شرح صحيح
البخارى لابن بطال الجزء السابع
(7/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
41 - كِتَاب الشَّرِكَةِ
- بَاب مَا جَاءَ فِى الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ
وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ
وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً لَمَّا لَمْ
يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِى النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ
هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِرَانُ فِى التَّمْرِ.
/ 1 - فيه: جَابِر: بَعَثَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام،
بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا
عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ،
وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا
بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِىَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو
عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ
كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَىْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا
كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى فَنِىَ، فَلَمْ
يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ:
وَمَا تُغْنِى تَمْرَةٌ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا
فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا
إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ،
فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ
مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ
فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا، فَلَمْ
تُصِبْهُمَا. / 2 - وفيه: سَلَمَةَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ
الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ، عَليه
السَّلام، فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ،
فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا
بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ
(7/5)
إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ
إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
: نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ،
فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعًا، وَجَعَلُوهُ عَلَى ذَلِك
النِّطَعِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ
بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا،
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ
اللَّهِ) . / 3 - وفيه: رَافِعَ، كُنَّا نُصَلِّى مَعَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ، فَنَنْحَرُ
جَزُورًا، فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا
نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. / 4 - وفيه:
أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ
الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ، وَقَلَّ
طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ
عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ
بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ
مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ) . النهد: ما يجمعه الرفقاء من
مال، أو طعام، على قدر فى الرفقة، ينفقونه بينهم، وقد
تناهدوا عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: ناهد
القوم الشىء، تناولوه بينهم. وقال المهلب: هذه القسمة لا
تصلح إلا فيما جعل للأكل خاصة؛ لأن طعام النهد وشبهه لم
يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد
على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وهذه القسمة
موضوعة بالمعروف، وعلى طريقة بين الآكلين، ألا ترى جمع أبى
عبيدة بقية أزواد الناس، ثم شركهم فيها بأن قسم لكل واحد
منهم، وقد كان فيهم من لم يكن له بقية طعام، وقد أعطى
بعضهم
(7/6)
أقل مما كان بقى له ولآخر أكثر، وكذلك فى
حديث سلم قسم النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهم بالاحتثاء،
وهو غير متساو. وهذا الفعل للنبى (صلى الله عليه وسلم) هو
الذى امتثل أبو عبيدة فى جمعه للأزواد، وإنما يكون هذا عند
شدة المجاعة، فللسلطان أن يأمر الناس بالمواساة ويجبرهم
على ذلك، ويشركهم فيما بقى من أزوادهم أحياء لإرماقهم
وإبقاء لنفوسهم، وفيه أن للإمام أن يواسى بين الناس فى
الأقوات فى الحضر بثمن وبغير ثمن، كما له فعل ذلك فى
السفر. وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وقال: إنه أصل
فى ألا يقطع سارق فى مجاعة؛ لأن المواساة واجبة للمحتاجين،
وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى باب حمل الزاد فى
الغزو فى كتاب الجهاد. وفى حديث رافع: قسمة اللحم بالتحرى
بغير ميزان؛ لأن ذلك من باب المعروف، وهو موضوع للأكل،
وأما قسمة الذهب والفضة مجازفة، فلا تجوز بإجماع الأمة؛
لتحريم التفاضل فى كل واحد منهما، وإنما اختلف العلماء فى
قسمة الذهب مع الفضة مجازفة، أو بيع ذلك مجازفة، فكرهه
مالك، ورآه من بيع الغرر والقمار، ولم يجزه. وأما
الكوفيون، والشافعى، وجماعة من العلماء، فأجازوا ذلك؛ لأن
الأصل فى الذهب بالفضة جواز التفاضل، فلا حرج فى بيع
الجزاف من ذلك وقسمته، وكذلك قسمة البر مجازفة لا تجوز،
كما لا يجوز بيع جزاف بُر ببر ونحوه مما حرم فيه التفاضل،
وما يجوز فيه التفاضل، فإنما الربا فيه فى النسيئة خاصة.
وأملق الرجل: افتقر، ومنه قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم
(7/7)
خشية إملاق} [الإسراء: 31] ، أى خشى الفقر،
ومثله أرملوا، يقال: أرمل القوم، فنى زادهم.
- بَاب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا
يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِى
الصَّدَقَةِ
/ 5 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ
فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (وَمَا كَانَ مِنْ
خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا
بِالسَّوِيَّةِ) . فقه هذا الباب أن الشريكين إذا كان رأس
مالهما سواء، فهما شريكان فى الربح، فمن أنفق من مال
الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند أخذ الربح بقدر ما
أنفق كل واحد منهما، فمن أنفق قليلاً رجع على من أنفق أكثر
منه؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، لما أمر الخليطين فى
الغنم بالتراجع بينهما بالسواء وهما شريكان، دل ذلك على أن
كل شريك فى معناهما.
3 - بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ
/ 6 - فيه رَافِع، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ
جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا، قَالَ: وَكَانَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى أُخْرَيَاتِ
الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ،
فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْقُدُورِ
فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ
الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ،
فَأَعْيَاهُمْ. . . الحديث.
(7/8)
وترجم له باب إذا عدل عشرة من الغنم بجزور
فى القسمة، وقال فيه: فعدل عشرة من الغنم بجزور. أجاز قسم
الغنم والبقر والإبل بغير تقويم: مالك، والكوفيون، وأبو
ثور، إذا كان ذلك على التراضى. وقال الشافعى: لا يجوز قسم
شىء من الحيوان بغير تقويم، وحجة من أجاز ذلك أن النبى،
عَلَيْهِ السَّلام، قسم الغنائم، وكان أكثر غنائم خيبر
الإبل والغنم، ولم يُذكر فى شىء من ذلك تقويم. قالوا:
وتعديل الغنم بالغنم، والبقر بالبقر، والإبل بالإبل جائز
على التراضى فى القسمة، ولا ربا يدخلها؛ لأنه يجوز فيها
التفاضل يدًا بيد. ومن حجة الشافعى أن قسمة النبى (صلى
الله عليه وسلم) الغنم مع الإبل إنما كانت على طريق
القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير، وهذا هو
معنى التقويم.
4 - بَاب الْقِرَانِ فِى التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ
حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ
/ 7 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ
جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ. قال: النهى عن
القران فى التمر عند العلماء من باب حسن الأدب فى الأكل؛
لأن القوم الذين وضع بين أيديهم التمر كالمتساوين فى أكله،
فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يحمد له
(7/9)
ذلك، ومن هذا الباب جعل أهل العلم النهى عن
النهبة فى طعام النثر فى الأعراس وغيرها، لما فيه من سوء
الأدب والاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام. وقال
أهل الظاهر: إن النهى عن القران على الوجوب لا على حسن
الأدب، وفاعل ذلك عاص لله إذا كان عالمًا بالنهى. ولا نقول
أنه أكل حرامًا؛ لأن أصله الإباحة جملة، والدليل على أنه
على حسن الأدب لا على الوجوب أن ما وضع بين أيدى الناس
للأكل، فإنما سبيله سبيل المكارمة لا سبيل التشاح، لاختلاف
الناس فى الأكل، فبعضهم يكفيه اليسير، وبعضهم لا يكفيه
أضعافه، فلو كانت سهماتهم، سواء لما ساغ لمن لا يشبعه
اليسير أن يأكل من مثل نصيب من يشبعه اليسير، ولما لم
يتشاح الناس فى هذا المقدار علم أن سبيل هذا المكارمة،
وليس على الوجوب، والله أعلم.
5 - بَاب تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ
بِقِيمَةِ عَدْلٍ
/ 8 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، عَلَيهِ
السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِى عَبْدٍ، أَوْ
شِرْكًا لَهُ، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مال
يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ عَتِيقٌ،
وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) .
(7/10)
/ 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا
لَهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِى مَالِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ
قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِىَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ
عَلَيْهِ) . قال: اختلف العلماء فى قسمة الرقيق، فذهب أبو
حنيفة والشافعى إلى أنه لا يجوز قسمته إلا بعد التقويم،
وحجتهم حديث ابن عمر، وأبى هريرة، أن النبى، عَلَيْهِ
السَّلام، قال: (من أعتق شقصًا له من عبد قوم عليه قيمة
عدل) ، قالوا: فأجاز، عَلَيْهِ السَّلام، تقويمه فى البيع
للعتق، وكذلك تقويمه فى القسمة. وذهب مالك، وأبو يوسف،
ومحمد، إلى أنه تجوز قسمة الرقيق بغير تقويم إذا تراضوا
على ذلك، وحجتهم أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قسم غنائم
حنين، وكان أكثرها السبى والماشية، لا فرق بين الرقيق
وسائر الحيوان، ولم يُذكر فى شىء من السبى تقويم، وتناقض
أبو حنيفة، فأجاز قسم الإبل والبقر والغنم بغير تقويم،
وزعم أن الفرق بين الرقيق وسائر الحيوان أن اختلاف الرقيق
متفاوت، وهذا ليس بشىء؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وكل بيع
صحيح جائز إذا انعقد على التراضى. ولا خلاف بين العلماء أن
قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائزة، وإنما
اختلفوا فى قسمتها بغير تقويم، فأجاز ذلك مالك، والكوفيون،
وأبو ثور، إذا كان ذلك على سبيل التراضى، ومنع من ذلك
الشافعى، وقال: لا يجوز قسم شىء من ذلك إلا بعد التقويم
قياسًا على حديث ابن عمر فى تقويم العبد.
(7/11)
6 - بَاب هَلْ يُقْرَعُ فِى الْقِسْمَةِ
وَالاسْتِهَامِ
/ 10 - فيه: النُّعْمَانَ بْن بَشِير، قَالَ النَّبِىِّ،
عَلَيْهِ السَّلام: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ
اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ
اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ
أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ
فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا
عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا
فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا،
فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا،
وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا
جَمِيعًا) . القرعة سنة لكل من أراد العدل فى القسمة بين
الشركاء، والفقهاء متفقون على القول بها، وخالفهم بعض
الكوفيين، وردت الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنه لا معنى
لها، وأنها تشبه الأزلام التى نهى الله عنها، وحكى ابن
المنذر، عن أبى حنيفة أنه جوزها، وقال: القرعة فى القياس
لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس فى ذلك وأخذنا بالآثار
والسنة. وقال إسماعيل بن إسحاق: وليس فى القرعة إبطال شىء
من الحق كما زعم الكوفيون، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء
فى أرض أو دار، فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة، ثم يستهموا
ويصير لكل واحد منهم ما وقع له بالقرعة مجتمعًا مما كان له
فى الملك مشاعًا، فيصير فى موضع بعينه، ويكون له ذلك
بالعوض الذى صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدل بالقيمة.
وإنما
(7/12)
منعت القرعة أن يختار كل واحد منهم موضعًا
بعينه، وهذا إنما يكون فيما يتشابه من الدور والأرض
والعروض، وما تستوى رغبة الناس فى كل موضع مما يقترع عليه.
وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (كمثل قوم استهموا على
سفينة) ، جواز القرعة؛ لإقرار النبى (صلى الله عليه وسلم)
لها، وأنه لم يذم المستهمين فى السفينة، ولا أبطل فعلهم،
بل رضيه وضربه مثلاً لمن نجى نفسه من الهلكة فى دينه، وقد
ذكر البخارى أحاديث كثيرة فى القرعة فى آخر كتاب الشهادات،
وترجم له باب القرعة فى المشكلات. قال المهلب: وفى حديث
النعمان بن بشير تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق
العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفيه تبيين
العالم للمسألة بضرب المثل الذى يفهم للعوام، وفيه أنه يجب
على الجار أن يصبر على شىء من الأذى لجاره خوفًا مما هو
أشد منه. وأما أحكام العلو والسفل تكون بين رجلين، فيعتل
السفل أو يريد صاحبه هدمه، فذكر سحنون، عن أشهب أنه قال:
إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، وأراد صاحب العلو أن يبنى
علوه، فليس لصاحب السفل أن يهدم السفل إلا من ضرورة يكون
هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو،
وليس لرب العلو أن يبنى على علوه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا
الشىء الخفيف الذى لا يضر بصاحب السفل. ولو تكسرت خشبة من
سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها، ويخاف
ضررها على صاحب السفل. قال أشهب:
(7/13)
وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو انهدم
السفل والعلو، أجبر صاحب السفل على بنائه، وليس على صاحب
العلو أن يبنى السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء، قيل
له: بع ممن يبنى. وروى ابن القاسم، عن مالك فى السفل لرجل
والعلو لآخر، فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل، وعليه
تعليق العلو حتى يصلح سفله؛ لأن عليه أن يحمله إما على
بنيان وإما على تعليق. وكذلك لو كان العلو على علو، فتعليق
العلو الثانى على صاحب الأوسط فى إصلاح الأوسط، وقد قيل:
إن تعليق العلو على رب العلو حتى يبنى الأسفل. وحديث
النعمان حجة لقول مالك وأشهب، وفيه دليل على أن صاحب السفل
ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وإن أحدث عليه
ضررًا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه
من الضرر، لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (فإن أخذوا على
أيديهم نجوا ونجوا جميعًا) ، ولا يجوز الأخذ إلا على يد
الظالم ومن هو ممنوع من إحداث ما لا يجوز له فى السنة.
7 - بَاب شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ، فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى)
[النساء: 3] ، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى
حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِى مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ
مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِى
(7/14)
صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا
يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَ
أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى
سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا
مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. . . الحديث.
قال: شركة اليتيم ومخالطته فى ماله لا تجوز عند العلماء
إلا أن يكون لليتيم فى ذلك رجحان، فإن كان الرجحان لمخالطه
أو مشاركه فلا يحل؛ لأن الله تعالى حرم أكل أموال اليتامى،
ثم قال بعد ذلك: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير
وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح)
[البقرة: 220] ، فأباحت هذه الآية مخالطتهم ومشاركتهم بغير
ظلم لهم.
8 - بَاب الشَّرِكَةِ فِى الأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا
/ 12 - فيه: جَابِر، جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا
وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ
شُفْعَةَ. اختلف أهل العلم فيما يحتمل القسم من الدور
والأرضين، هل يقسم بين الشركاء إذا دعا بعضهم إلى ذلك، وفى
قسمته ضرر على بعض؟ فقال مالك: يقسم بينهم ذلك، وهو قول
الشافعى. وقال أبو حنيفة فى الدار الصغيرة بين اثنين يطلب
أحدهما القسمة وأبى صاحبه: قسمت له. وقال ابن أبى ليلى: إن
كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم، وكل قسم يدخل
الضرر على أحدهم دون الآخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبى ثور.
قال ابن المنذر: وهذا أصح القولين.
(7/15)
وأجاز مالك قسم البيت وإن لم يكن فى نصيب
أحدهم ما ينتفع به، وأجاز قسم الحمام وغيره، واحتج بقوله
تعالى: (مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا) [النساء: 7] .
قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور
والحمامات والمنازل، وفى قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا
قسم، أن يباع ويقسم ثمنه ولا شفعة فيه؛ لقوله، عَلَيْهِ
السَّلام: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولقوله: (الشفعة فى كل ما
لم ينقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) ، فجعل، عَلَيْهِ
السَّلام، الشفعة فى كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق
الشفعة بما لم ينقسم مما لم يمكن إيقاع الحدود فيه، هذا
دليل الحديث، ولا حجة للكوفيين فى إجازة الضرر اليسير من
ذلك ومنعهم للكثير؛ لأن دفع الضرر واجب على المسلمين فى كل
شىء.
9 - بَاب إِذَا اقَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا
فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلاَ شُفْعَةٌ
/ 13 - فيه: جَابِرِ: قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا
وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ
شُفْعَةَ. قال: إذا كانت قسمة مراضاة واتفاق، فلا رجوع
فيها، وإن كانت قسمة قرعة وتعديل، ثم بان التغابن فيها،
فللمغبون الرجوع ونقض القسمة عند العلماء، وأما الشفعة فلا
تكون فى شىء مقسوم عند أحد
(7/16)
من العلماء، وإنما هى فى المشاع؛ لقوله،
عَلَيْهِ السَّلام: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) .
- بَاب الاشْتِرَاكِ فِى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا
يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ
/ 14 - فيه: سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِى مُسْلِمٍ، قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنِ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ،
فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِى شَيْئًا يَدًا
بِيَدٍ وَبنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ،
فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِى زَيْدُ
بْنُ أَرْقَمَ، وَسَأَلْنَا النَّبِىَّ، عَلَيْهِ
السَّلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ
فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرَدُوهُ) . فى هذا
الحديث أنه لا يجوز فى شىء من الصرف نسيئة، وإنما يكون
يدًا بيد، وأما صفة الشركة فى الصرف وغيرها، فأجمع العلماء
على أن الشركة فى الدنانير والدراهم جائزة، واختلفوا إذا
كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر. فقال مالك،
والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور: لا تجوز حتى يخرج أحدهما
مثل ما أخرج صاحبه. وقال ابن القاسم: وإنما لم يجز ذلك؛
لأنه صرف وشركة، وكذلك قال لى مالك. وذكر ابن أبى زيد،
قال: وقد اختلف عن مالك فى إجازة الشركة بدنانير من أحدهما
ودراهم من الآخر، وأجازه سحنون،
(7/17)
وأكثر قول مالك: أنه لا يجوز. وقال الثورى:
يجوز أن يجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فيخلطاها، وذلك
أن كل واحد منهما قد باع نصف نصيبه بنصف نصيب صاحبه، فآل:
أمرهما إلى قسمة ما يحصل فى أيديهما فى المتعقب. وأجمع
العلماء أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين
مالاً مثل مال صاحبه، ثم يخلطان ذلك ولا يتميز، ثم ليس
لأحدهما أن يبيع إلا مع صاحبه، إلا أن يجعل كل واحد منهما
لصاحبه أن يتجر بما رآه، ويقيمه مقام نفسه.
- بَاب مُشَارَكَةِ الذِّمِّىِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِى
الْمُزَارَعَةِ
/ 15 - فيه: ابن عُمَر، أن النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام،
أعطى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا
وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
قال المهلب: كل ما لا يدخله ربا ولا ينفرد به الذمى، فلا
بأس بشركة المسلم له فيه، وهذه المشاركة إنما معناها معنى
الأجرة، واستئجار أهل الذمة جائز حلال، وأما مشاركة الذمى
ودفع المال إليه ليعمل فيه، فكرهه ابن عباس، وكرهه
الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وأكثر العلماء، لما يخاف
عليه من التجر بالربا وبيع ما لا يحل بيعه، وهو جائز
عندهم. وقال مالك: لا تجوز شركة المسلم للذمى إلا أن يكون
(7/18)
النصراني يتصرف بحضرته، ولا يغيب عنه فى
شراء ولا بيع ولا تقاض، أو يكون المسلم هو متولى البيع
والشراء. وروى ذلك عن عطاء والحسن، وبه قال الليث،
والثورى، وأحمد، وإسحاق. واحتج من أجاز ذلك بمعاملة النبى
(صلى الله عليه وسلم) لهم فى مساقاة خيبر، وإذا جاز
مشاركتهم فى عمارة الأرض جاز فى غير ذلك، واحتج لمالك أن
الذمى إذا تولى الشراء باع بحكم دينه، وأدخل فى مال المسلم
ما لا يحل له، والمسلم ممنوع من أن يجعل ماله متجرًا فى
الربا والخمر والخنزير، وأما أخذ أموالهم فى الجزية،
فالضرورة دعت إلى ذلك، إذ لا مال لهم غيرها.
- بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا
/ 16 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى
أصحابه، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ للنّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) فَقَالَ: (ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) . هذه القسمة
يجوز فيها ما لا يجوز فى القسمة التى هى تمييز الحقوق
بعضها من بعض؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إنما وكل
عقبة على تفريق الضحايا على أصحابه، ولم يعين فيها لأحد
منهم شيئًا بعينه، فيخاف أن يعطى غيره عند القسمة، فيكون
ذلك ظلمًا له ونقصانًا عن حقه، فكان تفريقها موكولاً إلى
اجتهاد عقبة، وكان ذلك على سبيل التطوع من النبى، عَلَيْهِ
السَّلام، لا أنها كانت واجبة عليه لأصحابه، فلم يكن على
عقبة حرج فى قسمتها، ولا لزمه من أحد منهم ملامة إن أعطاه
دون ما أعطى صاحبه، وليس كذلك
(7/19)
القسمة بين من حقوقهم واجبة متساوية فى
المقسوم، فهذه لا يكون فيها تغابن ولا ظلم على أحد منهم،
وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الضحايا.
- بَاب الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَغَيْرِها
وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلاً سَاوَمَ شَيْئًا، فَغَمَزَهُ
آخَرُ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً. / 17 - فيه:
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، جَدّ زُهْرَةَ بْنِ
مَعْبَدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ إِلَى
السُّوقِ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ
عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ:
أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَدْ
دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا
أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى
الْمَنْزِلِ. الشركة بيع من البيوع، فتجوز فى الطعام وفى
كل ما يجوز تملكه عند جميع العلماء، وإنما اختلفوا فى
الشركة بالطعام، وإن تساووا فى الكيل والقيمة، وسواء كان
الطعام نوعًا واحدًا أو أنواعًا مختلفة، وهو قول الشافعى،
وخالف ابن القاسم مالكًا، فقال: تجوز الشركة بالحنطة إذا
اشتركا على الكيل ولم يشتركا على القيمة، وكانتا فى الجودة
سواء. وأجاز الشركة بالطعام الكوفيون وأبو ثور، وقال
الأوزاعى: تجوز الشركة بالقمح والزيت؛ لأنهما يختلطان
جميعًا، ولا يتميز أحدهما من الآخر. قال إسماعيل بن إسحاق:
إنما كره مالك الشركة بالطعام،
(7/20)
وإن تساوى فى الكيل والجودة؛ لأنه يختلف فى
الصفة والقيمة، ولا تجوز الشركة إلا على الاستواء فى
القيمة، فاحتيج فى الطعام أن يستوى أمره فى الشركة فى
الكيل والقيمة، وكان الاستواء فى ذلك لا يكاد أن يجتمع فيه
فكرهه، وليس الطعام مثل الدنانير والدراهم التى هى على
الاستواء عند الناس. وكان الأبهرى يقول: قول ابن القاسم
أشبه؛ لأن الشركة تشبه البيع. قال: وكما جاز بيع الطعام
بالطعام إذا استويا فى الكيل، وإن اختلفا فى القيمة، فكذلك
تجوز الشركة فيه. واختلفوا فى الشركة بالعروض، فقال مالك،
وابن أبى ليلى: هو جائز. وقال الثورى، والكوفيون،
والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يجوز ذلك. وقال
الشافعى: لا تجوز الشركة فى كل ما يرجع فى حال المفاضلة
إلى القيمة، إلا أن يبيع نصف عرضه بنصف عرض الآخر
ويتقايضا. وقال ابن المنذر: إنما لم تجز الشركة بالعروض؛
لأن رءوس أموالهم مجهولة، وغير جائز عقد الشركة على مجهول.
وحجة مالك فى إجازة ذلك أن الشركة إنما وقعت على قيمة
العرض الذى أخرجه كل واحد منهما، فلم يكن رأس مال مجهولاً،
وأما إجازة ابن عمر الشركة للذى غمز صاحبه، فهو قول مالك.
قال ابن حبيب: من قول مالك فى الذى يشترى الشىء للتجارة،
فيقف به الرجل لا يقول له شيئًا، حتى إذا فرغ من الشراء
استشركه، فرأى مالك أن الشركة له لازمة وأن يقضى بها؛ لأنه
أرفق بالناس من
(7/21)
إفساد بعضهم على بعض، ووجه ذلك أن المشترى
قد انتفع بترك الزياد عليه، فوجبت الشركة بينهما بسبب
انتفاعه بذلك. وكذلك إذا غمزه وسكت، فسكوته رضًا بالشركة؛
لأنه كان يمكنه أن يقول له: لا أشركك، فيزيد عليه، فلما
سكت كان ذلك رضًا. قال عبد الملك بن حبيب: وذلك لتجار تلك
السلعة خاصة كان مشتريها فى الأول من أهل تلك التجارة أو
غيرهم. قال: وكل ما اشتراه لغير تجارة، فسأله رجل أن يشركه
وهو يشترى، فلا تلزمه الشركة، وإن كان الذى استشركه من أهل
التجارة. والقول قول المشترى مع يمينه أن شراءه ذلك لغير
التجارة، قال: وما اشتراه الرجل من تجارته فى حانوته أو فى
بيته فوقف به ناس من أهل تجارته فاستشركوه، فإن الشركة لا
تلزمه، وليس مثل اشترائه ذلك فى غير حانوته ولا بيته.
- بَاب الشَّرِكَةِ فِى الرَّقِيقِ
/ 18 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِى مَمْلُوكٍ
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى
شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ) . الشركة بيع من البيوع تجوز فى
العبيد وفى كل شىء، وكل ما جاز أن يملكه رجل جاز أن يملكه
رجلان شراء أو هبة أو غيره، إلا أن الشريك
(7/22)
إذا وطئ جارية من مال الشركة، فإنهما
يتقاومانها وتصير لأحدهما بثمن قد عرفه؛ لأنه لا تحل
الشركة فى الفروج ولا إعارتها، ويدرأ عنه الحد بالشبهة.
- بَاب الاشْتِرَاكِ فِى الْهَدْىِ وَالْبُدْنِ وَإِذَا
أَشْرَكَ الرَّجُلُ رجلاً فِى هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى
/ 19 - فيه: جَابِرٍ، وابْن عَبَّاس، قَالاَ: قَدِمَ
النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَأَصْحَابُهُ صُبْحَ
رَابِعَةٍ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ لاَ
يَخْلِطُهُمْ شَىْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا،
فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. . .) ، إِلَى قَوله: وَجَاءَ
عَلِىُّ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَه النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَإشْرَكَهُ
فِى الْهَدْى. قال المهلب: لا يصح فى هذا الحديث ما ترجم
به من الاشراك فى الهدى بعد ما أهدى؛ لأنه ما كان بعد
تقليد الهدى وإشعاره، فإنما هو شريك فى الفضيلة؛ لأنه لا
تجوز هبة الهدى ولا بيعه بعد تقليده، وما كان قبل تقليده
فيمكن الشركة فى رقابه وهبته لمن يهدى عنه. قال المؤلف:
ذكر البخارى فى المغازى، عن بريدة الأسلمى، أن النبى،
عَلَيْهِ السَّلام، كان بعث عليًّا إلى اليمن قبل حجة
الوادع ليقبض الخمس، وقال غير جابر: فقدم على من سعايته،
فقال له، عَلَيْهِ السَّلام: (بما أهللت يا على؟) ، قال:
بما أهل به النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (فاهد وامكث
حرامًا كما أنت) ، قال: فأهدى له على هديًا.
(7/23)
فهذا تفسير قوله: (وأشركه فى الهدى) ، أنه
الهدى الذى أهداه على عن النبى، وجعل له ثوابه، فيحتمل أن
يفرده، عَلَيْهِ السَّلام بثواب ذلك الهدى كله، فهو شريك
له فى هديه؛ لأنه أهداه عنه متطوعًا من ماله، ويحتمل أن
يشركه فى ثواب هدى واحد يكون بينهما، كما ضحى النبى عنه
وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته بكبش وأشركهم فى
ثوابه. ويجوز الاشتراك فى هدى التطوع، وقد تقدم اختلاف
العلماء فى الاشتراك فى الهدى فى كتاب الحج فى باب قوله:
(فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) [البقرة: 196] ، فأغنى عن
إعادته.
(7/24)
|