شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
37 - كِتَاب الاسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ،
وَالْحَجْرِ، وَالتَّفْلِيسِ
- بَاب مَنِ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ
ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ
/ 1 - فيه: جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، فَقَالَ: (كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ أَتَبِيعَهِ)
؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ،
فَأَعْطَانِى ثَمَنَهُ. / 2 - وفيه: الأَعْمَشُ،
تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى
السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ
عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى
طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ
دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ
عنه من أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم
والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وكل ما له مثل من سائر
الأطعمة جائز، والشراء بالدين مباح؛ لقوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (ألا
ترى أن النبى اشترى الجمل من جابر فى سفره ولم يقضه ثمنه
إلا بالمدينة، وكذلك اشترى الشعير من اليهودى إلى أجل،
فكان ذلك كله سننًا.
(6/512)
- بَاب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ
يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلاَفَهَا
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ
أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ
إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) . هذا الحديث شريف
ومعناه: الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها،
وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله فى كتابه
أكل أموال الناس بالباطل، وخطب النبى - عليه السلام - بذلك
فى حجة الوداع، فقال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
يعنى: من بعضكم على بعض، وفى حديث أبى هريرة أن الثواب قد
يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون من جنس الذنوب،
لأنه جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه
إتلاف الله له.
3 - بَاب أَدَاءِ الدَّيْنِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا (الآية
. / 4 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ،
عليه السَّلام، فَلَمَّا أَبْصَرَ، يَعْنِى أُحُدًا،
قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِى ذَهَبًا
يَمْكُثُ عِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَ
دِينَارًا
(6/513)
أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ. . . . . الحديث. قال
المهلب: هذه الآية أصل فى أداء الأمانات وحفظها، ألا ترى
أن النبى لم يحب أن يبقى عنده من مثل أحد ذهبًا فوق ثلاث
إلا دينار أرصده لدين، فدل هذا الحديث على ما دلت الآية
عليه من تأكيد أمر الدين والحض على أدائه. قال المؤلف: وفى
هذا الحديث دليل على الاستدانة بيسير الدين اقتداءً بالنبى
- عليه السلام - فى إرصاده دينارًا لدينه، ول كان عليه
مائة دينار أو أكثر لم يرصد لأدائها دينارًا؛ لأنه عليه
السلام كان أحسن الناس قضاءً، وبان بهذا الحديث أنه ينبغى
للمؤمن ألا يستغرق فى كثرة الدين؛ خشية الاهتمام به،
والعجز عن أدائه، وقد استعاذ الرسول بالله من ضلع الدين،
واستعاذ من المأثم والمغرم، وقال: (إن الرجل إذا غرم حدث
فكذب، ووعد فأخلف) . فقد جاء فى خيانة الأمانة من الوعيد
ما رواه إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد ابن المثنى قال:
حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن
السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: إن القتل فى
سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الدين والأمانة، قال: وأعظم ذلك
الأمانة تكون عند الرجل فيخونها فيقال له يوم القيامة: أد
أمانتك، فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: نحن
نريكها، قال: فتمثل له فى قعر جهنم، فيقال له: انزل
فأخرجها، قال: فينزل فيحملها على عنقه حتى إذا كاد زلت،
فهوت وهوى فى أثرها أبد الأبد. قال: والأمانة فى كل شىء
حتى فى الصلاة والصيام والوضوء
(6/514)
والغسل من الجنابة، والأمانة فى الكيل
والوزن. وقال الربيع بن أنس: الأمانة ما أمروا به، وما
نهوا عنه.
4 - بَاب اسْتِقْرَاضِ الإِبِلِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً تَقَاضَى
النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ
أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ
مَقَالاً وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ
إِيَّاهُ، قَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَ أَفْضَلَ مِنْ
سِنِّهِ، قَالَ: (اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ
فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) . وترجم له (باب
هل يعطى أكبر من سنه، وباب حسن القضاء) . اختلف العلماء فى
استقراض الحيوان فأجاز ذلك مالك والشافعى وأحمد وإسحاق،
واحتجوا بهذا الحديث، ولا يحل عند مالك وأهل المدينة
استقراض الإماء؛ لأن ذلك ذريعة إلى استحلال الفرج. ومنع
ذلك الكوفيون وقالوا: لا يجوز استقراض الحيوان؛ لأن وجود
مثله متعذر غير موقوف عليه، وقالوا: يحتمل أن يكون حديث
أبى هريرة قبل تحريم الربا، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل
قرض جر منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها، فلم
يجز القرض إلا فيما له مثل. وحجة من أجاز ذلك قالوا: محال
أن يستقرض النبى شيئًا لا يقدر على أداء مثله، ولا يضبط
ذلك بصفة، ولو لم يكن له
(6/515)
إلى رد مثله سبيل لم يستقرضها؛ إذ كان عليه
السلام أبعد الخلق من ظلم أحد. واحتج مالك لتفريقه بين
الإماء وجميع الحيوان فقال: قد أحاط الله ورسوله والمسلمون
الفروج، فجعل المرأة لا تنكح إلا بولى وشهود، ونهى النبى
أن يخلو بها رجل فى حضر أو سفر، ولم يحرم ذلك فى شىء مما
أحل غيرها، فجعل الأموال مرهونة ومبيعة بغير بينة، ولم
يجعل المرأة هكذا حتى حاطها فيما حللها بالولى والشهود
ففرقنا بين حكم الفروج وغيرها بما فرق الله ورسوله
والمسلمون بينها. وقال أهل المقالة الأولى: وأيضًا فإنه
يجوز أن يرد أفضل مما استلف إذا لم يشرط ذلك عليه؛ لأن
الزيادة فى ذلك من باب المعروف، استدلالا بحديث أبى هريرة،
وهو قول ابن عمر وابن المسيب والنخعى والشعبى وعطاء، وبه
قال الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وجماعة. واختلف أصحاب
مالك فى ذلك، فقال ابن حبيب: لا بأس أن يرد أفضل مما اسقرض
فى العدد والجود؛ لأن الآثار جاءت بأن النبى - عليه السلام
- رد أكثر عددًا فى طعام. وأجاز أشهب أن يزيده فى العدد
إذا طابت نفسه بذلك. وقال ابن نافع: لا بأس أن يعطى أكثر
عددًا إذا لم يكن ذلك عادة. وقال مالك: لا يجوز أن يكون
بزيادة فى العدد، وإنما يصلح أن تكون فى الجودة. وقال ابن
القاسم: لا يعجبنى أن يعطيه أكثر فى العدد ولا فى الذهب
والورق إلا اليسير مثل الرجحان فى
(6/516)
الوزن والكيل، ولو زاد بعد ذلك لم يكن به
بأس. وهو قول مالك، وإنما لم يجز أن يشترط أن يأخذ أفضل؛
لأنه يخرج من باب المعروف ويصير ربا، ولا خلاف بين العلماء
أن اشتراط الزيادة فى ذلك ربا لا يحل.
5 - بَاب حُسْنِ التَّقَاضِي
/ 6 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام:
(مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ
النَّاسَ فَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأَتَجَوَّزُ عَنِ
الْمُعْسِرِ، فَغُفِرَ لَهُ) ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ:
سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِىِّ عليه السَّلام. قال المؤلف: فى
هذا الحديث ترغيب عظيم فى حسن التقاضى، وان ذلك مما يدخل
الله به الجنة، وهذا المعنى نظير قوله: (خيركم أحسنكم
قضاء) ، فجاء الترغيب فى كلا الوجهين فى حسن التقاضى لرب
الدين وفى حسن القضاء للذى عليه الدين، كل قد رغب فى الأخذ
بأرفع الأحوال، وترك المشاحة فى القضاء والاقتضاء،
واستعمال مكارم الأخلاق فى البيع والشراء والأخذ والإعطاء،
وقد جاء هذا كله فى حديث جابر أن النبى - عليه السلام -
قال: (رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا
اقتضى) . ذكره فى أول كتاب البيوع.
(6/517)
6 - بَاب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ
حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ / 7 - فيه: جَابِر، أَنَّ
أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،
فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِى حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ
النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا
تَمْرَ حَائِطِى، وَيُحَلِّلُوا أَبِى، فَأَبَوْا، فَلَمْ
يُعْطِهِمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حَائِطِى، وَقَالَ:
(سَنَغْدُو عَلَيْكَ) ، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ،
فَطَافَ فِى النَّخْلِ وَدَعَا فِى ثَمَرِهَا
بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِىَ
لَنَا مِنْ تَمْرِهَا. وترجم له باب من أخر الغريم إلى
الغد أو نحوه ولم ير ذلك مطلا هكذا وقعت هذه الترجمة فى
النسخ كلها باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، والصواب
إذا قضى دون حقه وحلله بغير ألف، لأنه لا يجوز أن يقضى رب
الدين دون حقه ويسقط مطالبته بباقيه إلا أن حلل منه. ولا
خلاف بين العلماء أنه لو حلله من جميع الدين أو أبرأ ذمته
أنه جائز، فكذلك إذا حلله من بعضه، وأما تأخير الغريم
الواحد إلى الغد فهو مرتبط بالعذر، وأما من قدر على الأداء
فلا يمطل به؛ لقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) ، وإنما
أخر جابر غرماءه رجاء بركة النبى - عليه السلام - لأنه كان
وعده أن يمشى معه على التمر ويبارك فيها، فحقق الله رجاءه،
وظهرت بركة النبى، وثبتت أعلام نبوته.
(6/518)
وفيه من الفقه: مشى الإمام فى حوائج الناس،
واستشفاعه فى الديون، وقد ترجم لذلك.
7 - بَاب إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِى الدَّيْنِ
تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ
/ 8 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّىَ، وَتَرَكَ
عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ،
فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ،
فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) فَكَلَّمَ الْيَهُودِىَّ لِيَأْخُذَ
ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِى لَهُ، فَأَبَى، فَدَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) النَّخْلَ فَمَشَى
فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: (جُدَّ لَهُ، فَأَوْفِ
لَهُ الَّذِى لَهُ) ، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ
وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا،
فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِى كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّى
الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ،
فَقَالَ: (أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ) ، فَذَهَبَ
جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. قال المؤلف: لا
يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا
مجازفة فى دينه؛ لأن ذلك من الغرر والمجهول، وذلك حرام
فيما أمر فيه بالمماثلة، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة فى حقه
أقل من دينه إذا علم ذلك وتجاوز له، وهذا المعنى بين فى
حديث جابر، لأن النبى - عليه السلام - حين كلم اليهودى أن
يأخذ تمر
(6/519)
النخل بالذى على أبى جابر وأبى اليهودى من
ذلك، ثبت أن تمر النخل لا يفى بالدين، وأنه أقل مما كان
يلزمه غرمه، وقد جاء هذا منصوصًا فى هذا الحديث. ذكره فى
كتاب الصلح فى باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث، وفيه
قال: (فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه فأبوا،
ولم يروا أن فيه وفاء) وقد يجوز فى باب حسن القضاء أن
يزيده من صفته، وإنما تحرم الزيادة بالشرط، وقال فى باب
الشفاعة وفى وضع الدين، فأرجف الجمل يقال: أرجف البعير إذا
أعيا فخر برسنه، ورجف أيضًا.
8 - بَاب مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام،
كَانَ يَدْعُو فِى الصَّلاَةِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ
إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) ،
فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مِنَ الْمَغْرَمِ، قَالَ: (إِنَّ
الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ
فَأَخْلَفَ) . قال المهلب: فيه وجوب قطع الذارئع؛ لأنه
عليه السلام إنما استعاذ من الدين؛ لأنه ذريعة إلى الكذب،
والخلف فى الوعد مع ما يقع المديان تحته من الذلة، وما
لصاحب الدين عليه من المقال - والله أعلم - فإن قيل: فقد
عارض هذا الحديث ما رواه جعفر ابن محمد عن أبيه، عن عبد
الله بن جعفر، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (إن الله
مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله -
تعالى) ،
(6/520)
وكان عبد الله بن جعفر يقوله لحارثة: اذهب
فخذ لى بدين، فإنى أكره أن أبيت الليلة إلا والله معى. قال
الطبرى: كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما دفع معنى الآخر،
فأما قوله عليه السلام: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه
ما لم يكن فيما يكره الله) ، فهو المستدين فيما لا يكرهه
الله، وهو يريد قضاءه، وعنده فى الأغلب ما يؤديه منه فالله
- تعالى - فى عونه على قضائه. وأما المغرم الذى استعاذ منه
عليه السلام فإنه الدين الذى استدين على أوجه ثلاثة: إما
فيما يكرهه الله ثم لا يجد سبيلاً إلى قضائه، أو مستدين
فيما لا يكرهه الله ولكن لا وجه لقضائه عنده، فهو متعرض
لهلاك مال أخيه ومتلف له، أو مستدين له إلى القضاء سبيل
غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه ظالم
لنفسه، فكل هؤلاء لوعدهم إن وعدوا من استدانوا منه القضاء
يخلفون، وفى حديثهم كاذبون لوعدهم. وقد صحت الأخبار عنه
عليه السلام أنه استدان فى بعض الأحوال، فكان معلومًا بذلك
أن الحال التى كره ذلك - عليه السلام - فيها غير الحال
التى ترخص لنفسه فيها. وقد استدان السلف: استدان عمر بن
الخطاب وهو خليفة، وقال لما طعن: انظروا كم على من الدين،
فحسبوه فوجوده ثمانين ألفًا أو أكثر، وكان على الزبير دين
عظيم ذكره البخارى. فمما ثبت عن النبى - عليه السلام - وعن
السلف من استدانتهم
(6/521)
الدين مع تكريههم له إلى غيرهم الدليل
الواضح على اختلاف الأمر فى ذلك كان على قدر اختلاف حال
المدينين.
9 - بَاب الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا
/ 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ
تَرَكَ كَلاً فَإِلَيْنَا. . . .) الحديث. هذا الحديث ناسخ
لترك النبى الصلاة على مات وعليه دين، وقد تقدم هذا المعنى
مستوعبًا فى كتاب الكفالة فى باب من تكفل عن ميت دينًا،
فكرهنا إعادته.
- بَاب مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ) .
- بَاب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ
وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام أَنَّهُ قَالَ:
(لَىُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ) ،
قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ، أَنْ يَقُولُ: مَطَلْنِى،
وَعُقُوبَتُهُ: الْحَبْسُ. / 12 - وذكر حديث أَبِى
هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:
(دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً) . إذا
مطله وهو غنى فقد ظلمه، والظلم محرم قليله وكثيره. وقال
أصبغ وسحنون: إذا مطل بدين لم تجز شهادته؛ لأن
(6/522)
الرسول سماه ظالمًا. وعند غيرهما من
العلماء لا تسقط شهادته إلا أن يكون ذلك الأغلب من فعله.
وفسر الفقهاء قوله عليه السلام: (لى الواجد يحل عرضه
وعقوبته) كما فسره سفيان، وهو كقوله عليه السلام: (لصاحب
الحق مقال) ، أى له أن يصفه بالمطل، وقالوا: قد جاء فى
القرآن مصداق هذا، قال تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء
من القول إلا من ظلم (وهذه الآية نزلت فيمن منع الضيافة،
فأبيح له أن يقول فى المانع أنه لئيم، وأنه لم يقره، وشبه
هذا. وأما عقوبته بالحبس فإن ذلك إذا رُجى له مال أو وفاء
بما عليه، فإذا ثبت عسرته وجبت نظرته ولم يلزمه حبس؛ لزوال
العلة الموجبة لحبسه، وهى الوجدان. واختلفوا فى الرجل إذا
ثبتت عسرته وأطلقه القاضى من السجن، هل يلازمه غريمه؟ فقال
مالك والشافعى: ليس لغرمائه لزومه ولا يعترض له حتى يثوب
له مال آخر. وقال أبو حنيفة: لا يمنع الحاكم غرماءه من
لزومه. قال الطحاوى: وقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم)
يدل أن مطل غير الغنى ليس بظلم، فلا مطالبة عليه إذًا،
وإذا سقطت المطالبة زالت الملازمة. وقوله: (فنظرة إلى
ميسرة (يوجب تأخيره، فصار كالدين المؤجل فيمنع من لزومه.
(6/523)
- بَاب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ
مُفْلِسٍ فِى الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ
أَحَقُّ بِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ
يَجُزْ عِتْقُهُ، وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ. وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنِ اقْتَضَى
مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ، فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ
عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. / 13 -
فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ
رَجُلٍ، أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ
بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فروى
عن عثمان بن عفان وعلى وابن مسعود وأبى هريرة: أن المشترى
إذا أفلس ووجد البائع متاعه بعينه فهو أحق به من سائر
الغرماء. وهو قول عروة بن الزبير، وإليه ذهب مالك،
والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث.
وروى عن النخعى والحسن البصرى أن البائع أسوة الغرماء، وهو
قول أبى حنيفة وأصحابه، ودفعوا حديث التفليس بالقياس
وقالوا: السلعة مال المشترى، وثمنها فى ذمته، ومن باع
شيئًا فله إمساكه وحبسه حتى يستوفى الثمن، كما أن المرتهن
له حق الحبس وإمساك الرهن ليستوفى حقه من ثمنه. ثم قد ثبت
أن المرتهن لو أبطل حق الحبس، وأزال يده عن الرهن وسلمه
إلى الراهن، لم يكن له بعد ذلك الرجوع فيه، فكذلك البائع
إذا أزال يده عن المبيع وسلمه إلى المشترى فقد تعلق حقه
بالذمة المجردة. والسنة مستغنى بها عن قول كل أحد، ولا
مدخل للقياس والنظر إلا إذا عدمت السنة، وأما مع وجودها
فهى حجة على من خالفها،
(6/524)
وأيضًا فإن البائع إذا نقل حقه من العين
إلى الذمة وتعذر قبضه من الذمة بالفلس، وجب أن يكون له
الرجوع إلى العين مع بقائها. فإن قال الكوفيون: نتأول قوله
عليه السلام: (فهو أحق به) على المودع والمقرض دون البائع،
قيل: هذا فاسد، لأنه عليه السلام جعل لصاحب المتاع الرجوع
إذا وجده بعينه، والمودع أحق بعين ماله سواء كان على صفته
أو قد تغير عنها، فلم يجز حمل الخبر عليه، ووجب حمله على
البائع، لأنه إنما يرجع بعين ماله إذا وجده على صفته لم
يتغير، فإذا تغير فإنه لا يرجع. وذهب مالك إلى أن صاحب
المتاع أحق به إذا وجده فى الفلس وهو فى الموت أسوه
الغرماء، وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعى: هو فى الفلس
والموت سواء، واحتج بما رواه ابن أبى ذئب عن أبى المعتمر
عمرو بن نافع، عن عمرو بن خلدة الزرقى، عن أبى هريرة، عن
النبى - عليه السلام - قال: (من مات أو أفلس فوجد رجل
متاعة فهو أحق به) وأبو المعتمر ضعفه ابن معين، وقال أبو
داود: لا يعرف. وحجة مالك فى تفرقته بين الفلس والموت أن
المفلس ذمته باقية، وللغرماء ذمة يرجعون إليها، وفى الموت
تبطل الذمة أصلا، فلا يكون للغرماء شىء يرجعون إليه، ولا
يجوز أن ينظر لبعضهم دون بعض، وقد فرقت السنة فى الفلس بين
الموت والحياة، روى مالك عن ابن شهاب، عن أبى بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث، أن
(6/525)
رسول الله قال: (أيما رجل باع متاعًا فأفلس
الذى ابتاعه منه، ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئًا فوجده
بعينه فهو أحق به، وإن مات الذى ابتاعه فصاحب المتاع فيه
أسوة الغرماء) .
- بَاب مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوِ الْمُعْدِمِ
فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى
يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
/ 14 - فيه: جَابِر، أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ عَنْ
دُبُرٍ، فَقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ
يَشْتَرِيهِ مِنِّى؟) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ
عَبْدِاللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. لا
يفهم من الحديث معنى قوله فى الترجمة: فقسمه بين الغرماء؛
لأن الذى باع عليه رسول الله مدبره لم يكن له مال غيره،
ذكره فى كتاب الأحكام ولم يذكر فى الحديث أنه كان عليه
دين، وإنما باعه عليه؛ لأن من سنته عليه السلام أن لا
يتصدق المرء بماله كان ويبقى فقيرًا فيتعرض لفتنة الفقر،
ولذلك قال عليه السلام: (خير الصدقة ما كان ظهر غنى، وابدأ
بمن تعول) وعوله لنفسه أوكد عليه من الصدقة، وأما قسمة مال
المفلس بين الغرماء فهو أصل مجمع عليه إذا قام عليه غرماؤه
وحال الحاكم بينه وبين ماله ووقفه لهم، ولا يخرج هذا
المعنى من حديث جابر أصلا.
(6/526)
- بَاب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِى الْبَيْعِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِى الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أُعْطِىَ أَفْضَلَ مِنْ
دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ. وَقَالَ عَطَاءٌ
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِى
الْقَرْضِ. / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ،
عليه السَّلام، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى
إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ
يُسْلِفَهُ ألف دينار، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى. اختلف العلماء فى تأخير الدين فى القرض إلى أجل،
هل له أن يأخذه قبل الأجل؟ فقال مالك وأصحابه: من أقرض
رجلا دنانير أو دراهم أو شيئًا مما يكال أو يوزن أو غير
ذلك حالا، ثم طاع له فأخره به إلى أجل، ثم أراد الانصراف
عن ذلك، وأخذه قبل الأجل لم يكن ذلك له؛ لأن هذا مما يتقرب
به إلى الله، وهو من باب الحسبة. وقال أبو حنيفة: سواء كان
القرض إلى أجل أو غير أجل له أن يأخذه متى أحب، وكذلك
العارية، ولا يجوز عندهم تأخير القرض البتة، ويجوز تأخير
الغصوب وقيم المتلفات. وقال الشافعى: إذا أخره بدينه حال
فله أن يرجع فيه متى شاء، وسواء كان ذلك من قرض أو غيره،
وكذلك العارية وغيرها؛ لأن ذلك عندهم من باب العدة والهبة
غير المقبوضة وهبة ما لم يخلق، وهذا كله لازم عند مالك فى
تأجيل القرض، وفى عارية المنفعة للسكنى وغيرها، ويحمل ذلك
على العرف فيما يستعار الشىء
(6/527)
لمثله من العمل والسكنى، وكل ذلك عنده من
أعمال البر التى أوجبها على نفسه فيلزمه الوفاء بها، وحديث
أبى هريرة يشهد لقول مالك؛ لأن القرض فيه إلى أجل مسمى ولا
يجوز تعديه والاقتضاء قبله، ولو جاز ذلك لكان ضرب الأجل
وتركه سواء، ولم يكن لضرب الأجل معنى وبطل معنى قوله:
(ولتعلموا عدد السنين والحساب (وإنما فائدتها معرفة
الآجال، وأما إذا أجله فى البيع فلا خلاف بين العلماء فى
جواز الآجال فيه؛ لأنه من باب المعارضات، ولا يأخذ قبل
محله.
- بَاب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ
تَعَالَى: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (وَ) لاَ
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (
وَقَالَ: (أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا
مَا نَشَاءُ (وَقَالَ: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ (وَالْحَجْرِ فِى ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى
عَنَهُ مِنَ الْخِدَاعِ. / 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ
رَجُلٌ للرسول (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى أُخْدَعُ فِى
الْبُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ لاَ
خِلاَبَةَ) ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ. / 17 - وفيه:
الْمُغِيرَة، قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) :
(إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ،
وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ
قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ
الْمَالِ) . اختلف العلماء فى إضاعة المال؛ فقال سعيد بن
جبير: إضاعة
(6/528)
المال أن يرزقك الله رزقا فتنفقه فيما حرم
الله عليك. وكذلك. قال مالك، قال المهلب: وقيل: إضاعة
المال: السرف فى إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أن
النبى رد تدبير المعدم؛ لأنه أسرف على ماله فيما يحل له
ويؤجر فيه، لكنه أضاع نفسه، وأجره فى نفسه أوكد عليه من
أجره فى غيره. واختلف العلماء فى وجوب الحجة على البالغ
المضيع لماله، فقال جمهور العلماء: يجب الحجر على كل مضيع
لماله صغيرًا كان أو كبيرًا. روى هذا عن على وابن عباس
وابن الزبير وعائشة، وهو قول مالك والأوزاعى وأبى يوسف
ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وقالت طائفة: لا
حجر على الحر البالغ. هذا قول النخعى وابن سيرين، وبه قال
أبو حنيفة وزفر، قال أبو حنيفة: فإن حجر عليه القاضى ثم
أقر بدين أو تصرف فى ماله جاز ذلك كله. واحتج بحديث الذى
كان يخدع فى البيوع فقال له عليه السلام: (إذا بايعت فقل:
لا خلابة) . قال: ففى هذا الحديث وقوف النبى - عليه السلام
- على أنه كان يخدع فى البيع لم يمنعه من التصرف ولا حجر
عليه. وحجة الجماعة قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم التى جعل الله لكم قيامًا (فنهى تعالى عن دفع
الأموال إلى السفهاء وقال: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا
إليهم أموالهم (فجعل شرط دفع أموالهم إليهم وجود الرشد،
وهذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن كان مبذرًا لماله فهو
غير رشيد.
(6/529)
وقال ابن المنذر: قوله تعالى فى قصة شعيب:
(أصلاتك تأمرك (الآية، وقال تعالى: (أتبنون بكل ريع آية
تبعثون (فخبر تعالى أن أنبيائه منعوا قومهم من إضاعة
الأموال والعبث، والأنبياء لا تأمر إلا بأمر الله. واحتجوا
بقوله عليه السلام: (إن الله كره لكم إضاعة المال) وما كره
الله لنا فمحرم علينا فعله. وقوله: (إن الله لا يصلح عمل
المفسدين (، و) لا يحسب الفساد (فالمبذر لماله داخل فى
النهى ممنوع منه. واحتج الطحاوى على أبى حنيفة فقال: لما
قال له عليه السلام: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) أى: لا شىء
على من خلابتك إياى، جعل بيوعه معتبرة، فإن كان فيها خلابة
لم تجز. وليس فى هذا الحديث دفع الحجر، إنما فيه اعتبار
عقود المحجور عليه. قال غيره: ويحتمل أن يكون الرجل يغبن
بما لا ينفك التجار منه، فجعل له النبى الخيار ثلاثًا
ليستدرك الغبن فى مدة الخيار، ولو أوجبت الضرورة الحجر
عليه لفعله. قال المهلب: ألا ترى أنه قد شعر لما يمكر به
فيه فسأل عنه النبى - عليه السلام - وليس من شكا مثل هذا
مضيع لماله، وإنما هو حريص على ضبطه والنظر فيه فحضه عليه
السلام أن جعل له إذا بايع أن يقول: لا خلابة، أى: لا
تخدعونى فإن خديعتى لا تحل. قال الطحاوى: ولم أجد عن أحد
من الصحابة والتابعين أنه قال: لا حجر، كما قال أبو حنيفة
إلا عن النخعى وابن سيرين.
(6/530)
وقوله: (ووأد البنات) من قوله: (وإذا
الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت (وقوله: (ومنع وهات) يعنى: أن
يمنع الناس خيره ورفده، ويأخذ منهم رفدهم. وقال مالك فى
قوله: (قيل وقال) : وهو الإكثار من الكلام والإرجاف، نحو
قول الناس: أعطى فلان كذا ومنع كذا، والخوض فيما لا يعنى.
وقال أبو عبيد فى قوله: (قيل وقال) : كأنه قال من قول
وقيل:، يقال: قلت قولا وقيلا وقالا، وقرأ ابن مسعود: (ذلك
عيسى ابن مريم قال الحق) يعنى: قول الحق. وأما (كثرة
السؤال) فقال مالك: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة
المسائل فقد كره رسول الله المسائل وعابها أو هو مسألة
الناس أموالهم.
- بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَلاَ
يَعْمَلُ إِلاَ بِإِذْنِهِ
/ 18 - فيه: ابْن عُمَرَ قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام:
(كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْخَادِمُ فِى
مَالِ سَيِّدِهِ. . . .) الحديث. قال المهلب: العبد راع فى
مال سيده، يلزمه ما يلزم سائر الرعاة من حفظ ما استرعى
عليه، ولا يعمل فى معظم الأمور إلا بإذن سيده، وما كان من
المعروف المعتاد أن يعفى عنه مثل الصدقة بالكسرة والقطعة
فلا يحتاج فيه إلى إذن سيده، وقد جاء فى حديث النبى - عليه
السلام - أن الخادم أحد المتصدقين ولم يشترط إذن سيده إلا
فى الكثير لقوله: (يعطى ما أمر به كاملا موفرًا إلى
(6/531)
الذى أمر له) فهذا يدل على العطاء الجزيل؛
لأن اشتراط الكمال فيه دليل على الكثرة.
- بَاب مَا يُذْكَرُ فِى الإِشْخَاصِ وَالْمُلاَزَمَةِ
وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِي
/ 1 - فيه: عَبْدَاللَّهِ، سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً
سَمِعْتُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، خِلاَفَهَا،
فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، فَقَالَ: (كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ) ، قَالَ
شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: (لاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا) . / 2 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ
الْمُسْلِمُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى
الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الْيَهُودِىُّ: وَالَّذِى اصْطَفَى
مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ
عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِىِّ، فَذَهَبَ
الْيَهُودِىُّ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام،
فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ
الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ،
فَقَالَ عليه السَّلام: (لاَ تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى،
فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ،
فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِى
أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ
مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، أو قَالَ: حوسب لصعقته) . (1)
/ 3 م - وفيه: أَنَس، أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ
جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فقِيلَ: مَنْ
(6/532)
فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ
حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا،
فَأُخِذَ الْيَهُودِىُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ
حَجَرَيْنِ. اختلف العلماء فى إشخاص المدعى عليه، فقال ابن
القاسم فى معنى قول مالك: إن كان المدعى عليه غائبًا إلى
مثل ما يسافر الناس إليه ويقدمون كتب إلى والى الموضع فى
أخذ المدعى عليه بالاستحلاف أو القدوم للخصومة وإن كانت
غيبة بعيدة فيسمع من بينة المدعى ويقضى له، وقياس قول
الشافعى أنه يجلب بدعوى المدعى. وقال الليث: لا يجلب
المدعى عليه حتى يشهد بينته على الحق. قال الطحاوى: وليس
عند أصحابنا المتقدمين فيه شىء، والقياس ألا يجلب لا ببينة
ولا بغير بينة. قال غيره: إنما يريد أن يكتب إلى حكم
الجهة. قال المهلب: وفى حديث أنس الإشخاص إذا قويت شبهة
الدعوى والتوفيق والملازمة فى الجواب عن الدعوى، لأن
الجارية ادعت بإشارة فأشخص اليهودى ووقف، وألزم الجواب،
وشدد عليه فيه، واستدل على كذبه حتى أقر واعترف، قال: وإذا
كان الخصم فى موضع يخاف فى فواته منه فلا بأس بإشخاصه
وملازمته، وإن كان فى موضع لا يخاف فواته منه فليس له
إشخاصه إلا برفع من
(6/533)
السلطان، إلا أن يكون فى شىء من أمور
الدين، فإن من الإنكار على أهل الباطل أن يشخصوا ويرفعوا
كما فعل ابن مسعود بالرجل، وكما فعل عمر بهشام بن حكيم حين
تأول عليه أنه يخطئ. قال عنه: وأما الملازمة فأوجبها من لم
ير السجن على مدعى العدم حتى يثبت عدمه. وهم الكوفيون،
وأما مالك وأصحابه فيرون أنه يسجن حتى يثبت العدم، وفرق
الكوفيون بين الذى يكون أصله من معاوضة فيجب سجن من ادعى،
لأنه قد حصل بيده العوض ويدعى العدم، وأما إن كانت معاملة
بغير معاوضة كالهبة وشبهها فلا يسجن، لأن أصل الناس عندهم
على الفقر حتى يثبت الغنى، وإذا وجدت المعاوضة فقد صح عنده
ما ينفى الفقر، ولم يفرق مالك بين شىء من ذلك، وهو عنده
على الغنى حتى يثبت العدم، فلذلك يلزمه السجن. قال المهلب:
وفى حديث أبى هريرة أنه لا قصاص بين المسلم والذمى، لأن
النبى لم يقد اليهودى من المسلم فى اللطمة، وقد ترجم فى
كتاب الديات باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، وفيه
تأدب النبى - عليه السلام - بما خصه الله به من الفضيلة،
فإن قال قائل: قوله عليه السلام: (لا تخيرونى من بين
الأنبياء) . وقوله: لا ينبغى لأحد أن يقول: (أنا خير من
يونس ابن متى) يعارض قوله: (أنا أول من تنشق الأرض عنه)
وقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر (. فالجواب: إن للعلماء
فى ذلك تأويلين ينفيان عنهما التضاد:
(6/534)
فأحدهما ذكره ابن قتيبة فقال: لا اختلاف
بين شىء من ذلك بحمد الله، وذلك أنه أراد أنه سيد ولد آدم
يوم القيامة، لأنه الشافع يومئذ، وله لواء الحمد والحوض،
وأراد بقوله: (لا تخيرونى على موسى) طريق التواضع كما قال
أبو بكر الصديق: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك قوله: (لا
ينبغى لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) يدل على معنى
التواضع، لأن يونس دون غيره من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى
وعيسى، يريد إذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس، فكيف غيره
ممن هو فوقه من أولى العزم من الرسل، وقد قال تعالى:
(فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت (أراد يونس لم يكن له
صبر غيره من الأنبياء. وفى هذه الآية ما يدل على أن رسول
الله أفضل منه، لأن الله يقول له ولا تكن مثله، فدل أن
قوله: (لا تفضلونى عليه) من طريق التواضع، ويجوز أن يريد
لا تفضلونى عليه فى العمل فلعله أفضل عملا منى. ولا فى
البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة منى. وليس ما أعطى الله
نبينا محمدًا من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع
الأنبياء والرسل بعمله، بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له،
وكذلك أمته أسهل الأمم محنة، بعثه الله بالحنيفية السمحة،
ووضع عنها الإصر والأغلال التى كانت على بنى إسرائيل فى
فرائضهم، وهى مع هذا خير أمة أخرجت للناس بفضل الله
وبرحمته، هذا تأويل ابن قتيبة، واختاره المهلب. والتأويل
الآخر: قال غيره: ليس شىء من هذه الأحاديث
(6/535)
يتعارض، لأنه يجوز أن يكون فى وقتين، فقال
عليه السلام: (ولا تفضلونى على موسى) و (لا ينبغى لأحد أن
يقول إنى خير من يونس) فى أول أمره، فى وقت أنزل عليه:
(وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم (ووقت قيل له: يا خير البرية
فقال: هذا إبراهيم وقبل أن ينزل الله عليه: (ليغفر لك الله
ما تقدم من ذنبك وما تأخر (فلما غفر الله له ذلك علم أنه
سيد ولد آدم، فقال ذلك حينئذ - والله أعلم. قال المهلب:
وقوله عليه السلام: (أم جوزى بصعقة الطور) فيه دليل أن
المحن فى الدنيا والهموم والآلام يرجى أن يخفف الله بها
يوم القيامة كثيرًا من أهوال القيامة، وأما كفارة الذنوب
بها فمنصوص عليه من النبى - عليه السلام - بقوله: (حتى
الشوكة يشاكها) . وفيه: رد قول سعيد بن جبير الذى ذكره
البخارى فى كتاب تفسير القرآن أن الكرسى العلم، لأن العلم
ليس له جانب ولا قائمة تقع اليد عليها، لأن اليد لا تقع
إلا على ما له جسم، والعلم ليس بجسم، وستأتى زيادة فى هذا
المعنى فى كتاب العقول فى باب إذا لطم المسلم يهوديا عند
الغضب - إن شاء الله.
- بَاب مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ
الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه
السَّلام، رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْىِ،
ثُمَّ نَهَاهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ
عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ لاَ شَىْءَ لَهُ
غَيْرُهُ، فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ.
(6/536)
3 - بَاب وَمَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ
وَنَحْوِهِ، فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ
بِالإِصْلاَحِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ، فَإِنْ أَفْسَدَ
بَعْدُ مَنَعَهُ، لأَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام نَهَى
عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَالَ لِلَّذِى يُخْدَعُ فِى
الْبَيْعِ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ) ،
وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام مَالَهُ
. / 3 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِى
الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
: (إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) ، فَكَانَ
يَقُولُهُ. / 4 - وفيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ
عَبْدًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَدَّهُ
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ
بْنُ النَّحَّامِ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك،
وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله
جائز حتى يضرب الإمام على يده وهو قول الشافعى، وقال ابن
القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام. وقال
أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر
السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام. واحتج سحنون
لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر
عليه ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد. واحتج غيره بأن
النبى - عليه السلام - أجاز بيع الذى كان يخدع فى البيوع،
ولم يذكر فى الحديث أنه فسخ ما تقدم من بيوعه، وحجة ابن
القاسم حديث جابر أن النبى - عليه السلام - رد عتق الذى
أعتق عبده ولم يكن حجر عليه قبل ذلك، ولما تنوع حكم النبى
- عليه السلام - فى السفيهين نظر بعض الفقهاء فى ذلك،
فاستعمل الحديثين جميعًا فقال: ما كان من السفه اليسير
والخداع الذى لا يكاد
(6/537)
يسلم منه مع تنبه المخدوع إليه والشكوى له،
فإنه لا يوجب الضرب على اليد، ولا رد ما وقع له قبل ذلك من
البيع، ولا انتزاع ماله كما لم يرد عليه السلام بيع الذى
قال له: لا خلابة، ولا انتزع ماله وما كان من البيع فاحشًا
فى السفه فإنه يرد كما رد النبى - عليه السلام - تدبير
العبد الذى اشتراه ابن النحام، لأنه لم يكن أبقى لنفسه
سيده مالا يعيش به، فرد عتقه، وصرف عليه ماله الذى فوته
بالعتق ليقوم به على نفسه، ويؤدى منه دينه، وإنما ذلك على
قدر اجتهاد الإمام فى ذلك وما يراه. وقد تقدم الكلام فى
حديث ابن عمر فى كتاب البيوع فى باب ما يكره من الخداع فى
البيع ومذاهب العلماء فيمن باع بيعًا وغبن فيه - والحمد
لله.
4 - بَاب كَلاَمِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِى بَعْضٍ
/ 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ
بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ بن قيس:
فِىَّ وَاللَّهِ كَانَ هذا كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ
يَهُودِى أَرْضٌ فَجَحَدَنِى، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (أَلَكَ بَيِّنَةٌ) ؟ قُلْتُ: لاَ،
قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِىِّ: (احْلِفْ) ،
(6/538)
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا
يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (الآيَةِ. / 6 - وفيه:
كَعْب، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا
كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى بَيْتِهِ، فَخَرَجَ
إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى:
(يَا كَعْبُ) ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: (ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا) ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ
أَىِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: (قُمْ فَاقْضِهِ) . / 7 - وفيه: عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا
أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ،
ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ
بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام. . .
. وذكر الحديث. لا يجوز من كلام الخصوم بعضهم لبعض إلا ما
يجوز من كلام غيرهم مما لا يوجب أدبًا ولا حدا. قال
المهلب: معنى الترجمة من حديث ابن مسعود قول الأشعث: (إذا
والله يحلف ويذهب بمالى) فمثل هذا الكلام مباح فيمن عرف
فسقه، كما عرف فسق اليهودى الذى خاصم الأشعث وقلة مراقبته
لله - تعالى - فحينئذ يسمح الحاكم للقائل لخصمه ذلك، وأما
إن قال ذلك فى رجل صالح أو من لا يعرف له فسق فيجب أن ينكر
عليه، ويؤخذ له الحق، ولا يبيح له النيل من عرضه. وحديث
عمر مع هشام بن حكيم فى تولى الخصوم بعضهم بعضًا
(6/539)
سديد فى هذا الباب، لأن فيه امتدادًا
باليد، فهو أقوى من القول، وإنما جاز له ذلك - والله أعلم
- لأنه أنكر عليه فى أمر الدين، وفى حديث كعب جواز ارتفاع
الأصوات بين الخصوم لما فى خلائق الناس من ذلك، ولو قصر
الناس عن اختلافهم لكان ذلك من المشقة عليهم، بل يسمح لهم
فيما جبلهم الله عليه، لأن النبى - عليه السلام - سمعهما
ولم ينههما عن رفع أصواتهما، وفيه أن الحاكم إذا سمع قول
الخصوم واستعجم عليه أمرهما أشار عليهما بالصلح، وأمرهما
به، وإذا رأى مديانًا غير مستضلع بدينه، ولا ملى به، وثبتت
عسرته، أنه لا بأس للحكم أن يأمر صاحب الدين بالوضيعة لقطع
الخصام، لما فى تماديه من قطع ذات البين وفساد النيات.
5 - بَاب إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِى وَالْخُصُومِ مِنَ
الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ،
فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ
يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ) . قال
المهلب: فيه من الفقه أن من ترك سنة من سنن النبى
(6/540)
- عليه السلام - المجتمع عليها فى الإقامة،
أنه يعاقب فى نفسه وماله، لأن حرق المنازل عقوبة فى المال
على عمل الأبدان، فإذا كانت العقوبة تتعدى إلى المال عن
البدن، فهى أحرى أن تقع فى البدن، وفيه أن العقوبات على
أمور الدين التى لا حدود فيها موكولة إلى اجتهاد الإمام
لقوله: (لقد هممت) فهذا نظر واجتهاد. وقد قال قوم: إن هذا
الحديث فى المنافقين، وليس كذلك، لأن النبى - عليه السلام
- لم يعن بإخراج المنافقين إلى الصلاة، ولا التفت إلى شىء
من أمرهم، وقيل فيه: إنه فى المؤمنين، وقد تقدم القولان فى
باب وجوب صلاة الجماعة، وسيأتى فى كتاب الأحكام - إن شاء
الله - شىء من الكلام فى معنى هذا الباب تركته لأنه بوب
بهذا الحديث بعينه، وذكر هذا الحديث فيه.
6 - بَاب دَعْوَى الْوَصِىِّ لِلْمَيِّتِ
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ،
وَسَعْدًا، اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) فِى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصَانِى أَخِى إِذَا قَدِمْتُ أَنْ
أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ
ابْنِى، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى، وَابْنُ
أَمَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى، فَرَأَى
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ،
فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ. . . .)
الحديث. هذا الحديث ترجم له فى كتاب الوصايا ما يجوز
للموصى إليه من الدعوى، وهى هذه الترجمة، وسيأتى الكلام
فيها هناك - إن شاء الله - وللعلماء فى هذا الحديث ضروب من
التخريج سأذكرها - إن شاء الله - فى باب أم الولد.
(6/541)
7 - بَاب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى
مَعَرَّتُهُ
وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ. / 10 - فيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَيْلاً
قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ،
يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ
الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى
الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ) ؟
قَالَ: عِنْدِى يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ. . . . وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) . قال أهل
العلم: يوجبون التوثق بالحبس والضامن وما أشبهه ممن وجب
عليه حق لغيره، فأبى أن يخرج منه وادعى مخرجًا لم يحضره فى
الوقت، وقد روى وكيع أن عليا كان يحبس فى الدين، وروى
معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على
رجل بحق أمر بحبسه فى المسجد إلى أن يقوم، فإن أعطى حقه
وإلا أمر به إلى السجن. وقال طاوس: إذا لم يقر الرجل
بالحكم حبس. وروى معمر عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده
(أن رسول الله حبس رجلا فى تهمة) . وحديث ثمامة أصل فى
ذلك، لأنه كان قد حل دمه بالكفر، والسنة فى مثله أن يقتل،
أو يستعبد، أو يفادى به، أو يمن عليه، فحبسه النبى حتى يرى
فيه رأيه وأى الوجوه أصلح للمسلمين فى أمره، وترجم له فى
كتاب الصلاة باب الأسير والغريم يربط فى المسجد.
(6/542)
8 - بَاب الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِى
الْحَرَمِ
وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِالْحَارِثِ دَارًا
لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى
أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِىَ، فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ
لَمْ يَرْضَ عُمَرُ، فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ
دِينَارٍ، وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. / 11 -
فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام،
بَعَثَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بثُمَامَة،
فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ. قال
المهلب: اشترى نافع الدار للسجن بمكة من مال المسلمين، لأن
عمر كان يومئذ أمير المؤمنين، فاشترى نافع الدار من صفوان
وشرط عليه إن رضى عمر الابتياع فهو لعمر وإن لم يرض ذلك
بالثمن المذكور فالدار لنافع بأربعمائة، وهذا بيع جائز،
فابتياع الدار لتكون سجنًا بمكة، يدل أن الحبس فى الحرم
والربط والأسر فيه جائز بخلاف قول من قال من التابعين أن
من فر إلى الحرم بحد أو جرم، أنه لا يقاد منه فى الحرم،
واحتجوا بقوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا (وأئمة الفتوى
بالأمصار لا يمنع عندهم الحرم إقامة الحدود والقود فيه على
من وجب عليه ذلك فى غير الحرم، وكلهم يقول: إن من قتل فى
الحرم قتل فيه.
9 - بَاب فِى الْمُلاَزَمَةِ
/ 12 - فيه: كَعْب، كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ
أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ،
فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ
بِهِمَا النَّبِىُّ،
(6/543)
عليه السَّلام، فَقَالَ: (يَا كَعْبُ) ،
وَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ،
فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا. قال: هذا
الحديث حجة للكوفيين فى قولهم بالملازمة للغريم، ألا ترى
أن النبى - عليه السلام - مر بكعب بن مالك وهو قد لزم
غريمه فلم ينكر ذلك عليه، وأشار عليه بالصلح، وسائر
الفقهاء لا ينكرون على صاحب الدين أن يطلب دينه كيف أمكنه
بإلحاح عليه وملازمة أو غير ذلك، وإنما اختلفوا فى الغريم
المعدم هل يلازمه غريمه بعد ثبوت الإعدام وانطلاقه من
السجن أم لا؟ وقد تقدم ذلك فى باب قوله عليه السلام: (مطل
الغنى ظلم) فأغنى عن إعادته.
- بَاب التَّقَاضِى
/ 13 - فيه: خَبَّاب، كُنْتُ قَيْنًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ،
وَكَانَ لِى عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ،
فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى
تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ
أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى
يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثَكَ، قَالَ: فَدَعْنِى
حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ أُبْعَثَ، فَأُوتَى مَالاً
وَوَلَدًا، ثُمَّ أَقْضِيَكَ. . . . الحديث. فيه من الفقه
أن الرجل الفاضل إذا كان له دين عند الفاسق والكافر أنه لا
بأس أن يطلبه ويشخص فيه بنفسه، ولا نقيصة عليه فى ذلك، لأن
النبى قد نهى عن إضاعة المال - والحمد لله وحده.
(6/544)
|