شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
48 - كتاب الرضاع
- باب) وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِى أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء: 23] وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ
/ 1 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (أُرَاهُ فُلانًا) - لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ - قَالَتْ عَائِشَةُ: ولَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَىَّ؟ - فَقَالَ: (نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلادَةُ) . / 2 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قِيلَ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَلا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . / 3 - وفيه: أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، فَقَالَ: (أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى) ، قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَ: (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: (لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فِى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّهَا لابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ،

(7/192)


أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبِى لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أَنِّى سُقِيتُ فِى هَذِهِ بِعَتَاقَتِى ثُوَيْبَةَ. لا خلاف بين الأمة أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ لقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [النساء: 23] ، فإذا كانت الأم من الرضاع محرمة، كان كذلك زوجها، وصار أبًا لمن أرضعته زوجته؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التى أرضعت أبًا كان أخوه عمًا، وكانت أخت المرأة خالة، يحرم من الرضاع العمات، والخالات، والأعمام، والأخوال، والأخوات، وبناتهن، كما يحرم من النسب، هذا معنى قوله عليه السلام: (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) . قال ابن المنذر: إذا أرضعت امرأة الرجل جارية حرمت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جده، وعلى بنى بنيه وبنى بناته، وعلى كل ولد ذكر، وولد ولده، وعلى كل جد له من قبل أبيه وأمه، وإذا كان المرضع غلامًا حرم الله عليه ولد المرأة التى أرضعته، وأولاد الرجل الذين أرضع هذا الصبى بلبنه، وهو زوج المرضعة، ولا تحل له عمته من الرضاعة ولا خالته، ولا بنت أخيه ولا بنت أخته من الرضاعة.

(7/193)


وأما قوله عليه السلام فى ابنة حمزة: (إنها ابنة أخى من الرضاعة) ، فإن حمزة بن عبد المطلب عم النبى (صلى الله عليه وسلم) أرضعته ثويبة مولاة أبى لهب، ثم أرضعت بعده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم أرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد، هذا قول مصعب الزبيرى، قال: فكان أبو سلمة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحمزة بن عبد المطلب أخوة من الرضاعة. قال ابن إسحاق: وكان حمزة أسن من النبى (صلى الله عليه وسلم) بسنتين، وقيل: بأربع. وأما قول أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) : يا رسول الله، انكح أختى، فإنها لم تعلم أن الجمع بين الأختين حرام، فكذلك قال لها ولسائر نسائه: (لا تعرضن علىّ بناتكن ولا إخواتكن، فإن بناتكن ربائب لى) ، والربيبة حرام مثل الجمع بين الأختين، وأما قوله فى بنت أبى سلمة: (لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلت لى) ، من أجل أن أباها أبا سلمة أخو النبى، عليه السلام، من الرضاعة، فكانت بنته حرامًا عليه؛ لأنها ربيبة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأنها بنت أخيه من الرضاعة. قال ابن المنذر: ولا بأس أن يتزوج الرجل المرأة التى أرضعت ابنه، وكذلك يتزوج بنت المرأة التى هى رضيعة ابنه، ولأخى هذا الصبى المرضع أن يتزوج المرأة التى أرضعت أخاه، ويتزوج ابنتها التى هى رضيع أخيه، وما أراد من ولدها وولد ولدها، وإنما يحرم نكاحهن على المرضع، وهذا مذهب مالك، والكوفيين، والشافعى،

(7/194)


وأبى ثور. وذكر على بن المدينى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها: ثويبة، وكانت أرضعت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فرأى أبا لهب بعض أهله فى النوم فسأله، فقال: ما وجدت بعدكم راحة، غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة، فبان برواية معمر أنه سقط من رواية البخارى فى هذا الحديث: راحة، بعد قوله: لم ألق بعدكم؛ لأنه لا يتم الكلام على ما رواه البخارى، وكذلك سقط منه: وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، ولا يقوم معنى الحديث إلا بذلك، ولا أعلم ممن جاء الوهم فيه. وفى هذا الحديث من الفقه: أن الكافر بالله قد يعطى عوضًا من أعماله التى يكون مثلها قربة لأهل الإيمان بالله، وذلك أن أبا لهب أخبر أنه سقى فى النار بعتقه ثويبة فى النقرة التى تحت إبهامه، وكان ذلك تخفيفًا له من العذاب، كما جاء أنه يخفف عن أبى طالب العذاب ويجعل فى ضحضاح من نار يغلى منه دماغه، غير أن التخفيف عن أبى لهب أقل من التخفيف عن أبى طالب؛ لأن أبا لهب كان مؤذيًا للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يقع له التخفيف بعتق ثويبة إلا بمقدار ما تحمل النقرة التى تحت إبهامه من الماء، وخفف عن أبى طالب أكثر من ذلك لنصرته للنبى (صلى الله عليه وسلم) وحياطته له، فدل هذا كله أن التخفيف عنهما مع كفرهما بالله تعالى الذى ماتا عليه كان لأجل ما أوقعاه من القربة وفعل الخير فى حال شركهما، ودل هذا على عظيم تفضل الله على عباده الكافرين. وصح قول من تأول فى معنى الحديث الذى

(7/195)


جاء عن الله تعالى: (أن رحمته سبقت غضبه) ، أن رحمته لا تنقطع عن أهل النار المخلدين فيها، إذ فى قدرته تعالى أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب، وقد جاء فى حديث أبى سعيد الخدرى أن الكافر إذا أسلم يكتب له ثواب أعمال أهل الطاعة، وقد قال عليه السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب له كل حسنة عملها، ومحى عنه كل سيئة عملها) ، وقال عليه السلام لحكيم بن حزام: (اسلمت على ما سلف من خير) ، وقد تقدم حديث حكيم بن حزام فى كتاب الزكاة، فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم، وفى كتاب العتق فى باب من أعتق المشرك، وقد تقدم حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإيمان فى باب حسن إسلام المرء، ومر هناك من الكلام ما فيه كفاية.
- باب مَنْ قَالَ: لا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 233] وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
/ 4 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِى، فَقَالَ: (انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) .

(7/196)


اتفق أئمة الأمصار على أن رضاع الكبير لا يحرم، وشذ الليث وأهل الظاهر عن الجماعة، وقالوا: إنه يحرم، وذهبوا إلى قول عائشة فى رضاعة سالم مولى أبى حذيفة، وحجة الجماعة قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة: 233] ، فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، وهذا المعنى لا يقع برضاع الكبير، وقد روى هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام) . وأما خبر عائشة فى رضاعة سالم، فلا يخلو أن يكون منسوخًا أو خاصًا لسالم وحده، وقد قالت أم سلمة وسائر أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) : كان رضاع سالم خاصًا له؛ وذلك من أجل التبنى الذى انضاف إليه، ولا يوجد هذا فى غيره، وقد نسخ الله التبنى، فلا ينبغى أن يتعلق به حكم، وقوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233] ، وقوله عليه السلام: (الرضاعة من المجاعة) ، قاطع للخلاف فى هذه المسألة، وما جعله الله حدًا لتمام فلا مزيد لأحد عليه. قال المهلب: وقوله: (انظرن ما إخوانكن) ، أى ما سبب أخوته، فإن حرمة الرضاع إنما هى فى الصغير حين

(7/197)


تسد الرضاعة المجاعة، لا حين يكون الغذاء يغير الرضاع فى حال الكبر. واختلفوا فى مقدار مدة الرضاع، فقال جمهور العلماء: ما كان فى الحولين فهو يحرم، وما كان بعد الحولين فلا يحرم، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وعن الشعبى، وابن شبرمة، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو قول مالك فى الموطأ، وفيها قول ثان: روى الوليد ابن مسلم، عن مالك، أن ما كان بعد الحولين بشهر أو شهرين أو ثلاثة يحرم. وفيها قول ثالث حكى عن أبى حنيفة أن ما كان بعد الحولين بستة أشهر فإنه يحرم. وفيها قول رابع: قال زفر: مادام يجتزئ باللبن ولم يطعم، وإن أتى عليه ثلاث سنين فهو رضاع. والقول قول من قال بالحولين لشهادة كتاب الله وسنة رسوله. روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال: (لا رضاع إلا ما كان فى الحولين) ، ودليل آخر وهو قوله تعالى: (وفصاله فى عامين) [لقمان: 14] ، فعلم أن ما بعد الحولين بخلافهما. قال ابن المنذر: والذى يعتمد عليه فى ذلك قوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233] ، وليس لما بعد التمام حكم. واختلفوا فى مقدار الرضاع الذى تثبت به الحرمة، ولا تجوز الزيادة فيه. قال ابن المنذر: قالت طائفة: يحرم قليل ذلك وكثيره، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس،

(7/198)


وروى عن سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، ومكحول، وطاوس، والحكم، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والكوفيين. وقالت طائفة: لا تحرم الرضعة والرضعتان، وإنما تحرم ثلاث، روى ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان) . وقالت طائفة: لا يقع التحريم إلا بخمس رضعات مفترقات، روى ذلك عن عائشة، وهو قول الشافعى، وحكى عن إسحاق، واحتجوا بقول عائشة: كان فيما نزل فى القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهى فيما يقرأ من القرآن. وروى عن عائشة أيضًا أنه لا يحرم إلا سبع رضعات، وروى عنها أنها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات ليدخل عليها، وروى مثله عن حفصة أم المؤمنين. وحجة القول الأول قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) [النساء: 23] ، ولم يخص قليل الرضاع من كثيره، وقد قال العلماء: إن أحاديث عائشة فى الرضاع اضطربت، فوجب تركها والرجوع إلى كتاب الله. قال الطحاوى: وكيف يجوز أن تأمر عائشة بعشر رضعات وهى منسوخة، وتركنا ونأخذ بالخمس الناسخة لها، وحديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبى،

(7/199)


عليه السلام، ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأينا الذى يحرم لا عدد فيه، ويحرم قليله وكثيره، ألا ترى لو أن رجلاً جامع امرأة بنكاح أو ملك مرة واحدة أن ذلك يوجب حرمتها على أبيه وعلى ابنه، ويوجب حرمة أمها وابنتها عليه، فكذلك الرضاع لما كان كثيره يحرم كان قليله فى القياس أيضًا كذلك.
3 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا - وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِى أَنْ آذَنَ لَهُ. اختلف العلماء فى التحريم بلبن الفحل، فذهبت طائفة إلى أنه يحرم، روى ذلك عن على، وابن عباس، وهو قول عطاء، وطاوس، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهبت طائفة إلى أن لبن الفحل لا يحرم، قالوا: وإنما يقع التحريم من ناحية المرأة لا من ناحية الرجل، روى هذا عن عائشة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، وابن المسيب، والقاسم، وأبى سلمة، وهو مذهب أهل الظاهر، واحتجوا بأن عائشة كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وحجة الذين رأوا به التحريم حديث أفلح أخى أبى القعيس؛ لأن عائشة كانت رضعت

(7/200)


من امرأة أبى القعيس بلبنه، فصار أبو القعيس أبًا لعائشة، وصار أخوه عمًا لعائشة، فأشكل هذا على عائشة إذ لا رضاعة حقيقة إلا من امرأة؛ لقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [النساء: 23] ، فلم تر للرجل حكمًا للرضاع، فقالت: يا رسول الله، إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل، فأخبرها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن لبن الفحل يحرم بقوله: (إنه عمك فأذنى له) . قال ابن المنذر: والسنة مستغنى بها عما سواها، ومن جهة النظر أن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد لهما وإن اختلف سببهما، كما أن الجد لما كان سببًا فى الولد تعلق تحريم ولد الولد به كتعلقه بولده، كذلك حكم الرجل والمرأة، وقد سُئل ابن عباس عن رجل له امرأتان، فأرضعت إحداهما غلامًا والأخرى جارية، فقال: لا يجوز للغلام أن يتزوج الجارية؛ لأن اللقاح واحد، أى الأمهات وإن افترقن فإن الأب واحد الذى هو سبب اللبن للمرأتين، فالغلام والجارية أخوان لأب من الرضاع.
4 - باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
/ 6 - فيه: عُقْبَةَ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: لِى إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِىَ كَاذِبَةٌ،

(7/201)


فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فقُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: (كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف مع شهادتها، روى ذلك عن ابن عباس، وطاوس، وهو قول الزهرى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بقوله عليه السلام: (كيف وقد قيل) ، ونهيه عنها، وذكر عن الأوزاعى أنه إنما أجاز شهادة امرأة واحدة فى ذلك إذا شهدت قبل أن يتزوجها، وأما بعد أن يتزوجها فلا يجيز شهادتها. وقالت طائفة: لا يقبل فى ذلك إلا رجلان أو رجل وامرأتان، روى ذلك عن عمر ابن الخطاب، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: تقبل فى ذلك شهادة امرأتين دون رجل، وبه قال الحكم، قال مالك: إذا كان ذلك قد فشا وعرف من قولهما، هذه رواية ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب أنه تقبل شهادة امرأتين، وإن لم يفش ذلك من قولهما. وقالت طائفة: لا يقبل فى ذلك أقل من أربع نسوة، روى ذلك عن عطاء، والشعبى، وهو قول الشافعى، قال: ولو شهد فى ذلك رجلان أو رجل وامرأتان لجاز، وتأول أهل هذه المقالات غير أهل المقالة الأولى أن قوله عليه السلام: (كيف وقد قيل) ، إنما هو على وجه التنزه والتورع، لا على الإيجاب، وروى ابن مهدى، و

(7/202)


حفص بن غياث، عن حذلم العبسى، عن رجل من بنى عبس، قال: سألت عليًّا وابن عباس عن رجل تزوج امرأة، فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما، فقالا: إن يتنزه عنها فهو خير، وأما أن يحرمها عليه أحد فلا. وقال زيد بن أسلم: إن عمر بن الخطاب لم يجز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخبر عن رضاع امرأة فتبسم، وقال: (كيف وقد قيل) .
5 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ
وَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) [النساء: 23] الآية، وقَوْله تَعَالَى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 24] الآية. وَقَالَ أَنَسٌ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ (: ذَوَاتُ الأزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ) إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (: لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ أمته مِنْ عَبْدِهِ. وَقَالَ: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة: 221] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ. / 7 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ، ثُمَّ قَرَأَ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (الآيَةَ. وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ بَيْنَ ابْنَتَىْ عَمٍّ فِى لَيْلَةٍ. وَجَمَعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِىٍّ وَامْرَأَةِ عَلِىٍّ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ بِهِ.

(7/203)


وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) [النساء: 24] . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى نَصْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ، وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ سَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِىِّ، عَنِ الشَّعْبِىِّ وأَبِى جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِىِّ: إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ، وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَجَابِرِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأرْضِ، يَعْنِى تُجَامِعَ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِىُّ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: قَالَ عَلِىٌّ: لا تَحْرُمُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ. قال المؤلف: الرواية ثابتة عن ابن عباس أن السبع المحرمات بالنسب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والسبع المحرمات بالصهر والرضاع الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين، والسابعة: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء: 22] . قال الطحاوى: وقوله: (حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء: 23] ، المراد به الوالدات ومن فوقهن من الجدات من قبل الأمهات ومن قبل الآباء، وقوله: (وبناتكم) [النساء: 23] المراد البنات للأصلاب ومن أسفل منهن من

(7/204)


بنات الأبناء، ومن بنات البنات وإن سفلن، وقوله: (وأخواتكم) [النساء: 23] ، المراد بذلك الأخوات من الآباء والأمهات، ومن الآباء ومن الأمهات، وقوله: (وعماتكم) [النساء: 23] ، المراد به العمات أخوات الآباء من الآباء والأمهات ومن الآباء ومن الأمهات، وكذلك أخوات الأجداد من كل واحدة من الجهات الثلاث وإن علون،) وخالاتكم) [النساء: 23] ، المراد بذلك أخوات الأمهات الوالدات لآبائهن وأمهاتهن، ولآبائهن ولأمهاتهن أخوات الجدات كأخوات الأمهات فى الحرمات؛ لأنه إذا كان لهن حكم الأمهات كان أيضًا لأخواتهن حكم أخوات الأمهات.) وبنات الأخ) [النساء: 23] ، المراد بذلك بنات الأخ من الأب والأم ومن الأب ومن الأم، ومن الأم وبنات بنيهم، وبنات بناتهن وإن سفلن،) وبنات الأخت) [النساء: 23] ، كذلك أيضًا من أى جهة كن وأولادهن وأولاد أولادهن وإن سفلن. وقوله يعنى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) [النساء: 23] ، فكان هذا على الأم المرضعة وعلى من فوقها من أمهاتها وإن بعدن، وقام ذلك مقام الأم الوالدة ومقام أمهاتها، وكذلك حكم الأخوات من الرضاعة حكم اللواتى من النسب، وتحرم زوجة الرجل على أبيه وعلى ابنه دخل بها أو لم يدخل، وعلى أجداده وعلى ولد ولده الذكور والإناث، ولا تحل لبنى بنيه ولا لبنى بناته ما تناسلوا؛ لقوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) [النساء: 23] ، ولقوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء: 22] ، ولم يذكر تعالى دخولاً، فصارتا محرمتين بالعقد، والملك والرضاع فى ذلك بمنزلة النسب، والمراد بقوله: (ما نكح آباؤكم (، آباء الآباء، وآباء الأمهات ومن فوقهم من

(7/205)


الأجداد، وكل هذا من المحكم المتفق على تأويله، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتى لم يدخل بهن أزواجهن، فإن بعض السلف اختلفوا إذا بانت الابنة قبل الدخول بها هل تحرم أمها أم لا، فذهب جمهور السلف إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وبهذا قال جميع أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى، وتأولوا القرآن على غير تأويله، فقالوا: المعنى وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن، وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعًا، روى هذا القول خلاس، عن على بن أبى طالب، ورواية عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير، ومجاهد لم يختلف عنهما. وهذا قول لم يقل به أحد من أئمة الفتوى، وحديث خلاس عن على لا تقوم به حجة؛ لأنه لا يصحح روايته أهل العلم بالحديث، والصحيح عن ابن عباس مثل قول الجماعة، روى سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس فى قوله: (وأمهات نسائكم) [النساء: 23] ، قال: هى مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة، وكذلك روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: سُئل زيد بن ثابت عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها، هل تحل له أمها؟ فقال زيد بن ثابت: لا، الأم مبهمة وإنما الشرط فى الربائب، وهذا الصحيح عن زيد ابن ثابت.

(7/206)


قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح، لدخول جميع أمهات النساء فى قوله: (وأمهات نسائكم) [النساء: 23] ، وحجة أهل هذه المقالة أن الاستثناء راجع إلى الربائب؛ لأنهن أقرب مذكور، ولا يرجع إلى أمهات النساء، والدليل على ذلك من طريق العربية من وجهين: أحدهما: أن العرب تحمل الوصف على أقرب الموصوفين دون أن تحمله على أبعدهما أو أن تشرك بينهما فيه، فتقول: هذا جحر ضب خرب وهو لحن؛ لأن الضب ليس بالخرب، وإنما هو الجحر قصد إلى جرى الكلام على طريقة واحدة. والثانى: أن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدًا، لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات على أن تكون الظريفات نعتًا لنسائك ونساء زيد. واختلف أهل التأويل فى قوله: (والمحصنات من النساء) [النساء: 24] ، فقالت طائفة: المحصنات فى هذه الآية كل أمة ذات زوج من المسلمين والمشركين حرام على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحل له ويبطل بيع سيدها إياها النكاح بينها وبين زوجها، روى هذا القول عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وجابر، وأنس، وقالوا: بيع الأمة طلاق لها، وهو قول النخعى، وابن المسيب، والحسن. وقالت طائفة: المحصنات فى هذه الآية ذوات الأزواج المستثنيات منهن بملك اليمين هن السبايا اللواتى فرق بينهن وبين

(7/207)


أزواجهن السبى، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها لها، روى هذا عن ابن عباس، قال: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت، وهو قول زيد بن أسلم ومكحول. وقالوا: إن هذه الآية نزلت فى سبى أوطاس، وقالوا: ليس بيع الأمة طلاقها، وإن الآية نزلت فى السبايا خاصة، وبهذا قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث بريرة، قالوا: ولو كان بيع الأمة طلاقها ما خيرت. قال الطحاوى: والقياس يوجب فساد قول من جعل بيع الأمة طلاقها؛ لأنه لا فعل للزوج فى ذلك ولا سبب له، والطلاق لا يقع إلا من الأزواج. وقال آخرون: بل المحصنات فى الآية وإن كن ذوات الأزواج، فإنه تدخل فى ذلك محصنة عفيفة ذات زوج وغير ذات زوج، مسلمة أو كتابية فى أن الله حرم الزنا بهن وأباحهن بالنكاح أو الملك، روى هذا عن على، وابن عباس، ومجاهد، وهو معنى قول ابن المسيب، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا، ومعنى الآية عندهم) إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء: 24] ، يعنى تملكون عصمتهن بالنكاح، وتملكون الرقبة بالشراء. وأما قوله: وجمع عبد الله بن جعفر بين بنت على وامرأة على، فإنما فعل ذلك؛ لأن الابنة كانت من غير تلك المرأة، وهذا جائز عند مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق،

(7/208)


وأبى ثور؛ لأنه إنما حرم على الرجل أن يتزوج المرأة وابنتها، وليس بحرام عليه أن يتزوج المرأة وربيبتها، لا فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل هما داخلتان فى جملة قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، وفى قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) [النساء: 3] . وقال ابن أبى ليلى: لا يجوز هذا النكاح، وكرهه الحسن وعكرمة. قال ابن المنذر: وقد ثبت رجوع الحسن عنه، وحجة الذين كرهوه ولم يجيزوه ما أصله العلماء فى معنى الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. قال الشعبى: انظر فكل امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً لم يجز له نكاح الأخرى، فلا يجوز الجمع بينهما، قيل له: عمن؟ قال: عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) . وقال الثورى: تفسير هذا أن يكون من النسب وليس بين امرأة الرجل وابنته من غيرها نسب يجمعهما، فلذلك يجوز الجمع بينهما، وعلى هذا التفسير جماعة الفقهاء، وكذلك أجاز أكثر العلماء أن تنكح المرأة وتنكح ابنة ابنتها من غيره، وكره ذلك طاوس ومجاهد. وأما الجمع بين ابنتى العم، فكرهه مالك، وليس بحرام عنده، وهو قول عطاء، وجابر ابن زيد، قالا: إنما كره ذلك للقطيعة وفساد ما بينهما، ورخص فيه أكثر العلماء. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا أبطل هذا النكاح وهما داخلتان فى جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك معنى الجمع بين ابنتى عم وعمة، أو بين ابنتى خال وخالة.

(7/209)


وقول ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته، فهو قول أكثر العلماء، وإنما حرم الله الجمع بين الأختين بالنكاح خاصة لا بالزنا، ألا ترى أنه يجوز نكاح واحدة بعد أخرى من الأختين ولا يجوز ذلك فى المرأة وابنتها. واختلفوا إذا زنى بالأم، هل تحرم عليه الابنة أو إذا زنى بالابنة هل تحرم عليه الأم؟ فقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق: إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وهذه رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة، وقالوا: الحرام يحرم الحلال. وقالت طائفة: لا يحرم الحرام الحلال، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعروة، وربيعة، والليث، وهو قول مالك فى الموطأ، وبه قال الشافعى، وأبو ثور، وحجة هذا القول أنه لما ارتفع الصداق فى الزنا ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز، ورخص أكثر العلماء فى تزويج المرأة التى زنى بها، وشبه ابن عباس ذلك برجل يسرق ثمر النخلة فيأكلها ثم يشتريها، وكره ذلك ابن مسعود، وعائشة، والبراء، وقالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا. وأما تحريم النكاح باللواط، فإن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وغيرهم لا يحرمون النكاح باللواط، وقال الثورى: إذا لعب بالصبى حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال: إذا تلوط بابن امرأته، أو أبيها، أو أخيها، حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعى: إذا لاط غلام بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر

(7/210)


أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل هو به، وهو قول أحمد بن حنبل.
6 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى) وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِى فِى حُجُورِكُمْ) [النساء: 23]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ. وَمَنْ قَالَ: بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِى التَّحْرِيمِ، لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لأمِّ حَبِيبَةَ: لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ، وَكَذَلِكَ حَلائِلُ وَلَدِ الأبْنَاءِ هُنَّ حَلائِلُ الأبْنَاءِ، وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِى حَجْرِهِ، وَدَفَعَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، وَسَمَّى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا. / 8 - فيه: أُمِّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِى بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ؟ قَالَ: (فَأَفْعَلُ مَاذَا) ؟ قُلْتُ: تَنْكِحُ، قَالَ: (أَتُحِبِّينَ) ؟ قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ: (إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِى) ، قُلْتُ: بَلَغَنِى أَنَّكَ تَخْطُبُ، قَالَ: (ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . اختلف العلماء فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به تحريم نكاح الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاوس، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء، واتفق الفقهاء أنه إذا لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، ثم اختلفوا فى النظر، فقال

(7/211)


مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شىء من محاسنها بلذة، حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس بشهوة. وقال ابن أبى ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعى، وقد روى التحريم بالنظر عن مسروق، والتحريم باللمس عن النخعى، والقاسم، ومجاهد، وأجمع الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة فى حجره. وشذ أهل الظاهر عن جماعة الفقهاء، وقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجره، واحتجوا بقوله تعالى: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) [النساء: 23] الآية، قالوا: تحريم الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون فى حجره، والآخر: أن تكون أمها قد دخل بها، فإذا عدم أحد الشرطين، لم يوجد التحريم، قالوا: لأن الزوج إنما جعل محرمًا لها من أجل ما يلحق من المشقة فى استتارها عنه، وهذا المعنى لا يوجد إلا إذا كانت فى حجره. واحتجوا بقوله عليه السلام: (لو لم تكن ربيبتى فى حجرى) ، فشرط الحجر، ورووا عن على بن أبى طالب إجازة ذلك. وقال ابن المنذر والطحاوى: فأما الحديث عن على، فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم، عن عبيد، عن مالك بن أوس، عن على، وإبراهيم هذا لا يعرف.

(7/212)


وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف، واحتجوا فى دفعه بقوله عليه السلام: (فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن) ، فدل ذلك على انتفائه. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: (لا تعرضن على بناتكن) فعمهن، ولم يقل: اللاتى فى حجرى، ولكنه سوى بينهن فى التحريم. قال المهلب: وإضافته عليه السلام إياهن إلى الحجور، إنما هو على الأغلب مما تكون عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك، وقوله تعالى لنبيه: (يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن) [الأحزاب: 50] ، وإنما أحلهن له بعقد نكاحهن عليه لا بإتيانه إياهن أجورهن؛ لأنه معقول فيهن أنه لو طلقهن بعد عقدة نكاحهن ولم يؤتهن أجورهن أن الطلاق واقع عليهن، كما قال: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، فأثبت الله نكاحهن، وإن كن لم يؤتهن أجورهن، فعلمنا بذلك أن أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما حللن له بعقد النكاح وإتيان الأجور وعقلنا بذلك أن قوله تعالى: (اللاتى آتيت أجورهن) [الأحزاب: 50] ، إنما هو على وصف الأغلب مما تكون عليه الزوجات. وكذلك قوله تعالى: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) [النساء: 23] ، إنما هو على التحريم بالسبب الذى كن به ربائب، ووصفهن بالإضافة إلى الحجور؛ لأنه الأغلب مما تكون عليه الربائب مع أزواج أمهاتهن. قال: والقياس يوجب هذا؛ لأنه لا يكون التحريم بشيئين إلا ولكل واحد منهما إذا انفرد حكم، فلذلك جعلنا التحريم فى الربائب بالسبب الذى صرن به ربائب لا بما سواه.

(7/213)


قال ابن القصار: وحجة الجماعة أنه لا تأثير للحجر فى التحريم ولا فى الإباحة، بدليل أن الأخت والعمة والخالة لما حرمن عليه لم يفترق الحكم بين أن يكونوا فى حجره أم لا، ولو كان الحجر شرطًا فى التحريم لوجب إذا ارتفع أن يرتفع التحريم، فلما رأينا التحريم قائمًا، وقد زال الحجر بموت أمها أو طلاقها، علمنا أن لا اعتبار بالحجر، ألا ترى أن بنت أم سلمة لم تكن فى حجره، عليه السلام، ولا ربيت فيه قبل نكاحه بأم سلمة. ويشهد لهذا أنه لو وطئ الأم بملك اليمين لحرمت عليه البنت، سواء كانت فى حجره أم لا، وكل امرأة حرمت عليك فابنتها حرام عليك إلا أربعًا بنت العمة، وبنت الخالة، وبنت حليلة الابن، وبنت حليلة الأب.
7 - باب) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) [النساء: 23]
/ 9 - فيه: أُمَّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَ: (وَتُحِبِّينَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . وأجمع العلماء على أنه لا يجوز جمع نكاح الأختين فى عقد واحد؛ لقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] ، وأن ذلك جمع بينهما، وأن ذلك حرام متفق على مراد الله تعالى فى الآية، ولقوله عليه السلام: (لا تعرضن على أخواتكن) ، فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فذهب

(7/214)


كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك فى الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما، فإن الوطء فى الإماء نظير عقد النكاح فى الحرائر، وشذ أهل الظاهر، فقالوا: يجوز الجمع بينهما فى الوطء كما يجوز الجمع بينهما فى الملك، وقالوا: إن قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] عائد إلى المنكوحات؛ لأنه قدم ذكر المحرمات بالنكاح، ثم عطف عليهن بذكر الأختين، واحتجوا بما روى عن عثمان بن عفان أنه قال فى الأختين من ملك اليمين: حرمتهما آية، وأحلتهما آية. وذكر الطحاوى، عن على، رضى الله عنه، وابن عباس مثل قول عثمان، والآية التى أحلتهما قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل، وممن قال ذلك من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وابن عمر، وعائشة، وابن الزبير، وقال على: لو كان الأمر إلىّ ورأيت أحدًا يفعله جعلته نكالاً، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله والمعرفة بكلام العرب، فمن خالفهم متعسف فى التأويل متبع غير سبيل المؤمنين. وأما قولهم: إن قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] عائد إلى المنكوحات، فإنه لا يمتنع أن يكون أول الآية خاصًا وآخرها عامًا، ألا ترى أن فى أول الآيات تحريم الأمهات

(7/215)


والبنات اللواتى لا يستقر الملك عليهن بالشراء، وبعد ذلك فيهما ذكر العمات والخلات اللواتى يستقر الملك عليهن، فكذلك الجمع بين الأختين فى النكاح والوطء بالملك. وقال الطحاوى: لما اختلفوا فى ذلك نظرنا كيف هو، فرأينا الله قد حرم فى هذه الآية الأمهات والبنات إلى قوله: (وحلائل أبنائكم) [النساء: 23] ، فكأن هؤلاء جميعًا محرمات فى ملك اليمين كما هن محرمات فى النكاح، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فالقياس على ذلك أن تكونا محرمتين فى ملك اليمين، وأن يكون حكمهما كحكمهما فى النكاح، وهذا هو القياس.
8 - باب (لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
/ 10 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. وزاد الزهرى: فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ؛ لأنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِى عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. أجمع العلماء أنه لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها وإن علت، ولا بين المرأة وخالتها وإن علت. وقال عبد الملك بن حبيب: ولا يجمع بين المرأة وعمة عمتها وعمة أبيها وخالة أبيها، وكذلك المرأة وخالتها وخالة خالتها وخالة أمها وعمة أمها. قال عبد الملك: وأما خالة عمتها، فإن ابن الماجشون

(7/216)


قال لى: إن تكن أم العمة وأم الأب واحدة فهى كالخالة، فإنها خالة أبيها، وإن تكن أمها غير أم الأب، فلا بأس بالجمع بينهما إنما هى امرأة أجنبية، ألا ترى أن أباها ينكحها. قال غيره: إنما ينكح خالة العمة أخو العمة؛ لأنها أخت خالته لأب، والخئولة إنما تحرم من قبل الأم، فإذا كانت من قبل الأب فلا حرمة لها كرجل له أخ لأب، وله أخت لأم، فيجوز أن يتزوج كل واحد منهما بالآخر؛ لأنهما لا يجتمعان لا إلى الأب ولا إلى الأم. قال ابن الماجشون: وأما عمة خالتها، فإن تلك خالتها أخت أمها لأبيها، فإن عمة خالتها عمة أمها، فلا يجتمعان، ألا ترى أنه لو كان فى موضعها رجل لم تحل له، وإن كانت خالتها أخت أمها لأمها دون أبيها فلا بأس أن يجمع بينها وبين عمة خالتها لأبيها؛ لأنها منهما أجنبية لو كانت إحداهما رجلاً حلت له الأخرى. قال ابن المنذر: ولست أعلم فى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها خلافًا إلا فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الشىء بالسنة، وأجمع أهل العلم عليه لم يضر خلاف من خالفه. وأما قول الزهرى: فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثنى عن عائشة، قالت: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب، فلا حاجة إلى تشبيهها بما حرم بالرضاع، فهو استدلال غير صحيح من

(7/217)


الزهرى؛ لأنه استدل على تحريم من حرمت بالنسب بتحريم من حرمت بالرضاع. قال ابن المنذر: ويدخل فى معنى هذا الحديث تحريم نكاح الرجل المرأة على عمتها من الرضاعة وخالتها من الرضاعة؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
9 - باب الشِّغَارِ
/ 12 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنِ الشِّغَارِ. وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. وتفسير الشغار فى اللغة، قال أبو زيد: شغر الكلب يشغر شغرًا، رفع رجله، بال أو لم يبل. وقال صاحب العين: شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول. وقال أبو زيد: شغرت بالمرأة شغورًا، رفعت رجلها عند الجماع. ومعناه فى الشريعة أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته لا صداق بينهما، وإنما هو البضع بالبضع. وقال ابن قتيبة: وكل واحد منهما يشغر إذا نكح، وأصل الشغار للكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول، فكنى بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علمًا. واختلف العلماء فيه: إذا وقع، فقال مالك والشافعى: لا يصح نكاح الشغار دخل بها أو لم يدخل ويفسخ أبدًا، وهو قول أبى عبيد.

(7/218)


وقالت طائفة: النكاح جائز، ولكل واحدة منهما صداق مثلها، هذا قول عطاء، ومكحول، والزهرى، وإليه ذهب الليث، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. قال ابن المنذر: وفيها قول ثالث، وهو إن لم يدخل بالمرأتين فسخ النكاح، وإن دخل بهما فلهما مهر مثلهما، وهو قول الأوزاعى. وحجة الذين قالوا: العقد فى الشغار صحيح والمهر فاسد ويصح بمهر المثل، إجماع العلماء على أن الخمر والخنزير لا يكون منهما مهر لمسلم، وكذلك الغرر والمجهول، وسائر ما نهى عن ملكه أو تملك على غير وجهه وسنته. وأجمعوا مع ذلك أن النكاح على المهر الفاسد إذا فات بالدخول، فلا يفسخ بفساد صداقه، ويكون فيه مهر المثل ولو لم يكن نكاحًا منعقدًا حلالاً ما صار نكاحًا بالدخول، والأصل فى ذلك أن التزويج مضمن بنفسه لا بالعوض فيه بدليل تجويز الله تعالى النكاح بغير صداق بقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، فلما أوقع الطلاق دل على صحة النكاح دون تسمية صداق؛ لأن الطلاق غير واقع إلا على الزوجات، وكونهن زوجات دليل على صحة النكاح بغير تسمية. وحجة الذين أبطلوا النكاح ظاهر نهى النبى، عليه السلام، عن نكاح الشغار، والنهى يقتضى تحريم المنهى عنه وفساده. قال ابن المنذر: ودل نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الشغار على إغفال من زعم أنه

(7/219)


يجعل ما أباحه الله فى كتابه من عقد النكاح على غير صداق معلوم قياسًا على ما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) من الشغار ولا يشبه ما نهى الله عنه بما أباحه وهذه غفلة. واختلفوا فى إذا قال: أزوجك أختى على أن تزوجنى أختك على أن يسميا لكل واحدة منهما مهرًا، أو يسمياه لإحداهما، فقالت طائفة: ليس هذا بالشغار المنهى عنه والنكاح ثابت والمهر فاسد، ولكل واحدة منهما مهمر مثلها ما إن دخل بها أو ماتت أو مات عنها، أو نصفه إن طلقها قبل الدخول بها، هذا قول الشافعى، وابن القاسم، وكرهه مالك، ورآه من باب الشغار، وأجازه الكوفيون، ولها ما يسمى لها. وقال أحمد ابن حنبل: إذا كان فى الشغار صداق فليس بشغار.
- باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأحَدٍ؟
/ 13 - فيه: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَنها كانت مِنَ اللائِى وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِى الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟ فَلَمَّا نَزَلَتْ: (تُرْجِىُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) [الأحزاب: 51] فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلا يُسَارِعُ فِى هَوَاكَ. قال ابن القاسم، عن مالك: الموهوبة خاصة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يحل لأحد بعده أن يتزوج بغير صداق؛ لقوله تعالى: (خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50] ، ولا خلاف فى هذا بين العلماء.

(7/220)


واختلفوا فى عقد النكاح، هل يصح بلفظ الهبة مثل أن يقول الرجل: قد وهبت لك ابنتى أو وليتى، ويسمى صداقًا أو لم يسم، وهو يريد بذلك النكاح، فقال ابن القاسم: هو عندى جائز كالبيع عند مالك؛ لأن من قال: أهب لك هذه السلعة على أن تعطينى كذا وكذا، فهو بيع. وقال ابن المواز: لم يختلف مالك وأصحابه إذا تزوج على الهبة أنه يفسخ قبل البناء، واختلفوا إذا دخل بها، فقال ابن القاسم وعبد الملك: لا يفسخ ولها صداق المثل، وبهذا قال أبو حنيفة، والثورى. وقال أشهب، وابن عبد الحكم، وابن وهب، وأصبغ: أنه يفسخ وإن دخل. قال أصبغ: لأن فساده فى البضع، وبهذا قال الشافعى، قال: لا يصح النكاح بلفظ الهبة ولا ينعقد عنده إلا بأحد لفظين إما: قد أنكحتك أو زوجتك، وهو قول المغيرة، وابن دينار، وأبى ثور. وحجة من قال: لا يصح بلفظ الهبة، أن الله تعالى جعل انعقاد النكاح بلفظ الهبة خاصًا للنبى، عليه السلام، فلو انعقد نكاح به لم يقع الخصوص، ولما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ نكاح، كذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، وأيضًا فإن الهبة لا تتضمن العوض فوجب ألا ينعقد به النكاح كالإحلال والإباحة. قال ابن القصار: واحتج أهل المقالة الأولى بأن التى وهبت نفسها للنبى، عليه السلام، إنما قصدت بلفظ الهبة التزويج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يقل عليه السلام أن النكاح بهذا اللفظ لا ينعقد،

(7/221)


وقولهم: إن لفظ الهبة خاص للنبى، عليه السلام، فإننا نقول: إن الخصوصية له أنه بلا مهر، وليس ذلك لغيره. وقولهم: أنه لما لم تنعقد هبة بلفظ نكاح، فكذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، فالفرق بينهما أنه إذا قال: أنكحتك مملوكتى، فلا يفهم منه أنه وهبها، ولا يقع بذلك تمليك، والهية يقع بها التمليك فافترقا. وقولهم: إن الهبة لا تتضمن العوض، فإنه يبطل بقوله: قد زوجتك على ألا مهر، فالنكاح ينعقد عندهم، ولفظ الهبة إذا قصد بها النكاح يتضمن العوض؛ لقوله: (خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم) [الأحزاب: 50] ، وكذلك الإحلال والإباحة إذا قصد به النكاح صح وضمن العوض عندنا.
- باب نَهْىِ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ
/ 14 - فيه: عَلِىّ، قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. / 15 - قال: أَبُو جَمْرَةَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِى الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِى النِّسَاءِ قِلَّةٌ - ونَحْوَهُ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. / 16 - وفيه: جَابِر، وَسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، قَالا: كُنَّا فِى جَيْشٍ، فَأَتى رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ الله قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا) .

(7/222)


وزاد سَلَمَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا، فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا) ، فَمَا أَدْرِى أَشَىْءٌ، كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَهُ عَلِىٌّ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وذكر الطحاوى، عن على بن أبى طالب، وابن عمر، أن النهى عن المتعة كان يوم خيبر، ورواه مالك، ومعمر، ويونس، عن ابن شهاب فى هذا الحديث، أن النبى، عليه السلام، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وقد رويت آثار أُخر أن نهيه، عليه السلام، عن المتعة كان فى غير يوم خيبر، فروى أبو العميس عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن فى المتعة عام أوطاس، ثم نهى عنها، من حديث ابن أبى شيبة. وروى عكرمة بن عمار، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، أنه حرم المتعة فى غزوة تبوك، ذكره الطحاوى. وقال عمرو، عن الحسن: ما حلت المتعة قط إلا ثلاثًا فى عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن الزهرى، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال:

(7/223)


نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المتعة عام الفتح. وروى عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، أنه نهى عنها فى حجة الوداع. قال الطحاوى: فكل هؤلاء الذين رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إطلاقها، أخبروا أنها كانت فى سفر، وأن النهى لحقها فى ذلك السفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت فى حضر، وكذلك روى عن ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع النبى (صلى الله عليه وسلم) وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل، من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن ابن مسعود، وأخبر ابن مسعود أن النبى، عليه السلام، إنما كان أباحها لهم فى حال الغزو. فأما حديث سبرة الذى فيه إباح النبى، عليه السلام، لها فى حجة الوداع، فخارج عن معانيها كلها؛ لأن فى حديث ابن مسعود أن إباحتها لهم كان فى حال ضرورتهم إليها، حتى سألوه أن يأذن لهم فى الاستخصاء، وحديث سلمة فى غزوة أوطاس وهو وقت ضرورة. وأخلق بحديث سبرة الذى فيه أنها كانت فى حجة الوداع أن يكون خطأ؛ لأنه لم يكن لهم حينئذ من الضرورات ما كان لهم فى الغزوات الأخر، وقد اعتبرنا هذا الحرف، فلم نجده إلا فى رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة. فأما عبد العزيز بن الربيع بن سبرة فرواه عن أبيه، وذكر أنه كان

(7/224)


عام الفتح، وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فذكر أن ذلك كان فى فتح مكة، وأنهم شكوا إليه العزبة فى حجة الوداع، فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة فى حجة الوداع؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم ولم يكونوا حينئذ كما كانوا فى الغزوات المتقدمة. فلما اختلفت المواطن المذكورة فيها الإباحة فى حديث سبرة ارتفع الموطن والوقت، وصار حديثه لا على موطن ولا على وقت، ولكن على النهى المطلق. قال غيره: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس تحليل المتعة، وروى أنه رجع عنها بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مضهب الشيعة. واتفق فقهاء الأمصار من أهل الرأى والأثر على تحريم نكاح المتعة، وشذ زفر عن الفقهاء، فقال: إن تزوجها عشرة أيام أو نحوها أو شهرًا، فالنكاح ثابت والشرط باطل، ولا خلاف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، وأن الفرقة تقع فيه عند انقضاء الأجل من غير طلاق، وليس هذا حكم الزوجية عند أحد من الأمة، وقد نزعت عائشة، والقاسم بن محمد فى أن تحريمها ونسخها فى القرآن، وذلك أن قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) [المؤمنون: 5] الآية، وليست المتعة نكاحًا ولا ملك يمين. وقد روى عن على، وابن مسعود فى قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن) [النساء: 24] ، قالا: ينسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة. وقال نافع: سُئل ابن عمر عن المتعة، فقال: حرام، فقيل له: إن ابن عباس

(7/225)


يفتى بها، قال: فهلا يزمزم إذا حرك فاه ولا يتكلم، يزمزم بها فى زمن عمر. وقال ابن عمر، وابن الزبير: المتعة هى السفاح. وقال نافع، عن ابن عمر: قال عمر: متعتان كانتا على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. قال الطحاوى: فهذا عمر نهى عن المتعة بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، فلم ينكر ذلك عليه منكر، وفى ذلك دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه، وذلك دليل على نسخها، ثم هذا ابن عباس يقول: إنما أبيحت والنساء قليل، فلما كثرن ارتفع المعنى الذى من أجله أبيحت. فإن قيل: أليس قد رويتم عن على أن النبى، عليه السلام، حرمها يوم خيبر، فما معنى رواية الربيع بن سبرة أنه حرمها فى حجة الوداع؟ قيل: كانت عادة النبى، عليه السلام، تكرير مثل هذا فى مغازيه، وفى المواضع الجامعة، فذكرها فى حجة الوداع لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعى تحليلها، ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرًا. قال الطحاوى: والحجة على زفر حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن المتعة قال لهم: (من كان عنده من هذه النساء شىء فليفارقهن، فإن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة) ، فدل هذا على أن العقد المتقدم لا يوجب دوام العقد للأبد ولو أوجب دوامه لكان بفسخ الشرط الذى تعاقدا عليه، ولا يفسخ النكاح إذا كان ثبت

(7/226)


على صحته وجوازه قبل النهى، ففى أمره إياهم بالمفارقة دليل على أن مثل ذلك العقد لا يجب به ملك بضع، والله أعلم.
- باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
/ 17 - فيه: أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الرسُول (صلى الله عليه وسلم) تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِى حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، وَاسَوْأَتَاهْ، وَاسَوْأَتَاهْ، قَالَ: هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَليهِ. / 18 - وفيه: سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ) ؟ قَالَ: مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ: (زوجتكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. . .) مختصرًا. قال المهلب: فيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح وتعريفه برغبتها فيه لصلاحه وفضله، ولعلمه وشرفه، أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عار عليها فى ذلك ولا غضاضة، بل ذلك زائد فى فضلها، لقول أنس لابنته: هى خير منك. وفيه: أن للرجل الذى تعرض المرأة نفسها عليه ألا ينكحها إلا إذا وجد فى نفسه رغبة فيها، ولذلك صوب النبى (صلى الله عليه وسلم) النظر فيها وصعده، فلما لم يجد فى نفسه رغبة فيها سكت عن إجابتها. وفيه: جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف ولا الإجابة فى المسألة، وأن ذلك أدب فى الرد بالكلام وألين فى صرف السائل.

(7/227)


وفيه: أن سكوت المرأة فى الجماعات لازم لها إذا لم يقم الدليل على أن سكوتها كان لحياء أو لحشمة؛ لأنه كان للمرأة أن تقول: يا رسول الله، إنما أرغب فيك ولا أرغب فى غيرك، وكذلك يجب أن يكون سكوت كل من عقد عليه عقد فى جماعة، ولم يمنعه من الإنكار خوف ولا حياء ولا آفة فى فهم ولا سمع أن ذلك العقد لازم له. وفيه: دليل على جواز استمتاع الرجل بشورة المرأة وبما يشترى لها من صداقها؛ لقوله عليه السلام: (ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شىء) ، مع علمه أن النصف لها، فلم يمنعه من الاستمتاع بنصفه الذى وجب لها، وجوز له لبسه أجمع، وإنما منع من ذلك؛ لأنه لم يكن له ثوب غيره، فخشى أن تحتاج إليه المرأة فيبقى عاريًا.
- باب عَرْضِ الرجل ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
/ 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ أيامًا، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ

(7/228)


أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلا أَنِّى كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبِلْتُهَا. / 20 - وفيه: أُمَّ حَبِيبَةَ بنت أَبِى سفيان، قَالَتْ للنَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؟ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّ أَبَاهَا أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . وفى حديث عمر من الفقه الرخصة فى أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح رغبة فيه، ولا نقيصة عليه فى ذلك. وفيه: أن من عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده؛ لئلا يمنعها من غيره؛ لقول عثمان بعد ليال: قد بدا لى ألا أتزوج يومى هذا. وفيه: الاعتذار لأن عثمان قال: لا أريد التزويج يومى هذا، ولم يقل أبو بكر: لا أريد التزويج، وقد كان يريده حين قال: لو تركها لنكحتها، ولم يقل: نعم، ولا لا. وفيه: الرخصة أن يجد الرجل على صديقه فى الشىء يسأله، فلا يجيبه إليه ولا يعتذر بما يعذره به؛ لأن النفوس جبلت على ذلك، لاسيما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له. وقوله: وكان وجدى على أبى بكر أشد من وجدى على عثمان، لمعنيين: أحدهما: أن أبا بكر لم يرد عليه الجواب. والثانى: أن أبا بكر أخص بعمر منه بعثمان؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) آخى بين أبى بكر وعمر، فكانت موجدته عليه أكثر لثقته به وإخلاصه له.

(7/229)


وفيه: كتمان السر، فإن أظهره الله أو أظهره صاحبه جاز للذى أسر إليه إظهاره، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، لما أظهر تزويجها أعلم أبو بكر عمر بما كان أسر إليه منه، وكذلك فعلت فاطمة فى مرض النبى، عليه السلام، حين أسر إليها أنها أول أهله لحاقًا به، فكتمته حتى توفى، وأسر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى حفصة تحريم جاريته مارية، فأخبرت حفصة عائشة بذلك، ولم يكن النبى، عليه السلام، أظهره، فذم الله فعل حفصة وقبول عائشة لذلك، فقال: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) [التحريم: 4] ، أى مالت وعدلت عن الحق. وفى قول أبى بكر لعمر بعد تزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بها: لعلك وجدت علىّ، دليل على أن الرجل إذا أتى إلى أخيه ما لا يصلح أن يؤتى إليه من سوء المعاشرة أن يعتذر ويعترف، وأن الرجل إذا وجب عليه الاعتذار من شىء وطمع بشىء تقوى به حجته أن يؤخر ذلك حتى يظفر ببغيته ليكون أبرأ له عند من يعتذر إليه. وفى قول عمر لأبى بكر: نعم دليل على أن على الإنسان أن يخبر بالحق عن نفسه وإن كان عليه فيه شىء. قال المهلب: والمعنى الذى أسر أبو بكر، عن عمر، ما أخبره به النبى، عليه السلام، هو أنه خشى أبو بكر أن يذكر ذلك لعمر، ثم يبدو للنبى الإعراض عن نكاحها فيقع فى قلب عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) مثل ما وقع فى قلبه لأبى بكر. وفى قول أبى بكر لعمر: كنت علمت أن النبى، عليه السلام،

(7/230)


ذكرها، فيه دليل أنه جائز للرجل أن يذكر لأصحابه ولمن يثق برأيه أنه يخطب امرأة قبل أن يظهر خطبتها، وقول أبى بكر: لم أكن لأفشى سر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يدل أنه من ذكر امرأة قبل أن يظهر خطبتها، فإن ذكره فى معنى السر، فإن إفشاء السر فى النكاح وفى غيره من المباح لا يجوز. وفيه: أن الصديق لا يخطب امرأة علم أن صديقه يريدها لنفسه، وإن كان لم يركن إليها لما يخاف من القطيعة بينهما، ولم تخف القطيعة بين غير الإخوان؛ لأن الاتصال بينهما ضعيف غير اتصال الصداقة فى الله. وفى قول أبى بكر: لو تركها تزوجتها، دليل أن الخطبة إنما تجوز بعد أن يتركها الخاطب. وفيه: الرخصة فى تزويج من عرض النبى، عليه السلام، فيها بخطبة أو أراد أن يتزوجها، ألا ترى قول أبى بكر: لو تركها تزوجتها، وقد جاء فى خبر آخر الرخصة فى نكاح من عقد النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها النكاح ولم يدخل بها، وأن أبا بكر كرهه ورخص فيه عمر. روى داود بن أبى هند، عن عكرمة، قال: تزوج النبى (صلى الله عليه وسلم) امرأة من كندة يقال لها: قتيلة، فمات ولم يدخل بها ولا حجبها، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل، فغضب أبو بكر، وقال: تزوجت من

(7/231)


نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال عمر: ما هى من نسائه وما دخل بها ولا حجبها، ولقد ارتدت مع من ارتد فسكت. وفيه: أن الأب تخطب إليه بنته الثيب كما تخطب إليه البكر، ولا تخطب إلى نفسها، وأنه يزوجها. وفيه: فساد قول من قال: أن للمرأة البالغة المالكة أمرها تزويج نفسها وعقد النكاح عليها دون وليها، وإبطال قول من قال: للبالغ الثيب إنكاح من أحبت دون وليها، وسيأتى بيان ذلك فى باب من قال: لا نكاح إلا بولى إن شاء الله. وفى تركه أن يأمره باستئمارها، ولم نجد عن عمر أنه استأمرها، دليل أن للرجل أن يزوج ابنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك، وكان الخاطب لها كفئًا؛ لأن حفصة لم تكن لترغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأغنى علم عمر عن استئمارها. وقوله: تأيمت حفصة، أى صارت غير ذات زوج بموت زوجها عنها، والعرب تدعو كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له: أيمًا، ومنه قول الشاعر: فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى وإن كنت أفتى منكم أتأيم

(7/232)


- باب قَوله تَعالَى: (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) [البقرة: 235] الآية
وَقَالَ مُجَاهِد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ (يَقُولُ: إِنِّى أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِى امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: يَقُولُ: إِنَّكِ عَلَىَّ لَكَرِيمَةٌ، وَإِنِّى فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا - أَوْ نَحْوَ هَذَا - وَقَالَ عَطَاءٌ: يُعَرِّضُ وَلا يَبُوحُ، يَقُولُ: إِنَّ لِى حَاجَةً، وَأَبْشِرِى وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ. وَتَقُولُ هِىَ: قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَلا تَعِدُ شَيْئًا، وَلا يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلا فِى عِدَّتِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: (لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا (: الزِّنَا. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (: تَنْقَضِىَ الْعِدَّةُ. وحرم الله تعالى عقد النكاح فى العدة بقوله: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) [البقرة: 235] ، وهذا من المحكم المجتمع على تأويله أن بلوغ أجله انقضاء العدة، وأباح تعالى التعريض فى العدة بقوله: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) [البقرة: 235] الآية، ولم يختلف العلماء فى إباحة ذلك. قال المهلب: وإنما منع من عقد النكاح فى العدة، والله أعلم؛ لأن ذلك ذريعة إلى المواقعة فى العدة التى هى محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق، كما منع المحرم بالحج من عقد النكاح؛ لأن ذلك داعيه إلى المواقعة، فحرم عليه السبب والذريعة إلى فساد ما هو

(7/233)


فيه وموقوف عليه، وأباح التعريض فى العدة خشية أن تفوت نفسها. واختلفوا فى ألفاظ التعريض، والمعنى واحد، وقال قتادة، وسعيد بن جبير فى قوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرًا) [البقرة: 235] ، قال: لا يأخذ عهدها فى عدتها ألا تنكح غيره. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا أحسن من قول من تأول فى قوله: (ولكن لا تواعدوهن (أنه الزنا؛ لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز فى اللغة أن يسمى الغشيان سرًا، فسمى النكاح سرًا، إذ كان الغشيان يكون فيه كما يسمى التزويج نكاحًا، وهو أشبه فى المعنى؛ لأنه لما أجيز لهم التعريض فى النكاح لم يؤذن لهم فى غيره، فوجب أن يكون كل شىء يجاوز التعريض فهو محظور، والمواعدة تجاوز التعريض، فوسع الله على عباده فى التعريض فى الخطبة لما علم منهم. وبلغنى عن الشافعى أنه احتج بهذا التعريض فى القذف، وقال: كما لم يجعل التعريض فى هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح، واحتج بما هو حجة عليه إذ كان التعريض بالنكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد، فكذلك ينبغى أن يكون التعريض بالقذف قد فهم عن صاحبه ما أراد، فإذا فهم أنه قاذف حكم عليه بحكم القذف، وينبغى له على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف مباح كما أبيح التعريض بالنكاح، وسيأتى استيعاب الحجة عليه فى كتاب الحدود، إن شاء الله. واختلفوا

(7/234)


فى الرجل يخطب امرأة فى عدتها جاهلاً ويواعدها، ويعقد بعد العدة، فكان مالك يقول: فراقها أحب إلىّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، ويدعها حتى تحل ويخطبها. وقال الشافعى: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة، ولم يعقد النكاح حتى تنقضى العدة، فالنكاح ثابت والتصريح لهما مكروه؛ لأن النكاح حادث بعد الخطبة. واختلفوا إذا تزوجها فى العدة ودخل بها، فقال مالك، والليث، والأوزاعى: يفرق بينهما ولا تحل له أبدًا. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، قال: لا يجتمعان أبدًا وتعتد منهما جميعًا. وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى: يفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس أن يتزوجها، واحتجوا بإجماع العلماء أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إياها فى العدة، قالوا: وهو قول على بن أبى طالب، ذكره عبد الرزاق، وذكر عن ابن مسعود مثله، وعن الحسن أيضًا. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن الأشعث، عن الشعبى، عن مسروق، أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. واختلفوا هل تعتد منهما جميعًا، فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول وتستأنف عدة أخرى من الآخر، روى ذلك عن عمر، وعلى، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وروى

(7/235)


ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما جميعًا، سواء كانت العدة بالحيض أو الحمل أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة منه، فدل ذلك على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه، وهذا غير لازم؛ لأنه منع الأول من أن ينكحها فى بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثانى، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين لا يدخل أحدهما فى صاحبه.
- باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرِيتُكْ فِى الْمَنَامِ يَجِىءُ بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِى: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِىَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) . / 22 - وفيه: عَنْ سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لأهَبَ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ. . . الحديث. ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وقالوا: لا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعى: ينظر إليها

(7/236)


ويجتهد وينظر إلى مواضع اللحم، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نظر إلى المرأة التى وهبته نفسها وأراه الله عائشة فى منامه قبل تزويجه بها. قال الطحاوى: ومن حجتهم ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا أبو شهاب الحناط، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن سليمان بن أبى حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك فوق إجار لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (إذا ألقى فى قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها) . وروى أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال: خطبت امرأة، فقال لى النبى، عليه السلام: (هل نظرت إليها؟) ، قلت: لا، قال: (فانظر، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) ، ففى هذه الأحاديث إباحة النظر إلى وجه المرأة لمن أراد نكاحها. ورواه أبو حميد، وأبو هريرة، وجابر، عن النبى، عليه السلام. واحتج الشافعى بأن ينظر إليها بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة؛ لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ،

(7/237)


قال: الوجه والكفان، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز لمن أراد نكاح امرأة ولا لغيره أن ينظر إليها إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا محرم منها، ووجهها وكفاها عورة بمنزلة جسدها، واحتجوا بحديث ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سلمة بن أبى الطفيل، عن على بن أبى طالب، أن النبى قال له: يا على، لا تتبع بالنظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة. قالوا: فلما حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النظرة الثانية؛ لأنها تكون باختيار الناظر، وخالف بين حكمها وحكم ما قبلها إذا كانت بغير اختيار من الناظر، دل على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن تكون زوجة أو ذات محرم. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى أن الذى أباحه النبى، عليه السلام، فى الآثار الأُول هو النظر للخطبة لا لغير ذلك، وذلك نظر لسبب هو حلال، ألا ترى لو أن رجلاً نظر إلى وجه امرأة لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها أو لها أن ذلك جائز، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأما المنهى عنه فالنظر لغير الخطبة ولغير ما هو حلال. ورأيناهم لا يختلفون فى نظر الرجل إلى صدر الأمة إذا أراد أن يبتاعها أن ذلك له جائز حلال، ولو نظر إليها لغير ذلك كان ذلك

(7/238)


عليه حرامًا، فكذلك نظره إلى وجه المرأة إن كان فعل ذلك لمعنى هو حلال فهو غير مكروه. وإذا ثبت أن النظر إلى وجه المرأة لخطبتها حلال خرج بذلك حكمه من حكم العورة؛ لأنا رأينا ما هو عورة لا يباح لمن أراد نكاحها النظر إليه، ألا ترى أنه من أراد نكاح امرأة فحرام عليه النظر إلى شعرها أو إلى صدرها أو إلى ما أسفل من ذلك من بدنها، كما يحرم ذلك منها على من لم يرد نكاحها، فلما ثبت أن النظر إلى وجهها حلال لمن أراد نكاحها، ثبت أنه حلال أيضًا لمن لم يرد نكاحها إذا كان لا يقصد بنظره ذلك إلى معنى هو عليه حرام، وقد قال المفسرون فى قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ، أن ذلك المستثنى هو الوجه والكفان.
- باب مَنْ قَالَ: لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِىٍّ
لقوله تَعَالَى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [البقرة: 221] ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) [النور: 32] . / 23 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا، ثُمَّ

(7/239)


يَنْكِحُهَا. وَالنِكَاحُ الآخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لامْرَأَتِهِ - إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا - أَرْسِلِى إِلَى فُلانٍ، فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا، إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ، يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ، وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ وَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلانُ تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ. وَالنِكَاحُ الرَّابِعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا، وجُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا الْقَافَةَ لَهُمُ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِىَ ابْنَهُ لا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. / 24 - وفيه: عَائِشَةَ، فِى قوله تَعَالَى: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَاءِ. . .) [النساء: 127] الآية، قَالَتْ: هَذَا فِى الْيَتِيمَةِ الَّتِى تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِى مَالِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا، فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا، وَلا يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِى مَالِهَا.

(7/240)


/ 25 - وفيه: عُمَر، حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنِ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ: بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. . . . / 26 - وفيه: مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِى قوله تَعَالَى: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إنى زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا وَاللَّهِ، لا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ. اتفق جمهور العلماء أنه لا يجوز نكاح إلا بولى إما مناسب أو وصى أو السلطان، ولا يجوز عقد المرأة على نفسها بحال، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن عباس، وابن مسعود، وأبى هريرة، وروى عن شريح، وابن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى عبيد. وحكى ابن المنذر، عن الشعبى، والزهرى أنه إذا تزوجت بغير إذن وليها كفئًا فهو جائز. وقال مالك فى المعتقة والمسكينة التى لا خطب لها، فإنها تستخلف على نفسها من يزوجها، ويجوز ذلك، وكذلك

(7/241)


المرأة يكفلها الرجل أن تزويجه عليها جائز، وأما كل امرأة لها قدر وغنى فلا يزوجها إلى الولى أو السلطان. قال أبو حنيفة: إذا كانت بالغة عاقلة زالت ولاية الولى عنها، فإن عقدت بنفسها جاز، وإن ولت رجلاً حتى عقد جاز، ووافقنا على أنها إذا وضعت نفسها فى غير كفء كان للولى فسخ النكاح. وشذ أهل الظاهر أيضًا، فقالوا: إن كانت بكرًا فلابد من ولى، وإن كانت ثيبًا لم تحتج إلى ولى، وهذا خلاف الجماعة. قال ابن القصار: والدليل على أنها لا تعقد على نفسها بحال قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) [البقرة: 232] ، والدلالة فى الآية من وجهين: أحدهما: أن الله عاتب معقلاً لما امتنع من رد أخته إلى زوجها، ولو كان لها أن تزوج نفسها أو تعقد النكاح لم يعاتب أخوها على الامتناع منه ولا أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالحنث، فدل على أن النكاح كان إليه دونها. والوجه الثانى: قوله تعالى: (فلا تعضلوهن) [البقرة: 232] ، والعضل هو المنع من التزويج، فمنع الله الأولياء من الامتناع من تزويجهن كما منع أولياء اليتامى أن يعضلوهن إذا رغبوا فى أموالهن، فلو كان العقد إليهن لم يكن ممنوعات. قال المهلب: وفى هذا دليل على أن الرجل إذا عضل وليته وثبت عضله لها يفتئت عليه السلطان فيزوجها بغير أن يأمره بالعقد لها، ويرده عن العضل كما رد النبى، عليه السلام، معقلاً عن ذلك العقد، ولم يعقد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بل دعاه إلى العقد بالحنث فى يمينه، إذ

(7/242)


عقده لأخته على من تحبه خير من إبرار اليمين، وأيضًا قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) [البقرة: 221] ، وقوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) [النور: 32] ، فلم يخاطب بالنكاح غير الرجال، ولو كان على النساء لذكرن فى ذلك. قال الطبرى: فى حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هى، إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح عليها دون وليها، ولو كان لها ذلك لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدع خطبة حفصة إلى نفسها، إذ كانت أولى بنفسها من أبيها، ولخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: (الأيم أحق بنفسها من وليها) ، أى أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها فى أنه لا ينعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها فى أن تعقد عليها عقدة نكاح دون وليها. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثبت عنه خلاف ما قلنا. وقول عائشة: إن النكاح كان على أربعة أنحاء، فنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل ابنته أو وليته، حجة فى أن سنة عقد النكاح إلى الأولياء. فإن قال من أجاز بغير ولى: فقد روى عن عائشة خلاف هذا، وهو ما رواه مالك فى الموطأ أنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب، فلما قدم قال: مثلى يفتأت عليها فى بناته؟ وهذا يدل أن مذهبها جواز النكاح بغير ولى. قيل: لا حجة لكم فى هذا الخبر، وليس معنى قوله: زوجت

(7/243)


بنت أخيها، إلا الخطبة، والكلام فى الرضا والصداق دون العقد، لما رواه ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، عن أبيه، عن عائشة، أنها أنكحت رجلاً من بنى أخيها، فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى لم يبق إلا العقد، أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح. قال ابن المنذر: وأما تفريق مالك بين المولاة والمسكينة، وبين من لها منهن قدر وغنى، فليس ذلك مما يجوز أن يفرق به، إذ قد سوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الناس جميعًا، فقال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) ، فسوى بين الجميع فى الدماء، فوجب أن يكون حكمهم فيما دون الدماء سواء. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) [البقرة: 221] ، فإنه خاطب الأولياء ونهاهم عن إنكاح المشركين ولياتهم المسلمات من أجل أن الولد تابع للأب فى دينه بقوله تعالى: (أولئك يدعون إلى النار) [البقرة: 221] ، ولا مدعو فى نفس الاعتبار يمكنه الإجابة إلا الولد، إذ هو تبع لأبيه فى الدين، ولذلك نهى الله عن إنكاح الإماء المشركات؛ لأن الذى يتزوجها يتسبب أن يولدها، فيبيعها سيدها حاملاً من مشرك، إذ أولاد الإماء تبع لأمهاتهم فى الرق فيئول ذلك إلى تمليك المشركين أولاد المسلمين فيحملونهم على الكفر، فنهى الله عن ذلك، وحرمه فى كتابه، وجوز لمن لم يستطع طولاً لحرة إذا خشى العنت أن ينكح الأمة المسلمة فى ملك المسلم لامتناع تمليكهن المشركين، وأباح له استرقاق ولده واستعباده لأخيه المسلم، من أجل أنه قد أمن أن يحمله على غير دين الإسلام.

(7/244)


والدليل على جواز إرقاق المسلم بنيه قول النبى، عليه السلام: (وفى جنين المرأة غرة عبد أو وليدة) ، فلما جعل عوض الجنين الحر عبدًا، وأقامه مقامه، وجوز لأبيه ملكه واسترقاقه عوضًا من أبيه، علمنا أن للرجل أن ينكح من النساء من يسترق ولده بها، والله أعلم.
- باب إِذَا كَانَ الْوَلِىُّ هُوَ الْخَاطِبَ
وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا، فَأَمَرَ رَجُلا فَزَوَّجَهُ، وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأمِّ حَكِيمٍ ابْنَة قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَىَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لِيُشْهِدْ أَنِّى قَدْ نَكَحْتُكِ، أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلا مِنْ عَشِيرَتِهَا. وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. / 27 - فيه: عَائِشَةَ، فِى قَوْلِهِ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ (الآيَةِ، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ، تَكُونُ فِى حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِى مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ، فَيَحْبِسُهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. / 28 - وفيه: سَهْلُ، جَاءَت امْرَأَةٌ إلى النَّبِىّ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَلَمْ يُرِدْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: (اذْهَبْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . اختلف العلماء فى الولى هل يزوج نفسه من وليته إذا أذنت له وينعقد النكاح ولا يرفع ذلك إلى السلطان، فأجاز ذلك الحسن البصرى، وربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة،

(7/245)


وأبو ثور. وقال زفر والشافعى: لا يجوز له أن يتزوجها إلا بالسلطان، أو يزوجها منه ولى لها هو أقعد بها منه أو مثله فى القعدد، واحتجوا أن الولاية من شرط العقد، وكما لا يكون الشاهد ناكحًا ولا منكحًا، كذلك لا يكون الناكح منكحًا. وفيها قول ثالث، وهو أن يجعل أمرها إلى من يزوجها منه، وروى هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد بن حنبل ذكره ابن المنذر، واحتج الطحاوى للقول الأول، فقال: لا يختلفون أنه يجوز أن يهب لمن له ولاية عليها، ويكون هو العاقد والقابض، وكذلك النكاح، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) زوج المرأة من الرجل بما معه من القرآن، فكذلك كان له أن يزوجها من نفسه لو قبلها، كما فعل فى خبر صفية حين جعل عتقها صداقها. قال ابن المنذر: وكذلك فعل فى أمر جويرية، قضى كتابتها وتزوجها كما فعل فى حديث صفية سواء. قال المؤلف: ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث عائشة فى الرجل تكون عنده اليتيمة فيرغب عن أن يتزوجها، فنهاهم الله عن عضلهن ومنعهن من التزويج من أجل أنهم لا يقسطون فى صدقاتهن، وجعل لهم أن ينكحوهن من أنفسهن إذا عدلوا فى صدقاتهن، وقد تقدم البيان عن هذه المسألة فى حديث صفية فى باب من أعتق جارية وتزوجها، وأما فعل المغيرة، فهو من باب الأدب فى النكاح أن يأمر الولى رجلآً يعقد نكاحه مع وليته، ولو تولى هو عقده إذا رضيت به لكان حسنًا.

(7/246)


- باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ لقوله: (وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق: 4] ، فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِىَ بِنْتُ تِسْع سِنِين، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا. قال المهلب: أجمع العلماء على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التى لا يوطأ مثلها لعموم الآية: (واللائى لم يحضن) [الطلاق: 4] ، ويجوز نكاح من لم تحض من أول ما تخلق، وأظن البخارى أراد بهذا الباب الرد على ابن شبرمة، فإن الطحاوى حكى عنه أنه قال: تزويج الآباء على الصغار لا يجوز، ولهن الخيار إذا بلغن، وهذا قول لم يقل به أحد من الفقهاء غيره، ولا يلتفت إليه لشذوذه، ومخالفته دليل الكتاب والسنة، وإنما اختلفوا فى الأولياء غير الآباء إذا زوج الصغيرة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تزويج الصغار من الكبار قبل هذا. وفيه من الفقه: جواز نكاح لا وطء فيه لعلة بأحد الزوجين: لصغر، أو آفة، أو غير إرب فى الجماع، بل لحسن العشرة والتعاون على الدهر، وكفاية المؤنة والخدمة بخلاف من قال: لا يجوز نكاح لا وطء فيه، ويؤيد هذا فعل سودة حين وهبت يومها لعائشة، وقالت: ما لى فى الرجال إرب. واختلف العلماء فى الوقت الذى تدخل فيه المرأة على زوجها إذا اختلف الزوج وأهل المرأة فى ذلك، فقالت طائفة: تدخل على

(7/247)


زوجها وهى بنت تسع سنين اتباعًا لحديث عائشة، هذا قول أحمد بن حنبل، وأبى عبيد. وقال أبو حنيفة: نأخذ بالتسع غير أنا نقول: إن بلغتها ولم تقدر على الجماع كان لأهلها منعها، وإن لم تبلغ التسع وقويت على الرجال لم يكن لهم منعها من زوجها. وكان مالك يقول: لا نفقة لصغيرة حتى تدرك وتطيق الرجال. وقال الشافعى: إذا قاربت البلوغ وكانت جسيمة تحتمل الجماع، فلزوجها أن يدخل بها، وإن كانت لا تحتمل الجماع فلأهلها منعها من الزوج حتى تحتمل الجماع.
- باب تَزْوِيجِ الأبِ ابْنَتَهُ مِنَ الإمَامِ
وَقَالَ عُمَرُ: خَطَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَىَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ. / 30 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ. . . الحديث. معنى هذا الباب أن الإمام وإن كان وليًا، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل الأولياء، وخطب حفصة إلى أبيها عمر بن الخطاب، وأنكحه إياها، دل ذلك على أن الأب أولى من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولى له، وهذا إجماع، ودل أيضًا على صحة ما يقوله مالك، والشافعى، وجمهور العلماء أن الولى من شروط النكاح وأنه مفتقر إليه، وكذلك خطب النبى عائشة إلى أبى بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنت أخى فى دين الله وكتابه، وهى لى حلال) ، فأنكحه أبو بكر إياها.

(7/248)


قال ابن المنذر: وفى إنكاح أبى بكر النبى (صلى الله عليه وسلم) دليل على إباحة النكاح بغير شهود، إذ لا نعلم فى شىء من الأخبار أن شاهدًا حضر عقد ذلك النكاح، والأخبار التى رويت عن عائشة وغيرها بخلاف ذلك واهية لا تثبت عند أهل المعرفة بالأخبار، وقد تقدم بيان هذه المسألة فى حديث صفية فى باب اتخاذ السرارى ومن أعتق جارية ثم تزوجها.
- باب السُّلْطَانُ وَلِىٌّ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ
/ 31 - فيه: سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّى وَهَبْتُ لك نَفْسِى، فَقَامَتْ طَوِيلا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ: (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا، بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . أجمع العلماء على أن السلطان ولى من لا ولى له، وأجمعوا أن السلطان يزوج المرأة إذا أرادت النكاح ودعت إلى كفء وامتنع الولى من أن يزوجها. واختلفوا إذا غاب عن البكر أبوها وعمى خبره وضربت فيه الآجال من يزوجها؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: يزوجها أخوها بإذنها. وقال الشافعى: يزوجها السلطان دون باقى

(7/249)


أوليائها، وكذلك الثيب إذا غاب أقرب أوليائها. وحجة مالك، والكوفيين أن الأخ عصبة يجوز أن يزوجها بإذنها مع عدم أبيها بالموت لتعذر التزويج من قبله، فكذلك مع حياته إذا تعذر التزويج من جهته، دليل ذلك إذا جن الأب أو فسق عندهم، ألا ترى أن الأب إذا مات كان الأخ أولى من السلطان؟ واحتج الشافعى بأن السلطان يستوفى لها حقوقها وينظر فى مالها إذا فقد أبوها، فلذلك هو أحق بالتزويج من أخيها. واختلفوا فى الولى، فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى: الأولياء هم العصبة الذين يرثون، وليس الخال ولا الجد لأم ولا الإخوة لأم أولياء عند مالك فى النكاح، وخالفهم محمد بن الحسن، فقال: كل من لزمه اسم ولى، فهو ولى يعقد النكاح، وبه قال أبو ثور. قال الأبهرى: والحجة لمالك ومن وافقه فى أن ذوى الأرحام ليسوا أولياء فى النكاح وأن الأولياء فى ذلك العصبة، هو أن الولى لما كان مستحقًا بالتعصيب لم يكن للرحم مدخل فيه لعدم التعصيب، كذلك عقد النكاح؛ لأن ذلك بولاية التعصيب. قال ابن المنذر: وقوله: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [البقرة: 232] ، دليل على أن الأولياء من العصبة؛ لأن معقلاً لما منع أخته من التزويج نزلت فيه هذه الآية، فتلاها عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .

(7/250)


واختلفوا من أولى بالنكاح الولى أو الوصى؟ فقال ربيعة، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة: الوصى أولى. وقال الشافعى: الولى أولى به؛ لأنه لا ولاية للوصى على الصغير. والحجة للقول الأول أن الأب لو جعل ذلك إلى رجل بعينه فى حياته لم يكن لسائر الأولياء الاعتراض عليه مع بقاء الأب، فكذلك بعد موته، إلا أن مالكًا قال: لا يزوج الوصى اليتيمة قبل البلوغ، إلا أن يكون أبوها أوصى إليه أن يزوجها قبل البلوغ من رجل بعينه فيجوز، وينقطع عنها ما لها من المشورة عند بلوغها. وذكر ابن القصار، قال: ومن أصحابنا من قال: إن الموصى إذا قال: زوج بناتى ممن رأيت أنه يقوم مقام الأب فى تزويج الصغيرة، وفى تزويج البكر البالغ بغير إذنها، وهو يتخرج على مذهب مالك، وهو إذا قالت اليتيمة لوليها: زوجنى ممن رأيت، فزوجها ممن اختار، أو من نفسه ولم يعلمها بعين الرجل قبل العقد، فإنه يلزمها ذلك.
- باب لا يُنْكِحُ الأبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَلاَ الثَّيِّبَ إِلا بِرِضَاهَا
/ 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ) .

(7/251)


/ 33 - وفيه: عَائِشَةَ، [أَنَّهَا قَالَتْ] : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِى، قَالَ: (رِضَاهَا صَمْتُهَا) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث النهى عن نكاح الثيب قبل الاستئمار، وعن نكاح البكر قبل الاستئذان، ودل هذا الحديث على أن البكر التى أمر باستئذانها البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها، ومن سكوتها وسخطها سواء. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: لا يجوز للأب أن ينكح البالغ من بناته بكرًا كانت أو ثيبًا إلا بإذنها، قالوا: والأيم التى لا زوج لها، وقد تكون بكرًا وثيبًا، وظاهر هذا الحديث يقتضى أن تكون البكر لا ينكحها وليها أبًا كان أو غيره حتى يستأمرها، وذلك لا يكون إلا فى البوالغ لما دل عليه الحديث، ولتزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عائشة وهى صغيرة. وهذا قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وأبى ثور، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال قولاً عامًا: (لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر) ، وكل من عقد نكاحًا على غير ما سنه النبى، عليه السلام، فهو باطل، ودل الحديث على أن البكر إذا نكحت قبل إذنها بالصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر. وقالت طائفة: للأب أن يزوج البكر بغير إذنها صغيرة كانت أو كبيرة، ولا يزوج الثيب إلا بإذنها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو قرة:

(7/252)


سألت مالكًا عن قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (البكر تستأذن فى نفسها) ، أيدخل فى هذا الأب؟ قال: لا، لم يعن بهذا الأب إنما عنى به غير الأب. وإنكاح الأب جائز على الصغار ولا خيار لواحدة منهن بعد البوغ. وقال ابن حبيب: وقد ساوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين البكر والثيب فى مشاورتهما فى أنفسهما، ولم يفرق بينهما إلا فى الجواب بالرضا، فإنه جعل جواب البكر بالرضا فى صماتها لاستحيائها، وجعل جوابها بالكراهة لذلك فى الكلام؛ لأنه لا حياء عليها فى كراهيتها كما يكون الحياء فى رضاها، ولم يلزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثيب الرضا بالصمات حتى تتكلم بالرضا لمفارقتها فى الحياء حال البكر لما تقدم من نكاحها، والدليل على أن المراد باستئمار البكر غير ذات الأب ما روى أبو نعيم، قال: حدثنا يونس بن أبى إسحاق، قال: حدثنى أبو بردة بن أبى موسى، عن أبيه، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (تستأمر اليتيمة فى نفسها، فإن سكتت فهو إذنها) ، ففرق بتسميته إياها يتيمة بينها وبين من لها أب. فإذا كانت ثيبًا، فيلزم الأب مؤامرتها، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها. وأما قول الكوفيين: الأيم التى لا زوج لها وقد تكون بكرًا، فالجواب أن العرب وإن كانت تسمى كل من لا زوج لها أيمًا فهو على الاتساع وأصل الأيمة عدم الزوج بعد أن كان، لكن المراد بالأيم فى هذا الحديث الثيب، والدليل على ذلك أنه قد

(7/253)


روى جماعة عن مالك: (والثيب أحق بنفسها من وليها) ، مكان قوله: (الأيم أحق بنفسها) ، ثم قال: (والبكر تستأذن) ، فذكر البكر بعد ذكره الأيم، فدل أنها الثيب، ولو كانت الأيم فى هذا الحديث البكر لبطل الولى فى النكاح ولكانت كل بكر لا زوج لها أحق بنفسها من وليها، وكان هذا التأويل ردًا لقوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [البقرة: 232] ، فخاطب بذلك الأولياء. واختلفوا فى الثيب الصغيرة، فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها جبرًا كالبكر، وسواء أصيبت بنكاح أو زنا. وقال الشافعى: لا يزوجها إلا بإذنها، وسواء جومعت بنكاح أو زنا. ووافقه أبو يوسف ومحمد إذا كان الوطء بزنا، واعتلوا بأنها إذا جربت الرجال كانت أعرف بحظها من الولى، فوجب أن يكون الأمر لها. واحتج الأولون، فقالوا: لما كانت محجورًا عليها فى مالها حجر الصغير جاز أن يجبرها على النكاح، وأيضًا فإنها قد ساوت البكر الصغيرة فى أنها لا يصح اختيارها، فلا معنى لاستئمارها.
- باب إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِىَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
/ 34 - فيه: خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ نِكَاحَهُ.

(7/254)


اتفق أئمة الفتوى بالأمصار على أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها أنه لا يجوز ويرد، واحتجوا بحديث خنساء، وشذ الحسن البصرى، والنخعى، فخالفا الجماعة، فقال الحسن: نكاح الأب جائز على ابنته بكرًا كانت أو ثيبًا، كرهت أو لم تكره. وقال النخعى: إن كانت الابنة فى عياله زوجها ولم يستأمرها وإن لم تكن فى عياله وكانت نائية عنه استأمرها. وإن لم يكن أحد من الأئمة مال إلى هذين القولين لمخالفتهما للسنة الثابتة فى خنساء وغيرها، وما خالف السنة فهو مردود. واختلف الأئمة القائلون بحديث خنساء إن زوجها بغير إذنها، ثم بلغها فأجازت، فقال إسماعيل القاضى: أصل قول مالك أنه لا يجوز إن أجازته إلا أن يكون بالقرب، كأنه فى فور واحد، ويبطل إذا بعد؛ لأن عقده عليها بغير أمرها ليس بعقد ولا يقع فيه طلاق. وقال الكوفيون: إذا أجازته جاز، وإذا أبطلته بطل. وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور: إذا زوجها بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت؛ لأن النبى، عليه السلام، رد نكاح خنساء ولم يقل إلا أن تجيزه.
- باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا) [النساء: 3]
/ 35 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى (إِلَى قَوْلِهِ: (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36] ، قَالَتْ: هى الْيَتِيمَةُ التِى تَكُونُ فِى حَجْرِ

(7/255)


وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ. معنى هذا الباب أن الولى شرط فى النكاح؛ لمخاطبة الله الأولياء بإنكاح اليتامى إذا خافوا ألا يقسطوا فيهن، وقد تقدم هذا الحديث فى باب من قال: لا نكاح إلا بولى، واحتج أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، بهذه الآية فى أنه يجوز للولى أن يزوج من نفسه اليتيمة التى لم تبلغ؛ لأن الله لما عاتب الأولياء أن يتزوجوهن إذا كن من أهل المال والجمال إلا على سنتهن من الصداق، وعاتبهم على ترك نكاحهن إذا كن قليلات المال والجمال استحال أن يكون ذلك منه تعالى فيمن لا يجوز نكاحه؛ لأنه لا يجوز أن يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ألا ترى أنه أمر وليها أن يقسط لها فى صداقها، ولو أراد بذلك بالغًا لما كان لذكره أصل سنتها فى الصداق معنى، إذ كان له أن يراضيها على ما تشاء ثم يتزوجها على ذلك، فيكون ذلك له حلالاً كما قال الله تعالى: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) [النساء: 4] . فثبت أن التى أمر أن يبلغ بها أعلى سنتها فى الصداق هى التى لا أمر لها فى صداقها المولى عليها، وهى غير بالغ، ولا يجوز عند مالك والشافعى وجماعة أن يتزوج اليتيمة التى لا أب لها قبل البلوغ، ويفسخ النكاح عند مالك قبل الدخول وبعده، وقد تقدم الاختلاف فى هذه المسألة فى باب تزويج الصغار.

(7/256)


وكان من حجة من خالف أبا حنيفة فى ذلك أنه قد يكون فى اليتامى من تجوز حد البلوغ وبعده وهى سفيهة، لا يجوز بيعها ولا شىء من أفعالها، فأمر تعالى أولياءهن بالإقساط لهن فى الصدقات، فلم تدل الآية على جواز نكاح اليتيمة غير البالغ كما زعم أبو حنيفة، وليس هذا أولى بالتأويل ممن عارضه، وتأويل الآية فى اليتيمة البالغ السفيهة.
- باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِىِّ: زَوِّجْنِى فُلانَةَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الزَوج: رَضيت أَوْ قَبِلت
/ 36 - فيه: سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ: (مَا لِى الْيَوْمَ فِى النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: (مَا عِنْدَكَ) ؟ قَالَ: مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ: (أَعْطِهَا، وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، قَالَ: مَا عِنْدِى قَالَ: (فَمَا عِنْدَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وترجم له: (باب إذا قال للولى زوجنى فلانة، فمكث ساعة، أو قال: ما معك من القرآن؟ قال: معى كذا وكذا، أو لبثا، ثم قال: زوجتكها، فهو جائز. قال المهلب: بساط الكلام ومفهوم القصة أغنى فى هذا الحديث عن أن يوقف الخاطب على الرضا، وليس هذا فى كل نكاح، بل يجب أن يسأل الزوج أرضى بالصداق والشرط أم لا؟ إلا أن يكون

(7/257)


مثل هذا المعسر الراغب فى النكاح، فلا يحتاج إلى توقيفه على الرضا لعلمهم به.
- باب لا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
/ 37 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. / 38 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) ، إلى قوله: (وَلا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ) . قال ابن المنذر: النهى فى هذا الحديث أن يخطب الرجل على خطبة أخيه نهى تحريم لا نهى تأديب، لما روى الليث، عن ابن أبى حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (المؤمن للمؤمن، لا يحل لمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر، ولا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر) . قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه منسوخ بخطبته، عليه السلام، لأسامة فاطمة بنت قيس على خطبة معاوية وأبى الجهم. وقال آخرون: هو حكم ثابت لم ينسخه شىء، وهو غير جائز لرجل خطبة امرأة قد خطبها غيره حتى يترك ذلك، هذا قول عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر، وابن هرمز. واحتجوا بعموم الحديث. وقال آخرون: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه يريد فى حال رضا المرأة به وركونها إليه.

(7/258)


وقد فسر مالك هذا الحديث فى الموطأ، فقال: معنى النهى عن ذلك إذا كانت المرأة قد ركنت إليه واتفقا على صداق وتراضيا، فتلك التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يخطبها على خطبة أخيه، فأما إذا لم تركن إليه ولم يوافقها، فلا بأس أن يخطبها غيره. قال أبو عبيد: وقول مالك هو عندنا وجه الحديث، وبه يقول أهل المدينة، وأهل العراق، أو أكثرهم، واحتج الشافعى والطحاوى بأن النبى، عليه السلام، أباح الخطبة لأسامة على خطبة معاوية وأبى جهم حين خطبا فاطمة بنت قيس، وكان بينًا أن الحالة التى خطب فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاطمة على أسامة غير الحال التى نهى عن الخطبة فيها حتى تصح معانى الآثار ولا تتضاد. واختلف أصحاب مالك إذا أظهرت الرضا ولم يتفقا على صداق، فقال أكثرهم: لا يخطبها؛ لأنه قد يكون نكاحًا ثابتًا إذا تم الرضا وإن لم يسم الصداق، وهو نكاح التفويض، إلا ابن نافع، فإنه قال: لا بأس أن يخطبها ما لم يتفقا على صداق، والقول الأول أولى. واختلف قول مالك وأصحابه إذا ركن إليها، ثم خطب عليه غيره وتزوجها، فروى عنه أنه يفسخ النكاح قبل الدخول، ولا يفسخ بعد الدخول وبئس ما صنع، وذكر عنه ابن المواز أنه يفسخ النكاح على كل حال، كما يفسخ البيع إذا ساوم على سومه، وهو قول أهل الظاهر، وروى عنه أنه لا يفسخ النكاح أصلاً، وهكذا روى سحنون عن ابن القاسم أنه لا يفسخ النكاح ولا البيع ويؤدب فاعله. وقال الكوفيون والشافعى: لا يفسخ، واحتج ابن القصار

(7/259)


لقول مالك أنه يفسخ، فقال: النهى يقتضى فساد المنهى عنه، وإذا كان إيقاع المنهى عنه فاسدًا لم تحصل به الاستباحة؛ لقوله عليه السلام: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، واحتج ابن حبيب لقوله: إنه لا يفسخ، فقال: ليس يشبه إذا اشترى على شراء أخيه؛ لأن ملك النكاح لا ينتقل بالركون خاصة، هكذا سمعت مطرفًا، وابن الماجشون يقولان: وقال أصبغ، عن ابن القاسم مثله، وقد كان ابن نافع يرى فيه الفسخ قبل البناء وبعده وليس بشىء. قال غيره: والدليل على جواز النكاح أنه لم يملك بضعها بالركون دون العقد، ولا كانت له بذلك زوجة تجب بينهما الموارثة ويقع الطلاق. وأما قولهم: إن النهى يقتضى فساد المنهى عنه، فنقول: العقد صحيح والمنهى عنه الخطبة خاصة ليس العقد كما لو فجر بها أو جردها عن ثيابها ثم نكحها. وأما قوله: إنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، فهو من باب إعادة الصلاة فى الوقت ليدرك العمل على كماله وسننه. قال ابن المنذر: ونهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه المسلم يدل على إباحة أن ينكح على خطبة اليهودى والنصرانى؛ لأن الأمور كانت على الإباحة حتى نهى عن الخطبة على المسلم، فثبتت الإباحة على من ليس بمسلم؛ لأن المؤمنين إخوة.

(7/260)


- باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
/ 39 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ، لَقِى أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ له: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْته إِلا أَنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. إن قال قائل: كيف ترجم البخارى لهذا الحديث تفسير ترك الخطبة، وقد تقدم من مذاهب العلماء أن الخطبة جائزة على خطبة غيره إذا لم تركن إليه، والنبى (صلى الله عليه وسلم) حين أخبر بذلك أبا بكر لم يكن أعلم بهذا عمر فضلاً أن تركن إليه؟ فالجواب: أن الترجمة صحيحة والمعنى الذى قصد البخارى معنى دقيق يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه فى الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا خطب إلى عمر ابنته أنه لا يصرفه ولا يرغب عنه، بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه من مصاهرته له وامتزاجه به، فقام علم أبى بكر الصديق بهذه الحالة مكان الركون والتراضى منهما، فكذلك كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا تنبغى الخطبة على خطبته حتى يترك كما فعل أبو بكر، رضى الله عنه.

(7/261)


- باب الْخُطْبَةِ
/ 40 - فيه: ابْن عُمَرَ، جَاءَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا) . قال المؤلف: الخطبة عند الحاجة من الأمر القديم المعمول به، وروى عن ابن مسعود أنه قال: علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطبة الحاجة: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يقرأ: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة. . .) [النساء: 1] الآية،) اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا. . . (إلى) عظيمًا) [الأحزاب: 70، 71] ،) اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102] . قال المهلب: إنما استحبت فى خطبة النساء خطبة من الكلام ليسهل بها الخاطب أمره ويرغب فيما دعا إليه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد شبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها، واستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر، وإنما هذا من أجل ما فى النفوس من الأنفة فى أمر الوليات، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن حسن التواصل إلى هذا الذى تألف النفس منه حتى تحبب ذلك المستبشع وجه من وجوه السحر الحلال. واستحب جمهور العلماء الخطبة فى النكاح، فقال مالك: وهى من الأمر القديم وما قل منها فهو أفضل. قال ابن حبيب:

(7/262)


كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلى على نبيه ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر إجابته، وأوجبها أهل الظاهر فرضًا، واحتجوا بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) خطب حين زوج فاطمة، وأفعاله على الوجوب. واستدل الفقهاء على أنها غير واجبة بقوله: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، ولم يخطب، وبقوله: (كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) ، أى ناقص، ولم يقل: إن العقد لا يتم لأنه زوج المرأة ولم يخطب.
- باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِى النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
/ 41 - فيه: الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، جَاءَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَدَخَلَ حِينَ بُنِىَ عَلَىَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ؛ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ، فَقَالَ: (دَعِى هَذِهِ، وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ) . قال المهلب: السنة إعلان النكاح بالدف والغناء المباح؛ ليكون ذلك فرقًا بينه وبين السفاح الذى يستسر به. وفيه: إقبال العالم والإمام إلى العرس وإن كان فيه لعب ولهو ما لم يخرج اللهو عن المباحات فيه. وفيه: جواز مدح الرجل فى وجهه بما فيه، وإنما المكروه من ذلك مدحه بما ليس فيه.

(7/263)


- باب قَوْلِ اللَّهِ: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: 4] وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [النساء: 20] وَقَوْلِهِ تعَالَى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء: 20]
وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . / 42 - فيه: أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب، فَرَأَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب. قال ابن المنذر: هذه الآيات دالة على وجوب المهر. قال المؤلف: ولا حد لأكثر المهر عند العلماء؛ لقوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارًا) [النساء: 20] ، ذكر عبد الرزاق، عن قيس بن الربيع، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا فى صدقات النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله قال: (وآتيتم إحداهن قنطارًا (، وكذلك فى قراءة عبد الله: ولا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا، فقال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمى، قال: أصدق النبى (صلى الله عليه وسلم) كل امرأة من نسائه اثنتى عشرة أوقية ونشا، والنش نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم. قال ابن شهاب: اثنتى عشرة أوقية، فذلك أربعمائة درهم وثمانون درهمًا. وروى عن عمر بن الخطاب أنه أصدق أم كلثوم بنت على بن أبى طالب

(7/264)


أربعين ألف درهم، وأن عمر أصدق صفية عشرة آلاف درهم، وعن ابن عباس وأنس مثله، وروى عن الحسن بن على أنه تزوج امرأة فأرسل إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم. واختلفوا فى مقدار أقل الصداق الذى لا يجوز النكاح بدونه، فقال مالك: لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار وهو ثلاثة دراهم كيلاً، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع. وقال الكوفيون: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم كيلاً قياسًا على ما تقطع فيه اليد عندهم. وقال النخعى: أقله أربعون ردهمًا. وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهمًا. وقال ابن شبرمة: خمسة دراهم. وقالت طائفة: لا حد فى أقل الصداق، ويجوز بما تراضوا عليه. وروى هذا عن سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن يسار، والقاسم بن محمد، وسائر فقهاء التابعين بالمدينة: ربيعة، وأبى الزناد، ويحيى بن سعيد، وابن أبى ذئب، ومن العراق ابن أبى ليلى، والحسن البصرى، وهو قول الثورى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال الأوزاعى: كل نكاح وقع بدرهم فما فوقه لا ينقضه قاض. وقال الشافعى: ما كان ثمنًا لشىء أو أجرة جاز أن يكون صداقًا، واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أجاز النكاح بخاتم حديد، وأجاز ابن وهب النكاح بدرهم وبنصف درهم، وقال الدراوردى لمالك: تعرقت فيها يا أبا عبد الله، يقول: ذهبت فيها مذهب أهل العراق.

(7/265)


واحتج أصحاب مالك، والكوفيون بأن البضع عضو مستباح ببدل من المال، فلابد أن يكون مقدرًا، قياسًا على القطع، واحتجوا بأن الله لما شرط عدم الطول فى نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولاً، دل على أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير ونحوه طولاً لما عدمه أحد، والطول فى معنى الآية المال، ولا يقع عندهم اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفروج بالشىء التافه. والنواة عند أهل اللغة: زنة خمسة دراهم كيلاً، وأظن الذى قال: إن أقل الصداق خمسة دراهم إنما أخذه من حديث النواة، وهذه غفلة شديدة؛ لأن زنة النواة ثلاثة مثاقيل ونصف من الذهب، فكيف يحتج بها من جعل أقل الصداق خمسة دراهم من فضة.
30 - باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
/ 43 - فيه: سَهْل، إِنّ امْرَأَةٌ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا بشَىْء، ففعلت ذلك ثلاثًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا، قَالَ: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (اذْهَبْ، فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: (هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) .

(7/266)


وترجم له: (باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن النكاح على سورة من القرآن مسماة جائز، وقالوا: معنى ذلك أن يعلمها تلك السورة، هذا قول الشافعى. وقال آخرون: لا يكون تعليم القرآن مهرًا، هذا قول مالك، والليث، وأبى حنيفة، وأصحابه، والمزنى، إلا أن أبا حنيفة، قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز، وهو فى حكم من لم يسم لها مهرًا، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وقال الشافعى: قوله عليه السلام: (التمس شيئًا) ، أو: (هل عندك شىء) ، ثم قال: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، يدل أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن وسورة منه مهرًا؛ لأن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا؛ لأنه التمس الصداق بالإزار وخاتم الحديد ثم بتعليم القرآن. قال: ولا فائدة لذكر القرآن فى الصداق غير ذلك، واحتج عليه الطحاوى، فقال: قوله عليه السلام: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، خاص للنبى (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز لغيره، وذلك أن الله أباح لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ملك البضع بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد غيره؛ لقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50] ، فكان له عليه السلام مما خصه الله من ذلك أن يملك غيره ما كان له ملكه بغير صداق، فيكون ذلك خاصًا له كما قال الليث: لا يجوز لأحد بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يتزوج بالقرآن، والدليل على صحة ذلك أنها قالت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : قد وهبت نفسى لك، فقام الرجل، فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها،

(7/267)


ولم يذكر فى الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاورها فى نفسها، ولا أنها قالت: زوجنى منه، فدل أنه عليه السلام كان له أن يهبها بالهبة التى جاز له نكاحها. فإن قيل: قد يحتمل أن يكون فى الحديث سؤال من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يزوجها منه، ولم ينقل فى الحديث. قيل: وكذلك يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل لها مهرًا غير السور، ولم ينقل فى الحديث، وليس أحد التأويلين أولى من صاحبه، ويحتمل وجهًا آخر أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) زوجها بما معه من القرآن لحرمته، وعلى وجه التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنه مهر بدليل ما روى فى الحديث من قوله: (أتقرؤهن عن ظهر قلب؟) ، قال: نعم، قال: (قد زوجتكها) ، فراعى فيه حرمة القرآن، كما زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا طلحة أم سليم على إسلامه، ولم يكن إسلامه مهرًا لها فى الحقيقة، وإنما معنى تزويجها على إسلامه، أى أنه تزوجها لإسلامه. قال غيره: ويحتمل أن يريد بقوله: (ولو خاتمًا من حديد) ، تعجيل شىء يقدمه من الصداق، وإن كان قليلاً كقوله: (بعها ولو بضفير) ، والدليل على أنه أراد تعجيل شىء من الصداق أنه كان يجوز أن يزوجه على مهر يكون فى ذمته، وكان من عادتهم أن يقدموا شيئًا من الصداق؛ لأنه لم تجر عادتهم فى وقته، عليه السلام، فى المهور إلا بالشىء الثقيل، وإذا احتمل هذا كله لم يجعل أصلاً فى استباحة الفروج بالشىء الحقير الذى لا يعدمه أحد ولا بمهر مجهول. قال الطحاوى: والدليل على أنه لم يتزوجها على أن يعلمها السورة عوضًا من بضعها، أنا رأينا النكاح إذا وقع على مهر مجهول

(7/268)


لم يثبت المهر، ورد حكم المرأة إلى حكم من لم يسم لها مهر، فاحتيج المهر أن يكون معلومًا كما تكون الأثمان فى البياعات معلومة، وكما تكون الأجرة فى الإجارات معلومة، وكان الأصل المجتمع عليه لو أن رجلاً استأجر رجلاً على أن يعلمه سورة من القرآن سماها بدرهم أن ذلك لا يجوز، وكذلك إذا استأجره على أن يعلمه شعرًا بعينه بدرهم لم يجز؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا على أحد معنيين، إما على عمل بعينه مثل غسل ثوب بعينه أو خياطته، وإما على وقت معلوم، لابد أن يكون الوقت معلومًا كما يكون العمل معلومًا، وكان إذا استأجره على تعليم سورة، فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلمه، وقد يتعلم بقليل التعليم وكثيره، وفى قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعانى التى ذكرناها فى الإجارات، وإذا كان التعليم لا تملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر ألا تملك به الأبضاع، والله الموفق.
31 - باب الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، قَالَ: حَدَّثَنِى، فَصَدَقَنِى، وَوَعَدَنِى فَوَفَانِى. / 44 - فيه: عُقْبَةَ بْن عامر، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) .

(7/269)


اختلف العلماء فى الرجل يتزوج المرأة ويشرط لها ألا يخرجها من دارها، ولا يتزوج عليها ولا يتسرى وشبه ذلك من الشروط المباحة. قال ابن المنذر: فقالت طائفة: يلزمه الوفاء بما شرط من ذلك. ذكر عبد الرزاق، وابن المسيب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً شرط لزوجته ألا يخرجها، فقال عمر: لها شرطها. وقال: المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم. وقال عمرو بن العاص: أرى أن تفى لها بشرطها. وروى مثله طاوس، وجابر بن زيد، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق؛ لقول عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولقوله عليه السلام: (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) ، وحملوا الحديث على الوجوب. وقالت طائفة: لا يلزمه شىء من هذه الشروط. روى ابن وهب، عن الليث، عن عمرو ابن الحارث، عن كثير بن فرقد، عن ابن السباق، أن رجلاً تزوج امرأة على عهد عمر، وشرط لها ألا يخرجها من دارها، فوضع عنه عمر بن الخطاب الشرط، وقال: المرأة مع زوجها. وعن على بن أبى طالب مثله، وقال: شرط الله قبل شروطهم، ولم يره شيئًا. وممن هذا مذهبه عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعى، وابن سيرين، وربيعة، وأبو الزناد، وقتادة، والزهرى، وهو قول مالك، والليث، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقال عطاء: إذا شرطت أنك لا تنكح ولا تتسرى ولا تذهب ولا تخرج بها، يبطل الشرط إذا نكحها. وحملوا حديث عقبة على الندب، واستدلوا على ذلك بقوله عليه السلام فى صهره: (حدثنى فصدقنى، ووعدنى فوفى لى) ،

(7/270)


قالوا: وإنما استحق المدح؛ لأنه وفى له متبرعًا ومتطوعًا لا فيما لزمه الوفاء به على سبيل الفرض. قال ابن المنذر: وأصح ذلك قول من أبطل الشرط وأثبت النكاح، لقوله عليه السلام فى قصة بريرة: (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فأجاز البيع وأبطل الشرط، فلما أبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الشروط ما ليس فى كتاب الله، كان من اشترط شروطًا خلاف كتاب الله أولى أن تبطل. من ذلك أن الله أباح للرجال أن ينكحوا أربعًا، وأباح للرجل وطء ما ملكت يمينه؛ لقوله: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) [المؤمنون: 6] ، فإذا شرطت عليه الزوجة تحريم ما أحل الله له بطل الشرط وثبت النكاح. ولما كان للمرء إذا عقد نكاح امرأة أن ينقلها حيث يصلح أن تنقل إليه مثلها، ويسافر بها، كان اشتراطها عليه كارهًا غير أحكام المسلمين فى أزواجهم، وذلك غير لازم للزوج، فأما معنى قوله عليه السلام: (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) ، فيحتمل أن تكون المهور التى أجمع أهل العلم أن على للزوج الوفاء بها، ويحتمل أن يكون ما شرط على الناكح فى عقد النكاح مما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإذا احتمل الحديث معان كان ما وافق ظاهر كتاب الله وسنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى، وقد أبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كل شرط ليس فى كتاب الله، وهذا أولى معنييه. قال المؤلف: فإن كان فى شىء من هذه الشروط ليس بطلاق أو

(7/271)


عتق وجب عليه ولزمه عند مالك والكوفيين، وعند كل من يرى الطلاق قبل النكاح بشرط النكاح لازمًا، وكذلك العتق، وهو قول عطاء، والنخعى، والجمهور. قال النخعى: كل شرط فى نكاح فالنكاح يهدمه إلا الطلاق، ولا يلزم شىء من هذه الأيمان عند الشافعى؛ لأنه لا يرى الطلاق قبل النكاح لازمًا ولا العتق قبل الملك، واحتج بقوله: (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل) ، ومعناه ليس فى حكم الله وحكم رسوله لزوم هذه الشروط لإباحة الله تعالى أربعًا من الحرائر وإباحته ما شاء بملك اليمين، وإباحته أن يخرج بامرأته حيث شاء، فكل شرط يحظر المباح فهو باطل.
32 - باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى النِّكَاحِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لا تَشْتَرِطِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا. / 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) . قال ابن حبيب: لم يبلغ العلماء بالشروط المكروهة إلى التحريم، وحملوا قوله عليه السلام: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، على الندب، لا إن فعل ذلك فاعل يكون النكاح مفسوخًا، وإنما هو استحسان من العمل به، وفضل فى ترك ما كره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال الطحاوى: أجاز مالك، والكوفيون، والشافعى، أن يتزوج المرأة

(7/272)


على أن يطلق زوجته، وقالوا: إن تزوجها على ألف وأن يطلق زوجته، فعند الكوفيين النكاح جائز، فإن وفى بما قال فلا شىء عليه غير الألف، وإن لم يف أكمل لها مهر مثلها. وقال ربيعة، ومالك، والثورى: لها ما سمى لها وفى أو لم يف. وقال الشافعى: لها مهر المثل وفى أو لم يف. قال المؤلف: فإن قيل: قوله عليه السلام: (لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها) ، على ما ثبت فى هذا الباب يدل أن رواية من روى: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، يراد به التحريم والتحتم، وليس معناه الندب كما قال ابن حبيب، وأن الطلاق إذا وقع بذلك غير لازم. قيل له: ليس كما توهمت، وليس إعلامه عليه السلام لنا تحريم ذلك على المرأة بموجب أن الطلاق إذا وقع غير لازم، وإنما فيه النهى للمرأة والتغليظ عليها ألا تسأل طلاق أختها، ولترض بما قسم الله لها، وليس سؤالها ذلك بزائد فى رزقها شيئًا لم يقدر لها. ودل نهيه عليه السلام المرأة عن اشتراطها طلاق أختها أن الطلاق إذا وقع بذلك ماض جائز، ولئن لم يكن ماضيًا لم يكن لنهيه عليه السلام عن ذلك معنى، وكان اشتراطها ذلك كلا اشتراطها، وقد تقدم فى كتاب الشروط، فى باب الشروط فى الطلاق شىء فى هذا المعنى.
33 - باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ
/ 46 - فيه: أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف جَاءَ إِلَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَبِهِ صُفْرَةٍ،

(7/273)


فَسَأَلَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ، قَالَ: (كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟) ، قَالَ: وَزْن نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . وفى الباب حديث أنس: أولم النبى، عليه السلام، بزينب وأوسع المسلمين خبزًا. . . الحديث. وليس يتعلق بشىء من الترجمة، وفى رواية النسفى: فيه باب قال المهلب: اختلف لفظ حديث أنس فى ذكر الصفرة، فروى: وبه أثر الصفرة. وروى: وبه وضر صفرة. وروى: فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) بشاشة العروس فسأله. وقد روى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى وحميد، عن أنس، فقالا فيه: وبه ردع من زعفران، فعلم أن تلك الصفرة مما التصق بجسمه من الثياب المزعفرة التى تلبسها العروس. قال المهلب: وقيل: إن من كان ينكح فى أول الإسلام كان يلبس ثوبًا مصبوغًا بصفرة علامة العرس والسرور، ألا ترى قوله فى هذا الحديث: فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) بشاشة العروس، ذكره فى باب قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) [النساء: 4] ، وقيل: إنما كان يلبسها ليعينه الناس على وليمته ومؤنته، وقد قال ابن عباس: أحسن الألوان كلها الصفرة؛ لقوله تعالى: (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) [البقرة: 69] ، فقرن السرور بالصفرة، وكان عليه السلام يحب الصفرة، ألا ترى قول ابن عمر حين سئل عن صبغه بها، فقال: إنى رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يصبغ بالصفرة، فأنا أصبغ بها وأحبها، وسيأتى من أحب الصفرة ومن كرهها من العلماء فى كتاب اللباس، إن شاء الله.

(7/274)


وهذا الحديث يدل أن نهيه عليه السلام الرجال عن المزعفر ليس على وجه التحريم، وإنما ذلك فى وجه دون وجه.
34 - باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
/ 47 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَأَى عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالَ: إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . وإنما أراد بهذا الباب، والله أعلم، رد قول العامة عند العروس: بالرفاء والبنين على ما كانت تقول الجاهلية عند ذلك، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى أن يقال ذلك للمتزوج من حديث عقيل بن أبى طالب، ذكره أبو عبيد والطبرى. فأدخل فى هذا الباب دعاء النبى، عليه السلام، بالبركة للمتزوج، وحديث عقيل رواه أشعث، عن الحسن، عن عقيل بن أبى طالب، أنه تزوج امرأة من بنى جشم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم بارك لهم وعليهم) . قال الطبرى: إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل، وقد حدث به عن الحسن غير الأشعث، فلم يرفعه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: والذى أختار من الدعاء ما صحت به الرواية عن النبى، عليه السلام، أنه قال: إذا رفأ الرجل بتزويج قال: بارك الله لك وبارك عليك، ورواه الدراوردى، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وغير محظور الزيادة على ذلك.

(7/275)


35 - باب الدُّعَاءِ لِلنِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ
/ 48 - فيه: عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأنْصَارِ فِى الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. قال المؤلف: قد روى هذا الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: شهد النبى (صلى الله عليه وسلم) إملاك رجل من الأنصار، فقال: (على الألفة والخير والطير الميمون والسعة فى الرزق، بارك الله لكم) . وروى يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، قال: دعوت يونس بن يزيد إلى عرسى فسمعته يقول: سمعت ابن شهاب فى عرس لصاحبه يقول: بالجد الأسعد والطائر الأيمن. وزوج ابن عمر بنته سودة من عروة بن الزبير، فقال: قد زوجتكها، جمع الله ألفتكما على طاعته وطاعة رسوله.
36 - باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
/ 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمْ يَبْنِ بِهَا) . قال المهلب: تمام الحديث: (أو رجل بنى دارًا ولم يسكنها) .

(7/276)


وفيه من الفقه: وجوب استثبات البصائر فى الغزو والحض على جمع الكلمة والنيات؛ لأن الكلمة إذا اجتمعت واختلفت النيات كان ذريعة إلى اختلاف ذات البين، وقد جعل الله الخذلان فى الاختلاف، وجعل الاعتصام فى الجماعة، فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) [آل عمران: 103] ، فلما كان قلب الرجل معلقًا بابتنائه بأهله أو ببنيان يخشى فساده قبل تمامه أو يحب الرجوع إليه ولم يوثق بثباته عند الحرب فقطعت الذريعة فى ذلك.
37 - باب الْبِنَاءِ فِى السَّفَرِ
/ 50 - فيه: أَنَس، أَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أَمَرَ بِالأنْطَاعِ، فَأُلْقِىَ فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. قال المهلب: فيه من الفقه جواز البناء فى السفر كما ترجم. وفيه: جواز بقاء المسافرين على العالم والسلطان اليومين والثلاثة،

(7/277)


وليس ذلك من الحابس ظلمًا لهم ولا قطعًا بهم عن سفرهم؛ لأن الثلاثة الأيام سفر وما زاد فهو حضر، فإن حبس الرئيس جنده أكثر من ثلاثة فى حاجة عرضت له خشى عليه الإثم والحرج. وفيه: أن البقاء مع الثيب عند اليناء بها ثلاثًا سنة مؤكدة فى السفر والحضر من أجل حبس النبى، عليه السلام، الجيش ثلاثة أيام ليأتى على الناس علم ذلك. وفيه: جواز إبطال الاشتغال لإجابة الدعوة وإقامة سنة النكاح؛ لأنهم أبطلوا سفرهم لإقامة ابتناء النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك يلزم أهل المتزوج وإخوانه عونه على نكاحه، وإن قطع ذلك بهم عن بعض أشغالهم، وفيه الحكم بالدليل.
38 - باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلا نِيرَانٍ
/ 51 - فيه: عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَلَمْ يَرُعْنِى إِلا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضُحًى. السنة فى النكاح الإعلان، وكلما زاد الإعلان بمركب واجتماع أو نيران فهو أتم، وإلا فالإعلان كاف فى ذلك، وقد ذكر فى هذا الحديث اجتماع فى غير هذا الطريق اجتماع نساء الأنصار عند إدخالها بيتها ودعائهن لها بالبركة وعلى خير طائر، والمراد من اجتماع النساء الإعلان بالنكاح، وقد يجوز أن يبتنى الرجل بأهله بغير إعلان إذا كان النكاح قبل ذلك معروفًا، قاله المهلب.

(7/278)


39 - باب الأنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
/ 52 - فيه: جَابِر، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (هَلِ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا) ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ، قَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ) . قال المهلب: فيه من علامات النبوة؛ لأنه عليه السلام أخبر بما يكون فكان. وفيه: جواز اتخاذ شورة البيوت للنساء. وفيه: دليل أن الشورة للمرأة دون الرجل، وأنها عليها فى المعروف من أمر الناس القديم؛ لأن النبى، عليه السلام، إنما قال ذلك لجابر؛ لأن أباه ترك سبع بنات، فقام عليهن جابر وشورهن بعد أبيه وزوجهن.
40 - باب النِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ
/ 53 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ النِّبِىُ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الأنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ) . اتفق العلماء على جواز اللهو فى وليمة النكاح، مثل ضرب الدف

(7/279)


وشبهه ما لم يكن محرمًا، وخصت الوليمة بذلك ليظهر النكاح وينتشر فتثبت حقوقه وحرمته. قال مالك: لا بأس بالدف والكبر فى الوليمة؛ لأنى أراه خفيفًا، ولا ينبغى ذلك فى غير العرس، وقد سئل مالك عن اللهو يكون فيه البوق، فقال: إن كان كبيرًا مشهرًا فإنى أكرهه، وإن كان خفيفًا فلا بأس بذلك. قال أصبغ: ولا يجوز الغناء فى العرس ولا فى غيره إلا مثلما فعل نساء الأنصار أو رجز خفيف مثلما كان من جواب الأنصار، وسأذكر اختلاف العلماء فى اللهو واللعب فى الوليمة فى باب هل يرجع إذا رأى منكرًا فى الدعوة بعد هذا، إن شاء الله.
41 - باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
/ 54 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَقَالَتْ لِى أُمُّ سُلَيْمٍ: لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَدِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا: افْعَلِى، فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِى بُرْمَةٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِى إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لِى: (ضَعْهَا) ، ثُمَّ أَمَرَنِى، فَقَالَ: (ادْعُ لِى رِجَالا - سَمَّاهُمْ - وَادْعُ لِى مَنْ لَقِيتَ) ، قَالَ: فَفَعَلْتُ الَّذِى أَمَرَنِى فَرَجَعْتُ، فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ، وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ

(7/280)


لَهُمُ: (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ) ، قَالَ: حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا، فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ، وَبَقِىَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نَحْوَ الْحُجُرَاتِ، وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَإِنِّى لَفِى الْحُجْرَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ) [الأحزاب: 53] الآية. قال المهلب: فيه الهدية للعروس من أجل أنه مشغول بأهله ومانع لها عن تهيئة الطعام واستعماله، فلذلك استحب أن يهدى لهم طعام من أجل اشتغالهم عنه بأول اللقاء كما كان هذا المعنى فى الجنائز لاشتغالهم بالحزن حتى كان ذلك الطعام يسمى تعزية. وفيه: أن من سنة العروس إذا فضل له طعام أن يدعو له من خف عليه من إخوانه، فيكون زيادة فى الإعلان بالنكاح وسببًا إلى صالح دعاء الآكلين ورجاء البركة بأكلهم. وفيه: من أعلام النبوة، وهو أكل القوم الكثير من الطعام القليل. وفيه: أنه لا بأس بالصبر على الأذى من الصديق والجار والمعرفة، والاستحياء منه لاسيما إذا لم يقصد الأذى، وإنما كان عن جهل أو غفلة، فهذا أولى أن يستحيى منه لذلك.

(7/281)


42 - باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا لِلْعَرُوسِ
/ 55 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ. . . . الحديث. قال المهلب: إنما استدل البخارى، والله أعلم، على جواز استعارة الثياب للعروس لاستعارة عائشة القلادة من أسماء لتتزين بها للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى سفره، فكأن استعارة الثياب للعروس لتتزين بها إلى زوجها أولى، ويحتمل أن تكون عائشة ذلك الوقت قريبة عهد بعرس. وفيه من الفقه: جواز السفر بالعارية وإخراجها إذا أذن فى ذلك صاحبها، أو يعلم أنه يسمح بمثل هذا. وفيه: النهى عن إضاعة المال. وفيه: حبس المسافرين لحاجة تخص الرئيس والعالم. وفيه: استخدام الرئيس والسيد لأصحابه فيما يهمه شأنه؛ لأن أسيد بن حضير وغيره خرجا فى طلب القلادة.
43 - باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
/ 56 - فيه: ابْن عَبَّاس، قال النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِى أَهْلَهُ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِى الشَّيْطَانَ،

(7/282)


وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِى ذَلِكَ، أَوْ قُضِىَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) . قال المهلب: فيه أن الدعاء يصرف البلاء ويعتصم به من نزعات الشيطان وأذاه. قال الطبرى: فإذا قال ذلك عند جماع أهله كان قد اتبع سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ورجونا له دوام الألفة، وينبغى أن يفعل ذلك عند إتيانه مملوكته مثل الذى ينبغى أن يفعله عند إتيانه زوجته، إذ يمكن أن يحدث بينهما ولد. قال المهلب: واختلف العلماء فى هذا الضرر المدفوع بهذا الدعاء من الشيطان ما هو؟ فقال قوم: إنه الطعن الذى يطعن الشيطان المولود عند الولادة الذى عصم منه عيسى، عليه السلام، فطعن شيطانه فى الحجاب لما استعاذت منه أمه. وقيل: هو ألا يصرع ذلك المولود الذى يذكر اسم الله عليه ويستعاذ من الشيطان عند جماع أمه، وكلا الوجهين جائز، والله أعلم بالأولى منهما، ولا يجوز أن يكون الضرر الذى يكفاه من الشيطان كل ما يجوز أن يكون من الشيطان، فلو عصم أحد من ضرر الشيطان لعصم منه النبى، عليه السلام، وقد اعترض عليه فى الصلاة والقراءة.
44 - بَاب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ
وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) .

(7/283)


/ 57 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ فَقْدَمَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أُمَّهَاتِى يُوَاظِبْنَنِى عَلَى خِدْمَةِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّىَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِى مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا. . . . . الحديث. قوله: (الوليمة حق) ، يعنى أن الزوج يندب إليها وتجب عليه وجوب سنة وفضيلة، ولا أعلم أحدًا أوجبها فرضًا، وإنما هى على قدر الإمكان والوجود لإعلان النكاح، وفى حديث أنس فى الباب الذى بعد هذا أنه عليه السلام أولم على زينب بشاة، وفى حديث آخر عن أنس أنه، عليه السلام، أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا فى وليمة زينب. وقد روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: لقد بلغنى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يولم بالوليمة ما فيها خبز ولا لحم، وهذه الوليمة كانت على صفية بنت حيى فى السفر مرجعه من خيبر، قيل لأنس: فبأى شىء أولم؟ قال: بسويق وتمر.
45 - بَاب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
/ 58 - وفيه: أَنَس، أَن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نزل عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، لما نزل فَقَالَ: أُقَاسِمُكَ مَالِى، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَىَّ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَتَزَوَّجَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) .

(7/284)


/ 59 - وفيه: أَنَس، مَا أَوْلَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى شَىْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. / 60 - وفيه: أَنَس: أَنَّ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ. / 61 - وفيه: أَنَس، بَنَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِامْرَأَةٍ، فَأَرْسَلَنِى، فَدَعَوْتُ رِجَالا إِلَى الطَّعَامِ. قال المهلب: اختلاف فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الولائم المختلفة يدل على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا أنها إنما تجب على قدر اليسار والوجود فى الوقت، وليس قوله لعبد الرحمن: (أولم ولو بشاة) منعًا لما دون ذلك، وإنما جعل الشاة غاية فى التقليل لعبد الرحمن ليساره وغناه، وأنها مما يستطيع عليها ولا يجحفه، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أولم على صفية وليمة حيس ليس فيها خبز ولا لحم، وأولم على غيرها بمدين من شعير، ولو وجد حينئذ شاة لأولم بها؛ لأنه كان أجود الناس وأكرمهم. وفى حديث عبد الرحمن بن عوف استحباب الذبح فى الولائم لمن وجد ذلك. وفيه أن الوليمة قد تكون بعد البناء؛ لأن قول النبى (صلى الله عليه وسلم) له: (أولم ولو بشاة) ، كان بعد البناء، وإنما معنى الوليمة إشهار النكاح وإعلانه، إذ قد تهلك البينة، قاله ربيعة، ومالك فى كتاب ابن المواز، فكيفما وقع الإشهار جاز النكاح. قال ابن وضاح: الحيس التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق.

(7/285)


وقول أنس: بعثنى النبى، عليه السلام، فدعوت رجالاً إلى الطعام، فيه أن لصاحب الوليمة أن يبعث الرسل فيمن يحضر وليمته، وإن لم يتول ذلك بنفسه.
46 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
/ 62 - فيه: أَنَس، مَا رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ على زينب، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. كل من زاد فى وليمته فهو أفضل؛ لأن ذلك زيادة فى الإعلان واستزادة من الدعاء بالبركة فى الأهل، والمال، وليس فى الزيادة فى الوليمة سرف لمن وجد، وإنما السرف لمن استأصل ماله وأجحف بأكثره، وهذا معنى السرف فى كل حال مثل الطيب من الطعام والثياب للجمعة والأعياد وشبه ذلك.
47 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ
/ 63 - فيه: صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَوْلَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. قد تقدم قبل هذا أن الوليمة إنما تجب على قدر الوجود واليسار، وليس فيها حد لا يجوز الاقتصار على دونه، وهذا يدل على أنها ليست بفرض؛ لأن الفروض من الله ورسوله مقدرة مبينة. وفيه: إجابة الدعوة إلى الوليمة وإن كان المدعو إليه قليلاً حقيرًا.

(7/286)


48 - بَاب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ
وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ / 64 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسُول، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ، فَلْيَأْتِهَا) . / 65 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام: (فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِىَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ) . / 66 - وفيه: الْبَرَاءُ، أَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، منها إِجَابَةِ الدَّاعِى. . . الحديث. / 67 - وفيه: سَهْلِ، دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى عُرْسِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ. اتفق العلماء على وجوب إجابة الوليمة، واختلفوا فى غيرها من الدعوات، فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجب إتيان وليمة العرس، ولا يجب إتيان غيرها من الدعوات. وقال الشافعى: إتيان وليمة العرس واجبة، ولا أرخص فى ترك غيرها مثل النفاس والختان وحادث سرور، من تركها ليس بعاص كالوليمة. وقال أهل الظاهر: إجابة كل دعوة فيها طعام واجب، واحتجوا بحديث أبى موسى، وحديث البراء، أن النبى، عليه السلام، قال: (أجيبوا الداعى) ، وقالوا: هذا عام فى كل دعوة، وتأول مالك والكوفيون قوله، عليه السلام: (أجيبوا الداعى) ، يعنى فى العرس خاصة، بدليل حديث ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا دعى أحدكم إلى الوليمة

(7/287)


فليأتها) ، قالوا: وحديث ابن عمر مفسر فيه بيان وتفسير ما أجمل، عليه السلام، فى قوله: (أجيبوا الداعى) ، والمفسر يقضى على المجمل. قال ابن حبيب: وقد استحبت الوليمة أكثر من يوم، وأولم ابن سيرين ثمانية أيام، ودعى فى بعضها أبى بن كعب، وكره قوم ذلك أيامًا، وقالوا: اليوم الثانى فضل، والثالث سمعة. وأجاب الحسن رجلاً دعاه فى اليوم الثانى، ثم دعاه فى الثالث فلم يجبه، وفعله ابن المسيب، وقال ابن مسعود: نهينا أن نجيب من يرائى بطعامه. وقول من أباحها بغير توقيت أولى؛ لقول البخارى، رحمه الله: ولم يوقت النبى (صلى الله عليه وسلم) يومًا ولا يومين، وذلك يقتضى الإطلاق ومنع التحديد إلا بحجة يجب التسليم لها، ولم يرخص العلماء للصائم فى التخلف عن إجابة الوليمة. وقال الشافعى: إذا كان المجيب مفطرًا أكل وإن كان صائمًا دعا. واحتج بحديث ابن سيرين، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل) ، يعنى فليدع. وفعله ابن عمر ومد يده، وقال: بسم الله كلوا، فلما مد القوم أيديهم، قال: كلوا فإنى صائم. وقال قوم: ترك الأكل مباح وإن لم يصم إذا أجاب الدعوة، وقد أجاب على بن أبى طالب فدعا ولم يأكل. وقال مالك فى كتاب ابن المواز: أرى أن يجيب فى العرس وحده إن لم يأكل أو كان صائمًا. والحجة له حديث سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دعى أحدكم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) .

(7/288)


49 - باب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
/ 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الأغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) . هذا الحديث موقوف على أبى هريرة، إلا أن قوله: (عصى الله ورسوله) ، يقضى برفعه، وقد أخرجه أهل التصنيف فى المسند كما أخرجوا حديث ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وحديث أبى الشعثاء، عن أبى هريرة، أنه رأى رجلاً خارجًا من المسجد بعد الأذان، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) ، ومثل هذا لا يكون رأيًا، وإنما يكون توقيفًا. وهذا الحديث حجة فى وجوب إجابة دعوة الوليمة، ولا خلاف فى ذلك بين الصحابة والتابعين إلا ما روى عن ابن مسعود أنه قال: نهينا أن نجيب من يدعو الأغنياء ويترك الفقراء، وقد دعا ابن عمر فى دعوته الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش والمساكين معهم، فقال ابن عمر للمساكين: هاهنا اجلسوا لا تفسدوا عليهم شأنهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون. قال ابن حبيب: ومن فارق السنة فى وليمة فلا دعوة له ولا معصية فى ترك إجابته، وقد حدثنى المغيرة أنه سمع سفيان الثورى يقول: إنما تفسير إجابة الدعوة إذا دعاك من لا يفسد عليك دينك وقلبك. وحدثنى على بن معبد، عن بقية بن الوليد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، قال: إذا اتخذت النجد وخص الغنى وترك الفقير أمرنا ألا نجيب. وحدثنى المغيرة، عن

(7/289)


الثورى، عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أنه كان يقول: أنتم العاصون فى الدعوة تدعون من لا يأتى وتدعون من يأتيكم، يعنى بمن لا يأتى الأغنياء، ومن يأتيهم الفقراء. وليس يحرم الطعام بدعوة الأغنياء وترك الفقراء، وإنما المحرم فعل صاحب الطعام فيه إذا تعمد ذلك، والله أعلم.
50 - بَاب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ
/ 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) . قال المهلب: معناه التواضع وترك التكبر والاستئلاف بقبول اليسير والإجابة إليه؛ لأن الهدية تؤكد المحبة، وكذلك الدعوة إلى الطعام لا تبعث إلى ذلك إلا صحت محبة الداعى وسروره بأكل المدعو إليه من طعامه والتحبب إليه بالمؤاكلة وتوكيد الذمام معه بها، فلذلك حض النبى (صلى الله عليه وسلم) على قبول التافه من الهدية، وإجابة النذر من الطعام.
51 - بَاب إِجَابَةِ الدَّاعِى فِى الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ
/ 70 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا) . وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَأْتِى الدَّعْوَةَ فِى الْعُرْسِ، وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ. هذا الحديث حجة لمن أوجب إجابة الوليمة وغيرها فرضًا،

(7/290)


وقد تقدم أن إجابة الدعوة فى غير العرس عند مالك والكوفيين مندوب إليها، وروى ابن وهب، عن مالك أنه سئل عن الرجل يحضر الصنيع فيه اللهو، قال: ما يعجبنى للرجل ذى الهيبة أن يجيب الدعوات؛ لأن فى ذلك بذلة ومخالطة لمن لا يشاكله. وسُئل عن الدعوة فى الختان، فقال: ليس تلك من الدعوات، وإن أجاب فلا بأس.
52 - بَاب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ
/ 71 - فيه: أَنَس، أَبْصَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ مُمْتَنًّا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ) . قال المهلب: فيه استحسان شهود النساء والصبيان للأعراس؛ لأنها شهادة لهم عليها، ومبالغة فى الإعلان بالنكاح. وقال أبو الحسن بن القابسى: قوله: ممتنًا، يعنى متفضلاً عليهم بذلك؛ لأن الأنصار أحب الناس إليه، فقال أنس: هو عليه السلام ممتن علينا بمحبته وتخصيصه.
53 - بَاب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِى الدَّعْوَةِ
وَرَأَى ابَنْ مَسْعُودٍ صُورَةً فِى الْبَيْتِ فَرَجَعَ، وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ، فَرَأَى فِى الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ، فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ وَاللَّهِ لا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ.

(7/291)


/ 72 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ) ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ؛ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ الْمَلائِكَةُ) . قال المؤلف: هذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز الدخول فى الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله عنه ورسوله، وما كان مثله من المناكير، ألا ترى أنه عليه السلام رجع من بيت عائشة حين رأى النمرقة بالتصاوير، وقد جاء الوعيد فى المصورين أنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأنه يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. فلا ينبغى حضور المنكر والمعاصى ولا مجالسة أهلها عليها؛ لأن ذلك إظهار للرضا بها، ومن كثر سواد قوم فهو منهم، ولا يأمن فاعل ذلك حلول سخط الله وعقابه عليهم وشمول لعنته لجميعهم، وقد روى ابن وهب، عن مالك، أنه سُئل عن الرجل يدعى إلى الوليمة وفيها شراب أيجيب الدعوة؟ قال: لا؛ لأنه أظهر المنكر. وقال الشافعى: إذا كان فى الوليمة خمر أو منكر وما أشبهه من المعاصى الظاهرة نهاهم، فإن نحوه وإلا رجع، وإن علم أن ذلك عندهم لم أحب له أن يجيب.

(7/292)


واختلفوا فى اللهو واللعب يكون فى الوليمة، فقال الليث: إذا كان فى الوليمة الضرب بالعود واللهو، فلا ينبغى أن يشهدها. قال ابن القاسم: وإن كان فيها لهو كالمزامير والعود فلا يدخل. وذكر ابن المواز، عن مالك، قال: إذا رأى أحدًا من اللاعبين فليخرج، مثل أن يجعل ضاربًا على جبهته أو يمشى على حبل. فقال ابن وهب، عن مالك: لا أحب لذى الهيبة أن يحضر اللعب، قيل له: فالكبر والمزمار وغيره من اللهو ينبا لك سماعه وتجد لذته وأنت فى طريق أو مجلس؟ قال: فليقم عن ذلك المجلس. وقد رجع ابن مسعود من لهو سمعه فى وليمة، وقال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من كثر سواد قوم فهو منهم) ، وقد مر ابن عمر براع يزمر، فجعل أصبعيه فى أذنيه ومشى، وجعل يقول لنافع: أتسمع شيئًا؟ قال: لا، فنحى يديه ثم قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فسمع زمارة راع، ففعل مثل ما فعلت. وقال أبو حنيفة: إذا حضر الوليمة فوجد فيها اللعب، فلا بأس أن يقعد ويأكل. وروى أن الحسن وابن سيرين كانا فى جنازة وهناك نوح، فانصرف ابن سيرين، فقيل ذلك للحسن، فقال: إن كنا ما رأينا باطلاً تركنا حقًا، أسرع ذلك فى ديننا. واحتج الكوفيون فى إجازة حضور اللعب بأن النبى، عليه السلام، قد رأى لعب الحبشة ووقف له وأراه عائشة، وضرب عنده فى العيد بالدف والغناء، فلم يمنع من ذلك، وحجة من كرهه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما لم يدخل البيت الذى فيه الصورة التى نهى عنها فكذلك كل ما كان مثلها من المناكير.

(7/293)


54 - بَاب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِى الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ
/ 73 - فيه: سَهْلٍ، لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، دَعَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابَهُ، فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، إِلا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ، بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِى تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الطَّعَامِ، أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ، تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ. فيه: خدمة العروس زوجها وأصحابه فى عرسها. وفيه: أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه ويستخدمهن لهم. وفيه: شرب الشراب الذى لا يسكر فى العرس، وأن ذلك من الأمر المعروف القديم. وترجم له باب النقيع والشراب الذى لا يسكر فى العرس. وفى كتاب العين: مثت الملح فى الماء ميثًا: أذابته، وقد انماث.
55 - بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ
وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ) . / 74 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ، إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيهَا عِوَجٌ) . قال المهلب: المداراة أصل الألفة واستمالة النفوس من أجل ما جبل الله

(7/294)


عليه خلقه وطبعهم من اختلاف الأخلاق، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (مداراة الناس صدقة) ، وعرفنا فى هذا الحديث أن سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن من رام إقامة ميلهن عن الحق، فأراد تقويمهن عدم الانتفاع بهن وصحبتهن لقوله عليه السلام: (إن أقمتها كسرتها) ، ولا غنى بالإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معايشه ودنياه، فلذلك قال عليه السلام: (إن الاستمتاع بالمرأة لا يكون إلا بالصبر على عوجها) .
56 - باب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ
/ 75 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِى جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) . / 76 - وفيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا نَتَّقِى الْكَلامَ وَالانْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) هَيْبَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا شَىْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا. قال المهلب: الوصاة بالنساء يدل على أنه لا يستطاع تقويمهن على ما سلف فى الحديث قبل هذا الباب، وإنما هو تنبيه منه عليه السلام وإعلام بترك الاشتغال بما لا يستطاع، والتأنيس بالأجر بالصبر على ما يكره، وفى هذا الحديث أنه يجب أن تتقى عاقبة الكلام الجافى والمقاومة، والبلوغ إلى ما تدعو النفس إليه من ذلك إذا خشى سوء عاقبته، وإن لم يخش ذلك فله أن يبلغ غاية ما يريد مما يحل له الكلام فيه.

(7/295)


57 - بَاب قوله تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]
/ 77 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رعيته، وَالإمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِىَ مَسْئُولَةٌ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عنه، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ) . قال المهلب: هذا الحديث مفسر للآية التى ترجم بها؛ لأنه أخبر عليه السلام أن الرجل مسئول عن أهله، وإذا كان كذلك فواجب عليه أن يعلمهم ما يقيهم به النار. قال زيد بن أسلم: لما نزلت هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ، قالوا: يا رسول الله، هذا وقينا أنفسنا، فكيف بأهلينا؟ قال: (تأمرونهم بطاعة الله وتنهوهم عن معاصى الله) ، وذكر ذلك عن على.
58 - بَاب حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الأهْلِ
/ 78 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا، قَالَتِ الأولَى: زَوْجِى لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ، قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِى لا أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّى أَخَافُ أَنْ لا أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ،

(7/296)


قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِى الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ، قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِى كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لا حَرٌّ، وَلا قُرٌّ، وَلا مَخَافَةَ، وَلا سَآمَةَ، قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِى إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِى إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلا يُولِجُ الْكَفَّ؛ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ، قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِى غَيَايَاءُ - أَوْ عَيَايَاءُ - طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ، أَوْ جَمَعَ كُلا لَكِ، قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِى الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ، قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِى رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ. قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِى مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، قَلِيلاتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِى أَبُو زَرْعٍ، وَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِىٍّ أُذُنَىَّ، وَمَلأ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَىَّ، وَبَجَّحَنِى فَبَجِحَتْ إِلَىَّ نَفْسِى، وَجَدَنِى فِى أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِى فِى أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ، أُمُّ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِى زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا ابْنُ أَبِى زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ؟ لا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلا تَمْلأ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا.

(7/297)


قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِىَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِى وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَىَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِى مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ: كُلِى أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِى أَهْلَكِ، قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَىْءٍ أَعْطَانِيهِ، مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِى زَرْعٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ لى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كُنْتُ لَكِ كَأَبِى زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ) . / 79 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ. قال المهلب: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة وضرب الأمثال بها، والتأسى بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبى زرع بحسن عشرته، فتمثله النبى، عليه السلام. وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير، جاز تذكيرهن بالإحسان، وفيه فى قصة الحبشة أن تفسير حسن المعاشرة هو الموافقة والمساعدة على الإرادة غير المحرمة، والصبر على أخلاق النساء والصبيان فى غير المحرم من اللهو، وإن كان الصابر كارهًا لما يحبه أهله.

(7/298)


وقال أبو عبيد: سمعت أهل العلم يقولون فى تفسير هذا الحديث: قول الأولى: لحم جمل غث، تعنى المهزول. وقال أبو سعيد النيسابورى: ليس شىء من الغثات من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من الجمل؛ لأنه يجمع خبث طعم وخبث ريح. قال أبو عبيد: على رأس جبل، تصف قلة خيره وبعده مع القلة كالشىء فى قمة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة، لقولها: لا سهل فيرتقى، تعنى الجبل، ولا سمين فينتقى، تعنى اللحم، ومن روى: فينتقل، تريد ليس بسمين فينقله الناس إلى بيوتهم فيأكلونه. وقول الثانية: زوجى لا أبث خبره، إنى أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجزه وبجره، فالعجر أن ينعقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد، والبجر نحوها، إلا أنها فى البطن خاصة، واحدها بجرة، ومنه قيل: رجل أبجر، إذا كان عظيم البطن، وامرأة بجراء، يقال: لفلان بجرة، إذا كان ناتئ السرة عظيمها. وقال أبو سعيد النيسابورى: لم يأت أبو عبيد بالمعنى، وإنما عنت أن زوجها كثير العيوب فى أخلاقه، منعقد النفس عن المكارم. قال المؤلف: وفيه تفسير آخر. قال ثعلب فى العجر والبجر: ومنه قول على يوم الجمل: إلى الله أشكو عجرى وبجرى، أى همومى وأحزانى. وقول الثالثة: زوجى العشنق، العشنق الطويل، قاله الأصمعى، تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقنى، وإن سكت تركنى معلقة لا أيم ولا ذات بعل، ومنه قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) [النساء: 129] . وقال أبو سعيد:

(7/299)


الصحيح غير ما ذكر أبو عبيد، العشنق من الرجال الطويل النجيب الذى ليس أمره إلى امرأته، وأمرها إليه، فهو يحكم فيها بما شاء وهى تخافه. وقول الرابعة: زوجى كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة، تقول: ليس عنده أذى ولا مكروه، وتهامة اسم مكة، الحر فيها بالنهار شديد وليلها معتدل بين الحر والبرد، ولذلك خصته بهذا المثل؛ لأن الحر والبرد كلاهما فيه أذى إذا اشتد ولا مخافة، تقول: ليس عنده غائلة ولا شر أخافه ولا سآمة، تقول: لا يسأمنى فيمل صحبتى. وقول الخامسة: زوجى إن أكل لف، فإن اللف فى المطعم الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منه شىء، والاشتفاف فى المشرب أن يستقصى ما فى الإناء ولا يسؤر فيه سؤرًا، وإنما أخذ من الشفافة وهى البقية تبقى فى الإناء من الشراب، وقولها: ولا يولج الكف ليعلم البث، فأحسبه كان بجسدها عيب أو داء تكتئب له، والبث هو الحزن، فكان لا يدخل يده فى ثوبها ليمس ذلك العيب فيشق عليها، تصفه بالكرم. وقول السادسة: زوجى غياياء، أو عياياء، فأما غياياء بالغين، فليس بشىء، إنما هو بالعين، والعياياء من الإبل، الذى

(7/300)


لا يضرب ولا يلقح، وكذلك هو فى الرجال، والطباقاء الغبى الأحمق الفدم. قال أبو على: وحكى بعضهم فى تفسير الطباقاء من الرجال، الثقيل الصدر الذى يطبق صدره على صدر المرأة عند المباضعة. وقال يعقوب: هو الذى لا يتجه لشىء. وفسره الخليل بأنه الغبى الأحمق، وقولها: كل داء له داء، أى كل شىء من أدواء الناس فهو فيه ومن أدوائه. وقول السابعة: زوجى إذا دخل فهد، فإنها تصفه بكثرة النوم والغفلة فى منزله على وجه المدح له، وذلك أن الفهد كثير النوم، يقال: أنوم من فهد، والذى أرادت أنه ليس يتفقد ما ذهب من ماله، ولا يلتفت إلى معايب البيت، وما فيه كأنه ساه عن ذلك، ومما يبينه قولها: ولا يسأل عما عهد، تعنى عما كان عندى قبل ذلك. وقولها: إن خرج أسد، تصفه بالشجاعة فى الحروب، يقال: أسد الرجل واستأسد بمعنى. وقول الثامنة: زوجى المس مس أرنب، فإنها تصفه بحسن الخلق، ولين الجانب كمس الأرنب إذا وضعت يدك على ظهرها. وقولها: والريح ريح زرنب، فإن فيه معنيين، قد تكون تريد طيب ريح جسده، ويمكن أن تريد طيب الثناء فى الناس وانتشاره فيهم كريح الزرنب، وهو نوع من أنواع الطيب معروف. وقول التاسعة: زوجى رفيع العماد، فإنها تصفه بالشرف وسناء

(7/301)


الذكر، وأصل العماد عماد البيت وجمعها عمد، وهى العيدان التى تعمد بها البيوت، وإنما هذا مثل تعنى أن بيته فى حسبه رفيع فى قومه. وقولها: طويل النجاد، فإنها تصفه بامتداد القامة، والنجاد حمائل السيف، فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله، وهذا مما يمتدح به الشعراء. وقولها: عظيم الرماد، فإنها تصفه بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيرها، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد كثيرًا. وقولها: قريب البيت من النادى، تعنى أنه ينزل بين ظهرانى الناس ليعلموا مكانه، فينزل به الأضياف، ولا يستبعد منهم ولا يتوارى فرارًا من نزول الأضياف والنوائب. وقول العاشرة: زوجى مالك، وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، تقول: إنه لا يوجههن ليسرحن نهارًا إلا قليلاً، ولكنهن يبركن بفنائه، فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه، ولكنها بحضرته فيقريه من ألبانها ولحومها. وقولها: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، فالمزهر العود الذى يضرب به، فأرادت المرأة أن زوجها قد عود إبله إذا نزل به الضيف أن ينحر لهم ويسقيهم الشراب ويأتيهم بالمعازف، فإذا سمعت الإبل ذلك الصوت أيقن أنهن منحورات. قال أبو سعيد: إن كن لا يسرحن إلا قليلاً من النهار ثم تُحبس فى المبارك سائر النهار، فهى هالكة هزالاً، وإن كن يسرحن بالليل فقد ضاع أضياف الليل، والتفسير أن مسارحها قليلة لقلة الإبل، وكثرت مباركها بالفناء لكثرة ما تثار فتحلب ثم تترك، فالقليلة إذا فعل بها هذا كثرت مباركها. وقوله: المزهر العود فنحن ننكره؛ لأن العرب

(7/302)


كانوا لا يعرفون العود إلا من خالط الحضر منهم، والعود إنما أحدث بمكة والمدينة، والذى نذهب إليه أنه المزهر، وهو الذى يزهر النار للأضياف والطراق، فإذا سمعت صوت ذلك وحسه أيقنت بالعقر. وقول الحادية عشرة: زوجى أبو زرع، وما أبو زرع، أناس من حلى أذنى، تريد حلانى قرطة وشنوفًا ينوس بأذنى، والنوس الحركة من كل شىء متدل، يقال منه: قد ناس ينوس نوسًا وأناسه غيره إناسة. قال أبو عبيد: وأخبرنى ابن الكلبى أن ذا نواس ملك اليمن إنما سمى بهذا لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقيه. وقولها: ملأ من شحم عضدى، لم ترد العضد خاصة، وإنما أرادت الجسد كله، تقول: إنه أسمننى بإحسانه إلىّ، فإذا سمن العضد سمن سائر الجسد. وقولها: بجحنى فبجحت، أى فرحنى ففرحت. وقد بجح الرجل يبجح، إذا فرح. وقولها: وجدنى فى أهل غنيمة بشق، والمحدثون يقولون: بشق، فمن قال بشق فهو موضع، تعنى أن أهلها كانوا أصحاب غنم، ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل، قالت: فجعلنى فى أهل صهيل وأطيط، أى فى أصحاب خيل وإبل؛ لأن الصهيل أصوات الخيل والأطيط أصوات الإبل. وقولها: دائس ومنق، فإن بعض الناس يتأوله دياس الطعام، وأهل الشام يسمونه الدراس، وأهل العراق يقولون: دائس الطعام، ولا أظن واحدة من هاتين الكلمتين من كلام العرب. وأما قول

(7/303)


المحدثين: منق، فلا أدرى معناه، وأحسبه منق من تنقية الطعام، وأرادت أنهم أصحاب زرع. وقال أبو سعيد: الدياس الطعام الذى أهله فى دياسة، وعندهم من الطعام مقتنى، فخيرهم متصل. وقال غيره: قوله: منق، هو مأخوذ من نقنقة الدجاجة، يقال: أنق الرجل، إذا اتخذ دجاجة تنقنق، تقول: فجعلنى فى أهل طير، أى نقلنى من قفر إلى عمران. قال أبو عبيد: وقولها: فلا أقبح، أى فلا يقبح على قولى، يقبل منى، وأما التقمح من الشراب فهو مأخوذ من الناقة المقامح. قال الأصمعى: وهى التى ترد الماء فلا تشرب. قال أبو عبيد: وأحسب قولها: أتقمح، أروى حتى أدع الشرب من شدة الرى. قال أبو عبيد: ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء عندهم، وكل رافع رأسه فهو مقامح وقامح، وفى التنزيل: (إلى الأذقان فهم مقمحون) [يس: 8] ، وبعض الناس يروونه فأتقنح، بالنون ولا أعرف هذا الحرف، ولا أراه إلا بالميم. وقال أبو سعيد: أشرب فأتقنح، هو الشرب على رسل لكثرة اللبن؛ لأنها ليست بناهبة غيرها الشرب، وإنما ينتهب ما كان قليلاً يخاف عجزه، وقول الرجل لصاحبه إذا حثه على أن يأكل أو يشرب: والله لتقمحنه، والتقمح الازدياد من الشرب. وقال ابن السكيت فى التقنح بالنون الذى لم يعرفه أبو عبيد أتقنح: أقطع الشراب. قال أبو زيد: قال الكلابيون: قنحت تقنح قنحًا، وهو التكاثر فى الشراب بعد الرى. وقال أبو حنيفة: يقال: قنحت من الشراب قنحًا، وقنحت أقنح قنحًا، تكارهت عليه بعد الرى،

(7/304)


والغالب تقنحت والترنح كالتقنح. قال أبو عبيد: وقولها: عكومها رداح، فالعكوم الأعدال والأحمال التى فيها الأوعية من صنوف الأطعمة من جميع المتاع، واحدها عكم، والرداح العظيمة، تقول: هى عظيمة الحشو. وقولها: كمسل شطبة، والشطبة أصلها ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه، وذلك أن تشق منه قضبان دقاق تنسج منه الحصر، يقال منه للمرأة التى تفعل ذلك شاطبة، وجمعها شواطب، فأخبرت المرأة أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة، وهو مما يمدح به الرجل. وقال أبو سعيد: كمسل شطبة، أى كسيف مسلول، شبهته بذى شطب يمان، وسيوف اليمن كلها شطبة. قال أبو عبيد: وقولها: وتشبعه ذراع الجفرة، فالجفرة الأنثى من أولاد الغنم، والذكر جفر، والعرب تمدح الرجل بقلة الأكل والشرب، قال الأعشى: تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروى شربه الغمر وقولها: لا تبث حديثنا تبثيثًا، ويروى تنث بالنون، وأحدهما قريب المعنى من الآخر، أى لا تظهر سرنا. وقولها: ولا تنفث ميرتنا تنفيثًا، تعنى الطعام، لا تأخذه

(7/305)


فتذهب به، تصفها بالأمانة، والتنفث الإسراع فى السير. وقال أبو سعيد: التنفيث إخراج ما فى منزل أهلها إلى الأجانب، وهو النفث والتنفث، والفاء والثاء يتعاقبان. قال أبو عبيد: والأوطاب أسقية اللبن، واحدها وطب. وقال أبو سعيد النيسابورى: هذا منكر فى العربية أن يكون فعل يجمع على أفعال، لا يقال: كلب وأكلاب، ولا وجه وأوجاه، وإنما الصحيح الأوطب فى القلة والأوطاب فى الكثرة. قال أبو عبيد: قالت: فلقى امرأة معها ولدان كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، تعنى أنها ذات كفل عظيم، فإذا استقلت نأى الكفل بها من الأرض حتى تصير تحت خصرها فجوة يجرى فيها الرمان. قال أبو عبيد: وبعض الناس يذهب بالرمانتين أنهما الثديان، وليس هذا بموضعه. قالت: فطلقنى ونكحها، ونكحت بعده رجلاً سريًا ركب شريًا، تعنى الفرس أنه يستشرى فى سيره، أى يلج ويمضى فيه بلا فتور ولا انكسار، ومن هذا قيل للرجل إذا لج فى الأمر: قد شرى فيه واستشرى.

(7/306)


قال ابن السكيت: ركب فرسًا شريًا، أى خيارًا، من قولهم: هذا من سراة المال أى خياره. قال أبو عبيد: وقولها: أخذ خطيا، تعنى الرمح، سمى خطيا لأنه يأتى من بلاد من ناحية البحرين، يقال لها: الخط، فنسبت الرماح إليها، وإنما أصل الرماح من الهند، ولكنها تحمل إلى الخط فى البحرين ثم يفرق منها فى البلاد. وقولها: نعمًا ثريا، تعنى الإبل، والثراء الكثير من المال وغيره. قال الكسائى: يقال: قد ثرى بنو فلان بنى فلان يثرونهم، إذا كثروهم فكانوا أكثر منهم.
59 - بَاب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا
/ 80 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ، عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على رسول اللَّه. . . وساق الحديث. وَقَالَ عُمَر: وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأنْصَارِ، إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأنْصَارِ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى، فَرَاجَعَتْنِى، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى، قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ إلى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَىْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الْيَوْمَ

(7/307)


حَتَّى اللَّيْلِ؟ فقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَهْلِكِى، لا تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلا تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ، وَلا تَهْجُرِيهِ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ، وَلا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ، أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، يُرِيدُ عَائِشَةَ. . . وذكر الحديث. قال المهلب: فيه الترجمة. وفيه بذل الرجل المال لابنته لتحسن عشرتها مع زوجها؛ لأن ذلك صيانة لعرضه وعرضها، وبذل المال لصيانة العرض واجب. وفيه: تعريض الرجل لابنته بترك الاستكثار من الزوج إذا كان ذلك يؤذيه ويحرجه. وفيه: سؤال العالم عن بعض أمور أهله إذا كان فى ذلك سنة تنقل ومسألة تحفظ، وإن كان فيه عليه غضاضة وإن كان من سره. وفيه: توقير العالم عما يخشى أن يحسمه والمطل بذلك حتى يخشى فواته، فإذا خشى ذلك جاز للطالب أن يفتش عما فيه غضاضة وعما لا غضاضة فيه. وفيه: إجابة العالم فى ابنته وفى امرأته بما سلف لها من خطأ وما ضلت فيه من سنة. وفيه: سؤال العالم فى الخلوات وفى موضع التبرز لاسيما إذا كان فى شىء من أمر نسائه وأسراره لا يجب أن يسأل عن ذلك فى جماعة الناس ويترقب المواضع الخالية. قال الطبرى: وفيه الدلالة الواضحة على أن الذى هو أصلح

(7/308)


للمرء وأحسن به الصبر على أذى أهله والإغضاء عنهم، والصفح عما يناله منهن من مكروه فى ذات نفسه دون ما كان فى ذات الله، وذلك للذى ذكره عمر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من صبره على ما يكون إليه منهن من الشر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأذاهن له وهجرهن له. ولم يذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه عاقبهن على ذلك، بل ذكر أن عمر هو الذى وعظهن عليه دون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبنحو الذى ذكر عمر من خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تتابعت الأخبار عنه، وإلى مثله ندب أمته عليه السلام. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى) ، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر النساء، فقال: (علام يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ولعله يضاجعها من يومه) . فإن قال قائل: فإن كان الفضل فى الصبر على أذاهن واحتمال مكروههن فما وجه الخبر الذى روى ابن أبى ليلى، عن داود بن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال: (علق سوطك حيث تراه الخادم) ، وحديث محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر، قال رجل: يا رسول الله، أوصنى، قال: (أخف أهلك ولا ترفع عنهم عصاك) .

(7/309)


قيل: قد اختلف العلماء فى ذلك، فقال بعضهم: هذه أحاديث لا يجوز الاحتجاج بها لوهاء أسانيدها، وأفضل ما تخلق به الرجل فى أهله الصفح عنهن على ما صح به الخبر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال آخرون بتصحيح هذه الأخبار، ثم اختلفوا فى معناها، فقال بعضهم: معنى ذلك أن يضرب الرجل امرأته إذا أراد منها ما تكره فيما يجب عليها فيه طاعته، واعتلوا بأن جماعة من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) والتابعين كانوا يفعلون ذلك. روى عن جرير، عن مغيرة، عن أم موسى، قال: كانت ابنة على بن أبى طالب تحت عبد الله بن أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فربما ضربها فتجىء إلى الحسن بن على تشتكى، وقد لزق درع حرير بجسدها من الضرب، فيقسم عليها لترجعن إلى بيت زوجها. وروى أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: كنت رابعة أربع نسوة تحت الزبير، فكان إذا عتب على إحدانا فك عودًا من المشجب فضربها به حتى يكسره عليها. وروى شعبة، عن عمارة، قال: دخلت على أبى مجلز، فدار بينه وبين امرأته كلام، فرفع العصا فشجها قدر نصف أنملة أصبعه. وكان محمد بن عجلان يحدث بقوله، عليه السلام: (لا ترفع عصاك عن أهلك) ، فكان يشترى سوطًا فيعلقه فى قبته لتنظر إليه امرأته وأهله. وقال آخرون: بل ذلك أمر من النبى، عليه السلام، بأدب أهلهم

(7/310)


ووعظهم، وألا يخلو من تفقدهم بما يكون لهن مانعًا من الفساد عليهم والخلاف لأمرهم. قالوا: وذلك من قول العرب: شق فلان عصا المسلمين، إذا خالف ألفتهم وفارق جماعتهم. قالوا: ومن ذلك قيل للرجل إذا أقام بالمكان واستقر به واجتمع إليه أمره: قد ألقى فلان عصاه، وضرب فيه أرواقه. وأما ضربها لغير الهجر فى المضجع، فغير جائز له ذلك، بل محرم عليه، قالوا: وقد حرم الله أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فكذلك ضربهن بغير ما اكتسبن حرام، والصواب أنه غير جائز لأحد ضرب أحد ولا أذاه إلا بالحق، لقوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) [الأحزاب: 58] ، سواء كان المضروب امرأة وضاربها زوجها، أو مملوكًا وضاربه مولاه، أو صغيرًا وضاربه والده، أو وصى لأبيه عليه؛ لأن الله أباح لهؤلاء ضرب من ذكرنا بالمعروف، على ما فيه صلاحهم. وأما قوله عليه السلام للذى قال له: أوصنى، قال: (لا تضع عصاك عن أهلك وأخفهم فى الله) ، فمعناه عندى بخلاف قول من وجهه إلى أنه أراد به وعظ أهله، وإنما ذلك حض منه، عليه السلام، على ترهيب أهله فى ذات الله بالضرب؛ لئلا يركبوا موبقة ويكسبوا سيئة باقيًا عليه عارها، إذ كان النبى، عليه السلام، قد جعله قيمًا على أهله وراعيًا عليهن، كما جعل الأمير راعيًا على رعيته، وعلى الراعى سياسة رعيته بما فيه صلاحهم دنيا ودينًا. والدليل على أن قوله، عليه السلام: (لا تضع عصاك عن أهلك. . .) ،

(7/311)


هو ما قلنا، قوله عليه السلام لفاطمة بنت قيس: (أما أبو جهل، فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأعلمها بذلك غلظته على أهله وشدته عليهم، فلو كان معناه: (لا تضع عصاك عن أهلك) ، لا تخلهم من تأديبك بالوعظ والتذكير عند الترهيب بالضرب عند ركوبها ما لا يحل لها، لم يكن لتزهيده، عليه السلام، فاطمة فى أبى جهم بما وصفه به من ترك وضع عصاه عن أهله معنى، إذ كان الوعظ والتذكير لا يوجبان لصاحبهما ذما. وقد جاء هذا المعنى بينًا فى بعض الروايات: روى شعبة، عن أبى بكر بن أبى الجهم، قال: دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس، فحدثنا بحديثها، وأن النبى، عليه السلام، قال لها: أبو جهم يضرب النساء، أو فيه شدة على النساء، فمعنى قوله عليه السلام فى أبى جهم: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، يعنى فى الحق والباطل وفيما يجب وفيما لا يجب. ومن كان كذلك، فلا شك أنه غير متبع قوله عليه السلام: (لا تضع عصاك عن أهلك) ؛ لأنه عليه السلام لا يأمر بضرب أحد من غير حق، بل ذلك مما نهى عنه، عليه السلام، بقوله: (اتقوا الله فى النساء، فإنهن عندكم عوان) . وفيه: أن لذى السلطان وغيره اتخاذ حجبة تحول بينه وبين من أراده، ومن الوصول إليه إلا بإذنه لهم؛ لقول عمر: والنبى عليه السلام فى مشربة له وعلى بابه غلام أسود. وفيه: بيان أن ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن له بواب أن معناه لم

(7/312)


يكن له بواب فى الأوقات التى يظهر فيها، عليه السلام، لحاجات الناس، ويبرز لهم فيها، فأما فى الأوقات التى كان يخلو بنفسه فيها فيما لابد له منه، فإنه قلما كان يتخذ فيها أحيانًا بوابًا وحاجبًا ليعلم من قصده أنه خال بما لابد له منه من قضاء حاجة، وتلك هى الحال التى وصف عمر أنه وجد على باب مشربته بوابًا، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب الأحكام فى باب ما ذكر أن النبى، عليه السلام، لم يكن له بواب. قال المهلب: وفيه أن للإمام والعالم أن يحتجب فى بعض الأوقات عن بطانته وخاصته عندما يطرقه ويحدث عليه من المشقة مع أهله وغيرهم حتى يذهب ما بنفسه من ذلك ليلقى الناس بعد ذلك، وهو منبسط إليهم غير مستنكر لما عرض له. وفى سكوته، عليه السلام، عن الإذن لعمر فى تلك الحال الرفق بالأصهار والحياء منهم عندما يقع للرجل مع أهله؛ لأنه لو أمر غلامه فرد عمر وصرفه لم يجز لعمر أن يتضرب مرة بعد أخرى حتى أذن له، عليه السلام، ودخل عليه، فدل ذلك أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام، وأفضل فى بعض الأحايين. قال الطبرى: وفيه الإبانة عن أن كل لذة وشهوة قضاها المرء فى الدنيا فيما له مندوحة عنها، فهو استعجال بذلك من نعيم الآخرة الذى لو لم يستعجله فى الدنيا كان مدخورًا له فى الآخرة، وذلك لقوله، عليه السلام، لعمر: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا) ، فأخبر أن ما أوتيه فارس والروم من نعيم الدنيا تعجيل من الله لهم نظير ما دخر لأهل ولايته عنده؛

(7/313)


فكره لأمته أن تؤتى مثل ما أوتى فارس والروم على سبيل التلذذ والتنعم، فأما على صرفه فى وجهه وتفريقه فى سبله التى أمر الله بوضعه فيها، فلا شك فى فضل ذلك وشرف منزلته، إذ هو من منازل الامتحان والصبر على المحن، مع أن الشكر على النعم أفضل من الصبر على الضراء وحدها. تفسير ما فيه الغريب: قوله: فتبرز، يعنى خرج إلى البراز، وهو ما برز عن البيوت والدور وبعد. وقوله: فسكبت على يديه ماء، يعنى صببت، يقال: سكبت أسكب سكبًا، وهو ماء سكوب، إذا سال. والعوالى جمع عالية، وهو ما ارتفع من نجد إلى تهامة، والسوافل ما يسفل من ذلك. وقوله: كنا نتناوب النزول، يعنى كنا نجعله نوبًا أنزل أنا مرة وينزل هو أخرى، ومن ذلك قيل: نابت فلانًا نائبة، إذا حدثت به حادثة، والنوب عند العرب، القرب. وقوله: تراجعنى الكلام، يعنى ترادنى الكلام، ومنه قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر) [الطارق: 8] ، قيل: عنى به رد الماء فى الصلب، وقيل: عنى به رد الإنسان إلى الصغر بعد الكبر، وقيل: عنى به رد الإنسان بعد مماته لهيئته قبل مماته. وقوله: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، يعنى ضرتك، والجارة عند العرب الضرة، ومنه قول حمل بن مالك:

(7/314)


كنت بين جارتين لى، يعنى ضرتين، ومنه قول ابن سيرين: كانوا يكرهون أن يقولوا ضرة، ويقولون: أنها لا تذهب من رزقها بشىء، ويقولون: جارة، والعرب تسمى صاحب الرجل وخليطه جاره والصاحبة والخليطة جارة، وتسمى زوجة الرجل جارته لاصطحابهما ومخالطة كل واحد منهما صاحبه، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة عند قوله عليه السلام: الجار أحق بصقبه. وقوله: أوضأ منك، يعنى أجمل منك، من الوضاءة، وهو الجمال. والمشربة الخزانة التى يكون فيها طعامه وشرابه، وقيل لها: مشربة، فيما أرى؛ لأنهم كانوا يخزنون فيها شرابهم، كما قيل للمكان الذى تطلع عليه الشمس وتشرق فيه: ضاحية مشرقة. وقوله: على رمال حصير، يقال: رملت الحصير: نسجته، وحصير مرمول: منسوج، والرمل: هو النسج، والراملة: الناسجة. وقوله: غير أهبة ثلاثة، هو جمع إهاب، وهو الجلد غير المدبوغ، يجمع أهبًا وأهبة.
60 - بَاب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا
/ 81 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ، إِلا بِإِذْنِهِ) . قال المهلب: هذا الصوم المنهى عنه المرأة إلا بإذن زوجها هو

(7/315)


صوم التطوع عند العلماء، كما ترجم به البخارى؛ لإجماعهم على أن الزوج ليس له أن يمنعها من أداء الفرائض اللازمة لها، وقوله، عليه السلام: (لا تصوم. . . إلا بإذنه) ، هو محمول على الندب لا على الإلزام، وإنما هو من حسن المعاشرة وخوف المخالفة التى هى سبب البغضة، ولها أن تفعل من غير الفرائض ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته بغير إذنه، وليس له أن يبطل عليها شيئًا من طاعة الله عز وجل، إذا دخلت فيه بغير إذنه. وفيه: حجة لمالك ومن وافقه فى أن من أفطر فى صيام التطوع عامدًا أن عليه القضاء؛ لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع ما احتاجت إلى إذنه، ولو كان مباحًا كان إذنه لا معنى له، وهو قول أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا قضاء عليها. وفيه: أن حقوق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير.
61 - بَاب إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
/ 82 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِىءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) . قال المهلب: هذا يوجب أن منع الحقوق كلها فى الأبدان كانت أو فى الأموال مما يوجب سخط الله تعالى، إلا أن يتغمدها بعفوه.

(7/316)


وفيه: جواز لعن العاصى المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه فإنه يدعى له بالتوبة والهداية. وفيه: أن الملائكة تدعوا على أهل المعاصى ما داموا فى المعصية، وذلك يدل أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها.
62 - بَاب لا تَأْذَنِ الْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا إِلا بِإِذْنِهِ
/ 83 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنَ فِى بَيْتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ) . قال المهلب: قوله: (لا تأذن فى بيت زوجها إلا بإذنه) ، يعنى لا لرجل ولا لامرأة يكرهها زوجها، فإن ذلك يوجب سوء الظن، ويبعث الغيرة التى هى سبب القطيعة، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (انظرن ما أخواتكن) ، وإن كان الإذن للنساء أخف من الإذن للرجال. فإن قيل: قد جاء لفظ حديث أبى هريرة مختلفًا، وذلك أنه ذكر فى كتاب الطلاق أنه قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره، فله نصف أجره) ، فهل يعارض قوله عليه السلام: (فإنه يؤدى إليه شطره) ، أم لا؟ قيل: لا تعارض بينهما، بل أحد اللفظين مفسر للآخر، وذلك أن هذا الحديث إنما ورد فى المرأة إذا تصدقت من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف مما تعلم أنه يسمح به ولا يتشاح به. وقوله: (فله نصف أجره) ، يفسر قوله: (يؤدى إليه شطره) ، يعنى يتأدى إليه من أجر الصدقة مثل ما يتأدى إلى المتصدق من الأجر، ويصيران فى الأجر نصفين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (الدال على الخير كفاعله) ، وهذا يقتضى المساواة.

(7/317)


63 - بَاب
/ 84 - فيه: أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: (قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع لله تعالى، وأن أبعد الأشياء من الجنة التكبر بالمال وغيره، وإنما صار أصحاب الجد محبوسون لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء فى أموالهم، فحبسوا للحساب عما منعوه، فأما من أدى حقوق الله فى أمواله، فإنه لا يحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل، إذ كثر شأن المال تضيع حقوق الله فيه؛ لأنه محنة وفتنة، ألا ترى قوله: (فكان عامة من دخلها المساكين) ، وهذا يدل أن الذين يؤدون حقوق المال ويسلمون من فتنتة هم الأقل، وقد احتج بهذا الحديث فى فضل الفقر على الغنى، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الزهد، إن شاء الله.
64 - بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ
/ 85 - فِيهِ: عَنْ أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 86 - وفيه: ابْن عَبَّاس، خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى وَالنَّاسُ مَعَهُ. . . . وذكر الحديث إلى قوله: (رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ) ،

(7/318)


قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) . / 87 - وفيه: عِمْرَانَ بن حصين، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) . قال المهلب: إنما استحق النساء النار بكفرانهن العشير من أجل أنهن يكثرن ذلك الدهر كله، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، قد فسره، فقال: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) ، لجازت ذلك بالكفران الدهر كله، فغلب استيلاء الكفران على دهرها، فكأنها مصرة أبدًا على الكفر، والإصرار من أكبر أسباب النار. وفى هذا الحديث تعظيم حق الزوج على المرأة، وأنه يجب عليها شكره والاعتراف بفضله؛ لستره لها وصيانته وقيامه بمؤنتها وبذله نفسه فى ذلك، ومن أجل هذا فضل الله الرجال على النساء فى غير موضع من كتابه، فقال: (الرجال قوامون على النساء بما فضل) [النساء: 34] الآية، وقال: (وللرجال عليهن درجة) [البقرة: 228] ، وقد أمر عليه السلام من أسديت إليه نعمة أن يشكرها، فكيف نعم الزوج التى لا تنفك المرأة منها دهرها كله؟ وقد قال بعض العلماء: شكر الإنعام فرض. واحتج بقوله عليه السلام: (من أسديت إليه نعمة فليشكرها) ، وبقوله: (أن اشكر لى ولوالديك) [لقمان: 14] ، فقرن بشكره شكر الآباء، قال: فكذلك

(7/319)


شكر غيرهم واجب، وقد يكون شكر النعمة فى نشرها، ويكون فى أقل من ذلك، فيجزئ فيه الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة. وفيه أن الكسوف والزلازل والآيات الحادثة إنما هى كما قال الله: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، وأمرهم عليه السلام عند رؤية آيات الله بالفزع إلى الصلاة، فدل أن الصلاة تصرف النقم، وبها يعتصم من المحن، إذ هى أفضل الأعمال.
65 - بَاب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
. / 88 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ) ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) . لما ذكر فى الباب قبل هذا حق الزوج على المرأة، ذكر فى هذا الباب حق المرأة على الزوج، وأنه لا ينبغى له أن يجحف نفسه فى العبادة حتى يضعف عن القيام بحق أهله من جماعها والكسب عليها. واختلف العلماء فى الرجل يشتغل بالعبادة عن حقوق أهله، فقال

(7/320)


مالك: إذا كف عن جماع أهله من غير ضرورة لا يترك حتى يجامع أو يفارق على ما أحب أو كره؛ لأنه مضار بها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يؤمر أن يبيت عندها ويفطر لها. وقال الشافعى: لا يفرض عليه من الجماع شىء بعينه وإنما تفرض لها النفقة والكسوة والسكنى، وأن يأوى إليها. وقال الثورى: إذا شكت المرأة أنه لا يأتيها زوجها له ثلاثة أيام ولها يوم وليلة، وبه قال أبو ثور. وقال ابن المنذر: وأعلى ما فى هذا الباب قول الثورى قياسًا على ما أباح الله للرجال من اتخاذ أربع نسوة. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن مالك بن مغول، عن الشعبى، قال: جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، زوجى خير الناس يصوم النهار ويقوم الليل، فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك، فقال كعب بن سوار: لقد اشتكت فأعرضت الشكية، فقال عمر: اخرج من مقالتك، قال: أرى أن ينزل بمنزلة رجل له أربع نسوة له ثلاثة أيام ولياليها، ولها يوم وليلة. وروى ابن عيينة، عن زكريا، عن الشعبى، أن عمر قال لكعب: فإذا فهمت ذلك فاقض بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، أحل الله من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلها من كل أربعة أيام يوم يفطر ويقيم عندها، ولها من كل أربع ليال ليلة يبيت عندها، فأمر عمر الزوج بذلك.

(7/321)


66 - بَاب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا
/ 89 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فى بَيْتِ زَوْجِهَا. . . . .) الحديث. كل من جعله الله أمينًا على شىء، فواجب عليه أداء النصيحة فيه، وبذل الجهد فى حفظه ورعايته؛ لأنه لا يسأل عن رعيته إلا من يلزمه القيام بالنظر لها وصلاح أمرها، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الأحكام، إن شاء الله تعالى.
67 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (إِلَى قَوْلِهِ: (واضربوهن) [النساء 34]
/ 90 - فيه: أَنَس، آلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَقَعَدَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فقَالَ: (الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن الله تعالى أباح هجران الأزواج عند نشوزهن، ورخص فى ذلك عند ذنب أو معصية تكون منهن. وقال أهل التفسير فى قوله تعالى: (واللاتى تخافون نشوزهن) [النساء: 34] ، يعنى معصيتهن لأزواجهن، وأصل النشوز الارتفاع، فنشوز المرأة ارتفاعها عن حق زوجها، ففسر النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار ذلك الهجران بإيلائه شهرًا حين أسر النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى حفصة، فأفشته إلى عائشة وتظاهرتا عليه.

(7/322)


قيل: إنه أصاب جاريته مارية فى بيت حفصة ويومها. وقال الزجاج: فى يوم عائشة، وسألها أن تكتمه، فأخبرت به عائشة. وقيل: إنه شرب عسلاً عند زينب، وذلك الهجران لا يبلغ به الأربعة الأشهر التى ضربها الله أجل إعذار للمؤالى، وأمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران بعد ذلك، فإن لم ينجعا فيها، فالضرب ولكن يكون الضرب غير مبرح، وقوله: (بما فضل الله بعضهم على بعض) [النساء: 34] ، يعنى بما فضل الله به الرجال من القوة على الكسب بالحرث وغيرها، وبما أنفقوا من أموالهم فى المهور وغيرها، فهذا يوجب نفقة الرجال على النساء.
68 - بَاب هِجْرَةِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، نِسَاءَهُ فِى غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ
وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، رَفْعُهُ: (لا تُهْجَرَ إِلا فِى الْبَيْتِ) وَالأوَّلُ أَصَحُّ. / 91 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، حَلَفَ لا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، غَدَا عَلَيْهِنَّ. . . . الحديث. / 92 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - فَصَعِدَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) - وَهُوَ فِى غُرْفَةٍ لَهُ - فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ،

(7/323)


ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَنَادَاهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: (لا، وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا) ، فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ. قال المهلب: هذا الذى أشار إليه البخارى من أن الهجران لا يكون إلا فى غير بيوت الزوجات من أجل ما فعله النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه انفرد عنهن فى وقت الهجران فى مشربة واعتزل بيوتهن، وكأنه أراد البخارى أن يستن الناس به فى هجر نسائهم لما فيه من الرفق بالنساء؛ لأن هجرانهن مع الكون فى بيوتهن آلم لأنفسهن وأوجع لقلوبهن، لما يتطرق إليه من العتاب والغضب والإعراض، ولما فى غيبة الرجل عن أعينهن من تسليتهن عن الرجال. وهذا الذى أشار إليه ليس بواجب؛ لأن الله قد أمر بهجرانهن فى المضاجع فضلاً عن البيوت. وقال غيره: إنما اعتزلهن فى غير بيوتهن؛ لأنه أنكى لهن وأبلغ فى عقوبتهن. وروى ابن وهب، عن مالك، قال: بلغنى أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء، فكان يغاضب بعضهن، فإذا كانت ليلتها جاء فبات عندها ولم يبت عند غيرها، وكان يفترش فى حجرتها فيبيت فيها، وتبيت هى فى بيتها. قلت لمالك: وذلك له واسع؟ قال: نعم، وذلك فى كتاب الله) واهجروهن فى المضاجع) [النساء: 34] . وقال ابن عباس: الهجران أن يكون الرجل وامرأته فى فراش واحد ولا يجامعها. وقال السدى: هجرها فى المضجع أن يرقد معها ويوليها ظهره، ويطأها ولا يكلمها. وقال ابن عباس نحوه، قال:

(7/324)


يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها. ذكره الطبرى، فيكون معنى الآية على هذا القول: قولوا لهن من القول هجرًا فى تركهن مضاجعتكم.
69 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاضْرِبُوهُنَّ (، أَىْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ
/ 93 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِى آخِرِ الْيَوْمِ) . قال بعض أهل العراق: فأمر الله بهجر النساء فى المضاجع وضربهن تذليلاً منه للنساء وتصغيرًا لهن على إيذاء بعولتهن، ولم يأمر فى شىء من كتابه بالضرب صراحًا إلا فى ذلك وفى الحدود العظام، فساوى معصيتهن لأزواجهن بمعصية أهل الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانًا من الله للأزواج على النساء. قال المهلب: وإنما يكره من ضرب النساء التعدى فيه والإسراف، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك، فقال: (ضرب العبد) ، فجعل ضرب العبد من أجل الرق فوق ضرب الحر لتباين حالتيهم، ولأن ضرب النساء إنما جوز من أجل امتناعها على زوجها فى المباضعة. واختلف فى وجوب ضربها فى الخدمة، والقياس يوجب إذا جاز ضربها فى المباضعة جاز فى الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف. وقوله: (ثم يجامعها ذلك اليوم) ، تقبيح من النبى (صلى الله عليه وسلم) للاضطراب

(7/325)


وقرب التناقض لقلة الرياضة لهن بذلك؛ لأن المرأة إذا عرفت قرب الرجعة وسرعة الفيئة لم تعبأ بإيذائه، ولا يقع فيها ما ندب الله إليه من رياضتها، ويدل على ذلك طول هجران النبى (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه المدة الطويلة، ولم يكن ذلك يومًا ولا يومين ولا ثلاثة، وكذلك كان هجران النبى (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه حتى مضت خمسون ليلة. وقال قتادة فى قوله: (ضربًا غير مبرح) ، قال: يعنى غير شائن، وقال الحسن: غير مؤثر. وقد تقدم فى باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها اختلاف العلماء فى ضرب النساء، واختلاف الآثار فى ذلك، وبيان مذاهبهم، والحمد لله.
70 - بَاب لا تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِى مَعْصِيَةٍ
/ 94 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِى أَنْ أَصِلَ فِى شَعَرِهَا، فَقَالَ: (لا، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاتُ) . قال المؤلف: واجب على المرأة ألا تطيع زوجها فى معصية، وكذلك كل من لزمته طاعة غيره من العباد، فلا تجوز طاعته له فى معصية الله تعالى، ويشهد لهذا قول النبى، عليه السلام، حين أمر على بعث أميرًا، وأمر الناس بطاعته، فأمرهم ذلك الأمير أن يقتحموا فى نار أججها لهم، فامتنعوا منها، وقالوا: لم ندخل

(7/326)


الإسلام إلا فرارًا من النار، فذكر ذلك للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (والله لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة فى المعروف) ، وصوب فعلهم، وقد روى عنه، عليه السلام، أنه قال: (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وقوله: (فتمعط شعرها) ، فالعرب تقول: معط الشعر وامعط معطًا إذا تمرط، ومعطته نتفته، والأمعط من الرجال السنوط. وقال أبو حاتم: الذئب يكنى أبا معطة، وفى كتاب العين: ذئب أمعط خبيث؛ لأن شعره تمعط فتأذى بالذباب.
71 - بَاب) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [النساء: 128]
/ 95 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (قَالَتْ: هِىَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا، فَيُرِيدُ طَلاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، وتَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِى وَلا تُطَلِّقْنِى، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِى، وَأَنْتَ فِى حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَىَّ، وَالْقِسْمَةِ لِى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128] . أجمع العلماء على جواز هذا الصلح، وكذلك فعلت سودة بالنبى (صلى الله عليه وسلم) حين وهبت يومها لعائشة تبتغى بذلك مرضاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، روى عكرمة عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها النبى، عليه السلام، قالت: لا تطلقنى واحبسنى مع نسائك ولا تقسم لى،

(7/327)


فنزلت: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا) [النساء: 128] ، قال ابن عباس: نشوزًا يعنى البغض. وقال مجاهد: نزلت فى أبى السنابل بن بعكك. واختلفوا هل ينتقض هذا الصلح، فقال عبيدة: هما على ما اصطلحا عليه، فإن انتقضت فعليه أن يعدل عليها أو يفارقها، وبه قال النخعى، ومجاهد، وعطاء. وحكى ابن المنذر أنه قول الثورى، والشافعى، وأحمد. وقال الكوفيون: الصلح فى ذلك جائز. وقال ابن المنذر: لا أحفظ عنهم فى الرجوع شيئًا. وقال الحسن البصرى: ليس لها أن تنقض، وهما على ما اصطلحا عليه. وقول الحسن: هو قياس قول مالك فيمن أنظره بالدين أو أعاره عارية إلى مدة، أنه لا يرجع فى ذلك، وقول عبيدة هو قياس قول أبى حنيفة، والشافعى؛ لأنها هبة منافع طارئة لم تقبض، فجاز فيها الرجوع.
72 - بَاب الْعَزْلِ
/ 96 - فيه: جَابِر، كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. / 97 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَصَبْنَا سَبْيًا، فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ قَالَهَا ثَلاثًا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا وَهِىَ كَائِنَةٌ) . اختلف السلف فى العزل، فذكر مالك فى الموطأ، عن سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن عباس، أنهم كانوا

(7/328)


يعزلون، وذكره ابن المنذر، عن على بن أبى طالب، وخباب بن الأرت، وجابر بن عبد الله، وقال: كنا نفعله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وروى ذلك عن جماعة من التابعين منهم ابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وجمهور العلماء. وكرهت طائفة العزل، ذكره ابن المنذر، عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعن على بن أبى طالب، رواية أخرى، وعن ابن مسعود، وابن عمر. وحجة من أباحه حديث جابر، وروى ابن أبى شيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى الزبير، عن جابر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن فى العزل، واحتجوا أيضًا بقوله: أو إنكم لتفعلون ذلك، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة، إلا وهى كائنة، قالوا: ولا يفهم من قوله عليه السلام: (أو إنكم لتفعلون ذلك) ، إلا الإباحة. ويشهد لذلك قوله فى آخر الحديث: (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة) ، يقول: قد فرغ من الخلق، فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن قدر أن يكون ولد لم يمنعه العزل؛ لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذى قدر الله أن يكون منه الولد، وقد يكون الاسترسال والإفضاء ولا يكون ولد، فالعزل والإفضاء سواء فى ألا يكون منه ولد إلا بتقدير الله، هذا معنى قول الطحاوى. قال: واحتج من كره العزل بما حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سعيد بن أبى أيوب، عن أبى الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل،

(7/329)


عن عروة، عن عائشة، قالت: حدثتنى جدامة بنت وهب الأسدية، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكر عنده العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفى) ، وأنكر الذين أباحوا العزل حديث جدامة. ورووا عن النبى، عليه السلام، إنكار ذلك. روى أبو داود: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبى كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبى رفاعة، وقال مرة: عن أبى مطيع بن رفاعة، عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن عندى جارية، وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل، وإن اليهود يقولون: هى الموءودة الصغرى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (كذبت يهود، لو أن الله أراد أن يخلقه لم يستطع أحد أن يصرفه) . قال الطحاوى: فهذا أبو سعيد قد حكى عن النبى إكذاب من زعم أن العزل موءودة، ثم قد روى عن على دفع ذلك والتنبيه على فساده بمعنى لطيف حسن، روى الليث، عن معمر بن أبى حبيبة، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال: تذاكر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم، فقال على: إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع، قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) [المؤمنون: 12] الآية، فعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا،

(7/330)


فأخبر على أنه لا يوأد إلا من قد نفخ فيه قبل ذلك، وما لم ينفخ فيه الروح موات غير موءود. وروى سفيان عن أبى الوداك أن قومًا سألوا ابن عباس عن العزل، فذكر مثل كلام على سواء. فهذا على وابن عباس قد اجتمعا على ما ذكرنا وتابعهما عمر، ومن كان يحضر من الصحابة، فدل على أن العزل غير مكروه، وذهب مالك، والشافعى، وجمهور العلماء، إلى أنه لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، فإن منعت زوجها لم يعزل. واختلفوا فى العزل عن الزوجة الأمة، فقال مالك والكوفيون: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها. وقال الثورى: لا يعزل عنها إلا بإذنها. وقال الشافعى: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها.
73 - بَاب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
/ 98 - فيه: عَائِشَةَ قالت: كَانَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِى وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ؟ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ، فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ فَجَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَىَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِى، وَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا. قال ابن القصار: إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه، فاختلف قول

(7/331)


مالك فى ذلك، فقال: ليس له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وقال مرة: له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة. ووجه القول الأول حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان إذا سافر أقرع بين نسائه، وفعله سنة لا يجوز العدول عنها. ووجه القول الثانى أن له ذلك بغير قرعة هو أن ضرورته فى السفر أشد منها فى الحضر، فيحتاج إلى من هى أرفق به من نسائه، وأعون له على أموره، وأقوى على الحركة، فلذلك جاز له بغير قرعة. قال المهلب: وفيه العمل بالقرعة فى المقاسمات والاستهام، وقد تقدم فى كتاب القسمة والشركة، وهو مذكور أيضًا فى آخر كتاب الشهادات والأيمان. وفيه: أن القسم يكون بالليل والنهار، وقد بان ذلك فى حديث عائشة، قالت: فكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، ذكره البخارى فى باب القرعة فى المشكلات فى آخر كتاب الشهادات، فى غير موضع. وفيه: أن الاستهام بين النساء من السنن وليس من الفرائض، يدل على ذلك أن مدة السفر لا تحاسب بها المتخلفة من النساء الغادية، بل يبتدئ القسم بينهن إذا قدم على سبيل ما تقدم قبل سفره، ولا خلاف بين أئمة الفتوى فى أن الحاضرة لا تقاضى المسافرة بشىء من الأيام التى انفردت بها فى السفر عند قدومه، ويعدل بينهن فيما يستقبل، ذكره ابن المنذر، عن مالك، والكوفيين، والشافعى، وأبى عبيد، وأبى ثور.

(7/332)


قال المهلب: وفى تحيل حفصة على عائشة فى بدل بعيرها فى الركوب دليل على أنه ليس من الفروض؛ لأن حفصة لا يحل لها من النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا ما أباحه لها وبذله من نفسه، وقد تحيلت ولم يبين لها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك لا يحل لها. وذكر ابن المنذر أن القسمة تجب بينهن كما تجب النفقة، وهذا يدل أن القسم بينهن فريضة، وقول أهل العلم يدل على ذلك، قال مالك: الصغيرة التى قد جومعت والكبيرة البالغ فى القسم سواء. وقال الكوفيون فى المرأة لم تبلغ إذا كان قد جامعها: أنها والتى قد أدركت فى القسم سواء، وهو قول أبى ثور. وقال الشافعى: إذا أعطاها مالاً على أن تحلله من يومها وليلتها فقبلت، فالعطية مردودة، وعليه أن يوفيها حقها. قال المهلب: ففيه أن دعاء الإنسان على نفسه عند الحرج وما شاكله يعفو الله عنه فى أغلب الحال؛ لقوله تعالى: (ولو يجعل الله للناس الشر) [يونس: 11] ، وفيه أن الغيرة للنساء مسموح لهن فيها وغير منكر من أخلاقهن، ولا معاقب عليها ولا على مثلها لصبر النبى، عليه السلام، لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها له: أرى ربك يسارع فى هواك، ولم يرد ذلك عليها ولا زجرها، وعذرها لما جعل الله فى فطرتها من شدة الغيرة.

(7/333)


74 - باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ
/ 99 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ. وقوله: وكيف يقسم ذلك، يريد أن تكون فيه الموهوبة بمنزلة الواهبة فى رتبة القسمة، فإن كان يوم سودة ثالثًا ليوم عائشة أو رابعًا أو خامسًا، استحقته عائشة على حسب القسمة التى كانت لسودة ولا تتأخر عن ذلك اليوم ولا تتقدم، ولا يكون ثالثًا ليوم عائشة إلا أن يكون يوم سودة بعد يوم عائشة. قال المهلب: وأجراه النبى (صلى الله عليه وسلم) مجرى الحقوق الواجبة، ولم يجره على أصل المسألة من الحكم فيه بما جعل الله له من ذلك بقوله تعالى: (وتئوى إليك من تشاء) [الأحزاب: 51] ، فأجراه مجرى الحقوق تفضلاً منه، عليه السلام، ليكون أبلغ فى رضاهن، كما قال الله تعالى: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) [الأحزاب: 51] ، أى لا يحزن إذا كان هذا منزلاً عليك من الله، ويرضين بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء. وقال قتادة فى قوله: (ترجى من تشاء منهن) [الأحزاب: 51] الآية، قال: هذا شىء خص الله به نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، وليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما بدا له من غير طلاق، وإذا شاء راجعها. قال غيره: وكان ممن آوى عائشة، وأم سلمة، وزينب، وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، وكان ممن أرجى سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء. واختلفوا فى كم يقسم لكل واحدة من نسائه، فقال ابن القاسم:

(7/334)


لم أسمع مالكًا يقول إلا يومًا لهذه ويومًا لهذه. وقال الشافعى: إن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، كان ذلك له، وأكره مجاوزة الثلاث من الغيرة. قال ابن المنذر: ولا أرى مجاوزة يوم، إذ لا حجة مع من تخطى سنة النبى، عليه السلام، إلى غيره، ألا ترى قولها فى الحديث: إن سودة وهبت يومها لعائشة، ولم يحفظ عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قسمه لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة أيام لجاز خمسة أيام ولجاز شهر، ثم يتخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز معارضة السنة. وكان مالك يقول: لا بأس أن يقيم الرجل عند أم ولده اليوم واليومين والثلاثة ولا يقيم عند الحرة إلا يومًا من غير أن يكون مضارًا، وكذلك قال الشافعى: يأتى الإماء ما شاء أكثر مما يأتى الحرائر الأيام والليالى، فإذا صار إلى الحرائر عدل بينهن.
75 - باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولو حرصتم) [النساء 129]
وقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء (، أى لن

(7/335)


تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم فى حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن فى ذلك؛ لأن ذلك مما لا تملكونه) ولو حرصتم (، يعنى ولو حرصتم فى تسويتكم بينهن فى ذلك. قال ابن عباس: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت. قال ابن المنذر: ودلت هذه الآية أن التسوية بينهن فى المحبة غير واجبة، وقد أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن عائشة أحب إليه من غيرها من أزواجه،) فلا تميلوا كل الميل) [النساء: 129] بأهوائكم حتى يحملكم ذلك أن تجوروا فى القسم على التى لا تحبون، وقوله: (فتذروها كالمعلقة) [النساء: 129] ، يعنى لا أيم ولا ذات بعل،) وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورًا رحيمًا) [النساء: 129] ، يقول: وإن تصلحوا فيما بينكم وبينهن بالاجتهاد منكم فى العدل بينهن وتتقوا الميل فيهن، فإن الله غفور لما عجزت عنه طاقتكم من بلوغ العدل منكم فيهن. وروى عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عائشة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقسم بين نسائه، ويقول: (اللهم إن ذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك) . وروى همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط) . قال الطحاوى: وكأن معنى هذا الحديث عندنا على الميل إليها بغير

(7/336)


إذن صاحبتها له فى ذلك، فأما إذا أذنت له فى ذلك وأباحته، فليس يدخل فى هذا المعنى كما فعلت سودة حين وهبت يومها لعائشة؛ لأن حقها إنما تركته بطيب نفسها، فهى فى حكمها لو لم يكن له امرأة غيرها.
76 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرِ عَلَى الثَّيِّب
/ 100 - فيه: أَنَس، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا. قال ابن عبد الحكم: لم يعن بهذا الحديث من ليست له امرأة، ثم تزوج أن يقيم عندها سبعًا أو ثلاثًا، ولكن أريد به من له امرأة، ثم تزوج عليها أخرى، فقال بعض العلماء: المراد بالحديث العموم، والمقام عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا واجب لهما، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ لأن السنة لم تخص من له زوجة ممن لا زوجة له. قال المؤلف: والقول الأول هو الصحيح، وقد بينه سفيان، عن أيوب، وخالد، عن أبى قلابة، عن أنس فى الباب بعد هذا، قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم؛ لأنه لا يقسم الذى يقيم عند الثيب ثلاثًا إلا من تقدم عنده زوجة أخرى أو أكثر. فبان بهذا الحديث أن المراد به من له زوجة ثم تزوج عليها أخرى. وروى ابن القاسم، عن مالك، أن مقامه عند البكر سبعًا، وعند

(7/337)


الثيب ثلاثًا إذا كان له امرأة أخرى واجب، وروى عنه ابن عبد الحكم أن ذلك مستحب وليس بواجب. قال ابن حبيب: ويخرج إلى حوائجه وصلاته بكرًا كانت أو ثيبًا، كانت له زوجة أخرى أم لا. وروى ابن أبى أويس، عن مالك، فيمن دخل على امرأته ليلة الجمعة أيتخلف عن الجمعة؟ قال: لا، تزوج أمير المؤمنين المهدى بالمدينة، فخرج إلى الصبح وغيرها. وروى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، قال: لا يتخلف العروس عن الجمعة ولا عن حضور الصلوات، وهو قول الشافعى. قال سحنون: وقد قال بعض الناس: لا يخرج، وذلك حق لها بالسنة. قال المؤلف: هذا على من تأول إقامته عند البكر والثيب على العموم، ومن رأى أن يخرج إلى الصلوات، فتأول إقامته عندها على ما يجب لها من القسمة والمبيت دون غيرها من أزواجه، فليس ذلك بمانع له من حضور الصلوات كما يفعل غير العروس فى قسمته بين نسائه، وليس له التخلف عن الجماعة. وقال المهلب: إنما خصت البكر بالسبع، والله أعلم، لما فى خلق الأبكار من الاستيحاش من الرجال والنفار عن مباشرتهم ولما يلقى الرجل من معالجتهن فى الوصول إليهن، وأما الثلاث للثيب فلسهولة أمرها وعلمها بمباشرة الرجال لم تحتج أن يفسح لها فى المدة بأكثر من ثلاث.

(7/338)


77 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ
/ 101 - فيه: أَنَس، إن مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا إذا كانت له امرأة أخرى أو أكثر على نص هذا الحديث، ثم يقسم بينهن ولا يقضى المتقدمات بدل ما أقام عند الجديدة، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، واحتجوا بحديث أنس. وقال ابن المسيب، والحسن: للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين، وهو قول الأوزاعى، قال: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام يومين. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم عند البكر إلا كما يقيم عند الثيب، وهما سواء فى ذلك، واحتجوا بحديث أم سلمة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت ودرت) ، قالت: ثلث ودر، قالوا: فلم يعطها فى السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطى غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن. قالوا: وكذلك قوله: (وإن شئت ثلثت ودرت) ، أى أدور مثلثًا أيضًا لهن، كما أدور مسبعًا إن سبعت، قالوا: ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسم لها لوجب إذا سبع عندها أن يربع لهن. وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول النبى، عليه السلام: (ليس بك على أهلك هوان) ، يدل أنه رأى منها أنها استقلت الثلاث التى

(7/339)


هى حق الثيب، فآنسها عليه السلام بقوله: (ليس بك على أهلك هوان) ، أى ليس أقسم ثلاثًا لهوانك عندى، وإنما أقسمها لك؛ لأنه حق الثيب، وخيرها بين أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهن وهى السبع وبين الثلاث، على شرط إن اختارت السبع قسم لكل ثيب مثلها، وإن اختارت الثلاث التى هى حقها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أن الثلاث التى هى حقها أفضل لها، إذ لا يقسم لغيرها مثلها ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنها أرجح عندها من أن يسبع عندها على أن يسبع عند غيرها. وفى هذا ضرب من اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهة قبول الحق حتى يتبين له فضله ويختار الرجوع إليه، ومما يبطل قول الكوفيين أنه إن ثلث عندها ثلث عندهن ثم يستأنف القسم أنه، عليه السلام، لما ذكر السبع قرنها بالقضاء، فقال: (سبعت عندك وسبعت عندهن) ، ولما ذكر الثلاث لم يقرنها بالقضاء؛ لأن الدوران عليهن يقتضى ابتداء قسم لا قضاء، فسقط قولهم، هذا قول ابن القصار. قال: وقد خالف الكوفيون حديث أم سلمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إن شئت سبعت عندك) ، فجعل لها الخيار فى القسم، وأبو حنيفة يجعل الخيار إلى الزوج، وفى هذا مخالفة الخبر. قال أحمد بن خالد: هذا الباب عجب؛ لأنه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق؛ لأن حديث أنس حديث بصرى، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه اهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنس: السنة للبكر سبع، وللثيب ثلاث، والصحابى إذا

(7/340)


ذكر السنة بالألف واللام، فإنما أشار إلى سنته، عليه السلام، واللام فى قوله: للبكر سبع وللثيب ثلاث، لام الملك، فدل أن ذلك حق من حقوقها، فمحال أن يحاسبها بذلك، وقول ابن المسيب، والحسن، خلاف الآثار، فلا معنى له.
78 - باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِى غُسْلٍ وَاحِدٍ
/ 102 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. قد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وأنه يحتمل أن يكون فعل ذلك حين إقباله من سفره حيث لا قسمة تلزمه؛ لأنه حينئذ لا تكون منهن واحدة أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك بطيب أنفس أزواجه وإذنهن فيه، يدل على ذلك سؤاله أزواجه أن يمرض فى بيت عائشة، حكاه ابن المنذر، عن أبى عبيد. قال المهلب: يحتمل أن يكون ذلك فى يوم يقرع فيه بالقسمة بين أزواجه، فيقرع هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعده القسمة، والله أعلم. إلا أن هذا من فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى القسم بينهن شىء تبرع به وتطوع لما جبله الله عليه من العدل؛ لأن الله قد رفع عنه مئونة القسمة بينهن بقوله: (ترجى من تشاء منهن وتئوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) [الأحزاب: 51] . ولا يجوز عند جماعة العلماء أن يطأ الرجل امرأته فى ليلة أخرى،

(7/341)


وإنما يجوز فى الإماء حيث لا قسمة لهن. قال ابن حبيب: وإذا وطئ الرجل إحدى امرأتيه فى يومها، ثم أراد أن يطأ الأخرى قبل أن يغتسل، فحللت امرأته التى لها ذلك اليوم فلا بأس به، ويكره للرجل أن يجمع بين امرأتيه من نسائه فى فراش واحد وإن رضيتا به، لكن لا يجوز أن يطأ إحداهما والأخرى معه فى البيت وإن لم تسمع ذلك. قال ابن الماجشون: ويكره أن تكون معه فى البيت بهيمة أو حيوان، وكان ابن عمر إذا فعل ذلك أخرج كل من عنده فى البيت، حتى الصبى الممهود، ولا بأس أن يطأ امرأته الحرة، ثم يطأ أمته قبل أن يغتسل، ولا بأس أن يطأ أمته، ثم يطأ امرأته قبل أن يغتسل. قال غيره: لما جاز أن يطأ امرأته مرتين وثلاثًا، ثم يغتسل فى آخر ذلك إذا حضر وقت الصلاة جاز له أن يطأ امرأتين فى ليلة إذا أذنت له صاحبة الليلة ويغتسل غُسلاً واحدًا، كما طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على نسائه فى غسل واحد فى ليلة. قال ابن الماجشون: ولا يجب على الرجل غشيان امرأتيه جميعًا فى ليلتهما، ولا بأس أن يغشى إحداهما ويكف عن الأخرى ما لم يرد به الضرر والميل.
79 - باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِى الْيَوْمِ
/ 103 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ، دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو

(7/342)


مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ. قال المهلب: هذا إنما كان يفعله، عليه السلام، فى النادر، ولم يكن يفعله أبد الدهر، وإنما كان يفعله لما أباح الله تعالى له بقوله: (ترجى من تشاء منهن) [الأحزاب: 51] ، فكان يذكرهن بهذا الفعل فى الغب بإفضاله عليهن فى العدل بينهن؛ لئلا يظنوا أن القسمة حق لهن عليه. وقال غيره: ليس حقيقة القسم بين النساء إلا فى الليل خاصة؛ لأن للرجل التصرف نهاره فى معيشته وما يحتاج إليه من أموره، فإذا كان دخوله على امرأته فى غير يومها دخولاً خفيفًا فى حاجة يقضيها فلا أعلم خلافًا بين العلماء فى جواز ذلك. وذكر ابن المواز عن مالك، قال: لا يأتى إلى واحدة من نسائه فى يوم الأخرى إلا لحاجة أو عيادة، قال غيره: وأما جلوسه عندها ومحادثتها تلذذًا بها، فلا يجوز ذلك عندهم فى غير يومها.
80 - باب اسْتئذانَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ
/ 104 - فيه عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَسْأَلُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: (أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا) ؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِى الْيَوْمِ الَّذِى كَانَ يَدُورُ عَلَىَّ فِيهِ فِى بَيْتِى، فَقَبَضَهُ اللَّهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِى وَسَحْرِى، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِى.

(7/343)


وفيه: حب الرجل لبعض أزواجه أكثر من بعض. وفيه: أن القسمة حق للزوجة، ولذلك استأذنهن، عليه السلام، أن يمرض فى بيت عائشة، وإنما فعل ذلك لأنها كانت أرفق به وألطف بتمريضه مع أن المرض إذا كان ثقيلاً لا يقدر فيه على الانتقال والحركة سقطت القسمة. قال ابن حبيب: إذا مرض مرضًا يقوى معه على الاختلاف فيما بينهن كان له أن يعدل بينهن فى القسم، إلا أن يكون مرضه مرضًا قد غلبه ولا يقدر على الاختلاف، فلا بأس أن يقيم حيث أحب، ما لم يكن منه ميلاً، فإذا صح عدل بينهن فى القسمة، ولم يحتسب للتى لم يقم عندها ما أقام عند غيرها، وهو قول مالك. واتفقوا إذا مرضت المرأة أن لها أيامها من القسمة كالصحيحة، واختلفوا إذا اشتد مرضها وثقلت، فقال الشافعى: لا بأس أن يقيم عندها حتى تخف أو تموت، ثم يوفى من بقى من نسائه مثل ما أقام عندها، وبه قال أبو ثور، وقال الكوفيون: ما مضى هدر، ويستأنف العدل فيما يستقبل. وقولها: (بين نحرى وسحرى) ، فالنحر معروف وهو الصدر. قال أبو عبيد: قال أبو زيد: وبعضه عن ابن عمر وغيره: السحر ما تعلق بالحلقوم، ولهذا قيل للرجل إذا جبن: قد انتفخ سحره، كأنهم إنما أرادوا الرئة وما معها. وقال أبو عبيدة: هو السحر. وقال الفراء: وأكثر العرب على ما قال أبو عبيدة.

(7/344)


81 - باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
/ 105 - فيه: عُمَرَ، دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ، لا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِى أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَبَسَّمَ. قال الطبرى: وقوله: لا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منك، يريد عائشة، ففيه دليل على أنه لا حرج على من كان عنده جماعة نسوة فى إيثار بعضهن فى المحبة على بعض إذا سوى بينهن فى القسمة، ومثله قوله عليه السلام: (اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما لا أملك) ، والذى سأل ربه ألا يلومه فيه ما كان لا يملكه من نفسه، هو ما جبلت عليه القلوب من الميل بالمحبة إلى من هويته. وذلك مما لا سبيل للعباد إلى خلافه ودفعه عنه، وهو المعنى الذى أخبر عنه تعالى أنهم لا يطيقونه من معانى العدل بين النساء، فعلم بذلك أن كل ما كان عارضًا لقلب ابن آدم من شىء مال إليه بالمحبة والهوى مما لم يجتلبه المرء إليه باكتساب ولم يتجاوز به العارض منه فى قلبه إلى ما يكرهه الله ولا يرضاه من العمل بجوارحه، فلا حرج عليه فيه ولا تبعة تلحقه فيه فيما بينه وبين الله بسبب ما عرض له من فرط هوى وصبابة نفس. قال ابن حبيب: ولما كان القلب لا يملك ولا يستطاع العدل فيه وضع الله عن عباده الحرج فى ذلك، قال تعالى: (لا يكلف الله

(7/345)


نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] ، وحسب الرجل أن يسوى بين نسائه فى القوت والإدام واللباس على قدرها وكفايتها، ويقسم لها يومًا وليلة، فيبيت عندها، وسواء كانت حائضًا أو طاهرًا، ثم لا حرج عليه أن يوسع على إحداهن دون غيرها من صواحباتها بأكثر من ذلك من ماله. فأما المسيس فعلى قدر نشاطه إذا لم يكن حبسه لنفسه عنها إيفاء لغيرها ممن هى أحب إليه وألصق بقلبه، فلذلك لا يحل له أن يفعله، وهو من الميل الذى نهى الله عنه، فأما أن ينشط لهذه فى ليلتها ويكسل عن هذه فى ليلتها، فلا حرج عليه فى ذلك، وذلك من الذى يقع فى القلب مما لا يملكه العبد. قال المهلب: وفيه أن الصهر قد يعاتب ابنته على الإفراط فى الغيرة على زوجها، وينهاها عن مساماة من هى عند الزوج أحظى منها؛ لئلا يحرج ذلك الزوج ويئول الأمر إلى الفرقة.
82 - باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ
/ 106 - فيه: أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِى غَيْرَ الَّذِى يُعْطِينِى؟ فَقَالَ: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَى زُورٍ) . قال أبو عبيد: قوله: المتشبع بما لم يعط، يعنى المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل ولها ضرة، فتتشبع بما تدعيه من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عنده لها تريد

(7/346)


بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا فى الرجل أيضًا، وأما قوله: كلابس ثوبى زور، فإنه الرجل يلبس ثياب أهل الزهد فى الدنيا، يريد بذلك الناس ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما فى قلبه، فهذه ثياب الزور والرياء. وفيه وجه آخر أيضًا: أن يكون أراد بالثياب الأنفس، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، يقال: فلان نقى الثوب، إذا كان بريئًا من الدنس والآثام، وفلان دنس الثياب، إذا كان مغموصًا عليه فى دينه، ومنه قوله تعالى: (وثيابك فطهر) [المدثر: 4] . وقال أبو سعيد الضرير فى معنى قوله: كلابس ثوبى زور، هو أن يستعير شاهد الزور ثوبين يتجمل بهما ويتحلى بهما عند الحاكم، وإنما يريد أن يقيم شهادته. وقال بعض أهل المعرفة بلسان العرب: ولقوله: ثوبى، التثنية معنى صحيح؛ لأن كذب المتحلى بما لم يعط مثنى، فهو كاذب على نفسه بما لم يأخذ، وكاذب على غيره بما لم يبذل.
83 - بَاب الْغَيْرَةِ
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى) . / 107 - فيه: ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ) .

(7/347)


/ 108 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِى، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . / 109 - وفيه: أَسْمَاءَ قَالَ النَّبِىّ: (لا شَىْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) . / 110 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لاَ يَأْتِىَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) . / 111 - وفيه: أَسْمَاءَ، تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِى الأرْضِ مِنْ مَالٍ وَلا مَمْلُوكٍ، وَلا شَىْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْقِى الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ النَّبِىّ عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِى، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَانِى، ثُمَّ قَالَ: (إِخْ، إِخْ، لِيَحْمِلَنِى خَلْفَهُ) ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ - وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ - فَعَرَفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ، فَقُلْتُ: لَقِيَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى رَأْسِى النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَىَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ [بَعْدَ ذَلِكَ] بِخَادِمٍ تَكْفِينِى سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِى.

(7/348)


/ 112 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِى الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ. . .) الحديث. / 113 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْنِى إِلا عِلْمِى بِغَيْرَتِكَ) ، قَالَ عُمَرُ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رسول اللَّه، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ؟ . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) جُلُوسٌ، فَقَالَ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) ، فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ . قال المهلب: وهذه الغيرة التى جاءت فى هذه الأحاديث فى وصف الله تعالى ليست منه على حسب ما هى عليه فى المخلوقين؛ لأنه لا تجوز عليه صفات النقص تعالى، إذ لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، والغيرة فى صفاته بمعنى الزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها؛ لأن الغيور هو الذى يزجر عما يغار عليه، وقد بين ذلك بقوله عليه السلام: (ومن غيرته حرم الفواحش) ، أى زجر عنها ومنع منها، وبقوله فى حديث أبى هريرة: (وغيرة الله أن

(7/349)


لا يأتى المؤمن ما حرم الله) ، وقوله فى حديث سعد: (لأنا أغير من سعد، والله أغير منى) ، ومعنى ذلك أنه لزجور عن المحارم وأنا أزجر منه، والله أزجر من الجميع عما لا يحل، وكذلك قوله: (غارت أمكم) ، أى زجرت عن إهداء ما أهدت صاحبتها. قال المهلب: وأما نقل النوى وسياسة الفرس وخرز الغرب، فلا يلزم المرأة شىء من ذلك إلا أن تتطوع به، كما تطوعت أسماء. قال ابن حبيب: وكذلك الغزل والنسج ليس للرجل على امرأته ذلك بحال إلا أن تتطوع، وليس عليه إخدامها إذا كان معسرًا، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة كما هى على الدنية، وهكذا أوضح لى ابن الماجشون وأصبغ، وسأتقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب النفقات بعد هذا، إن شاء الله. قال المهلب: وفى حديث أسماء من الفقه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت من خدمة زوجها بما لا يلزمها كنقل النوى وسياسة الفرس أنه لا ينكر ذلك عليها أب ولا سلطان. وفيه: إرداف المرأة خلف الرجل وحملها فى جملة ركب من الناس، وليس فى الحديث أنها استترت، ولا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمرها بذلك، فعلم منه أن الحجاب إنما هو فرض على أزواج النبى، عليه السلام، خاصة كما نص الله فى القرآن بقوله: (يا نساء النبى) [الأحزاب: 32] . وفيه: غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق عليهن من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لاسيما إذا كانت ذات حسب وأبوة، وكذلك عز على النبى (صلى الله عليه وسلم) إفراط امتهانها ولم يلمها على ذلك، ولا وبخ الزبير على تكليفه لها ذلك لما علم من طيب نفسها به.

(7/350)


وفى حديث القصعة الصبر للنساء على أخلاقهن وعوجهن؛ لأنه عليه السلام، لم يوبخها على ذلك ولا لامها، ولا زاد على قوله: (غارت أمكم) ، وقد تقدم اختلاف العلماء فيمن استهلك شيئًا لصاحبه هل يلزمه غرم مثله، فى كتاب المظالم والغصب عند ذكر حديث القصعة، فأغنى عن إعادته. وفى حديث جابر، أنه إذا علم من الإنسان خلق، فلا يتعرض لما ينافر خلقه ويؤذيه فى ذلك الخلق، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) حين لم يدخل القصر الذى كان لعمر لمعرفته بغيرته، وفى قوله: أعليك أغار يا رسول الله، أن الرجل الصالح المعروف بالخير والصلاح لا يجب أن يظن به شىء من السوء. وقوله: لضربته بالسيف غير مصفح، وهو من صفحة السيف، وهو عرضه. قال ابن قتيبة: يقال: أصفحت بالسيف فأنا مصفح، والسيف يصفح به إذا أنت ضربت بعرضه، وأراد سعد أنه لو وجد رجلاً مع أهله لضربه بحد سيفه لا بعرضه، ولم يصبر أن يأتى بأربعة شهداء، وسيأتى فى كتاب الديات الحكم فيمن وجد رجلاً مع امرأته فقتله. وذكر ابن قتيبة فى قوله عليه السلام: (فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) ، (فإذا امرأة شوهاء إلى جانب قصر) ، من حديث ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وفسره فقال: الشوهاء الحسنة الرائعة، حدثنى بذلك أبو حاتم، عن أبى عبيدة، عن المنتجع، قال:

(7/351)


ويقال: فرس شوهاء، ولا يقال للذكر أشوه، ويقال: لا تشوه علىّ، إذا قال: ما أحسنك، أى لا تصبنى بعين. وقال الزبيرى: ذكره أبو على فى التاريخ بفتح التاء والواو وتشديد الواو. قال المؤلف: يشبه أن تكون هذه الرواية الصواب، وتتوضأ تصحيف، والله أعلم؛ لأن الحور طاهرات ولا وضوء عليهن، فكذلك كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة ولا عبادة، وحروف شوهاء يمكن تصحيفها بحروف تتوضأ؛ لقرب صور بعضها من بعض، والله أعلم.
84 - بَاب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ
/ 115 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنِّى لأعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: (أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لا، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلا اسْمَكَ. / 116 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهَا، وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُوحِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ. وفيه الصبر على النساء وعلى ما يبدو منهن من الجفاء والحرج عند

(7/352)


الغيرة لما جبلن عليه منها، وأنهن لا تملكنها، فعفى عن عقوبتهن على ذلك وعذرهن الله فيه. قال المهلب: وقولها: ما أهجر إلا اسمك، يدل على أن الاسم فى المخلوقين غير المسمى، ولو كان المسمى وهجرت اسمه لهجرته بعينه، ويدل على ذلك أن من قال: أكلت اسم العسل، واسم الخبز، فإنه لا يفهم أنه أكل الخبز والعسل، وكذلك إذا قال: لقيت اسم زيد، لا يفهم منه أنه لقى زيدًا، ويبين ذلك ما نشاهده من تبديل أسماء المملوكين وتبديل كنى الأحرار ولا تتبدل الأشخاص مع ذلك. قال المهلب: وإنما يصح عند تحقيق النظر أن يكون الاسم هو المسمى فى الله تعالى وحده لا فيما سواه من المخلوقين، لمباينته تعالى فى أسمائه وصفاته حكم أسماء المخلوقين وصفاتهم. فإن قيل: فإذا كان الاسم غير المسمى فى المخلوقين، فيلزم كذلك فى البارى تعالى، قيل: هذا غير لازم؛ لأن طرق العلم بالشىء إنما يؤخذ من جهة الاستدلال عليه بمثله وشبهه، أو من حكم ضده، وعلمنا يقينًا أن الله تعالى لا شبه له بقوله: (ليس كمثله شىء) [الشورى: 11] ، وبقوله: (ولم يكن له كفوًا أحد) [الإخلاص: 3] ، فثبت بذلك أنه لا ضد له؛ لأن حكم الضد إنما يعلم من حكم ضده، فلما لم يكن لله شبه ولا ضد يستدل على اسمه إذا كان غير المسمى، لم يجز لنا أن نقول بذلك فى الله تعالى؛ لإجماع أهل السنة على أن صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين من قبل أن الشيئين لا يشتبهان باتفاق أسمائهما، وإنما يشتبهان بأنفسهما، ولما كانت نفس البارى

(7/353)


سبحانه وتعالى غير مشبهة لشىء من العالم، كانت كذلك صفاته وأسماؤه، ألا ترى وصف البارى تعالى بأنه موجود ووصف الإنسان بذلك لا يوجب تشابهًا بينهما، وإن كانا قد اتفق فى حقيقة الوجود، هذا قول مجاهد. وسيأتى فى كتاب الرد على الجهمية، وهو الجزء الثانى من الاعتصام فى آخر هذا الديوان فى باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها تبيين مذاهب أهل السنة أن اسم الله عز وجل هو المسمى، فهو موضع ذكره إن شاء الله، وسأذكر فى كتاب الأدب فى باب حسن العهد من الإيمان تفسير الفضل المذكور.
85 - باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِى الْغَيْرَةِ وَالإنْصَافِ
/ 117 - فيه: الْمِسْوَر، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ يقول: (إِنَّ بَنِى هِشَامِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِى فِى أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، فَلا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِى، وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِىَ بَضْعَةٌ مِنِّى، يُرِيبُنِى مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِى مَا آذَاهَا) . قال المهلب: فى هذا من الفقه أنه قد يحكم فى أشياء لم تبلغ التحريم بأن يمنع منها من يريدها، وإن كانت حلالاً، لما يلحقها من الكراهية فى العرض أو المضرة فى المال.

(7/354)


وفيه: بقاء عار الآباء فى أعقابهم وأنهم يعيرون به، ولا يوازون الأشراف كما عير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنت أبى جهل وهى مسلمة بعداوة أبيها لله، فحط بذلك منزلتها عن أن تحل محل ابنته، وكذلك السابقة إلى الخير والشرف فى الدين تبقى فى العقب فضله، ويرعى فيهم أمره، ألا ترى قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحًا) [الكهف: 82] . وفيه: دليل ألا تجتمع أمة وحرة تحت رجل إلا برضا الحرة؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يجعل بنت عدو الله مكافئة لبنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فكذلك المرأتان الغير متكافئتين بالحرية فى الإسلام لا تجتمعان إلا برضا الحرة، ألا ترى أن رضا فاطمة لو تأتى منها لما منع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك؛ لأنه قال: (يؤذينى ما آذاها وأخاف أن تفتن فى دينها) ، ولم تكن بنت عدو الله مأمونة عليها أن تكون ضرة وصاحبة لها، ولو لم يحزنها ذلك ولا خشى منها الفتنة؛ لما منعه من حال نكاح بنت أبى جهل، ومن هذا المعنى وحديث بريرة وجب تخيير الحرة إذا تزوج عليها أمة؛ لأن بريرة حين عتقت فارقته؛ لأن زوجها لم يكافئها لحريتها، فكذلك الحرة لا تكافئها المملوكة. واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: إذا نكح أمة على حرة يجوز النكاح، والحرة بالخيار. هذه رواية ابن وهب عنه، وروى عنه ابن القاسم أنه سُئل عمن تزوج أمة وهو يجد طولاً إلى حرة، قال: يفرق بينهما، قيل: إنه يخاف العنت، قال: السوط يضرب به، ثم خففه بعد ذلك، قلت: فإن كان لا يخشى العنت، قال: كان يقول: ليس له أن يتزوجها.

(7/355)


وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى: لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة، ولا يصح نكاح الأمة، ولا فرق بين إذن الحرة وغير إذنها. واختلفوا فى نكاح الحرة على الأمة، فقالت طائفة: النكاح ثابت، روى هذا عن عطاء، وسعيد بن المسيب، وبه قال الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيه قول ثان، وهو أن الحرة بالخيار إذا علمت، هذا قول الزهرى، ومالك. وفيها قول ثالث، وهو أن يكون نكاح الحرة طلاقًا للأمة، روى هذا عن ابن عباس، وبه قال أحمد، وإسحاق. وقد تقدم معنى حديث المسور مستوعبًا فى كتاب الجهاد فى باب ما ذكر من درع النبى (صلى الله عليه وسلم) وعصاه وسيفه؛ لأن الحديث هناك أتم منه فى هذا الباب، والحمد لله.
86 - باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) . / 118 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) . قال المهلب: هذا إنما يكون من أشراط الساعة، كما قال عليه

(7/356)


السلام، ويمكن أن تكون قلة الرجال من اشتداد الفتن وترادف المحن، فيقتل الرجال، والله أعلم. ويحتمل قوله: (القيم الواحد) ، معنيين: أحدهما: أن يكون قيمًا عليهن وناظرًا لهن وقائمًا بأمورهن، ويحتمل أن يكون اتباع النساء له على غير الحل، والله أعلم. قال الطحاوى: ولما احتمل الوجهين نظرنا هل روى فى ذلك شىء يدل على أحدهما، فذكر على بن معبد بإسناده عن حذيفة، قال: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (إذا عمت الفتنة يميز الله أصفياءه وأولياءه حتى تطهر الأرض من المنافقين والقتالين، ويتبع الرجل يومئذ خمسون امرأة، هذه تقول: يا عبد الله، استرنى، يا عبد الله، آونى) ، فدل هذا الحديث على القول الأول.
87 - باب لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ
/ 119 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) . / 120 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المهلب: معنى قوله: (الحمو الموت) ، النهى عن أن يدخل

(7/357)


على المغيبة صهر ولا غيره خوف الظنون ونزغات الشيطان؛ لأن الحمو قد يكون من غير ذى المحارم، وإنما أباح، عليه السلام، أن يخلو مع المرأة من كان ذا محرم منها. قال الطبرى: وبمثل ذلك قال جماعة من الصحابة والتابعين: روينا عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إياكم والمغيبات، ألا فوالله أن الرجل ليدخل على المرأة، فلأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يزنى، فما يزال الشيطان يخطب أحدهما إلى الآخر حتى يجمع بينهما) . وروينا عن عمرو بن العاص أنه أرسل إلى على بن أبى طالب يستأذنه، وكانت له حاجة إلى أسماء، فقيل له: ليس ثم على، ثم أرسل إليه الثانية، فقيل: هو ثم، فلما خرج إليه، قال عمرو: إن لى إلى أسماء حاجة فأدخل؟ قال: نعم، قال: وما سألت عن على، قال: حاجتك إلى أسماء، قال: إنا نهينا أن نكلمهن إلا عند أزواجهن. وقال عمرو بن قيس الملائى: ثلاث لا ينبغى للرجل أن يثق بنفسه عند واحدة منهن: لا يجالس أصحاب زيغ، فيزيغ الله قلبه بما زاغ به قلوبهم، ولا يخلو رجل بامرأة، وإن دعاك صاحب سلطان إلى أن تقرأ عليه القرآن فلا تفعل. قال الطبرى: فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليس لها بمحرم فى سفر ولا فى حضر، إلا فى حال لا يجد من الخلوة بها بدًا، وذلك كخلوة بجارية امرأته تخدمه فى حال غيبة مولاتها عنهما، وقد رخص فى ذلك الثورى.

(7/358)


قال المهلب: وفيه جواز تبكيت العالم على الجواب إلى المشترك من الأسماء على سبيل الإنكار للمسألة. قال الطبرى: الحمو عند العرب كل من كان من قبل الزوج أخًا كان أو أبًا أو عمًا فهم الأحماء، فأما أم الزوج، فكان الأصمعى يقول: هى حماة الرجل، لا يجوز غير ذلك، ولا لغة فيها غيرها، وإنما عنى بقوله: الحمو الموت، أن خلوة الحمو بامرأة أخيه أو امرأة ابن أخيه بمنزلة الموت فى مكروه خلوته بها، وكذلك تقول العرب إذا وصفوا الشىء يكرهونه إلى الموصوف له، قالوا: ما هو إلا الموت، كقول الفرزدق لجرير: فإنى أنا الموت الذى هو واقع بنفسك فانظر كيف أنت مزاوله وقال ثعلب: سألت ابن الأعرابى عن قوله: الحمو الموت، فقال: هذه كلمة تقولها العرب مثلاً كما تقول: الأسد الموت، أى لقاؤه الموت، وكما تقول: السلطان نار، أى مثل النار، فالمعنى احذروه كما تحذرون الموت. وقال أبو عبيد: معناه فليمت ولا يفعل ذلك، وهو بعيد، وإنما الوجه ما قاله ابن الأعرابى، ومن هذا الباب قوله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) [إبراهيم: 17] ، أى مثل الموت فى الشدة والكراهية، ولو أراد نفس الموت لكان قد مات. وقال عامر بن فهيرة: لقد وجدت الموت قبل دنوه وقال الأصمعى: الأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل

(7/359)


المرأة، والصهر يجمعهما، والحماة أم الزوج، والختنة أم المرأة، وفى الحمو لغات. قال صاحب العين: الحما على مثال قفا: أبو الزوج وجميع قرابته، والجمع أحماء، تقول: رأيت حماه ومررت بحماها، وتقول فى هذه اللغة إذا أفرد: هذا حما، وفيه لغة أخرى حموك مثل أبوك، تقول: هذا حموها، ومررت بحميها ورأيت حماها، فإذا لم تضفه سقطت الواو، فتقول: حم، كما تقول: أب، وفيه لغة أخرى: حمء، بالهمز مثل خبء، ودفء، عن الفراء، وحكى الطبرى لغة رابعة: حمها بترك الهمز. وفى حديث ابن عباس إباحة الرجوع عن الجهاد إلى إحجاج امرأته؛ لأن فرضًا عليه سترها وصيانتها، والجهاد فى ذلك الوقت كان يقوم به غيره، فلذلك أمره عليه السلام أن يحج معها إذ لم يكن لها من يقوم بسترها فى سفرها ومبيتها.
88 - باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ
/ 121 - فيه: أَنَس، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَلا بِهَا، فَقَالَ: (وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ) . قال المهلب: فيه من الفقه أنه لا بأس للعالم والرجل المعلوم بالصلاح أن يخلو بالمرأة إلى ناحية عن الناس وتسر إليه بمسائلها وتسأله عن بواطن أمرها فى دينها، وغير ذلك من أمورها، فإن قيل: ليس فى الحديث أنه خلا بها عند الناس كما ترجم، قيل: قول

(7/360)


انس: فخلا بها، يدل أنه كان مع الناس، فتنحى بها ناحية، ولا أقل من أن يكون مع أنس راوى الحديث وناقل القصة، ولم يرد بقوله: فخلا بها، أنه غاب عن أبصارهم، وإنما خلا بها حيث لا يسمع الذين بحضرته كلامها ولا شكواها إليه، ألا ترى أنهم سمعوا قوله لها: (أنتم أحب الناس إلى) يريد الأنصار قوم المرأة.
89 - باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ
/ 122 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا وَفِى الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لأخِى أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ) . قال المهلب: أصل هذا الحديث قوله عليه السلام: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها حتى كأنه يراها) ، فلما سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) وصف المخنث للمرأة بهذه الصفة التى تهيم نفوس الناس، منع أن يدخل عليهن؛ لئلا يصفهن للرجال فيسقط معنى الحجاب. قال غيره: وفيه من الفقه أنه لا ينبغى أن يدخل على النساء من المؤنثين من يفطن لمحاسنهن ويحسن وصفهن، وأن من علم محاسنهن لا يدخل فى معنى قوله تعالى: (غير أولى الإربة من

(7/361)


الرجال} [النور: 31] ، وإنما غير أولى الإربة الأبله العنين الذى لا يفطن لمحاسنهن، ولا إرب له فيهن، وهذا الحديث أصل فى نفى كل من يتأذى به وإبعاده بحيث يؤمن أذاه. قال المهلب: قال ابن حبيب: والمخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرف فيه الفاحشة، وهو مأخوذ من تكسر الشىء، ومنه حديثه الآخر أنه نهى عليه السلام عن اختناث الأسقية، وهو أن تكسر أفواه الأسقية ليشرب منها. وكان يدخل على أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه كان عندهن من غير ذوى الإربة. حدثنى ابن حبيب، عن مالك فى قوله: (تقبل بأربع وتدبر بثمان) ، أنه أراد أعكانها؛ لأن العكن هى أربع طوابق فى بطنها بعضها فوق بعض، فإذا بلغت خصريها صارت أحواقها ثمانيًا أربعًا من هاهنا، وأربعًا من هاهنا، وقوله: (تدبر بثمان) ، ولم يقل: بثمانية، وإن كان يقع ذلك على الأطراف، والأطراف مذكرة، فإنما أراد العطن التى هى مؤنثة، واحدها عكنة؛ لأن كل جزء من العطن يلزمه من التأنيث ما يلزم جمعه، وهذا من التأنيث المحمول على المعنى. وقال ابن الكلبى: هذا المؤنث يسمى: هيت، وهو مولى لعبد الله بن أبى أمية أخى أم سلمة لأمها، وكان طوس مولى عبد الله بن أبى أمية ومن قبله سرى إلى طوس الخنث. قال المهلب: وفى وصف المخنث لمحاسن المرأة حجة لمن أجاز بيع

(7/362)


الأعيان الغائبة على الصفة كما قاله مالك خلافًا للشافعى، ولو لم تكن الصفة فى هذا الحديث بمعنى الرؤية لم ينه النبى، عليه السلام، المؤنث عن الدخول على النساء، والله أعلم، وقد تقدمت هذه المسألة فى كتاب البيوع.
90 - باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
/ 123 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِى أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. وفى هذا الحديث: حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب فى الوليمة وغيرها. وفيه: جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن، فإن النبى عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها. وفيه: أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، ألا ترى إلى ما اتفق عليه العلماء فى الشهادة على المرأة أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها، وإنما أراد البخارى بهذا الحديث، والله أعلم، الرد لحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: (احتجبا منه) ، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟

(7/363)


قال: أفعمياوان أنتما؟) ، وحديث عائشة أصح منه؛ لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين، أحدهما هذا، والثانى فى المكاتب إذا كان معه ما يؤدى احتجبت منه سيدته، فلا يشتغل بحديث نبهان لمعارضة الأحاديث الثابت له وإجماع العلماء.
91 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ
/ 124 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلا، فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهُوَ فِى حُجْرَتِى يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِى يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: (قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ) . فى هذا الحديث دليل على جواز خروج النساء لكل ما أبيح لهن الخروج فيه من زيارة الآباء والأمهات وذوى المحارم والقرابات، وغير ذلك مما بهن الحاجة إليه، وذلك فى حكم خروجهن إلى المساجد. قال المهلب: وفيه جواز مكالمة المرأة من وراء الستر.

(7/364)


92 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
/ 125 - فيه: ابُن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يَمْنَعْهَا) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة، ومذاهب العلماء فيه.
93 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِى الرَّضَاعِ
/ 126 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَ عَمِّى مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَىَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (إِنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِى لَهُ. . .) ، الحديث. فائدة هذا الباب أنه أصل فى أن الرضاع يحرم من النكاح ما يحرم النسب، ويبيح من الولوج على ذوات المحارم منه مثل ما يبيح من النسب، وقد تقدم ذلك.
94 - باب لا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا
/ 127 - فيه: ابْن مَسْعُود، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) . قال أبو الحسن بن القابسى: هذا من أبين ما تحمى به الذرائع، فإن وصفتها لزوجها بحسن خيف عليه الفتنة، فيكون ذلك سببًا

(7/365)


لطلاق زوجته، ونكاحها إن كانت ثيبًا، وإن كانت ذات بعل كان ذلك سببًا لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده، وإن وصفتها بقبح، كان ذلك غيبة، وقد جاء عن النبى، عليه السلام، أنه نهى الرجل عن مباشرة الرجل مثل نهيه للمرأة سواء. قال الطبرى: وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يباشر الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة) . قال الطبرى: وفيه من البيان أن مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة مفضيًا كل واحد منهما بجسده إلى جسد صاحبه غير جائز. فإن قال قائل: هذه الأخبار هى على العموم أم على الخصوص؟ قيل: على العموم فيما عنيت به، وعلى الخصوص فيما يحتمله ظاهرها. فإن قيل: وكيف كان ذلك؟ قيل: لقيام الحجة بجواز مصافحة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وذلك مباشرة من كل واحد منهما صاحبه ببعض جسده، فكان معلومًا بذلك، إذ لم يكن فى قوله عليه السلام: (لا يباشر الرجل الرجل ولا المرأة المرأة) استثناء مقرون به فى الخبر، وكانت المصافحة مباشرة وهى من الأمور التى ندب المسلمون إليها كالذى حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا بكر أبو عبيدة الناجى، حدثنا الحسن، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما) .

(7/366)


وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تمام تحيتكم بينكم المصافحة) ، ونحو ذلك من الأخبار الدالة على أن المسلمين مندوبون إلى مباشرة بعضهم بعضًا بالأكف مصافحة عند الالتقاء، وكان محالاً اجتماع الأمر بفعل الشىء والنهى عنه فى حالة واحدة، علم أن الذى ندب العبد إلى المباشرة به من جسم أخيه غير الذى نهى عنه من مباشرته به. وقال ابن القاسم: سئل مالك عن الخدم يبيتون عراة فى لحاف واحد فى الشتاء، فكرهه وأنكر أن تبيت النساء عراة لا ثياب عليهن؛ لأن ذلك إشراف على العورات، وذلك غير جائز لنهى النبى، عليه السلام، عن مباشرة الرجال والنساء بعضهم بعضًا.
95 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى
/ 128 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ) . قد تقدم معنى هذا الباب فى باب من طاف على نسائه فى غسل

(7/367)


واحد، وأنه لا يجوز أن يجمع الرجل جماعه زوجاته، ولا يطوف عليهن كلهن فى ليلة إلا إذا لم يبدأ القسم بينهن، أو إذا أذن له فى ذلك، أو إذا قدم من سفره، ولعله لم يكن فى شريعة سليمان بن داود من فرض القسمة بين النساء والعدل بينهن ما أخذه الله على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وقوله: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) ، يعنى لم يخب ولا عوقب بالحرمان حين لم يستثن مشيئة الله ويجعل الأمر له، وليس فى الحديث يمين فيحنث فيها، وإنما أراد أنه لما جعل لنفسه القوة والفضل عاقبه الله تعالى بالحرمان، فكان الحنث بمعنى التخييب. وكذلك من نذر لله طاعة أو دخل فى شىء منها وجب عليه الوفاء بذلك؛ لقوله: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، وقوله: (فما رعوها حق رعايتها) [الحديد: 27] ، فكان مطالبًا بما تألى به، فكأنه ضرب من الحنث؛ لأنه تألى فلم يف. وقد احتج بعض الفقهاء بهذا الحديث، فقال: إن الاستثناء بعد السكوت عن اليمين جائز، بخلاف قول مالك، واحتجوا بقوله: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) ، وليس كما توهموه؛ لأن هذه لم تكن يمينًا، وإنما كان قولاً جعل الأمر فيه لنفسه ولم تجب عليه فيه كفارة، فسقط عنه الاستثناء، وإنما هذا الحديث مثل قوله تعالى: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله) [الكهف: 22، 23] ، أدبًا أدب الله به عباده

(7/368)


ليردوا الأمر إليه، ويتبرءوا من الحول والقوة إلا لله تعالى، ودل هذا المعنى على صحة قول أهل السنة أن أفعال العباد من الخير والشر خلق الله، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الاعتصام، فهو موضعه.
96 - باب لا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ
/ 129 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِىَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا. وَقَالَ جَابِر، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا) . قال المؤلف: قوله فى الترجمة: مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام، من حديث ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، عن جابر، قال: نهى النبى، عليه السلام، أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم، فبين النبى، عليه السلام، بهذا اللفظ المعنى الذى من أجله نهى عن أن يطرق أهله ليلاً. فإن قيل: وكيف يكون طروقه أهله ليلاً سببًا لتخونهم؟ قيل: معنى ذلك، والله أعلم، أن طروقه إياهم ليلاً هو وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم بعضًا، فكان ذلك سببًا لسوء ظن أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلاً ليجدهم على ريبة حين توخى وقت غرتهم وغفلتهم. ومعنى الحديث النهى عن التجسس على أهله، ولا تحمله غيرته على تهمتها إذا لم يأنس منها إلا الخير.

(7/369)


قال المهلب: وهذا الحديث يقوم منه الدليل على المنع من التجسس وطلب الغرة والتعرض لما فيه الفتنة وسوء الظن. وقوله: طروقًا، هو مصدر فى موضع الحال، يقال: أتانا طروقًا، أى جاء ليلاً.
97 - باب طَلَبِ الْوَلَدِ
/ 130 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِى رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِى، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا يُعْجِلُكَ) ؟ قُلْتُ: إِنِّى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: (فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا) ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: (فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ) ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: (أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلا - أَىْ عِشَاءً - لِكَىْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ) . قَالَ: وَحَدَّثَنِى الثِّقَةُ، أَنَّهُ قَالَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ: (الْكَيْسَ، الْكَيْسَ، يَا جَابِرُ) ، يَعْنِى الْوَلَدَ. وَقَالَ جَابِر مرةً عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ) . قال المهلب: طلب الولد مندوب إليه؛ لقوله عليه السلام: (إنى مكاثر بكم الأمم) ، وأنه من مات من ولده من لم يبلغ الحلم، فإن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم. فإن قال قائل: قوله عليه السلام: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، أى عشاء، يعارض نهيه عليه السلام أن يأتى الرجل أهله طروقًا. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، وفى هذا الحديث أمر للمسافر إذا قدم نهارًا أن يتربص حتى يدخل إلى أهله عشاء لكى يتقدمه إلى أهله

(7/370)


خبر قدومه، فتمتشط له الشعثة، وتتزين وتستحد له وتتنظف؛ لئلا يجدها على حالة يكرهها فتقع البغضة، رفقًا منه عليه السلام بأمته، ورغبة فى إدامة المودة بينهما وحسن العشرة. وقوله فى الحديث الآخر: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، أى عشاء، يدل على قدومهم فى النهار، والحديث الآخر الذى نهى فيه عن طروق أهله ليلاً بخلاف هذا المعنى؛ لأن الطروق لا يكون وقت العشاء، وإنما يكون لمن يقدم فجأة بعدما مضى وقت من الليل، فنهى عن ذلك للعلة التى ذكرها فى الحديث، وهى خشية أن يتخونهم أو يطلب غرتهم، لاسيما إذا طالت غيبته، فإنها تبعد مراقبتها له، وتكون يائسة من تعجله إليها، فيجد الشيطان سبيلاً إلى إيقاع سوء الظن.
98 - باب قَوُلُه تَعَالَى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا) [النور: 31] الآية
/ 131 - فيه: أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِىَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، [بِالْمَدِينَةِ] ، فَقَالَ: وَمَا بَقِىَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، كَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَلِىٌّ يَأْتِى بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَحُرِّقَ، فَحُشِىَ بِهِ جُرْحُهُ. قال المهلب: إنما أبيح للنساء أن يبدين زينتهن لمن ذكر فى هذه الآية من أجل الحرمة التى لهم من القرابة والمحرم، إلا فى العبيد، فإن الحرمة إنما هى من جهة السيادة، وأن العبد لا تتطاول عينه إلى سيدته، فهى حرمة ثابتة فى نفسه أبيح للمرأة بها من إظهار الزبينة ما أبيح لها

(7/371)


إلى أبيها وابنها وذوى الحرمة منها مع أنه لا يظن بحرة ما انحطاط إلى عبد، هذا المعلوم من نساء العرب، والأكثر فى العرف والعادة. وسُئل سعيد بن جبير: هل يجوز للرجل أن يرى شعر ختنته؟ فتلا قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) [النور: 31] الآية، فقال: لا أراها منهن. وقال الطبرى فى قوله تعالى: (أو إخوانهن أو بنى أخواتهن) [النور: 31] ، قال: إخوان جمع أخ، وإخوة جمع أخ أيضًا، ما تجمع فتى فتيان وتجمع فتية أيضًا. وسُئل عكرمة والشعبى عن قوله تعالى: (لا جناح عليهن فى آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن) [الأحزاب: 55] ، قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وكرها أن تضع خمارها عند عمها وخالها، ومن رأى العم والخال داخلين فى جملة الآباء جاز ذلك. وقال النخعى: لا بأس أن ينظر إلى شعر أمه وأخته وعمته وخالته. وذكر إسماعيل، عن الحسن والحسين أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهم تحل. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا فى ذلك إلى أن أبناء البعولة لم تذكر فى الآية التى فى أزواج النبى، عليه السلام، وهى قوله: (لا جناح عليهن فى آبائهن (، وقال فى سورة النور: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن) [النور: 31] ، فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى.

(7/372)


وقوله: (ولا نسائهن) [الأحزاب: 55] ، يعنى ولا حرج عليهن ألا يحتجبن من نساء المؤمنين. وروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه كتب إلى عماله ألا يترك امرأة من أهل الذمة أن تدخل الحمام مع المسلمات، واحتج بهذه الآية. واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن) [النور: 31] ، فقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية، إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبى يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد. وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، فدل أن الآية عنده على العموم فى المماليك والخدم. وقال إسماعيل: وهذا أعلى القولين وأكثر، وكانت عائشة وسائر أزواج النبى، عليه السلام، يدخل عليهن مماليكهن، قال إسماعيل بن إسحاق: وإنما جاز للمملوك أن ينظر إلى شعر مولاته مادام مملوكًا؛ لأنه لا يجوز له أن يتزوجها مادام مملوكًا، وهو كذوى المحارم كما لا يجوز لذوى المحارم منها أن يتزوجوها ولا يدخل العبد فى المحرم الذى يجوز للمرأة أن تسافر معه؛ لأن حرمته منها لا تدوم، إذ قد يمكن أن تعتقه فى سفرها فيحل له تزويجها. فإن قال قائل: إن حديث أم عطية: كنا نداوى الكلمى. والحديث الآخر: كن النساء ينقلن القرب على متونهن مشمرات حتى يرى خدم سوقهن فى المغازى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يخالف الآية وحديث سهل. فالجواب: أنه إن صح أن ظهر من سوقهن غير الخدم

(7/373)


مما لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخة بسورة النور وسورة الأحزاب؛ لأنهما من آخر ما نزل بالمدينة من القرآن، وبإجماع الأمة أنه ليس يجوز للمرأة أن تظهر شيئًا من عورتها لذى رحمها، فكيف بالأجانب؟ وكذلك لا يجوز لها أن تظهر عورتها للنساء أيضًا.
99 - باب قَوُلُه تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور: 58]
/ 132 - فيه: ابْن عَبَّاس، سَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلا مَكَانِى مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ - يَعْنِى مِنْ صِغَرِهِ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ - وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلا إِقَامَةً - ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، وَيَدْفَعْنَ إِلَى بِلالٍ. . . . الحديث. قال المهلب: كان ابن عباس فى هذا الوقت ممن لم يطلع على عورات النساء، ولذلك قال: لولا مكانى من الصغر ما شهدته، وكان بلال من البالغين، وقال تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) [النور: 58] الآية، فأجرى الذين ملكت أيمانهم مجرى الذين لم يبلغوا الحلم، وأمروا بالاستئذان فى العورات الثلاث؛ لأن الناس ينفصلون فى تلك الأوقات ولا يكونون من الستر فيها كما يكونون فى غيرها.

(7/374)


0 - باب قَوُل الرَّجُل لِصَاحِبِه: هَل أَعرستُم الليْلَة وَطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِى الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ
/ 133 - فيه: عَائِشَةَ، عَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) [وَرَأْسُهُ] عَلَى فَخِذِى. أما قوله: باب قول الرجل لصاحبه: هل أعرستم الليلة؟ فلم يخرج فيه هاهنا حديثًا، وأخرجه فى أول كتاب العقيقة، رواه أنس، قال: كان ابن لأبى طلحة يشتكى، فخرج أبو طلحة فقبض الصبى، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل بنى؟ قالت أم سليم: هو أسكن مما كان، فقربت إليه العشاء، فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبى، فلما أصبح أبو طلحة أتى النبى، عليه السلام، فأخبره فقال: (أعرستم الليلة؟) ، قال: نعم، قال: (اللهم بارك لهما فيه) ، فولدت غلامًا سماه النبى، عليه السلام، عبد الله، وحنكه بتمرات مضغها، عليه السلام. وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل والصديق الملطف يجوز أن يسأل صديقه عما يفعله إذا خلا مع أهله، ولا حرج عليه فى ذلك. وفيه: أنه من أصيب بمصيبة لم يعلم بها أنه لا ينبغى أن يهجم عليه بالتقريع بذكرها والتعظيم لها عند تعريفه بها، بل يرفق له فى القول ويعرض له بألطف التعريض؛ لئلا يحدث عليه فى نفسه ما هو أشد منها، فقد جبل الله النفوس على غاية الضعف، والناس متباينون فى الصبر عند المصائب، ولاسيما عند الصدمة الأولى.

(7/375)


وفى حديث عائشة أن للأب أن يعاتب ابنته بمحضر زوجها ويتناولها بيده بضرب وتهديد، وغير ذلك مباح له، فقد أخرجه فى كتاب الحدود، باب من أدب أهله أو غيرهم دون السلطان.

(7/376)