شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
49 - كِتَاب الطَّلاقِ
- وقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1]
وَطَلاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ. أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ. / 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مُرْهُ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) . قال ابن المنذر: أباح الله الطلاق بهذه الآية، وقول النبى، عليه السلام، فى حديث ابن عمر: (فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق) ، وقد طلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حفصة ثم راجعها. وقال غيره: هكذا روى هذا الحديث عن نافع، مالك، وابن جريج، والليث، وكذلك رواه ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، ورواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، وأنس بن سيرين، وابن الزبير، وزيد بن أسلم، كلهم عن ابن عمر، وقال فيه مرة: (فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك) ، ولم يقولوا فيه: (ثم تحيض ثم تطهر) . وأجمعوا أنه من طلق امرأته طاهرًا فى طهر لم يمسها فيه أنه مطلق

(7/377)


للسنة والعدة التى أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضى العدة، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. وذهب مالك، وأبو يوسف، والشافعى، إلى ما رواه نافع، عن ابن عمر، فقالوا: من طلق امرأته حائضًا أنه يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق قبل أن يمس، وإن شاء أمسك. وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، عن ابن عمر فى هذا الحديث، قالوا: يراجعها، فإذا طهرت طلقها إن شاء، وإلى هذا ذهب المزنى. وقالوا: إنما أمر المطلق فى الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السنة أمر بمراجعتها ليخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم يطلقها إن شاء طلاقًا صوابًا، ولم يروا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى. وأما مالك، وأبو يوسف، والشافعى، فقالوا: للطهر الثانى والحيضة الثانية معان صحيحة، منها أنه لما طلق فى الموضع الذى نهى عنه أمر بمراجعتها ليوقع الطلاق على سنته، ولا يطول فى العدة على امرأته، فلو أبيح له أن يطلقها إذا طهرت من تلك الحيضة كانت فى معنى المطلقة قبل البناء لا عدة عليها، ولابد لها أن تبنى على عدتها الأولى، فأراد الله على لسان نبيه أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يراجعها على نية الفراق حتى يعتقد إمساكها ولو طهرًا واحدًا، فإذا

(7/378)


وطئها فى طهر لم يتهيأ له أن يطلقها فيه؛ لأنه قد نهى أن يطلقها فى طهر قد مسها فيه حتى تحيض بعده ثم تطهر، فإذا طلقها بعد ذلك استأنفت عدتها من ذلك الوقت ولم تبن. وقالوا: إن الطهر الثانى جعل للإصلاح الذى قال الله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحًا) [البقرة: 228] ؛ لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛ لقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا) [البقرة: 231] ، قالوا: فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء ولا تعلم صحة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه المبتغى بالنكاح والمراجعة فى الأغلب، فكان ذلك الطهر مرادًا للوطء الذى تستيقن به المراجعة. فإذا مسها لم يكن له سبيل إلى طلاقها فى طهر قد مسها فيه للنهى عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلقًا لغير العدة، فقيل له: دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهر، ثم تطلق إن شئت قبل أن تمس. وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر من حديث قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، قال: حدثنا معن بن عبد الرحمن الواسطى، قال: حدثنا عبد الحميد ابن جعفر، قال: حدثنى نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى فى دمها حائض، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها. قالوا: ولو أبيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان قد أمر أن يراجعها ليطلقها، فأشبه النكاح إلى أجل أو نكاح المتعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ.

(7/379)


وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما أجبر ابن عمر على الرجعة؛ لأنه طلق فى الحيضة، والحيضة لا يعتد بها، ولم يبح له التطليق فى أول طهر؛ لأن فيه تستكمل الرجعة، ففرعها له لاستكمال الرجعة بالوطء إن شاء، ثم لم يبح له بعد الوطء الطلاق؛ لأنه شرط ألا يطلقها إلا فى طهر لم يمسها فيه لتكون الحيضة التى قبل الطلاق للمبالغة فى براءة الرحم. وقد قال به مالك فى الأمة، فاستحسن للبائع أن يستبرئها بحيضة قبل البيع، ثم لا يجتزئ بها عن حيضة المواضعة، ولابد من الإتيان بالحيضة بعد البيع كما لابد من الإتيان بثلاث حيض بعد الطلاق، فالواحدة منهن للفصل بين الثنتين، والثنتان للمبالغة فى براءة الرحم، ألا ترى أنها إن تزوجت قبل حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للأول، وإن تزوجت بعد حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للثانى فى رواية المصريين عن مالك، فجعلت أربع حيض واحدة قبل الطلاق للمبالغة وواحدة بعد الطلاق للفصل بين الثنتين والثالثة والرابعة للمبالغة فى براءة الرحم. واختلف العلماء فى معنى قوله، عليه السلام: (مره فليراجعها) ، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها، فسوى دم النفاس بدم الحيض. قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة فى الحيضة التى طلق فيها، وفى الطهر

(7/380)


بعدها، وفى الحيضة بعد الطهر، وفى الطهر بعدها ما لم تنقض عدتها، إلا أشهب، فإنه قال: يجبر على رجعتها فى الحيضة الأولى خاصة، فإذا طهرت منها، لم يجبر على رجعتها. قال ابن أبى ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور: يؤمر برجعتها ولا يجبر على ذلك، وحملوا الأمر فى ذلك على الندب ليقع الطلاق على سنة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها أنه لا يجبر على رجعتها، فدل على أن الأمر بمراجعتها ندب. وحجة من قال: يجبر على رجعتها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مره فليراجعها) ، وأمره فرض، وأجمعوا أنه إذا طلقها فى طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سنته. واختلفوا فى صفة طلاق السنة، فقال مالك: هو أن يطلق الرجل المرأة تطليقة واحدة فى طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تنقضى العدة برؤية الدم من أول الحيضة الثالثة، وهو قول الليث، والأوزاعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا حسن فى الطلاق، وله قول آخر، قال: إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدة من غير جماع، وهو قول الثورى، وأشهب صاحب مالك. وقال: من طلق امرأته فى طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها ثالثة فهو مطلق للسنة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سنة، قالوا: لما كان الطلاق للسنة فى طهر لم تمس فيه، وكانت الزوجة

(7/381)


الرجعية تلزمها ما أردفه من الطلاق فى عدتها بإجماع، كان له أن يوقع فى كل طهر لم تمس فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلقة فى طهر لم تمس فيه، وقد روى هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق للسنة. وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مطلقًا للسنة، وكيف يكون مطلقًا للسنة والطلقة الثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والطلقة الثالثة لا يكون بعدها إلا حيضة واحدة، وهذا خلاف السنة فى العدة، ومن طلق كما قال مالك، شهد له الجميع بأنه طلق للسنة. وقال النخعى: بلغنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم كانوا يستحبون ألا يزيدوا فى الطلاق على واحدة حتى تنقضى العدة. وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور: ليس فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة فى وقت الطلاق، فمن طلق امرأته واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا فى طهر لم يمسها فيه، فهو مطلق للسنة، وحجتهم قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ولم يخص واحدة من اثنتين ولا ثلاثة، وكذلك أمر ابن عمر بالطلاق فى القرء الثانى، ولم يخص واحدة من غيرها. ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السنة وردت فى الموضع الذى يخشى فيه الحمل أو تطول فيه العدة، فإذا كان طهر لم يمسها فيه أمن فيه الحمل وجاز أن يوقع ما شاء من الطلاق فى ذلك الموضع. فيقال لهم: قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، المراد منه أن لا يطلق فى الحيض، وكذلك حديث ابن عمر، وليس فى الآية والحديث ما يتضمن العدد، وكيف يوقع العدد؟ مأخوذ من دليل آخر.

(7/382)


ويقال للشافعى: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر على ابن عمر الطلاق، وإنما أنكر عليه موضع الطلاق، فعلمه كيف يوقعه ولا يكون الشافعى أعلم بهذا من عمر وابن عمر، وقد قالا جميعًا: من طلق ثلاثًا فقد عصى ربه. ولو كان من السنة طلاق الثلاث فى كلمة كما قال الشافعى لبطلت فائدة قوله تعالى: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] ، أجمع أهل التفسير أنه يعنى به الرجعة فى العدة، قالوا: وأى أمر يحدث بعد الثلاث، فدل أن الارتجاع لا يسوغ إلا فى المطلقة بدون الثلاث. قال ابن القصار: وقد روى عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى وغيرهم، إظهار النكير على من أوقع ثلاثًا فى مرة واحدة، وكان عمر يوجع من طلق امرأته ثلاثًا فى كلمة واحدة ضربًا، ويفرق بينهما. وفى حديث ابن عمر حجة لأهل المدينة والشافعى لقولهم: إن الأقراء الأطهار لقوله عليه السلام: (ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، فأخبر أن الطلاق فى العدة لا يكون إلا فى طهر يعتد به وموضع يحتسب به من عدتها، ويستقبلها من حينئذ، وكان هذا منه، عليه السلام، بيانًا لقوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، وقد قرئت: لقبل عدتهن، أى لاستقبال عدتهن. ونهى عن الطلاق فى الحيض؛ لأنها لا تستقبل العدة فى تلك الحيضة عند الجميع؛ لأن من قال: الأقراء الحيض، لا يجتزئ بتلك الحيضة من الثلاث حيض عنده حتى تستقبل حيضة بعد طهر،

(7/383)


وكذلك لو طلق عندهم فى طهر لم يعتد إلا بالحيضة المقبلة بعد الطهر الذى طلقت فيه، فجعلوا عليها ثلاثة قروء وشيئًا آخر، وذلك خلاف الكتاب والسنة، ويلزمهم أن يقولوا: إنها قبل الحيضة فى غير عدة، وهذا خلاف قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ولقوله عليه السلام: (فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب العدة وبيان أقوالهم إن شاء الله تعالى.
- باب إِذَا طُلِّقَتِ الْحَائِضُ، هَل يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلاقِ
/ 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذلك عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا) ، قُلْتُ: تُحْتَسَبُ، قَالَ: (فَمَهْ) ؟ . وقَالَ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ) . وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ. الطلاق يقع فى الحيض عند جماعة العلماء، وإن كان عندهم مكروهًا غير سنة، ولا يخالف الجماعة فى ذلك إلا طائفة من أهل البدع لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع الطلاق فى الحيض ولا فى طهر قد جامع فيه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو شذوذ لم يعرج عليه العلماء؛ لأن ابن عمر الذى عرضت له القصة احتسب بتلك التطليقة، وأفتى بذلك.

(7/384)


وفى أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر بمراجعتها دليل بيِّن على أن الطلاق فى الحيض لازم واقع؛ لأن المراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق ولزومه؛ لأنه من لم يطلق لا يقال له: راجع؛ لأنه محال أن يقال لرجل زوجته فى عصمته لم يفارقها: راجعها، بل كان يقال له: طلاقك لم يعمل شيئًا، ألا ترى قول الله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، يعنى فى العدة، وهذا لا يستقيم أن يقال مثله فى الزوجات غير المطلقات. قال المهلب: وقوله: (أرأيت إن عجز واستحمق) ، يعنى أرأيت إن عجز فى المراجعة التى أمر بها عن إيقاع الطلاق واستحمق، أى فقد عقله، فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة؟ وقد نهى الله عن ترك المرأة بهذه الحال، فلابد أن يحتسب بتلك التطليقة التى أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله تعالى، فلم يقمه واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر بذلك وسقط عنه؟ وهذا إنكار على من شك أنه لم يعتد بتلك التطليقة، وقد روى قتادة، عن يونس بن جبير: قلت لابن عمر: أجعل ذلك طلاقًا؟ قال: إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا. وقوله: (فمه) ، استفهام كأنه قال: فما يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة، والعرب تبدل الهاء بالألف؛ لقرب مخرجها كقولهم: ومهما يكن عند امرئ من خليقة والأصل ما يكون عند امرئ، فأبدل الهاء من الألف، وقد

(7/385)


أبدلت الهاء من أخت الألف وهى الياء فى قولهم: هذه، وإنما أرادوا هذى، كما أبدلت الياء من الهاء فى قولهم: دهديت الحجر، والأصل: دهدهت، وقالوا: دهدوهة الجمل ودهدوة، وإنما اجتمعت الياء والألف والواو والهاء فى بدل بعضها من بعض لتشابههما، ولأجل تشابههما اجتمعن فى أن يكن ضمائر، وفى أن يكن وصلاً فى القوافى، وقد أبدلت الهاء من الهمزة فى قولهم: أرقت وهرقت، وإياك وهياك، وكأرجت وهرجت.
3 - بَاب هَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلاقِ
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: (لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِى بِأَهْلِكِ) . / 4 - وفيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (هَبِى نَفْسَكِ لِى) ، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟ قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: (قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ) ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: (يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا) . / 5 - قال: يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، لابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِىَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: أتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ. . . . الحديث. مواجهة الرجل أهله بالطلاق جائز له لحديث عائشة، وفى حديث أبى أسيد أنه، عليه السلام، أمره أن يكسوها ويلحقها بأهلها، وليس فيه مواجهته لها، عليه السلام، بالطلاق، وكلا الأمرين سواء غير أن ترك

(7/386)


مواجهة المرأة بالطلاق أرفق وألطف وأيسر فى مراعاة ما جعل الله تعالى بين الزوجين من المودة والرحمة. قال الزجاج: خلق الله حواء من ضلع آدم، وجعل بين الرجل والمرأة المودة والرحمة. قال المهلب: وأما أمره، عليه السلام، أن تكسى فهى المتعة التى أمر الله بها للمطلقة غير المدخول بها، وسيأتى مذاهب العلماء فيها بعد هذا. وقوله للرجل: أتعرف ابن عمر؟ ، وهو يخاطبه، إنما هو تقرير على أصل السنة وعلى ناقلها؛ لأنه لازم للعامة الابتداء بمشاهير أهل العلم، فقرره على ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه يجهله، وقد قال مثل هذا لرجل سأله عن أم الولد، فقال: أتعرف أبا حفص أو عمر، يريد أباه، ولا خفاء به، ثم أخبره بقضيته فى أم الولد إلزامًا له حكمه فيها بإمامته فى الإسلام، لا على أن السائل كان يجهل عمر. قال ابن المنذر: واختلفوا فى قوله: الحقى بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لى عليك، وما أشبه ذلك من كنايات الطلاق، فقالت طائفة: ينوى فى ذلك، فإن أراد طلاقًا كان طلاقًا، وإن لم يرده لم يلزمه شىء، هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، قالا: إلا إن نوى واحدة أو ثلاثًا، فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهى واحدة؛ لأنها كلمة واحدة ولا تقع على اثنتين.

(7/387)


وقال مالك فى قوله: الحقى بأهلك، إن أراد به الطلاق فهو ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن لم يرد طلاقًا فليس بشىء. وقال الحسن والشعبى: إذا قال لها: الحقى بأهلك، ولا سبيل لى عليك، والطريق لك واسع، إن كان نوى به طلاقًا فهى واحدة وهو أحق بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بشىء. وروى عن عمر، وعلى فى قوله: حبلك على غاربك، أنهما حلفاه عند الركن على ما أراد وأمضياه، وهو قول أبى حنيفة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق، فهو مثل ذلك كقولهم: حبلك على غاربك، وقد خليت سبيلك، ولا ملك لى عليك، واخرجى، واستترى، وتقنعى، واعتدى. وقال مالك: لا ينوى أحد فى: حبلك على غاربك؛ لأنه لا يقوله أحد، وقد بقى من الطلاق شيئًا، ولا يلتفت إلى نيته إن قال: لم أرد طلاقًا. وقال الطحاوى: هذا الحديث أصل فى الكنايات عن الطلاق؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لابنة الجون حين طلقها: الحقى بأهلك، وقد قال كعب بن مالك لامرأته: الحقى بأهلك، حين أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باعتزالها، فلم يكن ذلك طلاقًا، فدل خبر كعب بن مالك على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى نية، وأن من قال لامرأته: الحقى بأهلك، فإنه لا يقضى فيه إلا بما ينوى اللافظ بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بطلاق، وهذا قول مالك، والكوفيين، والشافعى. قال غيره: فكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. وقال ابن حبيب: قال ابن القاسم، وابن الماجشون، ومطرف: الكنايات المحتملات للطلاق وغيره أن يقول لامرأته: اجمعى عليك

(7/388)


ثيابك، ولا حاجة لى بك، ولا نكاح بينى وبينك، ولا سبيل لى عليك، ولست منى بسبيل، أو اذهبى لا ملك لى عليك، أو لا تحلين لى، أو احتالى لنفسك، أو أنت سائبة، أو منى عتيقة، أو ليس بينى وبينك حلال ولا حرام، أو لم أتزوجك، أو استترى عنى، أو تقنعى، أو لست لى بامرأة، أو لا تكونى لى بامرأة حتى تكون أمه امرأته، أو يا طالقة، أو اعتزلى، أو تأخرى عنى، أو اخرجى، وشبه ذلك، فكله سواء بنى بها أو لم يبن لا شىء عليه إلا أن ينوى طلاقًا، فله ما نوى بعد أن يحلف على ذلك. قال غيره: والأصل أن العصمة متيقنة، فلا تزول إلا بنية وقصد؛ لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) . وأما الألفاظ التى ليست من ألفاظ الطلاق، ولا يكنى بها عنه، فأكثر العلماء لا يوقعون بها طلاقًا، وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأى لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله: كلى، واشربى، وقومى، واقعدى، ونحوه، والحجة له أن الله تعالى جعل الرمز وهو الإشارة كالكلام فى الكناية به عن المراد بقوله: (أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] ، وكما كان ما فعله المتلاعنان من تلاعنهما وتفرقهما طلاقًا، وإن لم يلفظ به، وكذلك روى فى المختلعة لما ردت عليه الحديقة فأخذها كان طلاقًا.

(7/389)


4 - باب مَنْ أَجَازَ طَلاقَ الثَّلاثِ، لِقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فِى مَرِيضٍ طَلَّقَ: لا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَة. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: تَرِثُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. / 6 - فيه: أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ ابْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ . . . . . الحديث. فَتَلاعَنَا فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِى فَبَتَّ طَلاقِى، وَإِنِّى نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِىَّ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ. فقَالَ لها النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ، لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ) . / 8 - قالت: عَائِشَةَ مرةً: إِنَّ رَجُلا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: (لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ) . اتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث فى كلمة واحدة، فإن ذلك عندهم مخالف للسنة، وهو قول جمهور السلف، والخلاف فى ذلك شذوذ، وإنما تعلق به أهل البدع، ومن لا يلتفت إليه لشذوذه

(7/390)


عن الجماعة التى لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن السلف الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق. قال أبو يوسف القاضى: كان الحجاج بن أرطاة يقول: ليس طلاق الثلاث بشىء، وكان ابن إسحاق يقول: ترد الثلاث إلى واحدة. واحتجوا فى ذلك بما رواه ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا فى مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبى، عليه السلام: (كيف طلقتها؟) ، قال: ثلاثًا فى مجلس واحد، قال: (إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت) ، فارتجعها. وروى ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأبى بكر، وصدرًا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم. قال الطحاوى: هذان حديثان منكران قد خالفهما ما هو أولى منهما، روى سعيد ابن جبير، ومجاهد، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، والنعمان بن أبى عياش، كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثًا أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته ولا ينكحها إلا بعد زوج، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، وعمران بن حصين، ذكر ذلك الطحاوى بالأسانيد عنهم.

(7/391)


وروى ابن أبى شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن سعيد ابن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفًا، أو قال: مائة، قال: بانت منك بثلاث، وسائرها اتخذت بها آيات الله هزوًا. وما رواه الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة يدل على وهن رواية طاوس عنه، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأى نفسه، وقد روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كان ابن عباس إذا سُئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، قال: لو اتقيت الله جعل لك مخرجًا. هذه الرواية لطاوس، عن ابن عباس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه؛ لأن من لا مخرج له قد لزمه من الطلاق ما أوقعه، فسقطت رواية ابن جريج، وأيضًا فإن أبا الصهباء الذى سأل ابن عباس عن ذلك لا يعرف فى موالى ابن عباس، وليس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن عباس رواية من ذكرنا عن ابن عباس، فصار هذا إجماعًا، وحديث ابن إسحاق منكر خطأ. وأما طلاق ركانة زوجته البتة ثلاثًا، كذلك رواه الثقات من أهل بيت ركانة، روى أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وأبو ثور، قالا: حدثنا الشافعى، قال: حدثنى عمى محمد بن على بن شافع، عن عبد الله بن على بن السائب، عن نافع بن عجير، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة، أن ركانة طلق امرأته شهيمة البتة، فأخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فقال: (ما أردت؟) ، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبى، عليه السلام، فطلقها الثانية فى زمن عمر،

(7/392)


والثالثة فى زمن عثمان. قال أبو داود: وهذا أصح ما روى فى حديث ركانة. وحجة الفقهاء فى جواز طلاق الثلاث فى كلمة قوله فى اللعان: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك، وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان، ولو كان ذلك محظورًا عليه لنهاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وأعلمه أن إيقاع الثلاث محرم ومعصية، فصح أن إيقاع الثلاث مباح، ولولا ذلك لم يقره النبى، عليه السلام. وأما وجه التعلق بحديث رفاعة فى هذا الباب، فقولها: إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى، فحمله البخارى على أن ذلك كان فى كلمة واحدة، وقد جاء فى الحديث أنها قالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقنى آخر ثلاث، ذكره فى كتاب الأدب فى باب التبسم والضحك، فبان أن الثلاث كانت مفترقات، ولم تكن فى كلمة، فلا حجة بهذا الحديث فى هذا الباب، وكذلك ما ذكره عن ابن الزبير فى مريض طلق: لا أرى أن ترث مبتوتة، فحمله على ظاهر الكلام، وتأول أن البتة كانت فى كلمة واحدة، ويحتمل أن تكون كانت فى كلمة واحدة أو أكثر منها. واختلف العلماء فى قول الرجل: أنت طالق البتة، فذكر ابن المنذر، عن عمر بن الخطاب أنها واحدة، وعن سعيد بن جبير مثله. وقال عطاء، والنخعى: يدين، فإن أراد واحدة فهى واحدة، وإن أراد ثلاثًا فثلاث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى. وقالت طائفة فى البتة: هى ثلاث، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سعيد ابن المسيب، وعروة، والزهرى، وابن أبى ليلى، ومالك،

(7/393)


والأوزاعى، وأبى عبيدة، واحتج الشافعى بحديث ركانة، واحتج مالك بحديث ابن عمر: أبت الطلاق طلاق البتة. قال ابن المنذر: وقد دفع بعض العلماء حديث ركانة، وقال عبد الله بن على بن يزيد ابن ركانة، عن أبيه، عن جده، لا يعرف سماع بعضهم من بعض. واختلفوا فى طلاق المريض يموت فى مرضه، فقالت طائفة: ترثه ما دامت فى العدة، روى عن عثمان بن عفان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف منه، وكانت فى العدة، وبه قال النخعى، والشعبى، وابن شبرمة، وابن سيرين، وعروة، وهو قول الثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى. وقالت فرقة: ترثه بعد العدة ما لم تزوج، روى عن عطاء، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى عبيد. وقالت فرقة: ترثه وإن تزوجت، هذا قول ربيعة، ومالك، والليث، وهو الصحيح عن عثمان، رواه مالك فى الموطأ عن ابن شهاب. وقالت فرقة: لا ترث مبتوتة بحال، وإن مات فى العدة، كقول ابن الزبير، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور وأهل الظاهر، واحتجوا لقول ابن الزبير بالإجماع على أن الزوج لا يرثها وإن ماتت فى العدة ولا بعد انقضاء العدة إذا طلقها ثلاثًا، وهو صحيح أو مريض، فكذلك الزوجة لا ترثه. ومن قال: لا ترثه إلا فى العدة، استحال عنده أن ترث المبتوتة فى حال لا ترث فيه الرجعية؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن من طلق امرأته صحيحًا طلقة يملك فيها

(7/394)


رجعتها، ثم انقضت عدتها قبل موته أنها لا ترثه؛ لأنها أجنبية ليست منه ولا هو منها، فلا تكون المبتوتة المختلف فى ميراثها فى العدة أقوى من الرجعية المجتمع على توريثها فى العدة. وأما الذين قالوا: ترثه بعد العدة ما لم تنكح، فإنهم اعتبروا إجماع المسلمين أنه لا ترث امرأة زوجين فى حال واحد، وقولهم غير صحيح؛ لأنه لا يخلو أن تكون له زوجة بعد انقضاء العدة أو لا تكون له زوجة، فإن كانت له زوجة، فلا يحل لها النكاح للإجماع أن امرأة تكون فى عصمة زوج لا يحل لها نكاح غيره، وإن كانت غير زوجة فمحال أن ترثه وهى زوجة لغيره، ومثل هذه العلة تلزم من قال: ترثه بعد العدة وإن تزوجت. وأهل هذه المقالة اتهمت المريض بالفرار من ميراث الزوجة والمريض محجور عليه الحكم فى ثلثى ماله بأن ينقص ورثته بأن يدخل عليهم وارثًا، فكذلك هو ممنوع من أن يخرج عنهم وارثًا، كما منع النبى، عليه السلام، الذى قتل وليه ميراثه بسبب ما أحدث من القتل، فكذلك لا ينبغى أن يكون المريض مانعًا زوجته الميراث بسبب ما أحدثه من الطلاق؛ لأن الميراث حق قد ثبت لها بمرضه.
5 - باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، وقوله تَعَالَى: (يا أيها النبِى قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [الأحزاب 28] الآية
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا.

(7/395)


وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لا أُبَالِى خَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِى. قال المؤلف: روى مثل قول مسروق عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين عطاء، وسليمان بن يسار، وربيعة، وابن شهاب، كلهم قال: إذا اختارت زوجها فليس بشىء، وهو قول أئمة الفتوى. وروى عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة، وهو قول الحسن البصرى، والقول الأول هو الصحيح لحديث عائشة. قال المهلب: والتخيير هو أن يجعل الطلاق إلى المرأة، فإن لم تطلق ما جعل إليها من ذلك، فليس بشىء، وكما أنه إذا جعل طلاق امرأته بيد رجل، فلم يستعمل ما جعل بيده فليس بشىء. وقال ابن المنذر: وحديث عائشة دلالة على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقًا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق؛ لأن فى قولها: فاخترناه، فلم يكن طلاقًا دلالة على أنهن لو اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقًا، ويدل على معنى ثالث وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها، فهى تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بخلاف أمر الله. واختلف العلماء إذا خيرها فاختارت نفسها، فروى عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أنها واحدة رجعية، وبه قال ابن أبى ليلى، والثورى، والشافعى، وفيها قول ثان: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالت طائفة: إن اختارت نفسها فقد طلقت ثلاثًا، روى ذلك عن زيد بن ثابت، وعن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والليث، والفرق بين التخيير والتمليك عند مالك أن قول الرجل: قد ملكتك، أى قد

(7/396)


ملكتك ما جعل الله لى من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه، وقال فى الخيار: إذا اختارت نفسها المدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا يكره له، وإن اختارت واحدة فليس بشىء، وإنما الخيار البتات إما أخذته وإما تركته؛ لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى فى آية التسريح: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً) [الأحزاب: 28] ، فمعنى التسريح البتات؛ لأن الله تعالى قال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة: 229] ، والتسريح بإحسان هى الطلقة الثالثة. قال ابن المنذر: وقالت جماعة: أمرك بيدك، واختارى، سواء. قال الشعبى: هو فى قول عمر، وعلى، وزيد بن ثابت سواء، وهو قول النخعى، وحماد، والكوفى، والزهرى، وسفيان الثورى، والشافعى، وأبى عبيد.
6 - باب إِذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوِ الْبَرِيَّةُ، أَوِ الْخَلِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِىَ بِهِ الطَّلاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 49] ، وَقَالَ: (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 28] ، وَقَالَ: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229] ، وَقَالَ: (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق: 2] . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِهِ.

(7/397)


اختلف قول مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو خليت سبيلك، فروى عيسى، عن ابن القاسم، أنها كلها ثلاث فى التى بنى بها إلا أن ينوى أقل، فله نيته ويحلف، وفى التى لم يبن بها حتى ينوى أقل. قال ابن المواز: وأصح قوليه فى ذلك أنها فى التى لم يبن بها واحدة إلا أن يريد أكثر، وقاله ابن القاسم، وابن عبد الحكم. وقال أبو يوسف فى قوله: فارقتك، أو خلعتك، أو خليت سبيلك، أو لا ملك لى عليك: أنها ثلاثًا ثلاثًا. واختلفوا فى الخلية والبرية والبائن، فروى عن على بن أبى طالب أنها ثلاث، وبه قال الحسن البصرى، وروى عن ابن عمر فى الخلية والبرية والبتة: هى ثلاث، وعن زيد ابن ثابت فى البرية: ثلاث. وفيها قول ثان: أن الخلية والبرية والبائن ثلاث فى المدخول بها، هذا قول ابن أبى ليلى. وقال مالك: هى ثلاث فى المدخول بها ويدين فى التى لم يدخل بها تطليقة واحدة أراد أم ثلاثًا، فإن قال: واحدة، كان خاطبًا من الخطاب، وقاله ربيعة. وقال الثورى وأبو حنيفة: نيته فى ذلك، فإن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وهى أحق بنفسها، وإن نوى ثنتين فهى واحدة. وقال الشافعى: هو فى ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام منى طلاقًا، فيكون ما نوى، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيًا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية.

(7/398)


وقال إسحاق: هو إلى نيته يدين. وقال أبو ثور: هى تطليقة رجعية، ولا يسئل عن نيته فى ذلك. ويمكن أن يكون البخارى أشار إلى قول الكوفيين والشافعى وإسحاق فى قوله: أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته. والحجة لذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقًا وغير طلاق، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقر المتكلم أنه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح؛ لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. وقوله: بريت منى، أو بريت منك، وهو من البرية، وكان بعض أصحاب مالك يرى المباراة من البرية ويجعلها ثلاثًا، وتحصيل مذهب مالك أن المباراة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كله واحدة عندهم بائنة، والحجة لمالك فى قوله: قد فارقتك، وسرحتك، وخلية، وبرية، وبائن، أنها ثلاث فى المدخول بها أن هذه الألفاظ مشهورة فى لغة العرب مستعملة فى عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالطلاق الثلاث، بل هذه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالاً من قولهم: أنت طالق، ولم يرد الشرع بخلافها، وإنما ورد أن يفرق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع. وأما قوله لعائشة: إنى ذاكر لك أمرًا، فلا تعجلى حتى تستأمرى أبويك، ففيه حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها، أن لها أن تقضى فى ذلك وإن افترقا من مجلسهما، روى هذا عن الحسن، والزهرى، وقاله مالك، وروى عن مالك أيضًا أن لها أن تقضى ما لم يوقفها السلطان، وكان قول مالك الأول أن اختيارها على

(7/399)


المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيين، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور. قال أبو عبيد: والذى عندنا فى هذا اتباع السنة فى عائشة فى هذا الحديث حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجًا من الأمر. وقال المروزى: وهذا أصح الأقاويل عندى، وقاله ابن المنذر والطحاوى، وبهذا نقول؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد جعل لها الخيار فى المجلس وبعده حتى تشاور أبويها، ولم يقل: فلا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك فى مجلسك.
7 - باب مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ
قَالَ الْحَسَنُ: بنِيَّتُهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِى يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأنَّهُ لا يُقَالُ لِلطَعَامِ الْحِلِّ: حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ، وَقَالَ فِى الطَّلاقِ ثَلاثًا: لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى نَافِعٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاثًا، قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَنِى بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. / 10 - فيه: عَائِشَةَ، طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا،

(7/400)


فَأَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِى طَلَّقَنِى، وَإِنِّى تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَدَخَلَ بِى، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِى إِلا هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّى إِلَى شَىْءٍ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِى الأوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّلِ، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ) . اختلف العلماء فيمن قال لامرأته: أنت علىّ حرام، على ثمانية أقوال سوى اختلاف قول مالك، فقالت طائفة: هى ثلاث، ولا يسئل عن نيته، روى هذا عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى فى روايته، والحكم بن عتيبة، وابن أبى ليلى، ومالك، وروى عن مالك وأكثر أصحابه فيمن قال لامرأته قبل أن يدخل بها: أنت علىّ حرام، أنها ثلاث إلا أن يقول: نويت واحدة. وقال عبد العزيز بن أبى سلمة: هى واحدة، إلا أن يقول: أردت ثلاثًا. وقال عبد الملك: لا ينوى فيها، وهى ثلاث على كل حال كالمدخول بها. وقول آخر قاله سفيان: إن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهى يمين يكفرها، وإن لم ينو فرقة ولا يمينًا فهى كذبة. وقول آخر نحو قول الثورى قاله أبو حنيفة وأصحابه، غير أنهم قالوا: إن نوى اثنتين فهى واحدة، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين وهو مؤل. وقول آخر روى عن ابن مسعود: إن نوى طلاقًا فهى تطليقة، وهو

(7/401)


أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين يكفرها، وعن ابن عمر مثله، وبه قال النخعى وطاوس. وقال الشافعى: ليس قوله: أنت علىّ حرام، بطلاق حتى ينويه، فإن أراد الطلاق فهو على ما أراد من الطلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاق، كان عليه كفارة يمين. قال الشافعى: وليس بمؤل. وقول آخر عن ابن عباس: من قال لامرأته: أنت حرام، لزمته كفارة الظهار، وهو قول أبى قلابة، وسعيد بن جبير، وبه قال أحمد بن حنبل، واحتج ابن عباس بقوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، ثم قال: عليه أغلظ الكفارات عتق رقبة. وقول آخر: أن الحرام يمين تكفر، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وجماعة، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، واحتج أبو ثور بأن الحرام ليس من ألفاظ الطلاق بقوله: (يا أيها النبى لما تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، ولم يوجب به طلاقًا، وكان حرم على نفسه مارية، ثم قال: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] . والقول الثامن: أن تحريم المرأة كتحريم الماء ليس بشىء، ولا فيه كفارة ولا طلاق؛ لقوله تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة: 87] ، روى ذلك عن الشعبى، ومسروق، وأبى سلمة. قال مسروق: ما أبالى حرمت امرأتى أو جفنة من ثريد. وقال الشعبى: أنت علىّ حرام أهون من نعلى. وقال أبو سلمة: ما أبالى حرمتها أو حرمت الفرات، وهذا القول شذوذ، وعليه بوب البخارى هذا الباب.

(7/402)


وذهب إلى أن من حرم زوجته أنها ثلاث، والحجة لذلك إجماع العلماء أن من طلق امرأته ثلاثًا أنها تحرم عليه، فلما كانت الثلاث تحريمًا كان التحريم ثلاثًا، وإلى هذه الحجة أشار البخارى فى حديث رفاعة؛ لأنه طلق امرأته وبت طلاقها، فلم تحل له إلا بعد زوج، فحرمت عليه مراجعتها بالثلاث تطليقات، فكذلك من حرم على نفسه امرأته كان كمن طلقها ثلاثًا، ومن قال: تلزمه كفارة الظهار، فليس بالبين؛ لأن الله إنما جعل كفارة الظهار للمظاهر خاصة. وقال الطحاوى: من قال: تلزمه كفارة الظهار، كان محمولاً على أنه إن أراد الظهار كان ظهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مغلظة على ترتيب كفارة الظهار: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا يكون ذلك ظهارًا، وإن أراده. وأما قول الحسن فى الحرام: له نيته، فهى رواية أخرى ذكرها عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو، عن الحسن، قال: إن نوى طلاقًا فهى طلاق، وإلا فهى يمين، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر.
8 - باب) لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1]
/ 11 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21] . / 12 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلْتَقُلْ: إِنِّى

(7/403)


أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ: فَقَالَ: (لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ) ، فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (إِلَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) [التحريم: 3] بِقَوْلِهِ: (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا) . أما ما ذكره البخارى عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل امرأته فليس بشىء، يعنى فليس بتحريم مؤبد، وعليه كفارة يمين، روى يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، أما لكم فى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة؟ وروى عنه أن عليه كفارة الظهار، وقد تقدم ذلك فى الباب قبل هذا، وتقدم فيه مذاهب الفقهاء فى هذه المسألة. وقال الطحاوى: روى فى قوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لن أعود لشرب العسل) ، ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين؛ لقوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] ، فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم. وقال زيد بن أسلم فى هذه الآية: إنه حلف، عليه السلام، ألا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك: هى حرام، ثم أمره الله فكفر، فكانت كفارته ليمينه لا لتحريمه. قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان حرم على نفسه شربة من عسل، وحلف على ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين.

(7/404)


قال المهلب: قوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، هذا فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأى لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة، وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهى عنه؛ لقوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، وهذه نعمة أنعم الله بها على محمد وأمته بخلاف ما كان فى سائر الأديان. ألا ترى أن إسرائيل حرم على نفسه أشياء، وكان نص القرآن يعطى أن من حرم على نفسه شيئًا أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الإلزام إذا كان يمينًا بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم إنعامًا من الله علينا وتخفيفًا عنا. وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله على أنفسنا كالمشى إلى بيت الله الحرام، ومسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ومسجد إيلياء، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك ألزمنا هذا، لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك) [التحريم: 1] ، فلم يجعل الله تعالى لنبيه، عليه السلام، أن يحرم إلا ما حرم الله،) والله غفور رحيم) [التحريم: 1] ، أى قد غفر الله لك ذلك التحريم. وفيه من الفقه: أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية تجب التوبة منه؛ لقوله: (إن تتوبا إلى الله) [التحريم: 4] ،

(7/405)


ويحتمل أن يتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه فى الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان يناله من ذلك الشراب. وفيه: دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معانى الدنيا لا يحل، وإن كان ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا. والمغافير شبيه بالصمغ تكون فى الرمث فيه حلاوة تطيب نكهة آكله، يقال: أغفر الرمث إذا ظهر فيه، واحدها مغفور. وقال صاحب العين: جرست النحل العسل تجرسه جرسًا، وهو لحسها إياها. والعرفط شجر العضاة، والعضاة كل شجر له شوك، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ.
9 - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [الأحزاب 49] الآية
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ. وَيُرْوَى فِى ذَلِكَ عَنْ عَلِىٍّ بْنِ أَبِى طَالِب، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَالِم، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِموٍ، وَالشَّعْبِىِّ: أَنَّهَا لا تَطْلُقُ. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن حلف بطلاق من لم

(7/406)


يملك على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة: لا طلاق قبل نكاح، وهو قول على، وعائشة، وابن عباس، واحتج ابن عباس فى ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) [الأحزاب: 49] الآية، وقال: جعل الله الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور التابعين المذكورين فى هذا الباب، وهو مذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وروى العتبى، عن على بن معبد، عن ابن وهب، عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف: إن تزوجت فلانة فهى طالق، فتزوجها أنه لا شىء عليه، وقاله ابن وهب، ونزلت بالمخزومى فأتاه مالك بذلك، وروى أبو زيد، عن ابن القاسم مثله، وقال محمد بن عبد الحكم: ما أراه حانثًا. وقد قال ابن القاسم: أمر السلطان ألا يحكم فى ذلك بشىء وتوقف فى الفتيا به آخر أيامه. قال محمد: وكان عامة مشايخ المدينة لا يرون به بأسًا، وهو قول ابن أبى ذئب، وأما جمهور أصحاب مالك، فلا يرون ذلك. وفيها قول ثان وهو إيجاب الطلاق قبل النكاح، روى ذلك عن ابن مسعود، والقاسم، وسالم، والزهرى، وأبى حنيفة، وأصحابه. والقول الثالث: إذا لم يسم الحالف بالطلاق امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضًا وعم فى يمينه تحريم ما أحل الله له، فلا يلزمه ذلك وليتزوج ما شاء، فإن سمى امرأة أو أرضًا أو قبيلة أو ضرب أجلاً يبلغ عمره أكثر منه لزمه الطلاق، وكذلك لو قال: كل عبد أملكه حر، فلا شىء عليه؛ لأنه عم، وإن خص جنسًا أو بلدًا أو ضرب أجلاً يبلغ مثله لزمه، هذا قول النخعى، وربيعة، ومالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، وذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن ابن مسعود.

(7/407)


قال ابن المنذر: ومن حجة أهل المقالة الأولى ما رواه ابن أبى ذئب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طلاق قبل نكاح) . قال ابن المنذر: وحجة أخرى وهو أنه لما أجمعوا أن من باع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع غير لازم له، فكذلك إذا طلق امرأة ثم تزوجها أن الطلاق غير لازم له. واحتج الكوفيون بما رواه مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وسالم، والقاسم، وفقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق المرأة قبل أن ينكحها، ثم أتم، أن ذلك لازم له إذا نكحها، وتأولوا قوله: (لا طلاق قبل نكاح) ، أن يقول الرجل: امرأة فلان طالق، أو عبد فلان حر، وهذا ليس بشىء، وأما أن يقول: إن تزوجت فلانة فهى طالق، فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك فى الحرية يريد إن اشتريتك فأنت حرة. قالوا: ومثله (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) ؛ لأنه يحتمل أن يلزمه فيه النذر إذا ملكه، قالوا: وأيضًا فقد جاء الحديث: (لا طلاق إلا بعد نكاح) ، وليس فيه لا عقد طلاق، وهو الذى أجزناه وشبهه لعلة الاحتباس أنه يجوز فيها الصدقة من قبل أن تخلق فى ملكه. واحتج الأبهرى لقول مالك، فقال: إذا سمى امرأة أو قبيلة أو بلدة، فإنه يلزمه عقد الطلاق؛ لأنه ليس بعاص فى هذا العقد، وكل من عقد عقدًا ليس بعاص فيه، فالعقد له لازم وعليه الوفاء به؛ لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، وقوله تعالى: (يوفون بالنذر) [الإنسان: 7] ،

(7/408)


والنذر فى لسان العرب إيجاب المرء على نفسه شيئًا، وإن لم يكن فى ملكه، يدل على ذلك قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) [التوبة: 75] الآية، فثبت بهذا أنه يلزمه ما ألزم نفسه وإن لم يكن فى ملكه، ومخالفنا يقول: إن أوجب على نفسه نذر عتق أو صدقة درهم قبل ملكه أن ذلك يلزمه، فكذلك عقد الطلاق، فأما إذا عم النساء، فإن ذلك معصية؛ لأنه قصد منع نفسه النكاح الذى أباحه الله له، فلا يصح عقده؛ لقوله عليه السلام: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) .
- بَاب إِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ: هَذِهِ أُخْتِى، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِى، وَذَلِكَ فِى ذَاتِ اللَّهِ
. إنما أراد البخارى بهذا التبويب، والله أعلم، رد قول من نهى عن أن يقول الرجل لامرأته: يا أختى؛ لأنه قد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن خالد الحذاء، عن أبى تميمة الهجيمى، قال: مرَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على رجل وهو يقول لامرأته: يا أُخية، فزجره، ومعنى كراهة ذلك، والله أعلم، خوف ما يدخل على من قال لامرأته: يا أختى، أو أنت أختى، أنه بمنزلة من قال: أنت علىَّ كظهر أمى أو كظهر أختى فى التحريم إذا قصد إلى ذلك، فأرشده النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اجتناب الألفاظ المشكلة التى يتطرق بها إلى تحريم المحلات، وليس يعارض هذا بقول إبراهيم فى زوجته: هذه أختى؛ لأنه إنما أراد

(7/409)


بها أخته فى الدين والإيمان، فمن قال لامرأته: يا أختى، وهو ينوى ما نواه إبراهيم من أخوة الدين، فلا يضره شيئًا عند جماعة العلماء.
- باب الطَّلاقِ فِى الإغْلاقِ، وَالْكُرْهِ، وَالسَّكْرَانِ، وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ، وَالنِّسْيَانِ فِى الطَّلاقِ، وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ
لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَانَوَى وَتَلا الشَّعْبِىُّ: (لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] ، وَمَا لا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِلَّذِى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا: (أَبِكَ جُنُونٌ) ؟ وَقَالَ عَلِىٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَىَّ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى؟ فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلا لِسَكْرَانَ طَلاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ عُقْبَةُ ابْنُ عَامِرٍ: لا يَجُوزُ طَلاقُ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَأ بِالطَّلاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ. وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ، فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِى طَالِقٌ ثَلاثًا، يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لا حَاجَةَ لِى فِيكِ نِيَّتُهُ، وَطَلاقُ كُلِّ

(7/410)


قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ: الْحَقِى بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِى نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاقًا فَهُوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِىٌّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. وَقَالَ عَلِىٌّ: كُلُّ طَّلاقِ جَائِزٌ إِلا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ. وَقَالَ قَتَادَة: إِذَا طَلَّقَ فِى نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ) . / 14 - وفيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ عنه فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أَحْصَنْتَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ. / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، إلا أنه زاد: فَأَعْرَضَ عَنْهُ أربعًا، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَقَالَ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ) ؟ قَالَ: لا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. . .) الحديث. تأويل الإغلاق عند العلماء الإكراه، قال أبو عبيد: الإغلاق التضييق، فإذا ضيق على المكره وشدد عليه حتى طلق لم يقع حكم طلاقه، فكأنه لم يطلق.

(7/411)


واختلفوا فى طلاق المكره على ما يأتى ذكره فى كتاب الإكراه، ونذكر منه هاهنا طرفًا قال مالك، والأوزاعى، والشافعى: لا يلزم. وقال الكوفيون: طلاق المكره لازم. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله: (الأعمال بالنيات) ، وبما رواه الأوزاعى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (تجاوز الله لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، واحتجوا بقوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106] ، فنفى الكفر باللسان إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان، فكذلك الطلاق إذا لم يرده ولم ينوه بقلبه لم يلزمه، ولذلك قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق. قال الطحاوى: التجاوز معناه العفو عن الإثم؛ لأن العفو عن الطلاق والعتاق لا يصح؛ لأنه غير مذنب فيعفى عنه، قال: وكما ثبت له حكم الوطء بالإكراه، فيحرم به على الواطئ ابنة المرأة وأمها، فكذلك القول لا يمنع من وقوع ما طلق. واختلفوا فى طلاق السكران، فأجازته طائفة ذكره ابن وهب، عن عمر بن الخطاب، ومعاوية بن أبى سفيان، وجماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والقاسم، وسالم، وذكره ابن المنذر، عن الحسن، وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والثورى. واختلف فيه قول الشافعى، فأجازه مرة ومنع منه أخرى، وألزمه مالك الطلاق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال الكوفيون: أقوال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال

(7/412)


الصاحى إلا الردة، فإذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته استحسانًا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدًا فى حال سكره. وهو قول الشافعى إلا أن لا نقتله فى حال سكره ولا نستتيبه. وقالت طائفة: لا يجوز طلاق السكران، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، والقاسم، وربيعة، وهو قول الليث، وإسحاق، وأبى ثور، والمزنى، واختاره الطحاوى، وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، فالسكران معتوه بسكره كالموسوس معتوه بالوسواس، ولا يختلفون أن من شرب البنج، فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. ولا يختلف حكم فقدان العقل بسبب من الله أو بسبب من أجله، ألا ترى أنه لا فرق بين من عجز عن القيام فى الصلاة بسبب من الله أو من قبل نفسه بأن يكسر رجل نفسه فى باب سقوط فرض القيام عنه. واحتج أهل المقالة الأولى، وفرقوا بين المجنون والسكران، قال عطاء: ليس السكران كالمغلوب على عقله؛ لأن السكران أتى ما أتى، وهو يعلم أنه يقول ما لا يصلح. قال غيره: ألا ترى أن المجنون لا يقضى ما فاته من صلاته فى حال جنونه، ويلزم السكران ذلك فافترقا، وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم رد هذا القول، فقال: ليس فى احتجاج من احتج بأن الصلاة تلزم السكران ولا تلزم المجنون حجة؛ لأن الصلاة قد تلزم النائم ولا تلزم المجنون، ولو طلق رجل فى حال نومه، وطلق آخر فى حال جنونه، لم يقع طلاق واحد منهما.

(7/413)


وفى قولهم: إن السكران إذا ارتد لم يستتب فى حال سكره ولم يقتل، دليل على أن لا حكم لقوله، ورد المهلب هذا القول، فقال: معلوم فى الأغلب من الحال أن السكران إذا طلق لم يذهب جميع عقله، والدليل على ذلك أنه أوقع الطلاق، فقد نطق بكلام مفهوم، وقد شرط الله فى حد السكران الذى تبطل الصلاة به وغيرها أن لا يعلم ما يقول، وهذا المطلق يعلم ما يقول، وقصد بالطلاق معنى معلومًا فى السنة، واستدللنا أنه علم ما قال؛ لأنه قاله لمن لا يقال إلا له فصح قصده الطلاق، فوجب إلزامه له. قال ابن القصار: إن شرب السكران للتداوى جائز، ولا حد فى السكر منه كما هو فى الخمر، فلا يقع طلاقه. فيقال لهم: إن شرب الدواء لغير مصلحة، ولكن ليزيل عقله، فإن طلاقه عندنا يقع. قال المهلب: ولا حجة لمن لم يجز طلاق السكران فى حديث حمزة حين سكر؛ لأن الخمر حينئذ كانت مباحة، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به فى حال سكره، وهذه القصة كانت سبب تحريم الخمر، فليس يجب أن نحكم بما كان قبل تحريم الخمر على ما كان بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم فى ذلك، وقد ذكرت فى كتاب الأشربة، فى باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل اختلاف العلماء فى حد السكر الموجب للحد ما هو. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على أن طلاق المعتوه والمجنون لا يلزم وقد احتج فى ذلك على بن أبى طالب فى هذا الباب بما فيه مقنع. قال مالك: وكذلك المجنون الذى يفيق أحيانًا يطلق فى حال

(7/414)


جنونه، والمبرسم قد رفع عنه القلم لغلبة العلم أنه فاسد المقاصد، وأن أفعاله وأقواله مخالفة لرتبة العقل. قال المهلب: ومعنى قوله عليه السلام: (أبك جنون) ، يعنى فى بعض أوقاتك، ولو أراد أبك جنون الدهر كله ما وثق بقوله أن به جنونًا، وإنما معناه أبك جنون فى غير هذا الوقت، فيكون قولك: إنك قد زنيت فى وقت ذلك الجنون، وإنما طلب شبهة يدرأ عنه الحد بها؛ لأن المجنون إنما يحمل أمره على فقد العقل وفساد المقاصد فى وقت جنونه، والسكران أصله العقل، والسكر إنما هو طارئ على عقله، فما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على أصل عقله حتى ينتهى إلى فقدان عقله. واختلفوا فى الخطأ والنسيان فى الطلاق، فقالت طائفة: من حلف على أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسيًا لم يحنث، هذا قول عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وروى عن نافع فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك قال الشافعى فيمن غلبه لسانه بغير اختيار منه، فقوله كلا قول، ولا يلزمه طلاق ولا غيره. وروى عن الشعبى، وطاوس فى الرجل يحلف على الشىء، فيخرج على لسانه غير ما يريد له نيته، وحققه أحمد. وقال الحكم: يؤخذ بما تكلم به، وممن أوجب عليه الحنث مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وربيعة، والزهرى، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، وابن أبى ليلى، والأوزاعى. وحجة من لم يوجب الحنث عليه قوله: (الأعمال بالنيات) ،

(7/415)


والناسى لا نية له، وقوله: (إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه) . واحتج الذين أوجبوا الحنث، فقالوا: معنى رفع الخطأ والنسيان إنما هو فى الإثم بينك وبين الله. وأما فى حقوق العباد، فلازمة فى الخطأ والنسيان، فى الدماء والأموال، وإنما يسقط فى قتل الخطأ ما كان يجب لله من عقوبة أو قصاص، ووقع فى كثير من النسخ، والنسيان فى الطلاق والشرك وهو خطأ، والصواب والشك مكان الشرك. واختلف العلماء فى الشك فى الطلاق، فأوجب الطلاق بالشك مالك، وقال الأوزاعى، وسعيد بن عبد العزيز: أفرق بالشك ولا أجمع بالشك، وممن لم يوجب الطلاق بالشك ربيعة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق: من شك فلم يدر أطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا وجبت عليه واحدة، وهى عنده حتى يستيقن، ولا يجوز عندهم أن يرفع يقين النكاح بشك الحنث، وإلى هذا أشار البخارى. وأما قول عطاء: إذا بدأ بالطلاق فله شرطه، وقول نافع: إذا طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، وقول الزهرى فيمن قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتى طالق، فسيأتى فى كتاب الطلاق. وأما قول إبراهيم: إن قال: لا حاجة لى فيك، نيته، فهو قول أصحاب مالك، قالوا: إن أراد بذلك الطلاق لزمه ما أراد منه، وإن لم يرد طلاقًا أحلف ودين، وقوله: طلاق كل قوم بلسانهم، فالعلماء

(7/416)


مجمعون أن العجمى إذا طلق بلسانه وأراد الطلاق أنه يلزمه؛ لأنهم وسائر الناس فى أحكام الله سواء. وأما قول قتادة: إذا حملت فأنت طالق يغشاها فى كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه، فهو قول ابن الماجشون، وحكى مثله ابن المواز، عن أشهب، قال فى قوله: إذا حملت وإذا حضت وإذا وضعت ليس بأجل، ولا شىء عليه حتى يكون ما شرط، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، قالوا: وسواء كان مما هو غيب لا يعلم أو مما يعلم نحو قوله: إن ولدت وإذا أمطرت السماء وإذا جاء رأس الهلال، فإنه لا يقع الطلاق إلا بوجود الوقت والشرط. وقال ابن القاسم فى قوله: إذا حملت فأنت طالق، لا يمنع من وطئها فى ذلك الطهر مرة فقط، ثم يطلق إذا وطئها حينئذ، ولو كان قد وطئها فيه قبل مقالته طلقت مكانها ويصير كالذى قال لزوجته: إن كنت حاملاً فأنت طالق، وإن لم يكن بك حمل فأنت طالق، فإنها تطلق مكانها ولا ينتظر اختبارها أبها حمل أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا، وكذلك قوله لغير حامل: إذا حملت فوضعت فأنت طالق، أو قال: إذا وضعت فقط فأنت طالق، وإن وطئ فى ذلك الطهر وإلا إذا وطئ مرة طلقت. وقال ابن أبى زيد: اختلف فيه قول مالك. وقال الطحاوى: لا يختلفون فيمن أعتق عبده، إذا كان هذا لما هو كائن لا محالة أو لما قد يكون، وقد لا يكون أنهما سواء ولا يعتق حتى يكون الشرط فكذلك الطلاق. وقول الزهرى: إن قال: ما أنت بامرأتى، نيته، فإن نوى طلاقًا فهو ما نوى، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى. وقال الليث: هى كذبة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بطلاق.

(7/417)


وقول قتادة: فإذا طلق فى نفسه فليس بشىء، هو قول جماعة أئمة الفتوى، واختلف فيه قول مالك، فذكر عنه ابن المواز أن من عقد طلاقًا بقلبه ولم يلفظ به لسانه فإنه لا يقع، وهذا الأظهر من مذهبه، وروى عنه أشهب فى العتبية أنها تطلق عليه، وهذا قول ابن سيرين وابن شهاب، وقال ابن سيرين: إذا طلق فى نفسه أليس قد علمه الله تعالى، وحجة الجماعة قوله: (إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم) ، فجعل ما لم ينطق به اللسان لغوًا لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلم. وقال ابن المنذر: وكذلك قوله: (الأعمال بالنيات) ، فجعل الأعمال مقرونة بالنيات، ولو كان حكم من أضمر فى نفسه شيئًا حكم المتكلم، كان حكم من حدث نفسه فى الصلاة بشىء متكلمًا، وفى إجماعهم على أن ذلك ليس بكلام مع قوله، عليه السلام: (من صلى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفر له) ، دليل على أن حديث النفس لا يقوم مقام الكلام، وأجمعوا أن من حدث نفسه بالقذف غير قاذف، وكذلك اختلفوا فيمن كتب إلى امرأته بالطلاق من غير لفظ به، فأوجب قوم الطلاق بالكتابة، هذا قول النخعى، والشعبى، والحكم، والزهرى، ومحمد بن الحسن، واحتج الزهرى فى أن الكتاب كلام بقوله: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) [مريم: 11] ، قال: كتب لهم، وهو قول أحمد بن حنبل إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنه عمل بيده. وقالت طائفة: إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق، روى ذلك عن

(7/418)


عطاء، والحسن، وقتادة، وقال مالك والأوزاعى: إذا كتب إليها وأشهد على كتابه، ثم بدا له، فله ذلك ما لم يوجه إليها بالكتاب، فإذا وجهه فقد طلقت فى ذلك الوقت، إلا أن ينوى أنها لا تطلق عليه حتى يبلغ كتابه. وقوله: أذلقته الحجارة، قال صاحب الأفعال: أذلقته، يقال: أذلق الرجل غيره أخرقه بطعنة أو حجر يضربه به، وقد تقدم تفسير الحرة فى كتاب الصيام. وقوله: جمز، يعنى وثب، وفى كتاب الأفعال: جمز الفرس جمزًا وأجمز وثب، فاستعير الجمز للإنسان بمعنى الوثب، وجمز الإنسان أسرع فى مشيه.
- باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاقُ فِيه وقوله: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) [البقرة: 229] الآية
وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، وَقَالَ طَاوُسٌ: (إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [البقرة: 229] : فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ: لا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ. / 16 - وفيه: عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِى الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَرُدِّينَ

(7/419)


عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. / 17 - وعن عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ - بِهَذَا - ولم يذكر ابْن عَبَّاس. / 18 - وقال عِكْرِمَةَ: أَنَّ جَمِيلَةَ. . . الحديث. قال ابن المنذر: قوله تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن) [البقرة: 229] الآية، فحرم الله على الزوج أن يأخذ من امرأته شيئًا مما أتاها الله إلا بعد الخوف الذى ذكره الله، ثم أكد ذلك بتغليظ الوعيد على من تعدى أو خالف أمره، فقال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) [البقرة: 229] ، وبمعنى كتاب الله جاءت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى جميلة امرأة ثابت بن قيس حين قالت: يا رسول الله، إنى لا أعتب عليه فى خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر فى الإسلام لا أطيقه بغضًا. رواه قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وروى معتمر بن سليمان، عن فضيل، عن ابن أبى جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أول خلع فى الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى، عليه السلام، فقالت: يا رسول الله، لا تجتمع رأسى ورأسه أبدًا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل فى عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا، فقال: (أتردين عليه حديقته؟) ، قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل فى الخلع، وعليه جمهور الفقهاء، قال مالك: ولم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسىء إليها ولم تؤت من قبله، وأحبت

(7/420)


فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى امرأة ثابت، وإن كان النشوز من قبله بأن يضر بها ويضيق عليها رد عليها ما أخذ منها، روى هذا عن ابن عباس، وعامة السلف، وبه قال الثورى، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز فى القضاء، وروى ابن القاسم عن مالك مثله، وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف حديث امرأة ثابت، وإنما فيه أخذ الفدية من الناشز لزوجها إذا كان لنشوزها كارهًا، وللمقام معها محبًا، وإن كانت الإساءة من قبله، لم يجز له أن يأخذ منها شيئًا؛ لقول الله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) [النساء: 20] الآية. قال مجاهد: مجامعة النساء والميثاق الغليظ كلمة النكاح التى تستحل بها فروجهن، فجعله ثمنًا للإفضاء. قال ابن المنذر: واحتج بعض المخالفين، فقال: لما جاز أن يأخذ مالها إذا طابت به نفسًا على غير طلاق، جاز له أن يأخذه على طلاق، قيل: هذا غلط كبير؛ لأنه حمل ما حرمه الله فى كتابه من أبواب المعاوضات على ما أباحه من سائر أبواب العطايا المباحة، أفيجوز لهذا القائل أن يشبه ما حرم الله من الربا فى كتابه بما أباح من العطايا على غير عوض، فنقول: لما أبيح لى أن أهب مالى بطيب نفس من غير عوض، جاز لى أن أعطيه فى أبواب الربا بعوض، فإن قال: لا يجوز ذلك، فليعلم أنه قد أتى مثل ما أنكر فى باب الربا حيث شبه قوله: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) [النساء: 4] بما حرم فى قوله: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) [البقرة: 229] .

(7/421)


وفى حديث ابن عباس دلالة على فساد قول من قال: لا يجوز له أخذ الفدية منها حتى تكون من كراهيته لها على مثل ما هى عليه، وهو قول طاوس والشعبى، وروى مثله عن القاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب. قال الطبرى: وذلك أن امرأة ثابت أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) شاكية، فقالت له: لا أنا ولا ثابت، فقال لها: (أتردين عليه حديقته؟) ، ولم يسأل ثابتًا هل أنت لها كاره كراهيتها لك؟ فإن ظن أن قوله: (ولا يحل لكم) [البقرة: 229] الآية، يدل أن الزوج إنما أبيح له أخذ الفدية إذا خاف من كل واحد منهما ببغض صاحبه النقص فى الواجب له عليه، قيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، وكان معلومًا أن المرأة إذا أظهرت لزوجها البغضة، لم يؤمن عليها النشوز والتقصير على حق زوجها، وإذا كان ذلك لم يؤمن من زوجها مثل ذلك من التقصير فى الواجب عليه، وروى عن ابن سيرين أنه قال: لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً، وهذا خلاف الحديث. واختلفوا فى الخلع بأكثر مما أعطاها، فقالت طائفة: لا يجوز له الخلع بأكثر من صداقها، هذا قول عطاء، وطاوس، وكره ذلك ابن المسيب، والشعبى، والحكم، وقال الأوزاعى: كانت القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وبه قال أحمد، وإسحاق، قالوا: وهو ظاهر حديث ثابت؛ لأن امرأته إنما ردت عليه حديقته فقط. وقالت طائفة: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو مذهب عثمان بن عفان، وابن عمر، وقبيصة، والنخعى، وبه قال مالك، وأبو

(7/422)


حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وقال مالك: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس من مكارم الأخلاق، قال: ولم أر أحدًا ممن يقتدى به يكره ذلك، وقد قال الله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 229] ، وقد نزع بهذه الآية قبيصة بن ذؤيب. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد احتج بهذه الآية من قال: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس كما ظن، ولو قال إنسان: لا تضربن فلانًا إلا أن تخاف منه شيئًا، فإن خفته فلا جناح عليك فيما صنعت به لكان مطلقًا له أن يصنع به ما شاء. ومعنى قول البخارى: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها، يعنى أن يأخذ منها كل ما لها إلى أن يكشف لها رأسها ويترك لها قناعها وشبهه مما لا كثير قيمة له، وقد قال عمر: اخلعها ولو من قرطها. وأما قوله: باب الخلع وكيف الطلاق فيه، فاختلف العلماء فى البينونة بالخلع، فروى عن عثمان، وعلى، وابن مسعود، أن الخلع تطليقة بائنة، إلا أن تكون سميت ثلاثًا فهى ثلاث، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى، وقالت طائفة: الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه، روى هذا عن ابن عباس، وطاوس، وعكرمة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو أحد قولى الشافعى، واحتج فى أنه ليس بطلاق؛ لأنه مأذون فيه لغيره قبل العدة بخلاف الطلاق، قال ابن عباس: قال الله تعالى:

(7/423)


) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، ثم قال: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 229] ، ثم ذكر الطلاق بعد الفداء، ولم يذكر فى الفداء طلاقًا، فلا أراه طلاقًا. واحتج من جعله طلاقًا بقوله فى الحديث: فردت الحديقة، وأمره بفراقها، فصح أن فراق الخلع طلاق. قال الطحاوى: روى عن عمر، وعلى، أن الخلع طلاق، وعن عثمان، وابن عباس، أنه ليس بطلاق. قال: وأجمعوا أنه لو أراد به الطلاق لكان طلاقًا، ولما كان يقع به الفرقة عند الجميع بغير نية، علم أنه ليس كالمكنى الذى يحتاج إلى نية، وعلم أنه طلاق. وقال الشافعى: فإن قيل: فإذا جعلته طلاقًا فاجعل فيه الرجعة. قيل له: لما أخذ من الطلقة عوضًا كان كمن ملك عوضًا بشىء خرج من ملكه، فلم يكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة. وقوله: وأجاز عمر الخلع دون السلطان، فهو قول الجمهور، إلا الحسن، وابن سيرين، فإنهما قالا: لا يكون إلا عند السلطان. وقال قتادة: إنما أخذه الحسن عن زياد. وقال الطحاوى: روى عن عثمان، وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز النكاح والطلاق دون السلطان كذلك الخلع.
- باب الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [النساء: 35] الآية
/ 19 - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بَنِى الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِى أَنْ يَنْكِحَ عَلِىٌّ ابْنَتَهُمْ، فَلا آذَنُ) .

(7/424)


قال المهلب: إنما حاول البخارى بإدخال حديث المسور فى هذا الباب أن يجعل قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (فلا آذن) خلعًا، ولا يقوى هذا المعنى؛ لأنه قال فى الحديث: (إلا أن يريد ابن أبى طالب أن يطلق ابنتى) ، فدل على الطلاق، فإن أراد أن يستدل من دليل الطلاق على الخلع، فهو دليل على دليل، وذلك ضعيف، وإنما فيه الشقاق والإشارة بالطلاق من خوفه، وفيه الحكم بقطع الذرائع؛ لأنه تعالى أمر ببعثه الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه. وأجمع العلماء أن المخاطب بقوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما) [النساء: 3] الحكام والأمراء، وأن قوله: (إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما) [النساء: 3] ، يعنى الحكمين، وأن الحكمين لا يكونان إلا أحدهما من أهل الرجل، والثانى من أهل المرأة إلا أن يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما، وأن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأن قولهما نافذ فى الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين. واختلفوا فى الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوجين أم لا؟ فقال مالك، والأوزاعى، وإسحاق: يجوز قولهما فى الفرقة والاجتماع بغير توكيل من الزوجين ولا إذن منهما فى ذلك، روى هذا عن عثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعن الشعبى، والنخعى. وقال الكوفيون والشافعى: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق، وهو قول عطاء، والحسن، وبه قال أبو ثور، وأحمد. واحتج أبو حنيفة بقول على للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به، فدل أن مذهبه لا يفرقان إلا برضا الزوج، قالوا: والأصل

(7/425)


المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه وجعله من باب طلاق السلطان على المولى والعنين. قال ابن المنذر: ولما كان المخاطبون بقوله تعالى: (فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها) [النساء: 35] الحكام وأن ذلك إليهم، دل على أن التفريق إليهم، ولو لم يكن كذلك ما كان للبعثة معنى. وقال مالك فى الحكمين يطلقان ثلاثًا، قال: تكون واحدة، وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة. وقال ابن القاسم: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها على حديث زيد، وقاله المغيرة، وأشهب، وابن الماجشون، وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهى واحدة، وحكى ابن حبيب، عن أصبغ، أن ذلك ليس بشىء.
- باب لا يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ طَلاقًا
/ 20 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ، أَنَّهَا أُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِى زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ) ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: (هو عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . اختلف السلف هل يكون بيع الأمة وعتقها طلاقًا لها؟ فروى عن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، أنه لا يكون ذلك طلاقًا لها، وهو مذهب كافة الفقهاء.

(7/426)


وقالت طائفة: بيعها طلاق لها، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى بن كعب، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، واحتجوا بقوله: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء: 24] ، قال: فحرم الله علينا المزوجات من النساء، إلا إذا ملكتهن أيماننا فهن حلال لنا؛ لأن البيع لها حدوث ملك فيها، فوجب أن يرتفع حكم النكاح، ويبطل دليله الأمة المسبية ذات الزوج. وحجة الجماعة أن بيعها ليس بطلاق لها، أن بريرة عتقت فخيرت فى زوجها، فلو كان طلاقها يقع ببيعها لم يخبرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك عند العتق ويقول لها: (إن شئت أقمت تحته) ، وأيضًا فإن هذا عقد على منفعة، فوجب ألا يبطله بيع الرقبة، دليله إذا باع رقبة مستأجرة؛ لأن النكاح عقد على منفعة والإجارة كذلك، ثم إن البيع لا يبطل الإجارة كذلك لا يبطل النكاح، وأيضًا فإن انتقال ملك رقبة أحد الزوجين من مالك إلى مالك، فوجب ألا يبطل النكاح، دليله إذا بيع الزوج، ولما لم يمنع ملك البائع صحة النكاح كان ملك المبتاع مثله؛ لأنه يقوم مقامه وهو فرع منه. فإن قالوا: إن الأمة الحربية إذا كانت مزوجة، فإنها إذا استرقت تنتقل من ملك إلى ملك، ومع هذا ينفسخ النكاح عندكم. فالجواب: إن قلنا: لا ينفسخ على إحدى الروايتين كالحربية إذا سبيت سقط سؤالهم، وإن قلنا: ينفسخ على الرواية الأخرى، فالفرق بينهما أن الحربى لا يملك، وإنما له شبهة ملك، فإذا سبيت ملكها المسبى ملكًا صحيحًا، فليس تنتقل من ملك صحيح، وليست كذلك مسألتنا، ولا حجة لهم فى الآية أنها نزلت فى سبى أوطاس خاصة،

(7/427)


وتحرج بعض أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من وطئهن خوفًا أن يكون لهن أزواج، فسألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فأنزل الله الآية. فالمراد بها المسبيات إذا حضن قبل أن يحضر أزواجهن أو يسلمن معًا، فإنه يحل وطؤهن وإن كان لهن أزواج مشركون، فأما إن أسلمن وأسلم أزواجهن معًا، فهن على نكاحهن، وستأتى هذه المسألة فى موضعها، إن شاء الله. وفيه: أن الناس على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكونوا يستنكرون هدية بعضهم لبعض الطعام والشىء الذى يؤكل وما لا يعظم خطره، والدليل على ذلك قوله عليه السلام: (لو أهدى إلى كراع لقبلت) ؛ لأنه لم ينكر من بريرة أن أهدت اللحم ولا أنكر قبول عائشة له. وفيه: أن من أهديت إليه هدية قلت أو كثرت ألا يردها، فإن أطاق المكافأة عليها فعل، وإن لم يقدر على ذلك أثنى عليه بها وشكرها؛ لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك.
- باب خِيَارِ الأمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
/ 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا، يَعْنِى زَوْجَ بَرِيرَةَ. وقَالَ مرة: ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِى فُلانٍ أَسْوَدَ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِى عَلَيْهَا. أجمع العلماء أن الأمة إذا عتقت تحت عبد، فإن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، ومعنى ذلك، والله أعلم، أنه لما كان العبد فى حرمته وحدوده وجميع أحكامه غير مكافئ للحرة، وجب أن تخير تحته إذا حدثت لها الحرية فى عصمته، وأيضًا فإنها حين وقعت العقدة

(7/428)


عليها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها ذلك حين صارت أكمل حرمة من زوجها. قال المهلب: وأصل هذا فى كتاب الله، وهو قوله: (ومن لم يستطع منكم طولاً) [النساء: 25] الآية. فكان اشتراط الله تعالى فى جواز نكاح الأحرار الإماء عدم الطول إلى الحرة، وجب مثله فى العبد أن لا يتطاول إلى حرة بعد أن وجدت سبيلاً إلى حر إلا برضاها. واختلفوا فى وقت خيار الأمة إذا أعتقت، فروى عن ابن عمر وأخته حفصة أن لها الخيار ما لم يمسها زوجها، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل، علمت أو لم تعلم. وقالت طائفة: لها الخيار، وإن أصيبت ما لم تعلم، فإذا علمت ثم أصابها، فلا خيار لها، هذا قول عطاء، والحكم، وسعيد بن المسيب، وهو قول الثورى. قال الثورى: هو أن تحلف ما وقع عليها وهى تعلم أن لها الخيار، فإن حلفت خيرت، وكذلك قال الأوزاعى، وإسحاق، وقال الشافعى: إن ادعت الجهالة لها الخيار، وهو أحب إلينا. وفى هذا الحديث ما يبطل أن يكون خيارها على المجلس؛ لأن مشيها فى المدينة لم يبطل خيارها، وقد روى قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله لكأنى أنظر إلى زوج بريرة فى طرق المدينة، وإن دموعه لتنحدر على لحيته يتبعها يترضاها لتختاره، فلم تفعل. ومثل هذا فى حديث زبراء، أنها كانت تحت عبد فعتقت، فسألت حفصة أم المؤمنين، فقالت: إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت: هو الطلاق ثلاثًا، ففارقته، رواه مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير.

(7/429)


وفى حديث بريرة حجة لمن قال: لا خيار للأمة إذا عتقت تحت الحر؛ لأن خيارها إنما وقع من أجل كونه عبدًا، وقد روى أهل العراق، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا. واختلف العلماء فى الأمة إذا أعتقت تحت الحر، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، أنه لا خيار لها، وهو قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، روى ذلك عن الشعبى، والنخعى، وابن سيرين، وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور، واحتجوا برواية الأسود، عن عائشة، أن زوجها كان حرًا، وقالوا: الأمة لا رأى لها فى إنكاح مولاها؛ لإجماعهم أنه يزوجها بغير إذنها، فإذا عتقت كان لها الخيار الذى لم يكن لها حال العبودية. وحجة من قال: لا خيار لها تحت الحر، أنها لم تحدث لها حال ترتفع به عن الحر، فكأنهما لم يزالا حرين ولم ينقص حال الزوج عن حالها، ولم يحدث به عيب، فلم يكن لها خيار، وقد أجمع العلماء أنه لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العلة قبل أن يقضى بفراقه لها، وكذلك سائر العيوب زوالها ينفى الخيار، وأما رواية الأسود، عن عائشة، فقد عارضها من هو ألصق بعائشة وأقعد بها من الأسود، وهو القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، رويا عن عائشة أنه كان عبدًا، والأسود كوفى سمع منها من وراء حجاب، وعروة والقاسم كانا يسمعان منها بغير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم، فهما أقعد بها من الأسود.

(7/430)


قال ابن المنذر: ورواية اثنين أولى من رواية واحد مع رواية ابن عباس من الطرق الثابتة أنه كان عبدًا.
- باب شَفَاعَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى زَوْجِ بَرِيرَةَ
/ 22 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِى، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِعبَّاسٍ: (يَا عَبَّاسُ، أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا) ؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ رَاجَعْتِهِ) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِى، قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ) ، قَالَتْ: لا حَاجَةَ لِى فِيهِ. قال الطبرى: فيه من الفقه جواز استشفاع العالم والخليفة فى الحوائج والرغبة إلى أهلها فى الإسعاف لسائلها، وأن ذلك من مكارم الأخلاق، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء) ، وهذا يدل أن الساعى فى ذلك مأجور، وإن لم تنقض الحاجة. وفيه من الفقه: أنه لا حرج على إمام المسلمين وحاكمهم إذا اختصم إليه خصمان فى حق وثبت الحق على أحدهما، إذا سأله الذى ثبت الحق عليه أن يسأل من ثبت ذلك له تأخير حقه أو وضعه عنه، وأن يشفع له فى ذلك إليه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شفع إلى بريرة وكلمها بعدما خيرها وأعلمها ما لها من الخيار، فقال: (لو راجعتيه) . وفيه من الفقه: أن من سئل من الأمور ما هو غير واجب عليه فعله، فله رد سائله وترك قضاء حاجته، وإن كان الشفيع سلطانًا أو عالمًا أو شريفًا؛ لأن النبى، عليه السلام، لم ينكر على بريرة ردها إياه فيما

(7/431)


شفع فيه، وليس أحد من الخلق أعلى رتبة من النبى، عليه السلام، فغيره من الخلق أحرى ألا يكون منكرًا رده فيما شفع فيه. وفيه من الفقه: أن بغض الرجل للرجل المسلم على وجه كراهة قربه والدنو منه على غير وجه العداوة له، ولكن اختيار التبعد منه لسوء خلقه وخبث عشرته وثقل ظله، أو لغير ذلك مما يكره الناس بعضهم من بعض جائز، كالذى ذكر من بغضه امرأة ثابت بن قيس بن شماس له، مع مكانه من الدين والفضل لغير بأس، لكن لدمامة خلقه وقبحه حتى افتدت منه، وفرق بينهما النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولم ير أنها أتت مأثمًا ولا ركبت معصية بذلك بل عذرها وجعل لها مخرجًا من المقام معه وسبيلاً إلى فراقه والبعد منه، ولم يذمها على بغضها له على قبحه وشدة سواده، وإن كان ذلك جبلة وفطرة خلق عليها، فالذى يبغض على ما فى القدرة تركه من قبيح الأحوال ومذموم العشرة أولى بالعذر وأبعد من الذم. وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة التى يريد خطبتها وإظهار رغبته فيها، وذلك أنه عليه السلام لم ينكر على زوج بريرة وقد اختارت نفسها وبانت منه اتباعه إياها فى سكك المدينة باكيًا على فراقها، وإن ظن أحد أن ذلك كان قبل اختيار بريرة نفسها، فقوله عليه السلام: (لو راجعتيه) ، يدل أن ذلك كان بعد بينونتها، ولو كان قبل بينونتها لقال لها: لو اخترتيه. ولا خلاف بين الجميع أن المملوكة إذا عتقت وهى تحت زوج فاختارت نفسها، أنها لا ترجع إلى الزوج الذى كانت تحته إلا بنكاح جديد غير النكاح الذى كان بينها وبينه قبل اختيارها نفسها، فعلم

(7/432)


أن قوله عليه السلام: (لو راجعتيه) ، معناه غير الرجعة التى تكون بين الزوجين فى طلاق يكون للزوج فيه الرجعة، ولو كان ذلك معناه لكان ذلك إلى زوج بريرة دونها، ولم يكن لزوجها حاجة أن يستشفع برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أن تراجعه. وفيه: أنه لا حرج على مسلم فى هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفى، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبع بريرة بعدما بانت منه فى سكك المدينة مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى وشدة الحب، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن، عليه السلام، يقول لها: (لو راجعتيه) ؛ لأنه لا يقال لامرأة فى حيال رجل وملكه بعصمة النكاح: لو راجعتيه، وإنما يسئل المراجعة المفارق لزوجته، وإذا صح ذلك، فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأة يحل له نكاحها نكحته بعد ذلك أم لا، ما لم يأت محرمًا ولم يغش مأثمًا. وفيه: أنه من بانت منه زوجته بخلع أو فدية مما تكون المرأة فيه أولى بنفسها من زوجها ولا رجعة له عليها، أنه يجوز له خطبتها فى عدتها، ولا بأس على المرأة فى إجابته إلى ذلك؛ لأنه عليه السلام شفع إلى بريرة وخطبها على زوجها الذى بانت منه تصريح الخطبة التى هى محظورة فى العدة، ولو أن غيره كان الراغب فيها لما جاز له التصريح بالخطبة.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) [البقرة: 221] الآية
/ 23 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: إِنَّ

(7/433)


اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أَعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا: عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى حرم نكاح المشركات بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، ثم استثنى من هذه الجملة نكاح نساء أهل الكتاب، فأحلهن فى سورة المائدة فى قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، وبقى سائر المشركات على أصل التحريم. قال أبو عبيد: روى هذا القول عن ابن عباس، وبه جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم أن نكاح الكتابيات حلال، وبه قال مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وعامة الفقهاء. وقال غيره: ولا يروى خلاف ذلك إلا عن ابن عمر أنه شذ عن جماعة الصحابة والتابعين، ولم يجز نكاح اليهودية والنصرانية، وخالف ظاهر قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، ولم يلتفت أحد من العلماء إلى قوله. قال أبو عبيد: والمسلمون اليوم على الرخصة فى نساء أهل الكتاب، ويرون أن التحليل هو الناسخ للتحريم، فقد تزوج عثمان بن عفان بنائلة بنت الفرافصة الكلبية، وهى نصرانية، تزوجها على نسائه، وتزوج طلحة بن عبيد الله يهودية، وتزوج حذيفة يهودية وعنده حرتان مسلمتان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن يزيد، عن الصلت بن بهرام، عن

(7/434)


شقيق بن سلمة، قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: أن خل سبيلها، فقال: أحرام هى؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهم، يعنى الزوانى، فيرى أن عمر ذهب إلى قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] . فنقول: إن الله تعالى إنما شرط العفائف منهن، وهذه لا يؤمن أن تكون غير عفيفة، والذى عليه جماعة الفقهاء فى قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، أن المراد بالآية تحريم الوثنيات والمجوسيات، وأنه لم ينسخ تحريمهن كتاب ولا سنة. وشذ أبو ثور عن الجماعة، فأجاز مناكحة المجوس وأكل ذبائحهم، وهو محجوج بالجماعة والتنزيل، وأما الحربيات، فروى مجاهد، عن ابن عباس، أنه قال: لا يحل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربًا، وتلا قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) [التوبة: 29] الآية، وبه قال الثورى، واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعى، أن نكاح الحربيات فى دار الحرب حلال، إلا أنهم كرهوا ذلك من أجل أن المقام له ولذريته فى دار الحرب حرام عليه؛ لئلا يجرى عليه وعلى ولده حكم أهل الشرك. واختلفوا فى نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى: لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية؛ لقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، قال: فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات، وقال: (ومن لم يستطع منكم

(7/435)


طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] ، فقال مالك: وإنما أحل نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله قد أحل الحرائر منهن والإماء تبع لهن، والحجة عليهم نص التنزيل الذى احتج به مالك. وأجمع أئمة الفتوى أنه لا يجوز وطء أمة مجوسية بملك اليمين، وأجاز ذلك طائفة من التابعين، وقالوا: لأن سبى أوطاس وطئن ولم يسلمن، وقد تقدم رد هذا القول فى كتاب الجهاد، فأغنى عن إعادته.
- باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ
/ 24 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَالْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا مُشْرِكِى أَهْلِ حَرْبٍ، يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِى أَهْلِ عَهْدٍ، لا يُقَاتِلُهُمْ وَلا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ، وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ، وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ ذلك فَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِى أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ،

(7/436)


فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِى سُفْيَانَ، تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِىِّ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِىُّ. قال المؤلف: إذا أسلمت المشركة وهاجرت إلى المسلمين، فقد وقعت الفرقة بإسلامها بينها وبين زوجها الكافر عند جماعة الفقهاء، ووجب استبراؤها بثلاث حيض، ثم بذلك تحل للأزواج، هذا قول مالك، والليث، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى. وقال أبو حنيفة: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة ولها زوج كافر فى دار الحرب، فقد وقعت الفرقة ولا عدة عليها، وإنما عليها استبراء رحمها بحيضة، واعتل بأن العدة إنما تكون فى طلاق، وإسلامها فسخ وليس بطلاق، قالوا: وهذا تأويل حديث ابن عباس: أنه إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، أن المراد بذلك الاستبراء، وتأويل هذا عند مالك والليث ومن وافقهما ثلاث حيض؛ لأنها قد حصلت بالهجرة من جملة الحرائر المسلمات، ولا براءة لرحم حرة بأقل من ثلاث حيض. وأكثر العلماء على أن زوجها إن هاجر مسلمًا قبل انقضاء عدتها أنه أحق بها، وسيأتى اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله. واتفقوا أن الأمة إذا سبيت أن استبراءها حيضة. وأما قوله: وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، فهذا فى أهل الحرب، وأما أهل العهد، فيرد إليهم الثمن عوضًا منهم؛ لأنهم لا يحل للمشركين تملك المسلمين، فيكون وزن الثمن فيهم من باب فداء أسرى المسلمين، وإنما لم يجز تملك العبد والأمة إذا هاجرا مسلمين من أجل ارتفاع العلة الموجبة لاسترقاق المشركين، وهى وجود الكفر فيهم، فإذا أسلموا قبيل القدرة عليهم وقبيل الغلبة لهم وجاءونا

(7/437)


مسلمين، كان حكمهم حكم من هاجر من مكة إلى المدينة فى تمام حرمة الإسلام والحرية إن شاء الله.
- بَاب إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّىِّ أَوِ الْحَرْبِىِّ
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاس: إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِى الْعِدَّةِ، أَهِىَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَشَاءَ هِىَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ فِى الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) [الممتحنة: 10] ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِى مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا [صَاحِبَهُ] وَأَبَى الآخَرُ بَانَتْ لا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا (؟ قَالَ: لا، إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كُلُّهُ فِى صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ قُرَيْشٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ (، فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (انْطَلِقْنَ

(7/438)


فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ) ، لا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلامِ، وَاللَّهِ مَا أَخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى النِّسَاءِ إِلا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، بِقَوْلِهِ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلامًا. الذى ذهب إليه ابن عباس وعطاء فى هذا الباب أن إسلام النصرانية قبل زوجها فاسخ لنكاحها؛ لعموم قوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] ، فلم يخص وقت العدة من غيره. وقال ابن عباس: إن الإسلام يعلو ولا يعلى، لا يعلو النصرانى المسلمة، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس، وإليه ذهب أبو ثور. وقالت طائفة: إذا أسلم فى العدة يتزوجها، هذا قول مجاهد، وقتادة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. وقالت طائفة: إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يسلم فرق الإمام بينهما، هذا قول الزهرى، والثورى، وبه قال أبو حنيفة إذا كان فى دار الإسلام، وأما إن كانا فى دار الحرب ثم أسلمت، ثم خرجت إلى دار الإسلام، فقد بانت منه بافتراق الدارين، وفيها قول آخر يروى عن عمر بن الخطاب أنه خير نصرانية أسلمت وزوجها نصرانى، إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه. قال ابن المنذر: والقول الأول عندى أصح الأقاويل. قال المؤلف: وإليه أشار البخارى فى قوله: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] ، يعنى ما دام الزوج كافرًا. قال ابن المنذر: وأجمع عوام أهل العلم على أن النصرانيين إذا أسلم الزوج قبل امرأته أنهما على نكاحهما، إذ جائز أنه يبتدئ

(7/439)


نكاحها لو لم تكن له زوجة، وكذلك أجمعوا أنهما لو أسلما معًا أنهما على نكاحهما. وأما قول الحسن وقتادة أن الوثنيين إذا أسلما معًا أنهما على نكاحهما، فهو إجماع من العلماء. واختلفوا إذا سبق أحدهما الآخر بالإسلام، فقالت طائفة: تقع الفرقة بإسلام من أسلم منهما، وقاله غير الحسن، وقتادة، وعكرمة، والحسن، وطاوس، وعطاء، ومجاهد. وقالت طائفة: إذا أسلم المتخلف منهما عن الإسلام قبل انقضاء عدة المرأة فهما على النكاح، هذا قول الزهرى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ولم يراعوا من سبق بالإسلام إذا اجتمع إسلامهما فى العدة كما كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما فى العدة، واحتج الشافعى بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل امرأته هند، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، ثم أسلمت بعد أيام، فقرا على نكاحهما فى الشرك؛ لأن عدتها لم تنقض، وكذلك حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده، فكانا على نكاحهما. وقال مالك والكوفيون: إذا أسلم الرجل منهما قبل امرأته تقع الفرقة بينهما فى الوقت إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم. واحتج مالك بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] ، فلا يجوز التمسك بعصمة المجوسية؛ لأن الله لم يرد بالكوافر فى هذه الآية أهل الكتاب، بدليل إباحة تزويج نساء أهل الكتاب، فلما كانت المجوسية غير

(7/440)


جائز ابتداء العقد عليها، فكذلك لا يجوز التمسك بها؛ لأن ما لا يجوز ابتداء العقد عليه لا يجوز التمسك به إذا طرأ على النكاح، وذهب مالك إلى أنه إن أسلمت الوثنية قبل زوجها، فإن أسلم فى عدتها فهو أحق بها، وعند الكوفيين يعرض على الزوج الإسلام فى الوقت كما يعرض على المرأة إذا أسلمت، ولم يراعوا انقضاء عدة فيها. واحتج مالك فى اعتبار العدة فى إسلام المرأة قبل زوجها بما رواه فى الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضى عدتها، فهذا من جهة الأثر. وأما من جهة القياس، فإن إسلامه بمنزلة الارتجاع، فلما كان له الارتجاع فى الطلاق، فكذلك إذا أسلم؛ لأن إسلامه فعلة والرجعة فعلة، فاشتبها لهذه العلة. ولم تجب عند الكوفيين مراعاة العدة؛ لأن العدة إنما تكون فى طلاق، والكفر فرق بينهما وفسخ نكاحهما كالمرتد، ولم يعلموا الآثار التى عند أهل المدينة فى اعتبار العدة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها. قال ابن المنذر: واحتج أهل المقالة الأولى فى أن النكاح يفسخ بالإسلام إذا أسلم بقوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] ، قالوا: فكل امرأة لا يجوز للمسلم ابتداء عقد نكاحها، فلا يجوز له أن يتمسك بذلك النكاح، ولا يرجع إليه فى عدة ولا غير عدة إلا بنكاح مستأنف؛ لأن الله إنما حرم على المشركين نكاح المسلمات، ونهى المسلمين عن نكاح المشركات، فكان ابتداؤه فى معنى استدامته.

(7/441)


وقول عطاء ومجاهد: إذا جاءت امرأة من المشركين إلى المسلمين أنه لا يعطى زوجها المشرك عوض صداقها؛ لأن ذلك إنما كان فى عهد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين المشركين، وعلى ذلك انعقد الصلح بينهم، ولو كان أهل حرب للنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يجز رد شىء مما أنفقوا إليهم، وكذلك قال الشعبى فى قوله تعالى: (وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) [الممتحنة: 11] ، قال: هى منسوخة.
- بَاب الإيلاء، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا) [البقرة: 226]
/ 26 - فيه: أَنَس، آلَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) . / 27 - قَالَ ابْن عُمَر فِى الإيلاءِ الَّذِى سَمَّى اللَّهُ: لا يَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدَ الأجَلِ إِلا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أيضًا: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. الإيلاء فى لغة العرب اليمين، وفى قراءة أبى بن كعب وابن عباس: (للذين يؤلون من نسائهم) [البقرة: 229] ، قالا: يقسمون.

(7/442)


وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعًا فهى إيلاء. وقال ابن المنذر: وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم. واختلف فى إيلاء المذكور فى القرآن، قال ابن المنذر: فروى عن ابن عباس: لا يكون مؤليًا حتى يحلف ألا يمسها أبدًا. وقالت طائفة: الإيلاء إنما هو إلى حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مؤليًا، وكان هذا عندهم يمينًا محضًا لو وطئ فى هذه اليمين حنث ولزمته الكفارة، وإن لم يطأ حتى تنقضى المدة لم يكن عليه شىء كسائر الأيمان. وقال الثورى والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدًا، وهو قول عطاء. وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يومًا أو أقل أو أكثر، ثم لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روى هذا عن ابن مسعود، والنخعى، وابن أبى ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق، واعتل أهل هذه المقالة، فقالوا: إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر فقد صار مؤليًا، ولزمه أن يفىء بعد التربص أو يطلق؛ لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود فى المدة القصيرة. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر. قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء، وليس فى حديث أنس إيلاء بأربعة أشهر، وإنما فيه أنه، عليه السلام، حلف ألا يجامع نساءه شهرًا، فبر يمينه ونزل لتمامه. واحتج الكوفيون، فقالوا: جعل الله التربص فى الإيلاء أربعة أشهر،

(7/443)


كما جعل فى عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وفى عدة الطلاق ثلاثة قروء، فلا تربص بعدها، قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفىء وهو الجماع فى داخل المدة والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر. واحتج أصحاب مالك، فقالوا: جعل الله للمؤلى تربص أربعة أشهر، فهى له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل وتقدير الكوفيين للآية: فإن فاءوا فيهن، وتقدير المدنيين: فإن فاءوا بعدهن. قال إسماعيل بن إسحاق: لا يخلو التخيير الذى جعل للمؤلى فى الفىء أو الطلاق أن تكون فى الأربعة الأشهر أو بعدها، فإن كان فى الأربعة الأشهر فقد نقصوه من الأجل الذى ضربه الله له، وإن قالوا: بعد الأربعة الأشهر، وهو ظاهر كتاب الله صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن (إلى) بالمعروف) [البقرة: 234] ، فلا يجوز لها أن تعمل فى نفسها شيئًا بالمعروف، وهو التزويج، إلا بعد تمام الأجل الذى ضربه الله لها، وكل من أجل له أجل فلا سبيل عليه فى الأجل، وإنما عليه السبيل بعد الأجل، فنحن وهم مجمعون على صاحب الدين أنه كذلك، وعلى العنيين إذا ضرب له أجل سنة أنه لا سبيل عليه قبل تقضى السنة، فإن وطئ من غير

(7/444)


أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنيين وإن انقضت السنة ولم يطأ فرق بينه وبين امرأته، فكذلك المؤلى لا سبيل عليه فى الأربعة الأشهر، فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلق فرق بينهما الحاكم. قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفىء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيؤه بلسانه وقلبه. وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه فى حال العذر أجزأه. وخالف الجماعة سعيد بن جبير، فقال: الفىء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان فى سفر أو فى سجن، وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، وروى هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وعامة العلماء. وقالت طائفة: إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن، وقال النخعى: كانوا يقولون: إذا فاء فلا كفارة عليه. وقال إسحاق بن راهويه: قال بعض أهل التأويل فى قوله: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) [البقرة: 226] ، يعنى اليمين الذى حنثوا فيها، وهو مذهب فى الأيمان لبعض التابعين، فمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر يمينه) . وما ذكره البخارى عن ابن عمر، أن المؤلى يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثنى عشر رجلاً من الصحابة، منهم عثمان، وعلى، وذكره

(7/445)


ابن المنذر، عن عمر، وعثمان، وعلى، وعائشة، وابن عمر، وأبى الدرداء. وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب النبى، عليه السلام، يوقفون فى الإيلاء. قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فإن طلق فهى واحدة رجعية، إلا أن مالكًا قال: لا تصح رجعته حتى يطأ فى العدة، ولا أعلم أحدًا قاله غيره. وقالت طائفة: إذا مضت للمؤلى أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقيف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة، وروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ورواية عن عثمان، وعلى، وابن عمر، ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاء، والنخعى، ومسروق، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعى، والثورى، وجماعة الكوفيين. وقالت طائفة: هى طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت أربعة أشهر، روى عن سعيد ابن المسيب، وأبى بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهرى. والصواب أن يوقف المؤلى؛ لأن الله جعل له تربص أربعة أشهر لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مخيرًا فى الفىء بالجماع أو إيقاع الطلاق؛ لقوله: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) [البقرة: 226] ، فمن خيره الله فى أمر، فلا سبيل للافتئات عليه فيه، ودفع ما جعله الله له من دون إذنه. قال الأبهرى: والحجة لقول مالك أنه إذا لم يطأ فى العدة، فلا تصح رجعته، لأن الطلاق إنما أوقع لرفع الضرر، فإذا لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومنى ارتجع كانت رجعته معتبرة بالوطء،

(7/446)


فإن وطئ وإلا علم أنه لم تكن له رجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته؛ لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنما من أجل العذر.
- بَاب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ فِى الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً، وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً، فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلانٍ، فَإِنْ أَتَى فُلانٌ فَلِى وَعَلَىَّ، وَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الأسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ، فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ. / 28 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: (خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ أَوْ لأخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) ، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) ، وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ) . اختلف العلماء فى حكم المفقود إذ لم يعرف مكانه وعمى خبره، فقالت طائفة: إذا خرج من بيته وعمى خبره، فإن امرأته لا تنكح أبدًا، ولا يفرق بينه وبينها حتى توقن بوفاته أو ينقضى تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، والشافعى، وإليه ذهب البخارى، والله أعلم؛ لأنه بوب باب حكم المفقود فى أهله وماله، وذكر حديث

(7/447)


اللقطة والضالة، ووجه الاستدلال فى ذلك أن الضالة إذا وجدت ولم يعلم ربها، فهى فى معنى المفقود؛ لأنه لا يعلم من هو، ولا أين هو، فلم يزل الجهل به وبمكانه ملكه عن ماله، وبقى محبوسًا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقية على زوجته لا يحلها إلا يقين موته أو انقضاء تعميره، وهذه الزوجية قد ثبتت بالكتاب والسنة والاتفاق، ولا تحل إلا بيقين مثله. وقالت طائفة: تتربص امرأته أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل للأزواج، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وبه قال أحمد، وإسحاق. واحتج ابن المنذر لهم، فقال: اتباع خمسة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى. قال: وقد دفع أحمد بن حنبل ما روى عن على بن أبى طالب من خلاف هذا القول، وقال: إن راويه أبا عوانة، ولم يتابع عليه. فكما وجب تأجيل العنين تقليدًا لعمر وابن مسعود، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود؛ لأن العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعة من الخلفاء، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى) . واختلفوا إذا فقد فى الصف عند القتال، فقال ابن المسيب: تؤجل امرأته سنة، وروى أشهب عن مالك أنه يضرب لامرأته أجل سنة بعد أن ينظر فى أمرها، ولا يضرب لها من يوم فقد، وسواء فقد فى الصف بين المسلمين أو فى قتال المشركين، وروى عيسى، عن

(7/448)


ابن القاسم، عن مالك، إذا فقد فى المعترك أو فتن المسلمين بينهم أنه ينتظر يسيرًا بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثم تعتد امرأته ويقسم ماله. وروى ابن القاسم، عن مالك فى المفقود فى فتن المسلمين أنه يضرب لامرأته سنة ثم تتزوج، واحتج المهلب لهذا القول بحديث اللقظة؛ لأنه حكم فيها عليه السلام بتعريف سنة. وقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى الذى يفقد بين الصفين كقولهم فى المفقود: لا يفرق بينهما، واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى فى الأسير لا يستبين موته أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، ويوقف ماله وينفق منه عليها. قال الأبهرى: والفرق بين الأسير والمفقود أن الأسير غير مختار لترك الرجوع إلى زوجته، ولا قاصد لإدخال الضرر عليها، فلم يجز دفع نكاحه، وهو كالذى لا يقدر على الوطء لعلة عرضت له، والمفقود فغير معذور بالتأخير عن زوجته، إذ لا سبب له ظاهر يمنعه من ذلك، وحكم زوجة الأسير فى النفقة عليها من ماله كامرأة المفقود؛ لأنا نقدر أن نوصلها إلى حقها من النفقة، سواء غاب أو حضر، ولا خلاف أنه لا يفرق بين الأسير وزوجته حتى يصح موته أو فراقه. ومالك يعمر الأسير الذى تعرف حياته وقتًا، ثم ينقطع خبره فلا يعرف له موت، يعمره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يعمر المفقود بين الصفين والمفقود الذى فقد فى غير الحرب، يعمره كذلك أيضًأ فى قسمة ماله وميراثه، والكوفيون يقولون: لا يقسم ماله حتى يأتى عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالك، وقال الشافعى: لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته.

(7/449)


- بَاب الظِّهَارِ وقوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا) [المجادلة: 1] الآية
وسَأَلَ مالك ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظِهَارُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأمَةِ سَوَاءٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ، وَفِى الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَىْ فِيمَا قَالُوا - وَفِى بَعْضِ مَا قَالُوا - وَهَذَا أَوْلَى؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ. قال ابن القصار: اختلف العلماء فى كفارة الظهار بماذا تجب؟ على قولين، فقال قوم: إنها تجب بمجرد الظهار، وليس من شرطها العود، روى هذا عن مجاهد، وبه قال سفيان الثورى. وذهب جماعة الفقهاء إلى أنها تجب بشرطين، وهما: الظهار والعود. واختلف هؤلاء فى العود على مذاهب، فقال مالك: العود هو العزم على الوطء، وحكى عنه أنه الوطء بعينه، ولكن تقدم الكفارة عليه، وهذا قول ابن القاسم، وأشار فى الموطأ إلى أنه العزم على الإمساك والإصابة، وعليه أكثر أصحابه، وحكاه ابن المنذر، عن أبى حنيفة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وذهب الحسن البصرى، وطاوس، والزهرى، أن العود الوطء نفسه. قال الطحاوى: ومعنى العود عند أبى حنيفة: ألا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها. وعند الشافعى العود أن يمكنه طلاقها بعد الظهار بساعة فلا يطلقها، فإن أمسكها ساعة ولم يطلقها عاد لما قال،

(7/450)


ووجبت عليه الكفارة ماتت أو مات، وعباراتهم وإن اختلفت فى العود فمعناها متقارب. وقال أهل الظاهر: العود أن يقول: أنت كظهر أمى، ثانية، وروى هذا القول عن بكير بن الأشج. واحتج من قال: إن الكفارة تجب بمجرد الظهار بأن الله ذكر الكفارة وعلل وجوبها، فقال: (وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا) [المجادلة: 2] ، فدل أنها وجبت بمجرد القول، قالوا: لأن العود الذى هو إحدى الروايتين العزم على الإمساك، والرواية الثانية العزم على وطئها. قال ابن الجلاب: وقد ذكر فى الموطأ الأمرين جميعًا، ونقيض ذلك الخلاف أن إيراد كل واحد منهما بالعزم عودة العزم على وطئها فمباح، والمباح لا تجب فيه الكفارة. وحجة الجماعة قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم) [المجادلة: 3] الآية، فأوجب الكفارة بالظهار والعود جميعًا، فمن زعم أنها تجب بشرط واحد، فقد خالف الظاهر، وهذا بمنزلة قول القائل: من دخل الدار فصلى فله دينار، فإنه لا يستحق الدينار إلا بدخوله وصلاته؛ لأنهما شرطان فى استحقاق الدينار، فلا يجوز أن يستحق الدينار بأحد الشرطين، والكلام على الشافعى أن العود هو الإمساك فقط. والدليل على بطلان ذلك، أن الذى كان مباحًا بالعقد هو الوطء، فإذا حرمه بالظهار كانت الكفارة له دون ما سواه؛ لأن الأنكحة إنما وضعت له فقط، ولما ثبت أنه لا يجوز أن يطأ حتى يكفر، وجب أن يكون العود هو العزم على الإمساك وعلى الوطء جميعًا، ولو كان

(7/451)


الإمساك حتى يكون العود إليه راجعًا، لكان طلاقًا؛ لأن الإمساك إذا حرم ارتفع العقد، وما يرفع النكاح إنما هو الطلاق، ولو كان الظهار كذلك، لكانت الكفارة لا تدخله ولا تصلحه؛ لأن الفراق لا يرتفع حكمه بالكفارة، ولما صح ذلك ثبت أن الكفارة تبيح العود إلى ما حرمه الظهار من الوطء والعزم عليه، ألا ترى أنه إذا حلف ألا يطأها فقد حرم وطأها دون إمساكها، فإذا فعل الوطء، فقد خالف ما حرمته اليمين، فكذلك الظهار، ومن ظاهر فإنما أراد الإمساك دون الطلاق، فكذلك لم يكن العود هو الإمساك. واحتج أهل الظاهر بأن قالوا: كل موضع ذكر الله تعالى فيه العود للشىء، فالمراد به العود إليه بعينه، ألا ترى أنه أخبر عن الكفار أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) [المجادلة: 8] ، فكذلك قوله: (ثم يعودون لما قالوا) [المجادلة: 8] ، فيقال لهم: العود فى الشىء يكون فى اللغة بمعنى المصير إليه كما تأولتم، ويكون أيضًا بمعنى الرجوع فيه كما قال: (العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه) ، أراد به الناقض لهبته، وهذا تفسير الفراء فى العود المذكور فى الآية أنه الرجوع فى قولهم وعن قولهم. قال إسماعيل بن إسحاق: ولو كان معنى قوله: (ثم يعودون لما قالوا) [المجادلة: 8] ، أى يلفظوا بالظهار مرة أخرى لما وقع بعده،) فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) [المجادلة: 3] ؛ لأنه لم يذكر للمسيس سبب، فيقال من أجله: (من قبل أن يتماسا (، وإنما ذكر التظاهر وهو ضد المسيس، والمظاهر إنما حرم على نفسه المسيس، فكيف يقال له: إذا حرمت على نفسك المسيس، ثم حرمت على نفسك المسيس فأعتق

(7/452)


رقبة قبل أن تمس؟ هذا كلام واه ضعيف. ولو قال رجل لرجل: إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس نسبة الناس إلى الجهل، ولو قال: إذا أردت أن تمس فاعتق رقبة قبل أن تمس كان كلامًا صحيحًا مفهومًا أنه لا تجب الكفارة حتى يريد المس، وأيضًا فإن الظهار كان طلاق الجاهلية، تعلق عليه حكم التكفير بشرط العود والرجوع فيه، ألا ترى أن الكفارة إذا وجبت باللفظ وشرط آخر كان ذلك الشرط مخالفة اللفظ لا إعادته كالأيمان. وأجمع العلماء أن الظهار للعبد لازم له كالحر، وأن كفارته الصوم شهران، واختلفوا فى الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعى: لا يجزئه إلا الصوم خاصة. وقال ابن القاسم، عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه، وإن أعتق بإذنه لم يجزئه، وأحب إلينا أن يصوم، يعنى شهرين كالحر. قال ابن القاسم: ولا أرى هذا الجواب إلا وهم منه؛ لأنه إذا قدر على الصوم لم يجزئه الإطعام فى الحر كيف العبد، وعسى أن يكون جواب هذه المسألة فى كفارة اليمين بالله. وقال الحسن: إن أذن له مولاه فى العتق أجزأه. وعن الأوزاعى: إن أذن له مولاه فى العتق والإطعام أجزأه إذا لم يقدر على الصيام. واختلفوا فى الظهار من الأمة وأم الولد، فقال الكوفيون والشافعى: لا يصح الظهار منهما. وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث: يكون من أمته مظاهرًا، واحتج الكوفيون بقوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم) [المجادلة: 3] ، والأمة ليست من نسائنا؛ لأن الظهار كان طلاقًا، ثم أحل بالكفارة، فإذا كان لا حظ للإماء فى الطلاق، فكذلك ما قام

(7/453)


مقامه. ومن أوجب الظهار فى الإماء جعلهن داخلات فى جملة النساء لمعنى تشبيه الفرج الحلال بالفرج الحرام فى حال الظهار؛ لأن الله حرم جميع النساء، ولم يخص امرأة دون امرأة، وهذا مذهب على بن أبى طالب، وهو حجة فى معرفة لسان العرب، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وعطاء، وربيعة. قال ابن المنذر: يدخل فى عموم قوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم) [المجادلة: 1] ، أن الظهار يكون من الأمة والذمية والصغيرة وجميع النساء. وقول البخارى: فى العربية لما قالوا، أى فيما قالوا، فقد تقدم فى الباب أنه قول الفراء، وفيها قول ثان قاله الأخفش، قال: المعنى على التقديم والتأخير، أى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، فتحرير رقبة لما قالوا، وهذا قول حسن، وفيها وجه آخر: يجوز أن تكون ما بمعنى من، كأنه قال: ثم يعودون لمن قالوا فيهن أو لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا، وفيها وجه آخر: يجوز أن تكون ما بمعنى مع، قالوا بتقدير المصدر، فيكون التقدير: ثم يعودون للقول، فسمى القول فيهن باسم المصدر، وهذا القول كما قالوا: ثوب نسج اليمن، ودرهم ضرب الأمير، وإنما هو منسوج اليمن، ومضروب الأمير.
- باب الإِشَارَةِ فِى الطَّلاقِ وَالأُمُورِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) ، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَشَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَىَّ، خُذِ الشطر. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ

(7/454)


لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهِىَ تُصَلِّى، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، أَنْ نَعَمْ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ إِلَى أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْمَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ: (لا حَرَجَ) . وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: (أحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟) ، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَكُلُوا) . / 29 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ، طَافَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ. وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (فُتِحَ مِنْ [رَدْمِ] يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ) . وفى هذا الباب أحاديث أخر فيها كلها إشارة النبى (صلى الله عليه وسلم) بيده. قال المهلب: الإشارة إذا فهمت وارتفع الإشكال بها محكوم بها، وما ذكره البخارى فى الأحاديث من الإشارات فى الضروب المختلفة شاهدة بجواز ذلك، وأوكد الإشارات ما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمر السوداء حين قال لها: (أين الله؟) ، فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ، فأجاز الإسلام بالإشارة الذى هو أصل الديانة، الذى يحقن به الدماء ويمنع المال والحرمة، وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة فى سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء. روى ابن القاسم، عن مالك، أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه، وقال الشافعى فى الرجل يمرض فيختل لسانه: فهو كالأخرس فى الرجعة والطلاق، وإذا أشار إشارة تعقل أو كتب لزمه الطلاق. وقال أبو ثور فى إشارة الأخرس: إذا فهمت عنه تجوز عليه. وقال

(7/455)


أبو حنيفة وأصحابه: إن كانت إشارته تعرف فى طلاقه ونكاحه وبيعه، وكان ذلك منه معروفًا فهو جائز عليه، وإن شك فيه فهو باطل، وليس ذلك بقياس إنما هو استحسان، والقياس فى هذا أنه كله باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال ابن المنذر: فزعم أبو حنيفة أن القياس فى ذلك أنه باطل، وفى ذلك إقرار منه أنه حكم بالباطل؛ لأن القياس عنده حق، فإذا حكم بضده وهو الاستحسان فقد حكم بضد الحق، وفى إظهاره القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذى هو عنده حق. قال المؤلف: وأظن البخارى حاول فى هذا الباب الرد عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم بالإشارة فى هذه الأحاديث وجعل ذلك شرعًا لأمته، ومعاذ الله أن يحكم، عليه السلام، فى شىء من شريعته التى ائتمنه الله عليها، وشهد له التنزيل أنه قد بلغها لأمته غير ملوم، وأن الدين قد كمل به بما يدل القياس على إبطاله، وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التى جاءت بجواز الإشارات فى أحكام مختلفة من الديانة فى مواضع يمكن النطق فيها ومواضع لا يمكن، فهى لمن لا يمكنه النطق أجوز وأوكد، إذ لا يمكن العمل بغيرها، وفى أحاديث هذا الباب فى قصة اليهودى الذى رضخ رأس الجارية فأخذ أوضاحًا لها، قال صاحب العين: الوضح حلى من فضة. وقوله فى حديث المنفق والبخيل: مادت، قال صاحب العين: ماد الشىء مددًا، تردد فى عرض، والناقة تمدد فى سيرها.

(7/456)


- بَاب اللِّعَانِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ (إِلَى: (الصَّادِقِينَ) [النور: 6 - 9]
. فَإِذَا قَذَفَ الأخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَدْ أَجَازَ الإشَارَةَ فِى الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم: 29] ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (إِلا رَمْزًا (: إِلا إِشَارَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا حَدَّ وَلا لِعَانَ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لا يَكُونُ إِلا بِكَلامٍ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلاقُ لا يَجُوزُ إِلا بِكَلامٍ، وَإِلا بَطَلَ الطَّلاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الأصَمُّ يُلاعِنُ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الأخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: الأخْرَسُ وَالأصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ. / 30 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ) ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ: فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِى بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَفِى كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ خَيْرٌ) . / 31 - وفيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ - أَوْ كَهَاتَيْنِ - وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) .

(7/457)


/ 32 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاَثًا) - يَعْنِى ثَلاثِينَ - ثُمَّ قَالَ: (وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاًثًا) - يَعْنِى تِسْعًا وَعِشْرِينَ - يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. / 33 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ: أَشَارَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ: (الإيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ، أَلا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِى الْفَدَّادِينَ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) . / 34 - وفيه: سهل: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) . اختلف العلماء فى لعان الأخرس وقذفه، فقال مالك، وأبو ثور: يلاعن الأخرس إذا عقل الإشارة، وفهم الكتابة، وعلم ما يقوله، وفهم منه، وكذلك الخرساء تلاعن أيضًا بالكتاب. وقال الكوفيون: لا يصح قذفه ولا لعانه، فإذا قذف الأخرس امرأته بإشارة لم يحد ولم يلاعن، وكذلك لو قذف بكتاب، وروى مثله عن الشعبى، وبه قال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأن هذه المسألة مبنية لهم على أصل، وهو أن صحة القذف تتعلق بصريح الزنا دون معناه، ألا ترى أن من قذف آخر، فقال له: قد وطئت وطئًا حرامًا ووطئت بلا شبهة، لم يكن قاذفًا، فإن أتى بمعنى الزنا كان قاذفًا، فبان أن المعتبر فى هذا الباب صريح اللفظ، وهذا المعنى لا يحصل من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفًا ولا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة. وأيضًا فإن إشارته لما تضمنت وجهين لم يجز إيجاب الحد

(7/458)


بها كالكتابة والتعريض، قالوا: واللعان عندنا شهادة، وشهادة الأخرس عندنا لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: فيقال لهم: قولكم: إن القذف لا يصح إلا بالتصريح، فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فإنها كلها قائمة مقام العربية، ويصح بكل واحد منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس، وقولهم: إنه لا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة، فإنه باطل، إذا أقر بقتل عمد، فإنه مقبول منه بالإشارة وصورته غير صورة قتل الخطأ، وما حكموه من الإجماع فى شهادة الأخرس فهو غلط، وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة فلا تقع منه إلا باللفظ، وعلى أنهم يصححون لعان الأعمى ولا يجيزون شهادته، فقد فرقوا بين الشهادة واللعان. واحتج ابن القصار بأن إشارة الأخرس إذا فهمت قامت مقام النطق بما احتج به البخارى من قوله: (فأشارت إليه) [مريم: 29] ، يعنى مريم، فعرفوا بإشارتها ما يعرفونه من نطقها، وبقوله تعالى: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] ، أى إيماء وإشارة، فلولا أنه يفهم منها ما يفهم من النطق لم يقل تعالى: ألا تكلمهم إلا رمزًا، فجعل الرمز كلامًا، وأيضًا فإن النبى، عليه السلام، كبر للصلاة وذكر أنه لم يغتسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانكم، وكذلك أشار إلى أبى بكر فى الصلاة، والأحاديث فى هذا أكثر من أن تحصى، فصح أنه يعقل من الإشارة ما يعقل من النطق.

(7/459)


قال المهلب: وقد تكون الإشارة فى كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله، عليه السلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ، ومتى كان يبلغ البيان إلى ما بلغت إليه الإشارة، والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، وفى إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل أن الإشارة قد تكون فى بعض المواضع أقوى من الكلام. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغى أن يكون القذف مثل ذلك. واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه. وقال الكوفيون: إذا كان رجل أصمت أيامًا، فكتب لم يجز من ذلك شىء. قال الطحاوى: والخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يومًا أو نحوه مخالف للعجز الميئوس معه الجماع نحو الجنون فى باب خيار المرأة فى الفرقة. قال المهلب: وأما الأصم، فإن فى أمره بعض إشكال، ولكن قد يستبين إشكال أمره بترداد الإشارة على الشىء حتى يرتفع الإشكال، فإن فهم عنه ذلك جاز جميع ما أشار به، وأما المتكلم فإذا كتب الطلاق بيده فله أن يقول: إنما كتبته مراوضًا لنفسى لأستخير الله تعالى فى إنفاذه؛ لأن لى درجة فى البيان بلسانى هى غايتى، فلا يحال بينى وبين غاية ما لى من البيان، والأخرس لا غاية له إلا الإشارة.

(7/460)


- باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْىِ الْوَلَدِ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِى غُلامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: (مَا أَلْوَانُهَا) ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَنَّى ذَلِكَ) ؟ قَالَ: لَعَلَّ عرقًا نَزَعَهُ، قَال: (فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ) . احتج بهذا الحديث الكوفيون والشافعى، فقالوا: لا حد فى التعريض، ولا لعان بالتعريض؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوجب على هذا الرجل الذى عرض له بامرأته حدا. وأوجب مالك الحد فى التعريض واللعان بالتعريض إذا فهم منه من القذف ما يفهم من التصريح. وقال أصحابه فى تأويل هذا الحديث للكوفيين: لا حجة لكم فيه؛ لأن الرجل لم يرد بتعريضه القذف وإنما جاء سائلاً مستشيرًا، ودليل ذلك فى الحديث، وذلك لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما ضرب له المثل سكت، ورأى أن الحق فيما ضرب له النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال المهلب: فالتعريض إذا لم يكن على سبيل المشاتمة والمواجهة، وكان على سبيل السؤال عما يجهل من المشكلات، فلا حد فيه، ولو وجب فى هذا حد، لبقى شىء من علم الدين لا سبيل إلى التوصل إليه من ذكر من عرض له فى ذلك عارض، ولا يجب عند مالك فى التعريض حد إلا أن يكون على سبيل مشاتمة ومواجهة يعلم قصده لذلك. وسيأتى اختلاف العلماء وبيان مذاهبهم فى التعريض فى كتاب الحدود، إن شاء الله.

(7/461)


قال أبو عبيد، عن الأصمعى: إذا كان البعير أسود يخالط أسوده بياض كدخان الرمث، فذلك الورقة.
- بَاب إِحْلافِ الْمُتلاعِنِين
/ 36 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قوله: باب إحلاف المتلاعنين، يريد أيمان اللعان المعروفة ومعناه: أن الرجل لما قذف امرأته كان عليه الحد إن لم يأت بأربعة شهداء، يشهدون بتصديق ما قال، على ظاهر قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4] ، فلما رمى العجلانى زوجته بالزنا أنزل الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] الآية، فأخرج الله الزوج من عموم الآية وأقام أيمانه الأربع مع الخامسة مقام الشهود الأربعة يدرأ بها عن نفسه الحد كما يدرأ سائر الناس عن أنفسهم بالشهود الأربعة حد القذف، فإذا حلف بها لزم المرأة الحد إن لم تلتعن، فإن التعنت وحلفت دفعت الحد عن نفسها بأيمانها أيضًا كما دفع الرجل بأيمانه عن نفسه.
- بَاب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلاعُنِ
/ 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ.

(7/462)


أجمع العلماء أن الرجل يبدأ باللعان قبل المرأة؛ لأن الله تعالى بدأ بذلك، وإن بدأت المرأة قبل زوجها لم يجزئها ذلك وإعادة الأيمان بعده على ما رتبه الله وبينه رسوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن عباس. قال ابن المنذر: وفيه دليل أنهما يتلاعنان وهما قائمان. قال الطبرى: وفى استحلافه، عليه السلام، المتلاعنين قائمين الدليل الواضح على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر قائمًا للأخبار الواردة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك. قال المهلب: وفيه دليل أن المحتلفين المتضارين اللذين لا يكون الحق إلا فى قول واحد منهما يعتدان فى دعاويهما ولا يعاقب كل واحد منهما بتكذيب صاحبه وإبطال قوله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عذر المتلاعنين فى الحدود ولم يقم الحد بالتحالف. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجته عويمر وهلال بن أمية خطأ، وقد روى القاسم، عن ابن عباس، أن العجلانى قذف امرأته كما روى ابن عمر، وسهل بن سعد، وأظنه غلط من هشام بن حسان، ومما يدل على أنها قصة واحدة توقف النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها حتى أنزل الله فيها الآية، ولو أنها قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها ولحكم فى الثانية بما أنزل الله فى الأولى. قال الطبرى: يستنكر قوله فى الحديث: هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلانى شهد أحد مع النبى، عليه السلام، رماها بشريك ابن السحماء والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو شريك بن عبدة بن الجد بن

(7/463)


العجلانى، كذلك كان يقول أهل الأخبار، وكانت هذه القصة فى شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تبوك إلى المدينة.
- بَاب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ
/ 38 - فيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِى يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبَرَ عَلَى عَاصِم مَا سَمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِى بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسْأَلَةَ الَّتِى سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لا أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) ، قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. فى قول عويمر: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ وسكوت النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك ولم يقل له: لا نقتله، دليل على أن من قتل رجلاً وجده مع امرأته أنه يقتل به إن لم يأت ببينة تشهد بزناه بها. قال الطبرى: وبذلك حكم على بن أبى طالب إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعط برمته.

(7/464)


فإن قيل: قد روى عن عمر وعثمان أنهما أهدرا دمه، قيل: إن صح عنهما ذلك فإنما أهدرا دمه؛ لأن البينة قامت عندهما بصحة ما ادعى القاتل على الذى قتله، وسيأتى بيان ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحدود، إن شاء الله. وفيه: أن التلاعن لا يكون إلا عند السلطان، أو عند من استخلفه من الحكام، وهذا إجماع من العلماء. وفى قول عويمر: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، دليل أن اللعان بين كل زوجين؛ لأنه لم يُخَص رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، وكذلك قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] ، ولم يخص زوجًا من زوج، ففى هذا حجة لمالك والشافعى أن العبد بمنزلة الحر فى قذفه ولعانه، غير أنه لا حد على من قذف مملوكته؛ لقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] ، وهن الحرائر المسلمات، والأمة المسلمة والحرة اليهودية أو النصرانية تلاعن الحر المسلم، وكذلك العبد وإن تزوج الحرة المسلمة والأمة المسلمة أو الحرة اليهودية أو النصرانية لاعنها، وبه قال الشافعى، وقال أبو حنيفة والثورى: إذا كان أحد الزوجين مملوكًا أو ذميًا أو كانت المرأة ممن لا يجب على قاذفها الحد، فلا لعان بينهما إذا قذفها. واختلف العلماء فى صفة الرمى الذى يوجب اللعان بين الزوجين، فقال مالك فى المشهور عنه: إن اللعان لا يكون حتى يقول الرجل لامرأته: رأيتها تزنى أو ينفى حملاً بها أو ولدًا منها، وحديث سهل هذا وإن لم يكن فيه تصريح بالرؤية، فإنه قد جاء التصريح بذلك فى حديث ابن عباس وغيره فى قصة هلال بن أمية أنه وجد مع امرأته

(7/465)


رجلاً، فقال: يا رسول الله، رأيت بعينى وسمعت بأذنى، فنزلت آية اللعان، ذكره المصنفون، وذكره الطبرى. وقال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: إنه من قال لزوجته: يا زانية، وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وسواء قال لها: يا زانية أو زنيت، ولم يدعى رؤية. وقد روى هذا القول عن مالك أيضًا، وحجة هذا القول عموم قوله: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] ، كما قال: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] ، فأوجب بمجرد القذف الحد على الأجنبى إن لم يأت بأربعة شهداء، وأوجب على الزوج اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، فسوى بين الرميتين بلفظ واحد، وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن ولا تصح منه الرؤية، وإنما يصح لعانه من حيث وطؤه لزوجته، وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجًا فى فرجها. وذهب جمهور العلماء إلى أن تمام اللعان منها تقع الفرقة بينهما، وسيأتى بيان هذه المسألة فى بابها بعد هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وشذ قوم من أهل البصرة منهم عثمان البتى، فقالوا: لا تقع الفرقة ولا تأثير للعان فيها، وإنما يسقط النسب والحد وهما على الزوجية كما كانا حتى يطلق الزوج، وذكر الطبرى أن هذا قول جابر بن زيد، واحتج أهل هذه المقالة بقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قالوا: ولم ينكر النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك عليه ولم يقل له: لم قلت وأنت لا تحتاج إليه؟ لأنها باللعان قد طلقت. فقال لهم مخالفوهم:

(7/466)


لا حجة لكم فى حديث عويمر؛ لأن قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، وطلاقه لها ثلاثًا إنما كان منه؛ لأنه لم يظن أن الفرقة تحصل باللعان، ولو كان عنده أن الفرقة تحصل باللعان لم يقل هذا، وقد جاء فى حديث ابن عمر، وابن عباس، بيان هذا أن النبى، عليه السلام، فرق بين المتلاعنين، وقال: لا سبيل لك عليها، فطلاق عويمر لها لغو، ولم ينكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه يحتمل أن يكون العجلانى أراد التأكيد، أى أنها لو لم تقع الفرقة وأمسكتها فهى طالق ثلاثًا. قال الطحاوى: فإن قال من يذهب إلى قول البتى، قول ابن عمر، وابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، إنما كان فى قضية عويمر، وكان طلاقها بعد اللعان، فلذلك فرق بينهما، وقد روى ابن شهاب، عن سهل بن سعد، قال: فطلقها العجلانى ثلاث تطليقات، فأنفذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بينهما بعد اللعان، ثم طلقها ثلاثًا حتى يكون تفريق النبى (صلى الله عليه وسلم) واقعًا موقعه على ما روى ابن عمر. وقد قال الأكثر: لا يجوز أن يمسكها ويفرق بينهما، وقد استحب النبى (صلى الله عليه وسلم) الطلاق بعد اللعان، ولم يستحبه قبله، فعلم أن اللعان قد أحدث حكمًا. وقد احتج من قال: إن الطلاق الثلاث مجتمعات تقع للسنة بطلاق عويمر زوجته ثلاثًا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قالوا: ولو كان وقوع الثلاث مجتمعات لا يجوز لبينه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنكره، وقال: لا يجوز ذلك فى ديننا.

(7/467)


- بَاب التَّلاعُنِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 39 - فيه: سَهْلِ، فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ، وَأَنَا شَاهِدٌ، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلا، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لأمِّهِ، قَالَ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِى مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَها. قَالَ سَهْل، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلا أُرَاهَا إِلا قَدْ صَدَقَتْ، وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلا أُرَاهُ إِلا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا) ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ. قال ابن المنذر: فيه أن سنة اللعان أن يكون فى المسجد. وقال الطبرى: فى أمر النبى، عليه السلام، المتلاعنين بالتلاعن فى المسجد دليل على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر كالقسامة على الدم وعلى المال ذى القدر والخطر العظيم، ونحو ذلك فى المساجد العظام، فإن كانا بالمدينة فعند قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإن كانا بمكة فبين الركن والمقام، وإن كانا ببيت المقدس ففى مسجدها، ثم فى موضع الصخرة، وإن كانا ببلدة غيرها، ففى جامعها وحيث يعظم منها، وإنما أمرهما، عليه السلام، باللعان فى مسجده لعلمه أنهما يعظمان ذلك الموضع، فأراد التعظيم عليهما ليرجع المبطل منهما إلى الحق وعجز عن

(7/468)


الأيمان الكاذبة، وكذلك أيضًا كان لعانه بينهما بعد العصر لعظم اليمين الكاذبة عند الله فى ذلك الوقت. وقال الشافعى: يلاعن فى المسجد إلا أن تكون حائضًا، فعلى باب المسجد. قال الطبرى: ولست أقول أنه إن لاعن بينهما فى مجلس يكره، أو حيث كان من الأماكن، وفى أى الأوقات أنه مضيع فرضًا أو مدخل بذلك من فعله فى اللعان فسادًا. وقوله: وكانت حاملاً، اختلفوا فى الرجل ينتفى من حمل زوجته، فقالت طائفة: له أن يلاعن إذا قال: ليس هو منى، وقد استبرأتها قبل هذا الحمل، ويسقط عنه الولد، هذا قول مالك. وقال ابن أبى ليلى: يجوز اللعان بنفى الحمل، وبه قال الشافعى، ولم يراع استبراء، وزعم أن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم وتلد مع الاستبراء. وقال أبو حنيفة والثورى وزفر: إذا قال لامرأته: ليس هذا الحمل منى، سواء قال: استبرأتها أم لا، لم يكن قاذفًا، وبه قال ابن الماجشون. وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاءت بالولد بعدما قال لستة أشهر لاعن، وإن جاءت به لأكثر لم يلاعن، وحجة من لم يوجب اللعان على الحمل أنه قال بنفس الحمل، ولا يقطع على صحته ولعله ريح، ولا لعان إلا بيقين. قال ابن القصار: وحجة مالك ومن وافقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لاعن بين

(7/469)


العجلانى وامرأته وكانت حاملاً، ألا ترى قوله: إن جاءت به أحمر قصيرًا فلا أراها إلا صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على النعت المكروه. وقول الكوفيين خلاف لهذا الحديث، فلا يلتفت إلى قولهم. وأما فساده من جهة النظر، فإن اللعان وضع بين الزوج لمعنى، وهو أن لا يلحق به ولد ليس منه، فالضرورة داعية إلى حصول اللعان فى هذه الحال، وقد جعل اللعان يدفع العار عما يلحقه فى زوجته، فهو محتاج إلى اللعان. قال الطبرى: وقد زعم أبو حنيفة أن رجلاً لو اشترى جارية فوجدها حاملاً أن ذلك عيب ترد به، فإن كان الحمل لا يوقف عليه ولا يعلم، فقد يجب أن لا يكون لمشترى الجارية الحامل ردها، إذ لا سبيل له إلى العلم بذلك، وإن كان إلى العلم به سبيل حتى يجوز به رد الجارية، فكذلك السبيل إلى العلم حتى يجوز به اللعان مثله لا فرق بينهما. قال الطبرى: وفى قوله عليه السلام: (إن جاءت به أحمر قصيرًا، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها) ، فجاءت به على النعت المكروه، البيان البين أن الله تعالى منع العباد أن يحكموا فى عباده بالظنون والتهم، وأنه جعل الأحكام بينهم على ما ظهر دون ما بطن منهم واستتر عنهم، وأنه وكل الحكم فى سرائرهم وما خفى من أمورهم إلى الله دون سائر خلقه، وأنه لو كان لأحد من ذى سلطان أو غيره أخذ أحد بغير الظاهر، لكان أولى الناس بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لعلمه بكثير

(7/470)


من سرائر الناس، ولكنه كان لا يأخذ أحدًا إلا بما ظهر من أمره، وتبين للناس منه. ولذلك كان يقبل ظاهر ما يبديه المنفقون ولا يأخذهم بما يبطنون مع علمه بكذبهم، وكان يجعل لهم بظاهر ما يظهرونه، من الإقرار بتصديقه والإيمان بما جاء به من عند الله، حكم الله فى المناكحة والموارثة والصلاة عليهم إذا ماتوا، وغير ذلك من الأمور، فكذلك الواجب على كل ذى سلطان أن يعمل فى رعيته مثل الذى عمل به النبى، عليه السلام، فيمن وصفت ممن كان يظهر قولاً وفعلاً، من أخذه بما يظهر من القول والفعل دون أخذه بالظنون والتهم التى يجوز أن تكون حقًا ويجوز أن تكون باطلاً. قال المهلب: وفيه من الفقه أن الحاكم إذا حكم بالبينة المنصوصة، ثم تبين له بدليل غير ما ظهر إليه فيما حكم به، أنه لا يرد ما حكم فيه إلا بالنص لا بما قام له من الدليل، ألا ترى أنه بعد أن جاءت به على المكروه لم يحدها، وكذلك قام له الدليل من الشبه فى ابن وليدة زمعة، فلم يقض به لسعد بن أبى وقاص، ولكن أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه، فحكم للشبه فى عين الحكم المنصوص أولا، ولم يعرض لحكم الله بفسخ من أجل الدليل. وفيه من الفقه: أن من اقتطع شيئًا من الحقوق بيمين كاذبة أن الله يلعنه ويغضب عليه كما جاء فى الحديث، ألا ترى أنه قام الدليل على كذب المرأة بعد يمينها بوضعها الصفة المكروهة، فكان ذلك هتك سترها فى الدنيا وفضيحتها بين قومها التى منها فرت، وهذا من العقوبات فى الدنيا، فكيف فى الآخرة؟

(7/471)


وقوله: كأنه وحرة، دويبة حمراء كالعضاة تلزق بالأرض، ومنه قيل: وحر الصدر يوحر وحرًا ذهبوا إلى لزوق الحقد بالصدر فشبهوه بإلزاق الوحرة بالأرض.
30 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
/ 40 - فيه: ابْن عَبَّاس: أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاعُنُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِىٍّ فِى ذَلِكَ قَوْلا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأمْرِ إِلا لِقَوْلِى، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِى ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، خَدْلا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (اللَّهُمَّ بَيِّنْ) ، فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلاعَنَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ فِى الْمَجْلِسِ: هِىَ الَّتِى قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ) ، فَقَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ. وترجم له: (باب قول الإمام: اللهم بين) . قال المهلب: فيه أنه قد يبتلى الإنسان بقوله، وذلك أن عاصم بن عدى كان قد قال عند النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لو وجد مع امرأته رجلاً لضربه بالسيف حتى يقتله، فابتلاه الله بعويمر رجل من قومه ليريه الله كيف

(7/472)


حكمه فى ذلك، وليعرفه أن التسلط فى الدماء لا يسوغ بالدعوى، ولا يكون إلا بحكم من الله ليرفع أمر الجاهلية. وأما قوله: (لو كنت راجمًا بغير بينة) ، فى المرأة التى كانت تعلن بالسوء، أى لو كنت متعديًا حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمت هذه، لبيان الدلائل على فسقها، ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى حدود الله، والله قد نص أن لا يتعدى حدوده لما أراد تعالى من ستر عباده. قال غيره: وقوله عليه السلام: (اللهم بين) ، معناه الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها الله عز وجل فى القضاء بالظاهر، وإنما صارت شرائع الأنبياء يقضى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سننًا لمن بعدهم من أمتهم ممن لا سبيل له إلى وحى يعلم به بواطن الأمور. وقال ابن قتيبة فى قوله: (خدل) ، الخدل العظيم الساقين، وهو ضد الحمش، يقال: رجل حمش الساقين إذا كان رقيقهما، وخدل إذا كان عظيمهما.
31 - بَاب صَدَاقِ الْمُلاعَنَةِ
/ 41 - فيه: ابْن جُبَيْر قال: قُلْتُ لابْنِ عُمَر: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: فَرَّقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلانِ، وَقَالَ: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) ؟ فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ فِى الْحَدِيثِ شَيْئًا لا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ. قال: قال الرَّجُلُ: مَالِى، قَالَ: قِيلَ:

(7/473)


لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ. وترجم له (باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) . صداق الملاعنة واجب لها بالإجماع؛ لأنهما كانا على نكاح صحيح قبل التعانهما، وكل من وطئ امرأة بشبهة، فالصداق لها واجب، فكيف النكاح الصحيح؟ قال ابن المنذر: وفى حديث ابن عمر دليل على وجوب صداقها، وأن الزوج لا يرجع عليها بالمهر، وإن أقرت بالزنا؛ لقوله: (إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد منك) ، هكذا رواه فى باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب. قال ابن المنذر: ولو قال قائل: إن فيه دليلاً على أن المهر إنما يجب بالمسيس لا بالخلوة لساغ ذلك. قال المؤلف: وحديث هذا الباب يوجب الصداق بالدخول. قال المهلب فى قوله: (إن كنت صادقًا فقد دخلت بها) ، فيه دليل على أن الدخول بالمرأة يكنى به عن الجماع، وهو دليل على وجوب جماعها، وإن كان قد لا يكون جماع مع الدخول، فغلب عليه السلام ما يكون فى الأكثر وهو الجماع، لما ركب الله فى نفوس عباده من شهوة النساء، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى هذه المسألة فى باب المهر للمدخول عليها بعد هذا إن شاء الله. قال الطبرى: فى قوله عليه السلام: (الله يعلم إن

(7/474)


أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ، أنه ينبغى للإمام إذا أراد استحلاف من لزمته يمين لغيره فرآه ماضيًا على اليمين أن يذكره بالله ويعظه ويتلوا عليه قول الله: (إن الذين يشترون بعهد الله) [آل عمران: 77] الآية، ليرتدع عن اليمين إن كان مبطلاً فيها، ولذلك أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوقف كل واحد منهما عند الخامسة، فيقال له: اتق الله، فإنها الموجبة التى توجب عذاب الله وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال ابن المنذر: وفيه بدء الإمام بعظة الزوجين والبدء بالزوج فى ذلك قبل المرأة.
32 - بَاب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ
/ 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا وَأَحْلَفَهُمَا. اختلف العلماء متى تقع الفرقة باللعان، فذكر ابن المنذر، عن ابن عباس، أن بانقضاء اللعان تقع الفرقة بينهما، وإن لم يفرق الحاكم، وهو قول ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، وزفر، وأبى ثور. وقال الثورى، وأبى حنيفة وصاحباه: لا تقع الفرقة بينهما بتمام اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم، وبه قال أحمد. وقال الشافعى: إذا أكمل الزوج اللعان وقعت الفرقة بينهما ولم يتوارثا ولو لم تكمل الفرقة ومات ورثه ابنه. واحتج الشافعى، فقال: لما كان التعان الزوج يسقط الحد وينفى

(7/475)


الولد كان يقطع العصمة ويرفع الفراش؛ لأن المرأة لا مدخل لها فى الفراق وقطع للعصمة، ولا معنى لالتعان المرأة إلا فى درء الحد عنها. قال الطحاوى: وقول الشافعى خلاف القرآن، قال الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] إلى آخر الآيات، وعلى قوله: ينبغى أن لا تلاعن المرأة وهى غير زوجة، وقد اتفقوا أنه من طلق امرأته وأبانها ثم قذفها أن لا تلاعن؛ لأنها ليست بزوجة كذلك لو بانت بلعان الزوج لم يجز لعان المرأة. وحجة الكوفيين أن الفرقة لا تقع إلا بتفريق الحاكم حديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه لا إلى اللعان، قالوا: فلما كان اللعان مفتقرًا إلى حضور الحاكم كان مفتقرًا إلى تفريقه بخلاف الطلاق قياسًا على العنين أنه لا يفرق بينه وبين امرأته إلا الحاكم، والحجة لمالك ومن وافقه حديث ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين بلعانهما جميعًا، فدل أن اللعان أوجب الفرقة التى قضى بها النبى (صلى الله عليه وسلم) عند فراغهما من اللعان، وقال: لا سبيل لك عليها إعلامًا منه أن اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذًا لما أوجب الله بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان فى اللغة. وإذا قيل: لاعن، فهى مفاعلة من اثنين، ولو كان النكاح بينهما باقيًا حتى يفرق الحاكم لكان إنما يفرق بين زوجين صحيح النكاح غير فاسد من غير سبب حدث من أجله فساده، فإن قال ذلك خرج من قول جميع الأمة وأجاز للحاكم التفريق بين من شاء من الأزواج من غير سبب حدث بينهما يبطل به نكاحهم، وقياسه على العنين خطأ؛ لأنه يجوز لها أن تراجع العنين إن رضيت به، ولا يجوز لها مراجعة الملاعن فافترقا.

(7/476)


قال ابن المنذر: وفى إجماعهم أن زوجة الملاعن لا تحل له بعد زوج إذا لم يكذب نفسه، دليل بين أن النكاح لو لم يكن منفسخًا باللعان، لكان طلاق العجلانى يقع عليها، وكانت تحل له بعد النكاح. وذكر جمهور العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ولم ترجع إليه أبدًا. قال مالك: وعلى هذا السنة التى لا شك فيها ولا اختلاف، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد. وقال: قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير، وحجة هؤلاء الإجماع على أنه إن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، قالوا: فيعود النكاح حلالاً كما عاد الولد؛ لأنه لا فرق بين شىء من ذلك. وحجة الجماعة فى أنهما لا يجتمعان أبدًا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، وقال: لا سبيل لك عليها، ولم يقل له: إلا أن تكذب نفسك، فكان كالتحريم المؤبد فى الأمهات ومن ذكر معهن، وهذا شأن كل تحريم مطلق التأبيد، ألا ترى أن المطلق ثلاثًا لما لم يكن تحريمه تأبيدًا أوقع فيه الشرط بنكاح زوج غيره، ولو قال: فإن طلقها فلا تحل له، لكان تحريمًا مطلقًا لا تحل له أبدًا، وقد أطلق النبى (صلى الله عليه وسلم) التحريم فى الملاعنة، ولم يضمنه بوقت، فهو مؤبد، فإن أكذب نفسه لحق به الولد؛ لأنه حق جحده ثم عاد إلى الإقرار به، وليس كذلك النكاح؛ لأنه حق ثبت عليه بقوله: (لا سبيل لك عليها) ، فلا يتهيأ له إبطاله، وقد

(7/477)


روى ابن إسحاق وجماعة عن الزهرى، قال: فمضت السنة بأنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا.
33 - بَاب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاعِنَةِ
/ 43 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرأَةِ. أما قول ابن عمر: وأحلق الولد بالمرأة، فمعلوم أن الأم لا ينتفى عنها ولدها؛ لأنها ولدته ومعناه أنه لما انتفى عن أبيه بلعانها ألحقه بأمه خاصة، كأنه لا أب له، فلا يرث أباه ولا يرثه أبوه ولا أحد ينسبه، وإنما ينسب إلى عصبة أمه، وعلى هذا علماء الأمصار. وقيل: بل ألحقه بأمه، فجعل أمه له كأبيه وأمه، ولهذا الحديث، والله أعلم، اختلف العلماء فى ميراث ابن الملاعنة على ما نذكره فى كتاب الفرائض. قال الطبرى: وإنما يلحق ولد الملاعنة بأمه ولا يدعى لأب ما دام الملاعن مقيمًا على نفيه عن نفسه بعد الالتعان فأما إن هو أقر به يومًا، فإنه يلحق به نسبه، وهذا إجماع من العلماء.
34 - بَاب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا
/ 44 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ،

(7/478)


فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: (لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) . فى هذا الحديث من الفقه: أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا بطلاق زوج قد وطئها، ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء. قال ابن المنذر: وعلى هذا جماعة العلماء، إلا سعيد بن المسيب. قال: أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثانى، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول، وهذا قول لا نعلم أحدًا من أهل العلم وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها. قال غيره: وأظنه لم يبلغه حديث العسيلة، فأخذ بظاهر من القرآن، وهو قوله: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها (، يعنى الثانى،) فلا جناح عليهما أن يتراجعا) [البقرة: 230] ، وليس فى القرآن ذكر مسيس فى هذا الموضع، وغابت عنه السنة فى ذلك، وكذلك شذ عنه الحسن البصرى، فقال: لا تحل للأول حتى يطأها الثانى وطئًا فيه إنزال، وقال: معنى العسيلة الإنزال، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: التقاء الختانين يحلها للزوج الأول، وقالوا: ما يوجب الحد والغسل ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق يحل المطلقة، والعسيلة كناية عن اللذة. قال ابن المنذر: وقد اعتل بعض أهل العلم بقوله: (حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك) ، أن الزوج الثانى إن أتاها نائمة أو مغمى عليها لا تشعر، أنها لا تحل للزوج الأول حتى يذوقا جميعًا العسيلة، إذ غير جائز أن يسوى بينهما، عليه السلام، فى ذوق العسيلة

(7/479)


وتحل بأن يذوقها أحدهما، وهذا قول على، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وابن عمر، وهو قول جماعة العلماء، ولا خلاف فى ذلك إلا ما روى عن ابن المسيب. وقوله فى هذا الحديث: (أو يذوق عسيلتك) ، لا يوجب ذوق أحدهما للعسيلة دون صاحبه، و (أو) هاهنا بمعنى الواو، وذلك مشهور فى لغة العرب، وقد بين ذلك رواية من روى: (ويذوق عسيلتك) ، ذكره فى باب من أجاز طلاق الثلاث، وفى باب من قال لامرأته: أنت علىّ حرام. واختلفوا فى صفة الوطء الذى يحل المطلقة ثلاثًا، فقال مالك: لا يحلها إلا الوطء المباح، فإن وقع الوطء فى صوم أو اعتكاف أو حيض أو نفاس، لم تحل المطلقة ثلاثًا، ولا يحل الذمية عنده وطء الذمى ولا الصبى إذا لم يكن بالغًا. وقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: يحلها وطء كل زوج بنكاح صحيح، وكذلك لو أصابها محرمة أو صائمة أو حائضًا أو وطئها مراهق لم يحتلم تحل بذلك كله، وتحل الذمية للمسلم بوطء زوج ذمى، وبهذا كله قال ابن الماجشون وبعض المدنيين؛ لأنه زوج. واختلفوا فى عقد نكاح المحلل، فقال مالك: لا يحلها إلا نكاح رغبة، وإن قصد التحليل لم يحلها، وسواء علم ذلك الزوجان أو لم يعلما لا تحل ويفسخ قبل الدخول وبعده، وهذا قول الليث، والثورى، والأوزاعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى: النكاح جائز، وله أن يقيم على نكاحه، وهو قول عطاء والحكم.

(7/480)


وقال القاسم، وسالم، وعروة، والشعبى: لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سعيد. والحجة لمالك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لعن المحلل والمحلل له من حديث على، وابن مسعود، وعقبة ابن عامر، وفى حديث عقبة: (ألا أدلكم على التيس المستعار) ، وهو المحلل ولا فائدة للعنة إلا إفساد النكاح والتحذير منه، وقد سئل ابن عمر عن نكاح المحلل، فقال: ذلك السفاح. واحتج الكوفيون بعموم قوله تعالى: (حتى تنكح زوجًا غيره) [البقرة: 230] ، وقد وجد الشرط وعقد الثانى على شرائطه بعد تحليلها للأول، فلا فرق بين أن ينوى التحليل أم لا، قالوا: ألا ترى أن عقد النكاح يبيح الوطء ويوجب الصداق والنفقة وتحليل الطلاق، ولا فرق بين أن ينوى ذلك، فيقول: أنكح لأطأ، وبين أن لا ينوى ذلك. وفى هذا الحديث دليل على أن للمرأة المطالبة بحقها من الجماع وأن لها أن تدعو إلى فسخ النكاح، وذلك أنها إذا ادعت بهذا القول العُنَّة، ولم ترد أن ذلك منه فى رقة الهدبة إنما أرادت أنه كالهدبة ضعفًا واسترخاء، وقد بان ذلك فى رواية أيوب، عن عكرمة، أنها قالت: والله ما لى إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عنى من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقالت: كذبت يا رسول الله، إنى لأنفضها نفض الأديم. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فى الرجل ينكح المرأة، ثم

(7/481)


تطالبه بالجماع، فقال كثير من أهل العلم: إذا وطئها مرة لم يؤجل أجل العنين، روى هذا عن عطاء، وطاوس، والحسن، والزهرى، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وحكى أبو ثور عن بعض أهل الأثر أنه كلما أمسك عنها أجل لها سنة؛ لأنه ليس لها فيما مضى من جماعها مقنع. وقال أبو ثور: إذا غشيها مرة واحدة ثم أمسك، فإن رافعته أجل لها سنة، وذلك أن العلة التى فى العنين قد صارت فيه، ولست أنظر فى هذا إلى أول النكاح ولا آخره إذا كانت العلة موجودة، وذلك أن من حقوقها الجماع، فمتى كان المنع لعلة كان حكمه حكم العنين.

(7/482)