شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
45 - كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا والتَحْرِيضِ عَلَيْهَا
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (يَا نِسَاءَ الْمُؤمنات، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) . / 2 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِى، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ، ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَارٌ، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، وَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَاه. قال المهلب: فيه الحض على التهادى والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء، واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهى أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهل على المهدى لإطراح التكليف. وفى حديث عائشة ما كان النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عليه من الزهد فى الدنيا، والصبر على التقلل، وأخذ البلغة من العيش، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ لأنه حمد حين خير بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وأن يكون نبيًا عبدًا، ولا يكون نبيًا ملكًا، فهذه سنته وطريقته. وفى هذا من الفقه: فضل التقلل والكفاف على التنعم والترفه، وفيه

(7/85)


حجة لمن آثر الفقر على الغنى، وفيه أن من السنة مشاركة الواجد المعدم، وأن يكون الناس يشتركون فيما بأيديهم بالتفضل من الواجد. قوله: (يا نساء المؤمنات) ، على غير الإضافة، تقديره: يا أيها النساء المؤمنات، ومثله: يا رجال الكرام، فالمنادى هاهنا محذوف وهو أيها، والنساء فى تقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء. وحكى سيبويه: يا فاسق الخبيث، ومذهبه فيه أن فاسق وشبهه معرف بياء، كتعريف زيد بياء فى النداء، وكذلك يا نساء هنا مخرج على مذهبه أن يجوز نصب نعته، كما جاز يا زيد العاقل، فنصب العاقل، فيجوز على هذا يا نساء المؤمنات. وأما من روى: (يا نساء المؤمنات) ، على الإضافة ونصب النساء، فيستحيل أن تكون المؤمنات هاهنا من صفات النساء؛ لأن الشىء لا يضاف إلى نفسه، وإنما يضاف إلى غيره مما يبينه به ويضمه إليه، ومحال أن يبينه بنفسه أو يضمه إليها، هذا مذهب البصريين. وقد أجاز الكوفيون إضافة الشىء إلى نفسه، واحتجوا بآيات من القرآن تتخرج معانيها على غير تأويلهم، منها قوله تعالى: (ولدار الآخرة) [يوسف: 109] ، و) دين القيمة) [البينة: 5] . وقال الزجاج وغيره: معناه دار الحال الآخرة؛ لأن للناس حالين، حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله صلاة الأولى، والمراد صلاة الفريضة الأولى، والسعة الأولى؛ لأنها أول ما فرض

(7/86)


من الصلوات، ومعنى قوله تعالى: (دين القيمة) [البينة: 5] دين الملة القيمة، ولهذا وقع التأنيث، لكنه يخرج (يا نساء المؤمنات) على تقدير بعيد، وهو أن تجعل المؤمنات نعتًا لشىء محذوف غير النساء، كأنه قال: يا نساء الأنفس المؤمنات، والمراد بالأنفس الرجال، وفيه بُعْدٌ لفساد المعنى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما خاطب النساء بذلك على وجه الفضيلة لهن والتخصيص، وعلى هذا الوجه، لا فضيلة لهن فى ذلك، إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معًا، فيكون تقديره: يا نساء من الأنفس المؤمنات، على تقدير إضافة البعض إلى الكل، كما تقول: أخذت دراهم مال زيد، ومال واقع على الدراهم وغيرها. وقوله: (ولو فرسن شاة) ، أصل الفرسن للإبل، وهو موضع الحافر من الفرس، ويقال لموضع ذلك من البقر والغنم: الظلف. وقال الأصمعى: الفرسن ما دون الرسغ من يدى البعير، وهى مؤنثة، والجمع الفراسن. وقال ابن السكيت: إنما الفرسن للبعير، فاستعير للشاة، وأنشد فى مثله: أشكو إلى مولاى من مولاتى تربط بالحبل أكيرعاتى فاستعار الأكارع للإنسان، كما استعار الفرسن للشاة.
- بَاب الْقَلِيلِ مِنَ الهَديِةِ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) . هذا حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما

(7/87)


أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدى، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة فى قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك.
3 - بَاب مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (اضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا) . / 4 - وفيه: سَهْلٍ، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للمرأة الأنصارية: (مُرِى غلامك النَّجَار، يَعْمَلْ لى أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ. . .) الحديث. / 5 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا، حَتَّى نَفِذَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. استيهاب الصديق الملاطف حسن إذا علم أن ما يستوهبه تطيب به نفسه، ويسر بهبته، ويبين هذا أنه قد جاء فى حديث آخر أن المرأة الأنصارية كانت تطوعت للنبى (صلى الله عليه وسلم) وسألته أن تصنع له المنبر، وكانت وعدته بذلك، وإنما قال، عَلَيْهِ السَّلام: (اضربوا لى معكم سهمًا) فى الغنم التى أخذوا فى الرقية بفاتحة الكتاب، وقال فى لحم الصيد: (هل معكم منه شىء) ، ليؤنسهم لما تحرجوا من أكله بأن يريهم حله عيانًا بأكله منه. ومن هذا الحديث، قال بعض الفقهاء: إن المآكل إذا وردت على قوم دون مجالسيهم أنهم مندوبون إلى مشاركتهم.

(7/88)


4 - بَاب مَنِ اسْتَسْقَى
وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْقِنِى) . / 6 - فيه: أَنَس، قَالَ: أَتَانَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِىٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الأَعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، أَلاَ فَيَمِّنُوا) ، قَالَ أَنَسٌ: فَهِىَ سُنَّةٌ، ثَلاَثًا. هذا مثل الباب الذى قبله، لا بأس بطلب ما يتعارف الناس بطلب مثله من شرب الماء واللبن، وما تطيب به النفس، ولا يتشاح فيه، ولاسيما أن زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) زمن مكارمة ومشاركة، وقد وصفهم الله أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم، وإنما أعطى الأعرابى ولم يستأذنه كما استأذن الغلام؛ ليتألفه بذلك لقرب عهده بالإسلام. وفيه: أن السنة لمن استسقى أن يسقى من على يمينه، وإن كان من على يساره أفضل ممن جلس على يمينه، ألا ترى قول أنس: فهى سنة ثلاث مرات، وذلك يدل على تأكيدها، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الأشربة.
5 - بَاب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ وَقَبِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَبِى قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ
/ 7 - وفيه: أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلىّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِوَرِكِهَا، أَوْ فَخِذَيْهَا، قَالَ: فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ، فَقَبِلَهُ، قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ.

(7/89)


/ 8 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: (أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَ أَنَّا حُرُمٌ) . قول شعبة: قوله: فخذيها لا شك فيه، دليل أنه شك فى الفخذين أولاً ثم استيقن، وكذلك شك آخرًا فى الأكل، فأوقف حديثه على القبول، وقبول هدية الصيد وغيره هى السنة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (لو أهدى إلىّ كراع أو ذراع لقبلته) . وفى رد النبى (صلى الله عليه وسلم) الحمار على الصعب بن جثامة وهو محرم دليل على أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما رده عليه لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم، وكان الحمار حيًا، فدل هذا أن المهدى إذا كان معروفًا بكسب الحرام، أو بالغصب والظلم، فإنه لا يجوز قبول هديته. وفيه الاعتذار إلى الصديق، وإذهاب ما يخشى أن يقع بنفسه من الوحشة وسوء الظن، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج وما للعلماء فيه، وكذلك تقدم حديث أنس فى كتاب الصيد وتفسير أنفَجْنَا.
6 - بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 10 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ، خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى النَّبِىِّ،

(7/90)


عَلَيْهِ السلام، أَقِطًا وَسَمْنًا وَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا أُتِىَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: (أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟) ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، قَالَ لأَصْحَابِهِ: (كُلُوا) ، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ. / 12 - وفيه: أَنَس، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . / 13 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: (عِنْدَكُمْ شَىْءٌ؟) ، قَالَتْ: لاَ، إِلاَ شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ: (إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . قد روى عن مالك فى حديث الضب أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أمر ابن عباس، وخالد ابن الوليد بأكل الضب فى بيت ميمونة، فقالا له: ألا تأكل يا رسول الله؟ فقال: (إنى يحضرنى من الله حاضرة، يعنى الملائكة الذين يناجيهم، ورائحة الضب ثقيلة) ، فلذلك تقذره، عَلَيْهِ السَّلام، خشية أن يؤذى الملائكة بريحه. فى هذا من الفقه أنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه لقلة عادته بأكله ولذمه، وإنما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يأكل الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، وأخذ الصدقة منزلة ضعة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (اليد العليا

(7/91)


خير من اليد السفلى) ، والأنبياء منزهون عن منازل الضعة والذلة، وأيضًا فلا تحل الصدقة للأغنياء، وقد عدد الله على نبيه أنه وجده عائلاً فأغناه، فلهذا كله حرمت عليه الصدقة. وقوله فى لحم بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية) ، وقوله: (قد بلغت محلها) ، فإن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك؛ لصحة ملكه لها، فلما أهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة حلت لها وللنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وتحولت عن معنى الصدقة لملك المتصدق عليه بها، ولذلك قال عَلَيْهِ السَّلام: (وهى لنا من قبلها هدية، وقد بلغت محلها) ، أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية؛ لأن الهدية جائز أن يثيب عليها بمثلها وأضعافها على المعهود منه، عَلَيْهِ السَّلام، وليس ذلك شأن الصدقة، وقد تقدمت هذه المعانى فى موضع آخر.
7 - بَاب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِى، وكان نِسَاءَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ

(7/92)


أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُكَلِّمُ النَّاسَ، يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا ثلاثًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِى شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ، فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَقَالَ لَهَا: (لاَ تُؤْذِينِى فِى عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْوَحْىَ لَمْ يَأْتِنِى وَأَنَا فِى ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَ عَائِشَةَ) ، قَالَتْ: فَقُلت: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى ابنةِ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: (يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟) ، فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِى إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى بِنْتِ ابْنِ أَبِى قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِىَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ

(7/93)


حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَ: فَنَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: (إِنَّهَا بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ) . قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه: أنه ليس على الرجل حرج فى إيثار بعض نسائه بالتحف والطرف من المأكل، وإنما يلزمه العدل فى المبيت والمقام معهن، وإقامة نفقاتهن وما لابد منه من القوت والكسوة، وأما غير ذلك فلا، وفيه تحرى الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها من المهداة إليه؛ ليزيد بذلك فى سروره، وفيه أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن، ولا يميل مع بعضهن على بعض، كما سكت النبى (صلى الله عليه وسلم) حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال آخرًا: (إنها بنت أبى بكر) ، ففى هذا إشارة إلى التفضيل بالشرف والفهم.
8 - بَاب مَا لاَ يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّةِ
/ 15 - فيه: أَنَس، كان لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لاَ يَرُدُّهُ. قال المهلب: إنما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يرد الطيب من أجل أنه كان يلازمه لمناجاته الملائكة، ولذلك كان لا يأكل الثوم وما شاكله، وفى هذا الحديث دليل أن من الهدايا ما يرد لعلة، إذا كان لذلك وجه، وأن الطيب لا وجه لرده؛ لأنه من المباحات

(7/94)


المستحسنات، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام: (حُبِّبَ إلىّ من الأشياء النساء والطيب) .
9 - بَاب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً
/ 16 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: هبة الشىء الغائب جائزة عند العلماء، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وفيه أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان فى ذلك مصلحة واستئلاف.
- بَاب الْمُكَافَأَةِ فِى الْهَدِيَّةِ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. قال المهلب: الهدية على ضربين: فهدية للمكافأة، وهدية للصلة والجوار، فما كان للمكافأة كان على سبيل البيع وطريقه، ففيه العوض، ويجبر المهدى إليه على سبيل العوض، وما كان لله أو للصلة، فلا يلزم عليه مكافأة، وإن فعل فقد أحسن. وقد اختلف الفقهاء فيمن وهب هبة ثم طلب ثوابها، وقال: إنما أردت الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له، فله ذلك، مثل الفقير للغنى، وهبة الغلام لصاحبه، وهبة الرجل لأميره، ومن هو فوقه، وهو

(7/95)


أحد قولى الشافعى. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترطه، وهو قول الشافعى الثانى، قال: والهبة للثواب باطل لا تنعقد؛ لأنها بيع بثمن مجهول. واحتج الكوفى بأن موضع الهبة التبرع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع، وصار فى معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع واقعًا على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك. قال ابن القصار: والحجة لمالك أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، كان يقبل الهدية ويثيب عليها، والاقتداء به واجب؛ لقوله تعالى: (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21] . وروى أن أعرابيًا أهدى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بعيرًا، فأثابه عليه فأبى، فزاده فأبى، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام: (لقد هممت ألا أتهب إلا من قرشى أو دوسى) ، فدل أن الهبة تقتضى الثواب، وإن لم يشترطه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أثابه وزاده فى الثواب حتى بلغ رضا الأعرابى، ولو لم يكن واجبًا لم يثبه ولم يزده، ولو أثاب تطوعًا لم تلزمه الزيادة، وكان ينكر على الأعرابى طلبه للثواب حتى يحصل علمه هذا عند الناس. وأما قوله: إن الهبة موضوعة للتبرع، ومخالفة للفظ البيع، فالجواب أن الهبة لو لم تقتض العوض أصلاً لكانت بمنزلة الصدقة، يقصد بها ثواب الآخرة. والفرق بين الهبة والصدقة أن الواهب يقصد المكافأة فى الأغلب،

(7/96)


وليست الصدقة كذلك، والفقير إذا وهب للغنى ينبغى أن يكون بمطلقه يقتضى الثواب، وإن كان الثواب مجهولاً، كقطعة الحمام والشارب والملاح، وقد جرى العرف بذلك، وأيضًا فإن الواهب دخل على أخذ العوض، وإن لم ينكره، فصار كأنه عقد معاوضة، ولنا أن نستدل بقوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [النساء: 86] ، فهو عام فى كل هدية وهبة، فلو أهدى له مما يتحيا به من مسموم وغيره، وطلب الثواب كان ذلك له، ووجب على المحيا أن يحيى بأحسن منها، أو يردها بأمر الله له بذلك. فإن قيل: هذا ندب، والوجوب لا يتعلق بعوض زائد، فالجواب: أنه ندب إلى أحسن منها، وإلا فالرد واجب لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب أنهما قالا: إذا وهب الرجل هبة ولم يثب منها فهو أحق بها، ولا مخالف لهما فى الصحابة.
- بَاب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِىَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ
وَقَالَ الرسول: (اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِى الْعَطِيَّةِ) ، وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِى عَطِيَّتِهِ، وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ يَتَعَدَّى. وَاشْتَرَى

(7/97)


النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَالَ: (اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) . / 18 - فيه: النُّعْمَانِ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: إِنِّى نَحَلْتُ ابْنِى هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: (أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَأرْجِعْهُ) ، وقد ذكره البخارى فى كتاب الشهادات، وقال فيه: (لا أشهد على جور) . اختلف العلماء فى الرجل ينحل بعض ولده دون البعض، فكرهه طاوس، وقال: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محرق، وهو قول عروة، ومجاهد، وبه قال أحمد، وإسحاق، قال إسحاق: فإن فعل فالعطية باطلة، وإن مات الناحل فهو ميراث بينهم. واحتجوا بأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، رد عطية النعمان، وقال له: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، وبقوله: (لا أشهد على جور) ، وأجاز ذلك مالك فى الأشهر عنه، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وإن كانوا يستحبون أن يسوى بينهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا. وقال عطاء وطاوس: يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله بعد موته، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق. وقال سحنون: إذا تصدق بجل ماله ولم يكن فيما استبقى ما يكفيه، ردت صدقته، وإن أبقى من ذلك ما يكفيه جازت صدقته.

(7/98)


وقد قال مالك: لم يكن لبشير مال غير الغلام الذى نحله ابنه. ومن حجة الذين أبطلوا ذلك أن إعطاء بعضهم دون بعض يؤدى إلى قطع الرحم والعقوق، فيجب أن يكون محرمًا ممنوعًا منه؛ لأنه لا يجوز عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يحث على صلة الرحم ويجيز ما يؤدى إلى قطعها، قالوا: وقد كان النعمان وقت ما نحله أبوه صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره عن القبض، فلما قال له، عَلَيْهِ السَّلام: اردده، بعدما كان فى حكم ما قبض، دل على أن النحل لبعض ولده لا ينعقد ولا يملكه المنحول. قال الطحاوى: ومن حجة الذين أجازوا التفضيل أن حديث النعمان لا دليل فيه على أنه كان حينئذ صغيرًا، ولعله كان كبيرًا لم يكن قبضه، وقد روى الحديث على غير هذا المعنى، روى داود بن أبى هند، عن الشعبى، عن النعمان، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (أكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟) ، قال: لا، قال: (أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء؟) ، قال: بلى، قال: (فأشهد على هذا غيرى) ، فهذا خلاف ما فى الحديث الأول، وهذا القول لا يدل على فساد العقد الذى عقد للنعمان؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد يتوقى فى الشهادة على ماله أن يشهد عليه. وقوله: (أشهد على هذا غيرى) ، دليل على صحة العقد، وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتسوية بينهم ليستووا جميعًا فى البر، وليس فى شىء من هذا فساد العقد على التفضيل، فكان كلام النبى (صلى الله عليه وسلم) إياه على طريق المشورة، وعلى ما ينبغى أن يفعل عليه الشىء إن آثر فعله.

(7/99)


وكان عَلَيْهِ السَّلام إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم جميعًا، وأعطى المملوك كما يعطى الحر، ليس ذلك على أنه واجب، لكنه أحسن من غيره، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن أنس، قال: كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجل، فجاء ابن له، فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت ابنة له، فأجلسها إلى جنبه، قال: (فهلا عدلت بينهما) ، أفلا ترى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد منه التعديل بين البنت والابن، وألا يفضل أحدهما على الآخر. فإن قيل: فقوله عَلَيْهِ السَّلام: (لا أشهد على جور) ، يدل على أن إعطاء بعضهم لا يجوز. قيل: ليس قوله ذلك بأشد من قوله: (فارجعه) ، وهذا يدل على أن العطية قد لزمت وخرجت عن يده، ولو لم تكن صحيحة لم يكن له أن يرتجع؛ لأنها ما مضت ولا صحت فيرتجع، فأمره بذلك لأن المستحب والمسنون التسوية. ولما أجمعوا على أنه مالك لماله، وأن له أن يعطيه من شاء من الناس، كذلك يجوز أن يعطيه من شاء من ولده، والدليل على جواز ذلك أن أبا بكر الصديق نحل ابنته عائشة دون سائر ولده، ونحل عمر ابنه عاصمًا دون سائر ولده، ونحل عبد الرحمن بن عوف ابنته أم كلثوم ولم ينحل غيرها، وأبو بكر وعمر إمامان، وعبد الرحمن ومحله، ولم يكن فى الصحابة من أنكر ذلك. والحجة على من قال: نجعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين كالفرائض، قوله عَلَيْهِ السَّلام: (أكل ولدك نحلت مثل هذا) ، ولم يقل له: هل فضلت الذكر على الأنثى؟ ولو كان ذلك مستحبًا

(7/100)


لسأله عنه كما سأله عن التشريك فى العطية، فثبت أن المعتبر عطية الكل على التسوية. فإن قيل: لم يكن لبشير بنت، فلذلك لم يسأله. قيل: قد كان للنعمان أخت لها خبر نقله أصحاب الحديث. قال المهلب: وفى قوله عَلَيْهِ السَّلام: (اردده) من الفقه أن للأب أن يقبض ما وهب لولده ويرجع فيه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: له أن يرجع فى هبته وإن قبضها الولد ما لم تتغير فى يد ولده، أو سيحدث دينًا، أو تتزوج البنت بعد الهبة. وقال الشافعى: له أن يرجع فى هبته على كل حال ولم يعتبر طروء دين أو تزويجًا. وقال أبو حنيفة: لا يرجع فيما وهب لولده، وحديث النعمان حجة على أبى حنيفة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمره بالرجوع فيما وهب لابنه، فإن قال: لم يكن قبض النعمان الهبة، فلذلك جاز لأبيه الرجوع فيها، فالجواب أن الهبة تلزم عند مالك بالقول، ولا يفتقد فى صحتها إلى القبض. ولو كان الحكم فيها يختلف بين أن تكون مقبوضة أو غير مقبوضة، لاستعلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحال وفصل بينهما، وأيضًا فإن مجيئه للنبى، عَلَيْهِ السَّلام، يشهده يدل على أنه كان أقبضه، ولو لم يقبضه لم يكن لقوله: (أرجعه) معنى؛ لأنه عندكم قبل القبض لا يلزمه يرجع فيه، وليس لقوله حكم.

(7/101)


وحجة مالك أنه لا يرجع إن استحدث ابنه دينًا، فإنما قال ذلك؛ لأن حق الغرماء قد وجب فى مال الابن؛ لأنهم إنما داينوه على ماله، فليس للأب أن يبطل حقوق غرماء ابنه، وكذلك البنت إذا تزوجت لمالها؛ لأن الزوج له معونة فيه وكمال فى مال زوجته. وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (تنكح المرأة لمالها) ، فليس للأب أن يبطل ما وجب للزوج من الحقوق فى مال زوجته بأن يأخذ ذلك منها، وليس لغير الأب أن يقبض عند مالك وأكثر أهل المدينة، إلا أن الأم لها أن تقبض عندهم ما وهبت لولدها إذا كان أبوهم حيًا. هذا الأشهر عن مالك، وقد روى عنه أنها لا تقبض أصلاً، ولا يجوز عند أهل المدينة أن تقبض الأم ما وهبت ليتيم من ولدها؛ لأن الهبة لليتيم على وجه القربة لله، فهى بمنزلة الصدقة عليه، ولا يجوز الرجوع فى الصدقة؛ لأنها لله، كما لا يجوز الرجوع فى العتق والوقف وأشباهه. وعند الشافعى لا يرجع أحد فى هبته إلا الوالد والجد، وقد روى عن ابن وهب أن الجد يقبض كالأب، وعند الكوفى لا يرجع فيما وهبه لكل ذى رحم محرم بالنسب كالابن، والأخ، والأخت، والعم، والعمة، وكل من لو كان امرأة لم يحل له أن يتزوجها لأجل النسب.

(7/102)


قال المؤلف: فى اشتراء النبى (صلى الله عليه وسلم) البعير من عمر وهبته لابنه دليل على ما بوب به البخارى من التسوية بين الأبناء فى الهبة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لو سأل عمر أن يهب البعير لابنه عبد الله لم يكن عدلاً بين بنى عمر، فلذلك اشتراه عَلَيْهِ السَّلام ووهبه، ولو أشار على عمر أن يهبه لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك. قال المهلب: وفى اشتراء النبى (صلى الله عليه وسلم) الجمل من عمر وهبته لابنه من الفقه أن غير الأب لا تلزمه التسوية فيما يهب بعض ولد الرجل كما يلزم الأب فى ولده، لما جبل الله النفوس عليه من الغضب عند أثرة الآباء بعض بنيهم دون بعض، ولو لزمت التسوية بين الأخوة من غير الأب، كما لزمت من الأب لما وهب النبى (صلى الله عليه وسلم) أحد بنى عمر دون إخوته. وقول البخارى: ولا يشهد عليه معناه: الرد لفعل الأب إذا فضل بعض بنيه، وأنه لا يسع الشهود أن يشهدوا على ذلك من فعل الأب إذا تبين منه الميل، كما لم يشهد الرسول على عطية بشير ابنه النعمان دون إخوته، وقال: (لا أشهد على جور) ، فكان ذلك سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) ألا يشهد على عطية يتبين فيها الجور.
- بَاب الإِشْهَادِ فِى الْهِبَةِ
/ 19 - فيه: النُّعْمَانَ: أَعْطَانِى أَبِى عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنِّى أَعْطَيْتُ ابْنِى مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِى أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَعْطَيْتَ سَائِرَ

(7/103)


وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. الإشهاد ليس من شروط الهبة والصدقة التى لا تتم إلا بها، وإنما هو ليعلم عزيمة المتصدق على إنفاذ ما تصدق به أو وهب، ولو أن رجلاً تصدق على أحد بشىء، وحازه المتصدق عليه دون إشهاد حتى مات المتصدق، فأقر ورثته وهم بالغون بالصدقة لنفذت، وإن كان لم يشهد عليها فى الأصل عند مالك وأصحابه، وإنما الإشهاد فى الهبة كالإشهاد فى البيع والعتق ليعلم ذلك. قال المهلب: وفيه أن للإمام إذا عرف من الواهب هروبًا من بعض الورثة أن يرد ذلك؛ لأن قوله: (فأمرتنى أن أشهدك) ، وأنها لم ترض حتى يشهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دليل على هروبه بماله عن سائر بنيه؛ لأن فى بعض طرق الحديث: (لا أشهد على جور) ، وكان معروفًا بالميل إلى تلك المرأة.
- بَاب هِبَةِ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ) [النساء: 4] . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ يَرْجِعَانِ. وَاسْتَأْذَنَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ. وَقَالَ: (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: هَبِى لِى بَعْضَ صَدَاقِكِ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَ

(7/104)


يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا، فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ. قَالَ الله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ) [النساء: 4] الآية. / 20 - فيه: عَائِشَة، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ. . . الحديث. / 21 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَقِىءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . اختلف العلماء فى الزوجين يهب كل واحد منهما لصاحبه، فقال جمهور العلماء: ليس لواحد منهما أن يرجع فيما يعطيه للآخر، هذا قول عمر بن عبد العزيز، والنخعى، وعطاء، وربيعة، وبه قال مالك، والليث، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيها قول آخر، وهو أن لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أن يرجع فيما أعطاها، روى هذا عن شريح، والشعبى، والزهرى. قال الزهرى: ما رأيت القضاة إلا يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها، ولا يقيلون الرجل فيما وهب لامرأته. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سليمان الشيبانى، قال: كتب عمر بن الخطاب أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. والقول الأول أحسن لقوله: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا) [النساء: 4] ، وروى عن على ابن أبى طالب، أنه قال: إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم، ويشترى بها عسلاً، ويأخذ من ماء السماء فيتداوى به، فيجمع هنيئًا

(7/105)


مريئًا وماء مباركًا، فلو كان لهن فيه رجوع لم يكن هنيئًا مريئًا، ألا ترى أن ما وهبه أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) له من أيامهن ولياليهن، وأن يمرض فى بيت عائشة، لم يكن لهن فيه رجوع؛ لأنه كان عن طيب نفس منهن، لا عن عوض. واختلفوا فيما وهب أحد الزوجين لصاحبه، هل يحتاج إلى حيازة وقبض؟ فقال ابن أبى ليلى والحسن البصرى: الصدقة جائزة وإن لم يقبضها. وقال النخعى وقتادة: ليس بين الزوجين حيازة. وقال ابن سيرين، وشريح، ومسروق، والشعبى: لابد فى ذلك من القبض، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وهى رواية أشهب عن مالك. قال مالك: إن ما وهب الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها وهو فى أيديهما كما كان، إنه حوز ضعيف لا يصح، وله قول آخر، روى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية فى الرجل يهب لامرأته خادمًا ولا يخرجها عن البيت الذى هما فيه، ويهبها دارًا يسكناها، أو تهب له ذلك، أن ذلك جائز للمرأة. وروى عيسى، عن ابن القاسم فى الرجل يهب لامرأته دارًا يسكناها، ثم يسكنان بعد ذلك فيها، أو المرأة تفعل مثل ذلك، ففرق بينهما، قال: إذا كان الزوج الواهب فالصدقة غير تامة؛ لأن عليه أن يسكن زوجته، فكأنه هو مسكنها، فإذا كانت المرأة الواهبة فالصدقة جائزة؛ لأنه يسكن ما حوزه لنفسه.

(7/106)


- بَاب هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ
فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) [النساء: 5] . / 22 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِىَ مَالٌ إِلاَ مَا أَدْخَلَ عَلَىَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: (تَصَدَّقِى، وَلاَ تُوعِى فَيُوعَى اللَّه عَلَيْكِ) . / 23 - وقال مرة: (أَنْفِقِى وَلاَ تُحْصِى، فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ) . / 24 - وفيه: مَيْمُونَةَ زوج النّبِىّ، أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِى يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّى أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِى؟ قَالَ: (أَوَفَعَلْتِ؟) ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ) . / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى المرأة المالكة لنفسها الرشيدة ذات الزوج، فقالت طائفة: لا فرق بينها وبين البالغ من الرجال، فما جاز من عطايا الرجل البالغ الرشيد جاز من عطائها، هذا قول سفيان الثورى، والشافعى، وأبى ثور، وأصحاب الرأى، وروينا معنى ذلك عن عطاء. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقالت طائفة: لا يجوز لها أن تعطى من مالها شيئًا بغير إذن زوجها. روى هذا القول عن أنس بن مالك، وهو قول طاوس والحسن البصرى، وقال مالك: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلا ثلث مالها خاصة، قياسًا على الوصية. وقال الليث: لا يجوز عتق

(7/107)


المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا فى الشىء اليسير الذى لابد لها منه فى صلة الرحم أو غيره، مما يتقرب به إلى الله. وحجة القول الأول أن الله تعالى سوى بين الرجال والنساء عند بلوغ الحلم وظهور الرشد، فقال: (فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، فأمر بدفع أموالهم إليهم، ولم يخص رجلاً من امرأة، فثبت أن من صح رشده صح تصرفه فى ماله بما شاء، وقال: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) [النساء: 4] الآية، فأباح للزوج ما طابت له به نفس امرأته، وقال: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (إلى) إلا أن يعفون) [البقرة: 237] . فأجاز عفوها عن مالها بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد، فدل ذلك على جواز أمر المرأة فى مالها، وعلى أنها فيه كالرجل سواء، واحتجوا بأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أسماء بالصدقة، ولم يأمرها باستئذان الزبير، وأن ميمونة أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وبحديث ابن عباس أنه، عَلَيْهِ السَّلام، خطب النساء يوم عيد، وقال لهن: (تصدقن ولو من حليكن) ، وليس فى شىء من الأخبار أنهن استأذن أزواجهن، ولا أنه عَلَيْهِ السَّلام أمرهن باستئذانهم. ولا يختلفون فى أن وصاياها من ثلث مالها جائزة كوصايا الرجل، ولم يكن لزوجها عليها فى ذلك سبيل ولا أمر، وبذلك نطق الكتاب، وهو قوله تعالى: (من بعد وصية يوصين بها أو دين) [النساء: 12] ، فإذا كانت وصاياها فى ثلث مالها جائزة بعد وفاتها،

(7/108)


فأفعالها فى مالها فى حياتها أجوز، والحجة لطاوس حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (لا تجوز عطية امرأة فى مالها إلا بإذن زوجها) ، فأحاديث هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب. وتأول مالك فى الأحاديث التى جاءت عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه أمر النساء بالصدقة، إنما أمرهن بإعطاء ما ليس بالكثير المجحف بغير إذن أزواجهن؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (تنكح المرأة لمالها ودينها وجمالها) ، فسوى بين ذلك، فكان لزوجها فى مالها حقًا، فلم يكن لها أن تتلفه إلا بإذنه. وعلى هذا يصح الجمع بين حديث عمرو بن شعيب وسائر الأحاديث المعارضة له، فيكون حديث عمرو بن شعيب واردًا فى النهى عن إعطاء الكثير المجحف، وتكون الأحاديث الواردة بحض النساء على الصدقة فيما ليس بالكثير المجحف، والله الموفق. وأما حديث هبة سودة يومها لعائشة، فليس من هذا الباب فى شىء؛ لأن للمرأة الشفيقة أن تهب يومها لضرتها، وإنما السفه فى إفساد المال خاصة. واختلفوا فى البكر إذا تزوجت متى تكون فى حال من تجوز لها العطاء، فقالت طائفة: ليس لها فى مالها أمر حتى تلد، أو يحول عليها الحول، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعن شريح، والشعبى، وبه قال أحمد وإسحاق. وفرق أصحاب مالك بين البكر ذات الأب والوصى، وبين التى

(7/109)


لا أب لها ولا وصى، قال ابن القاسم: أما البكر التى لا أب لها، فلا يجوز قضاؤها فى مالها وإن عنست حتى تدخل بيتها وترضى حالها. واختلفوا فى حد تعنيس البكر، فقال ابن وهب: الثلاثين سنة إلى خمس وثلاثين. وقال ابن القاسم: الأربعين سنة إلى الخمس والأربعين. وقال ابن الماجشون، ومطرف فى اليتيمة التى لا أب لها ولا وصى تختلع من زوجها بشىء تهب له: الخلع ماض، ويرد الزوج ما أخذ؛ لأنه لا يجوز لها عطاء حتى تملك نفسها ومالها، وذلك بعد سنة من ابتناء زوجها بها، أو تلد ولدًا. وخالف هذا سحنون، فقال فى البكر تعطى زوجها بعض مالها، وذلك قبل الدخول فيملكها أمرها، أو تباريه بشىء من مالها، فقال: إن كان لها أب أو وصى، فلا يجوز ذلك، ويلزم الزوج الطلاق، ويرد عليها ما أخذ منها، وإن كانت لا أب لها ولا وصى جاز ذلك، وهى عندى بمنزلة السفيه الذى لا وصى له، أن أموره جائزة، بيوعه، وصدقته، وهبته، ما لم يحجر عليه الإمام.
- بَاب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ؟
وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لميمونة حين أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا: (وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ) . / 26 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) .

(7/110)


وفى حديث ميمونة أن صلة الأقارب أفضل من العتق، على أن العتق قد جاء فيه أن الله يعتق بكل عضو منه عضوًا منها من النار، وأن بالعتق تجاز العقبة يوم القيامة. وفى حديث عائشة أن أقرب الجيران أولى بالصلة والبر والرعاية، وأن صلة الأقرب منهم أفضل من صلة الأبعد إذ لا يقدر على عموم جميعهم بالهدية، وقد أكد الله تعالى ذلك فى كتابه، فقال: (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) [النساء: 36] ، فدل هذا على تفضيل الأقرب، وقد تقدم معنى ذلك فى باب أى الجوار أقرب فى كتاب الشفعة، فأغنى عن تكراره.
- بَاب مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِى زَمَنِ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، هدية، وَهى الْيَوْمَ رِشْوَةٌ. / 27 - فيه: الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِىَّ، أَنَّهُ أَهْدَى الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ، فَلَمَّا عَرَفَ فِى وَجْهِى كَراهية رده، قَالَ: (لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ) . / 28 - وفيه: أَبُو حُمَيْد السَّاعِدِىِّ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً مِنَ الأَسد، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ إِلِىّ، قَالَ: (فَهَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ هل يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ،

(7/111)


إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ) ، ثُمَّ رَفَعَ يَدِهِ، حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، ثم قال: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) ثَلاَثًا. قال المهلب: رد الهدية فى حديث الصعب غاية الأدب؛ لأنها لا تحل للمهدى إليه، من أجل أنه محرم، ومن حسن الأدب أن يكافأ المهدى، وربما عسرت المكافأة، فردها إلى من يجوز له الانتفاع بها أولى من تكلف المكافأة، مع أنه لو قبله لم يكن له سبيل إلى غير تسريحه؛ لأنه لا يجوز له ذبحه وهو محرم. وفيه من الفقه: أنه لا يجوز قبول هدية من كان ماله حرامًا ومن عرف بالغصب والظلم، وقد تقدم هذا المعنى فى باب قبول هدية الصيد. وفى حديث ابن اللتية: أن هدايا العمال يجب أن تجعل فى بيت المال، وأنه ليس لهم منها شىء إلا أن يستأذنوا الإمام فى ذلك، كما جاء فى قصة معاذ أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، طيب له الهدية، فأنفذها له أبو بكر الصديق بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) لما كان دخل عليه فى ماله من الفلس. وفيه: كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل فى معنى ذلك كراهية هدية المديان والمقارض، وكل من لهديته سبب غير سبب الجيرة أو الصداقة أو صلة الرحم. وقوله: (عفرة إبطيه) ، قال صاحب العين: العفرة غبرة فى حمرة، كلون الظبى الأعفر.

(7/112)


- بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ
وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَ وَقد فُصِلَتِ الْهَدِيَّةُ، وَالْمُهْدَى لَهُ حَىٌّ، فَهِىَ له، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حيًا فَهِىَ لِوَرَثَتهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتِ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الذِى أهدى. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ، إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ. / 29 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ قَد جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلاَثًا) ، فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَدَنِى، فَحَثَى لِى ثَلاَثًا. اختلف العلماء فى الذى يهب أو يتصدق على رجل، ثم يموت الواهب أو المتصدق قبل أن تصل إلى الموهوب له، فذكر البخارى قول عبيدة السلمانى، وقول الحسن، وبمثل قول الحسن قال مالك، قال مالك: إن كان أشهد عليها أو أبرزها أو دفعها إلى من يدفعها إلى الموهوب له فهى جائزة. وفيها قول ثالث، وهو: إن كان بعث بها المهدى مع رسوله، فمات الذى أهديت إليه، فإنها ترجع إليه، فإن كان أرسل بها مع رسول الذى أهديت إليه، فمات المهدى إليه، فهى لورثته، هذا قول الحكم، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وقالت طائفة: لا تتم الهبة إلا بقبض الموهوب له، أو وكيله، فأيهما مات قبل أن تصل الهبة إلى الموهوب له، فهى راجعة إلى الواهب، أو إلى ورثته، هذا قول الشافعى.

(7/113)


واختلف الفقهاء فيما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، فقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: لا يلزم من العدة شىء؛ لأنها منافع لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وقال مالك: أما العدة مثل أن يسأل الرجل أن يهب له هبة، فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك فى قضاء دين، فسأله أن يقضى عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء، فقال: أشهدكم أنى قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم؟ فإنه يلزمه، وأما أن يقول: نعم أنا أفعل ثم يبدو له، فلا أرى ذلك. وقال سحنون: الذى يلزمه من العدة فى السلف والعارية، أن يقول للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو اخرج إلى الحج، وأنا أسلفك ما يبلغك، أو اشترى سلعة كذا أو تزوج وأنا أسلفك، ذلك كما يدخله فيه وينشئه به، فهذا كله يلزمه. قال: وأما أن يقول: أنا أسلفك وأنا أعطيك بغير شىء يلزمه المأمور نفسه، فإن هذا لا يلزمه منه شىء. قال أصبغ: يلزمه فى ذلك كل ما وعد به. قال المؤلف: والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، ألا ترى فتيا عبيدة السلمانى والحسن فى أن العدة والهبة إنما تتم إذا فصلت إلى المهدى له قبل موت الواهب والموهوب له، فى قول الحسن. وفى قول عبيدة: إن مات الموهوب له قبل أن تصل إليه الهبة فهى لورثة الواهب.

(7/114)


وذكر عبد الرزاق، عن قتادة، كقول الحسن، وهذا يدل من فتياهم أنهم تأولوا قوله، عَلَيْهِ السَّلام، لجابر: (لو قد جاء مال البحرين أعطيتك) ، أنها عدة غير لازم الوفاء بها فى القضاء؛ لأنها لم تكن فصلت من عند النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قبل موته، وإنما وعد بها جابر لو قد جاء مال البحرين، فمات عَلَيْهِ السَّلام قبل ذلك. ولذلك ذكر البخارى قول عبيدة والحسن فى أول الباب؛ ليدل أن فعل أبى بكر الصديق فى قضائه عدات النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موته أنها كانت منه على التطوع، ولم يكن يلزم النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا أبا بكر قضاء شىء منها؛ لأنه لم يرو عن أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، وإنما أنفذ ذلك الصديق بعد موت النبى (صلى الله عليه وسلم) اقتداء بطريقة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وامتثالاً لفعله، فإنه كان أوفى الناس بعهده وأصدقهم لوعده (صلى الله عليه وسلم) .
- بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لعمر فَاشْتَرَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ) . / 30 - فيه: الْمِسْوَرِ، قَسَمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ، فَقَالَ لى: (ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِى، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْنَا هَذَا لَكَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِىَ مَخْرَمَةُ) .

(7/115)


أما كيف يقبض المتاع والهبات عند جماعة العلماء، فبإسلام الواهب لها إلى الموهوب له، وحيازة الموهوب له، كركوب ابن عمر الجمل، كإعطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) القباء لمخرمة وتلفيه بإزاره، وذكر البخارى فى كتاب الجهاد أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة، فجاء مخرمة إلى النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فسمع صوته فتلقاه به، واستقبله بإزراره، فقال: يا أبا المسور، خبأت لك هذا، مرتين، وكان فى خلقه شدة. وفى هذا من الفقه الاستئلاف لأهل اللسانة وغيرهم. وقد اختلف العلماء فى الهبات، هل من شرطها الحيازة أم لا؟ فقالت طائفة: من شرطها الحيازة لا تتم إلا بالقبض. روى هذا عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وشريح، ومسروق، والشعبى، وإليه ذهب الثورى، والكوفيون، والشافعى، وقالوا: ليس للموهوب له مطالبة الواهب بتسليمها إليه؛ لأنه ما لم تقبض عدة وعده بها يحسن الوفاء بها ولا يقضى بها عليه. وقالت طائفة: تصح الهبة بالكلام دون القبض، كالبيع تنعقد بالكلام، روى هذا عن على وابن مسعود، وعن الحسن البصرى، والنخعى، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا: للموهوب له المطالبة بها فى حياة الواهب، فإن مات الواهب بطلت الهبة. ومن حجة أهل المقالة الأولى: أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال

(7/116)


لابن عمر، وهو راكب الجمل: (هو لك) ، فكان حكم الهبات كلها كذلك لا تتم إلا بقبض الموهوب له. وحجة الآخرين: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لابن عمر فى الجمل: (هو لك) ، ملكه إياه، ولا يملك النبى (صلى الله عليه وسلم) شيئًا أحدًا إلا وهو مالك له ومستحقه، فكان لابن عمر المطالبة بهذا الجمل لو لم يركبه؛ لِحَقِّهِ الذى تعين فيه، فوجب له طلبه، وكذلك دل فعله، عَلَيْهِ السَّلام، فى القباء الذى تلقى به مخرمة واسترضاه به قبل سؤاله إياه، أنه قد تعين للمسور فيه حق وجب للمسور طلبه، على ما ذهب إليه مالك. فإن قيل: فإذا تعين فى الهبة حق للموهوب له وجبت به مطالبة الواهب فى حياته، فكذلك يجوز مطالبته به بعد مماته كسائر الحقوق. قيل: هذا هو القياس لولا حكم الصديق بين ظهرانى الصحابة وهم متواترون حين وهب لابنته جداد عشرين وسقًا من ماله بالغابة ولم تكن قبضته، وقال لها: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك ولا رد عليه، فكان هذا دليلاً لصحة قول مالك.
- بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: هَلَكْتُ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) ، قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِى فِى رَمَضَانَ. . . الحديث،

(7/117)


فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وهو مِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: (اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) ، قَالَ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: (اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . القبض فى الهبة هو غاية القبول، فلا يحتاج القابض أن يقول: قبلت، وهو قد قبضها، وعلى هذا جماعة العلماء، ألا ترى إلى الواقع على أهله فى رمضان قبض من النبى (صلى الله عليه وسلم) المكتل من التمر، ولم يقل: قبلته، إذ كان مستغنيًا عن ذلك بحصوله عنده، ومثل هذا المعنى فى حديث جابر حين اشترى منه النبى (صلى الله عليه وسلم) الجمل، فلما دفع إليه الثمن، قال: الثمن والجمل لك، ولم يقل جابر: قد قبلته يا رسول الله، فدل ذلك على أن الهبة تتم بإعطاء الواهب وقبض الموهوب له دون قوله باللسان: قد قبلت، وأما إذا قال: قبلت، ولم يقبض، فتعود المسألة إلى ما تقدم من اختلافهم فى قبض الهبة فى الباب قبل هذا.
- بَاب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ، وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ لِرَجُلٍ دَيْنَهُ، وَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ، أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ) ، وَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِى وَيُحَلِّلُوا أَبِى. / 32 - وذكر حديث جابر هذا.

(7/118)


لا خلاف بين العلماء أن من كان عليه دين لرجل فوهبه له ربه أو أبره منه وقبل البراءة، أنه لا يحتاج فيه إلى قبض؛ لأنه مقبوض فى ذمته، وإنما يحتاج فى ذلك إلى قبول الذى عليه الدين؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سأل غرماء أبى جابر أن يقبلوا ثمرة حائطه ويحللوه من بقية دينه، فكان ذلك إبراء لذمة أبى جابر لو رضوا بما دعاهم إليه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ولم يكن يعرف ذلك إلا بقولهم: قد قبلنا ذلك ورضينا، فلم يتم التحلل فى ذلك إلا بالقول. واختلفوا إذا وهب دينًا له على رجل لرجل آخر، فقال مالك: تجوز الهبة إذا سلم إليه الوثيقة بالدين، وأحله فيه محل نفسه، وإن لم تكن له وثيقة، وأشهد على ذلك وأعلن، فهو جائز. وقال أبو ثور: الهبة جائزة أشهد أو لم يشهد إذا تقارا على ذلك. وقال الكوفيون والشافعى: الهبة غير جائزة؛ لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة. وقد تقدم فى باب كيف يقبض المتاع مذاهب العلماء فى قبض الهبات، والحجة لمالك وأبى ثور: أنهم جعلوا الموهوب له يحل محل الواهب فى ملك الدين، ويتنزل منزلته فى اقتضائه، ولما أجمعوا أنه يجوز للرجل أن يحيل الرجل على من له دين، كذلك يجوز له أن يجعل ماله من المطالبة بدينه على رجل لرجل آخر يحله محله، وينزله منزلته، إن شاء الله، والله الموفق.

(7/119)


- بَاب هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ أَبِى عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِى عَائِشَةَ بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِى بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ فَهُوَ لَكُمَا. / 33 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: (إِنْ أَذِنْتَ لِى أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ) ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَلَّهُ فِى يَدِهِ. عرض البخارى فى هذا الباب والبابين بعده الرد على أبى حنيفة فى إبطاله هبة المشاع، فإنه يقول: إذا وهب رجل دارًا لرجلين، أو متاعًا، وذلك المتاع مما ينقسم فقبضاه جميعًا، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يقسم كل واحد منهما حصته؛ لأن الهبة من شرط صحتها عنده القبض. وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن هبة الواحد للجماعة جائزة، وقالوا: لو وهب شقصًا من دار أو عبد جاز، وإن لم يكن مقسومًا، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز ذلك أن النبى سأل الغلام أن يهب نصيبه من اللبن للأشياخ، ومعلوم أن نصيبه منه كان مشاعًا فى اللبن، غير متميز ولا منفصل فى القدح، وهذا خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا معنى لقوله.

(7/120)


- بَاب الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ
وَقَدْ وَهَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ. / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَل مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (أَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً) . / 35 - وفيه: جَابِر، أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، فَقَضَانِى وَزَادَنِى. وَقَالَ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارب، عَنْ جَابِر: فَوَزن لِىّ فَأَرجحَ، فَمَا زَال مِنْهَا شَىءٌ، حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلِ الشَّام يَوْمَ الْحَرَّةِ. / 36 - وفيه: سَهْلِ، أُتِىَ النَّبِىّ بِشَرَابٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخٌ. . . الحديث. وقد تقدم القول فى قبض الهبات، وما للعلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وأما الهبة غير المقسومة، فهى هبة المشاع، واختلف العلماء فيها، فقال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هبة المشاع جائزة، ويتأتى فيها القبض كما يجوز فيها البيع، وسواء كان المشاع مما ينقسم كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم كالعبد والثياب والجواهر، وسواء كان مما يقبض بالتخلية، أو مما يقبض بالنقل والتحويل.

(7/121)


وقال أبو حنيفة: إن كان المشاع مما ينقسم لم يجز هبة شىء منه مشاعًا، وإن كان المشاع مما لا ينقسم كالعبد واللؤلؤ والثوب، فإنه تجوز هبته، وحجة أصحاب أبى حنيفة أن الهبات لا تصح عندهم إلا بالقبض، والمشاع لا يتأتى فيه القبض إلا بقبض الجميع، ومتى كلف الشريك هذا أضر به، وله أن يمتنع من ذلك، واحتجوا بأن أبا بكر الصديق وهب لابنته جداد عشرين وسقًا فلم تقبضه، فقال: لو كنت حزتيه لكان لك، وهذا كان بحضرة الصحابة من غير خلاف. وحجة من أجاز هبة المشاع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهب حقه من غنائم حنين لهوازن، وحقه من ذلك مشاع لم يتعين، وأيضًا حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى للذى أسلفه الجمل بأفضل من سنه، ووجه الدلالة منه أن ثمن ذلك الفضل مشاع فى ثمن السن التى كانت تلزمه، وقد وهب ذلك، عَلَيْهِ السَّلام، وكذلك قول جابر: فقضانى وزادنى. وقوله: فوزن لى فأرجح، فعلم أن تلك الزيادة وذلك الرجحان لم يكن من الثمن، وإنما كان هبة، ولم يكن متميزًا بل كان مشاعًا، وهبة النبى (صلى الله عليه وسلم) وحديث الغلام والأشياخ بين فى ذلك أيضًا؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام استوهب الغلام نصيبه من الشراب، وكان ذلك مشاعًا غير متميز ولا مقسوم، ولا يعرف ما كان يشرب مما كان يترك للأشياخ. قال ابن القصار: ومن أجاز هبة ما لا ينقسم فبأن يجيز هبة ما ينقسم أولى، وأما احتجاجهم بقول أبى بكر لابنته: لو كنت حزتيه لكان ذلك، فهو حجة عليهم؛ لأنه وهب لها جداد عشرين

(7/122)


وسقًا من أوساق كثيرة، وهذا مشاع بينهم، فدل هذا على جواز هبة المشاع؛ لأنه لو لم يجز لم يفعله. وقوله: لو كنت حزتيه لكان لك، لا يدل على أن ما عقده من الهبة لم يجز، وإنما قال ذلك لئلا يقتدى به من يريد الهروب بماله من الميراث، ولما لم تحزه عائشة فى صحته لم ينفذه لها فى مرضه؛ لأن عطايا المريض المقبوضة هى فى ثلثه كالوصايا، والوصية للوارث لا تجوز، ولم يختلف مالك وأبو حنيفة والشافعى أن عطايا المريض للأجنبى جائزة فى ثلثه، فلم يخالف مالك من حديث أبى بكر شيئًا، وأبو حنيفة خالف أوله، وتأول فى آخره ما لم يجامع عليه.
- بَاب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ أَوْ رَجُلٌ لِجَمَاعَة مَقسُومًا وَغَيْرِ مَقسُوم جَازَ
/ 37 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ) ، فَاختَارُوا السبَّى. . . الحديث. قال المؤلف: أما قول البخارى: باب إذا وهب جماعة لقوم، فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وهبوا هوازن السبى وهو مشاع؛ لأن هوازن لم يقسموه بينهم، ولا حاز كل واحد منهم أهله إلا بعد أن حصل فى ملكهم، وبعد أن نفذت هبة أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم فى السبى،

(7/123)


ولم يكن لأحد منهم رجوع فى شىء من ذلك؛ لأنهم طيبوا هبتهم، وأمضوها على شرط ألا يقبلوا العوض من النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها، فهذا يرد قول أبى حنيفة أن هبة المشاع الذى تتأتى فيه القسمة لا تجوز؛ لأن هوازن إنما حازوا أهلهم بعد تملكهم لهم، فهذا هبة الجماعة للجماعة. وأما قول البخارى فى الترجمة: أو رجل لجماعة فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وإن كانوا قد طابت نفوسهم بهبة السبى، فإنما فعلوا ذلك من أجل شفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) عندهم فيه، وأنه وعد بالعوض من لم تطب نفسه بالهبة، فكأنه هو الواهب إذ كان السبب فى الهبة، وأيضًا فإنه عَلَيْهِ السَّلام كان له حق فى جملة السبى، فصح قول البخارى فى جواز هبة الواحد للجماعة. وأما قوله: (مقسومًا أو غير مقسوم) ، فإنما أراد أن المشاع والمقسوم سواء فى جواز الهبة، فلذلك ما ينقسم وما لا ينقسم سواء فى جواز الهبة.
- بَاب مَنْ أُهْدِىَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤهُ وَلَمْ يَصِحَّ. / 38 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ لِلذِى جَاءهُ يَتَقَاضَاهُ: (أعطوه أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. . .) الحديث. / 39 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، عَلَى بَكْرٍ صعْبٍ لِعُمَرَ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ عُمَرُ: لا يتقدم النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أحَدٌ، فَقَالَ

(7/124)


لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (بِعْنِيهِ) ، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ يا رسول الله، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) . لو صح قوله عَلَيْهِ السَّلام: (جلساؤكم شركاؤكم) ، لكان معناه الندب عند الفقهاء فيما خف من الهدايا، وما جرت العادة بترك المشاحة فيه، وأما ما كان له قيمة من الهدايا مثل: الدور، والعقار، والمال الكثير، فصاحبها أحق بها على ما ترجم به البخارى، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يعطى الذى تقاضاه الجمل أفضل من سنه التى كانت عليه، ولم يشاركه أحد ممن كان بحضرته فى ذلك الفضل، وكذلك وهب عَلَيْهِ السَّلام الجمل لابن عمر وهو مع الناس، فلم يستحق أحد منهم فيه شركة مع ابن عمر، فعلى هذا مذهب الفقهاء. وروى عن أبى يوسف القاضى أن الرشيد أهدى إليه مالاً كثيرًا، فورد عليه وهو جالس مع أصحابه، فقال له أحدهم: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (جلساؤكم شركاؤكم) ، فقال له أبو يوسف: إن هذا الحديث لم يرد فى مثل هذا، وإنما ورد فيما خف من الهدايا، وفيما يؤكل ويشرب مما تطيب النفوس ببذله والسماحة به.
- بَاب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ له
/ 40 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ،

(7/125)


فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عُمَر، بِعْنِيهِ) ، فَبْاعَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ) . ولا خلاف بين العلماء أن من كان عنده الشىء الموهوب له، فإن ذلك قبض صحيح، وكذلك حكم الوديعة والرهن ومال القراض والدين، يهبها أربابها لمن هى فى يديه، أن ذلك كله حيازة صحيحة لا تحتاج إلى غيرها، وقد تقدم حكم قبض الهبات قبل هذا، فلا معنى لتكريره.
- بَاب هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لِبَسُهُ
/ 41 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَتَلبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ) ، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِى حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا. . .) الحديث. / 42 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَتَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِىٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ فَاطِمَةَ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا) ، فَقَالَ: مَا لِى وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِىٌّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِى فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ: تُرْسِلُى بِهِ إِلَى فُلاَنٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ.

(7/126)


/ 43 - وفيه: عَلِىُّ، أَهْدَى لَىّ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، حُلَّةَ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. هدية ما يكره لبسه مباحة؛ لأن ملكه جائز، ولصاحبه التصرف فيه بالبيع والهبة، لمن يجوز له لباسه مثل النساء والصبيان، وإنما كره من الحرير لباسه للرجال خاصة دون ملكه. قال المهلب: وإنما كره النبى (صلى الله عليه وسلم) الحرير لابنته؛ لأنها ممن يرغب لها فى الآخرة كما يرغب لنفسه، ولا يرضى لها تعجيل طيباتها فى الحياة الدنيا، فدل هذا على أن النهى عن الحرير إنما هو من جهة السرف. لأن الحديث الذى يروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تحريم الحرير قد سألت عنه أبا محمد الأصيلى، وأوقفته على لفظة حرام، فقال لى: لا تصح لفظة حرام البتة، وإن صحت فإنما معناها حرام تحرمه السنة، وحرام دون حرام، وهو كقوله عَلَيْهِ السَّلام: (كل ذى ناب من السباع حرام) . وفى ذلك الحديث حل لإناثها، فقد كرهه لابنته وهو حلال، فكذلك كرهه للرجال من أجل السرف، وقوله فى حديث ابن عمر: (ما لى وللدنيا؟) ، دليل قاطع. وقوله: (إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة) ، فإنما يريد

(7/127)


بذلك، والله أعلم، أنها لباس الكفار فى الدنيا ومن لا حظ له فى الآخرة، فنهى عَلَيْهِ السَّلام عن مشابهتهم واستعمال زيهم، والله أعلم، وسأستقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب اللباس، إن شاء الله. وقال أبو عبد الله، أخو المهلب: وقول على: فرأيت الغضب فى وجهه، يدل على أن النهى عن الحرير على غير التحريم، وإنما هو على الكراهية، ولو كان تحريمًا لما عرف على الكراهية إلا من نهيه لا بدليل من وجهه. وقوله: (لا ينبغى هذا للمتقين) ، دليل آخر، ولو كان حرامًا لكان المتقى فيه والمسىء فيه واحدًا، ولكنه كما قال تعالى فى المتعة: (حقًا على المتقين) [البقرة: 241] ، و) حقًا على المحسنين) [البقرة: 236] . قال المؤلف: وحملت طائفة الآثار المروية عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى النهى عن لباس الحرير على التحريم، ولم يأت عنه ما يعارضها إلا ما يخصها من جواز لباسه فى الحرب وعند التداوى، وما عدا هذين الوجهين فباق على التحريم، ومن جعل تحريم الحرير كتحريم كل ذى ناب من السباع، فذلك دليل على التحريم؛ لأن جمهور الأمة على أن تحريم كل ذى ناب من السباع على التحريم البين الذى هو ضد التحليل، فكيف يحتج هذا القائل بما يخالفه فيه أكثر الأمة.

(7/128)


- بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ، أَوْ جَبَّارٌ، فَقَالَ: أَعْطُوهَا هاجَرَ) ، وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ. / 44 - وفيه: أَنَس، أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) . وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 45 - وفيه: أَنَس، أَنَّ يَهُودِيَّةً أهدت إلى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، شَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِىءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: (لاَ) ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِى لَهَوَاتِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 46 - وفيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، ثَلاَثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ: (هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟) ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً) ، أَوْ قَالَ: (أَمْ هِبَةً؟) ، قَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم)

(7/129)


بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ، إِلاَ قَدْ حَزَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاه، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وثبت عن النبى بهذه الآثار وغيرها أنه قبل هدايا المشركين، وأكثر العلماء على أنه لا يجوز ذلك لغير النبى (صلى الله عليه وسلم) من الأمراء إذا كان قبولها منهم على جهة الاستبداد بها دون رعيته؛ لأنه إنما أهدى له ذلك من أجل أنه أمير الجيش، وليس النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك كغيره؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من أموال الكفار من غير قتال. وقد اختلف العلماء فى هدايا المشركين، فقال ابن حبيب: ما أهداه الحربى إلى والى الجيش كان الوالى الأعظم أو من دونه فهو مغنم؛ لأنه لم ينله إلا بهم، وفيه الخمس، وهو قول الأوزاعى، ومحمد بن الحسن. قال ابن حبيب: وسمعت أهل العلم يقولون: إنما والى الجيش فى سهمانه كرجل منهم له ما لهم وعليه ما عليهم. وقال أبو يوسف: ما أهدى إلى والى الجيش فهو له خاصة، وكذلك ما يعطاه الرسول. وقال محمد بن الحسن: ولو أهدى العدو إلى رجل من المسلمين ليس بقائد ولا أمير هدية، فلا بأس أن يأخذها، وتكون له دون العسكر، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم صاحب مالك. فإن قيل: فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن عياض بن حمار أهدى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) هدية، أو ناقة، فقال: (أسلمت؟) ، قال: لا، فلم يقبلها، وقال: (إنى نهيت عن زبد المشركين) ، رواه شعبة، عن قتادة،

(7/130)


عن أبى العلاء يزيد بن عبد الله، عن عياض بن حمار، وهذا معارض لما روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قبول هدايا المشركين، فهو ناسخ لها. قيل: يحتمل أن يكون ترك قبول هديته لما فى ذلك من التأنيس والتحاب، ومن حاد الله وشاقه حرم على المؤمنين موالاته، ألا ترى أنه عَلَيْهِ السَّلام جعل علة ردها لما لم يسلم، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: جاء ملاعب الأسنة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بهدية، فعرض عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) الإسلام فأبى أن يسلم، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (فإنى لا أقبل هدية مشرك) . فدل هذا الحديث على مثل ما دل عليه حديث عياض، وبان به أن قبول النبى (صلى الله عليه وسلم) هدية من قبل هديته من المشركين إنما كان على وجه التأنيس له والاستئلاف، ورجاء إنابتهم إلى الإسلام، ومن يئس من إسلامه منهم رد هديته. وقال الطبرى: قبول النبى (صلى الله عليه وسلم) هدايا المشركين إنما كان نظرًا منه للمسلمين وعودًا بنفعه عليهم، لا إيثارًا منه نفسه به دونهم، وللإمام قبول هدايا أهل الشرك وغيرهم، إذا كان ما يقبله من ذلك للمسلمين، وأما رده هدية من رد هديته منهم، فإنما كان ذلك من أجل أنه أهداها له فى خاصة نفسه، فلم ير قبولها، تعريفًا منه لأئمة أمته من بعده أنه ليس له قبول هدية أحد لخاصة نفسه.

(7/131)


ويبين ذلك ما رواه ابن عوف، عن الحسن، قال: جاء رجل إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يقال له: عياض، كانت بينه وبين النبى (صلى الله عليه وسلم) صداقة قبل أن يبعث بهديته، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أسلمت؟) ، قال: لا، قال: (فإنه لا يحل لنا زبد المشركين) . قال الحسن: الزبد: الرفد، ذكره ابن سلام. قال الطبرى: فإن ظن ظان أن قوله عَلَيْهِ السَّلام: (لا تقبل هدية مشرك) ، وأن ما رواه عطاء، عن جابر، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه قال: (هدايا الإمام غلول) ، أن ذلك على العموم، فقد ظن خطأ. وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن الله تعالى قد أباح للمسلمين أموال أهل الشرك بالقهر والغلبة لهم بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم) [الأنفال: 41] الآية، فهو بطيب أنفسهم لا شك أحلى وأطيب. والدليل على صحة قولنا ما رواه شعبة، عن على بن زيد، عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى، أن ملك الروم أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) جرة من زنجبيل، فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه، فأعطى كل رجل قطعة. وما رواه قرة، عن الحسن، قال: أهدى أكيدر دومة الجندل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جرة فيها مَن، بالنبى عَلَيْهِ السَّلام وأهله إليها حاجة،

(7/132)


فلما قضى الصلاة أمر طائفًا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد فأدخل يده، فقال: يا رسول الله، أخذ القوم مرة مرة، وأخذت مرتين، فقال: (كل وأطعم أهلك) . وأهدى البون ملك الروم إلى مسلمة بن عبد الملك لؤلؤتين وهو بالقسطنطينية، فشاور أهل العلم، من ذلك الجيش فقالوا: لم يهدها إليك إلا لموقعك من هذا الجيش، فنرى أن تبيعها وتقسم ثمنها على هذا الجيش، فثبت بفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) وقول أهل العلم من بعده أن الذى كان من رد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هدية من رد من المشركين كان لما وصف لك، إذ من المحال اجتماع الرد والقبول فى الشىء الواحد والحال الواحدة، فبان أن سبب قبوله، عَلَيْهِ السَّلام، ما قبل غير سبب رده ما رد منه. فإن قيل: إن آخر فعله كان ناسخًا للآخر. قيل له: لو كان كذلك لكان مبينًا، وكان على الناس دليل مفرق بينه وبين المنسوخ، إذ غير جائز أن يكون شىء من حكم الله تعالى غير معلوم الواجب عنه على عباده إما بنص عليه، أو لأدلة منصوبة لهم على اللازم فيه.

(7/133)


فبان بهذا أن سبيل الأئمة القائمين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) بأمر الأمة سبيله، عَلَيْهِ السَّلام، فى أن من أهدى إليه ملك من ملوك أهل الحرب هدية فله قبولها وصرفها حيث ما جعل الله ما حول المسلمين بغير إيجاف منهم عليه بخيل ولا ركاب. وإن كان الذى أهدى إليه وهو منتح مع جيش من المسلمين بعقدة دارهم محاصرًا لهم، فله قبوله وصرفه فيما جعل الله من أموالهم مصروفًا فيما نيل بالقهر والغلبة لهم، وذلك ما أوجفوا عليه بالخيل والركاب، كالذى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بأموال قريظة إذ نزلوا على حكم سعد لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه محاصرين لهم. قال المهلب: فى حديث أبى حميد: مكافأة المشرك على هديته؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أهدى له بردًا. وفيه: جواز تأمير المسلمين المشرك الذمى على قومه لما فى ذلك من طوعهم له وانقيادهم. قال الطبرى: كان صاحب أيلة من أهل الجزية بالصلح الذى جرى بينه وبين النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وفيه تولية البحر، وأنه عمل من الأعمال، وفيه جواز نسبة العمل إلى من أمر به؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (وكتب له ببحرهم) ، وهو عَلَيْهِ السَّلام لم يكتب كما قال رحم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما أمر بذلك.

(7/134)


وفى قبول الشاة المسمومة دليل على أكل طعام من يحل أكل طعامه دون أن يسأل عن أصله ولا يحترس من حيث إن كان فيه مع جواز ما قد ظهر إليه من السم، فدل ذلك على حمل الأمور على السلامة حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما أبيع فى سوق المسلمين هو محمول على السلامة حتى يتبين خلافها. وفى حديث المشرك المشعان جواز قبول هدايا المشركين، وقد تقدم كثير من معناه فى كتاب البيوع فى باب الشراء والبيع من المشركين وأهل الحرب، وفيه المواساة بالطعام عند المسغبة والشدة وتساوى الناس فى ذلك، وفى أكل أهل الجيش من الكبد على قلته علامة باهرة من علامات النبوة، وآية قاهرة من آيات النبى، عَلَيْهِ السَّلام.
- بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ تَعَالَى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ) [الممتحنة: 8] الآية. / 47 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ سيراء، فَقَالَ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ إِنَّمَا يَلبسُها مَنْ لا خِلاق لَهُ فِى الآخِرة، قَالَ: (إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا) ، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. / 48 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ

(7/135)


السَّلام، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قُلْتُ: إن أمِّى أتتنى وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّى؟ قَالَ: (صِلِى أُمَّكِ) . وروى الطبرى، عن ابن الزبير، أن قول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين) [الممتحنة: 8] ، نزلت فى أم أسماء بنت أبى بكر، وكان اسمها قتيلة بنت عبد العزيز. وقالت طائفة: نزلت فى مشركى مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم. وقال مجاهد: هو خطاب للمؤمنين الذين بقوا بمكة ولم يهاجروا. وقال السدى: كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافة، فاستشار المسلمون النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قراباتهم من المشركين أن يبروهم ويصلوهم، فأنزل الله هذه الآية. فى تفسير الحسن قال قتادة وابن زيد: ثم نسخ ذلك، ولا يجوز اليوم مهاداة المشركين ولا متاحفتهم إلا للأبوين خاصة؛ لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه، وإلطاف له، وتثبيت لمودته، وقد نهى الله عن التودد للمشركين بقوله: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون) [المجادلة: 22] الآية، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا) [الممتحنة: 1] الآية. وإنما بعث عمر بالحلة إلى أخيه المشرك بمكة على وجه التأليف له على الإسلام؛ لأنه كان طمع بإسلامه، وكان التألف على الإسلام حينئذ مباحًا، وقد تألف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صناديد قريش، وجعل الله للمؤلفة قلوبهم سهمًا فى الصدقات، وكذلك فعلت أسماء فى أمها؛

(7/136)


لأن الله قد أمر بصلة الآباء الكفار وبرهما بقوله: (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم) [لقمان: 15] الآية، فأمر تعالى بمصاحبة الأبوين المشركين فى الدنيا بالمعروف، وبترك طاعتهما فى معصية الله. وروى البخارى فى حديث أسماء: إن أمى أتتنى وهى راغبة، بالباء من الرغبة فى العطاء، ورواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبى شعيب، حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة: راغمة، بالميم. وفسره الخطابى، قال: راغمة، أى كارهة لإسلامى وهجرتى. وقال بعض أصحابه: معناه هاربة من قومها. واحتج بقوله تعالى: (ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة) [النساء: 100] ، وأنشد للجعدى يمدح رجلاً: كطود يلوذ بأكتافه عزيز المراغم والمهرب فلو كانت أرادت به المضى لقالت: مراغمة، لا راغمة، وكان أبو عمرو بن العلاء يتأول فى قوله تعالى: (مراغمًا كثيرًا) [النساء: 100] ، قال: الخروج من العدو برغم أنفه، وراغبة بالباء أظهر فى معنى الحديث.

(7/137)


- بَاب لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِى هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ
/ 49 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِى يَعُودُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِى قَيْئِهِ) . / 50 - وفيه: عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَبَاعَهُ الَّذِى هو عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يهب هبة ويرجع فيها على ظاهر حديث ابن عباس وعمر، روى ذلك عن طاوس والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد ابن حنبل، وأبى ثور. وفيها قول آخر، روى عن عمر بن الخطاب: أن من وهب لذى رحم فلا رجوع له، ومن وهب لغير ذى رحم، فله الرجوع إن لم يثب منها، وعن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أنه من وهب لذى رحم فله الرجوع إن لم يثب منها خلاف قول عمر. وقال الثورى والكوفيون: يرجع فيما وهبه لذى رحم غير محرم إذا كانت الهبة قائمة لم تستهلك، ولم تزد فى بدنها أو لم يثب منها مثل: ابن عمه، وابن خاله، وأما إن وهب لذى رحم محرم وقبضوا الهبة، فليس له الرجوع فى شىء منها وهم: ابنته، أو إخوته

(7/138)


لأمه، أو جده أبو أمه، أو خاله، أو عمه، أو ابن أخيه، أو ابن أخته، أو بنوهما. وتفسير الرحم المحرم هو من لو كان الموهوب له امرأة لم يحل للواهب نكاحها، وحكم الزوجين عندهم حكم ذى الرحم المحرم، ولا رجوع لواحد منهما فى هبته. وقال مالك: يجوز الرجوع فيما وهبه للثواب، وسواء وهبه لذى رحم محرم أو غير محرم، ولا يجوز له الرجوع فيما وهبه الله ولا لصلة رحم. قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الأولى بما روى شعبة وهشام، قالا: حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (العائد فى هبته كالعائد فى قيئه) ، قالوا: فبان بهذا الحديث أن المراد العائد فى قيئه الرجل لا الكلب، ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد جعل الرجوع فى الهبة، كالرجوع فى القىء، وكان رجوع الرجل فى قيئه حرامًا عليه، كان كذلك رجوعه فى هبته. وحجة الكوفيين قوله: (كالكلب يعود فى قيئه) ، فبان بهذا الحديث أن العائد فى قيئه هو الكلب، والكلب غير متعبد بتحليل ولا بتحريم، فيكون المعنى العائد فى هبته كالعائد فى قدر كالقدر الذى يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الواهب من الرجوع فى هبته، فدل هذا أنه عَلَيْهِ السَّلام أراد تنزيه أمته عن أمثال الكلاب؛ لأنه أبطل أن يكون لهم الرجوع فى هباتهم، ويصلح الاحتجاج بهذه الحجة لمالك.

(7/139)


قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الأولى بحديث طاوس، عن ابن عباس، وابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (لا يحل لواهب أن يرجع فى هبته إلا الوالد لولده) ، ولا دليل لهم فيه على تحريم الرجوع فى الهبة، فقد يجوز أن يكون النبى، عَلَيْهِ السَّلام، وصف ذلك الرجوع بأنه لا يحل؛ لتغليظه إياه لكراهته أن يكون أحد من أمته له مثل السوء. وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (لا تحل الصدقة على ذى مرة سوى) ، فلم يكن ذلك على معنى أنها تحرم عليه كما تحرم على الغنى، ولكنها لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوى الحاجة والزمانة، فكذلك قوله: (لا يحل للواهب أن يرجع فى هبته) ، إنما هو على أنه لا يحل له ذلك، كما تحل له الأشياء التى قد أحلها الله له. وقال الطبرى: قوله عَلَيْهِ السَّلام: (العائد فى هبته) ، معناه الخصوص، وذلك لو أن قائلاً قال: العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه، إلا أن يكون والدًا للموهوب له، أو تكون هبته لثواب يلتمسه، فإنه ليس له مثل السوء، لم يكن مختلاً فى كلامه، ولا مخطئًا فى منطقه. فإن قيل: فبين لنا من يجوز له الرجوع فى هبته ومن لا يجوز، ومن المعنى بالذم فى ذلك. قيل: من وهب طلب ثواب إما باشتراط ذلك أو بغير اشتراط بعد أن يكون الأغلب من أمر الواهب والموهوب له أن مثله يهب مثله طلب الثواب منه، فله الرجوع.

(7/140)


وأما الواهب لله يطلب الأجر كالواهب الغنى للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحم كالواهب يهب لأحد أبويه، أو أخيه، أو أخته، أو قريب له قريب القرابة يريد بذلك صلة رحمه، فلا رجوع له، فهذا المعنى بالذم بقوله: (كالكلب يعود فى قيئه) . وقد أشار المهلب إلى قريب من هذا المعنى، وقال: وعلى هذا التأويل لا تتعارض الأحاديث، فيكون معنى قوله فى حديث عمر: (العائد فى صدقته) ، مفسرًا لقوله فى حديث ابن عباس: (العائد فى هبته) ، أن الهبة التى تجرى مجرى الصدقة والصلة، لا يجوز الرجوع فيها، وإنما يرجع فيما خرج من هذا المعنى وأريد به الثواب، وقد تقدم فى كتاب الزكاة واختلاف أهل العلم فى شراء الرجل صدقته فى باب هل يشترى الرجل صدقته؟ . قال الطحاوى: وقد بين ما قلنا ما روى عن عمر بن الخطاب، روى مالك، عن داود ابن الحصين، عن أبى غطفان بن ظريف، عن مروان بن الحكم، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع بها، إن لم يرض منها، فهذا عمر بن الخطاب فرق بين الهبات والصدقات، فجعل الصدقات لله لا يرجع فيها، وجعل الهبات على ضربين، فضرب منها لصلة الأرحام، فرد ذلك إلى حكم الصدقات لله، ومنع الواهب من الرجوع فيها، وضرب منها جعل فيه الرجوع للواهب ما لم يرض منه.

(7/141)


30 - بَاب
/ 51 - فيه: [عبد الله بن عبد الله بن أبى مليكة] ، أَنَّ بَنِى صُهَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، فَدَعَاهُ، فَشَهِدَ لأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ. إنما ذكر هذا الحديث فى كتاب الهبة؛ لأن فيه هبة النبى (صلى الله عليه وسلم) البيتين والحجرة لصهيب. فإن قيل: كيف قضى مروان بشهادة ابن عمر وحده لبنى صهيب، وذلك خلاف السنة؟ قيل: إن مروان إنما حكم بشهادة ابن عمر مع يمين المطالب على ما جاء فى السنة من القضاء باليمين مع الشاهد، ولم يذكر ذلك فى الحديث.
31 - بَاب مَا قِيلَ فِى الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
/ 52 - فيه: جَابِر، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَضَى بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ) ، وَجَابِر مثله. قال أبو عبيد: تأويل العمرى أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك، أو يقول: هذه الدار لك عمرى، وأصله مأخوذ من العمر. اختلف العلماء فى العمرى، فقال مالك: إذا قال: أعمرتك دارى أو ضيعتى، فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته، فإذا مات رجعت الرقبة إلى المالك وهو المعمر، وإذا قال: قد أعمرتك

(7/142)


وعقبك، فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقى منهم إنسان، فإذا انقضوا رجعت الرقبة إلى المالك المعمر؛ لأنه وهب له المنفعة، ولم يهب له الرقبة. وروى مثله عن القاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط، وهو أحد قولى الشافعى. وقال الكوفيون والشافعى فى أحد قوليه وأحمد بن حنبل: العمرى تصير ملكًا للمعمر ولورثته، ولا تعود ملكًا إلى المعطى أبدًا. واحتجوا بما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن جابر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها أبدًا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وقالوا: إن مالكًا روى هذا الحديث وخالفه، قال: ليس عليه العمل ووددت أنه محى، واحتج أصحاب مالك بأن الإعمار عند العرب والإفقار والإسكان والمنحة والعارية والإعراء، إنما هو تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، وللإنسان أن ينقل منفعة الشىء الذى يملك إلى غيره مدة معلومة ومجهولة إذا كان ذلك على غير عوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شىء عن ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحته. وقد قال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا على شروطهم فيما أعطوا، والدليل على أن العمرى لا تقتضى نقل الملك عن الرقبة أنه لو قال: بعتك شهرًا أو تصدقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك

(7/143)


الرقبة لم يصح، كذلك إذا قال: أعمرتك؛ لأنه علقه بوقت مقيد، وهو عمره. وأما حديث أبى سلمة الذى احتجوا به، فهو حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والكوفى خالف هذا الحديث، ولم يقل بظاهره كما زعم؛ لأنه يقول: إن للمعمر بيع الشىء الذى أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قوله عَلَيْهِ السَّلام: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) ، يعنى التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة. وقد قال تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) [الأحزاب: 27] ، فلم يملكوها بالمواريث التى فرض الله، وإنما أخذوا منهم ما كان فى أيديهم، فكذلك العقب فى العمرى يأخذ ما كان لأبيه بعطية المالك. واختلفوا فى الرقبى، فأجازها أبو يوسف والشافعى كأنها وصية عندهم. وقال مالك، والكوفيون، ومحمد: لا تجوز، واحتجوا بما رواه حبيب بن أبى ثابت، عن ابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، نهى عن الرقبى، وقال: (من أرقب رقبى فهى له) ، والرقبى عند مالك: أن يقول للرجل: إن مت قبلك فدارى لك، وإن مت قبلى فدارك لى، فكأن كل واحد منهما يقصد إلى عوض لا يدرى هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه، وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذى أخرج عن يده.

(7/144)