عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 29 - (بابُ مَنْ قالَ فِي الخُطْبَةِ
بَعْدَ الثَّنَاءِ أمَّا بَعْدُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ فِي الْخطْبَة
بعد الثَّنَاء عَن الله عز وَجل كلمة: أما بعد، وَكَانَ
البُخَارِيّ، رَحمَه الله، لم يجد فِي صفة خطْبَة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة حَدِيثا على
شَرطه، فاقتصر على ذكر الثَّنَاء وَاللَّفْظ وضع للفصل
بَينه وَبَين مَا بعده من موعظة وَنَحْوهَا، وَقَالَ أَبُو
جَعْفَر النّحاس عَن سِيبَوَيْهٍ: معنى أما بعد، مهما يكن
من شَيْء، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: إِذا كَانَ رجل فِي
حَدِيث وَأَرَادَ أَن يَأْتِي بِغَيْرِهِ قَالَ: أما بعد،
وَأَجَازَ الْفراء: أما بعدا، بِالنّصب والتنوين، و: أما
بعد، بِالرَّفْع والتنوين، وَأجَاب هِشَام: أما بعد،
بِفَتْح الدَّال. وَاعْلَم أَن: بعد وَقبل، من الظروف
الَّتِي قطعت عَن الْإِضَافَة، فَإِذا أُرِيد مِنْهُمَا
الْمُضَاف إِلَيْهِ الْمُتَعَيّن بعد الْقطع يبْنى وَلَا
يعرب، وَيكون بناؤهما على الضَّم لِأَن بناءهما عَارض
يَزُول بِالْإِضَافَة، فَكَانَت الْحَرَكَة ضمة لِأَنَّهَا
لَا توهم إعرابا، لِأَن الضَّم لَا يدخلهما مضافين. وَفِي
(الْمُحكم) : مَعْنَاهُ أما بعد دعائي لَك. وَفِي
(الْجَامِع) : يَعْنِي بعد الْكَلَام الْمُتَقَدّم، أَو
بعد مَا بَلغنِي من الْخَبَر.
وَاخْتلف فِي أول من قَالَهَا. فَقيل: دَاوُد، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا
من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَفِي اسناده ضعف،
وَقيل: قس بن سَاعِدَة. وَقيل: يعرب بن قحطان. وَقيل:
كَعْب بن لؤَي جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقيل: سحبان بن وَائِل. وَفِي (غرائب مَالك) للدارقطني
بِسَنَد ضَعِيف: (لما جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى يَعْقُوب،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ يَعْقُوب فِي جملَة
كَلَامه: أما بعد، فَإنَّا أهل بَيت مُوكل بِنَا الْبلَاء)
، وَذكر الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عبد
الله الرهاوي أَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، رووا هَذِه اللَّفْظَة عَن سيدنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم: سعد بن أبي
وَقاص وَابْن مَسْعُود وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد
الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَعبد الله وَالْفضل
ابْنا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَجَابِر بن عبد الله
وَأَبُو هُرَيْرَة وَسمرَة بن جُنْدُب وعدي بن حَاتِم
وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ وَعقبَة بن عَامر والطفيل بن
سَخْبَرَة وَجَرِير بن عبد الله البَجلِيّ وَأَبُو
سُفْيَان بن حَرْب وَزيد بن أَرقم وَأَبُو بكرَة وَأنس بن
مَالك وَزيد بن خَالِد وقرة بن دعموص والمسور بن مخرمَة
وَجَابِر بن سَمُرَة وَعَمْرو بن ثَعْلَبَة ورزين بن أنس
السّلمِيّ وَالْأسود بن سريع وَأَبُو شُرَيْح بن عَمْرو
وَعَمْرو بن حزم وَعبد الله ابْن عليم وَعقبَة بن مَالك
وَأَسْمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَجْمَعِينَ.
(6/221)
رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى القَوْل بِكَلِمَة: أما بعد، فِي الْخطْبَة
عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله البُخَارِيّ فِي آخر هَذَا الْبَاب: عَن إِسْمَاعِيل
بن أبان عَن ابْن الغسيل عَن عِكْرِمَة: (عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: صعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمِنْبَر) الحَدِيث.
45 - (وَقَالَ مَحْمُود حَدثنَا أَبُو أُسَامَة قَالَ
حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة قَالَ أَخْبَرتنِي فَاطِمَة بنت
الْمُنْذر عَن أَسمَاء بنت أبي بكر قَالَت دخلت على
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَالنَّاس يصلونَ قلت مَا
شَأْن النَّاس فَأَشَارَتْ برأسها إِلَى السَّمَاء فَقلت
آيَة فَأَشَارَتْ برأسها أَي نعم قَالَت فَأطَال رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جدا حَتَّى
تجلاني الغشي وَإِلَى جَنْبي قربَة فِيهَا مَاء ففتحتها
فَجعلت أصب مِنْهَا على رَأْسِي فَانْصَرف رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد تجلت الشَّمْس
فَخَطب النَّاس وَحمد الله بِمَا هُوَ أَهله ثمَّ قَالَ
أما بعد قَالَت ولغط نسْوَة من الْأَنْصَار فَانْكَفَأت
إلَيْهِنَّ لأسكتهن فَقلت لعَائِشَة مَا قَالَ قَالَت
قَالَ من شَيْء لم أكن أريته إِلَّا قد رَأَيْته فِي
مقَامي هَذَا حَتَّى الْجنَّة وَالنَّار وَإنَّهُ قد
أُوحِي إِلَيّ أَنكُمْ تفتنون فِي الْقُبُور مثل أَو
قَرِيبا من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال يُؤْتى أحدكُم
فَيُقَال لَهُ مَا علمك بِهَذَا الرجل فَأَما الْمُؤمن أَو
قَالَ الموقن شكّ هِشَام فَيَقُول هُوَ رَسُول الله هُوَ
مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهدى فَآمَنا وأجبنا وَاتَّبَعنَا
وصدقنا فَيُقَال لَهُ نم صَالحا قد كُنَّا نعلم أَن كنت
لتؤمن بِهِ وَأما الْمُنَافِق أَو قَالَ المرتاب شكّ هَاشم
فَيُقَال لَهُ مَا علمك بِهَذَا الرجل فَيَقُول لَا
أَدْرِي سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فَقلت قَالَ
هِشَام فَلَقَد قَالَت لي فَاطِمَة فأوعيته غير أَنَّهَا
ذكرت مَا يغلط عَلَيْهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة
وَهِي قَوْله " ثمَّ قَالَ أما بعد ". (ذكر رِجَاله) وهم
خَمْسَة. الأول مَحْمُود بن غيلَان أحد مشايخه مر فِي بَاب
النّوم قبل الْعشَاء. الثَّانِي أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن
أُسَامَة اللَّيْثِيّ وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث هِشَام
بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام وَقد تكَرر ذكره.
الرَّابِع فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير بن الْعَوام
امْرَأَة هِشَام بن عُرْوَة. الْخَامِس أَسمَاء بنت أبي
بكر الصّديق أم عبد الله بن الزبير وَعُرْوَة أُخْت
عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه
العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع
وَفِيه قَالَ مَحْمُود وَلم يقل حَدثنَا مَحْمُود أَو
أخبرنَا لِأَن الظَّاهِر أَنه ذكره لَهُ محاورة ومذاكرة
لَا نقلا وتحميلا لَكِن كَلَام أبي نعيم فِي الْمُسْتَخْرج
يشْعر بِأَنَّهُ قَالَ حَدثنَا مَحْمُود وَفِيه رِوَايَة
الرجل عَن بنت عَمه وَزَوجته وَفِيه رِوَايَة التابعية عَن
الصحابية وَفِيه رِوَايَة الصحابية عَن الصحابية وَفِيه
شيخ البُخَارِيّ مروزي وَشَيْخه كُوفِي والبقية مَدَنِيَّة
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ
فِي مَوَاضِع قد بَيناهُ فِي بَاب من أجَاب الْفتيا
بِإِشَارَة الْيَد وَالرَّأْس فِي كتاب الْعلم وَقد ذكرنَا
أَيْضا من أخرجه غير البُخَارِيّ وَذكرنَا جَمِيع مَا
يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ وَنَذْكُر هَهُنَا مُخْتَصرا
عَمَّا قد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ وَمَا لم نذكرهُ قَوْله "
وَالنَّاس يصلونَ " جملَة حَالية قَوْله " مَا شَأْن
النَّاس " أَي قَائِمين فزعين قَوْله " فَأَشَارَتْ " أَي
عَائِشَة قَوْله " فَقلت آيَة " أَصله بِهَمْزَة
الِاسْتِفْهَام أَي آيَة وارتفاعها على أَنَّهَا خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي أَهِي آيَة أَي
(6/222)
عَلامَة لعذاب النَّاس كَأَنَّهَا
مُقَدّمَة لَهُ قَوْله " حَتَّى تجلاني " بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْجِيم وَتَشْديد اللَّام وَأَصله
تجللني أَي علاني وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة هُنَاكَ
قَوْله " الغشي " بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف
مُخَفّفَة من غشي عَلَيْهِ غشية وغشيا وغشيانا فَهُوَ مغشي
عَلَيْهِ واستغشى بِثَوْبِهِ وتغشى أَي تغطى بِهِ قَوْله "
وَقد تجلت الشَّمْس " جملَة حَالية أَي انكشفت قَوْله "
ثمَّ قَالَ أما بعد " هَذَا لم يذكر هُنَاكَ قَالَ
الْكرْمَانِي كلمة أما لَا بُد لَهَا من أُخْت فَمَا هِيَ
إِذا وَقعت بعد الثَّنَاء على الله كَمَا هُوَ الْعَادة
فِي ديباجة الرسائل والكتب بِأَن يُقَال الْحَمد لله
وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله أما بعد وَأجَاب
بِأَن الثَّنَاء أَو الْحَمد مقدم عَلَيْهِ كَأَنَّهُ
قَالَ أما الثَّنَاء على الله فَكَذَا وَأما بعد فَكَذَا
وَلَا يلْزم فِي قسيمه أَن يُصَرح بِلَفْظِهِ بل يَكْتَفِي
مَا يقوم مقَامه قيل هِيَ من أفْصح الْكَلَام وَهُوَ فصل
بَين الثَّنَاء على الله وَبَين الْخَبَر الَّذِي يُرِيد
الْخَطِيب إِعْلَام النَّاس بِهِ وَمثل هَذِه الْكَلِمَة
تسمى بفصل الْخطاب الَّذِي أُوتِيَ دَاوُد عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ فصل مَا تقدم وَقَالَ
الْحسن هِيَ فصل الْقَضَاء وَهِي " الْبَيِّنَة على
الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر " قَوْله " لغط
نسْوَة من الْأَنْصَار " اللَّغط بِالتَّحْرِيكِ
الْأَصْوَات الْمُخْتَلفَة الَّتِي لَا تفهم قَالَ ابْن
التِّين ضَبطه بَعضهم بِفَتْح الْغَيْن وَبَعْضهمْ
بِكَسْرِهَا وَهُوَ عِنْد أهل اللُّغَة بِالْفَتْح قَوْله
" فَانْكَفَأت " أَي ملت بوجهي وَرجعت إلَيْهِنَّ لأسكتهن
وَأَصله من كفأت الْإِنَاء إِذا أملته وكببته قَوْله " مَا
من شَيْء " كلمة مَا للنَّفْي وَكلمَة من زَائِدَة لتأكيد
النَّفْي وَشَيْء اسْم مَا وَقَوله " لم أكن أريته " جملَة
فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لشَيْء وَهُوَ مَرْفُوع
فِي الأَصْل وَإِن كَانَ جر بِمن الزَّائِدَة وَاسم أكن
مستتر فِيهِ وأريته بِضَم الْهمزَة جملَة فِي مَحل النصب
لِأَنَّهَا خبر لم أكن قَوْله " إِلَّا وَقد رَأَيْته "
اسْتثِْنَاء مفرغ وَتَحْقِيق الْكَلَام قد ذَكرْنَاهُ
قَوْله " حَتَّى الْجنَّة وَالنَّار " يجوز فيهمَا الرّفْع
على أَن تكون حَتَّى ابتدائية وَرفع الْجنَّة على
الِابْتِدَاء مَحْذُوف الْخَبَر تَقْدِيره حَتَّى الْجنَّة
مرئية وَالنَّار عطف عَلَيْهَا وَيجوز فيهمَا النصب على
أَن تكون حَتَّى عاطفة على الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي
رَأَيْته وَيجوز الْجَرّ أَيْضا على أَن تكون حَتَّى جَارة
قَوْله " أُوحِي إِلَيّ " على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله "
أَنكُمْ " بِفَتْح الْهمزَة قَوْله " مثل أَو قَرِيبا "
أَصله مثل فتْنَة الدَّجَّال أَو قَرِيبا من فتْنَة
الدَّجَّال وتحقيقه قد مر قَوْله " يُؤْتى " على صِيغَة
الْمَجْهُول قَوْله " الموقن " أَي الْمُصدق بنبوة
مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو
الموقن بنبوته قَوْله " صَالحا " أَي مُنْتَفعا بأعمالك
قَوْله " أَن كنت " أَن هَذِه مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة
أَي أَن الشَّأْن كنت وَهِي مكسوة وَدخلت اللَّام فِي
قَوْله " لموقنا " لتفرق بَين أَن هَذِه وَبَين أَن
النافية قَوْله " الْمُنَافِق " هُوَ الْمظهر خلاف مَا
يبطن والمرتاب الشاك وَهُوَ فِي مُقَابلَة الموقن وَهَذَا
اللَّفْظ مُشْتَرك فِيهِ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالْفرق
تقديري قَوْله " فأوعيته " الأَصْل فِي مثل هَذَا أَن
يُقَال وعيته يُقَال وعيت الْعلم وأوعيت الْمَتَاع وَقَالَ
ابْن الْأَثِير فِي حَدِيث الْإِسْرَاء ذكر فِي كل سَمَاء
أَنْبيَاء قد سماهم فأوعيت مِنْهُم إِدْرِيس فِي
الثَّانِيَة هَكَذَا رُوِيَ فَإِن صَحَّ فَيكون مَعْنَاهُ
أدخلته فِي وعَاء قلبِي يُقَال أوعيت الشَّيْء فِي
الْوِعَاء إِذا أدخلته فِيهِ وَلَو روى وعيت بِمَعْنى حفظت
لَكَانَ أبين وَأظْهر يُقَال وعيت الحَدِيث أعيه وعيا
فَأَنا واع إِذا حفظته وفهمته وَفُلَان أوعى من فلَان أَي
أحفظ وَأفهم وَهَهُنَا كَذَلِك إِن صحت الرِّوَايَة فَيكون
مَعْنَاهُ أدخلته فِي وعَاء قلبِي وَإِلَّا فَالْقِيَاس
وعيته بِدُونِ الْهمزَة فَافْهَم وَفِي بعض النّسخ فوعيته
على الأَصْل قَوْله " مَا يغلظ عَلَيْهِ " ويروى " مَا
يغلظ فِيهِ " (وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) الافتتان فِي
الْقَبْر وَهُوَ الاختبار وَلَا فتْنَة أعظم من هَذِه
الْفِتْنَة وَقد وَردت فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا
حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة
سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا قبر
الْمَيِّت أَو قَالَ أحدكُم أَتَاهُ ملكان أسودان أزرقان
يُقَال لأَحَدهمَا الْمُنكر وَللْآخر النكير فَيَقُولَانِ
مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول مَا كَانَ يَقُول
هُوَ عبد الله وَرَسُوله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَيَقُولَانِ قد
كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول هَذَا ثمَّ يفسح لَهُ فِي قَبره
سَبْعُونَ ذِرَاعا فِي سبعين ثمَّ ينور لَهُ فِيهِ ثمَّ
يُقَال لَهُ نم فَيَقُول أرجع إِلَى أَهلِي فَأخْبرهُم
فَيَقُولَانِ نم كنومة الْعَرُوس الَّذِي لَا يوقظه إِلَّا
أحب أَهله إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك
فَإِن كَانَ منافقا قَالَ سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ فَقلت
مثله لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك
تَقول ذَلِك فَيُقَال للْأَرْض التئمي عَلَيْهِ فتلتئم
عَلَيْهِ فتختلف أضلاعه فَلَا يزَال فِيهَا معذبا حَتَّى
يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك " انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ
التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه وَله طَرِيق آخر من
رِوَايَة
(6/223)
سعيد بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه
ابْن مَاجَه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ " إِن الْمَيِّت يصير إِلَى الْقَبْر
فيجلس الرجل الصَّالح فِي قَبره غير فزع وَلَا مشغوب ثمَّ
يُقَال لَهُ فيمَ كنت فَيَقُول كنت فِي الْإِسْلَام
فَيُقَال لَهُ مَا هَذَا الرجل فَيَقُول مُحَمَّد رَسُول
الله جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ من عِنْد الله
فَصَدَّقْنَاهُ فَيُقَال لَهُ هَل رَأَيْت الله فَيَقُول
مَا يَنْبَغِي لأحد أَن يرى الله فتفرج لَهُ فُرْجَة قبل
النَّار فَينْظر إِلَيْهَا يحطم بَعْضهَا بَعْضًا فَيُقَال
لَهُ انْظُر إِلَى مَا وقاك الله ثمَّ يفرج لَهُ فُرْجَة
قبل الْجنَّة فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا فَيُقَال
لَهُ هَذَا مَقْعَدك وَيُقَال لَهُ على الْيَقِين كنت
وَعَلِيهِ مت وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ الله وَيجْلس
الرجل السوء فِي قَبره فَزعًا مشغوبا فَيُقَال لَهُ فيمَ
كنت فَيَقُول لَا أَدْرِي فَيُقَال لَهُ مَا هَذَا الرجل
فَيَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ قولا فقلته فيفرج لَهُ
قبل الْجنَّة فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا فَيُقَال
لَهُ انْظُر إِلَى مَا صرف الله عَنْك ثمَّ يفرج لَهُ
فُرْجَة إِلَى النَّار فَينْظر إِلَيْهَا يحطم بَعْضهَا
بَعْضًا فَيُقَال لَهُ هَذَا مَقْعَدك على الشَّك كنت
عَلَيْهِ ومت وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ الله " وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى فِي التَّفْسِير وَفِي
الْمَلَائِكَة من هَذَا الْوَجْه وَأخرج أَبُو دَاوُد من
حَدِيث أنس وَفِيه قَالَ " إِن الْمُؤمن إِذا وضع فِي
قَبره أَتَاهُ ملك فَيَقُول لَهُ مَا كنت تعبد فَإِن الله
إِذا هداه قَالَ كنت أعبد الله فَيُقَال لَهُ مَا كنت
تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول هُوَ عبد الله وَرَسُوله
وَمَا يسْأَل عَن شَيْء غَيرهَا فَينْطَلق بِهِ إِلَى بَيت
كَانَ لَهُ فِي النَّار فَيُقَال لَهُ هَذَا بَيْتك كَانَ
فِي النَّار وَلَكِن الله عصمك ورحمك فأبدلك بِهِ بَيْتا
فِي الْجنَّة فَيَقُول دَعونِي حَتَّى أذهب فأبشر أَهلِي
فَيُقَال لَهُ اسكن وَإِن الْكَافِر إِذا وضع فِي قَبره
أَتَاهُ ملك فيهزه فَيَقُول لَهُ مَا كنت تعبد فَيَقُول
لَا أَدْرِي فَيَقُول لَهُ لَا دَريت وَلَا تليت فَيُقَال
لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول كنت أَقُول
مَا يَقُول النَّاس فيضربه بمطراق من حَدِيد بَين
أُذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا الْخلق غير
الثقلَيْن " وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث
الْبَراء على اخْتِلَاف طرقه وَفِيه " ثمَّ يقيض لَهُ أعمى
أبكم مَعَه مرزبة من حَدِيد لَو ضرب بهَا جبل لصار تُرَابا
قَالَ فَيضْرب ضَرْبَة يسْمعهَا من بَين الْمشرق
وَالْمغْرب إِلَّا الثقلَيْن فَيصير تُرَابا ثمَّ يُعَاد
فِيهِ الرّوح ". وَأخرج أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ
حَدِيث الْبَراء بن عَازِب " يَقُول العَبْد هُوَ رَسُول
الله " الحَدِيث " وَفِيه يمثل لَهُ عمله فِي هَيْئَة رجل
حسن الْوَجْه طيب الرّيح حسن الثِّيَاب فَيَقُول أبشر
بِمَا أعد الله لَك أبشر برضوان الله تَعَالَى وجنات فِي
نعيم مُقيم فَيَقُول بشرك الله بِخَير من أَنْت فوجهك
الَّذِي جَاءَ بِالْخَيرِ فَيَقُول هَذَا يَوْمك الَّذِي
كنت توعد أَنا عَمَلك الصَّالح ". وَأخرج الطَّبَرَانِيّ
فِي الْأَوْسَط من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا "
فيأتيه الْملكَانِ أعينهما مثل قدور النّحاس " وَفِي
رِوَايَة معمر " أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق
الخاطف مَعَهُمَا مرزبة من حَدِيد لَو اجْتمع عَلَيْهَا
أهل الأَرْض لم يقلوها ". وَعند الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ "
خلقهما لَا يشبه خلق الْآدَمِيّين وَلَا خلق الْمَلَائِكَة
وَلَا خلق الطير وَلَا خلق الْبَهَائِم وَلَا خلق
الْهَوَام بل هما خلق بديع " الحَدِيث وروى أَبُو نعيم من
حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَقُول " إِن ابْن آدم لفي غَفلَة عَمَّا خلقه الله عز
وَجل " الحَدِيث وَفِيه " فَإِذا أَدخل حفرته رد الرّوح
فِي جسده ثمَّ يرْتَفع ملك الْمَوْت ثمَّ جَاءَهُ ملكا
الْقَبْر فامتحناه " وَذكر بَقِيَّة الحَدِيث. وَقد رُوِيَ
فِي عَذَاب الْقَبْر عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم أَبُو
هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَالْبُخَارِيّ وَزيد بن
ثَابت عِنْد مُسلم وَابْن عَبَّاس عِنْد السِّتَّة وَأَبُو
أَيُّوب عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَالنَّسَائِيّ وَأنس عِنْد
الشَّيْخَيْنِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَجَابِر
عِنْد ابْن مَاجَه وَعَائِشَة عِنْد الشَّيْخَيْنِ
وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو سعيد عِنْد ابْن مرْدَوَيْه فِي
تَفْسِيره وَابْن عمر عِنْد النَّسَائِيّ وَعمر بن الْخطاب
عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَسعد
عِنْد البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَسْعُود عِنْد الطَّحَاوِيّ وَزيد بن أَرقم عِنْد مُسلم
وَأَبُو بكرَة عِنْد النَّسَائِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن
حَسَنَة عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
وَعبد الله بن عَمْرو عِنْد النَّسَائِيّ وَأَسْمَاء بنت
أبي بكر عِنْد البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأَسْمَاء بنت
يزِيد عِنْد النَّسَائِيّ وَأم مُبشر عِنْد ابْن أبي شيبَة
فِي المُصَنّف وَأم خَالِد عِنْد البُخَارِيّ
وَالنَّسَائِيّ
46 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن معمر قَالَ حَدثنَا أَبُو
عَاصِم عَن جرير بن حَازِم قَالَ سَمِعت الْحسن يَقُول
حَدثنَا عَمْرو بن تغلب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِي بِمَال أَو سبي فَقَسمهُ
فَأعْطى رجَالًا
(6/224)
وَترك رجَالًا فَبَلغهُ أَن الَّذين ترك
عتبوا فَحَمدَ الله ثمَّ أثنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد
فوَاللَّه إِنِّي لأعطي الرجل وأدع الرجل وَالَّذِي أدع
أحب إِلَيّ من الَّذِي أعطي وَلَكِن أعطي أَقْوَامًا لما
أرى فِي قُلُوبهم من الْجزع والهلع وَأكل أَقْوَامًا إِلَى
مَا جعل الله فِي قُلُوبهم من الْغنى وَالْخَيْر فيهم
عَمْرو بن تغلب فوَاللَّه مَا أحب أَن لي بِكَلِمَة رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمر النعم "
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " ثمَّ قَالَ أما بعد ".
(ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن معمر
بِفَتْح الميمين أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ الْعَبْسِي
الْمَعْرُوف بالبحراني ضد البراني. الثَّانِي أَبُو عَاصِم
النَّبِيل واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّالِث جرير
بِفَتْح الْجِيم وتكرار الراءين ابْن حَازِم بِالْحَاء
الْمُهْملَة وبالزاي. الرَّابِع الْحسن الْبَصْرِيّ.
الْخَامِس عَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن تغلب بِفَتْح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة
الْعَبْدي التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ رُوِيَ لَهُ عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حديثان
رَوَاهُمَا البُخَارِيّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ
التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين فِي الروَاة وَفِي
مَوضِع آخر عَن الصَّحَابِيّ وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع
وَاحِد وَفِيه السماع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون وَفِيه أَن هَذَا
الحَدِيث من إِفْرَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه أَيْضا فِي
الْخمس عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّوْحِيد عَن
أبي النُّعْمَان وَقَالَ عبد الْغَنِيّ لم يرو عَن عَمْرو
بن تغلب غير الْحسن الْبَصْرِيّ فِيمَا قَالَه غير وَاحِد
(قلت) لَعَلَّ مُرَاده فِي الصَّحِيح وَإِلَّا فقد قَالَ
ابْن عبد الْبر أَن الحكم بن الْأَعْرَج روى عَنهُ أَيْضا
كَمَا نبه عَلَيْهِ الْمزي رَحمَه الله (فَإِن قلت) قَالَ
الحكم وَعَلِيهِ الْجُمْهُور أَن شَرط البُخَارِيّ فِي
صَحِيحه أَن لَا يذكر إِلَّا حَدِيثا رَوَاهُ صَحَابِيّ
مَشْهُور عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَله راويان ثقتان فَأكْثر ثمَّ يرويهِ عَنهُ
تَابِعِيّ مَشْهُور وَله أَيْضا راويان ثقتان فَأكْثر ثمَّ
كَذَلِك فِي كل دَرَجَة وَهَذَا الحَدِيث لم يروه عَن
عَمْرو بن تغلب إِلَّا راو وَاحِد وَهُوَ الْحسن (قلت) قد
ذكرت لَك أَن الحكم بن الْأَعْرَج روى عَنهُ أَيْضا (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " أَتَى بِالْمَالِ أَو بِشَيْء "
بالشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
بعْدهَا همزَة ويروى بسبي بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف
ويروى " أَو سبي " بِدُونِ حرف الْبَاء وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَتَى بِمَال من الْبَحْرين " قَوْله
" فَبَلغهُ أَن الَّذين ترك " كَذَا بِخَط الْحَافِظ
الدمياطي وَقَالَ الْحَافِظ قطب الدّين الَّذِي فِي أصل
روايتنا " أَن الَّذِي ترك " (قلت) الضَّمِير الَّذِي فِي
ترك يرجع إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره أَن الَّذين
تَركهم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- عتبوا حَيْثُ حرمُوا عَن الْعَطاء وَأما وَجه أَن
الَّذِي بإفراد الْمَوْصُول فعل تَقْدِير أَن الصِّنْف
الَّذِي تَركه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَوْله " أما بعد " أَي أما بعد الْحَمد لله
تَعَالَى وَالثنَاء عَلَيْهِ قَوْله " وَإِنِّي أعطي الرجل
" أعطي بِلَفْظ الْمُتَكَلّم لَا بِلَفْظ الْمَجْهُول من
الْمَاضِي قَوْله " وأدع الرجل " أَي الرجل الآخر وأدع
بِلَفْظ الْمُتَكَلّم أَيْضا أَي أترك قَوْله " من الَّذِي
أعطي " على لفظ الْمُتَكَلّم أَيْضا ومفعول أعطي الَّذِي
هُوَ صلَة الْمَوْصُول مَحْذُوف قَوْله " لما أرى " من نظر
الْقلب لَا من نظر الْعين قَوْله " من الْجزع "
بِالتَّحْرِيكِ ضد الصَّبْر يُقَال جزع جزعا وجزوعا فَهُوَ
جزع وجازع وَقَالَ يَعْقُوب الْجزع الْفَزع وَقَالَ ابْن
سَيّده وجزع وجزاع قَوْله " والهلع " بِالتَّحْرِيكِ
أَيْضا وَهُوَ أفحش الْفَزع وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله
بن طَاهِر لِأَحْمَد بن يحيى مَا الهلوع فَقَالَ قد فسره
الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا}
بقوله {إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر
منوعا} وَيُقَال الْهَلَع والهلاع والهلعان الْجُبْن عِنْد
اللِّقَاء وَفِي أمالي ثَعْلَب الهلواعة الرجل الجبان
وَفِي تَهْذِيب أبي مَنْصُور قَالَ الْحسن بن أبي الْحسن
الهلوع الشره وَعَن الْفراء الضجور وَقَالَ أَبُو إِسْحَق
الهلوع الَّذِي يفزع ويجزع من الشَّرّ وَقَالَ الْقَزاز
الْهَلَع سوء الْجزع وَرجل هلعته مِثَال همزَة إِذا كَانَ
يجزع سَرِيعا قَوْله " من الْغنى وَالْخَيْر " أَي أتركهم
مَعَ مَا وهب الله تَعَالَى لَهُم من غنى النَّفس فصبروا
وتعففوا عَن الْمَسْأَلَة والشره قَوْله " بِكَلِمَة
رَسُول الله " مثل هَذِه الْبَاء تسمى بِالْبَاء
الْبَدَلِيَّة وباء الْمُقَابلَة نَحْو اعتضت بِهَذَا
الثَّوْب خير مِنْهُ أَي مَا أحب أَن حمر النعم لي بدل
(6/225)
كلمة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي يقابلها أَي هَذِه الْكَلِمَة
كَانَت أحب إِلَيّ مِنْهَا وَكَيف لَا وَالْآخِرَة خير
وَأبقى والحمر بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم
(تَابعه يُونُس) لم يُوجد هَذَا فِي كثير من النّسخ
وَيُونُس هُوَ ابْن عبيد الله بن دِينَار الْعَبْدي
الْمصْرِيّ وَوَصله أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ عَنهُ عَن
الْحسن عَن عَمْرو بن ثَعْلَب -
924 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي
عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ
اللَّيْلِ فصلى فِي المَسْجِدِ فصَلَّى رِجَال بِصَلاتِهِ
فأصْبَحَ النَّاسُ فتَحَدَّثُوا فاجْتَمَعَ أكْثَرُ
مِنْهُم فصَلُّوا معَهُ فأصْبَحَ النَّاسُ فتَحدَّثُوا
فكثُرَ أهْلُ المَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ
فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلُّوا
بِصَلاتِهِ فلَمَّا كانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عجَزَ
المَسْجدُ عَنْ أهْلِهِ حتَّى خَرَجَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ
فلَمَّا قَضَى الفَجْرَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسَ فتشَهَّدَ
ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّهُ لَمْ يَخْفَ علَيَّ
مَكانَكُمْ لَكِنِّي خَشيتُ أنْ تُفْرَضَ علَيْكُمْ
فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَتشهد ثمَّ قَالَ: أما
بعد) ، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة هُوَ القَوْل فِي
الْخطْبَة بِكَلِمَة: أما بعد، وَلَا ذكر للخطبة هَهُنَا؟
قلت: معنى قَوْله: (فَتشهد) ، هُوَ التَّشَهُّد فِي صدر
الْخطْبَة، وَنَظِير هَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب إِذا
كَانَ بَين الإِمَام وَالْقَوْم حَائِط أَو ستْرَة. أخرجه
هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد عَن عَبدة عَن يحيى بن سعيد عَن
عمْرَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل فِي حجرته. .)
الحَدِيث. وَأخرجه فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب فضل من
قَامَ رَمَضَان بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه: عَن يحيى
ابْن بكير عَن اللَّيْث بن سعد عَن عقيل بن خَالِد عَن
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن
الزبير عَن عَائِشَة إِلَى آخِره. . نَحوه، وَفِي آخِره:
(فَتوفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأَمر
على ذَلِك) ، وَقد مضى بعض الْكَلَام هُنَاكَ، وَسَتَأْتِي
الْبَقِيَّة فِي الصَّوْم، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
تابَعَهُ يُونُسُ
يُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد وَصله مُسلم من
طَرِيقه عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَنهُ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق عَن عبد
الله بن الْحَارِث عَن يُونُس، وَقَالَ خلف: قَوْله:
(تَابعه يُونُس) أَي: فِي قَوْله: (أما بعد) وَتَبعهُ
الْمزي على ذَلِك. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: إِنَّه
روى جَمِيع الحَدِيث فَلَا يخْتَص: بأما بعد، فَقَط.
925 - حدَّثنا أبُو اليَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرَوة عنْ أبي حُمَيْدٍ هُو
السَّاعِدِيُّ أنَّهُ أخبرهُ أنَّ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قامَ عَشِيَّةَ بَعْدَ الصَّلاَةِ
فتَشَهَّدَ وأثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ
قَالَ أمَّا بَعْدُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: هُوَ
الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة،
وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَأَبُو
حميد اسْمه: عبد الرَّحْمَن وَقيل: غير ذَلِك، وَقد مر غير
مرّة، وَهَذَا بعض حَدِيث ذكره فِي الزَّكَاة وَترك
الْحِيَل وَالِاعْتِكَاف وَالنُّذُور (اسْتعْمل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من الأزد يُقَال لَهُ:
ابْن اللتيبة على الصَّدَقَة، فَلَمَّا قدم قَالَ: هَذَا
لكم وَهَذَا أهْدى لي، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر، فَقَالَ: أما بعد،
فَإِنِّي اسْتعْمل الرجل مِنْكُم) . وَأخرجه مُسلم فِي
الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن
مُحَمَّد الناقذ وَابْن أبي عمر، وَأخرجه أَيْضا من وُجُوه
كَثِيرَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجراح عَن أبي
الطَّاهِر بن سرح وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي خلف،
كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ
(6/226)
تابَعَهُ أبُو مُعَاوِيَة وأبُو أُسَامَةَ
عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي حُمَيْدٍ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أمَّا بَعْدُ
أما مُتَابعَة أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم
الضَّرِير الْكُوفِي فأخرجها مُسلم فِي المغاوي عَن أبي
كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ،
وَأما مُتَابعَة أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة فأخرجها
البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة.
وتابَعَهُ العَدَنِيُّ عنْ سُفْيَانَ فِي أمَّا بَعْدُ
الْعَدنِي هُوَ: مُحَمَّد بن يحيى، وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة، وَأخرج مُسلم مُتَابعَة الْعَدنِي عَنهُ عَن
هِشَام، قيل: يحْتَمل أَن يكون الْعَدنِي هُوَ: عبد الله
بن الْوَلِيد، وسُفْيَان هُوَ: الثَّوْريّ، وَمن هَذَا
الْوَجْه وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَفِيه: قَوْله: أما
بعد. قلت: الَّذِي ذكره مُسلم هُوَ الْأَقْرَب إِلَى
الصَّوَاب. قَوْله: (فِي: أما بعد) أَي: تَابعه فِي
مُجَرّد كلمة: أما بعد، لَا فِي تَمام هَذَا الحَدِيث.
927 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبانَ قَالَ حدَّثنا ابنُ
الغَسِيلِ قَالَ حدَّثنا عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ صَعِدَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم المِنْبَرَ وكانَ آخِرُ مَجْلِسٍ
جَلَسَهُ مُتَعَطِّفا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَهِ قَدْ
عَصَبَ رَاسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ فَحَمِدَ الله
وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أيُّهَا النَّاسُ إلَيَّ
فَثَابُوا إلَيْهِ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ هاذا
الحَيَّ مِنَ الأنْصَارِ يَقِلُّونَ ويَكْثُرُ النَّاسُ
فَمَنْ وُلِيَ شَيْئا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَطَاعَ أنْ يُضِرَّ فِيهِ أحدا أوْ
يَنْفَعَ فِيهِ أحدا فلْيَقُلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ
ويتَجاوَزْ عنْ مُسِيئِهِمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبان،
بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد
الْألف نون: أَبُو إِسْحَاق الْوراق الْأَزْدِيّ
الْكُوفِي. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن الغسيل، هُوَ:
عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن حَنْظَلَة بن
أبي عَامر الراهب الْمَعْرُوف بِابْن الغسيل الْأنْصَارِيّ
الْمدنِي، مَاتَ سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة، وحَنْظَلَة
هُوَ غسيل الْمَلَائِكَة، اسْتشْهد بِأحد وغسلته
الْمَلَائِكَة، فسألوا امْرَأَته فَقَالَت: سمع الهيعة
وَهُوَ جنب فَلم يتَأَخَّر للاغتسال. الثَّالِث: عِكْرِمَة
مولى ابْن عَبَّاس. الرَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ
البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي
والبقية مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات
النُّبُوَّة عَن أبي نعيم، وَفِي فَضَائِل الْأَنْصَار عَن
أَحْمد بن يَعْقُوب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الشَّمَائِل: عَن يُوسُف بن عِيسَى عَن وَكِيع عَنهُ
مُخْتَصرا.
(6/227)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (متعطفا) أَي:
مرتديا، يُقَال: تعطفت بالعطاف أَي: ارتديت بالرداء،
والتعطف التردي بالرداء، وَسمي الرِّدَاء: عطافا، لوُقُوعه
على عطف الرجل، وهما ناحيتا عُنُقه ومنكب الرجل عطفه،
وَكَذَلِكَ الْعَطف، وَقد اعتطف بِهِ وَتعطف ذكره
الْهَرَوِيّ، وَفِي (الْمُحكم) : الْجمع الْعَطف، وَقيل:
المعاطف: الأردية لَا وَاحِد لَهَا. قَوْله: (ملحفة) ،
بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الْإِزَار الْكَبِير. قَوْله: (على
مَنْكِبه) ، ويروى: مَنْكِبَيْه، بالتثنية. قَوْله:
(بعصابة دسمة) ، وَفِي رِوَايَة: (دسما) ، ذكرهَا فِي
اللبَاس، وَضبط صَاحب (الْمطَالع) : دسمة، بِكَسْر
السِّين. وَقَالَ: الدسماء السَّوْدَاء، وَقيل: لَونه لون
الدسم كالزيت، وَشبهه من غير أَن يخالطها شَيْء من الدسم،
وَقيل: متغيرة اللَّوْن من الطّيب والغالية، وَزعم
الدَّاودِيّ أَنَّهَا على ظَاهرهَا من عرقه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَرَض، وَقَالَ ابْن دُرَيْد:
الدسمة غبرة فِيهَا سَواد، والعصابة: الْعِمَامَة، سميت
عِصَابَة لِأَنَّهَا تعصب الرَّأْس أَي: تربطه، وَمِنْه
الحَدِيث: (أمرنَا أَن نمسح على العصائب) . قَوْله:
(إِلَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء مُتَعَلق بِمَحْذُوف
تَقْدِيره: تقربُوا إِلَيّ. قَوْله: (فتابوا إِلَيْهِ)
أَي: اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، من: ثاب، بالثاء الْمُثَلَّثَة:
يثوب إِذا رَجَعَ وَهُوَ رُجُوع إِلَى الْأَمر بالمبادرة،
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة
للنَّاس} (الْبَقَرَة: 125) . أَي: مرجعا ومجتمعا. قَوْله:
(ثمَّ قَالَ: أما بعد) أَي: بعد الْحَمد لله وَالثنَاء
عَلَيْهِ. قَوْله: (هَذَا الْحَيّ من الْأَنْصَار) ، وهم
الَّذين نصروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أهل
الْمَدِينَة. قَوْله: (يقلون) ، وَفِي رِوَايَة: حَتَّى
يَكُونُوا فِي النَّاس بِمَنْزِلَة الْملح فِي الطَّعَام)
، هُوَ من معجزاته وإخباره عَن المغيبات، فَإِنَّهُم الْآن
فيهم الْقلَّة. قَوْله: (فليقبل من محسنهم) ، أَي:
الْحَسَنَة (ويتجاوز) أَي: يعف، وَذَلِكَ فِي غير
الْحُدُود.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا أَرَادَ الْمُبَالغَة فِي
الموعظة طلع الْمِنْبَر فيتأسى بِهِ. وَفِيه: الْخطْبَة
بِالْوَصِيَّةِ. وَفِيه: فَضِيلَة الْأَنْصَار. وَفِيه:
الْبدَاءَة بِالْحَمْد وَالثنَاء. وَفِيه: الْإِخْبَار
بِالْغَيْبِ، لِأَن الْأَنْصَار قلوا وَكثر النَّاس.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْخلَافَة لَيست فِي الْأَنْصَار،
إِذْ لَو كَانَت فيهم لأوصاهم وَلم يوص بهم. وَفِيه: من
جَوَامِع الْكَلم، لِأَن الْحَال منحصر فِي الضّر أَو
النَّفْع والشخص فِي المحسن والمسيىء.
30 - (بابُ القَعْدَةِ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ
الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقعدَة الكائنة بَين
الْخطْبَتَيْنِ يَوْم الْجُمُعَة، إِنَّمَا لم يبين حكم
هَذِه الْقعدَة، هَل هِيَ وَاجِبَة أم سنة؟ لِأَن الحَدِيث
حِكَايَة حَال وَلَا عُمُوم لَهُ.
928 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ
المُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ
نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ كانَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ
بَيْنَهُمَا. (انْظُر الحَدِيث 920) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْعد بَين
الْخطْبَتَيْنِ.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَرَوَاهُ مُسلم عَن عبيد الله
بن عمر القواريري، وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن
مَسْعُود، وَابْن مَاجَه عَن يحيى بن خلف، وَرَوَاهُ
النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الرَّزَّاق بِلَفْظ:
(كَانَ يخْطب خطبتين بَينهمَا جلْسَة) ، وَفِي لفظ:
(مرَّتَيْنِ) مَكَان: (خطبتين) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
من رِوَايَة عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر،
قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب
خطبتين كَانَ يجلس إِذا صعد الْمِنْبَر حَتَّى يفرغ،
أرَاهُ الْمُؤَذّن، ثمَّ يقوم فيخطب ثمَّ يجلس وَلَا
يتَكَلَّم، ثمَّ يقوم فيخطب) . وَاسْتدلَّ بِهِ على
مَشْرُوعِيَّة الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ، وَلَكِن هَل
هُوَ على سَبِيل الْوُجُوب أَو على سَبِيل النّدب؟ فَذهب
الشَّافِعِي إِلَى أَن ذَلِك على سَبِيل الْوُجُوب، وَذهب
أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى أَنَّهَا سنة، وَلَيْسَت
بواجبة، كجلسة الاسْتِرَاحَة فِي الصَّلَاة عِنْد من
يَقُول باستحبابها. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: ذهب مَالك
والعراقيون وَسَائِر فُقَهَاء الْأَمْصَار إلاّ
الشَّافِعِي: إِلَى أَن الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ سنة
لَا شَيْء على من تَركهَا، وَذهب بعض الشَّافِعِيَّة إِلَى
أَن الْمَقْصُود الْفَصْل، وَلَو بِغَيْر الْجُلُوس،
حَكَاهُ صَاحب (الْفُرُوع) . وَقيل: الجلسة بِعَينهَا
لَيست مُعْتَبرَة، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر حُصُول
الْفَصْل، سَوَاء حصل بجلسة أَو بسكتة أَو بِكَلَام من غير
مَا هُوَ فِيهِ. وَقَالَ القَاضِي ابْن كج: إِن هَذَا
الْوَجْه غلط، وَقَالَ ابْن قدامَة: هِيَ مُسْتَحبَّة
لِلِاتِّبَاعِ وَلَيْسَت بواجبة فِي قَول أَكثر أهل
الْعلم، لِأَنَّهَا جلْسَة لَيْسَ فِيهَا ذكر مَشْرُوع،
فَلم تكن وَاجِبَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَصرح إِمَام
الْحَرَمَيْنِ بِأَن الطُّمَأْنِينَة بَينهمَا وَاجِبَة،
وَهُوَ خَفِيف جدا قدر قِرَاءَة سُورَة الْإِخْلَاص
تَقْرِيبًا. وَفِي وَجه شَاذ: يَكْفِي السُّكُوت فِي حق
الْقَائِم، لِأَنَّهُ فصل. وَذكر ابْن التِّين: أَن
مقدارها كالجلسة بَين السَّجْدَتَيْنِ، وَعَزاهُ لِابْنِ
الْقَاسِم،
(6/228)
وَجزم الرَّافِعِيّ وَغَيره أَن يكون بِقدر
سُورَة الْإِخْلَاص، وَحكي وَجه بِوُجُوب هَذَا
الْمِقْدَار، حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن رِوَايَة
الرَّوْيَانِيّ، وَلَفظ الرَّوْيَانِيّ: وَلَا يجوز أقل من
ذَلِك، نَص عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث الْبَاب
دَال على السّنيَّة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ يَفْعَله، وَلم يقل: لَا يجْزِيه غَيره، لِأَن
الْبيَاض فرض عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يقل
بِوُجُوب الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ غير الشَّافِعِي،
قيل: حكى القَاضِي عِيَاض عَن مَالك رِوَايَة كمذهب
الشَّافِعِي؟ قلت: لَيست هَذِه الرِّوَايَة عَنهُ
صَحِيحَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي الحَدِيث أَن
خطْبَة الْجُمُعَة خطبتان وَفِيه الْجُلُوس بَينهمَا
لاستراحة الْخَطِيب وَنَحْوهَا، وهما واجبتان لقَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي) قلت: هَذَا أصل لَا يتَنَاوَل الْخطْبَة
لِأَنَّهَا لَيست بِصَلَاة حَقِيقَة، وَقَالَ أَحْمد:
رُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق أَنه قَالَ: رَأَيْت عليا يخْطب
على الْمِنْبَر فَلم يجلس ختى فرغ، وَفِي (شرح
التِّرْمِذِيّ) : وَفِيه اشْتِرَاط خطبتين لصِحَّة
الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَته
الْمَشْهُورَة عَنهُ، وَعند الْجُمْهُور: يَكْتَفِي
بِخطْبَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة
وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وَأبي ثَوْر
وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
31 - (بابُ الاسْتِمَاعِ إِلَى الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاسْتِمَاع، أَي: الإصغاء
إِلَى الْخطْبَة، والإصغاء من: صغى يصغو ويصغي صغوا، أَي:
مَال، وأصغيت إِلَى فلَان: إِذا أملت بسمعك نَحوه، وَقَالَ
الْكرْمَانِي، رَحمَه الله: الِاسْتِمَاع الإصغاء للسماع،
والتوجه لَهُ وَالْقَصْد إِلَيْهِ، وكل مستمع سامع دون
الْعَكْس. قلت: الِاسْتِمَاع من بَاب الافتعال، وَفِيه
تكلّف واعتمال، بِخِلَاف السماع.
929 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عنِ
الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي عَبْدِ الله الأَغَرِّ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةَ وقَفَتِ المَلاَئِكَةُ عَلى
بابِ المَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فالأوَّلَ ومَثَلُ
المهَجَّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ
كالَّذِي يُهْدِي بَقَرةً ثُمَّ كَبْشا ثُمَّ دَجاجَةً
ثُمَّ بَيْضَةً فَإِذا خرجَ الإمامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ
ويَستَمِعُونَ الذِّكْرَ. (الحَدِيث 929 طرفه فِي: 3211) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويستمعون الذّكر) أَي:
الْخطْبَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: آدم بن أبي أياس.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع:
أَبُو عبد الله، واسْمه سلمَان الْجُهَنِيّ مَوْلَاهُم،
مَعْدُود فِي أهل الْمَدِينَة، وَأَصله من أصفهان، ولقبه
الْأَغَر، بِفَتْح الْهمزَة والغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد
الرَّاء. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أحد الروَاة
مَذْكُور بكنيته ولقبه وَالْآخر بنسبته إِلَى جده وَالْآخر
بنسبته إِلَى قبيلته. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من
أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه خراساني سكن عسقلان، والبقية
مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه
مُسلم فِي الْجُمُعَة عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح
وحرملة بن يحيى وَعَمْرو بن سَواد. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الصَّلَاة عَن نصر بن عَليّ وَفِي الْمَلَائِكَة عَن
أَحْمد بن عَمْرو الْحَارِث بن مِسْكين وَعَمْرو بن سَواد
وَعَن سُوَيْد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد
الحكم، وَأخرج أَيْضا فيهمَا عَن مُحَمَّد بن خَالِد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (المهجر) أَي: المبكر إِلَى
الْمَسْجِد. قَوْله: (يهدي: أَي: يقرب) .
وَقد اسْتَوْفَيْنَا مَعْنَاهُ فِي: بَاب فضل الْجُمُعَة،
لِأَنَّهُ روى عَن أبي هُرَيْرَة قَرِيبا من هَذَا
الحَدِيث عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن سمي عَن
أبي صَالح السمان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْإِنْصَات إِلَى
الْخطْبَة وَهُوَ مَطْلُوب بالِاتِّفَاقِ. وَفِي
(التَّوْضِيح) : والجديد الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي
أَنه لَا يحرم الْكَلَام وَيسن الْإِنْصَات، وَبِه قَالَ
عُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ
وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَدَاوُد، وَالْقَدِيم أَنه
يحرم، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة
وَأحمد، رَحِمهم الله. وَقَالَ ابْن بطال: اسْتِمَاع
الْخطْبَة وَاجِب وجوب سنة عِنْد أَكثر الْعلمَاء،
وَمِنْهُم من جعله فَرِيضَة، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد، أَنه
قَالَ: لَا يجب الْإِنْصَات لِلْقُرْآنِ إِلَّا فِي
موضِعين: فِي الصَّلَاة
(6/229)
وَالْخطْبَة. ثمَّ نقل عَن أَكثر الْعلمَاء
أَن الْإِنْصَات وَاجِب على من سَمعهَا وَمن لم يسْمعهَا،
وَأَنه قَول مَالك، وَقد قَالَ عُثْمَان: للمنصت الَّذِي
لَا يسمع من الْأجر مثل مَا للمنصت الَّذِي يسمع. وَكَانَ
عُرْوَة لَا يرى بَأْسا بالْكلَام إِذا لم يسمع الْخطْبَة.
وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس أَن يذكر الله وَيقْرَأ من لم
يسمع الْخطْبَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف عَلمته
بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي وجوب الْإِنْصَات لَهَا على
من سَمعهَا.
وَاخْتلف فِيمَن لم يسْمعهَا. قَالَ: وَجَاء فِي هَذَا
الْمَعْنى خلاف عَن بعض التَّابِعين، فَروِيَ عَن
الشّعبِيّ وَسَعِيد ابْن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَابْن
بردة: أَنهم كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ وَالْإِمَام يخْطب
إِلَّا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْخطْبَة خَاصَّة،
لقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا}
(الْأَعْرَاف: 204) . وفعلهم مَرْدُود عِنْد أهل الْعلم،
وَأحسن أَحْوَالهم أَنهم لم يبلغهم الحَدِيث فِي ذَلِك،
وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قلت لصاحبك
أنصت. .) الحَدِيث، لِأَنَّهُ حَدِيث انْفَرد بِهِ أهل
الْمَدِينَة، وَلَا علم لمتقدمي أهل الْعرَاق بِهِ،
وَقَالَ ابْن قدامَة: وَكَانَ سعيد بن جُبَير
وَإِبْرَاهِيم بن مهَاجر وَأَبُو بردة وَالنَّخَعِيّ
وَالشعْبِيّ يَتَكَلَّمُونَ وَالْحجاج يخْطب. انْتهى.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا اشْتغل الإِمَام بِالْخطْبَةِ
يَنْبَغِي للمستمع أَن يجْتَنب مَا يجتبه فِي الصَّلَاة
لقَوْله عز وَجل: {فَاسْتَمعُوا إِلَيْهِ وأنصتوا}
(الْأَعْرَاف: 204) . وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِذا قلت لصاحبك أنصت. .) الحَدِيث، فَإِذا كَانَ كَذَلِك
يكره لَهُ رد السَّلَام وتشميت الْعَاطِس إلاّ فِي قَول
جَدِيد للشَّافِعِيّ: إِنَّه يرد ويشمت، وَقَالَ شيخ
الْإِسْلَام: وَالأَصَح أَنه يشمت، وَفِي (المجتبي) : قيل:
وجوب الِاسْتِمَاع مَخْصُوص بِزَمن الْوَحْي، وَقيل: فِي
الْخطْبَة الأولى دون الثَّانِيَة لما فِيهَا من مدح
الظلمَة، وَعَن أبي حنيفَة: إِذا سلم عَلَيْهِ يردهُ
بِقَلْبِه، وَعَن أبي يُوسُف: يرد السَّلَام ويشمت
الْعَاطِس فِيهَا، وَعَن مُحَمَّد: يرد ويشمت بعد
الْخطْبَة وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي قلبه، وَاخْتلف الْمُتَأَخّرُونَ فِيمَن كَانَ بَعيدا
لَا يسمع الْخطْبَة، فَقَالَ مُحَمَّد بن سَلمَة:
الْمُخْتَار السُّكُوت وَهُوَ الْأَفْضَل، وَبِه قَالَ بعض
أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقَالَ نصر بن يحيى: يسبخ وَيقْرَأ
الْقُرْآن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَأَجْمعُوا أَنه لَا
يتَكَلَّم. وَقيل: الِاشْتِغَال بِالذكر وَقِرَاءَة
الْقُرْآن أفضل من السُّكُوت. وَأما دراسة الْفِقْه
وَالنَّظَر فِي كتب الْفِقْه وكتابته، فَقيل: يكره، وَقيل:
لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام: الِاسْتِمَاع
إِلَى خطْبَة النِّكَاح والختم وَسَائِر الْخطب وَاجِب،
وَفِي (الْكَامِل) : وَيَقْضِي الْفجْر إِذا ذكره فِي
الْخطْبَة وَلَو تغذى بعد الْخطْبَة أَو جَامع فاغتسل
يُعِيد الْخطْبَة، وَفِي الْوضُوء فِي بَيته لَا يُعِيد.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي وَقت الْإِنْصَات، فَقَالَ
أَبُو حنيفَة: خُرُوج الإِمَام يقطع الْكَلَام وَالصَّلَاة
جَمِيعًا، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا خرج
الإِمَام طَوَوْا صُحُفهمْ ويستمعون الذّكر. .) وَقَالَت
طَائِفَة: لَا يجب الْإِنْصَات إلاّ عِنْد ابْتِدَاء
الْخطْبَة، وَلَا بَأْس بالْكلَام قبلهَا، وَهُوَ قَول
مَالك وَالثَّوْري وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ بَعضهم:
وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: يحرم الْكَلَام من ابْتِدَاء
خُرُوج الإِمَام وَورد فِيهِ حَدِيث ضَعِيف. قلت: حَدِيث
الْبَاب هُوَ حجَّة للحنفية وَحجَّة عَلَيْهِم
بِالتَّأَمُّلِ يدرى.
32 - (بَاب إذَا رأى الإمامُ رَجُلاً جاءَ وَهْوَ يَخْطُبُ
أمَرَهُ أنْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا رأى الإِمَام. . إِلَى
آخِره. قَوْله: (جَاءَ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا
صفة: لرجلاً. قَوْله: (وَهُوَ يخْطب) جملَة إسمية وَقعت
حَالا عَن الإِمَام. قَوْله: (أمره) جَوَاب: إِذا،
وَإِنَّمَا يَأْمُرهُ إِذا كَانَ لم يصل الرَّكْعَتَيْنِ
قبل أَن يرَاهُ. قَوْله: (أَن يُصَلِّي) أَي: بِأَن
يُصَلِّي، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أمره
بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ.
930 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ
بنُ زَيْدٍ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ
الله قَالَ جاءَ رَجُلٌ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَخْطُبُ الناسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فقالَ أصَلَّيْتَ يَا
فُلاَنُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فارْكعْ رَكْعَتَيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان هُوَ مُحَمَّد بن الْفضل
السدُوسِي.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِي، وَعَن أبي الرّبيع وقتيبة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن
قُتَيْبَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ رجل) ، هَذَا الرجل هُوَ:
سليك، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
(6/230)
كَاف: ابْن هدبة وَقيل: ابْن عمر،
والغطفاني، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والطاء
الْمُهْملَة وَالْفَاء: من غطفان بن سعيد بن قيس غيلَان،
وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي هَذِه الْقِصَّة من
رِوَايَة اللَّيْث بن سعد عَن أبي الزبير عَن جَابر
وَلَفظه: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي يَوْم الْجُمُعَة
وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم على
الْمِنْبَر، لَا فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي فَقَالَ
لَهُ: أصليت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: قُم
فَارْكَعْهُمَا) . وَمن طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي
سُفْيَان عَن جَابر نَحوه، وَفِيه: (فَقَالَ لَهُ: يَا
سليك قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا) . هَكَذَا
رَوَاهُ حفاظ أَصْحَاب الْأَعْمَش عَنهُ. وروى أَبُو
دَاوُد من رِوَايَة حَفْص ابْن غياث عَن الْأَعْمَش عَن
أبي سُفْيَان عَن جَابر وَعَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة
قَالَا: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ لَهُ: أصليت؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: صل رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا) . وروى النَّسَائِيّ
قَالَ: أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا
اللَّيْث عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: (جَاءَ سليك
الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَاعد على الْمِنْبَر، فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي
فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أركعت
رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) .
وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار سمع جَابِرا،
وَأَبُو الزبير سمع جَابِرا، قَالَ: (دخل سليك
الْغَطَفَانِي الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يخْطب، قَالَ: أصليت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فصل
رَكْعَتَيْنِ) . وَأما عَمْرو فَلم يذكر سليكا. وروى
أَيْضا عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَعَن أبي
سُفْيَان (عَن جَابر قَالَ: جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي. .)
الحَدِيث، وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق حَفْص بن غياث عَن
الْأَعْمَش، قَالَ: سَمِعت أَبَا صَالح يحدث بِحَدِيث سليك
الْغَطَفَانِي ثمَّ سَمِعت أَبَا سُفْيَان يحدث بِهِ عَن
جَابر، فَظهر من هَذِه الرِّوَايَات أَن هَذِه الْقِصَّة
لسليك، وَأَن من روى بِلَفْظ: رجل، غير مُسَمّى
فَالْمُرَاد مِنْهُ: سليك، فَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
بِلَفْظ: رجل، كَمَا مر، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي
دَاوُد كَرِوَايَة البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة للنسائي كَذَلِك،
وَكَذَلِكَ لِابْنِ مَاجَه فِي رِوَايَة. وَجَاء أَيْضا
فِي هَذَا الْبَاب من غير جَابر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي صَالح: (عَن أبي ذَر أَنه
أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يخْطب
فَقَالَ لأبي ذَر: صليت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا. .)
الحَدِيث، وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة. وشذ بقوله:
(وَهُوَ يخْطب) ، فَإِن الحَدِيث مَشْهُور: (عَن أبي ذَر
أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
جَالس فِي الْمَسْجِد. .) أخرجه ابْن حبَان وَغَيره، وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة مَنْصُور بن
الْأسود عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان (عَن جَابر،
قَالَ: دخل النُّعْمَان بن قوقل وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر يخْطب يَوْم الْجُمُعَة،
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صل
رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ من
حَدِيث مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن قَتَادَة (عَن أنس: دخل
رجل من قيس الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يخْطب، فَقَالَ: قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ، وَأمْسك
عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) فَإِن قلت: كَيفَ
وَجه هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: كَون معنى هَذِه
الْأَحَادِيث وَاحِدًا لَا يمْنَع تعدد الْقَضِيَّة، وَأما
حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِنَّهُ لَا
يُخَالف كَون الدَّاخِل فِيهِ من قيس أَن يكون سليكا،
فَإِن سليكا غطفاني، وغَطَفَان من قيس. قَوْله: (صليت؟)
أَي: أصليت؟ وهمزة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة، ويروى
بِإِظْهَار الْهمزَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذِه
الْأَحَادِيث كلهَا صَرِيحَة فِي الدّلَالَة لمَذْهَب
الشَّافِعِي، وَأحمد وَإِسْحَاق وفقهاء الْمُحدثين أَنه
إِذا دخل الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب
يسْتَحبّ لَهُ أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّة
الْمَسْجِد، وَيكرهُ الْجُلُوس قبل أَن يُصَلِّيهمَا.
وَأَنه يسْتَحبّ أَن يتجوز فيهمَا ليسمع الْخطْبَة. وَحكي
هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره
من الْمُتَقَدِّمين. وَقَالَ القَاضِي: قَالَ مَالك
وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَجُمْهُور السّلف
من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ: لَا يُصَلِّيهمَا، وَهُوَ
مَرْوِيّ عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وحجتهم: الْأَمر بالإنصات للْإِمَام، وتأولوا
هَذِه الْأَحَادِيث أَنه كَانَ عُريَانا فَأمره رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقيامِ ليراه النَّاس
ويتصدقوا عَلَيْهِ، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل يردهُ صَرِيح
قَوْله: (إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام
يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا) وَهَذَا نَص
لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما
يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ صَحِيحا فيخالفه. قلت: أَصْحَابنَا
لم يأولوا الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِهَذَا الَّذِي
ذكره حَتَّى يشنع عَلَيْهِم هَذَا التشنيع، بل أجابوا
بأجوبة غير هَذَا. الأول: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أنصت لَهُ حَتَّى فرغ من صلَاته، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من
حَدِيث عبيد بن مُحَمَّد الْعَبْدي: حَدثنَا مُعْتَمر عَن
أَبِيه عَن قَتَادَة عَن أنس، قَالَ: دخل رجل الْمَسْجِد
وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ
لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(6/231)
قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ، وَأمْسك عَن
الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) فَإِن قلت: قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: أسْندهُ عبيد بن مُحَمَّد وَوهم فِيهِ.
قلت: ثمَّ أخرجه (عَن أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا مُعْتَمر
عَن أَبِيه قَالَ: جَاءَ رجل وَالنَّبِيّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: يَا فلَان أصليت؟ قَالَ:
لَا. قَالَ: قُم فصل، ثمَّ انتظره حَتَّى صلى) . قَالَ:
وَهَذَا الْمُرْسل هُوَ الصَّوَاب. قلت: الْمُرْسل حجَّة
عندنَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة:
حَدثنَا هشيم، قَالَ: أخبرنَا أَبُو معشر (عَن مُحَمَّد بن
قيس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أمره
أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أمسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ
من ركعتيه، ثمَّ عَاد إِلَى خطبَته) .
الْجَواب الثَّانِي: أَن ذَلِك كَانَ قبل شُرُوعه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْخطْبَة. وَقد بوب
النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) على حَدِيث سليك،
قَالَ: بَاب الصَّلَاة قبل الْخطْبَة. ثمَّ أخرج عَن أبي
الزبير عَن جَابر قَالَ: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي
وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على
الْمِنْبَر، فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي. فَقَالَ لَهُ،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أركعت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) .
الثَّالِث: أَن ذَلِك كَانَ مِنْهُ قبل أَن ينْسَخ
الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ لما نسخ فِي الصَّلَاة نسخ
أَيْضا فِي الْخطْبَة لِأَنَّهَا شطر صَلَاة الْجُمُعَة
أَو شَرطهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَقَد تَوَاتَرَتْ
الرِّوَايَات عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِأَن من قَالَ لصَاحبه: أنصت وَالْإِمَام يخْطب يَوْم
الْجُمُعَة فقد لَغَا، فَإِذا كَانَ قَول الرجل لصَاحبه
وَالْإِمَام يخْطب: أنصت، لَغوا، كَانَ قَول الإِمَام
للرجل: قُم فصل لَغوا أَيْضا، فَثَبت بذلك أَن الْوَقْت
الَّذِي كَانَ فِيهِ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، الْأَمر لسليك بِمَا أمره بِهِ إِنَّمَا كَانَ قبل
النَّهْي، وَكَانَ الحكم فِيهِ فِي ذَلِك بِخِلَاف الحكم
فِي الْوَقْت الَّذِي جعل مثل ذَلِك لَغوا، وَقَالَ ابْن
شهَاب: خُرُوج الإِمَام يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع
الْكَلَام، وَقَالَ ثَعْلَبَة بن أبي مَالك: كَانَ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا خرج للخطبة أنصتنا.
وَقَالَ عِيَاض: كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان
يمْنَعُونَ من الصَّلَاة عِنْد الْخطْبَة.
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الصَّلَاة حِين ذَاك حرَام من
ثَلَاثَة أوجه: الأول: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قرىء
الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} (الْأَعْرَاف: 204) . فَكيف
يتْرك الْفَرْض الَّذِي شرع الإِمَام فِيهِ إِذا دخل
عَلَيْهِ فِيهِ ويشتغل بِغَيْر فرض؟ الثَّانِي: صَحَّ
عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (إِذا قلت
لصاحبك أنصت فقد لغوت) . فَإِذا كَانَ الْأَمر
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الاصلان المفروضان
الركنان فِي الْمَسْأَلَة يحرمان فِي حَال الْخطْبَة،
فالنفل أولى أَن يحرم. الثَّالِث: لَو دخل وَالْإِمَام فِي
الصَّلَاة وَلم يرْكَع، وَالْخطْبَة صَلَاة، إِذْ يحرم
فِيهَا من الْكَلَام وَالْعَمَل مَا يحرم فِي الصَّلَاة.
وَأما حَدِيث سليك فَلَا يعْتَرض على هَذِه الْأُصُول من
أَرْبَعَة أوجه: الأول: هُوَ خبر وَاحِد. الثَّانِي:
يحْتَمل أَنه كَانَ فِي وَقت كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي
الصَّلَاة، لأَنا لَا نعلم تَارِيخه، فَكَانَ مُبَاحا فِي
الْخطْبَة، فَلَمَّا حرم فِي الْخطْبَة الْأَمر
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي هُوَ آكِد
فَرضِيَّة من الِاسْتِمَاع، فَأولى أَن يحرم مَا لَيْسَ
بِفَرْض. الثَّالِث: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، كلم سليكا وَقَالَ لَهُ: قُم فصل، فَلَمَّا كَلمه
وَأمره سقط عَنهُ فرض الِاسْتِمَاع، إِذْ لم يكن هُنَاكَ
قَول فِي ذَلِك الْوَقْت إلاّ مخاطبته لَهُ وسؤاله وَأمره.
الرَّابِع: أَن سليكا كَانَ ذَا بذاذة، فَأَرَادَ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يشهره ليرى حَاله.
وَعند ابْن بزيزة: كَانَ سليك عُريَانا فَأَرَادَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرَاهُ النَّاس. وَقد قيل:
إِن ترك الرُّكُوع حالتئذ سنة مَاضِيَة وَعمل مستفيض فِي
زمن الْخُلَفَاء، وعولوا أَيْضا على حَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: (لَا
تصلوا وَالْإِمَام يخْطب) . وَاسْتَدَلُّوا بإنكار عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عُثْمَان فِي ترك الْغسْل
وَلم ينْقل أَنه أمره بالركعتين، وَلَا نقل أَنه صلاهما.
وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم لما يَقُول الشَّافِعِي،
فَحَدِيث سليك لَيْسَ فِيهِ دَلِيل لَهُ، إِذْ مذْهبه أَن
الرَّكْعَتَيْنِ تسقطان بِالْجُلُوسِ. وَفِي (اللّبَاب) :
وروى عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد الْحذاء أَن أَبَا
قلَابَة جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب،
فَجَلَسَ وَلم يصل. وَعَن عقبَة بن عَامر. قَالَ:
(الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة) . وَفِي
(كتاب الْأَسْرَار) : لنا مَا روى الشّعبِيّ عَن ابْن عمر
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا
صعد الإِمَام الْمِنْبَر فَلَا صَلَاة، وَلَا كَلَام
حَتَّى يفرغ) . وَالصَّحِيح من الرِّوَايَة: (أذا جَاءَ
أحدكُم وَالْإِمَام على الْمِنْبَر فَلَا صَلَاة وَلَا
كَلَام) . وَقد تصدى بَعضهم لرد مَا ذكر من الِاحْتِجَاج
فِي منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة،
فَقَالَ جَمِيع مَا ذَكرُوهُ مَرْدُود، ثمَّ قَالَ: لِأَن
الأَصْل عدم الخصوصية. قُلْنَا: نعم، إِذا لم تكن قرينَة،
وَهنا قرينَة على الخصوصية، وَذَلِكَ فِي حَدِيث أبي سعيد
الْخُدْرِيّ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ يَقُول:
(جَاءَ رجل يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب بهيئة بذة، فَقَالَ لَهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أصليت؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
(6/232)
صل رَكْعَتَيْنِ، وحث النَّاس على
الصَّدَقَة، قَالَ: فَألْقوا ثيابًا فَأعْطَاهُ مِنْهَا
ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الثَّانِيَة جَاءَ
وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَحَث
النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ. فَألْقى أحد ثوبيه،
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جَاءَ هَذَا
يَوْم الْجُمُعَة بهيئة بذة فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ
فَألْقوا ثيابًا، فَأمرت لَهُ مِنْهَا بثوبين، ثمَّ جَاءَ
الْآن فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقى أَحدهمَا،
فانتهره وَقَالَ: خُذ ثَوْبك) . انْتهى. وَكَانَ مُرَاده
بأَمْره إِيَّاه بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ أَن يرَاهُ النَّاس
ليتصدقوا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي ثوب خلق. وَقد
قيل: إِنَّه كَانَ عُريَانا، كَمَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَو
كَانَ مُرَاده إِقَامَة السّنة بِهَذِهِ الصَّلَاة لما
قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك: أنصت،
وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت) . وَهُوَ حَدِيث مجمع على
صِحَّته من غير خلاف لأحد فِيهِ، حَتَّى كَاد أَن يكون
متواترا، فَإِذا مَنعه من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي
هُوَ فرض فِي هَذِه الْحَالة فَمَنعه من إِقَامَة السّنة،
أَو الِاسْتِحْبَاب بِالطَّرِيقِ الأولى، فَحِينَئِذٍ قَول
هَذَا الْقَائِل، فَدلَّ على أَن قصَّة التَّصْدِيق
عَلَيْهِ جُزْء عِلّة لَا عِلّة كَامِلَة غير موجه،
لِأَنَّهُ عِلّة كَامِلَة. وَقَالَ أَيْضا: وَأما إِطْلَاق
من أطلق أَن التَّحِيَّة تفوت بِالْجُلُوسِ، فقد حكى
النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الْمُحَقِّقين أَن ذَلِك
فِي حق الْعَامِد الْعَالم أما الْجَاهِل أَو النَّاسِي
فَلَا. قلت: هَذَا حكم بِالِاحْتِمَالِ، وَالِاحْتِمَال
إِذا كَانَ غير ناشىء عَن دَلِيل فَهُوَ لَغْو لَا يعْتد
بِهِ، وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْلهم: (إِنَّه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما خَاطب سليكا سكت عَن خطبَته حَتَّى فرغ
سليك من صلَاته) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِمَا حَاصله
أَنه مُرْسل، والمرسل حجَّة عِنْدهم. وَقَالَ أَيْضا:
فِيمَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ، من أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما تشاغل بمخاطبة سليك سقط فرض
الِاسْتِمَاع عَنهُ، إِذْ لم يكن مِنْهُ حِينَئِذٍ خطْبَة
لأجل تِلْكَ المخاطبة، وَادّعى أَنه أقوى الْأَجْوِبَة.
قَالَ: هُوَ من أَضْعَف الْأَجْوِبَة، لِأَن المخاطبة لما
انْقَضتْ رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خطْبَة
وتشاغل سليك بامتثال مَا أَمر بِهِ من الصَّلَاة. فصح أَنه
صلى فِي حَالَة الْخطْبَة. قلت: يرد مَا قَالَه من قَوْله
هَذَا مَا فِي حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ الَّذِي ذكرنَا عَنهُ أَنه قَالَ:
وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، وَفِيه: (وَأمْسك أَي النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من
صلَاته) يَعْنِي: سليك، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: فصح
أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه يصحح
الْكَلَام السَّاقِط؟ وَقَالَ أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه
الْقَضِيَّة قبل شُرُوعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
الْخطْبَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة اللَّيْث
عِنْد مُسلم: (وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد
على الْمِنْبَر) . وَأجِيب: بِأَن الْقعُود على الْمِنْبَر
لَا يخْتَص بِالِابْتِدَاءِ، بل يحْتَمل أَن يكون بَين
الْخطْبَتَيْنِ أَيْضا، قلت: الأَصْل ابْتِدَاء قعوده بَين
الْخطْبَتَيْنِ، مُحْتَمل فَلَا يحكم بِهِ على الأَصْل على
أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه بِأَن يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ، وسؤاله إِيَّاه هَل صليت؟ وَأمره للنَّاس
بِالصَّدَقَةِ، يضيق عَن الْقعُود بَين الْخطْبَتَيْنِ،
لِأَن زمن هَذَا الْقعُود لَا يطول. وَقَالَ هَذَا
الْقَائِل أَيْضا: وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون الرَّاوِي
تجوز فِي قَوْله: (قَاعد) . قلت: هَذَا ترويج لكَلَامه،
وَنسبَة الرَّاوِي إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز مَعَ عدم
الْحَاجة والضرورة. وَقَالَ أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه
الْقَضِيَّة قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ
رده بقوله: إِن سليكا مُتَأَخّر الْإِسْلَام جدا،
وَتَحْرِيم الْكَلَام مُتَقَدم حجدا، فَكيف يدعى نسخ
الْمُتَأَخر بالمتقدم مَعَ ان النّسخ لَا يثبت
بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: لم يقل أحد إِن قَضِيَّة سليك
كَانَت قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا
قَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن قَضِيَّة سليك كَانَت فِي
حَالَة إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة قبل أَن ينْهَى
عَنْهَا، أَلا يرى أَن فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَألْقى النَّاس ثِيَابهمْ،
وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَن نزع الرجل ثَوْبه وَالْإِمَام
يخْطب مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مس الْحَصَى، وَقَول الرجل
لصَاحبه أنصت، كل ذَلِك مَكْرُوه، فَدلَّ ذَلِك على أَن
مَا أَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سليكا، وَمَا أَمر
بِهِ النَّاس بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ فِي حَال
إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة. وَلما أَمر صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالإنصات عِنْد الْخطْبَة وَجعل حكم
الْخطْبَة كَحكم الصَّلَاة، وَجعل الْكَلَام فِيهَا لَغوا
كَمَا كَانَ، جعله لَغوا فِي الصَّلَاة. ثَبت بذلك أَن
الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، فَهَذَا وَجه قَول الْقَائِل
بالنسخ، ومبنى كَلَامه هَذَا على هَذَا الْوَجْه لَا على
تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة. وَقَالَ هَذَا
الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن منع الصَّلَاة
فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يَسْتَوِي فِيهِ من كَانَ
دَاخل الْمَسْجِد أَو خَارجه، وَقد اتَّفقُوا على أَن من
كَانَ دَاخل الْمَسْجِد يمْتَنع عَلَيْهِ التَّنَفُّل حَال
الْخطْبَة، فَلْيَكُن الْآتِي كَذَلِك، قَالَه
الطَّحَاوِيّ، وَتعقب بِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة
النَّص، فَهُوَ فَاسد. قلت: لم يبنِ الطَّحَاوِيّ كَلَامه
ابْتِدَاء على الْقيَاس حَتَّى يكون مَا قَالَه قِيَاسا
فِي مُقَابلَة النَّص، وَإِنَّمَا مدعي الْفساد لم يحرر
مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، فَادّعى الْفساد، فَوَقع فِي
الْفساد. وتحرير كَلَام الطَّحَاوِيّ أَنه روى أَحَادِيث
عَن سُلَيْمَان وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي هُرَيْرَة
وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأَوْس بن أَوْس رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، كلهَا تَأمر بالإنصات إِذا خطب
الإِمَام، فتدل كلهَا أَن مَوضِع كَلَام الإِمَام لَيْسَ
بِموضع للصَّلَاة، فبالنظر إِلَى ذَلِك يَسْتَوِي
الدَّاخِل والآتي
(6/233)
وَمَعَ هَذَا الَّذِي قَالَه الطَّحَاوِيّ
وَافقه عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من
الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل:
اتَّفقُوا على أَن الدَّاخِل وَالْإِمَام فِي الصَّلَاة
تسْقط عَنهُ التَّحِيَّة. وَلَا شكّ أَن الْخطْبَة صَلَاة،
فَتسقط عَنهُ فِيهَا أَيْضا، وَتعقب بِأَن الْخطْبَة لَيست
صَلَاة من كل وَجه، والداخل فِي حَال الْخطْبَة مَأْمُور
بشغل الْبقْعَة بِالصَّلَاةِ قبل جُلُوسه، بِخِلَاف
الدَّاخِل فِي حَال الصَّلَاة، فَإِن إِتْيَانه
بِالصَّلَاةِ الَّتِي أُقِيمَت تحصل الْمَقْصُود. قلت:
هَذَا الْقَائِل لم يدع أَن الْخطْبَة صَلَاة من كل وَجه
حَتَّى يرد عَلَيْهِ مَا ذكره من التعقيب، بل قَالَ: هِيَ
صَلَاة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة قصرت لمكانها، فَمن حَيْثُ
هَذَا الْوَجْه يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي، وَيُؤَيّد
هَذَا حَدِيث أبي الزَّاهِرِيَّة: (عَن عبد الله بن بشر،
قَالَ: كنت جَالِسا إِلَى جنبه يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ:
جَاءَ رجل يتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ
لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فقد آذيت
وآنيت) . أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره
بِالْجُلُوسِ وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ؟ فَهَذَا خلاف
حَدِيث سليك فَافْهَم. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا:
قيل: اتَّفقُوا على سُقُوط التَّحِيَّة عَن الإِمَام مَعَ
كَونه يجلس على الْمِنْبَر، مَعَ أَن لَهُ ابْتِدَاء
الْكَلَام فِي الْخطْبَة دون الْمَأْمُوم، فَيكون ترك
الْمَأْمُوم التَّحِيَّة بطرِيق الأولى، وَتعقب بِأَنَّهُ
أَيْضا قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَهُوَ فَاسد؟ قلت:
إِنَّمَا يكون الْقيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَاسِدا إِذا
كَانَ ذَلِك النَّص سالما عَن الْمعَارض، وَلم يسلم سليك
عَن أُمُور ذَكرنَاهَا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، منع الصَّلَاة للداخل وَالْإِمَام يخْطب. أما
الصَّحَابَة فهم: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وثعلبة ابْن
أبي مَالك الْقرظِيّ وَعبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة
الْمَكِّيّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس.
أما أثر عقبَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ أَنه قَالَ:
الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة. فَإِن
قلت: فِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وَفِيه مقَال!
قلت: وَثَّقَهُ أَحْمد وَكفى بِهِ ذَلِك.
وَأما أثر ثَعْلَبَة بن مَالك فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ
أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن جُلُوس الإِمَام على
الْمِنْبَر يقطع الصَّلَاة، وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد
عَن يزِيد بن عبد الله عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك
الْقرظِيّ قَالَ: (أدْركْت عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، فَكَانَ الإِمَام إِذا خرج تركنَا
الصَّلَاة، فَإِذا تكلم تركنَا الْكَلَام) .
وَأما أثر عبد الله بن صَفْوَان فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ
أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام بن عُرْوَة قَالَ:
(رَأَيْت عبد الله بن صَفْوَان ابْن أُميَّة دخل
الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة، وَعبد الله بن الزبير يخْطب
على الْمِنْبَر. وَعَلِيهِ ازار ورداء وَنَعْلَان وَهُوَ
معتم بعمامة، فاستلم الرُّكْن ثمَّ قَالَ: السَّلَام
عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله
وَبَرَكَاته، ثمَّ جلس وَلم يرْكَع.
وَأما أثر عبد الله بن عمر وَعبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا
(عَن عَطاء قَالَ: كَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يكرهان
الْكَلَام وَالصَّلَاة إِذا خرج الإِمَام يَوْم
الْجُمُعَة) .
وَأما التابعون فهم: الشّعبِيّ وَالزهْرِيّ وعلقمة وَأَبُو
قلَابَة وَمُجاهد.
فأثر الشّعبِيّ عَامر بن شرَاحِيل أخرجه الطَّحَاوِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ عَن شُرَيْح أَنه: إِذا جَاءَ
وَقد خرج الإِمَام لم يصل. وَأثر الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن
مُسلم أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ
فِي: الرجل يدْخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام
يخْطب، قَالَ: يجلس وَلَا يسبح.
وَأثر عَلْقَمَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد
صَحِيح عَن القَاضِي بكار عَن أبي عَاصِم النَّبِيل
الضَّحَّاك بن مخلد عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر عَن أبراهيم قَالَ لعلقمة: أَتكَلّم
وَالْإِمَام يخْطب وَقد خرج الإِمَام؟ قَالَ: لَا ...
إِلَى آخِره.
وَأثر أبي قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي أخرجه
الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ أَنه: جَاءَ
يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَجَلَسَ وَلم يصل.
وَأثر مُجَاهِد أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد
صَحِيح عَنهُ: كره أَن يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا.
فَهَؤُلَاءِ السادات من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
الْكِبَار لم يعْمل أحد مِنْهُم بِمَا فِي حَدِيث سليك،
وَلَو علمُوا أَنه يعْمل بِهِ لما تَرَكُوهُ، فَحِينَئِذٍ
بَطل اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض.
فَإِن قلت: روى الْجَمَاعَة من حَدِيث أبي قَتَادَة
السّلمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن
يجلس) ، فَهَذَا عَام يتَنَاوَل كل دَاخل فِي الْمَسْجِد،
سَوَاء كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أَو
غَيره. قلت: هَذَا على من دخل الْمَسْجِد فِي حَال تحل
فِيهَا الصَّلَاة لَا مُطلقًا، ألاَ يرى أَن من دخل
الْمَسْجِد عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، أَو
عِنْد قِيَامهَا فِي كبد السَّمَاء، لَا يُصَلِّي فِي
هَذِه الْأَوْقَات للنَّهْي الْوَارِد فِيهِ؟ فَكَذَلِك
لَا يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، لوُرُود
وجوب الْإِنْصَات فِيهِ. وَالصَّلَاة حِينَئِذٍ مِمَّا يخل
بالانصات. وَقَالَ أَيْضا: قيل: لَا نسلم
(6/234)
أَن المُرَاد بالركعتين الْمَأْمُور بهما
تَحِيَّة الْمَسْجِد، بل يحْتَمل أَن تكون صَلَاة فَائِتَة
كالصبح مثلا، ثمَّ قَالَ: وَقد تولى رده ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لم يتَكَرَّر أمره
لَهُ بذلك مرّة بعد أُخْرَى. قلت: هَذَا الْقَائِل نقل عَن
ابْن الْمُنِير مَا يُقَوي القَوْل الْمَذْكُور، حَيْثُ
قَالَ: لَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كشف لَهُ
عَن ذَلِك، وَإِنَّمَا استفهمه ملاطفة لَهُ فِي الْخطاب.
قَالَ: وَلَو كَانَ المُرَاد بِالصَّلَاةِ التَّحِيَّة لم
يحْتَج إِلَى استفهامه، لِأَنَّهُ قد رَآهُ لما قد دخل،
وَهَذِه تَقْوِيَة جَيِّدَة بإنصاف. وَمَا نَقله عَن ابْن
حبَان لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن تكراره يدل على أَن الَّذِي
أمره بِهِ من الصَّلَاة الْفَائِتَة، لِأَن التّكْرَار لَا
يحسن فِي غير الْوَاجِب، وَمن جملَة مَا قَالَ هَذَا
الْقَائِل: وَقد نقل حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه دخل ومروان يخْطب، فصلى
الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَرَادَ حرس مَرْوَان أَن يمنعوه فَأبى
حَتَّى صلاهما، ثمَّ قَالَ: مَا كنت لأدعهما بعد أَن
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بهما.
انْتهى. وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف
ذَلِك، وَنقل أَيْضا عَن شَارِح التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ:
كل من نقل عَنهُ منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب مَحْمُول
على من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لم يَقع عَن أحد
مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة. انْتهى. قلت: قد
ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة بن عَامر:
الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة، وَكَيف
يَقُول هَذَا الْقَائِل وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة
مَا يُخَالف ذَلِك؟ وإي مُخَالفَة تكون أقوى من هَذَا
حَيْثُ جعل الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر
مَعْصِيّة؟ وَكَيف يَقُول الشَّارِح التِّرْمِذِيّ: لم
يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة؟
وَأي تَصْرِيح يكون أقوى من قَول عقبَة حَيْثُ أطلق على
فعل هَذِه الصَّلَاة مَعْصِيّة؟ فَلَو كَانَ قَالَ: يكره
أَو لَا يفعل لَكَانَ منعا صَرِيحًا، فضلا أَنه قَالَ:
مَعْصِيّة وَفعل الْمعْصِيَة حرَام، وَإِنَّمَا أطلق
عَلَيْهِ الْمعْصِيَة لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْوَقْت تخل
بالإنصات الْمَأْمُور بِهِ، فَيكون بِفِعْلِهَا تَارِكًا
لِلْأَمْرِ، وتارك الْأَمر يُسمى عَاصِيا، وَفعله يُسمى
مَعْصِيّة، وَفِي الْحَقِيقَة هَذَا الْإِطْلَاق
مُبَالغَة. فَإِن قلت: فِي سَنَد أثر عقبَة بن عبد الله بن
لَهِيعَة؟ . قلت: مَاله، وَقد قَالَ أَحْمد: من كَانَ مثل
ابْن لَهِيعَة بِمصْر فِي كَثْرَة حَدِيثه وَضَبطه
وإتقانه؟ وَحدث عَنهُ أَحْمد كثيرا، وَقَالَ ابْن وهب:
حَدثنِي الصَّادِق الْبَار وَالله عبد الله بن لَهِيعَة،
وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: كَانَ ابْن لَهِيعَة صَحِيح
الْكتاب طلابا للْعلم.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأما مَا رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ عَن عبد الله بن صَفْوَان أَنه دخل
الْمَسْجِد وَابْن الزبير يخْطب فاستلم الرُّكْن ثمَّ سلم
عَلَيْهِ ثمَّ جلس وَعبد الله بن صَفْوَان وَعبد الله بن
الزبير صحابيان صغيران، فقد اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ،
فَقَالَ: لما لم يُنكر ابْن الزبير على ابْن صَفْوَان،
وَلَا من حضرهما من الصَّحَابَة ترك التَّحِيَّة، فَدلَّ
على صِحَة مَا قُلْنَاهُ، وَتعقب بِأَن تَركهم النكير لَا
يدل على تَحْرِيمهَا، بل يدل على عدم وُجُوبهَا، وَلم يقل
بِهِ مخالفوهم. قلت: هَذَا التعقيب متعقب لِأَنَّهُ مَا
ادّعى تَحْرِيمهَا حَتَّى يرد مَا اسْتدلَّ بِهِ
الطَّحَاوِيّ، وَلم يقل هُوَ وَلَا غَيره بِالْحُرْمَةِ،
وَإِنَّمَا دَعوَاهُم أَن الدَّاخِل يَنْبَغِي أَن يجلس
وَلَا يُصَلِّي شَيْئا، وَالْحَال أَن الإِمَام يخْطب،
وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: هَذِه الْأَجْوِبَة
الَّتِي قدمناها تنْدَفع من أَصْلهَا بِعُمُوم قَوْله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أبي قَتَادَة: (إِذا دخل
أحدكُم الْمَسْجِد فَلَا يجلس حَتَّى يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ) . قلت: قد أجبنا عَن هَذَا بِأَنَّهُ
مَخْصُوص، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا نَص لَا يتَطَرَّق
إِلَيْهِ التَّأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا
اللَّفْظ، ويعتقده صَحِيحا فيخالفه قلت: فرق بَين
التَّأْوِيل والتخصيص وَلم يقل أحد من المانعين عَن
الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب: أَنه مؤول، بل قَالُوا:
إِنَّه مَخْصُوص. وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور: وَفِي
هَذَا الحَدِيث، أَعنِي: حَدِيث هَذَا الْبَاب جَوَاز
صَلَاة التَّحِيَّة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة،
لِأَنَّهَا إِذا لم تسْقط فِي الْخطْبَة مَعَ الْأَمر
بالإنصات لَهَا فغيرها أولى. قلت: من جملَة الْأَوْقَات
الْمَكْرُوهَة وَقت طُلُوع الشَّمْس وَوقت غُرُوبهَا وَوقت
استوائها، وَحَدِيث عقبَة ابْن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، نَهَانَا أَن نصلي فِيهِنَّ أَو نقبر
فِيهِنَّ مَوتَانا: حِين تطلع الشَّمْس بازعة حَتَّى
ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس،
وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب) . رَوَاهُ مُسلم
وَالْأَرْبَعَة، فَإِن هَذَا الحَدِيث بِعُمُومِهِ يمْنَع
سَائِر الصَّلَوَات فِي هَذِه الْأَوْقَات من الْفَرَائِض
والنوافل، وَصَلَاة التَّحِيَّة من النَّوَافِل.
33 - (بابُ منْ جاءَ والإمامُ يَخْطُبُ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من جَاءَ ... إِلَى آخِره،
وَكلمَة: من، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. وَقَوله:
(صلى رَكْعَتَيْنِ) خَبره. قَوْله: (وَالْإِمَام يخْطب) ،
جملَة حَالية.
(6/235)
931 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنْ عَمْرٍ ووسَمِعَ جابِرا قَالَ دَخَلَ رَجلٌ
يَوْمَ الجُمُعَةِ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَخْطُبُ فَقَالَ أصلَّيْتَ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَصَلِّ
رَكْعَتَيْنِ. (انْظُر الحَدِيث 930 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصل رَكْعَتَيْنِ) ،
قيل: فِي التَّرْجَمَة قيد الرَّكْعَتَيْنِ، بقوله:
(خفيفتين) ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث هَذَا الْقَيْد فَلم
تقع الْمُطَابقَة تَامَّة. وَأجِيب: بِأَن من عَادَته أَن
يُشِير إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق الحَدِيث، وَهَذَا
الْقَيْد وَقع فِي سنَن أبي قُرَّة: عَن الثَّوْريّ عَن
الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر بِلَفْظ: (قُم
فاركع رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) ، وَوَقع فِي مُسلم
بِمَعْنَاهُ بِلَفْظ: (وتجوَّز فيهمَا) . وَهَذَا الحَدِيث
هُوَ الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَنه أخرج
حَدِيث ذَاك الْبَاب: عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن
زيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر، وَأخرج حَدِيث هَذَا
الْبَاب، عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن
الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن
جَابر، وَالْفرق بَينهمَا فِي بعض الْأَلْفَاظ: فَفِي
حَدِيث الْبَاب الأول لم يُصَرح بِسَمَاع عَمْرو عَن
جَابر، وَهَهُنَا قد صرح بقوله: عَن عَمْرو سمع جَابِرا،
وَنسب عمرا إِلَى أَبِيه دِينَار فِي الحَدِيث الأول،
وَهَهُنَا لم ينْسبهُ. وَقَوله: (أصليت؟) بِهَمْزَة
الِاسْتِفْهَام فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَالْمُسْتَمْلِي،
وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا بِحَذْف الْهمزَة، كَمَا فِي
الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (قَالَ: قُم فصل) هَكَذَا فِي
رِوَايَة أبي ذَر (قَالَ: قُم فصل) ، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَيَان حكم رفع الْيَدَيْنِ، فِي
الْبَاب السَّابِق.
34 - (بابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم رفع الْيَدَيْنِ فِي
الْخطْبَة.
932 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ
زَيْدٍ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ وعنْ يُونُسَ عنْ
ثابِتٍ عَن أنَسٍ قَالَ بَيْنَمَا النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إذْ قامَ
رَجُلٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله هلَكَ الكُرَاعُ وهَلَكَ
الشَّاءُ فادْعُ الله أنْ يَسْقِينَا فَمَدَّ يَدَيْهِ
ودَعَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمد يَدَيْهِ ودعا) .
فَإِن قلت: فِي التَّرْجَمَة رفع الْيَدَيْنِ، وَفِي
الحَدِيث الْمَدّ، وَمن أَيْن التطابق؟ قلت: فِي الحَدِيث
الَّذِي بعده: (فَرفع يَدَيْهِ) ، كَلَفْظِ التَّرْجَمَة،
فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى أَن المُرَاد بِالرَّفْع
هُنَا الْمَدّ، لَا كالرفع الَّذِي فِي الصَّلَاة.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن مُسَدّد
عَن حَمَّاد بن زيد عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس.
وَالثَّانِي: عَن مُسَدّد أَيْضا عَن حَمَّاد بن زيد عَن
يُونُس بن عبيد عَن ثَابت عَن أنس، وَالرِّجَال كلهم
بصريون، وَالْبُخَارِيّ أخرجه بِالطَّرِيقِ الأول أَيْضا
فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن مُسَدّد. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد وَنَحْوه عَن مُسَدّد، وبالطريق الثَّانِي أخرجه
النَّسَائِيّ عَن حَمَّاد بن زيد عَن يُونُس عَن ثَابت عَن
أنس، وَهَذَا طرف من حَدِيث أنس فِي الاسْتِسْقَاء أخرجه
مطولا ومختصرا فِي مَوَاضِع عديدة على مَا يَأْتِي، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (بَيْنَمَا) ، أَصله: بَين، فزيدت فِيهِ الْألف
وَالْمِيم، وَقد تكَرر ذكره فِيمَا مضى، وأضيف إِلَى
الْجُمْلَة بعده، وَقَوله: (إِذا قَامَ) ، وَجَوَابه وَفِي
الحَدِيث الَّذِي بعده: (قَامَ أَعْرَابِي) ، وَفِي
أُخْرَى: (فَقَامَ الْمُسلمُونَ) ، وَفِي أُخْرَى: (جَاءَ
من نَحْو دَار الْقصار) وَفِي أُخْرَى فِي الاسْتِسْقَاء:
(فَقَامَ النَّاس فصاحوا: يَا رَسُول الله قحط الْمَطَر) .
قَوْله: (الكراع) ، بِضَم الْكَاف وَضَبطه بَعضهم عَن
الْأصيلِيّ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ خطأ وَهُوَ اسْم لجمع
الْخَيل. قَوْله: (الشَّاء) جمع شَاة وأصل الشَّاة شاهة
لِأَن تصغيرها شويهة، وَالْجمع شِيَاه بِالْهَاءِ فِي
الْعدَد، تَقول: ثَلَاث شِيَاه إِلَى الْعشْرَة، فَإِذا
جَاوَزت فبالتاء، فَإِذا كثرت قيل هَذِه: شَاءَ كَثِيرَة،
وَجمع الشَّاء: شوىً. قَوْله: (فَمد يَدَيْهِ) ، قذ ذكرنَا
أَن المُرَاد من المدليس الرّفْع، كَمَا فِي الصَّلَاة. |