شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
44 - كِتَابَ الْمُكَاتِبِ
- بَاب الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِى كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النور: 33] الآية.
وَقَالَ رَوْحٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَىَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلاَ وَاجِبًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لاَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِى أَنَّ مُوسَى ابْنَ أَنَسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَرأ عُمَرُ: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [النور: 33] فَكَاتَبَهُ. / 1 - فيه: عَائِشَةُ، أَنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِى خَمْسِ سِنِينَ. . . الحديث. سنة الكتابة أن تكون على نجوم، تؤدى نجمًا بعد نجم، والظاهر من قول مالك أن شأن الكتابة التنجيم والتأجيل؛ لأنه قال: لو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلاً، نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد. وأجاز مالك والكوفيون الكتابة الحالة، وقال الشافعى: لابد فيها من أجل، ولا يجوز على أقل من نجمين، فإن وقعت حالة أو على نجم واحد، فليست كتابة، وإنما هو عتق على صفة، كأنه قال: إذا أديت إلىّ كذا وكذا فأنت حر، والحديث يدل أن النجوم فى الكتابة

(7/74)


تجوز قليلة كانت أو كثيرة، وأنه ليس فى ذلك حد لا يتجاوز، ولو كان قول الشافعى صحيحًا أن الكتابة لا تجوز على أقل من نجمين؛ لجاز لغيره أن يقول: لا تجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأن أقل النجوم التى كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى بريرة، وعلم بها وحكم فيها، كانت خمسة، وكان صواب الحجة أولى. وأيضًا فإن النجم الثالث لما لم يكن شرطًا فى صحة الكتابة بإجماع، فكذلك النجم الثانى؛ لأن كل واحد منهما له مدة يتعلق بها تأخير مال الكتابة، فإذا لم يكن أحدهما شرطًا وجب أن لا يكون الآخر كذلك، ولما أجمعوا أنه لو قال له: إن جئتنى من المال بكذا إلى شهر أنه جائز وليس بكتابة، فكذلك ما أشبهه من الكتابة. وقد احتج بقوله، عَلَيْهِ السَّلام، فى هذا الحديث: (وعليها خمس أواق نجمت عليها فى خمس سنين) ، من أجاز النجامة فى الديون كلها، على أن يقول: فى كل شهر كذا، وفى كل عام كذا، ولا يقول: فى أول الشهر، ولا فى وسطه، ولا فى آخره؛ لأنه لم يذكر فى الحديث فى أى وقت يحل النجم فيه، ولم ينكر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ذلك. وأبى هذا القول أكثر الفقهاء، وقالوا: لابد أن يذكر أى شهر من السنة يحل النجم فيه، أو أى وقت من الشهر يحل النجم فيه، فإن لم يذكر ذلك فهو أجل مجهول لا يجوز؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن البيع إلا إلى أجل معلوم، ونهى عن حبل الحبلة، وهو نتاج النتاج. وليس تقصير من قصر عن نقل هذا المعنى فى حديث بريرة بصائر لتقرر هذا المعنى عندهم.

(7/75)


واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، فذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، إلى أن الكتابة ليست بواجبة على السيد، ولكنها مستحبة إذا سأله العبد، وروى عن عطاء ومسروق أن الكتابة واجبة، وهو قول أهل الظاهر، وقالوا: هو مذهب عمر بن الخطاب؛ لأنه ضرب أنسًا حين سأله مولاه سيرين الكتابة، فأبى أن يكاتبه، وقرأ عمر: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] . وحجة الجماعة أنه قد انعقد الإجماع على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة لا تصح إلا عن تراض. واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، قال ابن عباس: الخير المال، وقال عطاء: هو مثل قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) [العاديات: 8] ، وقوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] . وقال مجاهد: الخير المال والأداء. وقال الحسن والنخعى: هو الدين والأمانة. وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون: هو القوة على الاكتساب والأداء، وعن الليث نحوه، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له، فيبعثه على السؤال، وقال: يطعمنى أوساخ الناس، وعن سلمان مثله. قال الطبرى: وقول من قال: إنه المال، لا يصح عندنا؛ لأن العبد نفسه مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ والمعنى عندنا: إن

(7/76)


علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة، والصدق فى المعاملة فكاتبوهم. واختلفوا فى قوله: (وآتوهم من مال الله) [النور: 33] ، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أن ذلك على الندب والحض، أن يضع الرجل عن عبده من أجر كتابته شيئًا مسمى، وذهب الشافعى وأهل الظاهر إلى أن الإيتاء للعبد واجب، وقول الجمهور أولى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر موالى بريرة بإعطائها شيئًا، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة، ولو كان الإيتاء واجبًا لكان مقدرًا كسائر الواجبات، حتى إذا امتنع السيد من حطه عنه وادعاه عليه عند الحاكم. فأما دعوى المجهول، فلا يحكم بها، ولو كان الإيتاء واجبًا، وهو غير مقدر؛ لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقى بعد الحطيطة، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة، وذلك لا يجوز، وكان النخعى يذهب فى تأويل قوله: (وآتوهم من ماله الله الذى آتاكم) [النور: 33] ، أنه خطاب للموالى وغيرهم، وقاله الثورى. وقال الطحاوى: وهذا حسن من التأويل حض الناس جميعًا على معاونة المكاتبين لكى يعتقوا.
- بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ

(7/77)


أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِى فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ شَرط، فَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ) . وترجم له بَاب (اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ) ، وقالت فيه: فإِنِّى كَاتَبْتُ أَهْلِى عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِى كُلِّ عَامٍ أَوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِى. وترجم له بَاب (بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ) ، وقالت عائشة: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ وَإِنْ مَاتَ، وإِنْ عَاشَ، وَإِنْ جَنَى مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. وترجم له بَاب (إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: اشْتَرِنِى وَأَعْتِقْنِى، فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ) . / 3 - وفيه: قَالَتِ بريرة: اشْتَرِينِى وَأَعْتِقِينِى، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لاَ يَبِيعُونِى حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِى، فَقَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِى بِذَلِكَ. . . الحديث.

(7/78)


أجمع العلماء أن من شرط ما لا يجوز فى السنة أنه لا ينفعه شرطه ذلك، وأنه مردود فى بيع كان الشرط، أو عتق، أو غير ذلك من الأحكام؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يخص شيئًا دون غيره، بل عم الأشياء كلها فى حديث بريرة، وقد تقدم اختلافهم فى جواز البيع والشرط فى كتاب البيوع. وقوله: (كل شرط ليس فى كتاب الله) ، معناه فى حكم الله وقضائه من كتابه، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وإجماع الأمة، فهو باطل. وفى حديث بريرة دليل على اكتساب المكاتب المال بالسؤال، وأن ذلك طيب لمولاه، وهذا يرد على من قال، هو قول ابن عمر: ذلك أوساخ الناس؛ لأن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها، اعتبارًا باللحم الذى كان عليها صدقة، وللنبى (صلى الله عليه وسلم) هدية، واعتبارًا أيضًا بجواز معاملة الناس للسائل، وقد تأول قوم من العلماء فى قوله: (وفى الرقاب) [التوبة: 60] ، أنه يجوز للمكاتبين أخذ الزكاة المفروضة، فكيف بالتطوع. واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، على جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه، وقد روى عن مالك كراهة ذلك أيضًا، وكرهه الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، ومما يدل على جواز سعى المكاتب وسؤاله أن بريرة ابتدأت بالسؤال، ولم يقل النبى (صلى الله عليه وسلم) : هل لها مال أو عمل أو كسب، ولو كان واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث معلمًا، عَلَيْهِ السَّلام، وهذا يدل أن من تأول فى قوله تعالى:

(7/79)


) وإن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، أن الخير المال، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة، وقد يكتسب بالسؤال. وقوله: (اشترطى لهم الولاء) ، أى أظهرى لهم حكم الولاء وعرفيهم، والاشتراط هو الإظهار، ومنه أشراط الساعة ظهور علاماتها. وقال الداودى وغيره: لم يقل لها الرسول (صلى الله عليه وسلم) : اشترطى لهم الولاء، إلا بعد التقدم إليهم وإعلامهم أن الولاء كالنسب، لا يباع ولا يوهب، ومعناه اشترطى لهم الولاء، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم أن اشتراطه لا يجوز غير نافع لهم. قال غيره: والدليل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام، معلنًا على رءوس الناس: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست فى كتاب الله) ، فإنما وبخهم بما تقرر عندهم من علم السنة فى ذلك، ألا ترى قوله: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق) ، فكان هذا على وجه الوعيد لمن رغب عن سنته فى بيع الولاء، وليحذروا من مواقعة مثله، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوعد فى الأمر إلا بعد التقدم فيه. قال الداودى: وقيل: إنما قال لها، عَلَيْهِ السَّلام: (اشترطى لهم الولاء) ، على وجه العقوبة لهم، بأن حرمهم الولاء إذ تقدموا على ذلك قبل أن يسألوه وهو بين أظهرهم، عَلَيْهِ السَّلام.

(7/80)


قال غيره: ومن الدليل على أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ربما قال الشىء أو فعله، وليس بالأفضل عنده، لما يريد من تنكيل الناس وعقوبتهم، أنه عَلَيْهِ السَّلام نهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، فواصل يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال، وقال: (لو تأخر لزدتكم) ، كالمنكل بهم حين أبوا أن ينتهوا، ومثله قوله يوم الطائف: (إنا قافلون غدًا إن شاء الله) ، فقال الناس: قبل أن نفتحها؟ قال: (فاغدوا على القتال) ، فغدوا فأصيبوا بجراحات، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (إنا قافلون غدًا إن شاء الله) ، فسروا بذلك. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد أن يعاقب فى أمر يكون تأديبًا لمن عاقبه عليه، خطب الناس قائمًا؛ ليكون أثبت فى قلوبهم وأردع لمن أراد مثل ذلك. وفيه: دليل أن المكاتب عبد ما لم يؤد وما بقى عليه درهم، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن المسيب، والقاسم، وسالم، وعطاء، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. قال مالك: وكل من أدركنا من أهل العلم ببلدنا يقولون ذلك. وفيها قول آخر روى عن على بن أبى طالب: أنه إذا أدى نصف كتابته عتق. قال ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتى دينار، وقيمة العبد مائة دينار، فأدى العبد المائة التى من قيمته عتق، وهو قول النحعى، وعن ابن مسعود: إن أدى ثلث الكتابة عتق، وهو قول شريح. وحجة الجماعة أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أجاز بيع المكاتب بقوله:

(7/81)


(اشتريها وأعتقيها) ، فبان بذلك أن عقد الكتابة لا يوجب لها عتقًا حتى تؤدى ما انعقد عليه، وأن عتقها يتعلق بشرط الأداء. قال ابن القصار: ولا تخلو الكتابة أن تجرى مجرى العتق بالصفة، أو مجرى البيع، أو الرهن، وإن كانت تجرى مجرى العتق بالصفة، فيجب ألا يعتق إلا بعد أداء جميع الكتابة، كما لو قال له: أنت حر إن دخلت الدار، فلا يعتق إلا بعد دخولها، وإن كان يجرى مجرى البيع، فيجب ألا يعتق أيضًا إلا بعد الأداء، كما لو باع عبدًا، فإنه لا يلزمه تسليم المبيع إلا بقبض جميع الثمن، وإن جرت مجرى الرهن فكذلك؛ لأنه لا يستحق أخذ الرهن حتى يؤدى جميع ما عليه. وقوله: باب إذا قال: اشترنى وأعتقنى، فاشتراه لذلك، فاختلف فيه العلماء، فقال الأوزاعى: لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون: لا يجوز بيعه حتى يعجز. وقال الداودى: اختلف قول مالك فى فسخ الكتابة بالبيع للعتق، فقال بعض أصحابه: كانت بريرة عجزت، وهذه دعوى من قائله وتحكم، والحديث يدل على خلافه. قال ابن المنذر: واختلف عن الشافعى فى هذه المسألة، فقال: ولا أعلم حجة لمن قال: ليس له بيع المكاتب، إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت. فقال الشافعى: وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه. قال ابن المنذر والداودى: وفى ترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) سؤال بريرة هل

(7/82)


عجزت أم لا؟ دليل على أن المكاتب يباع للعتق عجز أم لم يعجز. قال ابن المنذر: وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل أن يبيع عبده قبل أن يكاتبه، فعقده الكتابة غير مبطل ما كان له من بيعه، كما هو غير مبطل ما كان له من عتقه، ولو لم يكن له بيعه ما كان له عتقه؛ لأن بيعه إياه إزالة ملكه عنه، كما عتقه سواء. ودل خبر عائشة فى قصة بريرة أنها بيعت بعلم النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فلم ينكره، ومن قول عوام أهل العلم: أن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فلم يمنع الرجل من بيع عبده الذى لو شاء أعتقه. وخبر عائشة مستغنى به عن قول كل أحد. قال الطبرى: وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام، لعائشة: (اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق) ، أوضح دليل على أن بريرة إذ عتقت لم تعتق عند عائشة بالتحرير الذى كان من مواليها لها عند عقد الكتابة، ولكنها عتقت بعتق كان من عائشة لها بعد ابتياعها، فلذلك كان ولاؤها لعائشة دون مواليها البائعين لها، وفى ذلك أبين البيان أن عقد الكتابة الذى كان عقد لها مواليها انفسخ بابتياع عائشة لها، وهذا يرد قول من زعم أن عائشة أرادت أن تشترى منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة، وتؤدى إليهم الثمن ليكون لها الولاء، ولو كان هذا صحيحًا لكان النكير على عائشة دون موالى بريرة؛ لأنها أرادت أن تشترى الولاء الذى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما كان الإنكار على موالى بريرة؛ لأن الولاء لا يباع ولا يكون إلا للمعتق.

(7/83)


وفيه من الفقه: أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها، وفى ذلك دليل أنه ليس لزوجها من الكتابة، وإن كان ذلك يئول إلى فراقها إياه بغير إذنه إذا خيرت واختارت نفسها، ولما كان للسيد عتق الأمة تحت العبد، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر، وإن كان فى ذلك بطلان زوجيتها، كان لهذا المعنى يجيز كتابتها على رغم زوجها. وفيه: حجة لقول مالك أن للمرأة أن تتجر بمالها من غير علم زوجها؛ لأن عائشة اشترت بريرة وأنها إنما استأمرت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمر الولاء خاصة. وفيه: أن للمرأة أن تعتق بغير إذن زوجها، وقد أكثر الناس فى تخريج الوجوه فى حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وللناس فى ذلك أوضاع، وسيأتى فى كتاب النكاح كثير من معانيه، إن شاء الله.

(7/84)