شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
35 - كِتَاب الْمُزَارَعَةِ
- بَاب مَا جَاء فِى الحرث والْمزارعة وَفَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ وَقوله تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ (الآية.
/ 1 - فيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) . قال المهلب: هذا يدل أن الصدقة على جميع الحيوان وكل ذى كبد رطبة فيه أجر، لكن المشركين لا نأمر بإعطائهم من الزكاة الواجبة لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) . وفيه من الفقه: أن من يزرع فى أرض غيره أن الزرع للزارع، ولرب الأرض عليه كراء أرضه لقوله عليه السلام: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا إلا كان له صدقة) . فجعل الصدقة للزارع والثواب له خاصة دون رب الأرض، فعلمنا أنه ليس لرب الأرض حق فى الزرع الذى أخرجته الأرض وفيه الحض على عمارة الأرض لتعيش نفسه أو من يأتى بعده ممن يؤجر فيه، وذلك يدل على جواز اتخاذ الصناع، وأن الله - تعالى - أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقوات أهليهم طلبًا للغنى بها عن الناس، وفساد قول من أنكر ذلك، ولو كان كما زعموا ما كان لمن زرع زرعًا وأكل منه إنسان أو بهيمة أجر، لأنه لا يؤجر أحد فيما

(6/456)


لا يجوز فعله، وقد تقدم بيان هذه المسألة بأوضح من هذا فى كتاب الخمس فى باب نفقة نساء النبى - عليه السلام - بعد وفاته، فأغنى عن إعادته.
- بَاب مَا يُحَذَّرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ وَتَجَاوِزِ الْحَدِّ الَّذِى أُمِرَ بِهِ
/ 2 - فيه: أَبُو أُمَامَةَ، أنَّهُ رَأَى سِكَّةً أَو شَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ) . قال المهلب: معنى هذا الحديث - والله أعلم - الحض على معالى الأحوال، وطلب الرزق من أشرف الصناعات لما خشى النبى على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد فى سبيل الله، لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة، والوقوع بذلك تحت أيدى السلاطين وركاب الخيل. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وثبوا على الخيل وثبًا لا يغلبكم عليها دعاة الإبل. أى دعوا التملك والتدلك بالنعمة، وخذوا أخشن العيش لتتعلموا الصبر فيه، فأمرهم بملازمة الخيل والتدريب عليها والفروسية، لئلا تملكهم الرعاة الذين شأنهم خشونة العيش، ورياضة أبدانهم

(6/457)


بالوثوب على الخيل، وقد رأينا عاقبة وصيته فى عصرنا هذا بميلنا إلى الراحة والنعمة. قال المؤلف: فمن لزم الحرث وغلب عليه، وضيع ما هو أشرف منه، لزمه الذل كما قال عليه السلام، ويلزمه الجفاء فى خلقه لمخالطته من هو كذلك، وقد جاء فى الحديث (من لزم البادية جفا) وقد أخبرنا عليه السلام بما يقوى هذا المعنى فقال: (السكينة فى أهل الغنم، والخيلاء فى أصحاب الخيل، والقسوة فى الفذاذين أهل الوبر) ، فكأنه قال: والذل فى أهل الحرث، أى: من شأن ملازمة هذه المهن توليد ما ذكر من هذه الصفات ومن الذل الذى يلزم من اشتغل بالحرث ما ينوبه من المؤنة بخراج الأرضين. وفيه: علامة النبوة، وذلك أنه عليه السلام علم أن من يأتى فى آخر الزمان من الولاة يجورون فى أخذ الصدقات والعشور، ويأخذون فى ذلك أكثر مما يجب لهم، لأنه لا ذل لمن أخذ منه الحق الذى عليه، وإنما يصح الذل بالتعدى وترك الحق فى الأخذ.
3 - بَاب اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ اقتنِى كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلاَ كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ) . وقال مرة: (إِلاَ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ) .

(6/458)


اقتناء الكلب للحرث والماشية والصيد مباح بدليل الكتاب والسنة، وقد تقدم حكم الكلب فى جميع وجوهه فى كتاب البيوع وكتاب الصيد فأغنى عن إعادته.
4 - بَاب اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ، قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً، فَتَبِعَهَا الرَّاعِى، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِىَ لَهَا غَيْرِى، قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) . وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِى الْقَوْمِ. قال المهلب: فبيان كلام البهائم من الآيات التى خصت بها بنو إسرائيل، لجواز أن تكون النبوة فيهم غير محظورة، وهذا الحديث حجة على من جعل علة المنع من أكل الخيل والبغال والحمير أنها خلقت للركوب والزينة لقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة (وقد خلقت البقر للحراثة، وأنطقها الله بذلك زيادة فى الآية المعجزة، ولم يمنع ذلك من أكل لحومها لا فى بنى إسرائيل ولا فى الإسلام، وفيه الثقة بما يعلم من صحة إيمان المرء وثاقب علمه والقضاء عليه بالعادة المعلومة منه، كما قضى النبى (صلى الله عليه وسلم) على أبى بكر وعمر بتصديق كلام البقرة والذئب، الذى توقف الناس عن الإقرار به، حتى احتاج رسول الله أن يقول أن هذا

(6/459)


بقربه معه أبو بكر وعمر، وناهيك بذلك فضيلة لهما ورفعة، لشهادة النبى لهما الذى لا ينطق عن الهوى. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضى: قال لى على بن المدينى: سمعت أبا عبيدة معمر ابن المثنى يقول فى حديث النبى، حين أخذ الذئب الشاة وأخذت منه - فقال: (من لها يوم السبع، يوم لا راعى لها غيرى) قال: ليس هو السبع الذى يسبع الناس، إنما هو عيد كان لهم فى الجاهلية يشتغلون بأكلهم ولعبهم، فيجئ الذئب فيأخذها.
5 - بَاب إِذَا قَالَ اكْفِنِى مَئُونَةَ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ وَتُشْرِكُنِى فِى الثَّمَرِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: (لاَ) ، قَالَ: (تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ) ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قال المهلب: إنما أراد الأنصار مشاركة المهاجرين بأن يقاسموهم أموالهم، فكره رسول الله أن يخرج عنهم شيئاَ من عقارهم، وعلم أن الله سيفتح عليهم البلاد فيغنى جميعهم، فأشركهم فى الثمرة على أن يكفوهم المئونة والعمل فى النخيل، وتبقى رقاب النخل للأنصار، وهذه هى المسافة بعينها.

(6/460)


قال غيره: فإن وجد فى بعض طرق هذا الحديث مقدار الشركة بين المهاجرين والأنصار فى الثمرة صير إليه، وإلا فظاهر اللفظ يقتضى عملهم على نصف ما تخرج الثمرة، لأن الشركة إذا أبهمت ولم يذكر فيها حد معلوم حملت على المساقاة. وروى عن مالك فى رجلين اشتريا سلعة فأشركا فيها ثالثاُ ولم يسميا له جزءا، أن السلعة بينهم أثلاثًا، فهذا يدل من قوله أنه لو كان المشرك واحدًا كانت بينهما نصفين. واختلف أهل العلم فى الرجل يدفع المال قراضاُ على أن للعامل شركاُ فى الربح، فقال الكوفيون: له فى ذلك أجر مثله، والربح والوضيعة على رب المال، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال ابن القاسم: يرد فى ذلك إلى قراض مثله. وقال الحسن البصرى وابن سيرين: له نصف الربح. وهو قول الأوزاعى وبعض أصحاب مالك. وحديث أبى هريرة فى هذا الباب يدل على صحة قول الحسن ومن وافقه، لأن من رد القراض فى ذلك إلى أجر مثله، أو إلى قراض مثله فعلته أنه فاسد إذ لم يعلم مقدار الشركة فى الربح، ولو كان كما قالوا لكانت مساقاة المهاجرين للأنصار فاسدة حين لم يسموا لهم مقدار ما يعملون عليه، والقراض عند أهل العلم أشبه شىء بالمساقاة، ومحال أن تكون مساقاة المهاجرين للأنصار عن أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ورأيه الموفق فاسدة.

(6/461)


6 - بَاب قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخيلِ
وَقَالَ أَنَسٌ أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ / 6 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السلام، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وَقَطَعَ وَهِىَ الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِى لُؤَىٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ / 7 - فيه: رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا كُنَّا نُكْرِى الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ: فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَمِمَّا تُصَابُ الأَرْضُ، وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. قال المهلب: يجوز قطع الشجر والنخل لخشب يتخذ منه، أو ليخلى مكانها لزرع أو غيره مما هو أنفع منه، يعود على المسلمين من نفعه أكثر مما يعود من بقاء الشجر، لأن النبى قطع النخل بالمدينة، وبنى فى موضعه مسجده الذى كان منزل الوحى، ومحل الإيمان، وقد تقدم قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم فى كتاب الجهاد، ونذكر منه طرفاُ فى هذا الباب. احتج من أجاز قطع شجر المشركين وكرومهم بقطع الرسول نخل بنى النضير، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين، فلا بأس أن يترك ثمارهم، والوجهان جائزان، لأن أبا بكر الصديق أمر ألا يقطع شجر مثمر، ولم يجهل ما فعل النبى بنخل بنى النضير، وما اعتل به من قال: إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين

(6/462)


فلا يقطع، ليس بصحيح، لأن النبى - عليه السلام - كان قد أعلمه الله أنه سيفتح عليه تلك البلاد وغيرها، وبشر أمته بذلك ثم قطعها، فدل ذلك على إباحة الوجهين، وفى قطعها خزى للمشركين ومضرة لهم، وأما حديث رافع، فلا أعلم وجهه فى هذا الباب، ولعل الناسخ غلط فكتبه فى غير موضعه. وفى رواية النسفى قبله باب فصل بينه وبين حديث ابن عمر، وسيأتى الكلام فيه فى موضعه بعد هذا - إن شاء الله - وسألت المهلب عنه فقلت له: حديث رافع لا أعلم له وجهاُ فى هذا الباب، فقال لى: قد يمكن أن يكون له فيه وجه، وهو أن من اكترى أرضاُ لسنين فله أن يزرع فيها ما شاء، ويغرس فيها الشجر وغيرها مما لا يضر بها، فإذا تمت الوجيبة قال صاحب الأرض: احصد زرعك، واقلع شجرك عن أرضى، فذلك لازم لمكتريها حتى يخلى له أرضه مما شغلها به، لقوله عليه السلام: (ليس لعرق ظالم حق) . فهو من باب إباحة قطع الشجر.
7 - بَاب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ
قَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَزَارَعَ عَلِىٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ أَبِى بَكْرٍ، وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِىٍّ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِى الزَّرْعِ، وَعَامَلَ عُمَرُ

(6/463)


النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا هُمْ بالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذا، وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا فَمَا خَرَجَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَقَتَادَةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطِىَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ، أَوِ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. / 8 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِى أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ، ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِىَ لَهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ. اختلف العلماء فى كراء الأرض بالشطر والثلث والربع، فأجاز ذلك على بن أبى طالب، وابن مسعود، وسعد، والزبير، أسامة، وابن عمر، ومعاذ، وخباب، وهو قول سعيد ابن المسيب وطاوس وابن أبى ليلى. قال ابن المنذر: وروينا عن أبى جعفر قال: (عامل رسول الله أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون بالثلث والربع) وهو قول الأوزاعى والثورى

(6/464)


وأبى يوسف ومحمد وأحمد، هؤلاء أجازوا المزارعة والمساقاة، وكرهت ذلك طائفة، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وعكرمة، والنخعى، وهو قول مالك وأبى حنيفة، والليث، والشافعى، وأبى ثور أنه لا تجوز المزارعة، وهى كراء الأرض بجزء منها، وتجوز عندهم المساقاة. وقال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة بوجه من الوجوه، وقالوا: المزارعة منسوخة بالنهى عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهى إجارة مجهولة؛ لأنه قد لا تخرج الأرض شيئًا، وادعوا أن المساقاة منسوخة بالنهى عن المزابنة. وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عمر: (أن النبى - عليه السلام - ساقى يهود خيبر على شطر ما يخرج من الأرض والثمر جميعًا) قالوا: والأرض أصل مال فيجوز أن يعطيها لمن يعمل فيها كالثمن سواء وكالقراض، واحتج الذين منعوا المزارعة بأنها كراء الأرض بما يخرج منها، وهو من باب الطعام بالطعام نسيئة، وقد نهى رسول الله عن المخابرة، والمحاقلة، وهى كراء الأرض بما يخرج منها، وقالوا: لا حجة لكم فى مساقاة النبى - عليه السلام - لأهل خيبر، لأن خلافنا لكم إنما هو إذا لم يكن فى الأرض شجر وكانت الأرض مفردة، والنبى - عليه السلام - إنما عامل أهل خيبر على النخل والشجر وكانت الأرض تبعًا للثمرة، وهذا يجوز عندنا، وأما إذا كانت الأرض مفردة فلا يجوز؛ لأنه يمكن إجارتها، ولا تدعو إلى مزارعتها ضرورة كما تدعو إلى مساقاة الثمر، ألا ترى أن بيع

(6/465)


الثمر الذى لم يبد صلاحه من أصل النخل جائز وإن لم يشترط فيه القطع؛ لأنه تبع للنخل، ولا يجوز بيعها مفردة من غير شرط القطع؛ لأنها لا تكون تبعًا لغيرها بل تكون مقصودة بالبيع، فلم يكن حكمها مفردًا كحكمه إذا كان مضافًا، وأما قياسهم المزارعة على القراض والمساقاة فالجواب عنه: أن رأس المال فى ذلك لا تجوز إجارته، ولا يتواصل إلى منفعته إلا بالعمل عليه، فجاز أن يعطيه لمن يعمل فيه وتكون المنفعة بينهما، وليس كذلك الأرض؛ لأنه يمكن إجارتها. واحتج الذين منعوا المساقاة بأن النبى - عليه السلام - لما فتح خيبر أقرهم فى أرضهم ملكًا لهم، وشرط عليهم نصف الثمرة جزية، فكان ذلك يؤخذ منهم بحق الجزية لا بحق المساقاة. فقال لهم مخالفوهم: هذا باطل من وجوه. أحدها: ما روى عبد العزيز ابن صهيب عن أنس (أن النبى - عليه السلام - افتتح خيبر عنوة) وقال ابن شهاب عن ابن المسيب: (خمس رسول الله خيبر، ولا يخمس إلا ما أخذ عنوة) . والوجه الثانى: أن النبى - عليه السلام - قسم الأرض بين الغانمين، فأعطى الزبير سهمه، وأعطى عمر سهمه من خيبر، فوقف عمر سهمه. والوجه الثالث: أن عمر أجلاهم من خيبر إلى الشام لما فدغوا ابنه، ولو أقرهم النبى - عليه السلام - على الأرض ولم يملكها عليهم؛ لم يكن لمن بعده أن يجليهم وأن يفارق بينهم وبين أرضهم. وجواب

(6/466)


آخر: وهو أن عائشة قالت: (إن رسول الله بعث ابن رواحة إلى خيبر ليخرصها، ويعلم مقدار الزكاة فى مال المسلمين) ، فأخبرت عائشة أن ذلك مال المسلمين، وأن الزكاة كانت تجب فيه، فبطل قولهم: إن ذلك جزية؛ لأن الجزية لا تجب فيها زكاة، قاله ابن القصار. وأما قول البخارى: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، فإن الذين أجازوا المزارعة بالثلث والربع اختلفوا فيمن يخرج البذر، فروى عن ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر أنهم قالوا: يكون البذر من عند العامل. وروى عن بعض أهل الحديث أنه قال: من أخرج البذر منهما فهو جائز، لأن النبى - عليه السلام - دفع خيبر معاملة، وفى تركه اشتراط البذر من عند أحدهما دليل على أن ذلك يجوز من عند أيهما كان. وقال أحمد وإسحاق: البذر يكون من عند صاحب الأرض، والعمل من الداخل. وقال محمد بن الحسن وأصحابه: المزارعة على أربعة أوجه: ثلاثة منها جائزة، ووجه رابع لا يجوز، فأما الذى يجوز: فأن يكون البذر من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والوجه الثانى: أن يكون البذر والآلة كلها من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والثالث: أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبله، فهذا وجه. والوجه الذى لا يجوز: أن يكون البذر من قبل المزارع والعمل والآلة من قبل رب الأرض. قال المفسر: وأما وجه إجازتهم هذه الثلاثة الوجوه فإنما قاسوها

(6/467)


على القراض، لأن العامل فيه يعمل بجزء من الربح معلوم، وإن كان لايدرى كم يكون مبلغ الربح فكذلك يجوز أن يكرى الأرض بجزء معلوم وإن لم يعلم مقدار ما تخرجه الأرض، وهذا أصله عندهم قصة خيبر. وأما قولهم: لا يجوز أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبل رب الأرض، فإنه لما كان المزارع لم يخرج إلا البذر خاصة فكأنه باع البذر من رب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة، وهذا الوجه لا يجوز عند جميع العلماء. وذهب مالك إلى أنه لا يجوز أن يكون البذر إلا من عندهما جميعًا، وتكون الأرض من عند أحدهما، والعمل من الآخر، ويكون فيه العمل يوازى قيمة كراء الأرض. والعلماء متفقون على جواز هذا الوجه، لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عنده كراء الأرض. والعلماء متفقون على جواز هذه الوجه؛ لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عند مالك؛ لأنه كأنه أكراه نصف أرضه بنصف بذره، ولا يجوز عنده كراء الأرض بشىء من الطعام، ويجوز عنده وجه آخر من المزارعة أن يكريا الأرض جميعًا، ويخرج أحدهما البذر، ويخرج الآخر البقر وجميع العمل، وتكون قيمة العمل والبقر مثل قيمة البذر فلا بأس بذلك؛ لأنهما سلما من كراء الأرض بالطعام وتكافئا فى سائر ذلك. وأما تخيير عمر أزواج النبى - عليه السلام - بين الأوسق أو الأرض، من خيبر فمعنى ذلك أن أرض خيبر لم تكن للنبى

(6/468)


ملكًا ورثت بعده؛ لأنه قال عليه السلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) ، وإنما خيرهن بين أخذ الأوسق أو بين أن يقطعن من الأرض من غير تمليك ما يحد منه مثل الأوسق؛ لأن الرطب قد تشتهى أيضًا كما يشتهى التمر، فاختارت ذلك عائشة لتأكله رطبًا وتمرًا، فإذا ماتت عادت الأرض والنخل على أصلها وقفًا مسبلة فيما سبل فيه الفىء. وأما اجتناء القطن والعصفر ولقاط الزيتون والحصاد كل ذلك بجزء معلوم، فأجازه جماعة من التابعين، وهو قول أحمد بن حنبل قاسوه على القراض؛ لأنه يعمل بالمال على جزء منه معلوم، لا يدرى مبلغه، وكذلك إعطاء الثوب للنساج بجزء منه معلوم، وإعطاء الثور والغنم للراعى عند من أجازها، قاسها على القراض، ومنع ذلك كله مالك، والكوفيون والشافعى؛ لأنها عندهم إجارة بثمن مجهول لا يعرف، وأجاز عطاء، وابن سيرين، والزهرى، وقتادة أن يدفع الثوب إلى النساج ينسجه بالثلث والربع، واحتج أحمد بن حنبل بإعطاء النبى خيبر على الشطر.
8 - بَاب إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنِينَ فِى الْمُزَارَعَةِ
/ 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، عَامَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أهل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. وقال عمرو: قلت لطاوس: (لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبى نهى عنه قال ابن عمر: وإنى أعطيهم وأعينهم، فإن

(6/469)


أعلمهم أخبرنى - يعنى ابن عباس - أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه، ولكن قال: (إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا) . وترجم لحديث ابن عمر باب (مزارعة اليهود) وقال فيه: (إن النبى - عليه السلام - أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها) . اختلف العلماء فى المزارعة من غير أجل، فكرهها مالك، والثورى، والشافعى، وأبو ثور حتى يسمى أجلا معلومًا. قال ابن المنذر: وقال أبو ثور: إذا لم يسم سنين معلومةً فهو على سنة واحدة، وحكى عن بعض الناس أنه قال: أجيز ذلك استحسانًا، وأدع القياس. وقال ابن المنذر: قال بعض أصحابنا: ذلك جائز واحتج بقوله عليه السلام: (نقركم ما شئنا) ، وفى ذلك دليل على إجازة دفع النخل مساقاة والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة، فيكون لصاحب الأرض والنخل أن يخرج المساقى والزارع من الأرض والنخل متى شاء، وفى ذلك دلالة أن المزارعة بخلاف الكراء، ولا يجوز فى الكراء أن يقول: أخرجك عن أرضى متى شئت. ولا خلاف بين أهل العلم أن الكراء فى الدور والأرضين لا يجوز إلا وقتًا معلومًا، وقول أبى ثور حسن؛ لأن معاملته - عليه السلام - اليهود بشطر ما يخرج منها يقتضى سنة واحدة حتى يبين أكثر منها، فلم تقع المدة إلا معلومة، وسأزيد فى الكلام فى هذه المسألة فى باب: (إذا قال رب الأرض: اقرك، ما أقرك الله) ، بعد هذا - إن شاء الله.

(6/470)


9 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى الْمُزَارَعَةِ
/ 10 - فيه: رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلاً، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِى أَرْضَهُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِى، وَهَذِهِ لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ عليه السَّلام. هذا الوجه المنهى عنه فى هذا الحديث لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز؛ لأن غرر ومجهول، وهذه المزارعة المنهى عنها، وإنما اختلفوا فى المزارعة بالثلث والربع مما تخرج الأرض على ما تقدم قبل هذا. وقال ابن المنذر: جاء فى هذا الحديث العلة التى نهى النبى من أجلها عن كراء الأرض، وعن المخابرة، وهى اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية منها، وقد جاء فى حديث رافع أيضا علل أخر سأذكرها فى موضعها - إن شاء الله - وقد تقدم مذاهب العلماء فى المزارعة، وما يجوز منها وما لا يجوز، فأغنى عن إعادته. ومما لا يجوز فى المزارعة عند مالك أن يجتمع معنيان فى جهة واحدة، وهو أن يخرج صاحب الأرض البذر، فيجتمع له أرضه وبذره فلا يجوز، فيكون للعامل أجرة عمله وزرعه، ويكون الزرع لصاحب الأرض والبذر، وكذلك لو اجتمع للعامل البذر والعمل كانت المزارعة فاسدة، وكان عليه كراء الأرض لصاحب الأرض والزرع كله للعامل.

(6/471)


- بَاب إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَكَانَ فِى ذَلِكَ صَلاَحٌ لَهُمْ
/ 11 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ. . . .) الحديث، (فَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِى حَقِّى فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِى، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِى، فَقُلْتُ: إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَخُذْ، فَأَخَذَهُ كله. . . .) ، الحديث. قال المهلب: لا تصح هذه الترجمة إلا أن يكون الزارع متطوعًا إذ لا خسارة على صاحب المال؛ لأنه لو هلك الزرع أو ما ابتاع له بغير إذنه كان الهلاك من الزارع، وإنما يصح هذا على سبيل التفضل بالربح وضمان رأس المال، لا أن من تعدى فى مال غيره، فاشترى منه بغير إذنه أو زرع به أنه يلزم صاحبه فعله؛ لأن ما فى ذمته من الدين لا يتغير إلا بقبض الأجير له، أو برضاه بعمله فيه، وقد تقدم فى كتاب الإجارة حكم من تجر فى مال غيره بغير إذنه فربح، ومذاهب العلماء فى ذلك.

(6/472)


- بَاب أَوْقَافِ أَصْحَابِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وَأَرْضِ الْخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ
وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِعُمَرَ: (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ ثَمَرُةُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ) . / 12 - وفيه: عُمَر، قَالَ: لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا، كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَيْبَرَ. قال إسماعيل بن إسحاق: كانت خيبر جماعة حصون، فافتتح بعضها بقتال، وبعضها أسلمها أهلها على أن تحقن دماؤهم، هذا قول ابن إسحاق عن الزهرى، فكان حكم خيبر كلها العنوة، ومعنى هذه الترجمة - والله أعلم - أن الصحابة كانوا يزارعون ويساقون أوقاف النبى - عليه السلام - بعد وفاته على ما كان عامل عليه النبى يهود خيبر، فإن العمل جرى بالمزارعة والمساقاة فى أوقاف النبى عليه السلام - وأرض خراج المسلمين، ولم يرو عن أبى بكر ولا عمر ولا غيرهما أنهم غيروا حكم رسول الله فى هذا، فهى سنة ثابتة معمول بها، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب (الغنيمة لمن شهد الوقعة) الكلام فى حكم الأرض العنوة إذا غنمها المسلمون فى حديث عمر هذا.
- بَاب في إحياء الموات مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا
وَرَأَى ذَلِكَ عَلِىٌّ فِى أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِىَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِ وابْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه

(6/473)


السَّلام، وَقَالَ فِى حَقِّ غَيْرِ مُسْلِمٍ: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ) ، وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام. / 13 - فيه: عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ) . قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِى خِلاَفَتِهِ. وقوله عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهى له، وليس لعرق ظالم حق) وهذا حديث حسن السند. اختلف العلماء فى إحياء الموات، فقال مالك: من أحيا أرضًا ميتة فيما قرب من العمران، فلا بد فى ذلك من إذن الإمام، وإن كانت فى فيافى المسلمين والصحارى وحيث لا يتشاح الناس فيه، فهى له بغير إذن الإمام؟ وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: من أحيا أرضًا ميتة فهى له، ولا يحتاج إلى إذن الأمام فيما قرب كما لا يحتاج فيما بعد. قال أشهب وأصبغ: إن أحيا فيما قرب بغير إذنه أمضيت ولم يعنف. وقال مطرف وابن الماجشون: الإمام مخير بين أربعة أوجه: إن رأى أن يقره له فعل، أو يقره للمسلمين ويعطيه قيمته منقوضًا، أو يأمره بقلعه، أو يعطيه غيره فيكون للأول قيمته منقوضًا، والبعيد ما كان خارجًا عما يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، مما العادة أن الرعاء يبلغونة ثم يبيتون فى منازلهم، ويحتطب المحتطب ثم يعود إلى موضعه، وما كان من الأحياء فى المحتطب والمرعى فهو القريب من العمران فيمنع. وقال أبو حنيفة: ليس لأحد أن يحيى مواتًا إلا بإذن الإمام فيما بعد وقرب. قال الطحاوى: الحجة لأبى يوسف ومحمد قوله

(6/474)


عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) . فقد جعل إحياء ذلك إلى من أحب بلا أمر الإمام فى ذلك، قال: وقد دلت على ذلك شواهد من النظر، منها أن الماء الذى فى البحار والأنهار، من أخذ منه شيئًا ملكه بأخذه إياه، وإن لم يأمره الإمام بذلك، وكذلك الصيد هو لمن صاده، ولا يحتاج إلى تمليك من الإمام، لأن الإمام وسائر الناس فى ذلك سواء، فكذلك الأرض التى لا ملك لأحد عليها هى كالصيد الذى ليس بمملوك والماء المباح. والحجة لأبى حنيفة أن قوله: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) إنما معناه من أحياها على شرائط الأحياء فهى له، وذلك أن يحظرها وأذن الإمام له فيها، والدليل على صحة هذا التأويل قوله عليه السلام: (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، والحمى ما حمى من الأرض، فدل أن حكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم، وأن حكم ذلك غير حكم الصيد والماء. والفرق بينهما أنا رأينا ماء الأنهار لا يجوز للإمام تمليك ذلك أحدًا، ورأينا لو ملك رجلا أرضًا ميتة ملكها بذلك، ولو احتاج الإمام إلى بيعها فى نائبة للمسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك فى ماء نهر ولا صيد بر ولا بحر، وأنه ليس للإمام بيعهما ولا تمليكهما أحدًا، وأن الإمام فيهما كسائر الناس، فكان ملكهما يجب بأخذهما دون الإمام، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة. والحجة لمالك أن النبى - عليه السلام -: (أقطع لبلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع) ، ولم يقطعه حق مسلم، وهذا فيما قرب، فوجب استعمال الحديثين

(6/475)


جميعًا، فما وقع فيه التشاح والتنافس لم يكن لأحد عمارته بغير إذن الإمام، وما تباعد من العمارة ولم يتشاح فيه جاز أن يعمر بغير إذن الإمام، لأن النبى قال: (من أحيا أرضاُ ميتة فهى له) ، وهذا الإذن من النبى إقطاع. قال سحنون: وقد أقطع عمر العقيق وهو قرب المدينة، قال: ومسافة يوم عن العمارة بعيد. فإن قال أبو حنيفة: إن إحياء الموات من مصالح المسلمين، لأن الأرض مغلوب عليها، فوجب ألا تملك إلا بإذن الإمام كالغنيمة. قيل: الموات فى الفيافى من المباح كالصيد وطلب الركاز والمعادن، لا يفتقر شىء منها إلى إذن الإمام وإن كانت فى الأرض التى عليها يد الإمام، فكذلك الموات. وإحياء الموات عند مالك إجراء العيون، وحفر الآبار، والبنيان، والحرث، وغرس الأشجار، وهو قول الشافعى. وقال ابن القاسم: ولا يعرف مالك التحجير إحياء. والحجة له ما روى الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر قال: كان الناس يتحجرون على عهد عمر فى الأرض التى ليست لأحد، فقال عمر: من أحيا أرضًا ميتة فهى له. وهذا يدل أن التحجير غير الإحياء. قال ابن حبيب: وبلغنى عن ربيعة أنه قال: العرق الظالم عرقان: عرق ظاهر، وعرق باطن، فالباطن ما احتفره الرجل من الآبار أو غرس. قال ربيعة فى كتاب ابن حبيب: العروق أربعة: عرقان فوق الأرض، وهما الغرس والنبات، وعرقان فى جوفها: المياه والمعادن، وفى كتاب ابن سفيان: العروق أربعة: عرقان ظاهران، وعرقان

(6/476)


باطنان، فالظاهران: البناء والغرس، والباطنان: الآبار والعيون، والعرق الظاهر ما بنى فى أرض غيره. قال ابن حبيب: فالحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرًا على الظالم، إن شاء حبس ذلك فى أرضه بقيمته مقلوعًا، وإن شاء نزعه من أرضه. وقال غيره: ومعنى قوله: (وليس لعرق ظالم حق) يريد ليس له حق كحق نم غرس أو بنى بشبهة، فإذا غرس أو بنى بشبهة فله حق إن شاء رب الأرض أن يدفع إليه قيمته قائمًا فعل، وإن أبى قيل للذى بنى أو غرس ادفع إليه قيمة أرضه براحًا، فإن أبى كانا شريكين فى الأرض والعمارة، هذا بقيمة أرضه براحًا وهذا بقدر قيمة العمارة. قال ابن حبيب: لا خيار للذى بنى أو غرس إذا أبى ربُ الأرض أن يدفع إليه قيمة ما بنى أو غرس بأن يخرج رب الأرض من أرضه، ولكن إذا أبى رب الأرض من دفع قيمة ما بنى أو غرس نشرك فيها بينهما مكانه، هذا بقيمة أرضه براحًا، والآخر بقيمة عمارته قائمة، أخبرنى ابن الماجشون والمغيرة عن مالك: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض اليوم براحًا، ثم تقوم بعمارتها، فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحًا، كان العامر شريكًا لرب الأرض فيها إن أحبا قسمًا أو حبسا. قال ابن الجهم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كرهًا فيما مضى من السنين. ووقع فى الأمهات: من أعمر أرضًا. ولم أجد ذلك فى كتب اللغة، وذكر صاحب العين: أعمرت الأرض: وجدتها عامرة.

(6/477)


وليس هذا المعنى بمراد من هذا الحديث، وفى كتاب الأفعال: عمر المكان وعمرته عمارةً، فهو عامر ومعمور، وفى القرآن: (وعمروها أكثر مما عمروها (فجاء عمرت الأرض، ولم يجئ أعمرت الأرض، ويمكن أن يكون من اعتمر أرضًا وسقطت التاء من الأمر والله أعلم.
- باب
/ 14 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أُرِىَ، وَهُوَ فِى مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ فِى بَطْنِ الْوَادِى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، فَقَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ بِهِ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. / 15 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: (اللَّيْلَةَ أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ) . قال المهلب: هذا المعنى الذى حاول البخارى من أنه جعل موضع معرس النبى وصلاته موقوفًا له، ومتملكًا له لصلاته وتعريسه فيه لا يقوم على ساق؛ لأنه عليه السلام قد قال: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا) وقد يصلى فى أرض متملكة، فلم تكن

(6/478)


صلاته فيها بمبيحة للصلاة فيها للناس إلى يوم القيامة، وقد صلى فى دار أبى طلحة ودار عتبان، فلم يبح ذلك للناس أن يتخذوا ذلك الموضع مسجدًا، وإنما أدخله البخارى من أجل أنه نسب المعرس إلى رسول الله.
- بَاب إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلاً مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا
/ 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ عليه السَّلام لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) ، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ، وَأَرِيحَاءَ. اعتل من دفع بأنها كانت من النبى - عليه السلام - إلى غير أجل معلوم، لقوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) وكل من أجاز المساقاة فإنما أجازها إلى أجل معلوم، إلا ما ذكر ابن المنذر عن بعض أصحابه أنه تأول فى قوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) جواز المساقاة بغير أجل، وقد تقدم ذكره فى باب (إذا لم يشترط السنين فى المزارعة) . والذى عليه أئمة الفتوى أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم، قال مالك:

(6/479)


الأمر عندنا فى النخل أنها تساقى السنتين والثلاث والأربع وأقل وأكثر. وأجازها أصحاب مالك فى عشر سنين فما دونها، وقال محمد بن الحسن: إذا ساقاه ولم يسم سنين معلومة كان ذلك على سنة واحدة. وهو قول أبى ثور، وهو يشبه قول ابن الماجشون فيمن اكترى دارًا مشاهرة أنه يلزمه شهر واحد، لأن النبى - عليه السلام - أقر اليهود على أن لهم النصف، وهذا يقتضى سنة واحدة حتى يتبين أكثر منها. ولا حجة لمن دفع المساقاة فى قوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) ، ولم يذكر أجلا، لأنه عليه السلام كان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاد اليهود من جواره، لأنه امتحن معهم فى شأن القبلة فكان مرتقبًا للوحى فيهم، فقال لهم: (أقركم ما أقركم الله) منتظراُ للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك حتى حضرته الوفاة فقال: (لا يبقين دينان بأرض العرب) . فقوله عليه السلام: (أقركم ما أقركم الله) لا يوجب فساد عقد النبى - عليه السلام - ويوجب فساد عقد غيره بعده، لأنه عليه السلام كان ينزل عليه الوحى بتقرير الأحكام ونسخها، فكان بقاء حكمة موقوفًا على تقرير الله له، وكان بقاؤه ما أقره الله، وزواله إذا نسخه من مقتضى العقد، فإذا شرط ذلك فى عقده لم يوجب فساده، وليس كذلك صورته من غيره، لأن الأحكام قد ثبتت وتقررت. ومساقاة رسول الله اليهود على نصف الثمر يقتضى عموم جميع الثمر، ففيه حجة لمن أجاز المساقاة فى الأصول كلها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد،

(6/480)


وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الشافعى: لا تجوز إلا فى النخل والكرم خاصة، لأن المساقاة عنده لا تجوز إلا فيما يجوز فيه الخرص للزكاة، وذلك النخل والكرم، قال: لأن ثمرها بائن من شجره، ولا حائل دونه يمنع إحاطة النظر إليه، وغيرهما متفرق بين أضعاف ورق شجره، لا يحاط بالنظر إليه. وحجة القول الأول أن المساقاة إنما جازت فى النخل، لأنها أصول ثابتة لا يمكن بيع ثمرها، ولا إجارتها قبل وجودها، فجاز أن يساقى عليها بجزء من ثمرها، كما جاز فى القراض أن يدفع المال بجزء من ربحه لحاجة الناس إلى ذلك، وضرورتهم إليه فى أمر معاشهم، فجازت فى كل أصل ثابت يبقى كالزيتون، والتين، والرمان، والفرسك، والورد، والياسمين ونحوه، لأن النبى ساقى أهل خيبر على نصف الثمر، وهذا عام فى جميع الأشجار. ومن قال: إنما تجوز المساقاة فيما فيه الزكاة، فيلزمه أن يجيز المساقاة فى الزرع وغيره من الحبوب التى فيها الزكاة، فلما لم يجزها علم أن المساقاة لم تجب من أجل وجوب الزكاة، وإنما جازت للضرورة إليه وأن مالكها لا يقدر على عملها بنفسه. قال الطحاوى: ويلزم الشافعى أن يجيز المساقاة فى الزيتون، والتين، والكمثرى والأجاص، والرمان وكل شىء يظهر من شجره، لأن ذلك يحاط بالنظر إليه. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين) يريد حين ظهر عليها كل الظهور، حين صالحوه بالخروج عن أموالهم على أن يحقن دماءهم، فكانت

(6/481)


خيبر لله وللرسول وللمسلمين بما أخذ منهم فى الصلح وخمس ما أخذ عنوة، لأن المسلمين أخذوا سهامهم من العنوة. ولا يعارض ما روى فى كتاب الخمس (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) وهذا معناه حين ظهر عليها فى العنوة قبل القسمة كانت لله ولرسوله، وكانت عين العنوة لليهود قبل أن يصالحوه، فلما صالحوه كانت بعد الصلح وقبل قسمة العنوة لله ولرسوله، ثم لما قسم العنوة كانت لله ولرسوله الصلح وخمس العنوة، وللمسلمين أربعة أخماس العنوة. وقوله: (لما ظهر عليهم فى الطريق الذى فيه لله ولرسوله ولليهود) ، أى ظهر فى الرجاء؛ لأنه كان أخذ أعظمها حصنًا، فاستولى عليها رجاء، ألا ترى أنهم لجئوا إلى مصالحته لما رأوا من ظهوره، فتركوا الأرض وسلموها لحقن دمائهم، فكان حكم ذلك الصلح، وما انجلى عنه أهله بالرعب حكم الفىء لم يجز فيه خمس، وإنما استخلص منه رسول الله لنفسه، وكان باقيه لنوائب المسلمين وما يحتاجون إليه.
- بَاب مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُوَاسِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِى الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَر
/ 17 - فيه: رَافِع، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: لَقَدْ نَهَانَا النَّبِىّ، عليه السلام، عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ: دَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟) قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، وَعَلَى

(6/482)


الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: (لاَ تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا) . قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً. / 18 - وفيه: جَابِر، قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) . وروى أبو هريرة مثل حديث جابر، وقال عمرو: ذكرته لطاوس، فقال: يزرع، قال ابن عباس: (أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه، ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًات) . وفيه ابن عمر: (أنه كان يكرى مزارعه على عهد النبى عليه السلام وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبى نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله، فقال: نهانا النبى - عليه السلام - عن كراء المزارع. فقال ابن عمر: قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على عهد رسول الله بما على الأربعاء وشىء من التبن، ثم خشى عبد الله أن يكون النبى - عليه السلام - قد أحدث فى ذلك شيئًا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض) . احتج من منع المزارعة بحديث رافع عن عمه قال: (لقد نهانا النبى عن أمر كان بنا رافقًا. . .) وبحديث جابر، وبترك

(6/483)


ابن عمر كراء الأرض من أجل حديث رافع، واحتج الذين أجازوا المزارعة بحديث ابن عمر أن النبى - عليه السلام - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر على ما تقدم ذكره. وقال ابن المنذر: اختلفت ألفاظ أحاديث رافع، واختلفت فيها العلل التى من أجلها نهى عن كراء الأرض وعن المخابرة، فأحد تلك العلل: اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية منها. وعلة ثانية: وهو اشتراطهم الأكار أن ما سقى الماذيان والربيع فهو لنا، وما سقت الجداول فهو لكم. وعلة ثالثة: وهى إعطاؤهم الأرض على الثلث والربع والنصف. وعلة رابعة: وهو أنهم كانوا يكرونا بالطعام المسمى والأوسق من الثمر. وعلة خامسة: وهى أن نهيه عن ذلك عليه السلام كان لخصومة وقتال كان بينهم. وروى عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: (يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع، فسمع قوله: لا تكروا المزارع) . وعلة سادسة: احتج بها من جعل نهيه عليه السلام عن ذلك نهى تأديب، وذلك قول ابن عباس: (أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه: يعنى: لم يحرمه) . وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس (أن النبى - عليه السلام - لم يحرم المزارعة، وإنما أراد أن يرزق بعضهم بعضها) . قال ابن المنذر: فإذا كان سبيل أخبار رافع ما ذكرنا وجب الوقوف

(6/484)


عن استعمالها؛ لكثرة عللها، ووجب القول بحديث ابن عمر، وهو خبر ثابت لا علة فيه، وكذلك قال سالم بن عبد الله: أكثر رافع، ولو كانت لى مزارع لأكريتها. وقال أحمد بن حنبل: أحاديث رافع مضطربة، وأحسنها حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار. وأما قوله فى حديث رافع: (فنؤاجرها على الأوسق من التمر والشعير) ، فإن العلماء اختلفوا فى كراء الأرض بالطعام، فقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأبو ثور: يجوز أن تكرى الأرض بالطعام كله إذا كان معلومًا فى ذمة المكترى، قالوا: وكل ما جاز أن يكون ثمنًا لشىء جاز أن تكرى به الأرض ما لم يكن مجهولا أو غررًا. وروى ذلك عن النخعى. وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحجة لهم حديث الأوزاعى عن ربيعة، عن حنظلة ابن قيس قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس على عهد رسول الله يؤاجرون الأرض بما على الماذيانات وإقبال الجداول، فيهلك هذا، ويسلم هذا، فزجر عنه رسول الله، فأما شىء معلوم مضمون فلا) قالوا: فقد أخبر رافع بالعلة التى لها نهى رسول الله عن ذلك، وهو جهل البدل، وأخبر أن كراها جائز بكل شىء معلوم. قال ابن المنذر: إن أكراها بطعام معلوم يكون فى ذمة المكترى، أو بطعام حاضر يقبضه: فذلك جائز، وأما إن أكراها بجزء

(6/485)


مما يخرج منها فذلك غرر، لأنها قد تخرج وقد لا تخرج وهذا عند الشافعى المزارعة المنهى عنها، وقال مالك: لا يجوز أن يكرى الأرض بشىء مما يخرج منها أكل أو لم يؤكل، ولا بشىء من ما يؤكل ويشرب، خرج منها أم لا. واختلف أصحابه فى ذلك، فقال ابن كنانة: لا تكرى الأرض بشىء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من الطعام وغيره. وقال ابن نافع: جائز كراء الأرض بكل شىء من الطعام والإدام غير الحنطة والسلت والشعير، فإنها محاقلة. والحجة لمالك ما رواه شعبة عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله: (من كانت له أرض فليزرعها، أو يزرعها، ولا يكريها بثلث ولا بربع، ولا بطعام مسمى) ، وهذا عموم فى كل ما يخصه اسم طعام، سواء أنبتته الأرض أم لا، وإذا أكراها بطعام فهو فى معنى المخابرة المنهى عنها، لأنه يصير طعاماُ بطعام متأخر أو طعامًا بطعام متفاضلا وذلك محرم. الربيع: الجدول، والماذيانات: جداول الماء، وما نبت على حافتى مسيل الماء.
- بَاب كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الأَرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ.

(6/486)


/ 19 - فيه: رَافِع، قَالَ: حَدَّثَنِى عَمَّاىَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السلام، بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ، أَوْ بِشَىْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَانا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِىَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الَّذِى نُهِىَ عَنْ ذَلِكَ، مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ. اتفق العلماء على أنه يجوز كراء الأرض بالذهب والفضة، قال ابن المنذر: وهذا إجماع الصحابة، وذهب ربيعة إلى أنه لا يجوز أن يكرى بشىء غير الذهب والفضة. وقال طاوس: لا تكرى بالذهب ولا بالفضة، وتكرى بالثلث والربع. وقال الحسن البصرى: لا يجوز أن تكرى الأرض بشىء لا بذهب وفضة ولا بغيرهما. والحجة لقول الحسن ما روى عن رافع بن خديج (أن الرسول نهى عن كرى الأرض مطلقًا) ، وقال: إذا استأجرها وحرث فيها لعله أن يحترق زرعه، فيردها وقد زادت بحرثه لها، فينتفع رب الأرض بتلك الزيادة دون المستأجر، وهذا ليس بشىء، لأن سائر البيوع لا تخلو من شىء من الغرر، والسلامة فيها

(6/487)


أكثر، ولو روعى فى البيوع ما يجوز أن يحدث لم يصح بيع لأحد، لأجل خشية ما يحدث من عند الله تعالى. وقد ثبت عن رافع فى هذا الباب أن كراء الأرض بالذهب والفضة جائز، وذلك مضاف إلى رسول الله، وهو خاص يقضى على العام الذى جاء فيه النهى عن كراء الأرض بغير استثناء ذهب ولا فضة، والزائد من الأخبار أولى أن يؤخذ به، لئلا تتعارض الأخبار ويسقط شىء منها. والأربعاء: جداول الماء، واحدها: ربيع، عن صاحب العين.
- باب السقى
/ 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عز وجل: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَىْءٌ) ، فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ: وَاللَّهِ لاَ نجِدُهُ إِلاَ قُرَشِيًّا، أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . قال الهلب: فى هذا الحديث أن كل ما اشتهى فى الجنة

(6/488)


من أعمال الدنيا ولذاتها فممكن فيها، لقوله تعالى: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين (. قال المؤلف: وفيه الحكم بالدليل، ووصف الناس بغالب عادتهم وأحوالهم، لقول الأعرابى: (والله لا نجده إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع، فضحك النبى) فدل ضحكه على إصابة الأعرابى للحق فى استدلاله، ففى ذلك من الفقه أنه من لزم طريقة وحالة من خير أو شر أنه يجوز وصفه بها، ولا حرج على واصفه بالشر إن لزم طريقته، وفيه ما جبل الله عليه نفوس بنى آدم من حب الاستكثار، والرغبة فى متاع الدنيا، لأن الله قد أغنى أهل الجنة عن نصب الدنيا ومتاعها، فقال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن (. وقوله: (دونك يا ابن آدم، لا يشبعك شىء) يدل على فضل القناعة، والاقتصار على البلغة، وذم الشره والرغبة.
- بَاب مَا جَاءَ فِى الْزرع
/ 21 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِى أَرْبِعَائِنَا، فَتَجْعَلُهُ فِى قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، لاَ أَعْلَمُ إِلاَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ، وَلاَ وَدَكٌ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ زُرْنَاهَا، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ

(6/489)


بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى، وَلاَ نَقِيلُ إِلاَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. / 22 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَقُولُونَ: أكثر أَبَا هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ مِثْلَ حديثه، وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِى حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَالَ عليه السَّلام يَوْمًا: (إن يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَلا يَنْسَى مِنْ مَقَالَتِى شَيْئًا أَبَدًا. . . .) ، الحديث. فى هذا الحديث عمل الصحابة فى الحرث والزرع بأيديهم، وخدمة ذلك بأنفسهم، ألا ترى قول أبى هريرة: (وإن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم) ، وكذلك المرأة العجوز كانت تغرس السلق للنبى - عليه السلام - وأصحابه ففى هذا أن الامتهان فى طلب المعاش للرجال والنساء من فعل الصالحين، وأنه لا عار فيه ولا نقيصة على أهل الفضل. قال المهلب: وفيه إجابة المرأة الصالحة إلى الطعام. وفيه دليل على التهجير بالجمعة والمبادرة إليها عند أول الزوال، وإنما كانوا يشغلون بالغسل، ومراعاة التهجير عن قائلتهم المعروفة فى سائر الأيام، فلا يجدون السبيل إليها إلا بعد الصلاة، لا أنهم كانوا يصلونها قبل زوال الشمس، كما ظن بعض الناس وخالف كتاب الله فى قوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس (وقد تقدم هذا فى كتاب الجمعة.

(6/490)