شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
36 - كِتَاب الْمِيَاهِ
- بَاب مَا جَاء فِى الشُّرْبِ وَقَوْلِ اللَّهِ:
(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ
يُؤْمِنُونَ (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ
الْمَاءَ الَّذِة (إلى قوله: (تَشْكُرُونَ (.
وَقَالَ عُثْمَانُ: عن النَّبىّ عليه السَّلام: (مَنْ
يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا
كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ.
معنى قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شىء حى (أراد به
حياة جميع الحيوان الذى يعيش بالماء، وقيل: عنى بالماء
هاهنا: النطفة خاصة. ومن قرأ: (وجعلنا من الماء كل شىء حيا
(يدخل فيه الحيوان والجماد، لأن الزرع والشجر لها موت إذا
جفت ويبست، فحياتها خضرتها ونضرتها، والمزن: السحاب،
والأجاج: المالح. عدد الله على عباده نعمته فى خلقه لهم
الماء عذبًا يتلذذون بشربه، وتنموا به ثمارهم، ولو شاء
لجعله مالحاُ فلا يشربون منه، ولا ينتفعون به فى زرعهم
وثمارهم) فلولا تشكرون (أى: فهلا تشكرون الله على ما فعل
بكم. وأما بئر رومة فإنها كانت ليهودى، وكان يضرب عليها
القفل ويغيب، فيأتى المسلمون ليشربوا منها الماء فلا
يجدونه حاضرًا،
(6/491)
فيرجعون بغير ماء، فشكا المسلمون ذلك، فقال
عليه السلام: (من يشترى بئر رومة ويبيحها للمسلمين، ويكون
نصيبه فيها كنصيب أحدهم وله الجنة، فاشتراها عثمان) ، وهذا
الحديث حجة لمالك ومن وافقه فى قولهم: إنه لا بأس ببيع
الآبار والعيون فى الحضر إذا احتفرها لنفسه ولم يحتفرها
للصدقة، فلا بأس ببيع مائها، وكره بيع ماء حفر من الآبار
فى الصحارى من غير أن يحرمه. وأما قوله: (فيكون دلوه فيها
كدلاء المسلمين) يعنى: يجعلها حبسًا لله، ويكون حظه منها
كحظ غيره ممن لم يحبسها، ولا يكون له فيها مزية على غيره.
فإن قيل: إذا شرط أن يكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، ففيه
من الفقه أن يجوز للمحبس أن ينتفع بما يحبسه إذا شرط ذلك.
قيل: هذا ينقسم قسمين: فأما من حبس بئراُ وجعلها للسقاة
فلا بأس أن يشرب منها وإن لم يشترط ذلك، لأنه داخل فى جملة
السقاة. ومن حبس عقاراُ فلا يجوز له أن ينتفع بشىء منها
إلا أن يشترط أن يكون نصيبه فيه كنصيب أحد المسلمين، فإذا
لم يشترط ذلك فلا يجوز له الانتفاع بشىء منه، لأنه أخرجه
لله - تعالى - ولا يجوز الرجوع فيه. فإن قيل: فما الفرق
بين وقف البئر ووقف العقار؟ قيل: الفرق بينهما أن سائر
الغلات تنقطع فى أوقات ما، وإذا أخذ منها المحبس فقد حرم
ذلك الشىء أهل الحاجة وانفرد به. وماء الآبار لا ينقطع
أبدًا، لأنها نابعة فلا يحرم أحد
(6/492)
من أهل الحاجة ما أخذ منها محبسها وسيأتى
ما يجوز انتفاع المحبس به من حبسه فى باب: هل ينتفع الواقف
بوقفه فى كتاب الأوقاف - إن شاء الله.
- بَاب مَنْ رَأَى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ
وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً مَقْسُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ
مَقْسُومٍ
وَقَالَ عُثْمَانُ: قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ
يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا
كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ. / 1
- فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِقَدَحٍ
فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ
الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: (يَا
غُلاَمُ، أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟)
فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِى مِنْكَ أَحَدًا
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. / 2 - وفيه:
أَنَس، حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
شَاةٌ دَاجِنٌ، وَهِىَ فِى دَارِ أَنَسِ، فَشِبَت
لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِى فِى دَارِ
أَنَسٍ بْن مالك، فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) الْقَدَحَ، فَشَرِبَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا
نَزَعَ الْقَدَحَ مِنْ فِيهِ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو
بَكْرٍ وَعَلىّ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ
لَه عُمَرُ - وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِىَّ -:
أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ،
فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِىَّ الَّذِى عَلَى يَمِينِهِ،
ثُمَّ قَالَ: (الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ) . جميع ما يوهب
للجماعة من الأشياء كلها هم فيها متشاركون، وحقوقهم فيها
متساوية، لا فضل لأحد منهم على صاحبه، وإنما
(6/493)
جازت هبة الماء واللبن غير مقسومين لقلة
التشاح فيهما، ولأن العادة قد جرت من الجماعة إذا أكلت أو
شربت معًا أنها تجرى فى ذلك على المكارمة، ولا ينقضى بعضهم
على بعض، لأن ذلك إنما يوضع للناس على قدر نهمتهم، فمنهم
من يكفيه اليسير، ومنهم من يكفيه أكثر منه، إلا أن من
استعمل أدب المؤاكلة والمشاربة أولى، وأن لا يستأثر أحدهم
بأكثر من نصيب صاحبه. ألا ترى أن مالكًا قد قال: لا يقرن
أحد بين تمرتين إلا أن يستأذن أصحابه فى ذلك، لما كان
التمر مما يتشاح فيه أكثر من التشاح فى الماء واللبن. وقال
المهلب: إنما استأذن النبى - عليه السلام - الغلام فى حديث
سهل، ولم يستأذن الأعرابى فى حديث أنس، لأن الأعرابى الذى
كان عن يمين النبى - عليه السلام - كان من السادة والمشيخة
وكان طرى الهجرة لا علم له بالشرائع، فأعطاه النبى - عليه
السلام - ولم يستأذن أبا بكر استئلافًا منه للأعرابى،
وتطييبًا لنفسه، وتشريفاُ له، ولم يجعل للغلام تلك
المنزلة، لأنه كان من قرابته، وسنه دون سن الأشياخ الذين
كانوا على يساره فاستأذنه فى أن يعطيهم بادئًا عليهم،
ولئلا يوحشهم بإعطاء ابن عمه وهو صبى ويقدمه عليهم حتى
أعلمهم أن ذلك يجب له بالتيامن فى الجلوس، وقيل: إن
الغلام: الفضل بن عباس، وقد تقدم فى كتاب الأشربة زيادة فى
هذا المعنى.
(6/494)
3 - بَاب مَنْ قَالَ إِنَّ صَاحِبَ
الْمَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَرْوَى لِقَوْلِ
الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ
الْمَاءِ ليمنع به الكلأ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، قَالَ: (لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ،
لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ) . وَقَالَ مرة: (فَضْلُ
الْكَلأَ) . لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بالماء
حتى يروى، لأن النبى - عليه السلام - إنما نهى عن منع فضل
الماء، فأما من لا يفضل له ماء فلا يدخل فى هذا النهى، لأن
صاحب الشىء أولى به، وتأويل قوله عليه السلام: (لا يمنع
فضل الماء ليمنع به الكلأ) عند مالك فى الآبار التى
يحتفرها الرجل فى الصحارى والفلوات التى ليست لأحد، إنما
هى مرعى للماشية، فيريد أن يمنع ماشية غيره أن تسقى من تلك
البئر. ففيها قال عليه السلام ذلك، يقول: إذا منع حافرها
فضل مائها لغير ماشيته فقد منع حافرها فضل مائها فقد منع
الكلأ الذى حول البئر وانفرد به دون غيره، لأن أحدًا لا
يرعى فيه إذا لم يكن للماشية ما تشربه، فأما البئر التى
يحتفرها الرجل فى أرضه فيجوز له عند مالك أن يمنع ماءها.
وكره مالك منع ما عمل من ذلك فى الصحارى من غير أن يحرمه،
قال: ويكون أحق بمائها حتى يروى، ويكون للناس ما فضل إلا
من مر بهم شفاههم ودوابهم فإنهم لا يمنعون كما يمنع من
سواهم. وقال الكوفيون: له أن يمنع من دخول أرضه وأخذ مائه
إلا أن يكون لشفاههم وحيوانهم ماء فيسقيهم وليس عليه سقى
زرعهم.
(6/495)
وقال عيسى بن دينار فى تفسير قوله عليه
السلام: (لا يمنع فضل بئر) يقول: من كان له جار انقطع ماؤه
وله عليه زرع أو أصل فلم يجد ما يسقى به زرعه أو حائطه،
وله بئر فيها فضل عن سقى زرعه أو حائطه، فلا يمنع جاره أن
يسقى بفضل مائه، قلنا: فنحكم عليه بذلك؟ قال: لا، ولكن
يؤمر بذلك عليه، فإن أبى منه لم يقض عليه. قال أصبغ: وقال
ابن القاسم: يقضى ذلك لجاره بالثمن. وفى المدونة قلت لابن
القاسم: يقضى عليه بثمن أو بغير ثمن؟ قال: قال مالك: يقضى
بغير ثمن. قال ابن مزين: قلت لعيسى: فإن باع فضله، أترى
جاره الذى انقطع ماؤه أولى به بالثمن؟ قال: نعم. وفى قوله
عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) من الفقه
المنع من الذرائع، وذلك لأنه نهى أن يمنع الماء، لئلا
يتذرع بذلك إلى منع الكلأ، وقال الكوفيون: لا تجوز إجارة
المراعى ولا بيعها، ولا يملك الكلأ صاحب الأرض حتى يأخذه
فيحوزه. وهو قول الشافعى، وقال مالك: لا بأس أن يبيع مراعى
أرضه سنة واحدة، ولا يبيعها سنتين ولا ثلاثًا، ولا يبيعها
حتى تطيب ويبلغ الخصب أن يرعى. وقال الثورى: لا بأس أن
يحمى الكلأ للبيع، والشجر للحطب أو البيع.
(6/496)
4 - بَاب مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِى مِلْكِهِ
لَمْ يَضْمَنْ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ،
عليه السَّلام: (الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ
جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ
الْخُمْسُ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك
فيمن حفر بئرًا، أو أوقف دابة فى موضع يجوز له أن يصنع ذلك
فيه، فسقط أحد فى البئر، أو ضربت الدابة أحدًا أنه لا ضمان
عليه ولا دية، وإنما يضمن من ذلك ما حفره فى طريق
المسلمين، أو صنع من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه فيه، فهذا
بمنزلة الإمام إذا حد أحدًا فمات المحدود فلا شىء على
الإمام؛ لأنه فعل ما يجوز له، وإنما يلزمه الضمان إذا تعدى
فى الحد، وبمثله كله قال الشافعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه:
من حفر بئرًا أو أوقف دابة فى موضع يجوز له ذلك فيه فليس
يبرئه من الضمان ما أجاز إحداثه له. واختلفوا فى رجل حفر
فى داره بئرًا لسارق يرصده، أو وضع حبالات له فعطب به
السارق أو غيره، فقال مالك: هو ضامن. وقال الليث: لا ضمان
عليه. وحجته قول الرسول: (البئر جبار) . وحجة مالك أنه لا
يجوز له أن يقصد بذلك الفعل أن يهلك به أحدًا؛ لأنه متعد
بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغيره. قال: فإن حفر الحفيرة
فى حائطه للسباع فعطب به إنسان فلا ضمان عليه عند مالك؛
لأنه فعل ما يجوز له فعله، ولا غنى به عنه،
(6/497)
ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا،
وسيأتى معنى قوله: (العجماء جبار) فى كتاب الديات - إن شاء
الله.
5 - بَاب الْخُصُومَةِ فِى الْبِئْرِ وَالْقَضَاءِ فِيهَا
/ 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بن مسعود، عَنِ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ
بِهَا مَالَ امْرِئٍ هُوَ فَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلاً (الآيَةَ، فَجَاءَ الأَشْعَثُ، فَقَالَ:
مَا يُحَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ فِىَّ
أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَانَتْ لِى بِئْرٌ فِى أَرْضِ
ابْنِ عَمٍّ لِى، فَقَالَ لِى: (شُهُود ذَلِكَ) ، قُلْتُ:
مَا لِى شُهُودٌ، قَالَ: (فَيَمِينُهُ) ، قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ فَذَكَرَ النَّبِىُّ،
عليه السَّلام، هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. قال المهلب: هذا الوعيد يخشى
إنفاذه على كل يمين غموس تقتطع بها مال أحد بغير حق، وفيه
الترجمة، وفيه أن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر،
وفيه جواز تولى الخصوم بعضهم بعضًا بما عرف من أحوالهم؛
لقوله: (إذا يحلف ويذهب بحقى) لأنه كان معلومًا بقلة
التقوى، وقد قيل: إنه كان يهوديًا، فإن كان كذلك فليس بين
المسلم والذمى قصاص ولا حد، وإن كان غير ذمى فلأنه كان
معلومًا بالمجاهرة بالباطل. والدليل على صحة هذا القول
نزول الآية مصدقة لقوله النبى -
(6/498)
عليه السلام - وليس بمعلوم بالأحوال
الدينية من الحرمة ما لصالح المسلمين.
6 - بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنَ
الْمَاءِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ،
عليه السَّلام: (ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ،
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ
بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ
بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَ لِدُنْيَا، فَإِنْ
أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا
سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إلا هو لَقَدْ
أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ) ،
ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلاً (. قال المهلب: وهذا وعيد على المسلمين أيضًا،
وكل وعيد يتوجه إلى المسلمين فهو موكول إلى مشيئة الله،
وهو فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء أنفذه فإن أنفذه
على المسلم فلا يكون فيه خلود؛ لأن الخلود فى الذنوب قد
رفع عن أهل التوحيد. وقوله: (منع فضل الماء) يدل أن صاحب
البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ صاحب البئر
حاجته لم يجز له منع ابن السبيل، وقوله: (بايع إمامًا) هو
فى معنى قوله عليه السلام: (من كانت هجرته لدنيا يصيبها)
الحديث، وأن الله - تعالى - لا يقبل فى الهجرة والمبايعة
والأعمال إلا ما أريد به وجهه، وما لا يريد به
(6/499)
وجهه فلا يرضى به، وله أن يعاقب عليه،
وقوله: (بعد العصر) يدل أنه وقت تعظم فيه المعاصى لارتفاع
الملائكة بأعمال الناس إلى الله، فيعظم أن يرتفعوا عن
العبد بالمعصية إلى الله ويكون أجر عمله المرفوع، وفيه أن
خواتم الأعمال هى المرجوة والمحتسبة.
7 - بَاب سَكْرِ الأَنْهَارِ
/ 7 - فيه: ابْن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ
رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى شِرَاجِ الْحَرَّةِ
الَّتِى يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ
الأَنْصَارِىُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى
عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
لِلزُّبَيْرِ: (أسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ
الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ،
فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ:
(اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى
يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ) ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ:
وَاللَّهِ إِنِّى لأحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى
ذَلِكَ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (. وترجم له باب
شرب الأعلى قبل
(6/500)
الأسفل، وترجم له شرب الأعلى إلى الكعبين
إلى: (حتى يرتفع إلى الجدر واستوعى له حقه. . .) الحديث.
قال ابن شهاب: فقدرت الأنصار والناس قول النبى - عليه
السلام -: (اسق ثم احبس حتى يرتفع إلى الجدر) ، فكان ذلك
إلى الكعبين. اختلف أصحاب مالك فى صفة إرسال الماء الأعلى
إلى الأسفل، فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء
فى حائطه ويسقى به إذا بلغ الماء من قاعه الحائط إلى
الكعبين من القائم فيه: أغلق مدخل الماء وصرف ما زاد من
الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك
حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط، وهكذا فسر لى مطرف
وابن الماجشون، وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى
الماء فى الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته
ولم يحبس منه شيئًا فى حائطه. قال ابن حبيب: وقول مطرف
وابن الماجشون أحب إلى، وهما أعلم بذلك، لأن المدينة كانت
دارهما وبها كانت القضية، وفيها جرى العمل بها. وذكر ابن
مزين عن ابن القاسم مثل ما حكاه ابن حبيب عن مطرف وابن
الماجشون. قال ابن حبيب: وما كان من الخلج والسواقى التى
يجتمع أهل القرى على إنشائها وأجرى الماء فيها لمنافعهم،
فقل الماء فيها ونضب عنها فى أوقات نضوبه فالأعلى والأسفل
فيها بالسواء، يقسم بينهم على قدر حقوقهم فيها، استوت
حاجتهم أو اختلفت، هكذا فسر لى مطرف وابن الماجشون وأصبغ
وقاله ابن وهب وابن القاسم وابن نافع. قال المهلب: وفى
الحديث من الفقه الإشارة بالصلح والأمر به، وفيه أن للحاكم
أن يستوعى لكل واحد من المتخاصمين حقه إذا لم ير
(6/501)
منهما قبولا للصلح ولا رضًا بما أشار به،
كما فعل النبى - عليه السلام - وفيه توبيخ من جفا على
الإمام والحاكم ومعاقبته، لأن النبى - عليه السلام - عاقبه
على قوله: (أن كان ابن عمتك) بأن استوعى للزبير حقه، ووبخه
الله فى كتابه بأن نفى عنهم الإيمان حتى يرضوا بحكمه،
فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك (الآية. ابن السكيت:
سكرت النهر أسكره سكرًا: سددته. قال صاحب العين: والسكر
اسم ذلك السداد الذى يجعل سدا للعين ونحوه. قال الفسوى:
ومنه قوله تعالى: (سكرت أبصارنا (. ابن دريد: أصله من سكرت
الريح: سكن هبوبها. قال أبو عبيد: والشروج والشراج مسائل
الماء من الحرار إلى السهولة، واحدها شرج قال غيره: شرج.
وقال أبو حنيفة: تسمى الحواجز التى بين الديار التى تمسك
الماء الجدور، واحدها جدر.
8 - بَاب فَضْلِ سَقْىِ الْمَاءِ
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىّ، عليه
السَّلام، قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِى فَاشْتَدَّ
عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا،
ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ
الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا
مِثْلُ الَّذِى بَلَغَ بِى، فَمَلاَ خُفَّهُ، ثُمَّ
أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِىَ فَسَقَى الْكَلْبَ،
فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
قَالَ: (فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) . / 9 - وفيه:
أَسْمَاء، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى
صَلاَةَ الْكُسُوفِ،
(6/502)
فَقَالَ: (أدَنَتْ مِنِّى النَّارُ، حَتَّى
قُلْتُ: أَىْ رَبِّ، وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ
- حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ - قَالَ:
مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ
جُوعًا) ، قَالَ: فَقَالَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: (لاَ
أَنْتِ أَطْعَمْتِتهَا وَلاَ سَقَيِتيِهَا حِينَ
حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِيهَا تَأَكْلُ مِنْ
خَشَاشِ الأَرْضِ) . سقى الماء من أعظم القربات إلى الله -
تعالى وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقى
الماء، وإذا غفرت ذنوب الذى سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى
رجلا مؤمنًا موحداُ أو أحياه بذلك. وقد استدل بهذا الحديث
من أجاز صدقة التطوع على المشركين، لعموم قوله عليه
السلام: (فى كل كبد رطبة أجر) وفيه أن المجازاة على الخير
والشر قد تكون يوم القيامة من جنس الأعمال، كما قال عليه
السلام: (من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم) . وقال
صاحب الأفعال: لهث الكلب، ولهث بفتح الهاء وكسرها: أدلع
لسانه عطشًا، ولهث الإنسان أيضًا اشتد عطشه.
9 - بَاب مَنْ قَالَ: أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ
وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ
/ 10 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
بِقَدَحٍ فَشَرِبَ منه، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ هُوَ
أَحْدَثُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ:
(يَا غُلاَمُ، أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ الأَشْيَاخَ؟)
فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. / 11 -
(6/503)
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ،
عليه السَّلام، قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ،
لاَذُودَنَّ رِجَالاً عَنْ حَوْضِى، كَمَا تُذَادُ
الْغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ) . / 12 -
وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السَّلام: (يَرْحَمُ
اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ
لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ، لَكَانَتْ عَيْنًا
مَعِينًا، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ
أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ، قَالَتْ: نَعَمْ، وَلاَ حَقٌ
لكُمْ فِى الْمَاء قالوا: نَعَمْ. / 13 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (ثَلاَثَةٌ
لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ. . . . . . - الحديث - وَرَجُلٌ
مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ
أَمْنَعُكَ فَضْلِى كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ
تَعْمَلْ يَدَاكَ) . قال المهلب: لا خلاف أن صاحب الحوض
أحق بمائه، لقوله عليه السلام: (لأذودن رجالا عن حوضى) .
فأما حديث الغلام والأشياخ فصاحب الماء واللبن أحق به
أولا، ثم يستحقه المتيامن منه، فكان بين الحوض والقربه أو
القدح فرق، لأنه لو كان صاحب القدح أحق به أبدًا لما
استأذن النبى الغلام الذى كان عن يمينه فى أن يعطى
الأشياخ، فإنما تصح الترجمة فى الابتداء أن صاحب الماء
أولى به، ثم الأيمن فالأيمن أولى من صاحب الماء فى أن
يعطيه غيره، وإنما هذا فيما يؤكل أو يشرب الموضوع بين يدى
الجماعة، وأما فى المياه والآبار والجباب والعيون فصاحبها
أولى بها أولا، وأولى بها فى أن يعطى من شاء آخراُ بخلاف
حديث الغلام، وكذلك فى مسألة أم إسماعيل هى أحق بمائها
أولا وآخرًا. قال أبو عبد الله: وقوله: (لأذودن رجالا عن
حوضى) قال
(6/504)
قبيصة فى البخارى: هم المرتدون الذين
بدلوا، فإن قيل: كيف يأتون غرا محجلين والمرتد لا غرة له
ولا تحجيل؟ فالجواب أن النبى - عليه السلام - قال: (تأتى
كل أمة فيها منافقوها) ، وقد قال تعالى ذلك فى كتابه: (يوم
يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من
نوركم (الآية فصح أن المؤمنين يحشرون وفيهم المنافقون
الذين كانوا معهم فى الدنيا حتى يضرب بينهم بسور له باب
والمنافق لا غرة له ولا تحجيل له، لكن المؤمنون سموا غرا
محجلين بالجملة وإن كان المنافقون فى خلالهم.
- بَاب لاَ حِمَى إِلاَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (صلى الله
عليه وسلم)
/ 14 - فيه: الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، قَالَ: إِنَّ
النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ حِمَى إِلاَ
لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) ، وَقَالَ أبو عبد اللَّه:
بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حَمَى
البَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ
وَالرَّبَذَةَ. أصل الحمى فى اللغة: المنع، يعنى: لا مانع
لما لا مالك له من الناس من أرض أو كلأ أو شجر إلا لله
ولرسوله، وذكر ابن وهب أن البقيع الذى حماه النبى - عليه
السلام - قدره ميل فى ثمانية أميال، حماه لخيل المهاجرين،
وحمى أبو بكر الربذة لما يحمل عليه فى سبيل الله نحو خمسة
أميال فى مثلها، وحمى ذلك عمر لإبل الصدقة، وحمى أيضًا
السرف وهو مثل الربذة وزاد عثمان فى
(6/505)
الحمى لما كثرت الإبل والبقر فى أيامه من
الصدقات، أصل فعلهم ذلك من سنة النبى عليه السلام. فمعنى
قوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله) أى: أنه لا حمى لأحد يخص
به نفسه ترعى فيه ماشيته دون سائر الناس، وإنما هو لله
ولرسوله ولمن ورث ذلك عنه عليه السلام من الخلفاء بعده إذا
احتاج إلى ذلك لمصلحة تشمل المسلمين ومنفعة تعمهم، كما فعل
أبو بكر وعمر وعثمان لما احتاجوا إلى ذلك. وقد عاتب رجل من
العرب عمر بن الخطاب فقال له: بلاد الله حميت لمال الله.
وأنكر أيضاُ على عثمان أنه زاد فى الحمى، وليس لأحد أن
ينكر ذلك، لأن النبى - عليه السلام - قد تقدم إليه،
ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء بهدية وإنما يحمى الإمام
ما ليس بملك لأحد مثل: بطون الأودية، والجبال، والموات،
وإن كان قد ينتفع المسلمون بتلك المواضع فمنافعهم فى حماية
الإمام لها أكثر - والله الموفق - وقال الأصمعى: البقيع:
القاع، يقال: انزل بذلك البقع، أى: القاع، والجمع البقعان.
- بَاب شُرْبِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ مِنَ الأَنْهَارِ
/ 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ،
وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا
الَّذِى لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ
اللَّهِ. . . .) ، الحديث، (وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ
بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ
كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِىَ لِذَلِكَ أَجْرٌ) .
(6/506)
/ 16 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُ عَنِ
اللُّقَطَةِ. . . . . قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ:
(مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا،
تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا
رَبُّهَا) . أجمع العلماء أنه يجوز الشرب من الأنهار دون
استئذان أحد، لأن الله - تعالى - خلقها للناس والبهائم،
وأنه لا مالك لها غير الله - تعالى - وأجمعوا أنه لا يجوز
لأحد بيع الماء فى النهر، لأنه لا يتعين لأحد فيه حق، فإذا
أخذه فى وعائه أو آنيته جاز له بيعه. وقال مالك: لا بأس
ببيع الماء بالماء متفاضلا وإلى أجل وهو قول أبى حنيفة،
وقال محمد: هو مما يكال ويوزن لما روى أنه كان يتوضأ بالمد
ويغتسل بالصاع. وعلى هذا لا يجوز عنده فيه التفاضل
والنسيئة، لأن علته فى الربا الكيل والوزن. قال الشافعى:
لا يجوز بيعه متفاضلا ولا إلى أجل، لأن علته فى الربا أن
يكون مأكولا جنسًا.
- بَاب بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلاَ
/ 17 - فيه: الزُّبَيْر، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام،
قَالَ: (لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حْبُلاً، فَيَأْخُذَ
حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ
وَجْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أُعْطِىَ
أَوْ مُنِعَ) . / 18 - وفيه: عَلِىّ، أَصَبْتُ شَارِفًا
مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى مَغْنَمٍ يَوْمَ
بَدْرٍ، قَالَ: وَأَعْطَانِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) شَارِفًا أُخْرَى فَأَنَخْتُهُمَا
(6/507)
يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ
الأَنْصَارِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا
إِذْخِرًا لأَبِيعَهُ، فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ
فَاطِمَةَ. . . . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الباب
إباحة الاحتطاب فى المباحات والاختلا من نبات الأرض، كل
ذلك مباح حتى يقع التحظير من مالك الأرض، فترتفع الإباحة،
وذكر ابن المواز عن ابن القاسم، عن مالك قال: من كانت له
أرض يملكها ليست بأرض خربة فأراد أن يبيع ما نبت فيها من
المرعى بعد طيبه، أنه لا بأس له. وقال أشهب: لا يجوز ذلك،
لأنه رزق من رزق الله، ولا يحل لرب الأرض أن يمنع منه
أحداُ، لقوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به
الكلأ) ولو كان النبات فى حائط إنسان لما جاز له أن يمنع
منه أحدًا، لقوله عليه السلام: (لا حمى إلا لله ولرسوله) .
وقال الكوفييون كقول أشهب. قال المهلب: وفيه من الفقه أن
تضمين الجنايات بين ذوى الأرحام العادة فيها أن تهدر من
أجل القرابة، كما هدر على قيمة الناقتين والجناية فيهما مع
وكيد الحاجة إليهما أو إلى ما كان يستقبله من الإنفاق فى
وليمة عرسه، وفيه أن للإمام أن يمضى إلى أهل بيت بلغه أنهم
على منكر فيغيره، وفيه علة تحريم الخمر، ومعنى قوله تعالى:
(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى
الخمر والميسر (من أجل ما جفا به حمزة على النبى من هجر
القول.
(6/508)
والشرف جمع شارف، وهى الحسنة من النوق
والنواء جمع ناوية، والناوية السمينة، وقد نويت نيا
ونواية. ابن السكيت: نواية. أبو حنيفة: أنوينا إبلنا:
أسمناها. الخطابى: النى: السمن والنى بالكسر: اللحم الطرى،
وجب: قطع ومنه قيل للخصى: مجبوب، أى: مقطوع. وبقر البطن
والشىء بقرًا: شقه.
- بَاب الْقَطَائِعِ
/ 19 - فيه: أَنَس، أَرَادَ النَّبِىُّ، عليه السَّلم،
أَنْ يُقْطِعَ الأَنْصَار مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَتِ
الأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لإِخْوَانِنَا مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِى يُقْطِعُ لَنَا، قَالَ:
(سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى
تَلْقَوْنِى) . وترجم له (باب كتابة القطائع) . قَالَ
أَنَس: دَعَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الأَنْصَارَ
لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لإِخْوَانِنَا
مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ
سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى
تَلْقَوْنِى) . قال إسماعيل بن إسحاق: مال البحرين كان من
الجزية، لأن المجوس كانوا فيها كثيرًا فى ذلك الوقت بسبب
سلطان كسرى كان بها، وكان فيها أيضًا من أهل الذمة سوى
المجوس، وكان عامله عليها أبان بن سعيد بن العاص.
(6/509)
قال المؤلف: فهذا يدل أن الذى أراد أن يقطع
النبى - عليه السلام - للأنصار من البحرين لم تكن نفس
الأرض، لأنها كانت أرض صلح يؤدى أهلها الجزية عليها، وإنما
أراد أن يقطع لهم مالا يأخذونه من جزية البحرين، لأن
الجزية تجرى مجرى الخراج والخمس، فيجوز أخذها للأغنياء،
وليست تجرى مجرى الصدقة. وقوله: (فلم يكن ذلك عند النبى)
يعنى: فلم يرد ذلك النبى - عليه السلام - لأنه كان قد أقطع
المهاجرين أرض بنى النضير حين أجلوها وليستغنوا عن رفد
الأنصار ومشاركتهم، وردوا إليهم منائحهم. قال المهلب:
وقوله عليه السلام للأنصار: (إنكم سترون بعدى أثرة فاصبروا
حتى تلقونى) يدل أن الخلافة لا تكون فى الأنصار، ألا ترى
أنه جعلهم تحت الصبر إلى يوم يلقونه، والصبر لا يكون إلا
من مغلوب محكوم عليه.
- بَاب حَلَبِ الإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ
/ 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله
عليه وسلم) : (مِنْ حَقِّ الإِبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى
الْمَاءِ) . قال المهلب: قوله عليه السلام: (من حق الإبل
أن تحلب على الماء) يعنى الحق المعهود المتعارف بين العرب
من التصدق باللبن على المياه إذ كانت طوائف الضعفاء
والمساكين ترتصد يوم ورود الإبل على المياه لتنال من رسلها
وتشرب من لبنها، وهذا حق حلبها على الماء، لا أنه فرض لازم
عليهم، وقد تأول بعض السلف فى قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم
حصاده (قال: هو أن
(6/510)
يعطى المساكين عند الجداد والحصاد ما تيسر
من غير الزكاة، وهذا مذهب ابن عمر، وبه قال عطاء ومجاهد
وسعيد بن جبير، وجمهور الفقهاء على أن المراد بقوله تعالى:
(وآتوا حقه يوم حصاده (الزكاة المفروضة، وهو تأويل ابن
عباس وغيره، وقد تقدم بيان هذا فى كتاب الزكاة فى باب إثم
مانع الزكاة.
- بَاب الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ فِى
حَائِطٍ أَوْ فِى نَخْلٍ
وقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ بَاعَ نَخْلاً
بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ،
فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْىُ، حَتَّى يَرْفَعَ،
وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ) . / 21 - وفيه: ابْن
عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنِ ابْتَاعَ
نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ،
إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . / 22 - وفيه:
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَخَّصَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام،
أَنْ تُبَاعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا. إنما أراد
البخارى أن يستدل من حديث ابن عمر وحديث زيد بن ثابت على
تصحيح ما ترجم، وذلك أن النبى - عليه السلام - لما جعل
لبائع أصول النخل المثمرة بعد أن تؤبر؛ كان له أن يدخل فى
الحائط لسقيها وتعهدها حتى يجدها، ولم يجز لمشترى أصول
النخل أن يمنعه الطريق والممر إليها. وكذلك يجوز لصاحب
العرية أن يدخل فى حائط المعرى لتعهد عريته وإصلاحها
وسقيها، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء، وأما من له طريق
مملوكة فى أرض غيره، فقال مالك: ليس للذى له الطريق أن
يدخل فيها بماشيته وغنمه؛ لأنه يفسد زرع صاحبه وقال
الكوفيون والشافعى: ليس لصاحب الأرض أن يزرع فى موضع
الطريق.
(6/511)
|