شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
39 - كِتَاب اللُّقَطَةِ
- بَاب إِذَا أَخْبَرَ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ
دَفَعَت إِلَيْهِ
/ 1 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، لَقِيتُ أُبَىَّ بْنَ
كَعْبٍ، فَقَالَ: وجدتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ،
فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَقَالَ:
(عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، فَلَمْ
أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ:
(عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ،
ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا، فَقَالَ: (احْفَظْ وِعَاءَهَا
وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا،
وَإِلاَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) ، [فَاسْتَمْتَعْتُ]
فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لاَ أَدْرِى
أثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَم حَوْلاً وَاحِدًا. هذا الحديث لم
يقل بظاهره أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة
أعوام، لأن سويد بن غفلة قد وقف عليه أبى بن كعب مرة أخرى
حين لقيه بمكة، فقال: لا أدرى ثلاثة أحوال أم حولا واحداُ،
وهذا الشك يوجب سقوط التعريف ثلاثة أحوال، ولا يحفظ عن أحد
قال ذلك إلا رواية جاءت عن عمر بن الخطاب ذكرها عبد الرزاق
عن ابن جريج قال: قال مجاهد: وجد سفيان بن عبد الله الثقفى
عبية فيها مال عظيم، فجاء بها عمر بن الخطاب، فقال: عرفها
سنة، فعرفها سنة ثم جاءه، فقال: عرفها سنة فعرفها ثم جاءه
فقال: عرفها سنة، فعرفها ثم جاءه بها، فجعلها عمر فى بيت
مال المسلمين. وقد روى عن عمر ابن الخطاب
(6/545)
أن اللقطة تعرف سنة مثل قول الجماعة، وممن
روى عنه أنها تعرف سنة: على ابن أبى طالب، وابن عباس،
وسعيد بن المسيب، والشعبى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون،
والشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث زيد بن خالد
الجهنى. واختلف العلماء إذا جاء رب اللقطة بالعلامة هل
يلزمه إقامة البينة أنها له أم لا؟ فقال مالك والليث
وجماعة من أهل الحديث: إذا جاء بعلامتها وجب أن يأخذها،
ولم يكلف إقامة البينة. وبه قال أحمد بن حنبل، وقال أبو
حنيفة والشافعى: لا يأخذها إلا بعد إقامة البينة. قال ابن
القصار: وحجة مالك قوله عليه السلام: (اعرف وعاءها وعددها
ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها) ولم يقل: فإن
جاء صاحبها وأقام بينة، وإنما أمر الملتقط بمعرفة الوعاء
والوكاء ليضبطها، فإذا جاء طالبها وعرف صفتها سلمت إليه،
ولو لم يجب عليه دفعها إلى من يأتى بصفتها لم يكن لمعرفة
صفتها معنى، ولو كلف البينة لتعذر عليه، لأنه لا يعلم متى
تسقط فيشهد عليها من أجل ذلك. واحتج الآخرون بقوله عليه
السلام: (البينة على المدعى) ، وصاحب اللقطة مدع فلا
يستحقها إلا بالبينة، فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا:
البينة إنما تجب على المدعى إذا كان المدعى عليه ممن يدعى
الشىء المدعى فيه لنفسه. والملتقط لا يدعى اللقطة لنفسه،
ألا ترى أن الملتقط لو ادعى عليه اللقطة بغير صفة ولا بينة
وأنكر لم يكن عليه يمين، فعلم بهذا أن البينة إنما تجب فى
موضع يدعى عليه ذلك الشىء، وهو يدعيه لنفسه. قال ابن حبيب:
وأكثر ما يمكن فى اللقطة أن يقبل منه الصفة ويحلف
(6/546)
على ذلك، فيكون بمنزلة شاهد ويمين. وهو قول
سحنون، وقال سحنون: أصحابنا يقولون باليمين. وهو قول أشهب،
وقال: إن نكل عن اليمين لم يأخذها، ومن الناس من يقول: لا
يمين عليه. قال ابن القصار: وقول من رأى اليمين أحوط. وقال
الأبهرى: العلامة تقوم مقام اليمين، وهو الذى يقتضى
الحديث، ويدل عليه. واختلفوا إذا جاء بصفتها ودفعها إليه،
ثم جاء آخر فأقام بينة أنها له، فقال ابن القاسم: لا يضمن
الملتقط شيئًا؛ لأنه فعل ما وجب عليه، وهو أمين والشىء ليس
بمضمون عليه والحكم فيها عنده أن تقسم بين صاحب الصفة
وصاحب البينة، كما يحكم فى نفسين إذا ادعيا شيئًا وأقاما
بينة. وقال أشهب: إذا أقام الثانى البينة حُكم له بها على
الذى أخذها بالعلامة. وقال أبو حنيفة والشافعى: إذا أقام
الثانى البينة فعلى الملتقط الضمان. وقول ابن القاسم أولى؛
لأن الضمان لا يلزم فيما سبيله الأمانة، ولا خلاف عن مالك
وأصحابه أن الثانى إذا أتى بعلامتها بلا بينة أنه لا شىء
له.
- بَاب ضَالَّةِ الإِبِلِ
/ 2 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إلى
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُ،
فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرَفْ عِفَاصَهَا
وَوِكَاءَهَا،
(6/547)
فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا،
وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْهَا) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ
لِلذِّئْبِ) ، قَالَ: ضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ
وَجْهُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (مَا لَكَ
وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ
الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ) . قال أبو عبيد: العفاص:
الوعاء الذى تكون فيه النفقة من جلد كان أو غيره، ولهذا
يسمى الجلد التى تلبسه القارورة العفاص؛ لأنه كالوعاء لها،
والوكاء: الخيط الذى يشد به، وحذاؤها يعنى: أخفافها، يقول:
تقوى على السير وتقطع البلاد، وسقاؤها: يعنى أنها تقوى على
ورود المياه لتشرب والغنم لا تقوى على ذلك. واختلفوا فى
ضالة الإبل هل تؤخذ؟ قال مالك والأوزاعى والشافعى: لا
يأخذها ولا يعرفها؛ لنهيه - عليه السلام - عن ضالة الإبل.
وقال الليث: إن وجدها فى القرى عرفها، وفى الصحراء لا
يقربها. وقال الكوفيون: أخذ ضالة الإبل وتعريفها أفضل؛ لأن
تركها سبب لضياعها، قالوا: وأمر عمر بتعريف البعير يدل على
جواز ذلك، وإنما النهى عن أخذها لمن يأكلها، وهو معنى قول
عمر بن الخطاب: لا يأوى الضالة إلا ضال. وقد باع عثمان
ضوال الإبل، وحبس أثمانها على أربابها ورأى أن ذلك أقرب
إلى
(6/548)
جمعها عليهم لفساد الناس. قيل لهم: ترك عمر
لضوال الإبل أشبه لمعنى قوله - عليه السلام -: (معها
حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها)
وذلك أقرب إلى جمعها على صاحبها مع جور الأئمة؛ لأن صاحبها
لا يستطيع أن يخاصم فيها الإمام الجائر، ولا يجد من يحكم
له عليه، ويستطيع أن يخاصم فيها الرعية فيقضى له عليه
السلطان، وظاهر الحديث على تركها حيث وجدها والنهى عن
أخذها. قال ابن المنذر: وممن رأى أن ضالة البقر كضالة
الإبل: طاوس والأوزاعى، والشافعى. وقال مالك والشافعى فى
ضالة البقر: إن وجدت بموضع يخاف عليها فهى بمنزلة الشاة،
وإن كانت بموضع لا يخاف عليها فهى بمنزلة البعير. قال ابن
حبيب: والخيل والبغال والعبيد وكل ما يستقل بنفسه ويذهب هو
داخل فى اسم الضالة، وقد شدد رسول الله فى أخذ كل ما يرجى
أن يصل إلى صاحبه، فمن أخذ شيئًا من ذلك فى غير الفيافى
فهو كاللقطة، ومن أخذ شيئًا مجمعًا على أخذه ثم أرسله فهو
له ضامن، إلا أن يأخذه غير مجمع على أخذه مثل: أن يمر رجل
فى آخر الركب أو آخر الرفقة فيجد شيئًا ساقطًا، فيأخذه
وينادى من أمامه: لكم هذا؟ فيقال له: لا ثم يخليه فى مكانة
فلا شىء عليه فيه. فهذا قول مالك. قال غيره: وأما إن وجد
عرضًا فأخذه وعرفه فلم يجد صاحبه، فلا يجوز له رده إلى
الموضع الذى وجده فيه، فإن فعل وتلف ضمنه لصاحبه. وذكر ابن
المنذر عن الشافعى إن أخذ بعيرًا ضالا ثم أرسله فتلف فعليه
الضمان.
(6/549)
3 - بَاب ضَالَّةِ الْغَنَمِ
/ 3 - وفيه: زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: (اعْرِفْ
عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً) -
يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا
صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ. قَالَ يَحْيَى
بن سعيدٍ: فَهَذَا الَّذِى لاَ أَدْرِى أَفِى حَدِيثِ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ، أَمْ شَىْءٌ مِنْ
عِنْدِهِ - ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِى ضَالَّةِ
الْغَنَمِ؟ قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ
لِلذِّئْبِ) - قَالَ يَزِيدُ: وَهِىَ تُعَرَّفُ أَيْضًا -.
. . . الحديث. اختلف العلماء فى ضالة الغنم، فقال ابن
المنذر: روينا عن عائشة أنها منعت من ضالة الغنم ومن
ذبحها. وقال الليث: لا أحب أن تعرف ضالة الغنم إلا أن
يحرزها لصاحبها. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن أكلها فعليه
الضمان إذا جاء صاحبها. وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة
وسحنون. وقال مالك: ومن وجد شاة فى أرض فلاة وخاف عليها
فهو مخير فى تركها أو أكلها، ولا ضمان عليه. والحجة لمالك
أن النبى أذن فى أكل الشاة، وأقام الذى وجدها مقام ربها
وقال: (لك أو لأخيك أو للذئب) فإذا أكلها بإذن النبى لم
يجز أن يغرم فى حال ثان إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع.
قالوا: وهذا أصل فى كل ما يوجد من الطعام الذى لا يبقى
ويسرع إليه الفساد، فلمن وجده أكله إذا لم يمكنه تعريفه
ولا يضمنه لأنه فى معنى الشاة، والشاة فى حكم المباح الذى
لا قيمة له، ألا
(6/550)
ترى أن النبى - عليه السلام - وجد تمرة
فقال: (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) فإنما
نبه أنه يجوز أكلها من ملك الغير لو لم تكن من الصدقة؛
لأنها فى معنى التافه، فكذلك الشاة فى الفلاة لا قيمة لها.
واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: ليس قوله عليه السلام: (هى
لك أو لأخيك أو للذئب) على معنى التمليك، كما أنه إذا قال:
أو للذئب لم يرد به التمليك لأن الذئب لا يملك وإنما
يأكلها على ملك صاحبها، فينزل على أجر مصيبها، فكذلك
الواجد إن أكلها، أكلها على ملك صاحبها فإن جاء ضمنها له.
قالوا: وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، وهشام بن سعيد،
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (أن رجلا أتى النبى -
عليه السلام - فقال: يا رسول الله كيف ترى فى ضالة الغنم؟
قال: طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب، فاحبس على أخيك
ضالته) . فهذا دليل على أن الشاة على ملك صاحبها. وأجمع
العلماء أن صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لها أخذها
منه، وكذلك لو ذبحها أخذها منه مذبوحة، وكذلك لو أكل بعضها
أخذ ما وجد منها، فدل على أنا على ملك صاحبها فى الفلوات
وغيرها، ولا يزول ملكه عنها إلا بإجماع، ولا فرق بين قوله
فى الشاة: (هى لك أو لأخيك أو للذئب) وبين قوله فى اللقطة:
(فشأنك بها) بل هذا أشبه بالتمليك؛ لأنه لم يشرك معه فى
لفظ التمليك ذئبًا ولا غيره.
(6/551)
4 - بَاب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ
اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِىَ لِمَنْ وَجَدَهَا
/ 4 - فيه: زَيْد، سُأل رجل النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا
وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا، وَإِلاَ فَشَأْنَكَ بِهَا. . .) الحديث. وأجمع
أئمة الفتوى على أن اللقطة إذا عرفها سنة وانتفع بها
وأنفقها بعد السنة ثم جاء صاحبها أنه يرد عليها قيمتها
ويضمنها له، وليس قوله: (فشأنك بها) يبيح له أخذها ويسقط
عنه ضمانها؛ لما ثبت عنه عليه السلام فى اللقطة: (فإن جاء
صاحبها بعد السنة أدها إليه؛ لأنها وديعة عند ملتقطها)
وسيأتى تمام القول فى ذلك فى بابه - إن شاء الله - وخرق
الإجماع رجل نُسب إلى العلم يعرف بداود بن على، فقال: إذا
جاء صاحبها بعد السنة لم يضمنها ملتقطها؛ لأن النبى - عليه
السلام - أطلقه على ملكها بقوله: (فشأنك بها) فلا ضمان
عليه، ولا سلف له فى ذلك إلا اتباع الهوى والجرأة على
مخالفة الجماعة التى لا يجوز عليها تحريف التأويل ولا
الخطأ فيه، أعاذنا الله من اتباع والابتداع فى دينه مما لم
يأذن فيه عز وجل.
5 - بَاب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِى الْبَحْرِ أَوْ
سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه
السَّلام، ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ. . . .
وَسَاقَ الْحَدِيثَ، فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا
قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ
فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا،
وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ. . . . الحديث.
(6/552)
هذه الخشبة حكمها حكم اللقطة، قال المهلب:
وإنما أخذها حطبًا لأهله؛ لأنه قوى عنده انقطاعها عن
صاحبها لغلبة العطب على صاحبها وانكسار سفينته، وروى ابن
عبد الحكم عن مالك أنه قال: إذا ألقى البحر خشبة فتركها
أفضل. وقال ابن شعبان: فيها قول آخر: إن وجدها يأخذها،
فمتى جاء ربها غرم له قيمتها. واختلف العلماء فيما يفعل
باللقطة اليسيرة، فرخصت طائفة فى أخذها والانتفاع بها وترك
تعريفها، وممن روى ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى
طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول عطاء والنخعى وطاوس. قال
ابن المنذر: روينا عن عائشة فى اللقطة لا بأس بما دون
الدرهم أن يستمع به، وعن جابر بن عبد الله قال: كانوا
يرخصون فى السوط والحبل ونحوه إذا وجده الرجل ولم يعرف
صاحبه أن ينتفع به، وقال عطاء: لا بأس للمسافر إذ وجد
السوط والسقاء والنعلين أن يستمتع به وحديث الخشبة الحجة
لهذه المقالة، لأن النبى أخبر أنه أخذها حطبًا لأهله، ولم
يأخذها ليعرفها، وأقر النبى - عليه السلام - ذلك، ولم يذكر
أنه فعل ما لا ينبغى له. وأوجبت طائفة تعريف قليل اللقطة
وكثيرها حولا إلا ما لا قيمة له. قال ابن المنذر: روينا
ذلك عن أبى هريرة أنه قال فى لقطة الحبل والزمام ونحوه:
عرفه فإن وجدت صاحبه رددته عليه إلا استمتعت به. وهو قول
مالك والشافعى وأحمد ابن حنبل.
(6/553)
قال مالك: من وجد لقطة دينارًا أو درهمًا
أو أقل من ذلك فليعرفه سنة إلا الشىء اليسير مثل: القرص،
أو الفلس، أو الجوزة، أو نحو ذلك فإنه يتصدق به من يومه،
ولا أرى أن يأكله، ولا يأكل التمرات والكسرة إلا المحتاج،
وأما النعلان والسوط وشبه ذلك فإنه يعرفه، فإن لم يجد له
صاحبًا تصدق به، فإن جاء صاحبه غرمه. وهو قول الكوفيين إلا
فى مدة التعريف فإنهم قالوا: ما كان عشرة دراهم فصاعداُ
عرفه حولا، وما كان دون ذلك عرفه بقدر ما يراه. وقال
الثورى: تعرف الدراهم أربعة أيام. وقال أحمد: يعرفه سنة.
وقال إسحاق: ما دون الدينار يعرفه جمعة أو نحوها. وحجة هذه
المقالة قوله عليه السلام فى اللقطة: (اعرف عفاصها
ووكاءها) ، ولم يخص قليل اللقطة من كثيرها، فيجب على ظاهر
حديث زيد بن خالد أن يستوى حكم قليلها وكثيرها فى ذلك. قال
ابن المنذر: ولا أعلم شيئًا استثنى من جملة هذا الخبر إلا
التمرة التى منعه من أكلها خشية أن تكون من الصدقة، فما له
بقاء مما زاد على التمرة وله قيمة يجب تعريفه. واختلفوا
فيما لا يبقى إلى مدة التعريف، فقال مالك: يتصدق به أحب
إلى. قيل لابن القاسم: فإن أكله أو تصدق به وأتى صاحبه؟
قال: لا يضمنه فى قياس قول مالك على الشاة يجدها فى فيافى
الأرض. وفى قول الكوفيين: ما لا يبقى إذا أتى عليه يومان
أو يوم وفسد، قالوا: يعرفه فإن خاف فسادة تصدق به، فإن جاء
ربه
(6/554)
ضمنه. وهو قول الشافعى، وحجتهم أن ما كان
له رب فلا يملكه عليه أحد إلا بتملكه إياه قل أو كثر.
6 - بَاب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِى الطَّرِيقِ
/ 6 - فيه: أَنَس، مَرَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام،
بِتَمْرَةٍ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ: (لَوْلاَ أَنِّى
أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا) . /
7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (إِنِّى لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِى، فَأَجِدُ
التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِى، فَأَرْفَعُهَا
لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً
فَأُلْقِيهَا) . أما ما لا بال له ولا يتشاح الناس فيه ولا
يطلبونه كالتمرة والجوزة والتينة والعنابة والحبة من الفضة
وشبه ذلك، فلا يلزم فى شىء منه تعريف؛ لجواز أكله عليه
السلام للتمرة الساقطة لو لم تكن من الصدقة المحرم عليه
قليلها وكثيرها. فدل هذا الحديث على إباحة الشىء التافه
الملتقط، وأنه معفو عنه وخارج من حكم اللقطة؛ لأن صاحبه لا
يطلبه، فلذلك استحل النبى - عليه السلام - أكل التمرة لولا
شبهة الصدقة، وقد روى عبد الرزاق أن على بن أبى طالب التقط
حبة أو حبتين من رمان من الأرض فأكلها، وعن ابن عمر أنه
وجد تمرة فى الطريق فأخذها فأكلها نصفها، ثم لقيه مسكين
فأعطاه النصف الآخر.
(6/555)
7 - بَاب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ
مَكَّةَ؟
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام:
(لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَ مَنْ عَرَّفَهَا) .
وَقَالَ مرة: عَنْ النَّبىِّ: (لاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا
إِلاَ لِمُنْشِدٍ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم)
مَكَّةَ قَامَ فِى النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ
مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ
قَبْلِى، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ،
وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِى، وَلاَ يُنَفَّرُ
صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ
سَاقِطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ. . . .) الحديث. اختلف
العلماء فى لقطة مكة، فقالت طائفة: حكم لقطتها كحكم لقطة
سائر البلدان. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر
وابن عباس وعائشة وسعيد بن المسيب، وبه قال مالك وأبو
حنيفة وأحمد بن حنبل. وقالت طائفة: إن لقطتها لا تحل
البتة، وليس لواجدها إلا إنشادها. هذا قول الشافعى وابن
مهدى وأبى عبيد، قال ابن مهدى: معنى قوله: (لا تحل لقطتها)
، كأنه يريد البتة، فقيل له: إلا لمنشد؟ فقال: إلا لمنشد،
وهو يريد المعنى الأول، كما يقول الرجل: والله لأفعلن كذا
وكذا، ثم يقول: إن شاء الله، وهو لا يريد الرجوع عن يمينه،
ولكنه لقن شيئًا فلقنه فمعناه: أنه ليس يحل له منها إلا
إنشادها، فأما الانتفاع بها فلا يجوز.
(6/556)
وفيها قول ثالث: قال جرير بن عبد الله
الحميدى قوله: (إلا لمنشد) ، يعنى: إلا من سمع ناشدًا
يقول: من أصاب كذا، فحينئذ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا
رآها، لكى يردها على صاحبها، ومال إسحاق بن راهويه إلى هذا
القول، وقاله النضر بن شميل. وفيها قول رابع: يعنى: لا تحل
لربها الذى يطلبها. قال أبو عبيد هو جيد فى المعنى ولكن لا
يجوز فى العربية أن يقال للطالب: منشدًا إنما المنشد
المعرف، والطالب هو الناشد، يدل على ذلك أن الرسول سمع
رجلا ينشد ضالة فى المسجد فقال: (أيها الناشد غيرك الواجد)
، قال أبو عبيد: وليس للحديث وجه إلا ما قاله ابن مهدى.
قال المؤلف: ولو كان حكم لقطة مكة حكم غيرها؛ ما كان
لقوله: (لا تحل لقطتها إلا لمنشد) ، معنى تختص به مكة كما
تختص بسائر ما وكد فى هذا الحديث؛ لأن لقطة غيرها كذلك يحل
لمنشدها بعد الحول الانتفاع بها، فدل مساق هذا الحديث كله
على تخصيص مكة ومخالفة لقطتها لغيرها من البلدان، كما
خالفتها فى كل ما ذكر فى الحديث من أنها حرام لا تحل لأحد
ساعة من نهار بعد النبى - عليه السلام - وأنه لا ينفر
صيدها، ولا يختلى خلاها وغير ذلك مما خصت به من أنه لم
يستبح دماءهم ولا أموالهم، ولا جرى فيهم الرق كغيرهم. ومن
الحجة أيضًا لذلك أن الملتقط إنما يتملك اللقطة فى غير مكة
بعد الحول، حفظًا لها على ربها وحرزًا لها؛ لأنه لا يقدر
على إيصالها
(6/557)
إليه ويخشى تلفها، فيتملكها وتتعلق قيمتها
بذمته، ولقطة مكة يمكن إيصالها إلى ربها، لأنه إن كان من
أهل مكة فإن معرفته تقرب، وإن كان غريبًا لا يقيم بها فإنه
يعود إليها بنفسه أو يقدر على من يسير إلى مكة من أهل بلده
فيتعرف له ذلك؛ لأنها تقصد فى كل عام من أقطار الأرض، فإذا
كانت اللقطة فيها معرضة للإنشاد أبدًا أو شك أن يجدها
باغيها ويصل إليها ربها، فهذا الفرق بين مكة وسائر البلاد.
8 - بَاب لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ
/ 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
قَالَ: (لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى
مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ
طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ
مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ
مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِهِ) . قال: أجمع العلماء
أنه لا يجوز كسر قفل مسلم ولا ذمى، ولا أخذ شىء من ماله
بغير إذنه، وشبه رسول الله اللبن فى الضرع بالطعام المخزون
تحت الأقفال، وهذا هو قياس الأشياء على نظائرها وأشباهها،
أرانا رسول الله بهذا المثل قياس الأمور إذا تشابهت
معانيها، فوجب امتثال ذلك واستعماله خلافًا لقوله من أبطل
القياس. وقوله: (أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته)
فمعناه: أن يكره المسلم لأخيه المسلم ما يكرهه لنفسه، وهذا
فى معنى قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب عن نفس منه) . وأكثر العلماء يجيز أكل مال الصديق إذا
كان تافهًا لا يتشاح فى
(6/558)
مثله، وإن كان ذلك بغير إذنه ما لم يكن تحت
قفله، وقال أبو عبد الله ابن أبى صفرة: وهذا الحديث لا
يعارض حديث الهجرة حين قال أبو بكر للراعى: (لمن أنت؟ قال:
لرجل من قريش، قال: هل أنت حالب لنا؟) لأن حديث الهجرة فى
زمن المكارمة، وهذا الحديث فى زمن التشاح لما علم عليه
السلام أنه سيكون من تغير الأحوال بعده. قال المهلب: مع أن
قوله عليه السلام: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه) ،
نهى عن التسور والاحتلاب، وحديث الهجرة لم يتسور النبى -
عليه لاسلام - ولا أبو بكر، وإنما سأل أبو بكر الراعى وقال
له: هل أنت حالب لنا؟ والراعى فى المال له عادة العرب من
الحلب فلذلك أجاز النبى - عليه السلام - شرب ما حلب
الراعى، وكذلك عادة العرب فى الحلب على الماء ولابن السبيل
مباحة له، وكل مسترعى له مثل ذلك فى الذى استرعى، كالمرأة
فى بيت زوجها تعطى اللقمة من ماله والتمرات وكف الطعام
فقال عليه السلام: (إنها أحد المتصدقين) . وقال أشهب:
خرجنا مرابطين إلى الإسكندرية فمررنا بجنان الليث بن سعد،
فأكلنا من التمر، فلما رجعت دعتنى نفسى أن أستحل ذلك من
الليث بن سعد، فدخلت إليه، فأخبرته بذلك، فقال لى: يا ابن
أخى، لقد نسكت نسكًا أعجميًا، أما سمعت الله يقول: (أو
صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتا (فلا
بأس
(6/559)
أن يأكل الرجل من مال أخيه الشىء التافه
ليسره بذلك. وروى ابن وهب عن مالك فى الرجل يدخل الحائط
فيجد الثمر ساقطًا، قال: لا تأكل منه إلا أن تعلم أن صاحب
الحائط طيب النفس به، أو يكون محتاجًا إلى ذلك فأرجو ألا
يكون به بأس.
9 - بَاب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ
رَدَّهَا عَلَيْهِ لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ
/ 10 - فيه: زَيْد، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا
سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ
اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا
إِلَيْهِ. . . . .) ، الحديث. أجمع أئمة الفتوى على أن
صاحب اللقطة إذا جاء بعد الحول أن الذى وجدها يلزمه ردها
إليه؛ لقوله عليه السلام: (فإن جاء صاحبها فأدها إليه) وقد
ذكرنا قبل هذا أن بعض من نسب إلى العلم وحظه من أن يوسم
بمخالفة الأئمة خالف إجماعهم فى اتباع هذا الحديث، وخالف
قوله عليه السلام: (فأدها إليه) وقال: لا يؤدى إليه شيئًا
بعد الحول استدلالا منه بقوله عليه السلام: (فشأنك بها) ،
قال: لأن هذا إطلاق منه عليه السلام على ملكها فلا يلزمه
تأديتها. وهذا قول يؤدى إلى تناقض السنن، وقد جل الرسول عن
أن يتناقض. وقوله عليه السلام: (فأدها إليه) فيه بيان
وتفسير لقوله
(6/560)
عليه السلام: (فشأنك بها) ولو كان المراد
بقوله: (فشأنك بها (إطلاق يده عليها، وسقوط ضمانها عنه؛
لبطلت فائدة قوله: (فأدها إليه (واستعمال الحديثين
لفائدتين أولى من إسقاط أحدهما، هذه طريقة العلماء فى
التأليف بين الآثار، والقضاء بالمجمل على المفسر. واختلفوا
هل للواجد بعد الحول أن يأكلها أو يتصدق بها فروى عن على
وابن عباس أنه يتصدق بها ولا يأكلها، وهو قول سعيد بن
المسيب والحسن والشعبى، وإليه ذهب الثورى، وقال أبو حنيفة:
لا يأكلها الغنى، إلا أن يكون فقيرًا فيأكلها، ثم إن جاء
صاحبها ضمنها، وروى ابن القاسم عن مالك انه استحب له أن
يتصدق بها وروى عنه ابن وهب أنه إن شاء أمسكها، وإن شاء
استنفقها، وإن شاء تصدق بها، فإن جاء صاحبها أداها إليه.
وروى مثل هذا عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة، وهو قول
عطاء، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. وقوله عليه السلام -
بعد الحول -: (ثم استنفق بها) حجة لمن قال: يصنع ما شاء من
صدقة بها، أو أكل، أو غيره لعموم قوله عليه السلام:
(استنفق بها) ولم يخص وجهًا يستنفقها فيه من غيره، وأيضًا
فإنه عليه السلام لما قال: (استنفق بها) ولم يفرق بين
الغنى والفقير دل على قول أبى حنيفة. وإنما لم يذكر
البخارى فى هذا الباب رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن
سعيد أنه قال: وكانت وديعة عنده. وذكرها فى باب ضالة
الغنم؛ لأنه قد بين سليمان فى الحديث أن يحيى بن سعيد قال:
عن يزيد قال: لا أدرى أفى حديث النبى
(6/561)
- عليه السلام - هو أم من عنده. فاستراب
البخارى بهذا الشك، وترجم بالمعنى ولم يذكره فى الحديث؛
لأنه استغنى بقوله: (فأدها إليه) عن قوله: (وكانت وديعة
عنده) .
- بَاب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا حَتَّى
تَضِيعُ وَيَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ
/ 11 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، كُنْتُ مَعَ
سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِى
غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَالاَ لِى: أَلْقِهِ،
فَقُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ، وَإِلاَ
اسْتَمْتَعْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا،
فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَىَّ بْنَ
كَعْبٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ،
فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً،
ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ،
فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ،
فَقَالَ: (اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا،
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ اسْتَمْتِعْ بِهَا) .
اختلف العلماء فى اللقطة هل أخذها أفضل أم تركها؟ فكرهت
طائفة أخذها، ورأوا تركها أفضل، روى ذلك عن ابن عمر وابن
عباس، وهو قول عطاء، وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذ
اللقطة والآبق، فإن أخذ ذلك وضاعت اللقطة وأبق الآبق من
غير تضييعه لم يضمن، وكره أحمد بن حنبل أخذ اللقطة أيضًا.
وقالت طائفة: أخذها وتعريفها أفضل من تركها. هذا قول سعيد
بن المسيب، وقال أبو حنيفة وأصحابه: تركها سبب لضياعها.
وبه
(6/562)
قال الشافعى، وروى عن مالك: إن كان شىء له
بال فأخذه وتعريفه أحب إلى. وحجة القول الأول حديث جرير أن
النبى - عليه السلام - قال: (لا يأوى الضالة إلا ضال)
وحديث الجارود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ضالة
المؤمن حرق النار) . وحجة من رأى أن تعريفها أفضل قول
النبى، عليه السلام، للذى سأله عن اللقطة: (أعرف عفاصها
ووكاءها) ، فأمره بتعريفها ولم يقل له: لم أخذتها؟ وذلك
دليل على أن الفضل فى أخذها وتعريفها لأن تركها عون على
ضياعها ومن الحق النصيحة للمسلم، وأن يحوطه فى ماله بما
أمكنه، وتأويل قوله عليه السلام: (لا يأوى الضالة إلا ضال)
و (ضالة المؤمن حرق النار) أن المراد بذلك من لم يعرفها
وأراد الانتفاع بها حتى لا تتضاد الأخبار. قال الطحاوى:
ويدل على ذلك ما روى يحيى بن أيوب قال: حدثنى عمرو بن
الحارث، أن بكر بن سوادة، حدثه عن أبى سالم الجيشانى، عن
زيد بن خالد الجهنى قال: قال رسول الله: (من أوى الضالة
فهو ضال ما لم يعرفها) . وروى شعبة عن خالد الحذاء، عن
يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبى مسلم، عن الجارود قال:
(أتينا على رسول الله ونحن على إبل عجاف فقلنا: يا رسول
الله، إنا نمر بالجدف فنجد إبلا فنركبها؟ فقال: ضالة
المسلم حرق النار) فكان سؤالهم عن أخذها إنما هو لأن
يركبوها، فأجابهم عليه السلام بأن قال: (ضالة المسلم حرق
النار) ، أى: ضالة المسلم حكمها أن تحفظ على صاحبها حتى
تؤدى إليه، لا لأن ينتفع بها لركوب ولا غيره.
(6/563)
- بَاب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ
يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ
/ 12 - فيه: زَيْد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ:
(عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ
بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا، وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا.
. .) ، الحديث. ولا يجب عند جماعة العلماء على ملتقط
اللقطة إن لم تكن ضالة من الحيوان أن يدفعها إلى السلطان،
وإنما معنى هذه الترجمة أن السنة وردت بأن واجد اللقطة هو
الذى يعرفها دون غيره؛ لقوله عليه السلام: (عرفها سنة، فإن
جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) لأنهم اختلفوا فى الملتقط إن
كان غير مأمون على اللقطة على قولين: أحدهما: أنه يعرفها
سنة، وليس للسلطان أخذها منه. والثانى: أن للسلطان أخذها
منه ويدفعها إلى ثقة يعرفها. واختلف قول الشافعى على هذين
القولين، وأما حكم الضوال فإنها تحتاج إلى حرز ومؤنة، وهذا
لا يكون إلا بحكم حاكم، ولهذا كانت تدفع ضوال الإبل على
عمر وعثمان وسائر الخلفاء بعدهما. واختلفوا إذا التقط لقطة
فضاعت عنده، فقال أبو حنيفة وزفر: إن أشهد أنه أخذها
ليعرفها لم يضمنها إن هلكت، وإن لم يشهد ضمنها. واحتج
بحديث عياض بن حمار أن النبى - عليه السلام - قال: (من
التقط لقطة فليشهد ذوى عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء
صاحبها، وإلا فهو مال من مال الله يؤته من يشاء) ، رواه
خالد الحذاء عن يزيد ابن الشخير، عن مطرف بن الشخير، عن،
عياض، عن النبى - عليه السلام.
(6/564)
وقال مالك وأبو يوسف ومحمد والشافعى: لا
ضمان عليه إن هلكت من غير تضييع منه وإن لم يشهد. وحجتهم
إجماع العلماء أن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه
غصبها لم يدخلها إشهاده ذلك فى حكم الأمانات، فكذلك ترك
الإشهاد على الأمانات لا يدخلها فى حكم المغصوبات ولا خلاف
أن الملتقط أمين لا يضمن إلا بما تضمن به الأمانات من
التعدى والتضييع. وأما حديث عياض بن حمار فمعناه: أن
الملتقط إذا لم يعرف اللقطة ولم يشهدها وكتمها، ثم قامت
عليه بينة أنه وجد لقطة وضمها إلى ماله ثم ادعى تلفها، أنه
لا يصدق ويضمنها؛ لأنه بفعله ذلك خارج عن الأمانة، إلا أن
تقوم البينة على تلفها، وأما إذا عرفها فى المحافل ولم
يشهد فلا ضمان عليه. وقوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من
يشاء) ، فإنه يريد انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول ثم
يضمنها لصاحبها إن جاء بإجماع.
- باب
/ 13 - فيه: أَبُو بَكْر، انْطَلَقْتُ، فَإِذَا أَنَا
بِرَاعِى غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّاهُ
فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِى غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِى؟
قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ
غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ
الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ،
فَقَالَ: هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى
(6/565)
كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ كُثْبَةً
مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ
عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ
إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: اشْرَبْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ. قال
المؤلف: سألت بعض شيوخى عن وجه استجازة أبى بكر الصديق
لشرب اللبن من ذلك الراعى، فقال لى: يحتمل أن يكون النبى -
عليه السلام - قد كان أذن له فى الحرب، وكانت أموال
المشركين له حلالا فعرضته على المهلب بن أبى صفرة فقال لى:
ليس هذا بشىء، لأن الحرب والجهاد إنما فرض بالمدينة، وكذلك
المغانم إنما نزل تحليلها يوم بدر بنص القرآن. قال: وإنما
شرب رسول الله وأبو بكر ذلك اللبن بالمعنى المتعارف عندهم
فى ذلك الزمن من المكارمات، وبما استفهم به أبو بكر الراعى
من أنه حالب أو غير حالب، ولو كان بمعنى الغنيمة ما
استفهمه، ولحلب ما أراد الراعى أو كره، ولساق الغنم غنيمة،
ولقتل الراعى إن شاء أو أخذه أسيرًا. والدليل على صحة هذا
التأويل وأن شرب اللبن كان على وجه العادة عندهم ما ذكره
أبو على البغدادى، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال أبو
عثمان السامدانى: عن الثورى، عن أبى عبيدة قال: مر رجل من
أهل الشام بامرأة من كلب فقال لها: هل من لبن يباع؟ فقالت:
إنك للئيم أو حديث عهد بقوم لئام، هل يبيع الرسل كريم أو
يمنعه إلا لئيم؟ إنا لندع الكوم لأضيافنا تكوس إذا عكف
الزمن الضروس ونغلى اللحم غريضًا ونهبته نضيجًا.
(6/566)
قال أبوعلى: الرسل: اللبن، وتكوس: تمشى على
ثلاث، وتغلى: من الغلا. قال المهلب: وقد قال أخى أبو عبد
الله: إن هذا الحديث لا يعارض قوله - عليه السلام -: (لا
يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه) ، لأن هذا قاله عليه
السلام لما علم أنه سيكون من التشاح وقله المواساة. قال
المهلب: والحديث معناه: لا يهجمن أحدكم على ماشية غيره
فيحلبها بغير إذنه أو غير إذن راعيها الذى له حكم العادات
فيما استرعى فيه من المعروف، فكان بين الحديثين فرق يمنع
من التعارض، فى حديث أبى بكر من الأدب والتنظف ما صنعه أبو
بكر من أمره بنفض يدى الراعى، ونفض الضرع، وخدمته للنبى -
عليه السلام - وإلطافه به ما يجب أن يتمثل به فى كل عالم
وإمام عادل - والله الموفق - وقد ذكرت تفسير الكثبة فى هذا
الحديث وفى كتاب الأشربة فى باب شرب اللبن.
(6/567)
|