شرح صحيح
البخارى لابن بطال 43 - كِتَاب الْعِتْقِ
- ما جاء فِى الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) [البلد: 13 - 15]
/ 1 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا
اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ
مِنَ النَّارِ. . .) الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث
فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما ينجى الله به من
النار، وفيه أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزى
المعتق للعبد بالعتق من النار، وإن كانت صدقة تصدق عليه فى
الآخرة، وهذا الحديث يبين أن تقويم باقى العبد على من أعتق
شقصًا منه إنما هو لاستكمال عتق نفسه من النار، وصارت حرمة
العتق تتعدى إلى الأموال لفضل النجاة به من النار، وهذا
أولى من قول من قال: إنما ألزم المعتق باقيه ليكمل حرمة
العبد، وتتم شهادته وحدوده، وهو قول لا دليل عليه.
(7/34)
- بَاب أَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟
/ 2 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِىَّ،
عَلَيْهِ السَّلام: أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
(إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ) ، قُلْتُ:
فَأَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَغْلاَهَا ثَمَنًا،
وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ
أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تُعِينُ ضَائعًا، أَوْ تَصْنَعُ
لأَخْرَقَ) ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ
النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ
بِهَا عَلَى نَفْسِكَ) . قال المهلب: وإنما قرن الجهاد فى
سبيل الله بالإيمان به؛ لأنه كان عليهم أن يجاهدوا فى سبيل
الله حتى تكون كلمة الله هى العليا، وحتى يفشو الإسلام
وينتشر، فكان الجهاد ذلك الوقت أفضل من كل عمل. وقوله:
(أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها) ، فمعنى ذلك أن من
اشتراها بكثير الثمن، فإنما فعل ذلك لنفاستها عنده، ومن
أعتق رقبة نفيسة عنده وهو مغتبط بها، فلم يعتقها إلا لوجه
الله، وهذا الحديث فى معنى قوله: (لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] ، وكان لابن عمر جارية
يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم ابتغتها نفسه، فأراد أن
يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره
لمكانها من قلبه. وقوله: (تعين ضائعًا) ، أى تعين فقيرًا،
(أو تصنع لأخرق) ، يعنى عاملاً لا يستطيع عمل ما يحاوله،
والخرق لا يكون إلا فى اليدين، وهو الذى لا يحسن الصناعات.
(7/35)
3 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ
الْعَتَاقَةِ فِى الْكُسُوفِ وَالآيَاتِ
/ 3 - فيه: أَسْمَاء، أَمَرَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ
السَّلام، بِالْعَتَاقَةِ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ. قال
المهلب: إنما أمر بالعتاقة فى الكسوف؛ لأن بالعتق يستحق
العتق من النار، والكسوف آية من آيات الله، قال الله: (وما
نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، فلذلك صلى،
عَلَيْهِ السَّلام، وأطال الصلاة من أجل الخوف الذى توعد
الله عليه فى القرآن، وأمر بالعتاقة، وقد تقدم هذا الباب
فى صلاة الكسوف.
4 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ
أَمَةً بَيْنَ شُّرَكَاءِ
/ 4 - فيه: ابْن عُمر، قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام:
(مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ) . / 5 - وقال
مرة: (قُوِّمَ عَلَيْهِ بقِيمَةَ العَدْل، فَأَعْطَى
شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَأعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ،
وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) . وقال: كان ابن
عمر يفتى فى العبد والأمة تكون بين الشركاء بذلك. اختلف
الفقهاء فى العبد إذا كان بين رجلين، فأعتق أحدهما نصيبه،
فقالت طائفة: لا يجب عليه الضمان بقيمة نصيب شريكه لعتاقه
إلا أن يكون موسرًا على ظاهر حديث ابن عمر، قالوا: وإنما
فى حديث ابن عمر وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر،
يدل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (وإلا فقد عتق منه
ما عتق) ، هذا قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، وأبى
يوسف، ومحمد، والشافعى.
(7/36)
وقال زفر: يضمن قيمة نصيب شريكه موسرًا كان
أو معسرًا، ويخرج العبد كله حرًا، وقال: العتق من الشريك
الموسر جناية على نصيب شريكه يجب بها عليه ضمان قيمته فى
ماله، ومن جنى على مال رجل وهو موسر أو معسر، وجب عليه
ضمان ما أتلف بجنايته، ولم يفترق حكمه إن كان موسرًا أو
معسرًا فى وجوب الضمان عليه. وهذا قول مخالف للحديث، فلا
وجه له؛ لأن قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (وإلا فقد عتق منه
ما عتق) ، دليل أن ما بقى من العبد لم يدخله عتاق، فهو
رقيق للذى لم يعتق على حاله، ولو فقد العتق فى الكل إذا
كان معسرًا يرجع الشريك إلى ذمة غير ملية، فلا يحصل له
عوض، وفى هذا إضاعة المال وإتلاف له، وقد نهى عن ذلك.
واختلفوا فى معنى هذا الحديث، فقال مالك فى المشهور عنه:
للشريك أن يعتق نصيبه قبل التقويم كما أعتق شريكه أولاً،
ويكون الولاء بينهما، ولا يعتق نصيب الشريك إلا بعد
التقويم وأداء القيمة. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: إن
كان المعتق الأول موسرًا أعتق جميع العبد حينئذ وكان حرًا،
ولا سبيل للشريك على العبد، وإنما له قيمة نصيبه على شريكه
كما لو قتله، قالوا: لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال:
(من أعتق شقصًا له فى عبد قوم عليه قيمة عدل ثم يعتق إن
كان موسرًا) . فأمر بالتقويم للذى يكون فى الشىء المتلف،
فعلم أنه إذا
(7/37)
أعتق نصيبه فقد أتلف نصيب شريكه بالعتق،
فلزمته القيمة، وقد روى مثله عن مالك. والحجة لمالك فى
مشهور مذهبه أن نصيب كل واحد من الشريكين غير تابع لنصيب
صاحبه، والدليل على ذلك أنه لو باع أحدهما نصيبه لم يصر
نصيب شريكه مبيعًا، فكذلك لا يصير نصيب شريكه حرًا بعتق
نصيبه. وأيضًا فإنه لو أعتق نصيب شريكه ابتداء لم يعتق،
وكذلك يجب إذا ابتدأ عتق نصيب شريكه أن ينعتق، وينعتق
نصيبه بعتق نصيب شريكه، فلما لم يكن نصيبه هاهنا تبعًا ولا
سرى إليه العتق، كذلك لا يكون نصيب شريكه تبعًا لنصيبه ولا
يسرى إليه العتق، واحتج مالك فى المدونة، فقال: ألا ترى
أنه لو مات العبد قبل التقويم لم يلزم المعتق الأول شىء.
5 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِى عَبْدٍ وَلَيْسَ
لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ
عَلَيْهِ نَحْوِ الْكِتَابَةِ
/ 6 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا فِى عَبْدٍ، فَخَلاَصُهُ
عَلَيْهِ فِى مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَ
قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِىَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ
عَلَيْهِ) . رواه جرير بن حازم، وسعيد، عن قتادة،
وَتَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى
ابْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ، واخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ.
(7/38)
اختلف العلماء فى العبد بين الرجلين يعتق
أحدهما نصيبه وهو معسر، فذهب الكوفيون، والثورى، والأوزاعى
إلى أنه إذا كان المعتق معسرًا، سعى العبد فى حصة شريكه
حتى يؤدى قيمتها، واحتجوا بهذا الحديث. وقال آخرون: لا
يعتق منه إلا ما عتق، ولا يجوز أن يستسعى العبد؛ لأنه لم
يتعد ولا جنى ما يجب عليه ضمانه ولا يؤخذ أحد بجناية غيره،
هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد ابن حنبل. وقوله، عَلَيْهِ
السَّلام، فى حديث ابن عمر: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ،
يبطل الاستسعاء؛ لأنه لم يقل: ويستسعى العبد، وقد روى
همام، وشعبة، وهشام الدستوائى هذا الحديث عن قتادة، ولم
يذكر فيه السعاية، حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو محمد
الأصيلى، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، قال: حدثنا أبو
بكر النيسابورى، قال: حدثنا على بن الحسن بن أبى عيسى
الهلالى، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا همام بن
يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى
هريرة، أن رجلاً أعتق شقصًا له فى مملوك، فأجاز النبى (صلى
الله عليه وسلم) عتقه وغرمه بقيمة ثمنه. قال قتادة: فإن لم
يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه. قال الدارقطنى:
ما أحسن ما رواه همام وضبطه فصل قول قتادة. قال الأصيلى
وابن القصار: ومن أسقط السعاية أولى ممن ذكرها؛
(7/39)
لما رواه عمران بن الحصين، عن النبى،
عَلَيْهِ السَّلام، فى الذى أعتق الستة الأعبد، فأسهم
النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة،
ولم يلزمهم الاستسعاء. وعلى مذهب أبى حنيفة كان يجب أن
يعتق من كل واحد جزءًا ويلزمه السعاية فى قيمة الباقى منه،
والنبى، عَلَيْهِ السَّلام، أقرع بينهم فأعتق اثنين منهم،
وهذا مخالف لما يقوله أبو حنيفة.
6 - بَاب الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ فِى الْعَتَاقَةِ
وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَ لِوَجْهِ
اللَّهِ
قَالَ النَّبىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (لِكُلِّ امْرِئٍ مَا
نَوَى) ، وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِى وَالْمُخْطِئِ. / 7 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى مَا
وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ
تَكَلَّمْ) . / 8 - وفيه: عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ،
عَلَيْهِ السَّلام: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وَلِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى. . .) الحديث. الخطأ والنسيان إنما يكون
فى الحنث فى الأيمان بعتق كانت اليمين أو بطلاق أو غيره،
وقد اختلف العلماء فى الناسى فى يمينه، هل يلزمه حنث أم
لا؟ فقالت طائفة: لا يلزم الناسى حنث، وهو قول عطاء بن أبى
رباح، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب
البخارى فى هذا الباب. وقال الشعبى وطاوس: من أخطأ فى
الطلاق فله نيته. وقال أحمد بن حنبل: يحنث فى الطلاق خاصة.
والحجة لقول عطاء: قوله
(7/40)
تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به
ولكن ما تعمدت قلوبكم) [الأحزاب: 5] ، وهو ظاهر أحاديث هذا
الباب. وذهب مالك، والكوفيون إلى أنه يحنث فى الخطأ
والنسيان، وهو الأشهر عن الشافعى، وروى ذلك عن أصحاب ابن
مسعود، وقد تقدم فى كتاب الأيمان والنذور اختلاف أهل العلم
فيمن حنث ناسيًا فى يمينه، فأغنى عن إعادته. ومن الخطأ فى
العتق والطلاق ما اختلف فيه ابن القاسم وأشهب أنه إذا دعا
عبدًا يقال له: ناصح، فأجابه مرزوق، فقال له: أنت حر، وهو
يظن أنه ناصح، وشهد عليه بذلك، فقال ابن القاسم: يعتقان
جميعًا، يعتق مرزوق لمواجهته بالعتق، ويعتق ناصح بما نواه،
وأما فيما بينه وبين الله، فلا يعتق إلا ناصح. قال ابن
القاسم: فإن لم يكن عليه بينة لم يعتق إلا الذى نوى. وقال
أشهب: يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين
العباد، ولا يعتق ناصح؛ لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو
يظنه هو، فرزق هذا وحرم هذا. وروى مطرف، وابن الماجشون
فيمن أراد أن يطلق امرأته واحدة فأخطأ لسانه فطلقها البتة،
طلقت عليه البتة، ولا ينفعه ما أراد، ولا نية له فى ذلك.
وهو قول مالك، قال: يؤخذ الناس بلفظهم فى الطلاق، ولا
تنفعهم نياتهم. وقال أصبغ، عن ابن القاسم: وعلى هذا القول
يكون
(7/41)
تأويل قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (الأعمال
بالنيات) ، على الخصوص كأنه قال: الأعمال بالنيات إلا فى
العتق والطلاق، فإن الأعمال فيهما بالأقوال والنيات، فمن
ادعى الخطأ بلسانه فيهما، فإثم ذلك ساقط عنه، وهو مأخوذ
بما نطق به لسانه حياطة للفروج وتحصينًا لها من الإقدام
على وطئها بالشك، واحتياطًا من الرجوع فى عتق الرقاب
المنجية من النار التى أمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام،
للمعتق شقصًا منها بتمام عتق جميع الرقبة وتخليصها من
الرق، وروى نافع، وزياد بن عبد الرحمن، عن مالك، أنه تنفعه
نيته، ولا تطلق إلا واحدة. وقد روى عن الحسن البصرى فى رجل
كان يكلم امرأته فى شىء فغلط، فقال: أنت طالق، قال: ليس
عليه شىء فيما بينه وبين ربه، والمعمول عليه من مذهب مالك
المشهور عند أصحابه القول الأول.
7 - بَاب إِذَا قَالَ للعبد: هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى
الْعِتْقَ وَالإِشْهَادِ فِى الْعِتْقِ
/ 9 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ
الإِسْلاَمَ وَمَعَهُ غُلاَمُهُ، ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ
السَّلام، فَقَالَ له النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أَتَاكَ) ،
فَقَالَ: أَمَا إِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ.
(7/42)
وقال مرة: أبقى لى غلام. . . الحديث، فقال:
(هو لوجه الله) ، وقال مرة: أما إنى أشهدك أنه لله. قال
المهلب: لا خلاف بين العلماء فيما علمت أنه إذا قال لعبده:
هو حر، أو هو لوجه الله، أو هو لله ونوى به العتق أنه
يلزمه العتق، وكل ما يفهم به عن المتكلم أنه أراد به العتق
لزمه ونفذ عليه، وأما الإشهاد فى العتق فهو من حقوق
المعتق، ويتم العتق عند الله، وجميع ما يراد به وجهه
بالقول والنية، وإن لم يكن ثم إشهاد، وقد قالت امرأة
عمران: (رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا) [آل عمران: 35]
، أى محررًا لخدمة المسجد،) فتقبلها ربها بقبول حسن) [آل
عمران: 37] ، فتم ما نذرته بدعوتها الله، وقبل الله ذلك
منها، فكان ما فى بطنها موقوفًا لما نذرته له من خدمة
المسجد، ولم تشهد غير الله تعالى. وفى هذا الحديث من الفقه
العتق عند بلوغ الأمل والنجاة مما يخاف من الفتن والمحن،
كما فعل أبو هريرة حين نجاه الله من دار الكفر، ومن ضلاله
فى الليل عن الطريق، وأعتق الغلام حين جمعه الله عليه
وهداه إلى الإسلام.
8 - بَاب أُمِّ الْوَلَدِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ
الأَمَةُ رَبَّهَا) .
(7/43)
/ 10 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ
عُتْبَةَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ
بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ
وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِى،
فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
زَمَنَ الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ
زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى النّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ،
فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا ابْنُ أَخِى
عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ
زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَخِى ابْنُ
وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أبِى، فَنَظَرَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى ابْنِ
وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ
لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ
وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (احْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ
بِنْتَ زَمْعَةَ) ، مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ
بِعُتْبَةَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) . أشكل معنى قصة عتبة على العلماء،
وتأولوا فيها ضروبًا من التأويل لخروجها عن الأصول المجمع
عليها، فمن ذلك أن الأمة متفقة أنه لا يدعى أحد عن أحد إلا
بتوكيل من المدعى له، ولم يذكر فى هذا الحديث توكيل عتبة
لأخيه سعد على ما ادعاه عنه، ومنها ادعاء عبد بن زمعة على
أبيه ولدًا بقوله: أخى وابن وليدة أبى، ولد على فراشه، ولم
يأت ببينة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أن يقبل دعواه على
أبيه؛ لأنه لا يستلحق غير الأب؛ لقوله تعالى: (ولا تكسب كل
نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] . وقال الطحاوى: ذهب قوم
إلى أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد تجىء به
بعد ذلك، ادعاه أو لم يدعه، هذا قول مالك والشافعى،
واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
قال: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، ثم قال: (الولد للفراش
وللعاهر الحجر) ، فألحقه
(7/44)
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بزمعة لا
لدعوة ابنه؛ لأن دعوة الابن للنسب لغيره من أبيه غير
مقبولة، ولكن لأن أمه كانت فراشًا لزمعة بوطئه إياها.
واحتجوا فى ذلك بما رواه مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبى
عبيد، أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم
يدعونهن يخرجن، لا تأتينى وليدة يقر سيدها أن قد ألم بها
إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن. وفى حديث
آخر: ما بال رجال يطئون ولائدهم، ثم يعزلونهن. وخالفهم فى
ذلك آخرون، فقالوا: ما جاءت به هذه الأمة من ولد، فلا يلزم
مولاها إلا أن يقربه، فإن مات قبل أن يقربه لم يلزمه. وهو
قول الكوفيين. واحتجوا على ذلك بأن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) إنما قال لعبد بن زمعة: (هو لك يا عبد بن زمعة)
، ولم يقل: هو أخوك، فيجوز أن يكون أراد بقوله: (هو لك) ،
أى هو مملوك لك بحق مالك عليه من اليد، ولم يحكم فى نسبه
بشىء، والدليل على ذلك أنه قد أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو
جعله ابن زمعة لما حجب منه بنت زمعة؛ لأنه عَلَيْهِ
السَّلام لا يأمر بقطع الأرحام، وإنما كان يأمر بصلتها ومن
صلتها التزاور، وكيف يجوز أن يأمرها أن تحتجب من أخيها،
وهو يأذن لعائشة أن تأذن لعمها من الرضاعة بالدخول عليها،
ولكن وجه ذلك أنه لم يكن حكم فيه بشىء غير اليد التى جعله
بها لعبد ولسائر ورثة زمعة دون سعد. واحتجوا أيضًا بما
رواه شعبة، عن عمارة بن أبى حفصة، عن عكرمة،
(7/45)
قال: كان ابن عباس يأتى جارية له فحملت،
فقال: ليس منى، إنى أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد. وروى
الثورى، عن أبى الزناد، عن خارجة بن زيد، أن أباه كان يعزل
عن جارية فارسية فأتت بحمل، فأنكره وقال: إنى لم أكن أريد
ولدك، وإنما استطبت نفسك، فجلدها وأعتقها. وقول ابن عباس
وزيد خلاف ما روى عن عمر بن الخطاب فى ذلك أهل المقالة
الأولى. واختلفوا فى معنى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (هو لك
يا عبد بن زمعة) ، فقالت طائفة: إنما قال: (هو لك) ، أى هو
أخوك كما ادعيت قضاء منه فى ذلك بعلمه؛ لأن زمعة بن قيس
كان صهره، عَلَيْهِ السَّلام، وسودة بنت زمعة كانت زوجته،
فيمكن أن يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة، فألحق
ولدها به لما علمه من فراش زمعة لا أنه قضى بذلك لاستلحاق
عبد بن زمعة له. وقال الطحاوى فى قوله: (هو لك) ، أى هو لك
بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن تمنع منه كل من سواك، كما
قال فى اللقطة: هى لك بيدك عليها، تدفع غيرك عنها حتى يجىء
صاحبها ليس على أنها ملك لك، ولما كان عبد بن زمعة له شريك
فيما ادعاه وهى أخته سودة، ولم يعلم منها تصديق له، ألزم
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عبد بن زمعة ما أقر به على
نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته، إذ لم تصدقه، ولم يجعله
أخاها وأمرها بالحجاب منه. وقال الطبرى: هو لك ملك لا أنه
قضى له بنسبه. قال ابن
(7/46)
القصار: فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان يدعى
عبد بن زمعة أنه حر وأنه أخوه ولد على فراش أبيه، فكيف
يقضى له بالملك؟ ولو كان مملوكًا لعتق بهذا القول. والجواب
الثانى: أنه لو قضى له بالملك لم يقل: الولد للفراش؛ لأنه
المملوك لا يلحق بالفراش، ولكان يقول: هو ملك لك. وقال
المزنى فى تأويل هذا الحديث: يحتمل أن يكون النبى (صلى
الله عليه وسلم) أجاب فيه على المسألة فأعلمهم بالحكم أن
هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا، لا أنه قبل قول
سعد على أخيه عتبة، ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه
أخوه؛ لأنه كل واحد منهما أخبر عن غيره، وقد أجمع المسلمون
أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم كيف
الحكم فى مثله إذا نزل، وقد حكى الله مثل ذلك فى قصة داود
إذ دخلوا عليه ففزع منهم: (فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا
على بعض) [ص: 22] ، ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحد منهما
تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل أن
يكون، عَلَيْهِ السَّلام، حكم فى هذه القصة بنحو ذلك،
ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت،
فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة بذلك أو الإقرار ممن يلزم
إقراره، وزاده بعدًا شبهه بعتبة، أمرها بالاحتجاب منه،
فكان جوابه، عَلَيْهِ السَّلام، على السؤال لا على تحقيقه
زنا عتبة بقول أخيه، ولا بالولد أنه لزمعة بقول ابنه، بل
قال: (الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة لا على ما قال
سعد) ، ثم أخبر بالذى يكون إذا ثبت مثل هذا.
(7/47)
وقال الكوفيون: قوله: (احتجبى منه يا سودة)
، دليل على أنه جعل للزنا حكمًا، فحرم به رؤية ذلك
المستلحق لأخته سودة، وقال لها: (احتجبى منه) ، فمنعها من
أخيها فى الحكم؛ لأنه ليس بأخيها فى غير الحكم؛ لأنه من
زنا فى الباطن إذا كان شبيهًا بعتبة فجعلوه كأنه أجنبى لا
يراها بحكم الزنا، وجعلوه أخاها بالفراش، وزعموا أن ما
حرمه الحلال فالزنا أشد تحريمًا له. وقال الشافعى: رؤية
ابن زمعة لسودة مباح فى الحكم، ولكنه كرهه للشبهة وأمرها
بالتنزه عنه اختيارًا. وقال بعض أصحابه: إنه يجوز للرجل أن
يمنع زوجته من رؤية أخيها، وذهبوا إلى أنه أخوها على كل
حال؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بالولد
للفراش وألحق ابن أمة زمعة بفراش زمعة، قالوا: وما حكم به
فهو الحق. وفى قوله: (الولد للفراش) ، من الفقه إلحاق
الولد بصاحب الفراش فى الحرة والأمة. وقوله: (وللعاهر
الحجر) ، أى لا شىء للزانى فى الولد إذا ادعاه صاحب
الفراش، وهذه كلمة تقولها العرب.
9 - بَاب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
/ 11 - فيه: جَابِرَ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا
عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) بِهِ فَبَاعَهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَاتَ
الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ.
(7/48)
اختلف العلماء فى بيع المدبر، فقالت طائفة:
يجوز بيعه ويرجع به صاحبه متى شاء، هذا قول مجاهد وطاوس،
وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بهذا
الحديث، قالوا: وهو مذهب عائشة، وروى عنها أنها باعت مدبرة
لها سحرتها. وقالت طائفة: لا يجوز بيع المدبر، روى ذلك عن
زيد بن ثابت وابن عمر، وهو قول الشعبى، وسعيد بن المسيب،
وابن أبى ليلى، والنخعى، وبه قال مالك، والثورى، والليث،
والكوفيون، والأوزاعى، قالوا: لا يباع المدبر فى دين ولا
غيره، فى الحياة ولا بعد الموت، والحجة لهم قوله تعالى:
(أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، والتدبير عقد طاعة يلزم
الإنسان الوفاء به، فلا سبيل إلى حله والرجوع فيه؛ لأنه
عقد حرية بصيغة آتية لا محالة، قالوا: ولا حجة فى حديث
جابر لمن أجاز بيع المدبر؛ لأن فى الحديث أن سيده كان عليه
دين فباعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بثمانمائة
وأعطاه، وقال له: (اقض دينك) ، فثبت بهذا أن بيعه إنما كان
من أجل الدين الذى عليه، فأما إذا لم يكن عليه دين قبل
تدبيره فلا سبيل إلى بيعه. وأيضًا فإن سيده كان سفيهًا،
ولذلك باعه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، وبيع المدبر عند من
أجازه لا يفتقر صاحبه فيه إلى بيع الإمام، وهذا الحديث عند
العلماء أصل فى أن أفعال السفيه مردودة، فلا حجة لهم فيه.
فإن قيل: إن التدبير وصية يجوز الرجوع فيه، قيل: ليس كونه
(7/49)
وصية يجوز الرجوع فيه؛ لأن العتق فى المرض
لا يجوز الرجوع فيه، وإن كان يخرج من الثلث، فكذلك المدبر.
وجمهور العلماء متفقون أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد
التدبير بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا كان التدبير
يسرى إلى الولد، فلأن يلزم فى الأم أولى. قال الطبرى: وفيه
أن للإمام القيم بأمور المسلمين أن يحملهم فى أموالهم على
ما فيه صلاحهم، ويرد من أفعالهم ما فيه مضرة لهم.
- بَاب بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ
/ 12 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، نَهَى النّبِىّ، عَلَيْهِ
السَّلام، عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. / 13
- وفيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ
أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ
الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ) ، فَأَعْتَقْتُهَا،
فَدَعَاهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَخَيَّرَهَا
مِنْ زَوْجِهَا. . . الحديث. الفقهاء بالعراق والحجاز
مجمعون على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته. قال ابن
المنذر: وفيه قول ثان: روى أن ميمونة بنت الحارث وهبت ولاء
مواليها بنى العباس، وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع
ولاء طهمان لورثة مصعب بن الزبير، وذكر عبد الرزاق عن عطاء
أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالى من شاء، وهذا هو
هبة الولاء.
(7/50)
وسأذكر هذه المسألة فى باب إثم من تبرأ من
مواليه فى كتاب الفرائض إن شاء الله. وقد روى إسماعيل بن
أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
أنه قال: (الولاء لحمة كالنسب) ، وقد أجمع العلماء أنه لا
يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله المواريث بالتبنى بقوله
تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا
آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم) [الأحزاب: 5] . وقد
لعن النبى (صلى الله عليه وسلم) من انتسب إلى غير أبيه
وانتمى إلى غير مواليه، فكان حكم الولاء كحكم النسب فى
ذلك، فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته، فكذلك لا يجوز بيع
الولاء ولا هبته، ولا نقله وتحويله، وإنه للمعتق كما قال،
عَلَيْهِ السَّلام، وهذا ينفى أن يكون الولاء الذى يسلم
على يديه وللملتقط، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب
الفرائض، إن شاء الله.
- بَاب عِتْقِ الْمُشْرِكِ
/ 14 - فيه: عروة، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ
فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى
مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ
بَعِيرٍ، وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ، قَالَ: وَسَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا
فِى الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا، يَعْنِى
أَتَبَرَّرُ بِهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ
خَيْرٍ) . أما عتق المشرك على وجه التطوع، فلا خلاف بين
العلماء فى
(7/51)
جوازه، وهذا الحديث حجة فى ذلك؛ لأن الرسول
(صلى الله عليه وسلم) قد جعل عتق المائة رقبة فى الجاهلية
من أفعال الخير المجازى بها عند الله المتقرب بها إليه،
ودل ذلك على أن مسلمًا لو أعتق كافرًا لكان مأجورًا على
عتقه؛ لأن حكيمًا إنما جعل له الأجر على ما فعل فى جاهليته
بالإسلام الذى صار إليه، فلم يكن المسلم الذى فعل مثل فعله
فى الإسلام بدون حال حكيم، بل هو أولى بالأجر. واختلف فى
عتق المشرك فى كفارة اليمين وكفارة الظهار، فأجازه قوم،
وقالوا: لما أطلق اللفظ فى عتق رقبة الظهار وكفارة اليمين،
ولم يشترط فيها الإيمان، جاز فى ذلك المشرك. ومنع ذلك
آخرون، وقالوا: لا يجوز فى شىء من الكفارات إلا عتق رقبة
مؤمنة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى فى كفارة القتل:
(فتحرير رقبة مؤمنة) [النساء: 92] ، فقيد الرقبة بالإيمان،
قالوا: فوجب حمل المطلق على المقيد إذا كان فى معناه، وهذا
فى معناه؛ لأن الكفارة تجمع ذلك، واحتجوا على ذلك بأن الله
أمر بالإشهاد عند التبايع، فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم)
[البقرة: 282] ، ثم قيد ذلك بالعدالة فى موضع آخر بقوله:
(وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ، و) ممن ترضون من
الشهداء) [البقرة: 282] ، فلم يجز من الشهداء إلا العدول،
فوجب حمل المطلق على المقيد.
(7/52)
- بَاب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ
عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا؟
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) : فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً،
وَكَانَ عَلِىٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِى تِلْكَ الْغَنِيمَةِ
الَّتِى أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ، وَمن عَمِّهِ
العَبَّاس. / 15 - فيه: أَنَس، أَنَّ رِجَالاً مِنَ
الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ
أُخْتِنَا العَبَّاس فِدَاهُ، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لاَ تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا) . قال
المهلب: أسر العباس وعقيل مع من أسر يوم بدر، فأخذ فيهم
النبى (صلى الله عليه وسلم) برأى أبى بكر الصديق فى
استحيائهم، وكره استعبادهم، وأباح لهم أن يفادوا أنفسهم
بالمال من ذلة العبودية، فقطع كل واحد على نفسه بعدد من
المال، وقطع العباس بفدائه، وفدى ابن أخيه عقيل، فأراد
الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكرامًا للنبى (صلى الله
عليه وسلم) لمكان عمومته له، وللرحم التى تمسهم به فى
الخئولة، فقال لهم: (لا تدعوا منه درهمًا) ، أراد أن
يوهنهم بالغرم ويضعفهم، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب
الجهاد فى باب فداء المشركين. وإنما ذكر البخارى هذا فى
كتاب العتق، فأنه استنبط منه أن العم وابن العم لا يعتقان
على من ملكهما من ذوى رحمهما؛ لأن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قد
(7/53)
ملك من عمه العباس ومن ابن عمه عقيل
بالغنيمة التى له فيها نصيب، وكذلك ملك على بن أبى طالب من
عمه العباس، ومن أخيه عقيل المشركين فى ذلك الوقت بنصيبه
من الغنيمة، ولم يعتقا عليه، وهذا حجة على من قال من
السلف: أنه من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه، وهو قول
الكوفيين. وفيه حجة للشافعى فى قوله: إنه لا يعتق الأخ على
من ملكه؛ لأن عقيلاً كان أخا على ابن أبى طالب، ولم يعتق
عليه بما ملك من نصيبه منه. وأما تلخيص مذاهب العلماء فيمن
يعتق على الرجل إذا ملكه، فذهب مالك أنه لا يعتق عليه إلا
أهل الفرائض فى كتاب الله، وهم: الولد ذكورهم وإناثهم،
وولد الولد وإن سفلوا، وأبواه، وأجداده، وجداته من قبل
الأب والأم وإن بعدوا، وإخوته لأبوين، أو لأب، أو لأم، وبه
قال الشافعى، إلا فى الإخوة فإنهم لا يعتقون على ما تقدم
فى هذا الباب. وقال الكوفيون: من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق
عليه. وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعن عطاء،
والشعبى، والحسن، والحكم، والزهرى، وحجة هذا القول ما رواه
ضمرة، عن الثورى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن
النبى، عَلَيْهِ السَّلام: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) ،
ورواه الحسن، عن سمرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام. وقال
ابن المنذر: قد تكلم الناس فى هذين الحديثين، فقالوا: لم
يرو حديث ابن عمر عن
(7/54)
الثورى غير ضمرة، وحديث الحسن، عن سمرة،
وقد تكلم فيهما وليس منهما ثابت. والحجة لمالك أنه لا يجوز
ملك الأخ وأنه يعتق على من ملكه قوله تعالى حكاية عن موسى:
(رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى) [المائدة: 25] ، وكما لا
يجوز أن يسترق نفسه، كذلك لا يجوز أن يسترق أخاه وحجة
الجميع فى أنه لا يجوز ملك الأبوين قوله تعالى: (ولا تقل
لهما أف ولا تنهرهما) [الإسراء: 23] ، واسترقاقهما أعظم من
قول: أف، والأجداد داخلون فى اسم الآباء، ولم يجز ملك
الولد لقوله تعالى: (وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل
من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدًا) [مريم: 92،
93] ، فلا يجوز أن يستعبد الابن بهذا النص.
- بَاب مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا
فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا
مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ (إلى قوله: (لاَ
يَعْلَمُونَ) [النحل: 75] . / 16 - فيه: مَرْوَانَ
وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ،
عَلَيْهِ السَّلام، قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ،
فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ،
وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، وَاخْتَارُوا
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْمَالَ، وَإِمَّا
السَّبْىَ) ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ،
(7/55)
وَكَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام،
انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ
الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىَّ،
عَلَيْهِ السَّلام، غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ
سَبْيَنَا، فَقَامَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى
النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،
ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ
جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ
إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ
يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ
أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلْيَفْعَلْ) ،
فَقَالَ النَّاسُ: طَبْنَا لَكَ، فَقَالَ النّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ
مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى
يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) ، فَرَجَعَ
النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا
إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخْبَرُوهُ
أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ
عَبَّاسٌ: فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. / 17
- وفيه: ابن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام،
أَغَارَ عَلَى بَنِى الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ
وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ
مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ
يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. / 18 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ،
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى
غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ
سَبْىِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ،
فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا
الْعَزْلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَقَالَ: (مَا عَلَيْكُمْ أَلاَ تَفْعَلُوا، مَا
مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَ
وَهِىَ كَائِنَةٌ) .
(7/56)
/ 19 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا
زِلْتُ أُحِبُّ بَنِى تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ، سَمِعْتُ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِيهِمْ:
(هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِى عَلَى الدَّجَّالِ) ، قَالَ:
وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا، وَكَانَتْ
سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ) ، فَقَالَ:
أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. فى
هذه الآثار أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سبى العرب
واسترقهم من هوازن وبنى المصطلق وغيرهم، وقال، عَلَيْهِ
السَّلام، لعائشة فى السبية التميمية: (أعتقيها، فإنها من
ولد إسماعيل) ، فصح بهذا كله جواز استرقاق العرب وتملكهم
كسائر فرق العجم، وأجمع العلماء أن من وطئ أمة له بملك
يمينه أن ولده منها أحرار، عربية كانت أو عجمية. واختلفوا
إذا تزوج العربى أمة، هل يكون ولده منها رقيقًا تبعًا لها
أم لا؟ فقال مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى: إن الولد
مملوك لسيد الأمة تبع لها، والحجة لهم أحاديث هذا الباب فى
سبى النبى، عَلَيْهِ السَّلام، العرب واسترقاقهم. وقال
الثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق: يلزم سيد الأمة أن
يقومه على أبيه، ويلزم أباه أداء القيمة إليه، ولا يسترق.
وهذا قول سعيد بن المسيب، واحتجوا بما روى عن عمر أنه قال
لابن عباس: لا يسترق ولد عربى من أمة وفيه عبدان. قال
الليث: أما ما روى عن عمر بن الخطاب فى فداء ولد العربى من
الولائد ست فرائض، إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر
(7/57)
به الرجل من نكاح الإماء، فأما اليوم فمن
تزوج أمة، وهو يعلم أنها أمة فولده عبد لسيدها، عربيًا كان
أو فارسيًا أو غيره. ومن حجة من جعلهم رقيقًا أن النبى
(صلى الله عليه وسلم) لما سوى بين العرب والعجم فى الدماء،
فقال: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ، وأجمع العرب على القول
به، وجب إذا اختلفوا فيما دون الدماء أن يكون حكم ذلك حكم
الدماء. قال المهلب: وقول النبى (صلى الله عليه وسلم)
لعائشة: (أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل) ، يدل على جواز
تملك العرب، إلا أن عتقهم أفضل لمراعاة الرحم التى تجمعهم،
وكذلك فعل عمر بن الخطاب فى خلافته بمن ملك رقيقًا من
العرب الذين ارتدوا فى خلافة أبى بكر، قال: إن الله قد
أوسع عليكم فى سبى أهل الكتاب من غير العرب، وإن من العار
أن يملك الرجل بنت ابن عمه، فأجابوه إلى ما حض عليه، وهذا
كله على وجه الندب لا على أنه لا يجوز تملكهم. قال غيره:
وفى حديث سبى هوازن وبنى المصطلق، وقول أبى سعيد: واشتهينا
النساء، دليل على أن الصحابة أطلقوا على وطء ما وقع فى
سهمانهم من السبى، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع
العلماء، وهذا يدل على أن السبى يقطع العصمة بين الزوجين
الكافرين. واختلف السلف فى حكم وطء الوثنيات والمجوسيات
إذا سبين، فأجاز ذلك سعيد ابن المسيب، وعطاء، وطاوس،
ومجاهد، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح وطء
سبايا العرب إذا حاضت الحائض أو وضعت الحامل منهن.
(7/58)
وهذا القول شذوذ عند العلماء لم يلتفت إليه
أحد، واتفق أئمة الفتوى بالأمصار وعامة العلماء على أنه لا
يجوز وطء الوثنيات لقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى
يؤمن) [البقرة: 221] ، وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل
الكتاب خاصة بقوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم) [المائدة: 5] ، فإنما أطلق النبى (صلى الله عليه
وسلم) أصحابه على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن؛ لأن سبى
هوازن كان سنة ثمان، وسبى بنى المصطلق سنة ست، وسورة
البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد كانوا علموا قوله:
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، وتقرر
عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن. وروى عبد
الرزاق، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا يونس بن
عبيد، أنه سمع الحسن يقول: كنا نغزو مع أصحاب النبى،
عَلَيْهِ السَّلام، فإذا أصاب أحدهم جارية من الفىء، فأراد
أن يصيبها أمرها فاغتسلت، ثم علمها الإسلام وأمرها
بالصلاة، واستبرأها بحيضة ثم أصابها. قال: وسمعت الثورى
يقول: أما السنة، فلا يقع عليها حتى تصلى إذا استبرأها،
وعموم قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)
[البقرة: 221] ، يقتضى تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك
اليمين، ألا ترى أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سن أن تؤخذ
الجزية من المجوس على ألا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم،
وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء. وأما قولهم: وأحببنا
الفداء وأردنا أن نعزل، فقد استدل به
(7/59)
جماعة من العلماء فى منع بيع أم الولد،
وقالوا: معلوم أن الحمل منهن يمنع الفداء ويذهب بالثمن،
والعلماء مجمعون على أنه لا يجوز بيعها وهى حامل، فإذا
وضعت فهى على الأصل الذى اتفقوا عليه من منع البيع، ولا
يجوز الانتقال عنه إلا باتفاق آخر، وأئمة الفتوى بالأمصار
متفقون على أنه لا يجوز بيع أم الولد، وإنما خالف ذلك أهل
الظاهر، وبشر المريسى، وهو شذوذ لا يلتفت إليه. قال ابن
القصار: وقد روى عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى، عَلَيْهِ
السَّلام، قال لما ولدت أم إبراهيم: (أعتقها ولدها) ،
وقالت عائشة: ما خلف النبى عبدًا ولا أمة، وقد كان خلف
مارية، فعلم أنها عتقت بموته، ولم تكن أمة، وقد قال،
عَلَيْهِ السَّلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) ، ولم ينقل أن
مارية كانت صدقة، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن مما تركه.
قال: وأما قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما عليكم ألا تفعلوا)
، فقد احتج بهذا من أباح العزل ومن كرهه. واختلف السلف فى
ذلك قديمًا، وإباحة العزل أظهر فى الحديث، روى مالك، عن
سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن
عباس أنهم كانوا يعزلون، وروى ذلك أيضًا عن ابن مسعود
وجابر، وذكر مالك أيضًا عن ابن عمر أنه كره العزل، وروى
كراهيته عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وقد روى عن على
بن أبى طالب القولان جميعًا.
(7/60)
واحتج من كره العزل بما رواه أبو الأسود،
عن عروة، عن عائشة، قالت: وحدثتنى خزامة بنت وهب الأسدية،
قالت: ذكر عند النبى (صلى الله عليه وسلم) العزل، فقال:
(ذلك الوأد الخفى) . واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن
الحرة إذا أذنت فيه لزوجها، واختلفوا فى الأمة الزوجة،
فقال مالك وأبو حنيفة: الإذن فى ذلك إلى مولاها. وقال أبو
يوسف: الإذن فى ذلك إليها. وقال الشافعى: يعزل عنها دون
إذنها ودون إذن مولاها. واحتج من أباح العزل بما روى عن
الليث وغيره عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر ابن أبى حبيب،
عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال: تذاكر أصحاب النبى،
عَلَيْهِ السَّلام، عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال
عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس
بعدكم؟ فقال على بن أبى طالب: لا يكون موءودة حتى يمر
بالتارات السبع: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)
[المؤمنون: 12] إلى آخر الآية. وروى سفيان، عن الأعمش، عن
أبى الوداك، عن ابن عباس، أنه سُئل عن العزل، فذكر مثل
كلام على سواء. قال الطحاوى: فهذا على، وابن عباس، قد
اجتمعا على ما ذكرنا ووافقهما عمر، ومن كان بحضرتهما من
أصحاب الرسول، فدل على أن العزل غير مكروه. قال الطحاوى:
وقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما عليكم ألا تفعلوا. . .)
(7/61)
إلى آخر الحديث، فيه دليل أن العزل غير
مكروه؛ لأنه، عَلَيْهِ السَّلام، لما أخبروه أنهم يفعلون
ذلك لم ينكره عليهم، ولا نهاهم عنه، وقال: (ما عليكم ألا
تفعلوا فإنما هو القدر) ، أى فإن الله إذا قدر يكون الولد،
لم يمنعه عزل، ووصل الله من الماء إلى الرحم شيئًا وإن قل
يكون منه الولد، وإن لم يقدر كونه لم يكن بالإفضاء.
فأعلمهم أن الإفضاء لا يكون منه ولد إلا بقدر الله، وأن
العزل لا يمنع الولد إذا سبق فى علم الله أنه كائن. وقال
ابن مسعود: لو أن النطفة التى أخذ الله ميثاقها كانت فى
صخرة لنفخ فيها الروح. قال: وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام:
(ما من نسمة كائنة إلا وهى كائنة) ، إثبات العلم، وأن
العباد يجرون فى علم الله وقدره، والقدر هو سر الله وعلمه
لا يدرك بحجة ولا بجدال، وأنه لا يكون فى ملكه إلا ما شاء
تعالى، ولا يقوم شىء إلا بإذنه، له الخلق والأمر. قال
المهلب: وقول أبى هريرة: ما زلت أحب بنى تميم؛ لأنهم أشد
الأمة على الدجال، وقد روى عنهم أنهم كانوا يختارون ما
يخرجون فى الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجب النبى (صلى
الله عليه وسلم) بفراهيتها، فقال هذا القول على معنى
المبالغة فى نصحهم لله ولرسوله فى جودة الاختيار للصدقة،
وقوله تعالى: (ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على
شىء) [النحل: 75] ، فقد تأول بعض الناس فى هذه الآية أن
(7/62)
العبد لا يملك، وسأذكر الاختلاف فى ملك
العبد فى باب العبد راع فى مال سيده بعد هذا، وأذكر تأويل
هذه الآية فيه، إن شاء الله، وقول ابن عمر: وهم غارون،
يعنى على غرة، أى غفلة.
- بَاب فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا
/ 20 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ النّبِىّ،
عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ
فَعَلَمهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا
وَتَزَوَّجَهَا، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ) . قال المهلب: فيه
أجر التأديب والتعليم، وأجر التزويج لله تعالى، وأن الله
قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم، وجعله كمثل أجر العتق،
وفيه الحض على العتق، وعلى نكاح المعتق، وعلى التواضع وترك
الغلو فى أمور الدنيا، وأخذ القصد والبلغة منها، وأن من
تواضع لله فى منكحه وهو يقدر على نكاح أهل الشرف والحسب
والمال، فإن ذلك مما يرجى عليه جزيل الأجر وجسيم الثواب.
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (الْعَبِيدُ
إِخْوَانُكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (إلى) وَمَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36]
/ 21 - فيه: أَبُو ذَرّ، كانت عَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى
غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً، فَشَكَانِى إِلَى النَّبِىِّ،
عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ
(7/63)
لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
(أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟) ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ
إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ
فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا
يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ
كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) . قال
المهلب: فيه الحض على كسوة المملوك وإطعامه بالسواء مثل
طعام المالك وكسوته، وليس ذلك على الإيجاب عند العلماء،
وإنما على المالك أن يكسوا ما يستر العورة ويدفع الحر
والبرد، ويطعم ما يسد الجوعة ما لم يكن فيه ضرر على
المملوك؛ لأن المولى إذا كان ممن يأكل الفراريج والفراخ
ويأكل خبز السميد والأطعمة الرقيقة، وكانت كسوته الشطوى
والنيسابورى، لم يكن عليه فى مذهب أحد من أهل العلم أن
يطعم رقيقه ولا يكسوهم من ذلك؛ لأن هذه الأطعمة والكسوة
التى ذكرناها لم يكن أحد من أصحاب النبى، عَلَيْهِ
السَّلام، الذى خاطبهم بما خاطبهم به يأكل مثلها، إنما كان
الغالب من قوتهم بالمدينة التمر والشعير. وقد روى أبو
هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام: (للمملوك طعامه
وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) ، فإن زاد
على ما فرض عليه من قوته وكسوته بالمعروف كان متفضلاً
متطوعًا. وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن: لو أن رجلاً عمل
لنفسه خبيصًا فأكله دون خادمه، ما كان بذلك بأس. وكان يرى
أنه إذا أطعم خادمه من الخبز الذى أكل منه، فقد أطعمه مما
يأكل منه؛ لأن من عند العرب للتبعيض، ولو قال: أطعموهم من
كل ما تأكلون، لوجب حينئذ إطعامهم من الخبيص ومن كل شىء،
وكذلك فى اللباس.
(7/64)
وقوله: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم) ، هو كقول
الله: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] ،
ولما لم يكلفنا الله فوق طاقتنا ونحن عبيده، وجب أن نمتثل
حكمه وطريقته فى عبيدنا. وقوله: (فإن كلفتموهم فأعينوهم) ،
فيه جواز تكليف ما فيه المشقة، فإن كانت غالبة وجب العون
عليها، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تستخدموا رقيقكم
بالليل والنهار، فإن النهار لكم، والليل لهم) . وروى معمر،
عن أيوب، عن أبى قلابة، يرفعه إلى سلمان، أن رجلاً أتاه
وهو يعجن، فقال: أين الخادم؟ قال: أرسلته فى حاجة، فلم يكن
ليجمع عليه شيئين أن يرسله ولا يكفيه عمله. وفيه الوصاة من
النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بما ملكت أيماننا؛ لأن الله وصى
بهم فى كتابه. وفيه أنه لا حد على من قذف عبدًا، ولا
عقوبة، ولا تعزير، وقد قال بعض العلماء: إن كان العبد
رجلاً صالحًا، فأرى أن يعاقب القاذف له والمؤذى.
- بَاب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ
وَنَصَحَ سَيِّدَهُ
/ 22 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ،
وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ
مَرَّتَيْنِ) . / 23 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ
السَّلام: (لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ النَّاصِحِ أَجْرَانِ،
وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمِّى، لأَحْبَبْتُ
أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ) .
(7/65)
قال المهلب: لما كان للعبد فى عبادة ربه
أجر، وكان له فى طاعة سيده ونصحه له أجر أيضًا، لكن لا
يقال: إن الأجرين متساويان؛ لأن طاعة الله أوجب من طاعة
المخلوقين، وفيه حض المملوك على نصح سيده؛ لأنه راع فى
ماله، وهو مسئول عما استرعى، فبان أن أثر نصحه طاعة الله،
فلهذا تبين فضل أجره فى طاعة الله على طاعة مولاه. وقوله:
(والذى نفسى بيده، لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر
أمى، لأحببت أن أموت وأنا مملوك) ، هو من قول أبى هريرة،
وفيه دليل أنه ليس على العبد جهاد ولا حج فى حال العبودية،
إلا أن ينزل ببلد عدو، فيلزم الجهاد كل مسلم يكون بتلك
البلد، فيجب على العبد منه بقدر طاقته ووسعه، وأما الحج،
فإنما لم يجب عليه من أجل أنه غير مالك لنفسه، وليس له أن
يخرج عن تصرف سيده وما به الحاجة إليه، وإنما خاطب الله من
استطاع إليه سبيلاً، والعبد غير مستطيع، وأما بر الوالدين،
فيلزم العبد منه من خفض الجناح، ولين القول والتذلل ما
يلزم المسلمين، وأما السعى عليهما بالنفقة والكسوة فلا
يلزمه؛ لأنه نفقته وكسوته على مولاه، وكسبه لمولاه، ولا
تصرف له فى شىء منه إلا بإذنه.
(7/66)
- بَاب كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى
الرَّقِيقِ
وَقَول الرجل: عَبْدِى وَأَمَتِى وَقول اللَّهُ:
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إن
يكونوا فقراء) [النور: 32] . وَقَالَ: (عَبْدًا
مَمْلُوكًا) [النحل: 75] . وَقَالَ: (وَأَلْفَيَا
سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) [يوسف: 25] . وَقَالَ: (مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [النساء: 25] . وَقَالَ
عَلَيْهِ السَّلام: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) . / 24 -
فيه: ابن عُمر، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (الْعَبْدُ إِذَا
نَصَحَ لسَيِّدَهُ. . .) الحديث. / 25 - وفيه: أَبُو
مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (الْمَمْلُوكُ الَّذِى
يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّى إِلَى سَيِّدِهِ.
. .) الحديث. / 26 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ
عَلَيْهِ السَّلام: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ
رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَاسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ:
سَيِّدِى وَمَوْلاَىَ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِى
وَأَمَتِى، وَلْيَقُلْ: فَتَاىَ وَفَتَاتِى وَغُلاَمِى) .
/ 27 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبىّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ الْعَبْدِ. .
.) الحديث. / 28 - وقال أيضًا عَنْ النّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) : (وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ. .
.) الحديث. / 29 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ،
قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا زَنَتِ
الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا. . .) الحديث. التطاول على الرقيق
مكروه؛ لأن الكل عبيد الله، وهو لطيف بعباده رفيق بهم،
فينبغى للسادة امتثال ذلك فى عبيدهم، ومن
(7/67)
ملكهم الله إياهم وأوجب عليهم حسن الملك
ولين الجانب، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح
لساداتهم، والانقياد لهم وترك مخالفتهم، وقد جاء فى
الحديث: (الله الله وما ملكت أيمانكم، فلو شاء الله لملكهم
إياكم) . وما جاء فى هذا الباب من النهى عن التسمية، فإن
ذلك من باب التواضع، وجائز أن يقول الرجل: عبدى، وأمتى؛
لأن القرآن قد نطق بذلك فى قوله: (والصالحين من عبادكم
وإمائكم) [النور: 32] ، وإنما نهى، عَلَيْهِ السَّلام، عن
ذلك على سبيل التطاول والغلظة لا على سبيل التحريم، واتباع
ما حض عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) أولى وأجل، فإن فى
ذلك تواضعًا لله تعالى؛ لأن قول الرجل: عبدى، وأمتى، يشترك
فيهما الخالق والمخلوق، فيقال: عبد الله، وأمة الله، فكره
ذلك لاشتراك اللفظ. وأما الرب، فهى كلمة وإن كانت مشتركة،
وتقع على غير الخالق للشىء، كقولهم: رب الدار، ورب الدابة،
يراد صاحبهما، فإنها لفظة تختص بالله فى الأغلب والأكثر،
فوجب أن لا تستعمل فى المخلوقين، لنفى الشركة بينهم وبين
الله، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: إله،
ولا رحمن، ويجوز أن يقال له: رحيم؛ لاختصاص الله بهذين
الاسمين، فكذلك الرب لا يقال لغير الله.
(7/68)
- بَاب إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ
بِطَعَامِهِ
/ 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ،
فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً،
أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَيْنِ،
فَإِنَّهُ وَلِىَ عِلاَجَهُ) . قال المهلب: هذا الحديث
يفسر حديث أبى ذر فى التسوية بين العبد وبين سيده فى
المطعم والكسوة، أنه على سبيل الحض والندب والتفضل، لا على
سبيل الإيجاب على السيد؛ لأنه لم يسوه فى هذا الحديث بسيده
فى المؤاكلة، وجعل إلى السيد الخيار فى إجلاسه للأكل معه
أو تركه، ثم حضه على إن لم يأكل معه أن ينيله من ذلك
الطعام الذى تعب فيه وشمه.
- بَاب إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (إِذَا قاتَلَ أحدُكم فلْيَجْتَنبِ الوَجهَ) .
قال المهلب: تمام الحديث: (فإن الله خلق آدم على صورته) .
وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، أنه مر على رجل
يضرب عبده فى وجهه لطمًا، ويقول: قبح الله وجهك ووجه من
أشبه وجهك، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (إذا ضرب أحدكم عبده،
فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) .
(7/69)
وقد نقل الناقلون هذه القصة من الطرق
الصحيحة، وربما ترك بعض الرواة بعض الخبر اختصارًا للدلالة
على ما حذف منه، إذ كانت القصة مشهورة، فأمر الرسول (صلى
الله عليه وسلم) من قاتل غيره أو ضرب عبده أن يجتنب الوجه
إكرامًا لآدم؛ لمشابهة المضروب له، فلا يضرب صورة خلقها
الله بيده، فانتسب إلى هذا العبد، ومراعاة لحق الأبوة،
وتفضيل الله لها حين خلق آدم بيديه، وأسجد له ملائكته،
والهاء راجعة فى قوله: (على صورته) للمضروب. قال المؤلف:
وللناس تأويلات فى ضمير الهاء من صورته، إلى من ترجع؟ لم
أر لذكرها وجهًا، إذ لا يصح عندى فى ذلك غير ما قاله
المهلب.
- بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَنَسَبَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَالَ إِلَى
السَّيِّدِ
/ 32 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام:
(كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
وَالرَّجُلُ فِى أَهْلِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا
رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ
فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ) ، وَأَحْسِبُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) قَالَ: (وَالرَّجُلُ فِى مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . قال المهلب: هذه كلها
أمانات تلزم من استرعيها أداء
(7/70)
النصيحة فيها لله، ولمن استرعاه عليها،
ولكل واحد منهم أن يأخذ مما استرعى أمره ما يحتاج إليه
بالمعروف من نفقة ومؤنة. وقوله: (العبد والخادم راع فى مال
سيده) ، ففيه حجة لمن قال: إن العبد لا يملك. واختلف أهل
العلم فى ملك العبد لما فى يديه من المال، فذهبت طائفة إلى
أنه لا يملك شيئًا؛ لأن الرق منافى الملك، وماله لسيده عند
عتقه وعند بيعه إياه، وإن لم يشترط ماله سيده، روى هذا عن
ابن مسعود، وابن عباس، وأبى هريرة، وعن سعيد بن المسيب،
وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق.
وقالت طائفة: ماله له دون سيده فى العتق والبيع، روى ذلك
عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعائشة، وبه قال النخعى،
والحسن البصرى. واضطرب قول مالك فى ملك العبد، فقال: من
باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع.
وقال فيمن أعتق عبدًا: أن ماله للعبد، إلا أن يشترطه
السيد، فدل قوله فى البيع أن العبد لا يملك، إذ جعل المال
للسيد دون اشتراط، ودل قوله فى العتق أن العبد يملك، إذ
جعل ماله له دون اشتراط. والحجة له فى البيع حديث ابن عمر،
عن أبيه، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه قال: (من باع
عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) ،
والحجة له فى العتق حديث عبيد الله بن أبى جعفر، عن بكير
بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ
السَّلام، قال: (من أعتق عبدًا، فماله له إلا أن يستثنيه
سيده) . قال ابن شهاب: السنة أن العبد إذا أعتق تبعه ماله،
ولم يكن أحد أعلم بسنة ماضية من ابن شهاب.
(7/71)
وقال قتادة فى قوله تعالى: (عبدًا مملوكًا
لا يقدر على شىء) [النحل: 75] : هو الكافر لا يعمل بطاعة
الله، ولا يعمل خيرًا،) ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا)
[النحل: 75] ، هو المؤمن يطيع الله فى نفسه وماله. وحجة من
قال: إن العبد لا يملك شيئًا أن إضافة الشىء إلى ما لا
يجوز أن يملك أشهر فى كلام العرب من أن يحتاج إلى شاهد،
وذلك كقولهم: ماء النهر، وسرج الدابة، فإضافة المال إلى
العبد فى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (من باع عبدًا وله مال)
، من أجل أنه بيده، لا أنه يملكه، وخاطب النبى (صلى الله
عليه وسلم) قومًا عربًا يعرفون ما خوطبوا به. قال الطبرى:
فأخبر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أن ذلك المال للبائع إذا
لم يشترطه المبتاع فى عقد البيع، كما أخبر أن ثمرة النخل
المؤبر للبائع إذا باع مالكه أصل النخل، كما كانت له قبل
بيع النخل إذا لم يشترطها المبتاع فى عقد البيع. قالوا:
ولو كان المال للعبد قبل بيع السيد له، لم يكن بيعه ليزيل
ملكه عنه إلى البائع ولا إلى المشترى. قالوا: وفى إجماع
الأمة أن لسيد العبد قبض مال العبد منه، وأن العبد ممنوع
من التصرف فيه إلا بإذن سيده الدليل الواضح على صحة ما
قلنا، وإلى هذا المذهب أشار البخارى بقوله: ونسب النبى
(صلى الله عليه وسلم) المال إلى السيد فى قوله: (والعبد
راع فى مال سيده) . قال المهلب: ومن حجة الذين قالوا:
العبد يملك، أنهم قالوا للمحتجين عليهم بما تقدم: هذا يلزم
فى السفيه، فإنه لا يجوز أن يتصرف فى ماله إلا بإذن وصيه،
والمال ملك له، لقوله تعالى: (فإذا
(7/72)
دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم)
[النساء: 6] ، فكذلك العبد. وقال تعالى: (فكاتبوهم إن
علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، يعنى مالاً، بدليل قوله:
(إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] ، يعنى مالاً. وقال:
(والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله
من فضله) [النور: 32] ، فوصفهم بالفقر والغنى، فدل أنهم
مالكون، وقال: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات
المؤمنات (إلى قوله: (وآتوهن أجورهن) [النساء: 25] ، وهى
المهور، فدل أن الإماء مالكات لها؛ لجواز دفعها إليهن، إذ
لو كن غير مالكات لما جاز دفعها إليهن مع أمره تعالى
بالتوثق عند دفع الحقوق إلى أهلها.
(7/73)
|