شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
46 - كتاب العارية
- بَاب مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الْفَرَسَ
وَالدَّابَّةَ وَغَيْرَهما
/ 1 - فيه: أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ،
فَاسْتَعَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا
مِنْ أَبِى طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبُ،
فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ
شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . اختلف العلماء فى
عارية الحيوان والعقار وما لا يعاب عليه، فروى ابن القاسم،
عن مالك، أن من استعار حيوانًا أو غيره مما لا يعاب عليه
فتلف عنده، فهو مصدق فى تلفه، ولا يضمنه إلا بالتعدى، وهو
قول الكوفيين والأوزاعى. وقال عطاء: العارية مضمونة على كل
حال، كانت مما لا يعاب عليه أم لا، وسواء تعدى فيها أو لم
يتعد، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه
إسماعيل ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولانى، قال: سمعت
أبا أمامة الباهلى أنه سمع النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى
حجة الوداع يقول: (العارية مؤداة، والزعيم غارم) . وروى أن
ابن عباس وأبا هريرة ضمنا العارية. والحجة للقول الأول أن
معنى قوله: (العارية مؤداة) ، هو كمعنى قوله تعالى: (إن
الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58] ،
فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن عزمها، فكذلك العارية
إذا علم أنها
(7/145)
قد تلفت؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، ولا
هو متعد بالأخذ، فهى أمانة عند المستعير، فإذا تلفت بتعديه
عليها، لزمه قيمتها بجنايته عليها، بمنزلة ما لو تعدى
عليها وهى فى يد ربها، فعليه قيمتها، وروى عن على وابن
مسعود أنه ليس على مؤتمن ضمان. وممن كان لا يضمن المستعير
الحسن والنخعى، وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل
ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان، وكتب عمر بن عبد
العزيز فى العارية: لا يضمن صاحبها إلا أن يطلع منه على
خيانة.
- بَاب الاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ كَانَ عَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ
ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ
إِلَى جَارِيَتِى انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى
أَنْ تَلْبَسَهُ فِى الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِى
مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ
بِالْمَدِينَةِ إِلاَ أَرْسَلَتْ إِلَىَّ تَسْتَعِيرُهُ.
قال المهلب: عارية الثياب فى العرس من فعل المعروف والعمل
الجارى عندهم، وأنه مرغب فى أجره؛ لأن عائشة لم تمنع منه
أحدًا. وفيه أن المرأة قد تلبس فى بيتها ما خشن من الثياب،
وما لا يلبسه بعض الخدم، والقطر ثياب من غليظ القطن، وتقين
يعنى تزين. قال صاحب الأفعال: قان الشىء قيانة: أصلحه،
والقينة:
(7/146)
الأمة، ويقال: قن إياك عند الحداد، أى
أصلحه، ومنه قيل للحداد: قين. قال أبو عمرو: أصله من إقيان
البيت إقيانًا إذا حسن، ومنه قيل للمرأة: مقينة؛ لأنها
تزين. قال غيره: القينة الماشطة، والقينة المغنية، والقينة
الجارية، وكل صانع عند العرب قين. واختلف العلماء فى عارية
الثياب والعروض وما يعاب عليه، فقال ابن القاسم فى
المدونة: من استعار ما يعاب عليه من ثوب أو غيره فهلك
عنده، فهو له ضامن ولا يقبل قوله فى هلاكه إلا أن يكون
هلاكه ظاهرًا معروفًا، تقوم له به بينة من غير تفريط ولا
تضييع فلا يضمن. وقال أشهب: يضمن، وإن أقام بينة أنه هلك
بغير سببه، لحديث صفوان فى السلاح، وهو قول الشافعى قال:
كل عارية مضمونة ما يعاب عليه وما لا يعاب، وسواء تعدى فى
تلفه أم لا، وقد تقدم فى الباب قبل هذا من قال بهذا القول.
وقالت طائفة: إنها أمانة على كل وجه، ولا يضمن ما تلف إلا
بتعدى المستعير، ويقبل قوله فى تلفها، هذا قول الحسن
البصرى والنخعى، وبه قال الأوزاعى والثورى وأبو حنيفة
وأصحابه. وروى عن عمر وعلى وابن مسعود أنه لا ضمان فى
العارية، واحتج الشافعى وأحمد بحديث صفوان بن أمية، أن
النبى (صلى الله عليه وسلم) استعار منه أدراعًا يوم حنين،
فقال له: يا محمد، مضمونة؟ فقال: (مضمونة) ، فضاع بعضها،
فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن شئت غرمناها لك)
، فقال: لأنا أرغب فى الإسلام من ذلك يا رسول الله. رواه
(7/147)
ابن أبى مليكة، عن أمية بن صفوان بن أمية،
عن أبيه، وروى قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه،
وقال: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ فقال: بل مؤداة، وهذا
ينفى الضمان، وحديث صفوان قد اضطرب جدًا فلا حجة فيه.
وأيضًا: فلو وجب على النبى (صلى الله عليه وسلم) الضمان لم
يقل له: (إن شئت غرمناها لك) ، واحتجوا بحديث القصعة التى
أهدتها بعض أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) بطعام
فكسرتها عائشة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (غارت
أمكم، وغرم القصعة) . وقال ابن القصار: اختلفت الألفاظ فى
خبر صفوان، فاستعملنا ما ورد منها بالضمان فيما يعاب عليه
كما كان فى سلاح صفوان والقصعة، واستعملنا ما ورد بإسقاط
الضمان فيما لا يعاب عليه؛ لأنه يمكن كتمانه، فنكون قد
استعملنا كل خبر على فائدة غير فائدة صاحبه، ولا يمكن
المخالفين استعمالها إلا على معنى واحد فيما يعاب عليه من
العارية وما لا يعاب عليه، أما فى وجوب الضمان على قول
الشافعى، أو إسقاطه على قول أهل العراق، فاستعمالنا أولى
لكثرة الفوائد. قال المهلب: وإنما ألزمته ملك الضمان فيما
يعاب عليه؛ لئلا يدعى المستعير هلاك العارية فيتطرق بذلك
إلى أخذ مال غيره.
(7/148)
3 - بَاب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ: (نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ
الصَّفِىُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِىُّ تَغْدُو
بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ) . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ،
عَنْ مَالِكٍ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ. / 4 - فيه: أَنَس،
لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ،
وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىء، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ
أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ
عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ
عَامٍ، وَيَكْفُوهُمُ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ
أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ، كَانَتْ أُمَّ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، وَأَعْطَتْ أُمُّ
أَنَسٍ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عِذَاقًا،
فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ
أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ، أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،
فلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَانْصَرَفَ
إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى
الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمِ الَّتِى كَانُوا مَنَحُوهُمْ
مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ
حَائِطِهِ. وَقَالَ يُونُسَ مرة: (مِنْ خَالِصِهِ) . / 5 -
وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) : (أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ
مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ
بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ
مَوْعُودِهَا، إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ)
، قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ
الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،
وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَغيره، فَمَا
اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً. / 6
- وفيه: جَابِر، كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ
أَرَضِينَ، فَقَالُوا: نُؤَاجِرُهَا
(7/149)
بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ،
فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَتْ
لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ،
فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) . / 7 - وفيه: أَبُو
سَعِيدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:
(وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ
عندك مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتُعْطِى
صَدَقَتَهَا) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَهَلْ تَمْنَحُ
مِنْهَا شَيْئًا) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتَحْلُبُهَا
يَوْمَ وِرْدِهَا؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ
وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ
عَمَلِكَ شَيْئًا) . / 8 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ
تَهْتَزُّ بزَرْعها، فَقَالَ: (لِمَنْ هَذِهِ؟) فَقَالُوا:
اكْتَرَاهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَوْ
مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ
عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا) . المنيحة هى الناقة والشاة
ذات الدر تعار للبنها، ثم ترد إلى أهلها، والمنحة عند
العرب كالإفقار، والعمرى، والعارية، وهى تمليك المنافع لا
تمليك الرقاب، ألا ترى قوله فى حديث أنس: (فلما فتح الله
على رسوله (صلى الله عليه وسلم) غنائم خيبر رد المهاجرون
إلى الأنصار منائحهم وثمارهم. وقوله فى حديث جابر: (من
كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه) ، إنما يريد يهبه
الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر، يبين ذلك قوله فى حديث
ابن عباس: (أما إنه لو منحها إياه لكان خيرًا له من أن
يأخذ عليها أجرًا) . وقوله فى حديث أبى سعيد بعد أن سأل
النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحب الإبل إن كان
(7/150)
يؤدى صدقتها، قال: (فهل تمنح منها؟) ، فدل
أن المنحة غير إعطاء الرقاب؛ لأن إعطاء الرقاب قد تضمنته
الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التى حض النبى
(صلى الله عليه وسلم) أمته عليها من الأرض والثمار
والأنعام، هى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب. واللقحة
الناقة التى لها لبن يحلب، والجمع لقاح، والصفى الغزيرة
اللبن. قال المهلب: وقوله: (تغدو بإناء وتروح بإناء) ،
يعنى أنها تغدو بأجر حلبها فى الغدو والرواح، والسنة أن
ترد المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد النبى،
عَلَيْهِ السَّلام، إلى أم سليم عذاقها، وكما رد المهاجرون
للأنصار منائحهم حين أغناهم الله بخيبر، والمنحة والعارية
والإفقار وغير ذلك هو من باب المشاركة والصلة، لا من باب
الصدقة؛ لأنها لو كانت من باب الصدقة لما حلت للنبى (صلى
الله عليه وسلم) ، ولكانت عليه حرامًا، ولو كان فى أخذها
غضاضة لما قبلها، عَلَيْهِ السَّلام. وأما قوله عَلَيْهِ
السَّلام: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز) ، ولم يذكر
الأربعين خصلة فى الحديث، ومعلوم أنه كان عالمًا بها كلها
لا محالة، إلا لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك والله
أعلم خشية أن يكون التعيين لها والترغيب فيها زهدًا فى
غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه، عَلَيْهِ
السَّلام، من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا
يحصى كثرة، وليس قول
(7/151)
حسان بن عطية: فعددنا ما دون منيحة العنز
من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق فما
استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة، بمانع أن يجدها غيره، وقد
بلغنى عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها فى الأحاديث، فوجد
حسابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة، فمنها: أن رجلاً سأل
النبى (صلى الله عليه وسلم) عن عمل يدخله الجنة، فقال له
عَلَيْهِ السَّلام: لئن كنت قصرت الخطبة لقد أعرضت
المسألة، فذكر له عتاقات، ثم قال له: والمنحة الركوب
الغزيرة الدر، والفىء على ذى الرحم القاطع، فإن لم تطق ذلك
فاطعم الجائع، واسق الظمآن، فهذه ثلاث خصال أعلاهن المنحة،
وليس الفىء على ذى الرحم منها؛ لأنها أفضل من منيحة العنز،
وإنما شرط أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز. ومنها السلام
على من لقيت، وفى الحديث: (من قال: السلام عليك، كتبت له
عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله، كتبت له عشرون، ومن زاد:
وبركاته، كتبت له ثلاثون حسنة) ، وتشميت العاطس، وفى
الحديث: (ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك: إحداهن تشميت
العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق. . .) ، وفى الحديث: (أن
رجلاً أخر غصن شوك من الطريق، فشكر الله له فغفر له) .
وإعانة الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء صلة الحبل، وإعطاء
شسع النعل، وأن يؤنس الوحشان، وسأل رجل النبى (صلى الله
عليه وسلم) عن المعروف، فقال: (لا تحقرن منه شيئًا ولو شسع
النعل، ولو أن يعطى
(7/152)
الحبل، ولو أن يؤنس الوحشان) . وقال أبو
سليمان الخطابى: وقيل فى تأويل أنس الوحشان وجهان: أحدهما:
أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل. والوجه الآخر: أنه
أريد به المنقطع بأرض الفلاة، المستوحش بها تحمله فتبلغه
مكان الأنس، والأول أشبه. وكشف الكربة عن مسلم، قال
عَلَيْهِ السَّلام: (من كشف عن أخيه كربة، كشف الله عنه
كربة من كربات يوم القيامة) . وكون المرء فى حاجة أخيه،
قال عَلَيْهِ السَّلام: (الله فى عون العبد مادام العبد فى
عون أخيه) . وستر المسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (من ستر
مسلمًا ستره الله يوم القيامة) . والتفسح لأخيك فى المجلس،
قال تعالى: (فافسحوا يفسح الله لكم) [المجادلة: 11] ، وقال
عَلَيْهِ السَّلام: (ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك:
إحداهن أن توسع له فى المجلس) . وإدخال السرور على المسلم،
ونصر المظلوم، والأخذ على يدى الظالم، قال عَلَيْهِ
السَّلام: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) . والدلالة على
الخير، وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (الدال على الخير
كفاعله) . والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، قال الله
تعالى: (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو
معروف أو إصلاح بين الناس) [النساء: 114] الآية، وقول طيب
ترد به المسكين، قال الله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من
صدقة يتبعها أذى) [البقرة: 263] ، وقال تعالى: (وإذا حضر
القسمة أولو القربى واليتامى) [النساء: 8] الآية، وقال
عَلَيْهِ السَّلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد
فبكلمة طيبة) .
(7/153)
وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى، أمر به
عَلَيْهِ السَّلام الذى سأله عن المعروف، وغرس المسلم
وزرعه، قال عَلَيْهِ السَّلام: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو
يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له
صدقة) . والهدية إلى الجار، قال عَلَيْهِ السَّلام: (يا
نساء المؤمنات، لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شاة
محرقًا) . والشفاعة للمسلم، فإن الله تعالى يقول: (من يشفع
شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) [النساء: 85] ، وقال
عَلَيْهِ السَّلام: (اشفعوا تؤجروا) . ورحمة عزيز ذل، وغنى
افتقر، وعالم بين جهال، روى ذلك فى حديث عن النبى. وعيادة
المرضى، وفى الحديث: (عائد المريض على مخارف الجنة، وعائد
المريض يخوض فى الرحمة، فإذا جلس عنده استقرت به الرحمة) .
والرد على من يغتاب أخاك المسلم، وفى الحديث: (من حمى
مؤمنًا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكًا يوم القيامة
يحمى لحمه من النار) . ومصافحة المسلم، وفى الحديث: (لا
يصافح مسلم مسلمًا فتزول يده من يده حتى يغفر لهما) ، وفى
حديث آخر: (تصافحوا يذهب الغل) . والتحاب فى الله،
والتجالس فى الله، والتزاور فى الله، والتبادل فى الله،
قال الله تعالى: وجبت محبتى لأصحاب هذه الأعمال الصالحة،
وعون الرجل الرجل فى دابته يحمله عليها، أو يرفع عليها
متاعه صدقة، روى ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وذكر النصح لكل مسلم.
(7/154)
4 - بَاب إِذَا قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ
الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ
جَائِزٌ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ
قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ. / 9 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ
السَّلام: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا
هَاجَرَ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ
كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً) . وَقَالَ مرة:
(فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ) . لا أعلم خلافًا بين العلماء أنه
إذا قال له: أخدمتك هذه الجارية، أو هذا العبد أنه قد وهب
له خدمته لا رقبته، وأن الإخدام لا يقتضى تمليك الرقبة عند
العرب، كما أن الإسكان لا يقتضى تمليك رقبة الدار، وليس ما
استدل به البخارى من قوله: فأخدمها هاجر، بدليل على الهبة،
وإنما تصح الهبة فى الحديث من قوله: (فأعطوها هاجر) ،
فكانت عطية تامة. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: وهبت
خدمة عبدى لفلان، فقال ابن القاسم: يخدمه حياة العبد، فإن
مات فلان فلورثته خدمة العبد ما بقى العبد، إلا أن يستدل
من قوله أنه أراد حياة المخدم، ولا تكون هبة لرقبة العبد،
وقال أشهب: إذا قال: وهبت خدمة عبدى لفلان، فإنه يحمل على
أنه حياة فلان، ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته. وقول
ابن القاسم أصح من قول أشهب؛ لأنه لا يفهم من هبة الخدمة
هبة الرقبة، والأموال لا تستباح إلا بيقين.
(7/155)
ولم يختلف العلماء أنه إذا قال: كسوتك هذا
الثوب مدة يسميها فله شرطه، فإن لم يذكر أجلاً فهو هبة؛
لأن لفظ الكسوة يقتضى الهبة للثوب، لقوله تعالى: (فكفارته
إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم) [المائدة: 89] ، ولم تختلف
الأمة أن ذلك تمليك للطعام والثياب.
5 - بَاب إِذَا حَمَلَ رَجُلاً عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ
كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. / 10
- فيه: عُمَرُ، إنى حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَعُدْ
فِى صَدَقَتِكَ) . لا خلاف بين العلماء أن العمرى إذا
قبضها المعمر لا يجوز الرجوع فيها، وكذلك الصدقة لا يجوز
لأحد أن يرجع فى صدقته؛ لأنه أخرجها لله تعالى، فكذلك
الحمل على الخيل فى سبيل الله لا رجوع فيه؛ لأنه صدقة لله،
فما كان من الحمل على الخيل تمليكًا للمحمول عليه بقوله:
هو لك، فهو كالصدقة المبتولة إذا
(7/156)
بضت أنها ملك للمتصدق عليه، وما كان منه
تحبيسًا فى سبيل الله فهو كالأوقاف لا يجوز الرجوع فيه عند
جمهور العلماء. وخالف ذلك أبو حنيفة، وجعل الحبس باطلاً فى
كل شىء، ولهذا قال البخارى: وقال بعض الناس: له أن يرجع
فيها؛ لأنه عنده حبس باطل راجع إلى صاحبه. وفى حديث عمر
جواز تحبيس الخيل، وهو يرد قول أبى حنيفة، ولا يخلو الفرس
الذى حمل عليه عمر وأراد شراءه من أن يكون حبسه فى سبيل
الله، أو حمل عليه وجعله ملكًا للمحمول عليه، فإن كان
حبسًا فلا يجوز بيعه عند العلماء إلا أن يضيع أو يعجز عن
اللحاق بالخيل، فيجوز حينئذ بيعه ووضع ثمنه فى فرس عتيق إن
وجده، وإلا أعان به فى مثل ذلك، وإن كان عمر قد أمضى الفرس
للذى حمله عليه وملكه إياه، فهو ملك للمتصدق عليه كالصدقة
المبتولة، فجاز له التصرف فيه وبيعه من الذى حمله عليه،
كما يجوز له بيعه من غيره، وإنما أمره عَلَيْهِ السَّلام
بتركه تنزهًا لا إيجابًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب
إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع اختلاف العلماء
فيمن حمل على فرس فى سبيل الله، ولم يقل: هو حبس فى سبيل
الله،
(7/157)
فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الأوقاف
اختلافهم فى جواز تحبيس الحيوان فى باب وقف الدواب
والكراع، إن شاء الله.
(7/158)
|