة، ويكون أبدًا فلذلك جاز أن يرجع على عقبيه؛ لأنه فهم أن المراد بالحديث الحض والندب، لا سيما وهو الذى حضر فعل النبى فى هبته البكر له بحضرة البائع قبل التفرق. وقال الطحاوى: يحتمل قول ابن عمر الوجهين جميعًا، فنظرنا فى ذلك فروينا عنه ما يدل أن رأيه كان فى الفرقة بخلاف ما ذهب إليه من قال: إن البيع لا يتم إلا بها، وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعى، حدثنى الزهرى، عن حمزة ابن عبد الله، أن ابن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع. قال ابن المنذر: يعنى فى السلعة تتلف عند البائع قبل أن يقبضها المشترى بعد تمام البيع. قال ابن المنذر: هى من مال المشترى؛ لأنه لو كان عبدًا فأعتقه المشترى كان عقته جائزًا ولو أعتقه البائع لم يجز عتقه.

(6/243)


قال الطحاوى: فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حيا فهلك بعدها، أنه من مال المشترى، فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التى تكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بالأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع حتى يهلك من ماله إن هلك، وهذا من ابن عمر دال على مذهبه فى الفرقة التى سمعها من النبى - عليه السلام - فيما ذكروا، وقد وجدنا عن رسول الله ما يدل على أن المبيع يملكه المشترى بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن النبى قال: (من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه) فكان ذلك دليلا على أنه إذا قبضه حل له بيعه، ويكون قابضًا له قبل افتراق بدنه من بدن بائعه، وروى عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عثمان يخطب على المنبر ويقول: (كنت أشترى التمر فأبيعه بربح الآصع فقال لى رسول الله: إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل) ، فكان من ابتاع طعامًا مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه فاكتاله وقبضه، ثم فارق بائعه فكل قد أجمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة الكيل، وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالا يحل له به بيعه، فقد كان ذلك الاكتيال له وهو له مالك، وإن اكتاله اكتيالا لا يحل به بيعه، فقد كاله وهو غير مالك له، فثبت بما ذكرنا وقوع ملك المشترى فى المبيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه من طريق الآثار.

(6/244)


وأما من طريق النظر فرأينا الأموال تملك بعقود فى أبدان، وفى أموال، وفى أبضاع، وفى منافع، فكان ما يملك من الأبضاع هو النكاح، فكان يتم بعقده لا بفرقة بعد العقد، وكان ما يملك به المنافع هو الإجارات، فكان ذلك أيضًا مملوكًا بالعقد لا بفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك الأموال المملوكة بسائر العقود من البيوع وغيرها، تكون مملوكة بالأقوال لا بفرقة بعدها قياسًا ونظرًا. وفى حديث ابن عمر جواز بيع الشىء الغائب على الصفة، وسيأتى ذلك بعد هذا - إن شاء الله. وأجمع العلماء أن البائع إذا لم ينكر على المشترى ما أحدثه من الهبة أو العتق أنه بيع جائز، واختلفوا إذا أنكر ولم يرض بما أحدثه المشترى، فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام يجيزون هبته وعتقه، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيز شيئًا من ذلك إلا بعد التفرق، وحديث عمر حجة عليهم - والله الموفق.
44 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ فِى الْبَيْعِ
/ 61 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ) . قال المهلب: قوله: (فقل: لا خلابة) أى: لا تخلبونى فإنه لا يحل، فإن اطلعت على عيب رجعت به.

(6/245)


وفى كتاب العين: الخلابة: المخادعة، ورجل خلوب وخلبوب: خداع. وقال غيره: هذا الرجل المذكور فى الحديث منقذ بن عمرو الأنصارى جد واسع بن حبان، روى ذلك ابن عيينة عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: (أن منقذًا ضرب فى رأسه مأمومة فى الجاهلية فحبلت لسانه، وكان يخدع فى البيوع. فقال له رسول الله: (بع وقل: لا خلابة، وأنت بالخيار ثلاثًا. قال ابن عمر: فسمعته يقول إذا بايع: لا خلابة لا خلابة) وقيل: إن حبان بن منقذ هو الذى كان يخدع، وفيه جاء الحديث، والأول أصح. واختلف الفقهاء فيمن باع بيعًا غبن فيه غبنًا لا يتغابن الناس بمثله، فقال مالك: إن كانا عارفين بتلك السلعة، وبأسعارها وقت البيع، لم يفسح البيع كثيرًا كان الغبن أو قليلا، وإن كانا أو أحدهما غير عارف بتقلب السعر وبتغيره وتفاوت الغبن، فسخ البيع، إلا أن يريد أن يمضيه. ومن أصحاب مالك من اعتبر مقدار ثلث قيمة السلعة، ولم يحد مالك فى ذلك حدا، ومذهبه إذا خرج عن تغابن الناس فى مثل تلك السلعة أنه يفسخ، وبهذا قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة والشافعى: ليس له أن يفسخ فى الغبن الكثير، كما لا يفسخ فى القليل، وقد قال ابن القاسم فى العتبية: إنه لا يفسخ فى الغبن الكثير. واحتج الكوفيون فقالوا: إن حبان بن منقذ أصابته آفة فى رأسه فكان يخدع فى البيوع، فقال له النبى: (إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا) قالوا: فموضع الدليل منه هو أنه كان يخدع فى البيع، ومن كان يخدع فى عقله

(6/246)


بضعف يلحقه الغبن فى عقوده، فجعل له النبى الخيار لما يلحقه من ذلك، فلو كان الغبن شيئًا يملكه به فسخ العقد لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه، وقال مالك: هذه الحجة لنا، لأنه عليه السلام قال له: لك الخيار، ولم يقل له: اشترط الخيار، وإنما قال له قل: لا خلابة أى: لا خديعة، فلو كان الغبن مباحًا لم يكن لقوله: لا خلابة معنى، ولم ينفعه ذلك، فلما كان ذلك ينفعه جعل له النبى - عليه السلام - الخيار بعد ذلك لينظر فيما باعه، ويسأل عن سعره، ويرى رأيه فى ذلك وإنما جعل ذلك فى حبان ليعلمنا الحكم فى مثله، وإنما تعرف الأحكام بما بينه عليه السلام، فبين عليه السلام حكم من يغبن فى بيعه إذا لم يكن عارفًا بما يبيعه، ودليل آخر وهو قوله عليه السلام: (لا تلقوا الركبان للبيع، فمن تلقاها فهو بالخيار إذا دخل السوق) . وإنما جعل له الخيار فى ذلك لأجل الغبن الذى يلحقه، لأنه لم يدخل السوق، ولا عرف سعر ما باع، ومن يتلقاه فإنما يقصد الغبن والاسترخاص، فعلم بهذا أن الغبن يوجب الخيار، وأيضًا فإنه لو ابتاع سلعة فوجد بها عيبًا كان له الخيار فى الرد، لأجل النقص الموجود بها، فلا فرق بين أن يجد النقص بالسلعة أو بالثمن، لأنه فى كلا الموضعين قد وجد النقص الذى يخرج به عن القصد. فإن قيل: يلزمكم أن تفسدوا البيع وإن كان غبنًا يسيرًا. قيل: البيع لا يخلو من الغبن اليسير، لأن كل واحد منهما يقصد الاسترخاص، فأجيز على حسب تعارفهم فيه فإذا خرج عن عرفهم ثبت فيه الخيار، ذكر هذا كله ابن القصار.

(6/247)


وذكر ابن حبيب قال: سئل مالك عن رجل جاهل باع حجرًا أو درة بدرهمين، فألفاه المشترى ياقوتة، فلم ير فيه رجوعًا، لأن الغلط ماض على البائع والمبتاع فى البيع على المساومة، وإنما يرد فى البيع على المرابحة، إلا أن يبيعه بائعه على أنه زجاج، فألفاه المشترى ياقوتة فإنه يرد البيع، وكذلك لو باعه على أنه ياقوت فألفاه المشترى زجاجًا يرده أيضًا.
45 - باب مَا يذُكِرَ فِى الأسْوَاقِ
وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قُلْتُ: هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: دُلُّونِى عَلَى السُّوقِ، وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. / 62 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، [فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأرْضِ] يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) . / 63 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (صَلاةُ أَحَدِكُمْ فِى جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِى سُوقِهِ وَبَيْتِهِ. . .) الحديث. / 64 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى السُّوقِ، - وَقَالَ مَرَةٍ: فِى الْبَقِيع -: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى) .

(6/248)


/ 65 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، خَرَجَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى طَائِفَةِ النَّهَارِ لا يُكَلِّمُنِى وَلا أُكَلِّمُهُ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِى قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: (أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ) ، فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ. . . . الحديث. / 66 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ. قَالَ: وَحَديث ابْن عُمَرَ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. إنما أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول السوق، والشراء فيه للعلماء والفضلاء، وكأنه لم يصح عنده الحديث الذى روى (شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد) وهذا إنما خرج على الأغلب؛ لأن المساجد يذكر فيه اسم الله - تعالى - والأسواق قد غلب عليها اللغط واللهو والاشتغال بجمع المال، والكلب على الدنيا من الوجه المباح وغيره، وأما إذا ذكر الله فى السوق فهو من أفضل الأعمال، روى عن محمد بن واسع أنه قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيى ويميت، وهو على كل شىء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيت فى الجنة) وكذلك إذا لغا فى المسجد أو لغط فيه، أو عصى ربه لم يضر المسجد، ولا نقص من فضله، وإنما أضر بنفسه،

(6/249)


وبالغ فى إثمه. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: من عصى الله فى المسجد فكأنما عصاه فى الجنة، ومن عصاه فى الحمام فكأنما عصاه فى النار، ومن عصاه فى المقبرة فكأنما عصاه فى عرصات القيامة، ومن عصاه فى البحر فكأنما عصاه على أكف الملائكة. قال المهلب: وفى حديث عائشة أن من كثر سواد قوم فى معصية أو فتنة أن العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك؛ لأن الخسف لما أخذ السوقة عقوبة لهم شمل الجميع. واستنبط منه مالك أن من وجد مع قوم يشربون الخمر، وهو لا يشرب أنه يعاقب، ويؤيد أن المغلوبين على تكثير السواد ليسوا ممن يستحق العقوبة قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم (. وفيه: علم من أعلام النبوة، وهو إخباره عليه السلام بما يكون. وقوله فى حديث أبى هريرة: (ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة) النهز: الدفع، وقوله: (أثم لكع) ، فإنما أراد الحسن بن على. فيه من الفقه: أنه لا بأس بمهازلة الصبى وغيره إذا كان واقعًا تحت السن والفضل لا سيما إن عضد ذلك أبوه؛ لأن النبى أبوه، والجد أب، واللكع: اللئيم، تقول العرب: لكع الرجل لكعًا ولكعة: إذا لؤم، وهو لكع ولكيع وألكع، والمرأة لكاع.

(6/250)


46 - باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِى
وقوله تَعَالَى: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين: 3] كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: (يَسْمَعُونَكُمْ) [الشعراء: 72] يَسْمَعُونَ لَكُمْ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا) ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ) . / 67 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) . / 68 - وفيه: جَابِر، تُوُفِّىَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاسْتَعَنْتُ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ، فَطَلَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا: الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَىَّ) ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاهُ، أَوْ فِى وَسَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: (كِلْ لِلْقَوْمِ) ، فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمِ الَّذِى لَهُمْ، وَبَقِىَ تَمْرِى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَىْءٌ. وَقَالَ جَابِر مرة: فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ. وَقَالَ جَابِر، عن النَّبِىّ عليه السلام: (جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ) . الذى عليه الفقهاء أن الكيل والوزن فيما يكال ويوزن من المبيعات على البائع، ومن كان عليه الكيل أو الوزن فعليه أجرة ذلك، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأبى ثور.

(6/251)


وقال الثورى: كُل بيع فيه كيل أو وزن أو عدد، فهو على البائع حتى يوفيه إياه، فإن قال: أبيعك هذه النخلة، فجذاذها على المشترى، قال: وكل بيع ليس فيه كيل ولا وزن ولا عدد فجذاذه عليه ونقصه على المشترى. قال المهلب: كتاب الله يشهد لقوله صلى الله عليه: (إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل) ، وهو قوله تعالى: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (فدل هذا على أن يكيل له غيره إذا اشترى، ويكيل لغيره إذا باع، وفى قصة يوسف - عليه السلام - أن البائع عليه الكيل، قال الله - تعالى - عنه: (ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين (وكذلك فى قصة جابر، قال له عليه السلام: (كل للقوم) وجابر هو الغارم عن أبيه، وهذا هو الذى يعطيه النظر، لأنه من باع شيئًا مسمى، ومقدارًا معروفًا من طعام، فعليه أن يعينه ويميزه مما سواه، وكذلك من ابتاع إنما يبتاع بدراهم موزونة معلومة يعطيها للبائع فى سلعته، فعليه الوزن والانتقاء، لأن عليه تعيين ما باعه من الدراهم بالسلعة - والله الموفق.

(6/252)


47 - باب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَمُدِّهِ
/ 96 - فيه: عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ - عليه السَّلام. / 70 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ) . قوله عليه السلام: (اللهم فى صاعهم ومدهم) ، يعنى ما يكال بالصاع والمد، وأضمر ذلك لفهم السامع، وهذا من باب تسمية الشىء باسم ما يقاربه، وكان مد أهل المدينة صغيرًا، لقلة الطعام عندهم، فدعا لهم النبى بالبركة فى طعامهم، ويستحب أن يتخذ ذلك المكيال رجاء لبركة دعوة النبى - عليه السلام - والاستنان بأهل البلد الذين دعا لهم، وقد قال عليه السلام: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه) .
48 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّخَبِ فِى السُّوقِ
/ 71 - فيه: عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، لَقِيتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب: 45] وَحِرْزًا لِلأمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا سَخَّابٍ فِى الأسْوَاقِ، وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.

(6/253)


ابن سلام: غلف كل شىء فى غلاف، سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يكن مختونًا، قاله البخارى فى رواية السرخسى. الصخب عند أهل اللغة: الصياح، قال صاحب العين: صخب صخبًا: إذا صاح، ذكره فى حرف الصاد، ولم يذكره فى حرف السين، فهو فى بعض نسخ البخارى بالسين، وقال أبو حاتم: ما كان مع الخاء من الحروف فيجوز كتابته بالسين والصاد. فى هذا الحديث مدح النبى - عليه السلام - ببعض صفاته الشريفة، التى خصه الله - تعالى - بها وجبله عليها. قال المهلب: وقوله: (سميتك المتوكل) لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله تعالى بالتوكل عليه فى الرزق والنصر، والصبر على انتظام الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق. وقوله: (ولا يدفع بالسيئة السيئة) أى: لا يسيئ إلى من أساء إليه على سبيل المجازاة المباحة ما لم تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وقوله: (الملة العوجاء) المعوجة وهى ملة الكفر، فأقام الله بنبيه عوج الكفر حتى ظهر دين الإسلام، ووضحت أعلامه، وأيد الله نبيه بالصبر والأناة، والسياسة لنفوس العالمين، والتوكل على الله، وقد وصفه الله فى آخر سورة براءة بنحو هذه الصفة. وفى هذا الحديث ذم الأسواق وأهلها إذ كانوا بهذه الصفة المذمومة من الصخب واللغط والزيادة فى المديحة أو الذم لما

(6/254)


يتبايعونه والأيمان الحانثة، وفى مثل هذا المعنى قال عليه السلام: (شر البقاع الأسواق) لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة.
49 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْكَيْلِ
/ 72 - فيه: الْمِقْدَامِ، قَالَ عليه السَّلام: (كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فيه) . / 73 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا) . / 74 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ) . الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله ونَدبُ النبى أمته إليه يدل على البركة فيه. قال المهلب: ويحتمل المعنى - والله أعلم - أنهم كانوا يأكلون بلا كيل، فيزيدون فى الأكل فلا يبلغ لهم الطعام إلى المدة التى كانوا يقدرونها، فقال لهم عليه السلام: (كيلوا) أى: أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التى قدرتم مع ما وضع الله من البركة فى مد أهل المدينة بدعوته عليه السلام. فإن قيل: فما معنى قول عائشة: (كان عندى شطر شعير، نأكل منه حتى طال على فكلته ففنى) ، وهذا معارض لحديث المقدام. قال

(6/255)


المهلب: ليس بينهما تعارض بحمد الله، ومعناه: أنها كانت تخرج قوتها بغير كيل، وهى متقوتة باليسير، فبورك لها فيه مع بركة النبى الباقية عليها وفى بيتها فلما كالته علمت المدة التى يبلغ إليها، ففنى عند انقضائها، لا أن الكيل وكد فيه أن يفنى.
50 - باب مَا يُذْكَرُ فِى بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ
/ 75 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ. / 76 - وفيه: ابْن عَبَّاس، نَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ، وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ. اختلف العلماء فى بيع الطعام جزافًا قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه وروى الوقار عن مالك مثله، وقال ابن عبد الحكم: إنه استحسان من قوله. وقالت طائفة: يجوز بيع الطعام الجزاف قبل قبضه. روى ذلك عن عثمان بن عفان، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصرى والحكم وحماد، وهو المشهور عن مالك، وبه قال الأوزاعى وإسحاق. وحجة القول الأول ظاهر حديث ابن عمر، وعموم نهيه

(6/256)


عليه السلام عن بيع الطعام قبل استيفائه، فدخل فيه الجزاف والمكيل، وقد أشار ابن عباس إلى أنه إذا باعه قبل قبضه أنه دراهم بدراهم، والطعام لغو فأشبه عنده العينة، وقال الأبهرى: العينة عنده من باب سلف جر منفعة. والحجة لقول مالك ومن وافقه أن من ابتاع جزافًا فلم يبع إلا ما وقعت حاسة العين عليه، ولذلك سقط الكيل عن البائع والاستيفاء إنما يكون بالكيل أو الوزن، هذا هو المشهور عند العرب، ويشهد لذلك قوله - تعالى -: (فأوف لنا الكيل () وأوفوا الكيل إذا كلتم (وقوله: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (فإنما عنى بالاستيفاء فى المكيل والموزون خاصة، وما عدا هذه الصفة فلم يبق فيه إلا التسليم، فبه يستوفى من جزاف الطعام كالعقار وشبهه. فإن قيل: لو كان كما زعمتم لم يتأكد النهى عن ذلك حتى يضرب الناس عليه، فدل على أن حكم الجزاف كحكم المكيل. فالجواب: أنهم إنما أمروا بانتقال طعامهم وإن كان جزافًا، لأنهم كانوا بالمدينة يتبايعون بالعينة، وكذلك يجب أن يؤمر بانتقال الجزاف فى كل موضع يشتهر فيه العمل بالعينة؛ ليكون حاجزًا بين دراهم بأكثر منها، كان الطعام لغوًا وكانت دراهم بأكثر منها، وقد روى عن ابن عمر أن النهى إنما ورد فى المكيل خاصة، ذكر ابن وهب قال: حدثنى عمرو بن الحارث عن المنذر بن عبيد

(6/257)


المدينى، أن القاسم بن محمد حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه: (أنه عليه السلام نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه) . وفى حديث ابن عمر: (رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد النبى حتى يئووه إلى رحالهم) إباحة الحكرة؛ لأنه لو لم يجز لهم احتكاره لتقدم إليهم فى بيعه، ولم يؤذن لهم فى حبسه، هذا قول أئمة الأمصار. ورخصت طائفة لمن رفع الطعام من أرضه أو من جلبه من مكان فى جنبه، ومنعت من ذلك لمشتريه من السوق للحكرة وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعن الحسن البصرى وبه قال الأوزاعى. وقال مالك فيمن رفع طعامًا فى ضيعته فرفعه فليس بحكرة. وقال أحمد بن حنبل: إنما يحرم احتكار الطعام الذى هو قوت دون سائر الأشياء. وقالت طائفة: احتكار الطعام فى الحرم إلحاد فيه روى هذا عن عمر بن الخطاب ومجاهد. فإن قيل: قد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) من حديث سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله بن نضلة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما نهيا عن الحكرة. قيل: معنى هذا النهى عند الفقهاء فى وقت الشدة وما ينزل بالناس من الحاجة، يدل على ذلك أن ابن المسيب روى هذا الحديث وكان يحتكر الزيت، فقيل له فى ذلك، فقال: كان معمر يحتكر. وقد علما مخرج الحديث.

(6/258)


وقال أبو الزناد: قلت لابن المسيب: أنت تحتكر قال: ليس هذا بالذى قال رسول الله إنما قال: أن يأتى الرجل السلعة عند غلائها فيغالى بها وأما أن يشتريه إذا أبضع ثم يرفعه، فإذا احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير، فبان أن معنى النهى عن الحكرة فى وقت حاجة الناس. روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: من اشترى طعامًا فى قوت لا يضر بالناس شراؤه لا يضره إن تربص به ما شاء، وهو قول الكوفيين والشافعى. قال مالك: وجميع الأشياء فى ذلك كالطعام. وقال الأوزاعى: لا بأس أن يشترى فى سنة الرخص طعامًا لسنين لنفسه وعياله مخافة الغلاء قال مالك: وأما إذا قل الطعام فى السوق، فاحتاج الناس إليه، فمن احتكر منه شيئًا فهو مضر بالمسلمين، فليخرجه إلى السوق وليبعه بما ابتاعه ولا يزدد فيه، فعلى هذا القول تتفق الآثار، ألا ترى أن الناس إذا استوت حالتهم فى الحاجة، فقد صاروا شركاء، ووجب على المسلمين المواساة فى أموالهم فكيف لا يمنع الضرر عنهم وقد جمع النبى - عليه السلام الأزواد بالصهباء عند الحاجة، ونهى عن ادخار اللحوم بعد ثلاث للدافة، وجمع أبو عبيدة أزواد السرية وقسمها بين من لم يكن له زاد وبين من كان له زاد، وأمر عمر أن يحمل فى عام الرمادة على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، وقال: إن المرء لا يهلك عن نصف شبعه.

(6/259)


51 - باب بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
/ 77 - فيه: مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِىءَ خَازِنُنَا مِنَ الْغَابَةِ، فقَالَ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ) . قال المؤلف: لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا فى ملكك وضمانك من الأعيان المكيلة والموزونة والعروض كلها، لنهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك. وروى النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث حكيم بن حزام، ولم يكن إسناده من شرط البخارى، فاستنبط معناه من حديث مالك بن أوس، وذلك أنه يدخل من باب بيع ما ليس عندك بالمعنى ما يكون فى ملكك غائبًا من الذهب والفضة، لا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذلك البر والتمر والشعير لا يباع شىء منها بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، وكذلك ما كان فى معناها من سائر أنواع الطعام، لا يباع منها طعام بطعام إلا يدًا بيد، لقوله عليه السلام: (إلا هاء وهاء) ، يعنى خذ وأعط حياطة من الله - تعالى - لأصول الأموال وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع ما ليس عندك ومن ربح ما لم يضمن وهو السلم، فجوزت فيه بيع ما ليس عندك مما يكون فى الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله - تعالى - لعباده ورفقًا بهم. قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن

(6/260)


يقول: أبيعك عبدًا لى أو دارًا مغيبة عنى فى وقت البيع، فلعل الدار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر، ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السلعة، أو لا يسلمها إليه مالكها، وهذا أصح القولين عندى، لأنى لا أعلمهم يختلفون أنه يجوز أن أبيع جارية رآها المشترى ثم غابت عنى وتوارت بجدار وعقدنا البيع ثم عادت إلى، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرق بين أن تغيب عنى بجدار أو تكون بينى وبينها مسافة وقت عقد البيع. وقال غيره: ومن بيع ما ليس عندك العينة، وهى ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، كأن رجلا سأل رجلا أن يسلفه دراهم بدراهم أكثر منها فقال له: هذا لا يحل، ولكن أبيعك فى الدراهم التى سألتنى سلعة كذا ليست عندى، أبتاعها لك فبكم تشتريها منى؟ فيوافقه على الثمن يبتاعها ويسلمها إليه، فهذه العينة المكروهة، وهى بيع ما ليس عندك وبيع ما لم تقبضه، فإن وقع هذا البيع فسخ عند مالك فى مشهور مذهبه وعند جماعة العلماء، وقيل للبائع: إن أعطيت السلعة لمبتاعها منك بما اشتريتها جاز ذلك، وكأنك إنما أسلفته الثمن الذى ابتاعها به. وقد روى عن مالك أنه لا يفسخ البيع، لأن المأمور كان ضامنًا للسلعة لو هلكت. قال ابن القاسم: وأحب إلى لو تورع عن أخذ

(6/261)


ما ازداده عليه. وقال عيسى بن دينار: بل يفسخ البيع إلا أن تفوت السلعة، فتكون فيها القيمة، وعلى هذا سائر العلماء بالحجاز والعراق.
52 - باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
/ 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَمَّا الَّذِى نَهَى عَنْهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلا أَحْسِبُ كُلَّ شَىْءٍ إِلا مِثْلَهُ. / 79 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) ، وَقَالَ مرة: (حَتَّى يَقْبِضَهُ) . أجمع العلماء أن كل ما يكال أو يوزن من الطعام كله مقتاتًا أو غير مقتات، وكذلك الإدام والملح والكسبر وزريعة الفجل الذى فيه الزيت المأكول، فلا يجوز بيع شىء منه قبل قبضه، ومعنى نهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل قبضه عند مالك فيما بيع منه مكيلا أو موزونًا لا فيما بيع منه جزافًا على ما تقدم ذكره قبل هذا. واختلفوا فى بيع العروض قبل قبضها، فذهب ابن عباس وجابر إلى أنه لا يجوز بيع شىء منها قبل قبضها قياسًا على الطعام، وهو قول الكوفيين والشافعى، وحملوا نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على العموم فى كل شئ، إلا الدور والأرضين عند أبى حنيفة، فأجاز بيعها قبل قبضها، لأنها لا تنقل ولا تحول.

(6/262)


وحمل مالك نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على الطعام وحده، قال عيسى: سألت ابن القاسم عن ربح ما لم يضمن. فقال: ذكر مالك أن ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عنه فربحه حرام. وأما العروض والحيوان فربحها حلال، لأن بيعها قبل استيفائها حلال. قال ابن المنذر: والحجة لهذا القول أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن بيع الطعام قبل قبضه خاصة، فدل أن غير الطعام ليس كالطعام، ولو لم يكن كذلك ما كان فى تخصيص الطعام فائدة. وقد أجمعوا أن من اشترى جارية وأعتقها فى تلك الحال قبل قبضها، أن عتقه جائز وكذلك يجوز له بيعها قبل قبضها، وقال أبو ثور كقول مالك.
53 - باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ الْمُبْتَاعِ. / 80 - فيه: عَائِشَةَ، لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِى عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، إِلا يَأْتِى فِيهِ بَيْتَ أَبِى بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَىِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِى

(6/263)


الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِىُّ عَلَيّهِ السَّلاَم فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ لأبِى بَكْرٍ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَاىَ، يَعْنِى عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: (أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ) ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الصُّحْبَةَ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِى نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا قَالَ: (قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ) . اختلف العلماء فى هلاك المبيع قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة والشافعى إلى أن ضمانه إن تلف من البائع، وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: تلافه من المشترى. وفرق مالك بين الثياب والحيوان، فقال: ما كان من الثياب والطعام، وما يعاب عليه فهلك قبل القبض، فضمانه من البائع. قال ابن القاسم: لأنه لا يعرف هلاكه ولا بينة عليه، ويتهم أن يكون ندم فيه فعيبه، وأما الدواب والحيوان والعقار فضمانه من المشترى. وقال ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبدًا واحتبسه بالثمن، وهلك فى يديه قبل أن يأتى المشترى بالثمن، وكان سعيد بن المسيب وربيعة والليث يقولون: وهو من البائع. وأخذ به ابن وهب، وكان مالك قد أخذ به أيضًا، وقال سليمان بن يسار: مضيته من المشترى سواء حبسه البائع وثيقة من الثمن أم لا. ورجع مالك إلى قول سليمان بن يسار، واحتج الكوفيون والشافعى بفساد بيع الصرف قبل القبض، فدل أنه فى ضمان البائع، قالوا: ولا خلاف أنه من اشترى طعامًا مكايلة، فهلك قبل القبض فى يد البائع، أنه من مال البائع، فكذلك ما سواه فى القياس، واحتجوا بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، قالوا: ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، فكأنه نهى عن بيع ما لم يقبض؛ لأنه لم يضمن.

(6/264)


وقال ابن القصار: والحجة عليهم فى قياسهم على الصرف، بأن البيع يتم فيه بالعقد، ثم يبطل بالتفرق قبل القبض؛ لأنه عقد خص بألا يفترقا وبينهما معاملة؛ لأن سنة الصرف يدًا بيد، وهاء بهاء، لوجود الربا فى كل واحد من العوضين، وأما الطعام إذا اشترى مكايلة فإن البيع قد تم بالقول، ثم وجب على البائع حق التوفية، وهو الكيل الذى يلزمه بإجماع، وكذلك المبيع إذا كان فيه حق يوفيه من وزن أو عدد وتلف قبل القبض فضمانه من البائع، وأما احتجاجهم بنهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبض، فالجواب: عليه أنه نهى عن بيع ما لم يقبض إذا لم يضمن، بدليل أن المشترى لو أتلف المبيع كان ضمانه فيه بالثمن لا بالقيمة لأنه بحكم الملك أتلفه، فيجب إذا تلف المبيع من قبل الله - تعالى - أن يكون من ضمانه. قال المهلب: ووجه استدلال البخارى بحديث عائشة فى هذا الباب أن قول الرسول لأبى بكر فى الناقة: (قد أخذتها) لم يكن أخذًا باليد، ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامه لابتياعها بالثمن، وإخراجها من ملك أبى بكر، لأن قوله: (قد أخذتها) يوجب أخذًا صحيحًا، وإخراجًا واجبًا للناقة من ذمة أبى بكر إلى ذمة النبى بالثمن الذى يكون عوضًا منها، فهل يكون الضياع أو التصرف بالبيع قبل القبض إلا لصاحب الذمة الضامنة لها. قال ابن المنذر: ولا مخالف لابن عمر فى الصحابة، فهو كالإجماع. قال المهلب: وفيه من الفقه: إخفاء السر فى أمر الله إذا خشى من أهل الفجر.

(6/265)


وفيه: أن أبا بكر أوثق الناس عند رسول الله، وأنه آمن الُناس عليه فى صحبته وماله؛ لأنه لم يرغب بنفسه عنه فى حضر ولا سفر، ولا استأثر بماله دونه، ألا ترى أنه أعطاه إحدى ناقتيه بلا ثمن، فأبى رسول الله إلا بالثمن، وفى استعداد أبى بكر بالناقتين دليل على أنه أفهم الناس لأمر الدين؛ لأنه أعدهما قبل أن ينزل الإذن فى الخروج من مكة إلى المدينة، كأنه قبل ذلك قد رجا أنه لا بد أن يؤذن له فأعد لذلك. وفيه: أن الافتراق الذى يتم به البيع فى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) إنما يكون بالكلام لا بالأبدان؛ لقول النبى لأبى بكر: (قد أخذتها بالثمن) قبل أن يفترقا، وتم البيع بينهما، وسيتأتى بعض معانى هذا الحديث فى كتاب اللباس فى باب التقنع، إن شاء الله.
54 - باب لا يَبِعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ
/ 81 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَبِعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) . / 82 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ. . . .) الحديث. قال أبو عبيد: كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم

(6/266)


يقولون: إنما النهى فى قوله عليه السلام: (لا يبع على بيع أخيه) . إنما هو لا يشتر على شراء أخيه، فإنما وقع النهى على المشترى لا على البائع؛ لأن العرب تقول: بعت الشىء، بمعنى اشتريته، قال أبو عبيد: وليس للحديث عندى وجه غير هذا؛ لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، هذا قليل فى معاملة الناس، وإنما المعروف أن يعطى الرجل الرجل بسلعته شيئًا فيجىء مشترٍ آخر فيزيد عليه، ومما يبين ذلك أنهم كانوا يتبايعون فى مغازيهم فيمن يزيد، فالمعنى هاهنا للمشترى، ومنه النهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن البيع، بعد علمنا أن الخاطب هو الطالب بمنزلة المشترى، وقد فسره مالك فى الموطأ بنحو هذا، قال مالك: وتفسير قوله عليه السلام: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع للمشترى، وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب وشبه هذا مما نعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذى نهى عنه - والله أعلم - ونحوه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعى مثله فى قوله عليه السلام: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) ، وخالفهم فى قوله: (لا يبع على بيع أخيه) . فقال: معناه: أن يبتاع سلعة فيقبضها وهو مغتبط بها، فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه سلعة خيرًا منها بأقل من ذلك الثمن، وهذا فساد، وقال الثورى نحوه. والفقهاء كلهم يكرهون أن يسوم على سوم أخيه بعد السكون

(6/267)


والرضا، والبيع عندهم مع ذلك صحيح؛ لأن سوم المساوم لم يتم به عقد البيع، كان لكل واحد منهما أن لا يتمه إن شاء، وأهل الظاهر يفسخونه، وقد روى عن مالك وعن بعض أصحابه فسخه ما لم يفت وفسخ النكاح ما لم يفت بالدخول، وأنكر ابن الماجشون أن يكون مالك قاله فى البيع، وقال: إنما قاله فى الخطبة. واختلفوا فى دخول الذمى فى معنى قوله: (لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يسم على سوم أخيه) فقال الأوزاعى: لا بأس بدخول المسلم على الذمى فى سومه؛ لأن النبى إنما خاطب المسلمين بذلك، فلا يدخل فيه غيرهم. وقال مالك والثورى وأبو حنيفة والشافعى: لا يجوز أن يبيع المسلم على بيع الذمى، وحجتهم أنه كما دخل الذمى فى النهى عن النجش، وعن ربح ما لم يضمن، وفى الشفعة وغيرها مما الذمى فيه تبع للمسلم، فكذلك يدخل فى هذا، وقد يقال: هذا طريق المسلمين، ولا يمنع ذلك من سلوك أهل الذمة فيه. وقد أجمع العلماء على كراهة سوم الذمى على سوم الذمى، يدل أنهم داخلون فى ذلك - والله أعلم.
55 - باب بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ. / 83 - فيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ، فَأَخَذَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى) ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.

(6/268)


اختلف الفقهاء فى بيع المزايدة، فأجازها مالك والكوفيون والشافعى وأحمد، وكان الأوزاعى يكره المزايدة إلا فى المغانم والمواريث، وهو قول إسحاق. وروى عن أبى أيوب وعقبة بن عامر كراهية الزيادة، وعن إبراهيم النخعى أنه كره بيع من يزيد، واحتج مالك لقوله: لا بأس بالسلعة، توقف للبيع فيسوم بها غير واحد، قال: ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها، أُخذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة فى سلعهم المكروه، ولم يزل الأمر عندنا على ذلك. وحديث جابر حجة على من كره ذلك؛ لأنه عليه السلام قال فى المدبر: (من يشتريه منى؟) فعرضه للزيادة، وأحب أن يستقصى فيه للمفلس الذى باعه عليه، وهذا الحديث يفسر نهيه عليه السلام أن يسوم الرجل على سوم أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، أنه أراد بذلك إذا تقاربا من تمام البيع كما قال جمهور الفقهاء، وعلى هذا المعنى حمل العلماء ما روى عن أبى أيوب وعقبة بن عامر أن ذلك بعدما رضى البائع ببيعه الأول.
56 - باب النَّجْشِ ومن قال لا يجوز ذلك البيع
وَقَالَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ، وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ، لا يَحِلُّ. قَالَ عليه السَّلام: (الْخَدِيعَةُ فِى النَّارِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) . / 84 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ النَّجْشِ.

(6/269)


قال ابن الأنبارى: النجش: أن يزيد الرجل فى ثمن السلعة، وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وذكر مثله صاحب العين، وقال أبو عبيد: النجش: استثارة الشىء، والنجاشى والناجش: الذى ينجش الشىء نجشاُ فيستخرجه. وقال بعضهم: النجش: أن ينفر الناس عن الشىء إلى غيره قال وأصل: النجش: تنفير الوحش من مكان إلى مكان. وذكره ابن الأنبارى وذكر عن ابن عباس أنه قال: نجاشوا سوق الطعام من هذا أخذوا. وذكر أيضا عن الأصمعى أن النجش: مدح الشىء وإطراؤه، وأنشد النابغة الشيبانى: ويعدى كرمها عند النجش وأجمع العلماء أن الناجش عاص بفعله. واختلفوا فى البيع إذا وقع على ذلك، فذهب أهل الظاهر إلى أن البيع فى النجش مفسوخ، لأنه طابق النهى ففسد، وقال مالك المشترى بالخيار، وهو عيب من العيوب، وحجته أن النبى - عليه السلام - نهى عن التصرية، ثم جعل المشترى بالخيار إذا علم أنها مصراة، ولم يقض بفساد البيع، ومعلوم أن التصرية غش وخديعة، فكذلك النجش يصح فيه البيع، ويكون المشترى بالخيار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى: البيع فى النجش لازم، ولا خيار للمبتاع فى ذلك، لأنه ليس بعيب فى نفس البيع، وإنما هى خديعة فى الثمن، وقد كان على المشترى أن يتحفظ ويحضر من يميز

(6/270)


إن لم يكن ممن يميز، وقول مالك أعدل الأقوال فى ذلك وأولاها بالصواب.
57 - باب بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ
/ 85 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِى فِى بَطْنِهَا. قال مالك: هذا الحديث أصل فى النهى عن البيوع إلى الآجال المجهولة، لقوله: (إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التى فى بطنها) ، واختلف العلماء فى معنى نهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، فقال مثل قول مالك الشافعى، ولا خلاف بين الأمة أن البيع إلى مثل هذا الأجل المجهول غرر لا يجوز، وإنما يجوز إلى أجل معلوم، لأن الله قد جعل الأهلة مواقيت للناس والحج، وهى معلومة، فما كان من الآجال لا يختلف، ولا يجهل وقته فجائز البيع إليه بإجماع. وقال آخرون: معنى بيع حبل الحبلة: هو النهى عن بيع الجنين فى بطن أمه، فلا يجوز بيع ما لم يخلق، ولا بيع ما لا تقع عليه العين، ولا يحيط به العلم. هذا قول أحمد وإسحاق وأبى عبيد. قال ابن المنذر: فأى ذلك كان فالبيع فيه باطل من وجوه، وكذلك يبطل كل ما كان فى معناه مما يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجود، وهذا كله من أكل المال بالباطل، وقد نهى الله عن ذلك. فإن قيل: فقد ذكر الطبرى عن ابن عون، عن ابن سيرين

(6/271)


قال: لا أعلم ببيع الغرر بأسًا. وذكر ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحد، وحكى مثله عن شريح، وذكر عن ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعيرًا شاردًا. فالجواب: أن الغرر هو ما يجوز أن يوجد وأن لا يوجد كحبل الحبلة وشبهه، وكل شىء لا يعلم المشترى هل يحصل له أم لا، فشراؤه غير جائز، لأنه غرر، وكل شىء حاصل للمشترى أو يعلم فى الغالب أنه يحصل له فشراؤه جائز، هذا أصل البيوع، إذا كان الغرر فيها الغالب لم يجز، وإذا كان يسيرًا تبعًا جاز، لأنها لا تخلو منه، ولو منع البيع حتى لا يكون فيه غرر وإن قل لأضر ذلك بالناس، وقد منع رسول الله بيع الثمرة قبل بدو صلاحها على التبقية، ولو بدا صلاحها جاز بيعها على التبقية لأن الغرر قد قل فيها. فإن قيل: يحتمل قول ابن سيرين: أنه لا بأس ببيع الغرر إن سلم. فالجواب: أن السلامة وإن كانت فإنما هى فى المال، والمال لا يراعى فى البيوع فى الأكثر من مذاهب أهل العلم، وإنما تراعى السلامة فى حال عقد البيع، وقد ذكرنا أن الغرر هو ما يجوز أن يوجد وألا يوجد، وهذا المعنى موجود فى عقد الغرر وإن سلم ماله، فلذلك لم يجز، وقد يمكن أن يكون ابن سيرين ومن أجاز بيع الغرر

(6/272)


لم يبلغهم نهى النبى - عليه السلام - عن ذلك، ولا حجة لأحد خالف السنة.
58 - باب بَيْعِ الْمُلامَسَةِ
قَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنْهُ / 86 - فيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَهِىَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُلامَسَةِ، وَالْمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ. / 87 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نُهِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ اللِّمَاسِ وَالنِّبَاذِ. وترجم له (باب بيع المنابذة) . لا يجوز بيع الملامسة والمنابذة عند جماعة العلماء، وهو من بيع الغرر والقمار، لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه ولا علم صفته فلا يدرى حقيقته، وهو من أكل المال بالباطل، وكان مالك يقول: المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما لصاحبه: هذا بهذا. ومن هذا الباب بيع الشىء الغائب واختلف العلماء فى ذلك، وقال مالك: لا يجوز بيع الغائب حتى يتواصفا فإن وجد على الصفة لزم المشترى، ولا خيار له إذا رآه، وإن كان على غير الصفة فله الخيار. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور والمروزى، وروى مثله عن محمد بن سيرين.

(6/273)


وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى: يجوز بيع الغائب على الصفة وغير الصفة، وللمشترى خيار الرؤية إن وجده على الصفة. وروى مثله عن ابن عباس والشعبى والنخى والحسن البصرى. وللشافعى قولان: أحدهما كقول أبى حنيفة. والثانى: لا يجوز شراء الأعيان الغائبة. وهو قول الحكم وحماد، واحتج الشافعى بأن مالكًا لم يجز بيع الثوب المدرج فى جرابه ولا الثوب المطوى فى طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما فى جوفهما، وذلك من الغرر، وأجاز بيع الأعدال على الصفة والبرنامج، فأجاز الغرر الكثير ومنع اليسير، فيقال له: قد سئل مالك عن هذا فقال: فرق ما بين ذلك الأمر المعمول به وما مضى من عمل الماضين أن بيع البرنامج لم يزل من بيوع الناس الجائزة بينهم، وأنه لا يراد به الغرر ولا يشبه الملامسة. واحتج الكوفيون فى جواز بيع ما لم ير بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الحب حتى يشتد، فدل ذلك على إباحة بيعه بعدما يشتد، وهو فى سنبله؛ لأنه لو لم يكن كذلك لقال: حتى يشتد ويزال من سنبله، فلما جعل الغاية فى النهى عنه هى شدته ويبوسته، دل على أن البيع بعد ذلك بخلاف ما كان عليه فى أول مرة، ودل ذلك على جواز بيع ما لا يراه المتبايعان إذا كانا يرجعان منه إلى معلوم، كما يرجع فى الحنطة المبيعة المغيبة فى السنبل إلى حنطة معلومة.

(6/274)


واحتجوا أيضًا بأن الصحابة تبايعوا الأشياء الغائبة، فباع عثمان من طلحة دارًا بالكوفة بدار بالبصرة، وباع عثمان من عبد الرحمن فرسًا بأرض له، وباع ابن عمر من عثمان مالا له بالوادى بمال له بخيبر، وليس فى الأحاديث عنهم صفة شىء من ذلك. واحتج أهل المقالة الأولى أن قالوا: إن تبايع الصحابة للأشياء الغائبة محمول إما على الصفة، وإما على خيار الرؤية، وفى الخبر أن عثمان قيل له: غُبنِت. فقال: لا أبالى، لى الخيار إذا رأيت. فترافعا إلى جبير بن مطعم فقضى بالبيع، وجعل الخيار لعثمان لأجل الغبن. قالوا: وقد صحت الأخبار بنهيه عليه السلام عن بيع الملامسة والمنابذة، وإنما كان سبب بطلان ذلك أن المبيع كان يدخل فى ملك المبتاع قبل تأمله إياه ووقوفه على صفته، فكل ما اشترى كذلك من غير صفة ولا رؤية فحكمه حكم بيع الملامسة والمنابذة. وإما قول الشافعى: إن البيع على الصفة وبيع البرنامج من بيوع الغرر. فالجواب عنه: أن الصفة تقوم مقام المعاينة؛ لأن العلم يقع بحاسة السمع والشم والذوق كما يقع بحاسة العين. وقد أجاز الجميع بيع الطعام المصبر، والجوز فى قشره، والحب فى سنبله للحاجة إلى ذلك؛ ولأن القصد لم يكن إلى الغرر، فكذلك يجوز بيع الأعدال على الصفة والبرنامج لضرورة الناس إلى البيع لأنهم لو منعوا منه منعوا من وجه يرتفقون به من فتح الأعدال ونشرها؛ لمشقة ذلك عليهم، فإنه قد لا يشتريها من يراها، فجاز بيعها على الصفة؛ لأنها تقوم مقام العيان، كما تقوم فى

(6/275)


السلم، وجواز بيعه كجواز بيع العين، وليس الأعدال كالثواب الواحد المطوى أو الثوبين؛ لأن نشرهما وطيهما لا مؤنة فيه ولا ضرر، وقد قال عليه السلام: (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها) ، فأقام الصفة مقام الرؤية.
59 - بَاب النَّهْىِ لِلْبَائِعِ أَنْ لاَ يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِى صُرِّىَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا،
وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ / 88 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلاَثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ. قال المهلب: هذا الحديث أصل فى الرد بالعيب والدلسة؛ لأن اللبن إذا حبس فى ضرعها أيامًا فلم تحلب، ظن المشترى أنها هكذا كل يوم، فاغتر به، وقد روى أبو الضحى عن مسروق قال ابن مسعود: (أشهد على الصادق المصدوق أبى القاسم صلى الله عليه أنه قال: بيع المحفلات خلابة، ولا تحل خلابة مسلم) ، وقال بحديث المصراة جمهور العلماء، منهم: ابن أبى ليلى ومالك والليث

(6/276)


وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: إذا بان لمشتريها أنها مصراة ردها بعد الثلاث، ورد معها صاعًا من تمر، ورد أبو حنيفة ومحمد الحديث وقالا: ليس له أن يردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب، قالوا: لأنه لو ابتاع شيئًا به عيب فإنما يأخذ الأرش ولا خيار له فى الرد البتة، ألا ترى لو ابتاع عبدًا فقطعت يده عند المشترى، ثم ظهر على عيب كان عند البائع لم يكن له رد العبد، وإنما يأخذ الأرش بقدر العيب. وزعموا أن حديث المصراة منسوخ بحديث الغلة بالضمان، قالوا: ومعلوم أن اللبن المحلوب فى المرة الأولى هو لبن التصرية، وقد خالطه جزء من اللبن الحادث فى ملك المبتاع، وكذلك المرة الثانية والثالثة غلة طارئة فى ملك المشترى، فكيف يرد له شيئًا؟ قالوا: فالأصول المجتمع عليها فى المستهلكات أنها لا تضمن إلا بالمثل أو بالقيمة من الذهب أو الورق، فكيف يجوز أن يضمن لبن التصرية الذى هو فى ملك البائع فى حين البيع بصاع تمر فات عند المشترى أو لم يفت، وقد وقعت عليه الصفقة كما وقعت على الشاة، فيكون صاعًا دينًا بلبن دين، وهذا يبين أن حديث المصراة منسوخ بتحريم الرباء؛ لأن النبى - عليه السلام - جعل الطعام بالطعام ربًا إلا هاء وهاء. قال المهلب: وما ادعوه من نسخ حديث المصراة فباطل، والصاع المردود إنما هو عبادة، وتحلل من اللبن الذى صرى الذى وقعت عليه الصفقة، وما حدث بعده من اللبن فهو للمشترى بالضمان، ولبن

(6/277)


التصرية لم يبعه صاحب الشاة على أنه مصرى، وإنما باعه على أنه غلة حادثة فى الحلاب، فليس له فى الحقيقة رجوع بقيمته، ولا أخذ عوض فيه؛ لأنه لم تكن نيته عند البيع أن يأخذ فيه عوضًا، ولا أنه مبيع، فلما ظهر العيب بالاختبار علم أنه عين قائمة باعه مع الشاة على أنه غلة وهو غيرها، فأمر بالصاع على وجه التحلل. قال غيره: وأجمع العلماء على أنه إذا ردها بعيب التصرية لم يرد اللبن الحادث فى ملكه، ولم يجز أن يرد لبنا مثل لبن التصرية، لأنه لا يعلم مقداره، وإذا لم يعلم ذلك دخله بيع اللبن باللبن متفاضلا والى أجل، وذلك لا يجوز، ولما كان لبن التصرية مغيبًا لا يعلم مقداره، لأن لبن ناقة أو بقرة أكثر من لبن شاة، وأمكن التداعى فى قيمته، قطع النبى الخصومة فى ذلك بما حده من الصاع، كما فعل فى دية الجنين، قطع فيه بالغرة حسمًا لتداعى الموت فيه والحياة، لأن الجنين لما أمكن أن يكون حيا فى حين ضرب بطن أمه، فتكون فيه دية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا فلا تكون فيه دية كاملة، قطع النبى - عليه السلام - التنازع والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة وفى اتفاق العلماء على القول بدية الجنين دليل على أن لزوم القول بحديث المصراة اتباعًا للسنة وتسليمًا لها، ومما يشهد لصحة هذا التأويل أنها لو كانت عشر شياه أو أكثر لما رد معها إلا صاعًا واحداُ كما يرد عن الواحدة فثبت أنه ليس على سبيل القيمة والمماثلة، وإنما هو على سبيل التحليل. قال ابن القصار: وأما قولهم فى العبد تقطع يده عند المشترى ثم

(6/278)


يظهر على عيب أنه لا يرده، ويأخذ أرش العيب. فمذهب مالك أن المشترى بالخيار فى أن يتمسك ويأخذ أرش العيب الذى كان عند البائع، أو يرده ومعه أرش العيب الذى عنده، وهذا أصلنا، ولا يمنع حدوث العيب من الرد، كما لو اشترى العدل من المتاع ثم نشره له، ثم ظهر على عيب أنه يرده كله وكذلك يرد البيضة إذا كسرت وفيها العيب، ولو اشترى عبدين من رجل فمات أحدهما، ووجد بالآخر عيبًا فإنه يرد العبد الباقى، ومع هذا فإنه قد دخل النقص فى المبيع بموت الآخر. وقولهم: إن التمر ليس من جنس اللبن. فنقول: إن الأصول على ضربين: مضمون بالمثل، ومضمون بالقيمة، ثم لما جاز أن يكون المضمون بالقيمة غير مضمون بالقيمة فى موضع، كذلك يجوز أن يكون المضمون بالمثل غير مضمون بجنسه، ألا ترى أن الجنين فيه غرة عبد أو أمة، وليست مثلا له ولا قيمة، وأيضاُ فإن الشىء المكيل لا يكون مضمونا بالمثل والجنس إلا فى المواضع التى يمكن اعتبار ذلك فيها فأما الموضع الذى لا يمكن اعتبار مثله، فإنه يجوز أن يضمن بغير مثله، ألا ترى أننا قد اتفقنا على أن اللبن المضمون بمثله إذا تلف عليه فى وعاء أنه يمكن اعتبار المثل فيه، ثم لو أتلف عليه شاة لبونًا جعلنا بإزاء ذلك اللبن الذى أتلف فى ضرعها زيادة قيمة فيها، ولم يضمنه بالمثل إذ لا يمكن اعتباره.

(6/279)


قال غيره: فى حديث المصراة دلالة على أن من اشترى نخلا وفيها نخل قد أبر، أو أمة حاملا، فأكل التمر أو هلك الابن ثم رد النخل أو الأمة بعيب، أنه يرد قيمة المبيع معها، لأنه قد وقع له حصة من الثمن، كما فعل النبى بالمصراة، وهو قول ابن القاسم، وخالفه أشهب فى التمرة، وقال: التمرة للمشترى بالضمان، وقول ابن القاسم يشهد له الحديث. وقال أبو عبيد: أصل التصرية حبس الماء وجمعه، يقال: منه صريت الماء وصريته. قال الزبيدى: الكلمة من الثلاثى المعتل اللام من صرى يصرى: إذا جمع وقد غلط أبو على البغدادى فذكره فى باب الثنائى المضاعف وأنشد الفراء: رأت غلامًا قد صرى فى فقرته ماء الشباب عنفوان تحرته قال المؤلف: أى: جمع الماء فى ظهره قال أبو عبيد: ويقال: إنما سميت المصراة كأنها مياه اجتمعت. قال المؤلف: فينبغى أن يكون لا تصروا: بضم التاء وفتح الصاد، كما تقول: ربيت، فهى مرباة، ولا يجوز أن تقول: لا تصروا بفتح التاء وضم الصاد، وإنما كان يجوز ذلك إذا قيل للشاة: مصرورة، واختلف فى لفظه عن مالك، فقيل هكذا، وقيل: لا تصروا. قال أبو عبيد: المحفلة: هى المصراة بعينها، وإنما سميت محفلة،

(6/280)


لأن اللبن حفل فى ضرعها واجتمع وكل شىء كثرته فقد حفلته، يقال: قد احتفل القوم: إذا اجتمعوا، ولهذا سمى محفل القوم، وجمع المحفل: محافل، وذكر النبى الإبل والغنم فى حديث المصراة، ويدخل فى ذلك البقر بالمعنى، هذا قول مالك.
60 - بَاب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
/ 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ. اختلف العلماء فيما يرد مع المصراة، فذهب الليث والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا يرد معها إلا صاعًا من تمر لا من بر ولا غيره على ظاهر الحديث، واحتجوا أيضًا بحديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، أن النبى - عليه السلام - قال: (يرد المصراة صاعًا من تمر لا سمراء) ، وقال مالك: يرد مع المصراة صاعًا من قوت بلده تمرًا كان أو برًا أو غيره، وحجته أن النبى - عليه السلام - إنما جعل التمر فى حديث المصراة؛ لأنه كان عيشهم، فوجب أن يخرج كل واحد من قوته. وقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف: يرد مع الشاة قيمة صاع من تمر. وقال زفر: يرد صاعًا من تمر أو نصف صاع من بر. وقال غيره: لا يرد غير التمر. ويجىء على أصله أن التمر إذا عدم وجب رد قيمته لا قيمة اللبن. وقال عيس بن دينار: لو حلبها مرة وثانية فنقص لبنها ردها ورد

(6/281)


معها صاعًا من تمر لحلبته الأولى، ولو جاء باللبن بعينه كما حلبه لم يقبل منه، ولزمه غرم الصاع؛ لأن الصاع قد وجب عليه فليس عليه أن يعطى فيه لبنًا فيدخله بيع الطعام قبل يسُتوفى، وأجاز ذلك سحنون وقال: هى إقالة إذا جاء باللبن بعينه؛ لحدثان ذلك. وقال عيسى بن دينار: من اشترى عدة محفلات فى صفقة، فإنما يرد عن الجميع صاعًا واحدًا على ظاهر قوله: (من اشترى غنمًا مصراة ففى حلبتها صاع من تمر) على هذا عامة العلماء، وحكى عن بعض المتأخرين أنه يرد صاعًا عن كل واحدة، والذى عليه الجماعة أولى بدليل هذا الحديث.
61 - بَاب بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّانِى وَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا
. / 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عليه السَّلام: (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) . / 91 - وَقَالَ مرة: إِنَّ النَّبِى، عليه السَّلام، سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ، قَالَ: (إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ أَدْرِى بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. قال المهلب: فقه هذا الحديث على بيع العبد الزانى والندب

(6/282)


إلى مباعدة الزانية، وقوله: (ولو بحبل من شعر) معناه المبالغة فى التزهيد فيها، وليس هذا من وجه إضاعة المال؛ لأن أهل المعاصى مأمور بقطعهم ومنابذتهم. وقوله: (ثم إن زنت الثالثة فبيعوها) ولم يذكر الحد اكتفاء بما تقدم من تقرر الحد ووجوبه، وقد قال تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (يعنى: الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، وإحصان الأمة إسلامها عند مالك والكوفيين والشافعى وجماعة. قوله: (ولا يثرب) أى لا يلومن ولا يعددن بعد الجلد، ويؤيد هذا أن توبة كعب بن مالك ومن فر يوم حنين حين تاب الله عليهم كانت شرفًا لهم، ولم تكن لهم ملامة، فبان بهذا أن اللوم والتثريب لا يكون إلا قبل التوبة أو الحد وأوجب أهل الظاهر بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، والأمة كلها على خلافهم، وكفى بقولهم جهلا خلاف الأمة له. اختلف العلماء فى العبد إذا زنى، هل الزنا عيب يجب الرد به أم لا؟ فقال مالك: الزنا عيب فى العبد والأمة. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. وقال الشافعى: كل ما ينقص من الثمن فهو عيب. وقال الكوفيون: الزنا فى الأمة عيب؛ لأنها تستولد وليس بعيب فى الغلام، وذلك ولد الزنا عيب يرد به.

(6/283)


وقال مالك: إذا كانت الجارية ولد زنا فهو عيب، وإنما جعل الزنا عيب؛ لأنه ربما بلغ الحد به مبلغ تلف النفس، وان المنايا قد تكون من القليل والكثير، وإذا صح أنه عيب وجب على البائع أن يبينه، فإذا رضى به المبتاع صح البيع كسائر العيوب، وإذا لم يبينه كان للمبتاع رده إن شاء. فان قيل: فما معنى أمره عليه السلام ببيع الأمة الزانية والذى يشتريها يلزمه من اجتنابها ومباعدتها ما يلزم البائع. قيل: إن فائدة ذلك - والله أعلم - المبالغة فى تقبيح فعلها، والإعلام أن الأمة الزانية لا جزاء لها إلا البيع أبدًا، وأنها لا بقاء لها عند سيد، وذلك زجر لها عند معاودة الزنا، وأدب بالغ.
62 - بَاب الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ
/ 92 - فيه: عَائِشَة، دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ لها رَسُولُ اللَّه: (اشْتَرِى وَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . / 93 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ: أَنَّ عَائِشَةَ سَاوَمَتْ بَرِيرَةَ، فَخَرَجَ النَّبِىّ إِلَى الصَّلاَةِ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَتْ: إِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاَءَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . والأمة مجمعة على أن المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها جاز لها أمرها أن تبيع وتشترى، وليس لزوجها عليها فى ذلك اعتراض، فإن كان فى البيع محاباة قصدت إليها، فالمحاباة كالعطية. وقد اختلف العلماء فى عطية المرأة بغير إذن زوجها، وهو مذكور

(6/284)


فى كتاب الزكاة فى حديث ابن عباس حين أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) النساء بالصدقة يوم العيد، فأغنى عن إعادته.
63 - بَاب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟
وَقَالَ عليه السَّلام: (إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ) . وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ. / 94 - فيه: جَرِير، بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. مختصرًا. / 95 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السَّلام: (لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ، فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: (لاَ يَبِعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. نهى النبى أن يبيع حاضر لباد عند العلماء أريد به نفع أهل الحضر، لما روى سفيان عن أبى الزبير، عن جابر أن النبى عليه السلام، قال: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) . قال الطحاوى: فعلمنا من هذا أن الحاضر إنما نهى أن يبيع للبادى لأن الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصى على الحاضرين فلا يكون لهم فى ذلك ربح، وإذا باعهم أعرابى على غرته وجهله بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون، فأمر النبى أن يخلى بين الأعراب والحاضرين فى البيوع.

(6/285)


واختلف العلماء فى ذلك، فأخذ قوم بظاهر الحديث، كرهوا أن يبيع الحاضر للبادى، روى ذلك عن أنس وأبى هريرة وابن عمر، وهو قول مالك والليث والشافعى. ورخص فى ذلك آخرون، روى ذلك عن عطاء ومجاهد، وقال مجاهد: إنما نهى رسول الله عن ذلك فى زمانه، فأما اليوم فلا. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديث قوله عليه السلام: (الدين النصيحة) لكل مسلم. فيقال لهم: (الدين النصيحة) عام، و (لا يبع حاضر لباد) خاص، والخاص يقضى على العام؛ لأن الخصوص استثناء، كأنه قال عليه السلام: الدين النصيحة إلا أنه لا يبع حاضر لباء. فيستعملان جميعًا، فيستعمل العام منهما فيما عدا الخاص. وقال مالك فى تفسير الحديث: لا أرى أن يبيع الحاضر للبادى ولا لأهل القرى، وأما أهل المدن من أهل الريف فليس بالبيع لهم بأس إلا من كان منهم يشبه أهل البادية فإنى لا أحب أن يبيع لهم حاضر، وقال فى البدوى يقدم المدينة فيسأل الحاضر عن السعر: أكره أن يخبره. وقال مرة أخرى: لا بأس أن يشير عليه. روى عنه ابن القاسم القولين جميعًا. وقال ابن المنذر: قد تأول قوم نهيه عليه السلام أن يبيع حاضر لباد على وجه التأديب لا على معنى التحريم؛ لقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) قال: وليس يبين عندى أن هذا الكلام يدل على أنه نهى تأديب، بل هو عندى على الحظر.

(6/286)


واختلفوا هل يفسخ البيع، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه يفسخ، فإن فات فلا شىء عليه، وروى سحنون عنه أنه يمضى البيع، وهو قول ابن وهب والشافعى. واحتج الشافعى على جواز البيع بقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ولم يقع الفساد فى ثمن ولا مثمون ولا فى عقد البيع، فلا ينبغى فسخه.
64 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ، وَبَهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
/ 96 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. أراد البخارى فى هذا الباب والذى قبله أن يجيز بيع الحاضر للباد بغير أجر، ويمنعه إذا كان بأجر، واستدل على ذلك بقول ابن عباس: لا يكون له سمسارًا. فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان ذلك من طريق النصح للمسلم وقد أجاز الأوزاعى أن يشير الحاضر على البادى، وقال: ليست الإشارة بيعًا. وقد روى عن مالك الرخصة فى الإشارة عليه، وقال الليث: لا يشير عليه؛ لأنه إذا أشار عليه فقد باع له، ولم يراع الفقهاء فى السمسار أجرًا ولا غيره، والناس فى تأويل هذا الحديث على قولين: فمن كره بيع الحاضر للباد كره بأجر وغير أجر، ومن أجازه أجازه بأجر وغير أجر.

(6/287)


65 - بَاب لاَ يَشْتَرِى حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ
وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِى. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْعَرَبَ يقولون: بِعْ لِى ثَوْبًا وَهِىَ تَعْنِى الشِّرَاءَ. / 97 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) . اختلف العلماء فى شراء الحاضر للبادى، فكرهته طائفة كما كرهت البيع له، واحتجوا بأن البيع فى اللغة يقع على الشراء، كما يقع الشراء على البيع؛ لقول الله: (وشروه بثمن بخس (يعنى باعوه، وهو من الأضداد، وروى ذلك عن أنس. وأجازت طائفة الشراء لهم، وقالوا: إن النهى إنما جاء فى البيع خاصة ولم يعدوا ظاهر اللفظ، روى ذلك عن الحسن البصرى. واختلف قول مالك فى ذلك، فمرة قال: لا يشترى له ولا يشير عليه، ومرة أجاز الشراء له. وبهذا قال الليث والشافعى. واحتج الشافعى لجواز الشراء له بقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) .
66 - بَاب النَّهْىِ عَنْ تَلَقِّى الرُّكْبَانِ، وَبَيْعَهُ مَرْدُودٌ لأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا، وَهُوَ خِدَاعٌ فِى الْبَيْعِ وَالْخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ
/ 98 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ التَّلَقِّى، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَقَالَ طَاوُس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عن مَعْنَى قَوْلِهِ: (لاَ يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) فَقَالَ: لاَ يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا.

(6/288)


/ 99 - وفيه: ابْن مسعود: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ تَلَقِّى الْبُيُوعِ. / 100 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ) . قال ابن المنذر: كره تلقى السلع للمشترى مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأجاز ذلك أبو حنيفة. واختلفوا فى معنى التلقى: فذهب مالك إلى أنه لا يجوز تلقى السلع حتى تصل إلى السوق، ومن تلقاها فاشتراها منهم شركه فيها أهل السوق إن شاءوا، فكان واحدًا منهم. قال ابن القاسم: وإن لم يكن للسلعة سوق عرضت على الناس فى المصر فيشتركون فيها إن أحبوا، فإن أخذوها، وإلا ردوها عليها، ولم أردها على بائعها. وقال غير ابن القاسم: يفسخ البيع فى ذلك. وقال الشافعى: من تلقى فقد أساء، وصاحب السلعة بالخيار إذا قدم بها السوق فى إنفاذ البيع أو رده؛ لأنهم يتلقونهم فيخبرونهم بكساد السلع وكثرتها، وهم أهل غرة، وهذا مكر وخديعة. وحجته ما رواه أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن تلقى الجلب، فإن تلقاه فاشتراه، فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق) فذهب مالك أن نهيه عليه السلام عن التلقى إنما أريد به نفع أهل السوق، لا نفع رب السلعة، وعلى ذلك يدل مذهب الكوفيين والأوزاعى. وقال الأبهرى: معنى النهى عن التلقى لئلا يستبد الأغنياء وأصحاب الأموال بالشراء دون أهل الضعف؛ فيؤدى ذلك إلى الضرر بهم

(6/289)


فى معايشهم، ولهذا المعنى قال مالك: إنه يشرك بينهم إذا تلقوا السلع ليشترك فيها من أرادها من أهل الضعف، ولا ينفرد بها الأغنياء. ومذهب الشافعى أنه إنما أريد بالنهى نفع رب السلعة لا نفع أهل السوق، وهذا أشبه بمعنى قوله عليه السلام: (فإن تلقاها فصاحبها بالخيار) فجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الخيار للبائع؛ لأنه المغرور، فثبت أن المراد بذلك نفع رب السلعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان التلقى فى أرض لا يضر بأهلها فلا بأس به، وإن كان يضرهم فهو مكروه وعن الأوزاعى نحوه. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر قال: (كنا نتلقى الركبان فنشترى منهم الطعام، فنهانا النبى - عليه السلام - أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام) . وقال الطحاوى: فى هذا الحديث إباحة التلقى، وفى الأحاديث الأولى النهى عنه، فأولى بنا أن نجعل ذلك على غير التضاد، فيكون ما نهى عنه من التلقى لما فى ذلك من الضرر على غير المتلقين المقيمين فى السوق، وما أبيح من التلقى هو ما لا ضرر عليه فيه. قال المؤلف: وتأويل هذا الحديث يأتى ذكره فى باب منتهى التلقى بعد هذا. قال الطحاوى: والحجة فى إجازة الشراء مع التلقى المنهى عنه ما حدثنا على بن معبد، حدثنا عبد الله بن أبى بكر السهمى، حدثنا

(6/290)


هشام، عن محمد، عن أبى هريرة، قال رسول الله: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فهو بالخيار إذا أتى السوق) . ففى هذا الحديث عن الرسول النهى عن تلقى الجلب، ثم جعل للبائع الخيار فى ذلك إذا دخل السوق، والخيار لا يكون إلا فى بيع صحيح؛ لأنه لو كان فاسدًا لأجبر بائعه ومشتريه على فسخه.
67 - بَاب مُنْتَهَى التَّلَقِّى
/ 101 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِى مِنْهُمُ الطَّعَامَ، فَنَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ. / 102 - قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ، عَن نَافِعٌ، عَنْ ابْن عُمَرَ: كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِى أَعْلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُونَهُ فِى مَكَانِهِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعُوهُ فِى مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا فِى أَعْلَى السُّوقِ، يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عُبَيْدِاللَّهِ. قال المهلب: قول البخارى: هذا فى أعلى السوق. يعنى قول ابن عمر فى الحديث الأول: (كنا نتلقى الركبان فنشترى منهم) يريد أنهم كانوا يتلقونهم فى أعلى السوق، وذلك جائز، وبين ذلك عبد الله بن عمر بقوله: (كانوا يتبايعون الطعام فى أعلى السوق) . وأن ما كان خارجًا عن السوق فى الحاضرة أو قريبًا منها بحيث يجد من يسأله عن سعرها، أنه لا يجوز الشراء هنالك؛ لأنه داخل

(6/291)


فى معنى التلقى، وأما الموضع البعيد الذى لا يقدر فيه على ذلك فيجوز فيه البيع، وليس بتلق. قال مالك: وأكره أن يشترى فى نواحى المصر حتى يهبط به السوق. قال ابن المنذر: وبلغنى هذا القول عن أحمد وإسحاق، أنهما نهيا عن التلقى خارج السوق، ورخصا فى ذلك فى أعلى السوق، واحتجا بحديث مالك عن نافع، عن ابن عمر: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن تلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق) . ومذاهب العلماء فى حد التلقى متقاربة، روى عن يحيى بن سعيد أنه قال فى مقدار الميل فى المدينة أو آخر منازلها: هو من تلقى البيوع المنهى عنه. وروى ابن القاسم، عن مالك أن الميل من المدينة تلقى. قيل له: فإن كان على ستة أميال؟ فقال: لا بأس بالشراء وليس بتلق. وروى أشهب عن مالك فى الصحافين الذين يخرجون إلى الأجنة فيشترون الفاكهة قال ذلك تلق وقال أشهب: لا بأس بالشراء وليس ذلك؛ لأنهم يشترون فى مواضعه من غير جالب. وقال ابن حبيب: لا يجوز للرجل فى الحضر أن يشترى ما مر به من السلع وإن كان على بابه إذا كان لها مواقف فى السوق تباع فيها، وهو متلق إن فعل ذلك، وما لم يكن لها موقف وإنما يطاف بها فأدخلت أزقة الحاضرة، فلا بأس أن يشترى وإن لم تبلغ السوق. وقال الليث: من كان على بابه أو فى طريقه، فمرت به سلعة فاشتراها، فلا بأس بذلك، والمتلقى عنده الخارج القاصد إليه

(6/292)


قال ابن حبيب: ومن كان موضعه فى غير الحاضرة قريبًا منها أو بعيدًا فلا بأس أن يشترى ما مر به للأكل خاصة لا للبيع، رواه أشهب عن مالك.
68 - بَاب إِذَا شرط فِى الْبَيْعِ شُرُوطًا لاَ تَحِلُّ
/ 103 - فيه: حديث بَرِيرَةُ، وقول النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . أجمع العلماء على أنه من اشترط فى البيع شروطًا لا تحل أنه لا يجوز شىء منها؛ لقوله عليه السلام: (من اشترط شرطًا ليس فى كتاب الله فهو باطل) . واختلفوا فى غيرها من الشروط فى البيع على مذاهب مختلفة، فذهبت طائفة إلى أن البيع جائز والشرط باطل على نص حديث بريرة وهو قول ابن أبى ليلى والحسن البصرى والشعبى والنخعى والحكم، وبه قال أبو ثور، قالوا: ودل هذا الحديث أن الشروط كلها فى البيوع تبطل وتثبت البيوع. وذهبت طائفة إلى أن البيع جائز والشرط جائز، واحتجوا بحديث جابر: (أن النبى اشترى منه جملا وشرط ركوبه إلى المدينة) ، روى ذلك عن ابن شبرمة وبعض التابعين.

(6/293)


وذهبت طائفة إلى أن البيع باطل والشرط باطل، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع وشرط) ، وهو قول الكوفيين والشافعى، فحملوا هذه الأحاديث التى نزعوا بها على العموم، ولكل واحد منها موضع لا يتعداه، ولها عند مالك أحكام مختلفة، وقد يجوز عنده البيع والشرط فى مواضع فأما إجازته للبيع والشرط، فمثل أن يشرط المشترى على البائع شيئًا مما فى ملك البائع مما لم يدخل فى صفقة البيع، وذلك أن يشترى منه زرعًا ويشترط على البائع حصاده، أو يشترى منه دارًا ويشترط البائع سكناها مدة يسيرة، أو يشترط ركوب الدابة يومًا أو يومين، وقد روى عنه أنه لا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة. ووجه إجازته لذلك أن البيع وقع على الشيئين معًا: على الزرع، وعلى الحصاد، والحصاد إجارة، والإجارة بيع، منفعة، وكذلك وقع البيع على الدار غير سكنى المدة، وعلى الدابة غير الركوب، وأبو حنيفة والشافعى لا يجيزان هذا البيع كله؛ لأنه عندهم بيع وإجارة، ولا يجوز؛ لأن الإجارة عندهم بيع منافع طارئة فى ملك البائع لم تخلق بعد، وهو من باب بيعتين فى بيعة، ومما أجاز فيه مالك البيع والشرط شراء العبد على أن يعتق؛ اتباعًا للسنة فى بريرة، وهو قول الليث، وبه قال الشافعى فى رواية الربيع، ولم يقس عليه غيره من أجل نهيه عليه السلام عن بيع والشرط، وأجاز ابن أبى ليلى هذا البيع وأبطل الشرط، وبه قال أبو ثور.

(6/294)


وأبطل أبو حنيفة البيع والشرط، وأخذ بعموم نهيه عليه السلام عن بيع وشرط، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن المبتاع إذا أعتقه كان مضمونًا عليه بالثمن، وهذا خلاف أصوله؛ لأنه كان ينبغى أن يكون مضمونًا عليه بالقيمة، كما قال وقلنا فى البيع الفاسد، ومضى أبو يوسف ومحمد على القياس فقالا: يكون مضمونًا عليه بالقيمة. قال ابن المنذر: وما قالوه خطأ؛ لأن البيع إن كان غير جائز والعبد فى ملك البائع لم يزل ملكه عنه، وعتق المشترى له باطل؛ لأنه أعتق ما لا يملك. ومما أجاز فيه مالك البيع وأبطل الشرط، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع، وهذا البيع أجمعت الأمة على جوازه، وإبطال الشرط فيه لمخالفته السنة فى أن الولاء لمن أعتق، وأن النبى - عليه السلام - أجاز هذا البيع وأبطل الشرط، وكذلك من باع سلعة وشرط أنه إن لم ينفذه المشترى إلى ثلاثة أيام أو نحوها مما يرى، أنه لا يريد تحويل الأسواق والمخاطرة، فالبيع جائز والشرط باطل عند مالك. وأجاز ابن الماجشون البيع والشرط وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له، وممن أجاز هذا البيع والشرط الثورى ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق، ولم يفرقوا بين ثلاثة أيام أو أكثر منها، وأجاز أبو حنيفة البيع والشرط إلى ثلاثة أيام، فإن قال: إلى أربعة أيام بطل البيع عنده لأن الخيار لا يجوز عنده اشتراطه أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو ثور. ومما يبطل فيه عند مالك البيع والشرط، وذلك مثل أن يبيعه جارية على ألا يبيعها ولا يهبها أو على أن يتخذها أم ولد، فالبيع

(6/295)


عنده فاسد، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، واعتلوا فى فساد البيع بفساد الشرط فيه، وذلك عدم تصرف المشترى فى المبيع، وكما لا يجوز عند الجميع أن يشترط المبتاع على البائع عدم التصرف فى الثمن، فكذلك لا يجوز أن يشترط البائع على المبتاع عدم التصرف فيما اشتراه، وهذا عندهم معنى نهيه عليه السلام عن بيع وشرط. وأجازت طائفة هذا البيع وأبطلت الشرط، هذا قول النخعى والشعبى والحسن وابن أبى ليلى وبه قال أبو ثور، وقال حماد والكوفيون البيع جائز والشرط لازم. قال ابن المنذر: وقد أبطل النبى - عليه السلام - ما اشترطه أهل بريرة من الولاء وأثبت البيع، ومثال هذا أن كل من اشترط فى المبيع شرطًا خلاف كتاب الله وسنة رسول الله أن الشرط باطل والبيع ثابت استدلالا بحديث بريرة، واشتراطُ البائع على المشترى ألا يبيع ولا يهب ولا يطأ شروط ينبغى إبطالها وإثبات البيع؛ لأن الله - تعالى - أحل وطء ما ملكت اليمين، وأحل للناس أن يبيعوا أملاكهم ويهبوها، فإذا اشترط البائع شيئًا من هذه فقد اشترط خلاف كتاب الله، فهو مثل اشتراط موالى بريرة ولاءها لهم، فأجاز عليه السلام ذلك البيع وأبطل الشرط، فكذلك ما كان مثله. ومما يبطل فيه عند مالك والكوفيين والشافعى البيع والشرط: بيع الأمة والناقة واستثناء ما فى بطنها، وهو عندهم من بيوع الغرر؛ لأنه لا يعلم مقدار ما يصلح أن يحط من ثمنها قيمة الجنين، وقد أجاز هذا

(6/296)


البيع والشرط النخعى والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بأن ابن عمر أعتق جارية واستثنى ما فى بطنها. قال ابن المنذر: وهذا البيع معلوم، ولا يضرهما أن يجهلا ما لم يدخل فى البيع، ولا أعلمهم يختلفون أنه يجوز بيع جارية وقد أعتق ما فى بطنها ولا فرق بين ذلك؛ لأن المبيع فى المسألتين جميعًا الجارية دون الولد. قال المهلب: وحديث بريرة أصل فى العقوبة فى الأموال؛ لأن مواليها أبوا الوقوف عند حكم الله وحكم السنة، فلما عرفت عائشة النبى - عليه السلام - بإبائهم واستمرارهم على خلاف الحق باشتراطهم ما لا يجوز قال لها: (اشترطى لهم ذلك) فإن ذلك غير نافعهم، ولا ناقض لبيعهم فعاقبهم فى المال بتخسيرهم ما وضعوا من الثمن من أجل اشتراط الولاء واستبقائه لهم، ولم يعطهم قيمته عقوبة لهم. قال أبو عبد الله: فلو وقع اليوم مثل هذا وباع رجل جارية على أن يتخذها المشترى أم ولد أو على ألا يبيعها ولا يهبها ثبت البيع ورجع البائع بقيمة ما وضع.

(6/297)


69 - بَاب بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
/ 104 - فيه: عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ) . وترجم له (باب بيع الشعير بالشعير) . معنى هاء وهاء فى كلام العرب: خذ وأعط، يعنى: لا يجوز بيع شىء من البر والشعير والتمر بجنسه إلا يدًا بيد، قال ثابت: فإعرابه هاء وهاء، وقال صاحب العين هى كلمة تستعمل عند المناولة وهى ممدودة: وقال ابن السكيت: يقال: هاء يا رجل، وهاؤما يا رجلان، وهاؤهم يا رجال. قال الله - تعالى -: (هاؤم اقرءوا كتابيه (وهاء يا امرأة. مكسورة الهمزة بلا ياء، وهاؤما يا امرأتان، وهاؤن يا نسوة. وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا تباع الحنطة بالحنطة، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الحنطة بالتمر، ولا شىء من الطعام كله بعض بعضه إلا يدًا بيد، فإن دخل شيئًا من ذلك الأجلُ فلا يصلح وكان حرامًا، قال: وكذلك حكم الإدام كله وعلى هذا عامة علماء الأمة بالحجاز والعراق، أن الطعام بالطعام من صنف واحد كان أو من صنفين، فإنه لا يجوز فيه

(6/298)


النسيئة؛ فإنه بمنزلة الذهب والورق، وذلك حكم كل ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب حكم ما ذكره النبى - عليه السلام - من البر والشعير والتمر فى ذلك، قال مالك: وإذا اختلف ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب، فلا بأس باثنين منه بواحد يدا بيد، لا بأس أن يؤخذ صاع من تمر بصاعين من حنطة، وصاع من تمر بصاعين من زبيب، وصاع من حنطة بصاعين من تمر فإن دخل ذلك الأجل فلا يحل. قال: ولا تباع صبرة الحنطة بصبرة الحنطة، ولا بأس بصبرة الحنطة بصبرة التمر يدًا بيد. قال مالك: وكل ما اختلف من الطعام أو الإدام فبان اختلافه فلا بأس أن يشترى بعضه ببعضه جزافًا يدًا بيد، وشراء بعض ذلك ببعض جزافًا كشراء بعض ذلك بالذهب والورق جزفًا. واتفق أهل الحجاز والعراق على أن التفاضل جائز فى كل ما اختلف أجناسه من الطعام؛ لأنه إذا اختلتف أجناسه اختلفت أغراض الناس فيه؛ لاختلاف منافعه، فلذلك جاز بيعه متفاضلا، وكل ما جاز فيه التفاضل جاز بيع بعضه ببعض جزافًا معلومًا بمجهول، ومجهولا بمجهول، ما لا يجوز فيه التفاضل فلا يجوز بيعه جزافًا، ولا يباع معلوم بمجهول، إلا أن مالكًا يجعل البر والشعير والسلت صنفًا واحدًا لا يجوز فيه التفاضل أحدهما لصاحبه، وهو قول الليث والأوزاعى. وعند الكوفيين والثورى والشافعى يجوز بيع البر بالشعير متفاضلا، وهما جنسان عندهم، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور.

(6/299)


70 - بَاب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
/ 105 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ كَيْلاً. / 106 - وَقَالَ مرة: الْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إِنْ زَادَ فَلِى، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَىَّ. سندخل الكلام فى هذا الباب فى معنى المزابنة فلا معنى لتكريره.
71 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ
/ 107 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ) . وترجم له باب بيع الذهب بالورق يدًا بيد. أجمع أئمة الأمصار أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة تبرهما وعينهما ومصنوعهما إلا مثلا بمثل يدًا بيد، ولا يحل التفاضل فى شىء منهما، وعلى هذا مضى السلف والخلف، وبذلك كتب أبو بكر الصديق إلى عماله، وروى مثله عن على بن أبى طالب وروى مجاهد عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى - عليه السلام - مثله، وإنما حرم الله الربا حراسة للأموال وحفظًا لها، فلا يجوز واحد باثنين من جنس واحد؛ لاتفاق أغراض الناس فيه، ويجوز

(6/300)


واحد باثنين إذا اختلف الصنفان؛ لاختلاف الأغراض والمنافع، ولذلك قال عليه السلام: (وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم) .
72 - بَاب بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ
/ 108 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلاً بِمِثْلٍ) . / 109 - وَقَالَ مرة عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) . قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) يرد ما رواه أهل مكة عن ابن عباس أنه كان يجيز الدرهم بالدرهمين يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة. وستأتى مذاهب العلماء فى هذا الباب بعد هذا - إن شاء الله. وقوله: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) فالناجز: الحاضر، يقال: نجز المال: إذا حضر، ومنه قوله أنجز فلان ما وعد: إذا وفى له به وأحضره. وقوله: (ولا تشفوا بعضها على بعض) يقتضى تحريم قليل الزيادة وكثيرها، يقول: لا تبيعوا إحداهما زائدًا على الأخرى. تقول العرب: قد أشف فلان بعض بنيه على بعض: إذا فضل

(6/301)


بعضهم على بعض، ويقال ما أقرب شف ما بنيهما، أى: فضل ما بينهما، وفلان حريص على الشف، يعنى: الربح عن الطبرى.
73 - بَاب بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً
/ 110 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، قَالَ أَبُو صالح: قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أَوْ وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لاَ أَقُولُ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنِّى، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ رِبًا إِلاَ فِى النَّسِيئَةِ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله عليه السلام فى حديث أسامة: (لا ربا إلا فى النسيئة) فروى عن قوم السلف أنهم أجازوا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد متفاضلة، رواه سعيد بين جبير عن ابن عباس، قال: (ما كان ربًا قط فى هاء وهاء. ورواية عن ابن عمر وهو قول عكرمة وشريح. واحتجوا بظاهر حديث أسامة بن زيد: (لا ربا إلا فى النسيئة) فدل أن ما كان نقدًا فلا بأس بالتفاضل فيه وخالف جماعة العلماء بعدهم هذا التأويل، وقالوا: قد عارض ذلك حديث أبى سعيد الخدرى وحديث أبى بكرة عن النبى - عليه السلام - أنه حرم التفاضل

(6/302)


فى الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، وروى الطبرى من حديث عبد الله بن موسى قال: حدثنا حيان بن عبد الله العدوى قال: سئل أبو مجلز عن الصرف فقال: (كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره إذا كان يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة، فلقيه أبو سعيد فقال: يا ابن عباس، ألا تتق الله حتى متى تؤكل الناس الربا؟ إنى سمعت النبى - عليه السلام - يقول: الذهب بالذهب، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير يدًا بيد مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا) . فهذه السنن الثابتة لا تأويل لأحد معها، فلا معنى لما خالفها، وقد تأول بعض العلماء أن قوله عليه السلام: (لا ربا إلا فى النسيئة) خرج على جواب سائل سأل عن الربا فى الذهب بالورق أو البر بالتمر، ونحو ذلك مما هو جنسان، فقال عليه السلام: (لا ربا إلا فى النسيئة) فسمع أسامة كلامه، ولم يسمع السؤال، فنقل ما سمع. وقال الطبرى فى حديث أسامة: المراد به الخصوص، ومعناه: لا ربا إلا فى النسيئة إذا اختلفت أجناس المبيع فإذا اتفقت فلا يصلح بيع شىء منه من نوعه إلا مثلا بمثل، والفضل فيه يدًا بيد ربا، وقد قامت الحجة ببيان الرسول فى الذهب الفضة، والفضة بالذهب، والحنطة بالتمر نساء، أنه لا يجوز متفاضلا، ولا مثل بمثل، فعلمنا أن قوله: (لا ربا إلا فى النسيئة) . فيما اختلفت أنواعه دون ما اتفقت.

(6/303)


قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد وابن عباس من الفقه أن العالم يناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الإجماع. وفيه: إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم؛ لقول ابن عباس لأبى سعيد: أنتم أعلم برسول الله منى. والنساء: التأخير، يقال: باع منه نسيئة ونظرة وأخرة ودينًا، كل ذلك بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: (إنما النسىء زيادة فى الكفر (يعنى تأخير الأشهر الحرم التى كانت العرب فى الجاهلية تفعلها من تأخير المحرم إلى صفر، ومنه انتساء فلان عن فلان، أى: تباعده منه، عن الطبرى.
74 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً
/ 111 - فيه: الْبَرَاء، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا. الأمة مجمعة على أنه لا تجوز النسيئة ولا التأخير فى بيع الذهب بالورق، كما لا يجوز فى بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، وهو الربا المحرم فى القرآن، وفى هذا الحديث حجة للشافعى فى قوله إن من كان له على رجل دراهم، ولذلك الرجل عليه دنانير فلا يجوز أن يقاص أحدهما ماله بما له عليه، وإن كان قد حل أجلهما جميعًا لأنه يدخل فى معنى نهيه عليه السلام عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأنه غائب بغائب، وإذا لم

(6/304)


يجز غائب بناجز، فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأجاز ذلك مالك إذا كان قد حلا جميعًا، فإن كانا إلى أجل لم يجز؛ لأنه يكون ذهب بفضة متأخرًا. وقال أبو حنيفة: يجوز فى الحال وغير الحال. والحجة لمالك فى إجازته ذلك فى الحال دون الأجل أنه إذا حل أجل الدين، واجتمع المتصارفان فإن الذمم تبرأ كالعين إذا لم يفترقا إلا وقد تفاضلا فى صرفهما، والغائب لا يحل بيعه بناجز، ولا بغائب مثله، ومن حجته حديث ابن عمر أنه قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومكما، ولم تفترقا وبينكما شىء) رواه سماك بن حرب عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر. وحجة من أجاز ذلك فى الحال وغير الحال أن النبى - عليه السلام - لما لم يسأله عن الدين أحالا هو أم مؤجل، دل ذلك على استواء الحكم فيهما ولو كان بينهما فرق فى الشريعة لوقفه عليه. وأما تقاضى الدنانير من الدراهم، والدراهم من الدنانير من غير دين يكون على الآخر، فأجازه عمر بن الخطاب وابن عمر، وروى عن عطاء وطاوس والحسن والقاسم، وبه قال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال كثير منهم: إذا كان بسعر يومه. ورخص فيه أبو حنيفة بسعر ذلك اليوم وبأغلى وأرخص، وكره ذلك ابن عباس وأبو سلمة وابن شبرمة، وهو قول

(6/305)


الليث، وروى عن طاوس قول ثالث: أنه كره فى البيع، وأجازه فى القرض. وقال ابن المنذر: والقول الأول أولى لحديث ابن عمر. قال المؤلف: ولا يدخل هذا فى نهيه عليه السلام عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأن الذى يقتضى الدنانير من الدراهم لم يقصد إلى تأخير فى الصرف، ولا نواه، ولا عمل عليه فهذا الفرق بينهما.
75 - بَاب بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ
وَهو بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ وَبَيْعُ الْعَرَايَا قَالَ أَنَس: نَهَى النَّبىِّ - عَلَيْهِ السَّلاَم - عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالَمُحَاقَلَةِ. / 112 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ) . قَالَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: وَرَخَّصَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعْدَ ذَلِكَ فِى بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِى غَيْرِهِ. / 113 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَهِىَ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً. / 114 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد: نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِى رُءُوسِ النَّخْلِ. المزابنة عند العرب: المدافعة، وذلك أن المتبايعين إذا وقفا فيه على الغبن أراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن أن يمضيه تزابنا أى: تدافعا واختصما، وسيأتى تفسير المحاقلة بعد هذا فى موضعه - إن شاء الله - ومعنى النهى عن المزابنة خوف وقوع التفاضل

(6/306)


فى ذلك، والتفاضل حرام فى كل ما كان فى معنى الرطب بالتمر، ومعنى الزبيب بالعنب من سائر المأكولات والمشروبات إذا كان أحدهما مجهولا، وهذا إجماع. قال مالك: وتفسير المزابنة أن كل شىء من الجزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه أبيع بشىء مسمى من الكيل أو العدد أو الوزن، وما عدا المأكول والمشروب فإنه تدخله المزابنة من جهة القمار والغرر، فيدخل معنى المزابنة عند مالك فيما يجوز فيه التفاضل، وما لا يجوز إذا قصد فيه إلى الغرر والقمار. قال فى الموطأ: وذلك أن يقول الرجل للرجل له الطعام المصبر الذى لا يعلم كيله من سائر الأطعمة، أو تكون السلعة من الحنطة أو النوى أو الكرسف أو الكتان، وما أشبه ذلك من السلع: لا أعلم كيله ولا عدده ولا وزنه، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كل سلعتك هذه، أو زن ما يوزن، أو اعدد ما يعد منها، فما نقص من كذا وكذا صاعًا لتسمية يسميها فعلى غرمها حتى أوفيك تلك التسمية، وما زاد على ذلك فهو لى ضمن ما نقص على أن يكون له ما زاد، فليس ذلك بيعًا ولكنه مخاطرة وقمار وغرر؛ لأنه لم يشتر منه شيئًا بشىء أخرجه، ولكنه ضمن له ما سمى من ذلك الكيل، فإن نقصت تلك السلعة من تلك التسمية أخذ من مال صاحبه ما نقص من غير ثمن ولا هبة طيبة بها نفسه، فهذا شبه القمار، وذكر مالك مسألة الثوب يضمن لصاحبه منه قلانس

(6/307)


أو قمصًا والجلود يضمن له منها نعالا وحب البان يعصره على أنه له ما زاد على ما ضمن من ذلك، وعليه ما نقص، وإنما ذكر مالك هذه المسائل فى باب المزابنة؛ لأن فيها شراء مجهول بمعلوم؛ لأنه ألزم نفسه كيلا أو وزنًا أو عددًا معلومًا يضمنه عن كيل أو وزن أو عدد مجهول يرجو أن يبقى له بعد ضمانه، ويشهد لقول مالك ما تعرفه العرب، أن المزابنة مأخوذ لفظها من الزبن، وهو الدفع والمغالبة، وذلك خطر وقمار.
76 - بَاب بَيْعِ التَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ والْفِضَّةِ
/ 115 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَىْءٌ مِنْهُ إِلاَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلاَ الْعَرَايَا. / 116 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَخَّصَ فِى بَيْعِ الْعَرَايَا فِى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. / 117 - وفيه: سَهْل بْنَ أَبِى حَثْمَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِى الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. بيع التمر على رءوس النخل إذا بدا صلاحه بالذهب والفضة لا خلاف بين الأمة فى جوازه، وكذلك يجوز بيعها بالعروض قياسًا على الدنانير والدراهم وإنما خص عليه السلام الدنانير والدراهم

(6/308)


فى هذا الحديث؛ لأنهما جل ما يتعامل الناس به. قال ابن المنذر: وادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه عليه السلام عن بيع التمر بالثمر، وهذا نفس المحال؛ لأن الذى روى عن النبى - عليه السلام - النهى عن المزابنة هو الذى روى الرخصة فى العرايا، فأثبت الرخصة والنهى معًا على ما ثبت فى حديث سهل بن أبى حثمة وفى حديث جابر من رواية سفيان عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن المزابنة) . والمزابنة: بيع التمر بالثمر إلا أنه رخص فى العرايا، وكان مالك يقول: العرايا تكون فى الشجر كله من النخل والعنب والتين والرمان والزيتون والثمار كلها. وبه قال الأوزاعى، إلا أن مالكًا قال: إذا أعاره الفاكهة مثل الرمان والتفاح وشبهه لم يجز أن يشتريها بخرصها؛ لأنه يقطع أخضر ويشتريها بعدما طابت بما يجوز به شراء الثمرة بالعين والعرض نقدًا أو إلى أجل، وبالطعام نقدًا من غير صنفها إذا جدها مكانه قبل أن يفترقا وكان الليث يقول: لا تكون العرايا إلا فى النخل خاصة. وقال الشافعى: فى النخل والعنب.
77 - بَاب تَفْسِيرِ الْعَرَايَا
وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِىَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ.

(6/309)


وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلاَ بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ لاَ تَكُونُ بِالْجِزَافِ، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ، وَقَالَ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْن: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُونهَا رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ. وفى صحيح مسلم أنه عليه السلام أرخص فى العرية يأخذها أهل البيت تمرًا يأكلونها رطبًا، وفى كتاب النسائى أن رسول الله رخص فى بيع العرايا بالرطب وبالتمر، ولم يرخص فى غير ذلك. / 118 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَخَّصَ فِى الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً. قال أبو عبيد: وفى العرايا تفسير آخر غير ما فسره مالك، وهو أن العرايا هى النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته لا يدخلها فى البيع فيبقيها لنفسه وعياله، فتلك الثنايا لا تخرص عليهم لأنه قد عفى لهم عما يأكلون سميت عرايا؛ لأنها أعريت من أن تباع أو تخرص فى الصدقة فأرخص النبى - عليه السلام - لأهل الحاجة المسكنة الذين لا ورق لهم ولا ذهب، وهم يقدرون على التمر أن يبتاعوا بتمرهم من تمر هذا العرايا بخرصها رفقًا بأهل الفاقة الذين لا يقدرون على الرطب،

(6/310)


ولم يرخص لهم أن يبتاعوا منه ما يكون لتجارة ولا ادخار. قال أبو عبيد: وهذا أصح فى المعنى من الأول، فالعرايا مستثناة من جملة نهى النبى عن بيع التمر بالثمر، وعن المزابنة. هذا قول عامة أهل العلم، ويجوز عند مالك أن يعرى من حائطه ما شاء غير أن البيع لا يكون إلا فى خمسة أوسق فما دون فى حق كل واحد ممن أعرى وإنما تباع العرايا بخرصها من التمر فى رءوس النخل إلى جذاذها ولا يجوز أن يبتاعها. بخرصها نقدًا، وليست له مكيلة؛ لأنه أنزل بمنزلة التولية والإقالة والشركة ولو كان بمنزلة البيوع ما أشرك أحد أحدًا فى طعام حتى يستوفيه، ولا أقاله منه ولا ولاه حتى يقبضه المبتاع. قال: ولا يبيعها إلا من المعرى خاصة، ولا يجوز من غيره إلا على سنة بيع الثمار فى غير العرايا، ولا يشتريها بطعام إلى أجل ولا بتمر نقدًا وإن وجدها فى الوقت. وقال الشافعى: العرية بيع ما دون خمسة أوسق من التمر، وجعل هذا المقدار مخصوصًا من المزابنة، وذكر ابن القصار عن مالك مثله، قال الشافعى: ويجوز بيعها من المعرى وغيره يدًا بيد، ومتى افترقا ولم ينقده بطل العقد وبه قال أحمد. قال المزنى: ويفسخ البيع فى خمسة أوسق لا شك؛ لأن أصل بيع الثمر بالثمر فى رءوس النخل حرام، ولا يجوز فيه إلا ما استوفيت الرخصة فيه، وذلك ما دون خمسة أوسق. قال ابن القصار: ومن حجة هذه المقالة أيضًا ما رواه أبو سعيد الخدرى - أن النبى - عليه السلام - قال: (لا صدقة فى العرية) . فلو

(6/311)


كانت العرية فى خمسة أوسق جائزة لوجبت فيها الصدقة، فعلم بسقوط الصدقة عنها أنها دون خمسة أوسق. واحتج الشافعى بما رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان، عن جابر بن عبد الله: (أن النبى - عليه السلام - رخص فى العرايا فى الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة) قال: فجاءت رواية جابر بغير شك، وثبتت رواية مالك عن داود التى جاءت بالشك فى خمسة أوسق أو دون خمسة. وقول البخارى: ومما يقويه قول سهل بن أبى حثمة بالأوسق الموسقة، فإنما أردفه على قوله: لا تكون العرية بالجزاف، وهذا إجماع، وهو مستغن عن تقوية، ولم يأت ذكر الأوسق الموسقة إلا فى حديث مالك عن داود بن الحصين، وفى حديث جابر من رواية ابن إسحاق، لا فى رواية سهل ابن أبى حثمة، وإنما يروى عن سهل من قوله من رواية الليث، عن جعفر بن أبى ربيعة، عن الأعرج قال: سمعت سهل بن أبى حثمة قال: لا يباع التمر فى رءوس النخل بالأوساق الموسقة إلا أوسق ثلاثة أو أربعة أو خمسة يأكلهن الناس، وهى المزابنة، ففى قول سهل حجة لمالك فى مشهور قوله أنه يجوز العرايا فى خمسة أوسق، وقد يجوز أن يكون الشك فى دون خمسة أوسق، واليقين فى خمسة أوسق، إذا الواو لا تعطى رتبة، فلذلك ترجح قول مالك فى ذلك - والله أعلم -

(6/312)


ووجه قول مالك أنه لا يجوز بيعها إلا من المعرى خاصة قوله عليه السلام فى حديث سهل: (يأكلها أهلها رطبًا) ولا أهل لها إلا الذى أعراها، فجاز أن يبيعها من المعرى خاصة لما يقطع من تطرق المعرى على المعرى لأنهم كانوا يسكنون بعيالهم فى حوائطهم ويستضرون بدخول المعرى، ولم يكن قصدهم المعروف، فرخص لهم فى ذلك ولذلك قال مالك: لا يجوز بيعها يدًا بيد؛ لأن المشترى لم يقصد بشرائها الفضل والمتجر، وأما الكوفيون فإنهم أبطلوا سنة العرية وقالوا: هى بيع الثمر بالثمر، وقد نهى رسول الله عن ذلك. قال ابن المنذر: فبيع العرايا جائز على ما ثبتت به الأخبار عنه عليه السلام، والذى رخص فى بيع العرايا هو الذى نهى عن بيع التمر بالثمر فى لفظ واحد ووقت واحد، من رواية جابر وسهل بن أبى حثمة على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وليس قبول إحدى السنتين أول من الأخرى، ولا فرق بين نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك وبين إذنه فى السلم، وهو بيع بما ليس عندك، وبين نهيه عن بيع التمر بالثمر وإذنه فى العرايا ومن قبل إحدى السنتين وترك الأخرى فقد تناقض.

(6/313)


78 - بَاب بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ الأَنْصَارِىِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ الْمُبْتَاعُ: أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أَصَابَهُ مُرَاضٌ - أَصَابَهُ قُشَامٌ - عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا كَثُرَتْ الْخُصُومَةُ فِى ذَلِكَ: (فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ) ، كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ. وَكَانَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لاَ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَيَتَبَيَّنَ الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ. / 119 - وفيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ. / 120 - وفيه: أَنَس، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يُبَاعَ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ. قَالَ: يَعْنِى تَحْمَرَّ. / 121 - وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا. قال الطحاوى: وذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيع الثمر فى رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر. قال غيره: وهو قول مالك والليث والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يجوز بيعها إذا تخلقت وظهرت، وإن لم يبد صلاحها، واحتجوا بقوله عليه السلام: (من

(6/314)


ابتاع نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فأباح عليه السلام بيع ثمره فى رءوس النخل قبل بدو صلاحها، وقالوا: لما لم يدخل بعد الإبار فى الصفقة إلا بالشرط جاز بيعها منفردة، فدل هذا أن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، المراد به غير هذا المعنى، وهو النهى عن السلم فى الثمار فى غير حينها وقبل أن تكون، وأما بيع الثمار بعدما ظهرت فى أشجارها فجائز عندنا. قال المؤلف: فيقال لأبى حنيفة: قد يدخل فى عقد البيع أشياء لو أفردت بالبيع لم يجز بيعها مفردة وتجوز فى البيع تبعًا لغيرها، من ذلك أنه يجوز بيع الأمة والناقة حاملتين، ولا يجوز عند أحد من الأمة بيع الجنين دون أمه، لنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وإنما لم يجز إفراد الجنين بالبيع، لأنه من بيع الغرر المنهى عنه. ونظير نهيه عليه السلام عن بيع الجنين فى بطن أمه نظير نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، لأن ذلك كله من بيع ما لم يخلق ولم يتم، ومما يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجود، وذلك من أكل المال بالباطل، وجاز أن يكون الجنين تبعًا لأمه، والثمرة تبعاُ لأصلها فى البيع، لأنهما إن هلكا فلم يكونا المقصد بالشراء، وإنما قصد إلى أم الجنين، والى أصل الثمرة، فافترقا لهذه العلة، مع أن حديث جابر وحديث أنس فى النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها يغنيان عن حجة سواهما، لأنه قد فسر فيهما أن المراد ببدو صلاح الثمار أن تحمر أو تصفر، وذلك علامة صلاحها للأكل، ألا ترى قوله

(6/315)


عليه السلام فى حديث جابر: (حتى تحمار أو تصفار ويؤكل منها) فلا تأويل لأحد مع تفسير النبى - عليه السلام - فهو المقنع والشفاء. وقال بعض الكوفيين: إن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لم يكن منه على وجه التحريم، وإنما كان على وجه الأدب والمشورة منه عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت. وأئمة الفتوى على خلاف قولهم، والنهى عندهم محمول على التحريم. وتخصيصه عليه السلام البائع والمبتاع بالذكر يدل على تأكيد النهى فى ذلك، لأن النهى إذا ورد عن الله - تعالى - وعن رسوله فحقيقته الزجر عما ورد فيه، لقوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا (ومعنى النهى عن ذلك عند عامة العلماء خوف الغرر، لكثرة الجوائح فيها، وقد بين ذلك عليه السلام بقوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) فنهى عن أكل المال بالباطل، فإذا بدا صلاحها واحمرت أمنت العاهة عليها فى الأغلب، وكثر الانتفاع بها لأكلهم إياها رطبًا، فلم يكن قصدهم بشرائها الغرر، وأما فعل زيد بن ثابت فى مراعاته طلوع الثريا، فقد روى عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (إذا طلع النجم صباحًا رفعت العاهة عن أهل البلد) يعنى: الحجاز - والله أعلم - والنجم: هو الثريا، وطلوعها صباحًا لاثنتى عشرة، يعنى: يروح من شهر مائة.

(6/316)


وقال عيسى بن دينار: كان مالك لا يرى العمل بفعل زيد بن ثابت، وكان لا يجيز بيعها إلا حين تزهى، اتباعًا لنص الحديث. وقال غيره: كان بيع زيد لها إذا بدا صلاحها، لأن الثريا إذا طلعت آخر الليل بدا صلاح الثمار بالحجاز خاصة، لأن الحجاز أشد حرا من غيره. وقال ابن القاسم، عن مالك: لا بأس أن يباع الحائط وإن لم يزه: إذا أزهى ما حوله من الحيطان، وكان الزمان قد أمنت العاهة فيه. ولا يجوز عند الشافعى. واختلفوا فى بيع جميع الحائظ فيه أجناس الثمر يطيب جنس واحد منها، فقال مالك: لا أرى أن يباع إلا ذلك الصنف الذى طاب أوله دون غيره، وبه قال الشافعى. وقال الليث: لا بأس أن تباع الثمار كلها متفقة الأجناس أو مختلفة، يطيب جنس منها، أو مخالف لها، واحتج بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فعم الثمار كلها، فإذا بدا الصلاح فى شىء منها فقد بدا الصلاح فى الثمار كلها، لأنه لم يخص عليه السلام. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: إذا انشقت النخلة عن عفن أو سواد قيل: أصابه الدمان. قال ابن أبى الزناد: هو: الإدمان. قال الأصمعى: ويقال للتمر العفن: الدمان. قال ابن دريد: الدمان داء يصيب النخل، فيسود طلعه قبل أن يلقح. وقال أبو حنيفة الدمار التمر الذى قد عتق جدا ففسد وأصل الدمان السماد.

(6/317)


قال الأصمعى: وإذا انتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحًا قيل: أصابه القشام، فإذا كثر نقض النخلة وعظم ما بقى من بسرها قيل: خردلت. وقال غيره: القشام أكال يقع فى التمر من القشم وهو: الأكل. وذكر الطحاوى فى حديث عروة عن سهل، عن زيد: والقشام: شىء يصيبه حتى لا يرطب. وقوله: (إما لا فلا تبايعوا) قال سيبويه: معناه: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره. وقال ابن الأنبارى: دخلت (ما) صلة ل (إن) كما قال تعالى: (فإما ترين من البشر أحدًا (فاكتفى بلا من الفعل كما تقول العرب: من سلم عليك فسلم عليه، ومن لا فلا معناه: ومن لم يسلم عليك فلا تسلم عليه، فاكتفى بلا من الفعل، وأجاز الفراء: من أكرمنى أكرمته، ومن لا لم أكرمه، بمعنى: ومن لم يكرمنى لم أكرمه.
79 - بَاب إِذَا بَاعَ ثِّمَارَ الجوائح قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهَا عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ
/ 122 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِى؟ فَقَالَ: (حَتَّى تَحْمَرَّ) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ) . وَقَالَ ابْنِ شِهَابٍ،

(6/318)


لَوْ أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ. وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ) . بيع الثمار قبل بدو صلاحها بيع فاسد، لنهى النبى - عليه السلام - عنه، ومصيبة الجائحة فيه من البائع لفساد البيع، وأنه لم ينتقل ملك البائع عن الثمرة بالعقد، ولا قبضها المشترى، لأن القبض لا يكون فيما لم يتم، وإنما تلفت فى ملك البائع ويده، فلا شىء على المشترى. الأصل فى وضع الجائحة فى الثمار حديث جابر قال: (أمر النبى - عليه السلام - بوضع الجوائح) وقال فى حديث آخر: قال رسول الله: (لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق) أخرج هذين الحديثين مسلم. واستدل جماعة من الفقهاء بقوله عليه السلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) على وضع الجائحة فى الثمر يشترى بعد بدو صلاحه شراء صحيحًا، ويقبضه فى رءوس النخل، ثم تصيبه جائحة، فذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الجائحة التى توضع عن المشترى الثلث فصاعدًا، ولا يكون ما دون ذلك جائحة.

(6/319)


وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث: الجائحة موضوعة فى القليل والكثير، وذهب الليث والكوفيون والشافعى إلى أن الجائحة فى مال المشترى، ولا يرجع على البائع بشىء، واحتجوا بأن قوله عليه السلام: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) إنما ورد فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقاُ من غير شرط القطع قالوا: وعندنا أن الثمرة إذا بيعت قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع فتلفت بجائحة أن مصيبتها من البائع، لأن البيع كان باطلا، والى هذا المعنى ذهب البخارى فى هذا الباب. قالوا: والدليل على أنه وارد فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قوله: (فبم يستحل أحدكم مال أخيه) ، وبعد بدو الصلاح يكون البيع صحيحًا، ولا يجوز أن يقال فيه: فبم يستحل؛ لأنه يستحله بالعقد. قال ابن القصار: فالجواب: أنه إن استحله بعقد البيع فإن تمام القبض لا يحصل عندنا إلا باجتناء الثمرة، وقبل أن تجتنى المصيبة من البائع وليس قبض كل ما يشترى كله على وجه واحد، ألا ترى أن الرجل يستأجر ظئرًا شهرًا لرضاع ولده، فهو فى معنى شراء اللبن الذى لا يستطيع قبضه فى موضع واحد، فلو انقطع اللبن فى نصف الشهر لرجع بما يصيبه، فكذلك فى الثمر، إذ العادة جرت بأن يؤخذ أولا فأولا عند إدراكه وتناهيه، ولو اشتراه مقطوعًا لكانت مصيبته من المشترى، لأنه يقدر على أخذه كله فى الحال.

(6/320)


فإن قيل: فقولوا بالجائحة فى القليل والكثير، وقد قال به أحمد بن حنبل وجماعة. قيل: الجائحة فى لسان العرب إنما هى فيما كثر دون ما قل، لأنه لا يقال لمن ذهب درهم من ماله وهو يملك ألوفًا أنه أجيح، ومن جهة المعقول أن المشترى قد دخل على ذهاب اليسير من الثمرة، لأنه لا بد أن يسقط شىء منها وتلحقه الآفة ويأكل الطير وغيره منها، فلم يجب على البائع أن يضع عن المشترى ذلك المقدار الذى دخل عليه حتى يكون فى حد الكثير، وهو الحد الكثير من الشىء ثلثه فصاعداُ بدليل قوله عليه السلام لسعد: (الثلث، والثلث كثير) فجعل ثلث ماله كثيرًا فى ماله، فلهذا قال مالك: إنه يوضع الثلث فصاعدًا، ليكون قد أخذ بالخبر والنظر، وقال يحيى بن سعيد: لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال، وذلك فى سنة المسلمين.
80 - بَاب شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ مسمى
/ 123 - فيه: الأَعْمَش، ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. لا خلاف بين أهل العلم أنه يجوز شراء الطعام بثمن معلوم إلى أجل معلوم.

(6/321)


81 - بَاب إِذَا أَرَادَ أَنّ بَيْعَ تَمْرا بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ
/ 124 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وأَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) . فيه من الفقه: أن التمر كله جنس واحد رديئه وجيده، لا يجوز التفاضل فى شىء منه، ويدخل فى معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز فى الجنس الواحد التفاضل ولا النسيئة بإجماع، فإن كانا جنسين جاز فيهما التفاضل يدًا بيد، ولم تجز النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك. وعند الشافعى الطعام كله مقتات أو غير مقتات. وعند الكوفيين: الطعام المكيل كله والموزون دون غيره. وفيه من الفقه: أن من لم يعلم تحريم الشىء فلا حرج عليه حتى يعلمه، قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (. وأجمع العلماء أن البيع إذا وقع محرمًا، فهو مفسوخ مردود، لقوله عليه السلام: (من عمل عملا على غير أمرنا فهو رد) . وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر برد هذا البيع من حديث بلال بن

(6/322)


رباح، ومن حديث أبى سعيد الخدرى، وروى منصور وقيس ابن الربيع عن أبى حمزة، عن سعيد ابن المسيب، عن بلال قال: (كان عندى تمر دون، فابتعت تمرًا أجود منه فى السوق بنصف كيله، صاعين بصاع، فأتيت النبى - عليه السلام - فحدثته بما صنعت، فقال: هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك فبعه، ثم اشتر التمر) . وقد زعم قوم أن بيع العامل الصاعين بالصاع كان قبل نزول آية الربا، وقبل أن يخبرهم النبى - عليه السلام - بتحريم التفاضل فى ذلك، ولذلك لم يأمر بفسخه. وهذه غفلة، لأنه عليه السلام قد قال فى مغنم خيبر للسعدين: (أربيتما، فردا) وفتح خيبر مقدم على ما كان بعد ذلك مما وقع فى تمرها وجميع أمرها. وقد احتج بحديث هذا الباب من أجاز أن يبيع الطعام من رجل بالنقد، ويبتاع منه بذلك النقد طعامًا قبل الافتراق وبعده، لأنه لم يخص فيه بائع الطعام ولا مبتاعه من غيره، وهو قول الشافعى وأبى ثور، ولا يجوز هذا عند مالك، لأنه عنده كأنه طعام بطعام والدراهم ملغاة إلا أن يكون الطعام جنسًا واحدًا وكيلا واحدًا، فيجوز عنده.
82 - بَاب مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ
وقَال نَافِعٍ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ - لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَرُ - فَالثَّمَرُ لِلَّذِى أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ، سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ.

(6/323)


/ 125 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . قال الخليل: الأبر: لقاح النخل أبر النخل يأبرها أبرًا، والتلقيح: هو أن يؤخذ طلع ذكور النخيل فيدخل بين ظهرانى طلع الإناث، وأما معنى الإبار فى سائر الأشجار فإن ابن القاسم يراعى ظهور الثمرة لا غير، وقال ابن عبد الحكم: كل ما لا يؤبر من الثمار فاللقاح فيها بمنزلة الإبار فى النخل. وأخذ بظاهر حديث ابن عمر: مالك والليث والشافعى وأحمد وإسحاق، فقالوا: من باع نخلا قد أبر ولم يشترط ثمرته المبتاع، فالثمرة للبائع، وهى فى النخل متروكة إلى الجداد، وعلى البائع السقى، وعلى المشترى تخليته وما يكفى من الماء، وكذلك إذا باع الثمرة دون الأصل، فعلى البائع السقى. قال أبو حنيفة: سواء أبر أو لم يؤبر هو للبائع، وللمشترى أن يطالبه بقلعها عن النخل فى الحال، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجداد، فإن اشترط البائع فى البيع ترك الثمرة إلى الجداد، فالبيع فاسد، واحتجوا بالإجماع على أن الثمرة لو لم تؤبر حتى تناهت وصارت بلحًا أو بسرًا وبيع النخل، أن الثمرة لا تدخل فيه، فعلمنا أن المعنى فى ذكر الإبار ظهور الثمرة خاصة، إذ لا فائدة لذكر الإبار غير ذلك، ولم يفرقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد تقرر أن من باع دارًا له فيها متاع، فللمشترى المطالبة بنقله عن الدار فى الحال،

(6/324)


ومن باع شيئًا فعليه تسليمه ورفع يده عنه، وبقاء الثمرة على النخل بعد البيع انتفاع بالنخل إلى وقت الجداد، فيكون فى معنى من باع شيئًا واستثنى منفعته، وهذا لا يجوز، فخالفوا السنة إلى قياس، ولا قياس لأحد مع السنة. ويقال لهم: إن من باع شيئًا مشغولاً يحق للبائع، فإن البائع يلزمه نقله عن المبيع على ما جرت به العادة فى نقل مثله، ألا ترى أنه لو باع دارًا هو فيها وعياله فى نصف الليل وله فيها طعام كثير وآلة، فلا خلاف أنه لا يلزمه نقله عنها نصف الليل حتى يرتاد منزلا يسكنه، ولا يطرح ماله فى الطريق، هذا عرف الناس، وكذلك جرت العادة فى أخذ الثمرة عند الجداد، وهو حين كمال بلوغها، ولما ملك النبى - عليه السلام - الثمرة بعد الإبار للبائع اقتضى استيفاء منفعته به على كمالها، وأغنى ذلك عن استثناء البائع تبقية الثمرة إلى الجداد، وأبو حنيفة يجيز أن يبيع السلعة أو الثمرة ويستثنى نصفها وثلثيها وما شاء منها إذا كان المستثنى معلومًا، كذلك قول أكثر العلماء إذا باع نخلا وفيها ثمرة لم تؤبر، فهى للمبتاع تابعة لأصلها بغير شرط، استدلالا بحديث ابن عمر، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: هى للبائع بمنزلة لو كانت مؤبرة، إلا أن يشترطها المبتاع. فيقال له: الثمر له صفتان: مؤبر، وغير مؤبر، ولما جعله النبى - عليه السلام - إذا كان مؤبرًا للبائع بترك المشترى اشتراطها، أفادنا ذلك أن الثمرة للمشترى إذا لم تؤبر وكانت فى أكمامها وإن لم يشترطها المشترى، ولو كان الحكم فيها غير مختلف حتى يكون الكل للبائع، لكان يقول: من باع نخلا فيها ثمر فهى للبائع. فخالف أبو

(6/325)


حنيفة الحديث من وجهين: خالف نصه إذا كانت الثمرة مؤبرة، وخالف دليله إذا كانت الثمرة لم تؤبر. فأما بيع الأرض فيها زرع، فروى ابن القاسم عن مالك: أن من اشترى أرضًا فيها زرع ظهر ولم يسبل، فالزرع للبائع إلا أن يشترطه المشترى، وإن وقع البيع والبذر لم ينبت، فهو للمبتاع بغير شرط. وروى ابن عبد الحكم عن مالك: إن كان الزرع لقح أكثره - ولقاحه أن يتحبب ويسبل - حتى لو يبس يومئذ لم يكن فسادًا فهو للبائع إلا أن يشترطه المشترى، وإن كان لم يلقح فهو للمبتاع. وذكر ابن عبد الحكم فى موضع آخر من كتابه مثل رواية ابن القاسم - والله أعلم.
83 - بَاب بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيْلاً
/ 126 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُزَابَنَةِ، أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَة حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. أجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، ولا بيع العنب فى كرمه بالزبيب ولا بيع الثمر فى رءوس النخل بالتمر،

(6/326)


لأن النبى - عليه السلام - نهى عنه وسماه مزابنة، وذلك خطر وغرر، لأنه بيع مجهول بمعلوم من جنسه، وأما بيع رطب ذلك بيابسه إذا كان مقطوعًا وأمكن فيه الممائلة، فجمهور العلماء لا يجيزون بيع شىء من ذلك بجنسه، لا متماثلا ولا متفاضلاً، لأنه من المزابنة المنهى عنه، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد. وخالفهم أبو حنيفة فأجاز بيع الحنطة الرطبة باليابسة والرطب بالتمر مثلا بمثل، ولا يجيز ذلك متفاضلا. قال ابن المنذر: وأظن أبا ثور وافقه على ذلك، واحتج له الطحاوى وقال: لما أجمعوا أنه يجوز بيع الرطب بالرطب مثلا بمثل، وإن كان فى أحدهما رطوبة ليست فى الآخر، وكل ذلك ينقص إذا بقى نقصانًا مختلفاُ، ولم ينظروا إلى ذلك فيبطلوا به البيع، بل نظروا إلى حاله فى وقت وقوع البيع، فالنظر أن يكون الرطب بالثمر كذلك، وهذا قياس فاسد، لأن الرطب بالرطب وإن كان يختلف نقصانه إذا يبس، فهو نقصان معفو عنه لقلته، وقد جوز فى البيوع يسير الغرر، لأنه لا يكاد يخلو منه، ونقصان الرطب بالتمر له بال وقيمة فافترقا لذلك، وحديث ابن عمر حجة للجماعة أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع التمر بالتمر، والتمر بالرطب، فكأنه نهى عن بيع الرطب بالتمر على النخل ومقطوعًا، على عموم اللفظ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام حين سئل عن اشتراء التمر بالرطب فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه) . قال ابن القصار: فقوله - عليه السلام -: (أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فنهى

(6/327)


عنه) ، فصار كأنه نهى عن الرطب بالتمر، ولم يخف عنه عليه السلام ذلك، وإنما سألهم على سبيل التقرير لهم عليه، حتى إذا تقرر ذلك عندهم نهاهم عنه، فصار كأنه نهاهم عنه، وعلله فقال: لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لأنه ينقص إذا يبس، فسواء كان الرطب فى النخل أو فى الأرض، إذ بيع بتمر مجهول فإنه يكون مزابنة، ويقال للكوفيين: إنه يلزمكم التناقض فى منعكم بيع الحنطة بالدقيق، وبيعها بالسويق، والمماثلة بينهما أقرب من المماثلة بين التمر والرطب، وأجاز مالك والليث الدقيق بالحنطة مثلاً بمثل، وقول الشافعى كقول الكوفى.
84 - بَاب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ
/ 127 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلاً، ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا، فَلِلَّذِى أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ) . وقد تقدم الكلام فى الحديث قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمر فيه، اختلف قول مالك فيمن اشترى أصول النخل وفيها ثمر قد أبرها لم يشترطها فأجاز لمشترى النخل وحده أن يشتر الثمر قبل بدو صلاحها فى صفقة أخرى، كما كان له أن يشترطها فى صفقته، هذه رواية ابن القاسم، وكذلك مال العبد، وروى ابن وهب عن مالك أن ذلك لا يجوز فى الثمرة، ولا فى مال العبد له ولا

(6/328)


لغيره، وهذا قول المغيرة وابن دينار وابن عبد الحكم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لعموم نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكذلك مالُ العبد هو شراء مجهول، فهو من بيع الغرر.
85 - بَاب بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ
/ 128 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ: (مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ) ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ) . بيع الجمار وأكله من المباحات التى لا اختلاف فيها بين العلماء، وكل ما انتفع به للأكل وغيره فجائز بيعه.
86 - بَاب بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ
/ 129 - فيه: أَنَس، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ بيع الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ. / 130 - وفيه: أَنَس أَيْضًا، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ، فَقُلْت لأَنَسٍ: مَا يزَهْو؟ قَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ - أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟ . فى تفسير المحاقلة ثلاث أقوال: فقال بعضهم: هى بيع الزرع فى سنبله بالحنطة. وقيل: هى اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هى المزارعة بالثلث والربع ونحوه، وهذا الوجه أشبه بها على طريق اللغة؛ لأن المحاقلة مأخوذة من الحقل والمفاعلة من اثنين فى

(6/329)


أمر واحد كالمزراعة، ويقال للأرض التى تزرع: المحاقل، كما يقال لها: المزارع، عن الزجاجى. والمخاضرة هى بيع الثمار وهى خضر لم يبد صلاحها، سميت بذلك من المفاعلة أيضًا؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر. وأجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الثمار والزرع والبقول قبل بدو صلاحها على شرط التبقية إلى وقت طيها، ولا يجوز بيع الزرع أخضر إلا للقصيل وأكل الدواب، وكذلك أجمعوا أنه يجوز بيع البقول إذا قلعت من الأرض وانتفع بها وأحاط علمًا بها المشترى، ومن بيع المخاضرة: شراؤها مغيبة فى الأرض كالفجل والكراث والبصل واللفت وشبهه، فأجاز شراءها مالك والأوزاعى، قال مالك: ذلك إذا استقل ورقه وأمن، والأمان عنده أن يكون ما يقطع منه ليس بفساد. وقال أبو حنيفة: بيع المغيب فى الأرض جائز، وهو بالخيار إذا رآه. قال الشافعى: لا يجوز بيع مالا يرى، وهو عنده من بيوع الغرر. وحجة من أجاز ذلك أنه لو قلعها ثم باعها لأضر ذلك به وبالناس؛ لأنهم إنما يأكلون ذلك أولاً أولاً، كما يأكلون الرطب والثمر ولا يقصدون بذلك الغرر، فإذا باعها على شىء يراه أو صفة توصف له جاز، فمتى جاء بخلاف الصفة أو الرؤية كان له رد ذلك بحصته، وإنما يجوز بيع ذلك كله على التبقية إذا كان قد طاب للأكل، كما يجوز بيع الثمرة على التبقية إذا طابت للأكل.

(6/330)


واختلفوا فى بيع القثاء والبطيخ وما يأتى بطنا بعد بطن، فقال مالك: يجوز بيعه إذا بدا صلاحه، ويكون للمشترى ما ينبت حتى ينقطع ثمره؛ لأن وقته معروف عند الناس. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يجوز بيع بطن منه إلا بعد طيبه كالبطن الأولى، وهو عندهم من بيع ما لم يخلق. وجعله مالك كالثمرة إذا بدا صلاح أولها، جاز بيع ما بدا صلاحه وما لم يبد؛ لحاجتهم إلى ذلك، ولو منعوا منه لأضر بهم؛ لأن ما تدعو إليه الضرورة يجوز فيه بعض الغرر، ألا ترى أن الظئر تكرى لأجل لبنها الذى لم يخلق ولم يوجد إلا أوله، ولا يدرى كم يشرب الصبى منه أولاً، كذلك لو اكترى عبدًا يخدمه لكانت المنفعة التى وقع عليها العقد لم تخلق، وإنما تحدث أولاً أولاً، ولو مات العبد لوقعت المحاسبة على ما حصل من المنفعة، فَجُوَز ذلك لحاجة الناس إليه، فيبع ما لم يخلق، وقد جرت العادة فى الأغلب إذا كان الأصل سليمًا من الآفات أن تتبايع بطونه وتتلاحق، وعدم مشاهدته لا يدل على بطلان بيعه، بدليل بيع الجوز واللوز فى قشرهما، وفساده لا يبين من خارج، ولو كان مقشورًا مغطى بشىء غير قشره لم يصح بيعه.

(6/331)


87 - بَاب مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِى الْبُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ وَسُنَتِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ [رِبْحًا] . وَقَالَ عَبْدُالْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ: لاَ بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِهِنْدٍ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، فَقَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ بِدَانَقَيْنِ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ جَاءَه مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: الْحِمَارَ الْحِمَارَ، فَرَكِبَهُ، وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ. / 132 - فيه: أَنَس، حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ. / 132 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لهِنْدٍ حين قَالَتْ له: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ فَقَالَ: (خُذِى أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ) . / 133 - وَقَالَتْ عَائِشَةَ: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ الَّذِى يُقِيمُ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُ فِى مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ.

(6/332)


العرف عند الفقهاء أمر معمول به، وهو كالشرط اللازم فى البيوع وغيرها، ولو أن رجلا وكل رجلا على بيع سلعة، فباعها بغير النقد الذى هو عرف الناس لم يجز ذلك، ولزمه النقد الجارى، وكذلك لو باع طعامًا موزونًا أو مكيلاً بغير الوزن أو الكيل المعهود لم يجز، ولزمه الكيل المعهود المتعارف من ذلك. وقوله: يأخذ للعشرة أحد عشر، يعنى: لكل عشرة دينار من رأس المال ربح دينار. واختلف العلماء فى ذلك، فأجازه قوم وكرهه آخرون، وممن كرهه: ابن عباس، وابن عمر، ومسروق، والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال أحمد: البيع مردود. وأجازه سعيد ابن المسيب والنخعى، وهو قول مالك والثورى والكوفيين والأوزاعى. وحجة من كرهه: لأنه عنده بيع مجهول إلا أن يعلم عدد العشرات، فيعلم عدد ربحها، ويكون الثمن كله معلومًا. وحجة من أجازه: بأن الثمن معلوم، فالربح معلوم. وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما فى الصبرة من الطعام، فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال: لا يلزمه منه إلا القفيز الواحد، ومن البيع العشرة الواحدة. واختلفوا فى النفقة هل يأخذ لها ربحًا فى بيع المرابحة؟ فقال مالك: لا يؤخذ فى النفقة ربح إلا فيما له تأثير فى السلعة

(6/333)


وعين قائمة كالصبغ والخياطة والكمد فهذا كله يحسب فى أصل المال ويحسب له ربح، لأن تلك المنافع كأنها سلعة ضمت إلى سلعة، قال مالك: ولا يحسب فى المرابحة أجر السماسرة، ولا أجر الشد والطى ولا النفقة على الرقيق، ولا كراء البيت، وإنما يحسب هذا فى أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب له الربح، لأنه لابد منه، ولا يمكنه حمله ببدنه من بلد إلى بلد، فإن أربحه المشترى على ما لا تأثير له جاز إذا رضى بذلك، فإن لم يبين البائع للمشترى ذلك، وأجمل البيع، كان للمشترى رد ذلك كله إن شاء، لأن البائع قد غره. وقال أبو حنيفة: يحسب فى المرابحة أجر القصارة، وكراء البيت، وأجر السمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام على بكذا وكذا. وأما أجرة الحجام فأكثر العلماء يجيزونها، هذا إذا كان الذى يعطاه مما يرضى به، فإن أعطى ما لا يرضى به فلا يلزم، ورد إلى عرف الناس، ومما يدل على أن العرف سنة جارية قوله - عليه السلام - لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) . فأطلق لها أن تأخذ من متاع زوجها ما تعلم أن نفسه تطيب لها بمثله، وكذلك أطلق الله لولى اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف.

(6/334)


88 - بَاب بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ
/ 134 - فيه: جَابِر، جَعَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ. وترجم له (باب بيع الأرض والعروض مشاعًا غير مقسوم) . بيع الشريك من الشريك فى كل شىء مشاع جائز، وهو كبيعه من الأجنبى، فإن باعه من الأجنبى فللشريك الشفعة لعلة الإشاعة، وخوف دخول ضرر الدخيل عليه، وإن باعه من شريكه ارتفعت الشفعة، وإذا كان للشريك الأخذ بالشفعة بالسنة الثابتة عن النبى - عليه السلام - فعلى البائع إذا أحب البيع ألا يبيع من أجنبى حتى يستأذن شريكه، وقد روى هذا عن النبى - عليه السلام - من حديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (من كانت له شركة فى أرض أو ربعة فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك) . وأما بيع العروض مشاعًا فأكثر العلماء أنه لا شفعة فيها، وإنما الشفعة فى الدور والأرض خاصة، هذا قول عطاء والحسن وربيعة والحكم وحماد، وبه قال مالك والثورى والكوفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق. وروى عن عطاء أنه قال: الشفعة فى كل شىء حتى فى الثوب وإذا اختلف فيها قول عطاء فكأنه لم يأت عنه فيها شىء، فهو كالإجماع أنه لا شفعة فى العروض والحيوان، قاله ابن المنذر.

(6/335)


89 - بَاب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِىَ
/ 135 - فيه: ابْن عُمَرَ، [عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ] : (خَرَجَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ. . . . .) الحديث. (فَقَالَ الثالث: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، أَعْطِنِى حَقِّى؟ فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، [فَإِنَّهَا لَكَ] ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِى؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا، فَكُشِفَ عَنْهُمْ) . أجمع الفقهاء أنه لا يلزم شراء الرجل لغيره بغير إذنه إلا حتى يعلمه ويرضى به فيلزمه بعد الرضا به إذا أحاط علمًا به، واختلف ابن القاسم وأشهب فى مسألة من هذا الباب، إذا أودع رجل رجلاً طعامًا فباعه المودع بثمن، فرضى المودع، فقال ابن القاسم: له الخيار، إن شاء أخذ مثل طعامه من المودع، وإن شاء أخذ الثمن الذى باعه به. وقال أشهب: إن رضى بذلك فلا يجوز؛ لأنه طعام بطعام فيه خيار. وهذا الحديث دليل على صحة قول ابن القاسم؛ لأن فيه أن الذى كان ترك الأجير: فرق ذرة، وأنه زرعه له الذى بقى عنده حتى صار منه بقر وراعيها فلو كان خيار صاحب الطعام يحرم عليه الطعام، ما جاز له أخذ البقر وراعيها لأن أصلها كان من ذلك الفرق المزروع له بغير علمه، وقد رضى النبى - عليه السلام -

(6/336)


بذلك وأقره، وأخبر أن الذى انطبق عليه الغار توسل بذلك إلى ربه، ونجاه به، فدل هذا الحديث أنه لم يكن أخذ الأجير للبقر وراعيها لازمًا إلا بعد رضاه بذلك لقوله: (أتستهزئ بى؟) وإنكاره ما بذل له عوضا من الفرق، ولذلك عظمت المثوبة فى هذه القصة، وظهرت هذه الآية الشنيعة من أجل تطوع الزارع للفرق بما بذل له، وأنه فعل أكثر مما كان يلزمه فى تأدية ما عليه، فشكر الله له ذلك. وقد اختلف العلماء فى الطعام المغصوب يزرعه الغاصب، فذكر ابن المنذر أن قول مالك والكوفيين: أن الزرع للغاصب، وعليه مثل الطعام الذى غصب؛ لأن كل من تعدى على كل ماله مثل فليس عليه غير مثل الشىء المتعدى عليه، غير أن الكوفيين قالوا: إن زيادة الطعام حرام على الغاصب لا تحل له، وعليه أن يتصدق به، وقال أبو ثور: كل ما أخرجت الأرض من الحنطة فهو لصاحب الحنطة، وسيأتى اختلافهم فيمن تعدى على ذهب أو ورق، فتجر فيه بغير إذن صاحبه فى كتاب الإجارة فى باب من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد فى حديث ابن عمر بعد هذا - إن شاء الله. قوله: (يتضاغون عند رجلى) . قال صاحب العين: يقال: ضغا يضغوا ضغوًا، أضغيته: وهو صوت الذليل.

(6/337)


90 - بَاب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ
/ 136 - فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ له النَّبىُّ، عليه السَّلام: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً - أَوْ قَالَ: أَمْ هِبَةً) فَقَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً. الشراء والبيع من الكفار كلهم جائز، إلا أن أهل الحرب لا يباع منهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين من العدة والسلاح، ولا ما يقوون به عليهم. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى مبايعة من الغالب على ماله الحرام وقبول هداياه وجوائزه، فرخصت طائفة فى ذلك، كان الحسن البصرى لا يرى بأسا أن يأكل الرجل من طعام العشار والصراف والعامل، ويقول: قد أحل الله طعام اليهود والنصار، وأكله أصحاب رسول الله، وقد قال تعالى فى اليهود: (أكالون للسحت (. وقال مكحول والزهرى: إذا اختلط المال وكان فيه الحلال والحرام، فلا بأس أن يؤكل منه، وإنما كره من ذلك الشىء الذى يعرفه بعينه. وقال الحسن: لا بأس ما لم يعرفوا شيئًا بعينه. وقال الشافعى: لا يجب مبايعة من أكثر ماله ربا أو كسبه من حرام، وإن بايعه لم أفسخ البيع لأن هؤلاء قد يملكون حلالاً، ولا يحرم إلا حرامًا بينا، إلا أن يشترى الرجل حراما بينًا يعرفه، والمسلم والذمى والحربى فى هذا سواء.

(6/338)


وحجة من رخص فى ذلك قوله - عليه السلام - للمشرك المشعان فى الغنم: (أبيعًا أم عطية أم هبة) ؟ قال ابن المنذر: وأيضًا فإن النبى - عليه السلام - رهن درعه عند يهودى قال: وكان ابن عمر وابن عباس يأخذان هدايا المجتار، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر إلى ابن عمر بألف دينار، والى القاسم بن محمد بألف دينار، فأخذها ابن عمر وقال: وصلته رحم، لقد جاءتنا على حاجة، وأبى أن يقبلها القاسم، فقالت امرأته: إن لم تقبلها فأنا ابنة عمه كما هو ابن عمه، فأخذتها، وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر، فقوم بمائة ألف فقسمته بين أزواج النبى - عليه السلام. وكرهت طائفة الأخذ منهم، روى ذلك عن مسروق وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وبشير بن سعيد وطاوس وابن سيرين وسفيان الثورى وابن المبارك وابن المبارك ومحمد بن واسع وأحمد بن حنبل، وأخذ ابن المبارك قذاة من الأرض فقال: من أخذ منهم مثل هذه فهو منهم. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس. قال المهلب: وقوله عليه السلام للمشرك: (أبيعا أم عطية أم هبة؟) فإنما قال ذلك على معنى أن يثيبه لو كانت هدية، لا أنه كان يقبلها منه دون إثابة عليها، كما فعل عليه السلام بكل من هاداه من المشركين، وسيأتى حكم هدية المشركين فى كتاب الهبة فى باب (قبول الهدية من المشركين إن شاء الله) . وفيه: قصد الرؤساء وكبراء الناس بالسلع لاستجزال الثمن.

(6/339)


وفيه: أن ابتياع الأشياء من مجهول الناس ومن لا يعلم حاله بعفاف أو غيره جائز حتى يطلع على ما يلزم الورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة أو غير ذلك، قال ابن المنذر: لأن من بيده الشىء فهو مالكه على الظاهر، ولا يلزم المشترى أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد. وقال صاحب العين: يقال: شعر مشعان، إذا كان منتفشًا، ورجل مشعان الرأس.
91 - بَاب شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِىِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ
وَقَالَ عليه السَّلام لِسَلْمَانَ: (كَاتِبْ) ، وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِىَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ (إلى قوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (. / 137 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ - أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ - فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِىَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِى مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِى حَدِيثِى، فَإِنِّى أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِى، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٌ غَيْرِى وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ

(6/340)


تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِىَ قَتَلَتْهُ - فَأُرْسِلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّى، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ هَذَا الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، فَيُقَالُ: هِىَ قَتَلَتْهُ - فَأُرْسِلَ فِى الثَّانِيَةِ، أَوْ فِى الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَىَّ إِلاَ شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً) . / 138 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا ابْنُ أَخِى عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ) . / 139 - وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أنه قَالَ لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّى قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّى سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِىٌّ. / 140 - وفيه: حَكِيم، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ حَكِيمٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ) . غرض البخارى فى هذا الباب - والله أعلم - إثبات ملك الحربى والمشرك، وجواز تصرفه فى ملكه بالبيع والهبة والعتق، وجميع ضروب التصرف؛ إذ قد أقر النبى - عليه السلام - سلمان عند مالكه

(6/341)


من الكفار، فلم يُزِل ملكه عنه، وأمره أن يكاتب، وقد كان حرا وأنهم ظلموه وباعوه، ولم ينقض ذلك ملك مالكه، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال، باعهم مالكوهم الكفار من المسلمين، واستحقوا أثمانهم وصارت ملكًا لهم، ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قبل هبة الملك الكافر، وأن عبد بن زمعة قال للنبى: هذا ابن أمة أبى ولد على فراشه؛ فأثبت لأبيه أمة وملكًا عليه فى الجاهلية، فلم ينكر ذلك النبى - عليه السلام - وسماعه الخصام فى ذلك دليل على تنفيذ عهد المشرك، والحكم له إن تحوكم فيه إلى المسلمين، وكذلك جوز عليه السلام عتق حكيم بن حزام وصدقته فى الجاهلية، ومعنى قوله تعالى: (والله فضل بعضكم (الآية، فالآية تضمنت التقريع للمشركين والتوبيخ لهم على تسويتهم عبادة الأصنام بعبادة الله، فنبههم الله أن مماليكهم غير مساوين لهم فى أموالهم، فالله - تعالى - أولى بإفراد العبادة وألا يشرك معه أحد من عبيده، إذ لا ملك على الحقيقة، ولا مستحق للإلهية غيره عز وجل. قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف جاز لليهودى ملك سلمان وهو مسلم، ولا يجوز للكافر ملك مسلم؟ فالجواب: إن حكم النبى - عليه السلام - وشريعته أن من غلب من أهل الحرب على نفسه غيره أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل فى صبغة الإسلام، فهو لغالبه ملكًا، وكان سلمان حين غلب على نفسه لم يكن مؤمنا، وإنما كان إيمانه تصديق بالنبى - عليه السلام - إذا بعث، مع إقامته على شريعة عيسى - عليه السلام - فأقره عليه السلام مملوكا لمن

(6/342)


كان فى يده، إذ كان فى حكمه عليه السلام أن من أسلم من رقيق المشركين فى دار الحرب، ولم يخرج مراغمًا لسيده فهو لسيده، أو كان سيده من أهل صلح المسلمين، فهو مملوك لمالكه. قال المهلب: وفى حديث إبراهيم عليه السلام من الفقه: إباحة المعاريض، وأنها لمندوحة عن الكذب. وفيه: أن أخوة الإسلام أخوة يجب أن يسمى بها. وفيه: الرخصة فى الانقياد للظالم والغاصب. وفيه: قبول صلة السلطات الظالم. وفيه: إجابة الدعوة بإخلاص النية، وكفاية الله - جل ثناؤه وتقدست أسماؤه - لمن أخلصها بما يكون نوعًا من الآيات، وزيادة فى الإيمان، وتقوية عل التصديق والتسليم والتوكل. وقوله: فغط، يقال: غط غطيطًا: صوت فى نومه، من كتاب الأفعال. وقوله: كبت الله الكافر - يعنى: صرعه لوجهه - وكبت الله العدو: أهلكه من الأفعال.
92 - بَاب جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ
/ 141 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (هَلاَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟) قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) .

(6/343)


قد تقدم اختلاف العلماء فى جلود الميتة، وأن جمهور العلماء على جواز بيعها والانتفاع بها بعد دباغها فى كتاب الذبائح، فأغنى عن إعادته - والحمد لله.
93 - بَاب قَتْلِ الْخِنْزِيرِ
وَقَالَ جَابِرٌ: حَرَّمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْعَ الْخِنْزِيرِ / 142 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) . أجمع العلماء على أن بيع الخنزير وشراءه حرام، واجمعوا على قتل كل ما يستضر به ويؤذى مما لا يبلغ أذى الخنزير، كالفواسق التى أمر النبى المحرم بقتلها، فالخنزير أولى بذلك، لشدة أذاه، ألا ترى أن عيسى ابن مريم يقتله عند نزوله، فقتله واجب. وفيه دليل أن الخنزير حرام فى شريعة عيسى، وقتله له تكذيب للنصارى أنه حلال فى شريعتهم. واختلف العلماء فى الانتفاع بشعره، فكرهه ابن سيرين والحكم، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق. وقال الطحاوى عن أصحابه: لا ينتفع من الخنزير بشىء، ولا يجوز بيع شىء منه، ويجوز للخرازين أن ينتفعوا بشعره أو شعرتين للخرازة، ورخص فيه الحسن وطائفة. وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أنه قال: لا بأس بالخرازة

(6/344)


بشعر الخنزير، قال: فيجئ على هذا أنه لا بأس ببيعه وشرائه. وقال الأوزاعى: يجوز للخراز أن يشتريه، ولا يجوز له بيعه. وقال المهلب: قوله: (فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية) يدل أن الناس كلهم يدخلون فى الإسلام، ولا يبقى من يخالفه - والله أعلم.
94 - بَاب لاَ يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُا
رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 143 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟) . أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة، لتحريم الله تعالى لها بقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم (قال الطبرى: فإن قيل: ما وجه قوله فى بيع الخمر: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها) وأنت تعلم أن أشياء كثيرة حرم الله أكلها ولم تحرم أثمانها، كالحمر الأهلية وسباع الطير كالعقبان والبزاة وشبهها؟ قلت: المعنى الذى خالف بينهما مع اشتباههما فى الوجه الذى وصفت بين، وهو أن الله - تعالى - جعل الخمر والخنزير

(6/345)


نجسين، فحكمهما فى أنه لا يحل بيعهما ولا شراؤهما، ولا أكل أثمانهما حكم سائر النجاسات من الميتة والدم والعذرة والبول، وذلك هو المعنى الذى مثل به بائع الخمر وآكل ثمنها بالبائع من اليهود الشحوم وآكل أثمانها، إذ كانت الشحوم حرام أكلها على اليهود، نجسة عندهم نجاسة الخمر والميتة فى ديننا، فكان بائعها منهم وآكل ثمنها نظير بائع الخمر والخنزير منا وآكل ثمنها، فالواجب أن يكون كل ما كان نجساُ حرام بيعه وشراؤه، وأكل ثمنه، وكل ما حرم أكله وهو طاهر، فحلال بيعه وشراؤه، والانتفاع به فيما لم يحظر الله - تعالى - الانتفاع به، فبان الفرق بينهما. قال المؤلف: واختلف العلماء فى جواز بيع العذرة والسرقين، فكره مالك والكوفيون بيع العذرة، وقالوا: لا خير فى الانتفاع بها وأجاز الكوفيون بيع السرقين. قال الطحاوى: وزبل الدواب عند مالك نجس، فينبغى أن يكون كالعذرة، وأما بعر الإبل وخثى البقر فلا بأس ببيعه عند مالك، وقال الشافعى: لا يجوز بيع العذرة ولا الروث، ولا شىء من الأنجاس. قال الطحاوى: وقد جرت عادت الناس بالانتفاع بالسرقين وإن كان نجسا وتمريغ دوابهم فيه، وخلطه بالطين والبناء للفخار، ولوقود النيران غير منكر ذلك عندهم، فهون من النجاسات التى أبيح الانتفاع بها، فدل أنها مملوكة، وأن على مستهلكها ضمانها، فكان دلادلة على أنه يجوز بيعه؛ لأنه مال، وإذا كان كذلك فالحاجة إلى العذرة قائمة فى الانتفاع بها للأرضين. فوجب أن تكون كذلك، وفى سماع ابن القاسم أنه سئل

(6/346)


عن قوم لهم خربة فرمى الناس فيها زبلاً، فأرادوا ضربه طوبًا وبيعه، ليعمروا به تلك الأرض، قال: ذلك لهم. وقوله: (فجملوها) ، يعنى أذابوها، يقال: جملت الشحم أجمله جملاً واجتملته، وإذا أذبته، والجميل: الودك.
95 - بَاب بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا أَرْوَاحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ
/ 144 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إن مَعِيشَتِى مِنْ صَنْعَةِ يَدِى، وَإِنِّا أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَ مَا سَمِعْتُ من رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا) ، فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلاَ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَهِ الشَّجَرِةِ كُلِّ شَىْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ) . قال المهلب: إنما كره هذا من أجل أن الصور التى فيها الأرواح كانت معبودة فى الجاهلية، فكرهت كل صورة وإن كانت لا فىء لها ولا جسم؛ قطعًا للذريعة، حتى إذا استوطن أمر الإسلام وعرف الناس من أمر الله وعبادته ما لا يخاف عليهم فيه من الأصنام والصور، أرخص فيما كان رقمًا أو صبغًا إذا وضع موضع المهنة، وإذا نصب نصب العبادة، وسأتقصى ما للعلماء فى الصور فى كتاب الزينة - إن شاء الله.

(6/347)


وقال صاحب العين: يقال ربا الرجل أصابه نفس فى جوفه، وهو الربو والرَّبوة والرِّبوة.
96 - بَاب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِى الْخَمْرِ
وقال جابر: حرم النبى عليه السلام بيع الخمر. / 145 - وفيه عائشة: لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ آخِرِهَا، خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِى الْخَمْرِ) . الأمة مجمعة على تحريم بيع الخمر، كما أجمعوا على تحريم شربها والانتفاع بها، واختلفوا فى تخليلها، واختلف قول مالك فى ذلك أيضًا، فروى عنه ابن وهب وابن القاسم: أنه لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر، ولكن يهريقها، فإن صارت خلا بغير علاج فهى حلال، وهو قياس قول الشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن خللها جاز أكلها وبيعها، وبئس ما صنع. وروى عن أشهب: إن خللها النصارى فلا بأس بأكلها، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله، وهو قول الليث. وأجاز الثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأصحابه تخليل الخمر، ولا بأس أن يطرح فيها السمك والملح فيصير مريا إذا تحولت عن حال الخمر. واحتج الشافعى بما روى الثورى عن السدى، عن أبى هريرة قال: (جاء رجل إلى النبى وفى حجره يتيم، وكان عنده خمر له حين حرمت الخمر، فقال: يا رسول الله، نصنعها خلا؟ فقال: لا.

(6/348)


فصبها حتى سال الوادى) . قال الطحاوى: واحتمل نهى النبى - عليه السلام - أن تجعل خلا وأمره بالإراقة معان: أحدها: أن يكون نهيًا عن التخليل، ولا دلالة فيه بعد ذلك على حظر ذلك الخل الكائن منها، واحتمل أن يكون مراده تحريم ذلك الخل، ويحتمل أن يكون أراد التغليظ وقطع العادة؛ لقرب عهدهم بشرب الخمر. واحتج الكوفيون بما روى أبو إدريس الخولانى أن أبا الدرداء كان يأكل المرى الذى جعل فيه الخمر، ويقول: دبغته الشمس والملح. قالوا: وكما لا يختلف حكم جلد الميتة فى دبغه بعلاج آدمى وغيره، كذلك استحالة الخمر خلا.
97 - بَاب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا
/ 146 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِى، ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) . قال المهلب: قوله: (أعطى بى ثم غدر) يريد نقض عهدًا عاهده عليه، وقوله: (استأجر أجيرا فلم يعطه أجره) ، هو داخل فى معنى من باع حرًا؛ لأنه استخدمه بغير عوض، وهذا عين الظلم، وإنما عظم الإثم فيمن باع حرا؛ لأن المسلمين أكفاء فى الحرمة والذمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه، وأن ينصحه ولا

(6/349)


يسلمه، وليس فى الظلم أعظم من أن يستعبده أو يعرضه لذلك، ومن باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه حال الذلة والصغار، فهو ذنب عظيم، ينازع الله به فى عبادة. قال ابن المنذر: وكل من لقيت من أهل العلم على أنه من باع حرا أنه لا قطع عليه ويعاقب، ويروى عن ابن عباس قال: يرد البيع ويعاقبان. وروى جلاس عن على أنه قال: تقطع يده. والصواب قول الجماعة؛ لأنه ليس بسارق، ولا يجوز قطع غير السارق.
98 - بَاب أَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرضهم حتى أَجْلاَهُمْ
/ 147 - فيه: الْمَقْبُرىُّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ.
99 - بَاب بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً
وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنَ الْبَعِيرَيْنِ. وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ بِالآخَرِ غَدًا رَهْوًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لاَ رِبَا فِى الْحَيَوَانِ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً، وَدرهم بِدرهم نَسِيئَةً.

(6/350)


/ 148 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ فِى السَّبْىِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام. قال المؤلف: حديث المقبرى عن أبى هريرة الذى أشار إليه البخارى فى هذا الباب، قد ذكره فى آخر كتاب الجهاد، فى باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، قال أبو هريرة: (بينا نحن فى المسجد خرج النبى - عليه السلام - فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى جئنا بيت المدراس، فقال: أسلموا، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وإنى أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله ثمنًا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله) . قال المؤلف: وهؤلاء اليهود الذين أجلاهم النبى - عليه السلام - هم بنو النضير، وذلك أنهم أرادوا الغدر برسول الله، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأوحى الله إليه بذلك، فأمر بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاءوا، فلما سمع المنافقون بذلك بعثوا إلى بنى النضير: اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا بذلك لنصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله فى قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم، ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلفة، ففعل، فاحتملوا ذلك وخرجوا إلى خيبر، وخرج أكثرهم إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله، فكانت

(6/351)


له خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله على المهاجرين دون الأنصار فى حديث طويل ذكره ابن إسحاق , قال المؤلف: فإن قال قائل: هذا معارض لحديث المقبرى عن أبى هريرة؛ لأن فيه أن النبى - عليه السلام - أمرهم ببيع أرضهم، وفى حديث ابن إسحاق أنهم تركوا أرضهم دون عوض، وحلت لرسول الله فما وجه ذلك؟ فالجواب: أن النبى إنما أمرهم ببيع أرضهم - والله أعلم - قبل أن يكونوا له حربا، فكانوا مالكين لأرضهم، وكانت بينهم وبين النبى مسالمة وموافقة للجيرة، فكان النبى - عليه السلام - يمسك عنهم لإمساكهم عنه، ولم يكن بينهم عهد، ثم أطلعه الله على ما يؤملون من الغدر به، وقد كان أمره لهم ببيع أرضهم وإجلائهم قبل ذلك فلم يفعلوا؛ لأجل قول المنافقين لهم: اثبتوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم فوثقوا بقولهم، وثبتوا ولم يخرجوا، وعزموا على مقاتلة النبى - عليه السلام - فصاروا له حربًا؛ فحلت بذلك دماؤهم وأموالهم، فخرج إليه رسول الله وأصحابه فى السلاح وحاصرهم، فلما يئسوا من عون المنافقين ألقى الله فى قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله الذى كان عرضه عليهم قبل ذلك، فلم يبح لهم بيع الأرض، وقاضاهم على أن يجليهم ويتحملوا بما استقلت به الإبل، وعلى أن يكف عن دمائهم وأموالهم، فحلوا عن ديارهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكانت أراضيهم وأموالهم مما لم يوجف عليها بقتال مما انجلى عنها أهلها بالرعب، وصارت خالصة لرسول الله يضعها حيث شاء، قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان أسلما على أموالهما فأحرزاها،

(6/352)


قال: ونزلت فى بنى النضير سورة الحشر إلى قوله: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا (أى: بالقتل والسبى، ولهم فى الآخرة مع ذلك عذاب النار. وقوله: (لأول الحشر (، يعنى: الشام الذى جلا أكثرهم إليه؛ لأنه روى فى الحديث أنه تجىء نار تحشر الناس إلى الشام، ولذلك قيل فى الشام أنها أرض المحشر. وأما بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة: لا ربا فى الحيوان، وجائز بيع بعضه ببعض نقدًا ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب على ابن أبى طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئة، وإن كانت من نعم واحدة إذا اختلف فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضا واتفقت أجناسها، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يد بيد، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثورى والكوفيون وأحمد: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا بحديث الحسن عن سمرة ابن جندب (أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) . وبحديث يحيى بن أبى كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله عن بيه الحيوان بالحيوان نسيئة) ومعنى النهى عن ذلك عندهم لعدم وجود مثله؛ ولأنه غير موقوف عليه، قالوا: وهذا مذهب ابن عباس وعمار بن ياسر، وأجازوا التفاضل فيه يدًا بيد، وحجة القول الأول: ما رواه ابن

(6/353)


إسحاق، عن أبى سفيان، عن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حريش قال: قلت لعبد الله عمرو: (إنه ليس بأرضنا ذهب ولا فضة، وإنما نبيع البعير بالبعيرين، والبقرة بالبقرتين، والشاة بالشاتين. فقال: (إن رسول الله أمر أن يجهز جيش، فنفدت الإبل، فأمر أن نأخذ على قلائص الصدقة بالبعيرين إلى إبل الصدقة) . وقد سأل عثمان السجستانى يحيى بن معين عن سند هذا الحديث، فقال: سند صحيح مشهور، وهذا المذهب أراد البخارى، ووجه إدخاله حديث صفية فى هذا الباب، أن صفية صارت إلى دحية الكلبى بأمر النبى - عليه السلام - فأخبر النبى أنها سيدة قريظة ولا تصلح إلا له، وذكر من جمالها، فأمر النبى فأتى بها، فلما رآها عليه السلام قال لدحية: دعها وخذ غيرها، فكان تركه لها عند النبى وأخذه جارية السبى غير معينة، بيعًا لها بجارية نسيئة حتى يأخذها ويستحسنها، فحينئذ تتعين له، وليس ذلك يدًا بيد، وحجة مالك أن الحيوان إذا اختلفت منافعه صار كجنسين من سائر الأشياء، ويجوز فيه التفاضل والأجل؛ لاختلاف أغراض الناس فيه لأن غرض الناس من العبيد والحيوان والمنافع، ولا ربا عندهم فى الحيوان والعروض إذا حدث فيها النسيئة إلا من باب الزيادة فى السلف، وإذا كان التفاضل فى الجهة الواحدة خرج من أن تتوهم فيه الزيادة فى السلف، وليس العبد الكاتب والصائغ عندهم مثل العبد الذى هو مثله فى الصورة، إذا لم يكن كاتبًا ولا صائغًا، وأما إذا اتفقت منافعها فلا يجوز عندهم صنف منه بصنف مثله أكثر منه إلى أجل؛ لأن ذلك يدخل فى معنى قرض جر منفعة؛ لأنه أعطى

(6/354)


شيئًا له منفعة بشىء أكثر منه له مثل تلك المنفعة؛ لأنه إنما طلب زيادة الشىء لاختلاف منافعه، فلم يجز ذلك، وتأول مالك فيما روى عن على بن أبى طالب أنه باع جملا له يدعى عصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل، وما روى عن ابن عمر أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة، أن منافعها كانت مختلفة، وليس فى الحديث عنهم أن منافعها كانت متفقة، فلا حجة للمخالف فى ذلك. وأما قول ابن سيرين: لا بأس ببعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة، وفى بعض النسخ بدرهمين نسيئة، فإن ذلك خطأ فى النقل عن البخارى، والصحيح عن ابن سيرين ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: (لا بأس ببعير ببعيرين وردهم، والدرهم نسيئة فإن كان أحد البعيرين نسيئة فهو مكروه) وهذا مذهب مالك، وقد ذكره فى الموطأ فى مسألة الجمل بالجمل وزيادة دراهم، قال: والذى يجوز من ذلك أن يكون الجملان نقدًا، ولا يبالى تأخرت الدراهم أم تعجلت؛ لأن الجمل بالجمل قد حصل يدًا بيد، فبطل أن يتوهم فيه السلف، وأعلم أنه بيع؛ لأن الدراهم هاهنا تبع للجمل، وليس هى المقصد، وأما إذا كان أحد الجملين نسيئة فلا يجوز؛ لأنه عنده من باب الزيادة فى السلف، كأنه أسلفه جملا فى مثله واستزاد عليه الدراهم، ولو كانت الدراهم والجمل جميعًا إلى أجل لم يجز؛ لأنه أقرضه الجمل على أنه يرده إليه بصفته ويرد معه دراهم، فهو سلف جر منفعة، وزيادة على ما أخذ المستسلف فلا يجوز.

(6/355)


وقول رافع بن خديج: (آتيك غدًا رهوًا) قال صاحب العين: الرهو: مشى فى سكون. وقال أبو عبيد: يقول: آتيك عفوًا لا احتباس فيه.
0 - بَاب بَيْعِ الرَّقِيقِ
/ 149 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ؟ فَقَالَ: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَ هِىَ خَارِجَةٌ) . / 150 - وفيه: جَابِر، قَالَ: بَاعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُدَبَّرَ. / 151 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، سُئل، عَنِ الأَمَةِ تَزْنِى وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: (اجْلِدُوهَا، فَإِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ) . بيع الرقيق كبيع سائر المباحات الداخلة فى عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع (. وقوله فى حديث أبى سعيد: فنحب الأثمان. يدل أنه لا يجوز بيع أم الولد؛ لأن الحمل منهن يمنع الفداء والثمن، وسيأتى تمام القول فى أم الولد فى موضعه - إن شاء الله. وأما بيع المدبر فإن العلماء اختلفوا فيه، فذهب مالك والكوفيون إلى أنه لا يجوز بيعه، ولا يجوز تحويله عن موضعه الذى وضع فيه،

(6/356)


وقال الشافعى: بيع المدبر جائز، واحتج بحديث جابر أن النبى - عليه السلام - باع مدبرًا، وسيأتى بيان مذاهبهم فيه فى موضعه، وقد تقدم فى باب بيع العبد الزانى، الكلام فى حديث أبى هريرة، فأغنى عن إعادته - والحمد لله.
1 - بَاب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا
وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِى تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ، فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (. / 152 - فيه: أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِى نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام: (آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ) ، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَوِّى لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. فى

(6/357)


حديث صفية دليل على أن الاستبراء أمانة، يؤتمن المبتاع عليها بألا يطأها حتى تحيض حيضة إن لم تكن حاملاً؛ لأن النبى - عليه السلام - ألقى رداءه على صفية، وأمرها أن تحتجب بالجعرانة حين صارت فى سهمه، ومعلوم أن من سنته أن الحائل لا توطأ حتى تحيض حيضة؛ خشية أن تكون حاملاً، وأن الحامل لا توطأ حتى تضع؛ لئلا يسقى ماءه زرع غيره، فلما كان الاستبراء أمانة ارتفعت فيه الحكومة، وفى هذا حجة لمن لم يوجب المواضعة على البائع، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار غير ربيعة ومالك بن أنس، فإنهما أوجبا المواضعة فى الجوارى المرتفعات المتخذات للوطء خاصة، قال مالك فى المدونة: أكره ترك المواضعة وائتمان المبتاع على الاستبراء، فإن فعلا أجزأهما، وهى من البائع حتى تدخل فى أول دمها. قال المهلب: وإنما قال مالك بالمواضعة خشية أن يتذرع المشترى إلى الوطء، فجعل الاستبراء حياطة على الفروج وحفظا للأنساب، ولقوله عليه السلام: (لا توطأ حائل حتى تحيض) . وأحتج من لم ير المواضعة بأن عطاء بن أبى رباح قال: ما سمعنا بالمواضعة قط. وقال محمد بن عبد الحكم: أول من قال بالمواضعة ربيعة. قال الطحاوى: والدليل على أن المواضعة غير واجبة أن العقد إنما يوجب تسليم البدلين، وقد وافقنا مالك على أن غير المرتفعات من الجوارى لا يجب فيهن استبراء، فوجب أن يكون كذلك حكم المرتفعات، وأجمع الفقهاء على أن حيضة واحدة براءة فى الرحم،

(6/358)


إلا أن مالكًا والليث قالا: إن اشتراها فى أول حيضتها اعتد بها، وإن كان فى آخرها لم يعتد بها. واختلفوا فى تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجاز ذلك الحسن البصرى وعكرمة، وبه قال أبو ثور، وثبت عن ابن عمر أنه قبل جارية وقعت فى سهمه يوم جلولاء ساعة قبضها. وكره ذلك ابن سيرين، وهو قول الليث ومالك وأبى حنيفة والشافعى، ووجه كراهتهم لذلك قطعا للذريعة، وحفظاُ للانساب. وحجة الذين أجازوا ذلك قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم (وقوله عليه السلام: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض) . فدل هذا أن ما دون الوطء من المباشرة والقبلة فى حيز المباح وسفر النبى عليه السلام بصفية قبل أن يستبرئها حجة فى ذلك لأنه لو لم يحل له من مباشرتها ما دون الجماع لم يسافر بها معه، لأنه لا بد أن يرفعها أو ينزلها، وكان عليه السلام لا يمس بيده امرأة لا تحل له، ومن هذا الباب اختلافهم فى مباشرة المظاهر وقبلته لامرأته التى ظاهر منها، فذهب الزهرى والنخعى ومالك وأبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يقبل امرأته ولا يتلذذ منها بشىء. وقال الحسن البصرى: لا بأس أن ينال منها ما دون الجماع. وهو قول الثورى والأوزاعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك

(6/359)


فسر عطاء وقتادة والزهرى قوله تعالى: (من قبل أن يتماسا (أنه عنى بالمسيس الجماع فى هذه الآية، واختلفوا فى استبراء العذراء فقال ابن عمر: لا تستبرأ. وبه قال أبو ثور، وقال سائر الفقهاء: تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض ويوطأ مثلها.
2 - بَاب بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالأَصْنَامِ
/ 153 - فيه: جَابِر، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ) ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: (لاَ هُوَ حَرَامٌ) ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام عِنْدَ ذَلِكَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أجَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) . أجمعت الأمة على أنه لا يجوز بيع الميتة والأصنام، لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضع الثمن فيهما إضاعة المال، وقد نهى النبى عن إضاعة المال، قال ابن المنذر: فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة، فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك، وقد روى ذلك عن النبى - عليه السلام - وهو مذكور فى آخر كتاب الجهاد. قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه قوله عليه السلام إذ سأله السائل عن شحوم الميتة وقال: إنها تدهن بها الجلود والسفن

(6/360)


ونستصبح بها، فقال مجيبًا له: (قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها) . قيل: إن جوابه عليه السلام كان عن مسألة بيع الشحوم، لا عن دهن الجلود والسفن، وإنما سأله عن بيع ذلك إذ ظنه جائزًا من أجل ما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحمر الأهلية لما فيها من المنافع وإن حرم أكلها، فظن أن شحوم الميتة كذلك، يحل بيعها وشراؤها وإن حرم أكلها، فأخبره عليه السلام أن ذلك ليس كالذى ظن، وأن بيعها حرام وثمنها حرام إذ كانت نجسة، ونظيره الدم والخمر فيما يحرم من بيعها وأكل ثمنها، فأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بها، فهو مخالف بيعها وأكل ثمنها، إذ كان ما يدهن بها من ذلك ينغسل بالماء غسل الشىء الذى أصابته نجاسة فيطهره الماء. هذا قول عطاء بن أبى رباح وجماعة من العلماء، وممن أجاز الاستصباح بالزيت تقع فيه الفأرة: على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وقد تقصينا هذا فى كتاب الذبائح فى باب (إذا وقعت الفأرة فى سمن جامد أو دهن) .
3 - بَاب ثَمَنِ الْكَلْبِ
/ 154 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأَنْصَارِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.

(6/361)


/ 155 - وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، نَهَى النَّبِىّ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ. . . الحديث. اختلفت الرواية عن مالك فى بيع الكلب، فقال فى الموطأ: أكره بيع الكلب الضارى وغيره؛ لنهى رسول الله عن ثمن الكلب. وروى ابن نافع عن مالك أنه كان يأمر ببيع الكلب الضارى فى الميراث والدين والمغانم، وكان يكره بيعه للرجل ابتداءً، قال ابن نافع: وإنما نهى رسول الله عن ثمن الكلب العقور، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه لا بأس باشتراء كلب الصيد، ولا يعجبنى بيعها، وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، قال سحنون: ويحج بثمنها، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: إن قتل كلب الدار فلا شىء عليه إلا أن يسرح مع الماشية. وروى عن أبى حنيفة أنه من قتل كلبًا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته، وكذلك السباع كلها، وقال الأوزاعى الكلب لا يباع فى مقاسم المسلمين، هو لمن أخذه، وقال الشافعى: لا يجوز بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها. وهو قول أحمد بن حنبل، احتجا بعموم نهيه عليه السلام عن ثمن الكلب. وحجة مالك والكوفيين قوله تعال: (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين (فإذا أحل لنا الذى علمناه، أفادنا ذلك إباحة

(6/362)


التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية. فإن قيل: المذكور فى هذه الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أمسكن علينا. فالجواب: أن (ما) بمعنى الذى، وتقديره أحل لكم الطيبات والذى علمتم من الجوارح، ثم أباح تعليمهن بقوله: (تعلمونهن مما علمكم الله (وهذا قول جماعة السلف. روى عن جابر بن عبد الله أنه جعل القيمة فى كلب الصيد، وعن عطاء مثله، وقال: لا بأس بثمن الكلب السلوقى. وعن النخعى مثله، وقال أشهب: إذا قتل الكلب المعلم ففيه القيمة. وأوجب فيه ابن عمر أربعين درهمًا، وفى كلب ماشية، شاة، وفى كلب الزرع فرقًا من طعام، وأجاز عثمان الكلب الضارى فى المهر، وجعل فيه عشرين من الإبل على من قتله. وقد روى عن ابن عمر عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو كلب صيد؛ نقص من عمله كل يوم قيراطان) فهذا الحديث زائد، فكأنه عليه السلام نهى عن ثمن الكلب إلا الكلب الذى أذن فى اتخاذه للانتفاع به، ويحتمل أن يكون الحديث الذى فيه النهى عن ثمن الكلب وكسب الحجام كان فى بدء الإسلام، ثم نسخ ذلك، وأبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح فى جواز بيعه، وكذلك لما أعطى الحجام أجره كان ناسخًا لما تقدمه، وذكر الطحاوى من حديث أبى رافع أن النبى - عليه السلام - لما أمر بقتل

(6/363)


الكلاب أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التى أمرت بقتلها؟ فنزلت: (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين (فلما حل لنا الانتفاع بها، حل لنا بيعها وأكل ثمنها. وقال المهلب: ما فى حديث أبى جحيفة غير كسب الإماء وأكل الربا، فهو مكروه تنزهًا عن رذائل المكاسب، وكسب الإماء والزنا محرمان بالكتاب والسنة، وهو كله مذكور تحت قول واحد، فلا حجة لأحدٍ فى جمع أمور مختلفة الأحكام تحت كلام واحد. وحلوان الكاهن يعنى: أجره على الكهانة. وسيأتى تفسير البغى فى كتاب الإجارة، إن شاء الله.
- بَاب السَّلَمِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِى الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ - أَوْ قَالَ: عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً شَكَّ إِسْمَاعِيلُ - فَقَالَ: (مَنْ سَلَّفَ فِى تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ) . وترجم له: (باب السلم فى وزن معلوم) وزاد فيه: (إلى أجل معلوم) . / 2 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ، أنَّهُ اختلف هو وَأَبُو بُرْدَةَ فِى السَّلَفِ، فَبَعَثُونِى إِلَى ابْنِ أَبِى أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَأَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِى الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ.

(6/364)


أجمع العلماء أنه لا يجوز السلم إلا فى كيل معلوم أو وزن معلوم فيما يكال أو يوزن، وأجمعوا أنه إن كان السلم فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم، وأجمعوا أنه لا بد من معرفة صفة الشىء المسلم فيه، واختلفوا فى الأجل على ما يأتى ذكره فى بابه بعد هذا - إن شاء الله. واختلفوا فى ترك ذكر مكان القبض، فقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: إن لم يسم مكانًا فالسلم جائز، استدلالاً بحديث ابن عباس؛ لأنه ليس فيه ذكر المكان، ولو كان ترك ذلك يفسد السلم لأعلمهم بذلك عليه السلام، وقال مالك: إن لم يذكر الموضع جاز السلم، ويقبضه فى المكان الذى كان فيه السلم، فإن اختلفا فى الموضع فالقول قول البائع. وقال الثورى وأبو حنيفة: لا يجوز السلم فيما له حمل مؤنة إلا أن يشترط فى تسليمه مكانًا معلومًا. وهو قول الشافعى. قال ابن المنذر: وقوله: (يسلفون فى التمر العام والعامين) فيه إجازة السلم فى التمر وإن لم يكن ذلك الوقت موجودًا إذا وجد وقت يحل فيه السلم، ويفسد السلم عند الثورى والكوفيين والشافعى بالافتراق دون القبض لرأس المال، وهو عندهم من باب الدين بالدين، وعند مالك إن تأخر قبض رأس المال يومين وثلاثة بغير شرط فى العقد جاز، كما لو كان لرجل على رجل دين جاز أن يؤخر اليوم واليومين على وجه الرفق.

(6/365)


- بَاب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ
/ 3 - فيه: عَبْد اللَّه بِن أَبِى أَوْفَى، كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، قُلْتُ: إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَانِى إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لاَ؟ . وَقَالَ: جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِىِّ: فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ. / 4 - وفيه: ابْن عَبَّاس، سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، حَتَّى يُؤكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَىُّ شَىْءٍ يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ: حَتَّى يُحْرَزَ. قال المؤلف: روى وكيع، عن شعبة، عن محمد بن أبى المجالد قال: (اختلف أبو بردة وعبد الله بن شداد فى السلم فقال: فأرسلونى إلى ابن أبى أوفى، فقال: كنا نسلم على عهد رسول الله فى الحنطة والشعير والزبيب، ولا ندرى عند أصحابه من شىء أم لا) فهذا اختلاف من أبى بردة وعبد الله بن شداد فى هذه المسألة وإنما كره السلم إلى من ليس عنده أصل من كرهه؛ لأنه جعله من باب الغرر، وأصل السلم أن يكون إلى من عنده مما يسلم فيه أصل، إلا أنه لما وردت السنة فى السلم بالصفة المعلومة والكيل أو الوزن والأجل المعلوم كان ذلك عاما فيمن عنده أصل وفيمن

(6/366)


ليس عنده، وجماعة الفقهاء يجيزون السلم إلى من ليس عنده أصل، وحجتهم حديث عبد الله بن أبى أوفى، وهو نص فى ذلك. قال المهلب: وفيه من الفقه جواز السلم فى العروض إلى من ليس عنه ما باع بالسلم، ولو كان عنده ما باع ما حل البيع؛ لأنه بيع شىء بعينه لا يقبض إلى مدة طويلة، وهذا لا يجوز بإجماع. وقال ابن المنذر: فى حديث ابن أبى أوفى مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم. وفيه دليل على إباحة السلم فى السمن والشبرق وما أشبه ذلك كيلاً معلومًا أو وزنًا معلومًا، إذ هو فى معنى الزيت، وأما حديث ابن عباس الذى هو فى آخر الباب، فليس هو من هذا الباب، وإنما هو من الباب الذى بعده، وغلط فيه الناسخ - والله أعلم.
3 - بَاب السَّلَمِ فِى النَّخْلِ
/ 5 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ: نُهِىَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسِيئًا بِنَاجِزٍ. وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ. قُلْتُ: وَمَا يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى يُحْرَزَ.

(6/367)


اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الكوفيون والثورى والأوزاعى: لا يجوز السلم إلا أن يكون المسلم فيه موجودًا فى أيدى الناس من وقت العقد إلى حين حلول الأجل، فإن انقطع فى شىء من ذلك لم يجز. وهو مذهب ابن عمر وابن عباس - على ما ذكره البخارى فى هذا الباب - وقال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يجوز السلم فيما هو معدود من أيدى الناس إذا كان مأمون الوجود عند حلول الأجل فى الغالب، فإن كان ينقطع حينئذ لم يجز. واحتج الكوفيون بأن النبى نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وقالوا: من مات فقد حل دينه وإن لم يوجد كان غررًا. قال ابن القصار: وهذا فاسد؛ فإنه قد يحل الأجل ويتعذر السلم؛ بأن يموت المسلم إليه أو يفلس، ولو وجب أن يمنع السلم لجواز ما ذكروه، لوجب ألا يجوز بيع شىء نسيئةً؛ لأنه قد يطرأ على المشترى الموت والفلس قبل محل الأجل، فلا يصل صاحب الحق إلى ماله فيكون هذا غررًا، ولكنه جائز؛ لأن الناس يدخلون فى وقت العقد على رجاء السلامة، ولم يكلفوا مراعاة ما يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث، ولو سلم فى شىء إلى شهر فإن وقت المطالبة بالتسليم فيه هو رأس الشهر بدليل أن الشىء لو كان موجودًا قبل الشهر لم تكن له المطالبة

(6/368)


به، ولا للمسلم إليه أن يجبره على مراعاة وجوده قبل المحل وحين العقد؛ لأن جوده كعدمه، ولو كان المسلم فيه موجودًا طول السنة إلا يوم القبض فسلم فيه إلى سنة، كان هذا السلم باطلاً بإجماع، وإن كان موجودًا وقت العقد وطول السنة؛ لأنه حين المحل والقبض معدوم، فعلم بهذا أن الاعتبار بوجوده حين القبض لا حين العقد، والدليل على صحة هذا أنهم كانوا يسلفون فى زمن النبى - عليه السلام - فى الثمر السنة والسنتين، ومعلوم أنه إذا أسلف فى الثمر سنة فإنه يتخلل الأجل زمان ينقطع فيه الثمر، وهو زمان الشتاء، ثم إن النبى - عليه السلام - أقرهم على ذلك، ولم ينكر عليهم السلف فى سنة وأكثر، فثبت ما قلناه. وأما نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها فهو محمول عندنا على أن بيع الثمرة عينًا لا يجوز إلا بعد بدو صلاحها، وفى السلم ليس عند العقد ثمرة موجودة عند البائع تستحق اسم البيع حقيقة، وحديث النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مرتب على السلم، تقديره: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إلا أن يكون سلمًا، بدليل حديث ابن عباس أنهم كانوا يسلفون فى الثمر السنتين والثلاث، وذلك بيع له قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق، وإذا جاز السلم فى الثمر فقد جاز فى الرطب، والرطب لا يوجد فى سائر السنة كما يوجد التمر، فلا معنى لقولهم. وقال الخطابى: قوله: (حتى يوزن) معناه حتى يخرص، وسماه

(6/369)


وزنًا، لأن الخارص يحرزها ويقدرها، فيحل ذلك محل الوزن لها، والمعنى فى النهى عن بيعها قبل الخرص شيئان: أحدهما: تحصين الأموال؛ وذلك أنها فى الغالب لا تأمن العاهة إلا بعد الإدراك، وهو أوان الخرص. والمعنى الآخر: أنه إذا باعها قبل بدو الصلاح على القطع سقط حقوق الفقراء؛ لأن الله أوجب إخراجها فى وقت الحصاد.
4 - بَاب الْكَفِيلِ فِى السَّلَمِ
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.
5 - بَاب الرَّهْنِ فِى السَّلَمِ
/ 7 - فيه: الأَعْمَشُ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك: لا بأس بالرهن والكفيل فى السلم، ولم يبلغنى أن أحدًا كرهه غير الحسن البصرى، ورخص فيه عطاء والشعبى، وبه قال أبو حنيفة والثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى. وكره الرهن والكفيل فى السلم على بن أبى طالب وسعيد بن جبير، وقال: ذلك الربح المضمون. وقال زفر: لا يجوز ذلك فى

(6/370)


السلم، ولا سبيل له على الكفيل. وهو قول الأوزاعى وأحمد حنبل وأبى ثور. قال المهلب: وحجة من كرهه أنه إن أخذ الرهن فى رأس المال، فرأس المال غير الدين، إنما دينه ما سلم فيه، ورأس المال مستهلك فى الذمة غير مطلوب به، وإن أخذه بالمسلم فيه، فكأنه اقتضاه قبل أجله، وهو من باب سلف جر منفعة؛ لأنه ينتفع بما يستوثق به من الرهن والضامن، وحجة من أجازه إجماعهم على إجازة الرهن والكفيل والحوالة فى الدين المضمون من ثمن سلعة قبضت، فكذلك السلم، ووجه احتجاج النخعى بحديث عائشة: أنه استدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالنسيئة المجمع عليها، جار فى المثمون وهو المسلم فيه وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى غوص طعام أو غيره إلى أجل أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، ولا فرق بينهما.
6 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالأَسْوَدُ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ بالسلم فِى الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِى زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ. / 8 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِى

(6/371)


الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: (أَسْلِفُوا فِى الثِّمَارِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) . اختلف العلماء فى أجل السلم، فقال مالك والكوفيون وجمهور الفقهاء إنه لا يجوز السلم الحال، ولا بد فيه من أجل معلوم، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لابد فيه من أجل وإن كانت أيامًا يسيرة، وقال ابن القاسم: معناه إذا كانت أيامًا تتغير فيها الأسواق. وقال الشافعى وأبو ثور: يجوز السلم بغير ذكر أجل أصلاً، وهذا خلاف الحديث؛ لأنه عليه السلام قال: (من أسلم) ، فأتى بلفظ العموم، وأيضًا فإنه عليه السلام أحل الأجل محل الكيل والوزن وقرنه بهما، فلما لم يجز العقد إذا عدمت صفة الكيل والوزن، فكذلك الأجل يجب اعتباره، كما لو قال: صل على صفة كذا. لم يجز العدول عن الصفة. واحتج الشافعى أن السلم بيع من البيوع، والبيوع تجوز بثمن معجل ومؤجل، فكذلك السلم، قيل: هذا ينتقض بجواز السلم فى المعدوم، وهو يجوز مؤجلاً ولا يجوز معجلاً، وإنما لم يجز ابن عمر السلم فى زرع لم يبد صلاحه؛ لأنه سلم فى عين، وحكم السلم ألا يكون فى عين معلومة، وإنما يكون فى صفة معلومة ثابتة فى الذمة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فى السلم، ولا بجائحة تنزل، وهذا مذهب أهل الحجاز، إلا أن مالكًا أجاز السلم فى طعام بلد بعينه إذا كان الأغلب فيه أنه لا يخلف.

(6/372)


ولم يختلف العلماء أنه لا يجوز أن يكون السلم فى قمح فدان بعينه؛ لأنه غرر لا يدرى هل يتم زرعه أم لا، ويجوز عند جميعهم أن يكون السلم فى زمن يكون فيه الزرع قد بدا صلاحه إذا لم يكن يعين زرعًا ما. فإن أسلم الرجل فى تمر حائط بعد طيبه أو زرع بعد ما أدرك، فذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه كرهه، وإن فات لم يفسخ، وليس بالحرام البين، ولا يجوز عند سائر الفقهاء؛ لأنه كبيع عين اشترط فيه تأخير القبض، وهذا لا يجوز؛ لأن من شرط البيع تسليم البيع. قال ابن المنذر: قوله عليه السلام: (أسلموا فى الثمار) إجازة السلم فى الثمار كلها لعموم لفظه، وهو قول ابن عمر: لا بأس بالسلم فى الطعام بسعر معلوم. فإن العلماء اختلفوا فى رأس مال السلم، فقال مالك: ولو أسلم إليه عروضًا أو تبرًا أو فضة مكسرة جزافًا صح السلم، ولا يجوز أن يسلم إليه دنانير أو دراهم جزافًا، فرق بين التبر والدنانير والدراهم؛ لأن التبر بمنزلة الثوب والسلعة عنده. وقال أبو حنيفة: لا يسلم إليه تبرًا جزافًا، ولا شيئًا مما يكال أو يوزن جزافًا. هو أحد قولى الشافعى، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يسلم إليه الدنانير والدراهم وكل ما يكال أو يوزن جزافًا. وهو قول الشافعى الآخر. وحجة أبى حنيفة أنه لابد من معرفة رأس المال لأنه قد يعدم المسلم فيه حين المطالبة، فينفسخ العقد فيرجع بالثمن، وإذا لم يكن معلومًا لم يمكن المطالبة به، وهو كالقراض لا بد فيه معرفة رأس المال،

(6/373)


والحجة لمالك أن مقتضى العقد أن تقع المطالبة بالمسلم فيه لا بالسلم، فلم يفتقر إلى الصفة، وهذا المعنى موجود فى بيع الأعيان؛ لأنه قد يستحق المبيع فتقع المطالبة برأس المال، ثم يجوز جزافًا كما يجوز معلومًا، وقد تجوز الإجازة بالجزاف، وقد تنهدم الدار فتقع المطالبة بالأجرة التى سلمها إليه المستأجر، ولم تفتقر الأجرة فيها إلى أن تكون موصوفة بل يكون جزافًا، كذلك رأس مال السلم، وإنما افتقر القراض أن تكون الدراهم موصوفة؛ لأن المطالبة تقع ببدل ما تسلمه، فهو بمنزلة المسلم فيه.
7 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ
/ 9 - فيه ابن عمر: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْجَزُورَ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، فَنَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْهُ. فَسَّرَهُ نَافِعٌ، أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِى بَطْنِهَا. العلماء مجمعون على أنه لا يجوز هذا السلم؛ لأنه أجل مجهول، والنبى - عليه السلام - إنما أجاز السلم إلى أجل معلوم. قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن باع إلى الحصاد أو الجداد أو إلى العطاء أو عيد النصارى، فقالت طائفة: البيع جائز، وكذلك لو باع إلى رجوع الحاج، وأجاز ذلك كله أبو ثور، وقال مالك: من باع إلى الحصاد، أو إلى الجداد، أو إلى العطاء، فهو جائز؛ لأنه معروف. وبه قال أحمد. وكذلك إلى قدوم الغزاة، وروى عن ابن عمر أنه كان يشترى إلى العطاء، وعن القاسم بن محمد مثله، وقال الأوزاعى: إن باع إلى فصح النصارى أو

(6/374)


صومهم، فذلك جائز، وإن باع إلى الأندر والعصير فهو مكروه؛ لتقارب ما بين أول الأندر وآخره. وقالت طائفة: لا يجوز السلم ولا البيع إلى العصير والحصاد والدراس. هذا قول ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، واحتجوا بأن الله - تعالى - جعل المواقيت بالأهلة لقوله تعالى: (يسئلونك عن الأهلة (وفيها قول رابع: أن البيع إلى العطاء جائز والمال حال. هذا قول ابن أبى ليلى. ومن باع إلى أجل غير معلوم فالبيع إليه فاسد، استدلالاً بنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وحجة مالك: أن المقصود بالحصاد وجداد النخل الأوقات، فهى أوقات معلومة عند أهل المعرفة بها سواء تقدمت أفعال الناس لها أو تأخرت.

(6/375)