شرح صحيح البخارى لابن بطال

42 - كِتَاب الرَّهون
- الرَّهْنِ فِى الْحَضَرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283] الآية
/ 1 - فيه أَنَس: رَهَنَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ. . . وذكر الحديث. الرهن جائز فى الحضر والسفر، وبه قال جميع الفقهاء، وحكى عن مجاهد أنه قال: لا يحل الرهن إلا فى السفر. وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة) [البقرة: 283] ، قالوا: فأباح الرهن بشرط أن يكون فى السفر. وحجة الجماعة أن الله لم يذكر السفر على أن يكون شرطًا فى الرهن، وإنما ذكره لأجل أن الغالب فيه أن الكاتب يعدم فى السفر، وقد يوجد الكاتب فى السفر، ويجوز فيه الرهن، فكذلك يجب أن يجوز الرهن فى الحضر، وإن كان الكاتب حاضرًا؛ لأن الرهن إنما هو على معنى الاستيثاق، بدليل قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضًا) [البقرة: 283] الآية، وكل ما جاز أن يستوثق به فى الحضر كالكفيل والضمين. وقد رهن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه بالمدينة عند يهودى فى شعير أخذه لأهله، والمدينة حضرته ووطنه، فسقط قولهم.

(7/25)


- بَاب مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ
/ 2 - فيه الأَعْمَشُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَ دِرْعَهُ. وترجم له الرهن عند اليهود وغيرهم، وإنما أراد النخعى أن يستدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالسنة المجتمع عليها، جاز فى المثمن وهو السلم. وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى عرض طعام أو غيره أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، وكل ما جاز تملكه وبيعه جاز رهنه. وفى رهن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه عند يهودى من الفقه دليل أن متاجرة أهل الكتاب والمشركين جائزة، إلا أن أهل الحرب لا يجوز أن يباع منهم السلاح، ولا كل ما يتقوون به على أهل الإسلام، ولا أن يرهن ذلك عندهم، وكان هذا اليهودى الذى رهنه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه من أهل الذمة، وممن لا تخشى منه غائلة ولا مكيدة للإسلام، ولم يكن حربيًا.
3 - بَاب رَهْنِ السِّلاَحِ
/ 3 - فيه جَابِر: قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا

(7/26)


أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: ارْهَنُونِى نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِى أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأَمَةَ، يَعْنِى السِّلاَحَ، فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرُوهُ. قال ابن إسحاق: كان كعب بن الأشرف من طى، وكانت أمه من بنى النضير، وكان يعادى النبى ويحرض المشركين عليه، فلما أصيب المشركون ببدر خرج إلى مكة يحرض على رسول الله، ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى أذاهم، فقال النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عند ذلك: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله) . قال المهلب: ولم تكن بنو النضير ذمة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يكن كعب بن الأشرف فى عهد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: والدليل على ذلك إعلان النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بأنه آذى الله ورسوله على رءوس الناس، وكيف يكون فى عهد من يشكو منه الأذى، بل كان ممتنعًا وقومه فى حصنه، وكان المسلمون يقنعون منهم بالقعود عن حربهم والتجيش عليهم، وإنما كانت بينهم مسالمة وموافقة للجيرة. فكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يمسك عنهم لإمساكهم عنه من غير عهد ولا عقد، ولو كان لكعب عهد لنقضه بالأذى، ولوجب حربه، ولكان بقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟) ، نابذًا

(7/27)


إليه عهده، ومسقطًا بذلك ذمته، ولو كان من أهل العهد والذمة لوجب حربه واغتياله بكل وجه. فمن لام النبى، عَلَيْهِ السَّلام، على ذلك، فقد كذب الله فى قوله: (فتول عنهم فما أنت بملوم) [الذاريات: 54] ، ووضف رسوله (صلى الله عليه وسلم) بما لا يحل له مما نزهه الله عنه، والله ولى الانتقام منه. وقد تقدم هذا المعنى فى باب الفتك فى الحرب فى كتاب الجهاد، ولم يجز أن يرهن عند كعب بن الأشرف سلاح ولا شىء مما يتقوى به على أذى المسلمين، وليس قولهم له: نرهنك اللأمة، مما يدل على جواز رهن الحربيين السلاح، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة فى الحرب وغيره.
4 - بَاب الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ. / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا) . / 5 - وَقَالَ مَرةٌ، عَن النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الظهر يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِى يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ النَّفَقَةُ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن له منفعة الرهن من ركوب الظهر ولبن الدر وغير ذلك، فقالت طائفة: كل ذلك للراهن ليس للمرتهن أن ينتفع بشىء من ذلك. وروى ذلك عن الشعبى،

(7/28)


وابن سيرين، وقال النخعى: كانوا يكرهون ذلك، وهو قول الشافعى، فإن للراهن أن يركب الرهن ويشرب لبنه بحق نفقته عليه، ويأوى فى الليل إلى المرتهن. ورخصت طائفة أن ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب دون سائر الأشياء على لفظ الحديث أن الرهن محلوب ومركوب، هذا قول أحمد وإسحاق. وقال أبو ثور: إن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه فى يد المرتهن فأنفق عليه، فله ركوبه واستخدامه على ظاهر الحديث. وذكر غير ابن المنذر، عن الأوزاعى، والليث مثله، ولا يجوز عند مالك، والكوفيين للراهن الانتفاع بالرهن وركوبه بعلفه وغلته لربه. واحتج الطحاوى لأصحابه، وقال: أجمع العلماء على أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، قال: والحديث مجمل لم يبين فيه الذى يركب ويشرب، فمن أين جاز للمخالف أن يجعله للراهن دون المرتهن، ولا يجوز حمله على أحدهما إلا بدليل. قال الطحاوى: وقد روى هشيم، عن زكريا، عن الشعبى، عن أبى هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (إذا كانت الدابة مرهونة، فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذى يشرب نفقتها وتركب) . فدل هذا الحديث أن المعنى بالركوب وشرب اللبن فى الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له، وجعلت النفقة عليه بدلاً مما ينقص منه، وكان هذا،

(7/29)


والله أعلم، وقت كون الربا مباحًا، ولم ينه حينئذ عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة، ونهى عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، وحرمت أشكال ذلك كلها، وردت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحرم بيع اللبن فى الضرع، ودخل فى ذلك النهى عن النفقة التى ملك بها المنفق لبنًا فى الضرع، وتلك النفقة غير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا. فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التى تجب له عوضًا منها، وباللبن الذى يحتلبه فيشربه. ويقال لمن جوز للراهن استعمال الرهن: أيجوز للراهن أن يرهن دابة هو راكبها؟ فلا يجد بدًا من أن يقول: لا، فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون محلاً بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير فى يده دون الراهن، كما وصف الله الراهن بقوله: (فرهان مقبوضة) [البقرة: 283] ، فقد ثبت أن دوام القبض فى الرهن لابد منه إذا كان الرهن إنما هو وثيقة فى يد المرتهن بالدين. وقد أجمعت الأُمَّةُ أن الأَمَة الرهن لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا تجوز له خدمتها، وقد حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: لا ينتفع من الرهن بشىء، فهذا الشعبى روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلا وهو عنده منسوخ.

(7/30)


وقال ابن القاسم عن مالك: إذا خلى المرتهن بين الراهن وبين الرهن يركبه أو يعيره أو يسكنه لم يكن رهنًا، فإذا أجره المرتهن بإذن الراهن أو أعاره لم يخرج من الرهن، والأجرة لرب الرهن، ولا يكون الكراء رهينة إلا أن يشترط المرتهن، فإن اشترط فى البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكراء، فإن مالكًا كرهه، وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم، فإن ذلك عند مالك يجوز فى الدور والأرضين، وكرهه فى الدواب والثياب، إذ لا يدرى كيف يرجع إليه، وكرهه فى القرض؛ لأنه يصير سلفًا جر منفعة. وقال الكوفيون: إذا أجر المرتهن الرهن بإذن الراهن أو أجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن. وحكم الضالة مخالف لحكم الرهن عند مالك وغيره، قال مالك: إذا أنفق على الضالة من الإبل والدواب، فله أن يرجع بذلك على صاحبها إذا جاء، وإن أنفقها بغير أمر السلطان، وله أن يحبس ذلك بالنفقة، إذ لا يقدر على صاحبها، ولابد من النفقة عليها، والمرتهن يأخذ راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن أنفق بغير أمر القاضى، فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضى، فهو دين على صاحبها.

(7/31)


5 - بَاب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وغيرهما فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِى وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
/ 6 - فيه ابْن عَبَّاس: أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. / 7 - وفيه عَبْدُ اللَّهِ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) [آل عمران: 77] الآية، ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ، قَالَ: فِىَّ نزلت، كَانَتْ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النّبِى، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) ، قُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِى، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ. . .) الحديث، فأنزل الله الآية. إذا اختلف الراهن والمرتهن فى مقدار الدين والرهن قائم، فقال الراهن: رهنتك بعشرة دنانير. وقال المرتهن: بعشرين دينارًا، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: القول قول الراهن مع يمينه، وقالوا: المرتهن مدع، فإذا لم تكن له بينة حلف الراهن؛ لأنه مدعى عليه على ظاهر السنة فى الدعوى لو لم يكن ثم رهن، ولا يلزم الراهن من الدين إلا ما أقر به، أو قامت عليه بينة. وفيه قول ثان: وهو أن القول قول المرتهن، ما لم يجاوز ثمنه قيمة الرهن، روى هذا عن الحسن وقتادة، ونحوه قال مالك، قال: القول قول المرتهن مع يمينه ما بينه وبين قيمة الرهن؛ لأن الرهن كشاهد للمرتهن إذا أجازه.

(7/32)


وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن لم يصدق فى الزيادة، ويكون القول قول الراهن مع يمينه، ويبرأ من الزيادة على قيمته ويؤدى قيمته، وحجته أن الراهن مدع لاستحقاق أخذ الرهن وإخراجه عن يد المرتهن، والمرتهن منكر أن يكون الراهن مستحقًا لذلك بما ذكره، فاليمين على المرتهن؛ لأن الراهن معترف بكونه رهنًا فى يد المرتهن، والرهن وثيقة بالحق وشاهد له، كالشهادة أنها وثيقة بالحق ومصدقة له فأشبه اليد، فصار القول قول من فى يده الرهن إلى مقدار قيمته. وإنما كان القول قول الراهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن المرتهن مدع جملة ما يذكره من الحق، فعليه أن يحلف على جملة ذلك، ثم يكون له مما حلف عليه قدر ما يشهد الرهن له من قيمته، فيكون كالشاهد واليمين؛ لأن المرتهن لا شهادة له فيما يذكره فيما زاد على قيمة الرهن، فصار مدعيًا لذلك، والراهن مدعى عليه، فكان حكم ذلك حكم المدعى والمدعى عليه، فإما بينة المدعى، أو يمين المدعى عليه.

(7/33)