عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 35 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ فِي الخُطْبَةِ
يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاسْتِسْقَاء: الاسْتِسْقَاء
استفعال، وَهُوَ طلب السقيا، بِضَم السِّين وَهُوَ:
الْمَطَر، يُقَال: سقى الله عباده الْغَيْث، وأسقاهم
وأسقيت فلَانا، إِذا طلبت مِنْهُ أَن يسقيك، وَفِي
(الْمطَالع) : يُقَال: سقى وأسقى بِمَعْنى وَاحِد. //
(6/236)
56 - (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر
قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ حَدثنَا أَبُو
عَمْرو قَالَ حَدثنِي إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة
عَن أنس بن مَالك قَالَ أَصَابَت النَّاس سنة على عهد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبينا
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب
فِي يَوْم جُمُعَة قَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ يَا رَسُول
الله هلك المَال وجاع الْعِيَال فَادع الله لنا فَرفع
يَدَيْهِ وَمَا نرى فِي السَّمَاء قزعة فوالذي نَفسِي
بِيَدِهِ وَمَا وضعهما حَتَّى ثار السَّحَاب أَمْثَال
الْجبَال ثمَّ لم ينزل عَن منبره حَتَّى رَأَيْت الْمَطَر
يتحادر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك وَمن الْغَد وَبعد الْغَد وَالَّذِي
يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَة الْأُخْرَى وَقَامَ ذَلِك
الْأَعرَابِي أَو قَالَ غَيره فَقَالَ يَا رَسُول الله
تهدم الْبناء وغرق المَال فَادع الله لنا فَرفع يَدَيْهِ
فَقَالَ اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا فَمَا يُشِير
بِيَدِهِ إِلَى نَاحيَة من السَّحَاب إِلَّا انفرجت
وَصَارَت الْمَدِينَة مثل الجوبة وسال الْوَادي قناة شهرا
وَلم يَجِيء أحد من نَاحيَة إِلَّا حدث بالجود) مطابقته
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَرفع يَدَيْهِ " لِأَنَّهُ
إِنَّمَا رفعهما لكَونه استسقى فببركته وبركة دُعَائِهِ
أنزل الله الْمَطَر حَتَّى سَالَ الْوَادي قناة شهرا. (ذكر
رِجَاله) وهم خَمْسَة وَالْأَوْزَاعِيّ اسْمه عبد
الرَّحْمَن بن عَمْرو ونسبته إِلَى الأوزاع وَهِي من قبائل
شَتَّى وَقَالَ ابْن الْأَثِير نسبته إِلَى الأوزاع بطن من
ذِي الكلاع من الْيمن وَقيل نسبته إِلَى الأوزاع قَرْيَة
بِدِمَشْق (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه
أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته ونسبته وَفِيه أَن شَيْخه
مدنِي وَاثْنَانِ بعده دمشقيان وَالَّذِي بعدهمَا مدنِي
أَيْضا. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء عَن الْحسن بن بشر
وَفِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَأخرجه مُسلم
فِي الصَّلَاة عَن دَاوُد بن رشيد وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن خَالِد كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد
بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " سنة " بِفَتْح السِّين أَي
شدَّة وَجهد من الجدوبة وَهُوَ من قَوْله تَعَالَى
{وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} وأصل السّنة
سنهة بِوَزْن جبهة فحذفت لامها ونقلت حركتها إِلَى النُّون
فَبَقيت سنة لِأَنَّهَا من سنهت النّخل وتسنهت إِذا أَتَى
عَلَيْهَا السنون وَقيل أَن أَصْلهَا سنوة بِالْوَاو فحذفت
كَمَا حذفت الْهَاء لقَولهم تسنيت عِنْده إِذا أَقمت
عِنْده سنة فَلهَذَا يُقَال على الْوَجْهَيْنِ استأجرته
مسانهة ومساناة وَأما السّنة الَّتِي هِيَ أول النّوم
فبكسر السِّين وَأَصله وَسن لِأَنَّهُ من الوسن
بِفتْحَتَيْنِ يُقَال وَسن يوسن كعلم يعلم سنة فحذفت
الْوَاو وعوضت مِنْهَا الْهَاء كَمَا فِي عدَّة قَوْله "
على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
" أَي على زَمَنه قَوْله " فَبينا " قد مر الْكَلَام فِيهِ
فِي الْبَاب الَّذِي قبله قَوْله " قَامَ أَعْرَابِي "
الْأَعرَابِي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب لِأَنَّهُ لَا
وَاحِد لَهُ وَلَيْسَ هُوَ جمعا لعرب وَإِنَّمَا
الْأَعْرَاب سكان الْبَادِيَة خَاصَّة وَالْعرب جيل من
النَّاس وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ عَرَبِيّ بَين الْعرُوبَة
وهم أهل الْأَمْصَار وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْأَعْرَاب
ساكنوا الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ
فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة
وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن
وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أَعْرَابِي وعربي قَوْله " هلك
المَال " المُرَاد بِالْمَالِ هُنَا وَمَا بعده
الْحَيَوَان كَذَا فسره فِي حَدِيث الْمُوَطَّأ وَمعنى هلك
المَال يَعْنِي الْحَيَوَانَات هَلَكت إِذْ لم تَجِد مَا
ترعى قَوْله " والعيال " قَالَ الْجَوْهَرِي عِيَال الرجل
من يعوله وَوَاحِد الْعِيَال عيل وَالْجمع عيايل مثل جيد
جِيَاد وجيايد وأعال الرجل أَي كثر عِيَاله فَهُوَ معيل
وَامْرَأَة معيلة قَالَ الْأَخْفَش أَي صَار ذَا عِيَال
وَذكر الْجَوْهَرِي هَذِه الْمَادَّة فِي عيل فِي الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَذكره ابْن الْأَثِير فِي عول فِي الْوَاو
ثمَّ قَالَ يُقَال عَال الرجل عِيَاله يعولهم إِذا قَامَ
بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من قوت وَكِسْوَة وَغَيرهمَا
وَقَالَ الْكسَائي يُقَال عَال الرجل يعول إِذا كثر
عِيَاله واللغة الجيدة أعال يعيل قَوْله " قزعة "
بِالْقَافِ وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحات
وَهِي الْقطعَة من السَّحَاب وَفِي الْمُحكم القزع قطع من
السَّحَاب
(6/237)
رقاق كَأَنَّهَا ظلّ إِذا مرت من تَحت
السَّحَاب الْكَثِيرَة قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأكْثر مَا
يكون ذَلِك فِي الخريف وَقَالَ يَعْقُوب عَن الْبَاهِلِيّ
يُقَال مَا على السَّمَاء قزعة أَي شَيْء من غيم وَفِي
تَهْذِيب الْأَزْهَرِي كل شَيْء متفرق فَهُوَ قزع قَوْله "
حَتَّى ثار السَّحَاب " بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي هاج
يُقَال ثار الشَّيْء يثور إِذا ارْتَفع وانتشر قَوْله "
كأمثال الْجبَال " أَي لكثرتها وإطباقها وَجه السَّمَاء
قَوْله " يتحادر " أَي ينزل ويقطر وَهُوَ يتفاعل من الحدور
وَهُوَ ضد الصعُود وَيُقَال حدر فِي قِرَاءَته إِذا أسْرع
وَكَذَلِكَ فِي أَذَانه وَهُوَ يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى
وأصل بَاب التفاعل للمشاركة بَين قوم وَهَهُنَا لَيْسَ
كَذَلِك لِأَن تفَاعل قد تَجِيء بِمَعْنى فعل مثل توانيت
أَي ونيت وَهَذَا كَذَلِك وَمَعْنَاهُ يحدر قَوْله "
فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك " بِضَم الْمِيم وَكسر الطَّاء
مَعْنَاهُ حصل لنا الْمَطَر يُقَال مطرَت السَّمَاء تمطر
ومطرتهم تمطرهم مَطَرا وأمطرتهم أَصَابَتْهُم بالمطر
وأمطرهم الله بِالْعَذَابِ خَاصَّة ذكره ابْن سَيّده
وَقَالَ الْفراء قطرت السَّمَاء وأقطرت مثل مطرَت
السَّمَاء وأمطرت وَفِي الْجَامِع مطرَت السَّمَاء تمطر
مَطَرا فالمطر بِالسُّكُونِ الْمصدر والمصدر بالحركة
الِاسْم وَفِيه لُغَة أُخْرَى مطرَت تمطر مَطَرا وَكَذَا
أمْطرت السَّمَاء تمطر وَفِي الصِّحَاح مطرَت السَّمَاء
وأمطرها الله وناس يَقُولُونَ مطرَت السَّمَاء وأمطرت
بِمَعْنى قَوْله " يَوْمنَا " مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة
يَعْنِي فِي يَوْمنَا ذَلِك قَوْله " وَمن الْغَد " كلمة
من إِمَّا بِمَعْنى فِي أَي فِي الْغَد وَإِمَّا تبعيضية
قَوْله " حَتَّى الْجُمُعَة الْأُخْرَى " مثل أكلت
السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا فِي جَوَاز الحركات الثَّلَاث
فِي مدخولها أما النصب فعلى أَن حَتَّى عاطفة على
الْمَنْصُوب قبله وَأما الرّفْع فعلى أَن مدخولها مُبْتَدأ
وَخَبره مَحْذُوف وَأما الْجَرّ فعلى أَن حَتَّى جَارة
قَوْله " حوالينا " بِفَتْح اللَّام وَفِي مُسلم " حولنا "
وَكِلَاهُمَا صَحِيح يُقَال قعدوا حوله وحواله وحواليه أَي
مطيفين بِهِ من جوانبه وَهُوَ ظرف مُتَعَلق بِمَحْذُوف
تَقْدِيره اللَّهُمَّ أنزل أَو أمطر حوالينا وَلَا تنزل
علينا (فَإِن قلت) إِذا مطرَت حول الْمَدِينَة فالطريق
ممتنعة فَإِذا لم يزل شكواهم (قلت) أَرَادَ بحوالينا
الآكام والضراب وشبههما كَمَا فِي الحَدِيث فَتبقى الطّرق
على هَذَا مسلوكة كَمَا سَأَلُوا قَوْله " وَلَا علينا "
أَي وَلَا تمطر علينا أَرَادَ بِهِ الْأَبْنِيَة قَوْله "
إِلَّا انفرجت " أَي إِلَّا انكشفت وَقَالَ ابْن الْقَاسِم
مَعْنَاهُ تدورت كَمَا يَدُور جيب الْقَمِيص وَقَالَ ابْن
وهب مَعْنَاهُ انْقَطَعت عَن الْمَدِينَة كَمَا يَنْقَطِع
الثَّوْب وَقَالَ ابْن شعْبَان خرجت عَن الْمَدِينَة كَمَا
يخرج الجيب عَن الثَّوْب قَوْله " مثل الجوبة " بِفَتْح
الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ
الدَّاودِيّ أَي صَارَت مستديرة كالحوض المستدير وأحاطت
بهَا الْمِيَاه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وجفان كالجواب}
وَقَالَ ابْن التِّين هَذَا عِنْدِي وهم لِأَن اشتقاق
الْجَابِيَة من جبا الْعين بِكَسْر الْجِيم مَقْصُور
وَهُوَ مَا جمع فِيهَا من المَاء فَيكون اسْم الفعلة
مِنْهُ جبوة وَإِنَّمَا من بَاب جاب يجوب إِذا قطع من
قَوْله تَعَالَى {جابوا الصخر بالواد} فالعين مِنْهُ وَاو
فَتكون الفعلة مِنْهُ جوبة كَمَا فِي الحَدِيث وَقَالَ
الْجَوْهَرِي الجوبة الفرجة من السَّحَاب وَالْجِبَال
وَقَالَ ابْن فَارس الجوبة كالغائط من الأَرْض وَقَالَ
الْخطابِيّ هِيَ الترس وَفِي حَدِيث آخر " فَبَقيت
الْمَدِينَة كالترس " وَقَالَ والجوبة أَيْضا الوهدة
المنقطعة عَمَّا علا عَن الأَرْض وَجَاء فِي حَدِيث آخر "
مثل الإكليل " أَي دَار بهَا السَّحَاب قَوْله " الْوَادي
قناة " بِفَتْح الْقَاف وَتَخْفِيف النُّون وَهُوَ علم
لبقعة غير منصرف مَرْفُوع لِأَنَّهُ بدل عَن الْوَادي
والوادي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل سَالَ والقناة اسْم وَاد
من أَوديَة الْمَدِينَة قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض
الرِّوَايَات قناة بِالنّصب والتنوين فَهُوَ بِمَعْنى
الْبِئْر المحفور أَي سَالَ الْوَادي مثل الْقَنَاة وَفِي
بعض الرِّوَايَات قناة بِالْجَرِّ بِإِضَافَة الْوَادي
إِلَيْهَا قَوْله " بالجودة " بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون
الْوَاو وَفِي آخِره دَال مُهْملَة وَهُوَ الْمَطَر الغزير
الْوَاسِع يُقَال جادهم الْمَطَر يجودهم جودا (ذكر مَا
يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ معْجزَة ظَاهِرَة للنَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِجَابَة
دُعَائِهِ مُتَّصِلا بِهِ فِي الدُّعَاء فَإِنَّهُ لم
يسْأَل رفع الْمَطَر من أَصله بل سَأَلَ دفع ضَرَره وكشفه
عَن الْبيُوت والمرافق والطرق بِحَيْثُ لَا يتَضَرَّر بِهِ
سَاكن وَلَا ابْن سَبِيل وَسَأَلَ بَقَاءَهُ فِي مَوَاضِع
الْحَاجة بِحَيْثُ يبْقى نَفعه وخصبه فِي بطُون الأودية
وَنَحْوهَا. وَفِيه اسْتِحْبَاب طلب انْقِطَاع الْمَطَر
عَن الْمنَازل إِذا كثر وتضرروا بِهِ. وَفِيه رفع
الْيَدَيْنِ فِي الْخطْبَة. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي رفع
الْيَدَيْنِ عِنْد الدُّعَاء فكرهه مَالك فِي رِوَايَة
وَأَجَازَهُ غَيره فِي كل الدُّعَاء وَبَعض الْعلمَاء
جوزوه فِي الاسْتِسْقَاء فَقَط وَقَالَ جمَاعَة من
الْعلمَاء السّنة فِي دُعَاء رفع الْبلَاء أَن يرفع
يَدَيْهِ وَيجْعَل ظهرهما إِلَى السَّمَاء وَفِي دُعَاء
سُؤال شَيْء وتحصيله يَجْعَل بطنهما إِلَى السَّمَاء وَعَن
مَالك بن يسَار أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ
ببطون أكفكم وَلَا تسألوه بظهورها " وَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ سلمَان
الْفَارِسِي
(6/238)
من عِنْد التِّرْمِذِيّ محسنا " إِن الله
حَيّ كريم يستحيي أَن يرفع الرجل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَن
يردهما صفرا " قَالَ التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ بَعضهم فَلم
يرفعهُ وَعَن أبي يُوسُف إِن شَاءَ رفع يَدَيْهِ فِي
الدُّعَاء وَإِن شَاءَ أَشَارَ بإصبعيه وَفِي الْمُحِيط
بإصبعه السبابَة وَفِي التَّجْرِيد من يَده الْيُمْنَى
وَقَالَ ابْن بطال رفع الْيَدَيْنِ فِي الْخطْبَة فِي معنى
الضراعة إِلَى الْجَلِيل والتذلل لَهُ وَقَالَ الزُّهْرِيّ
رفع الْأَيْدِي يَوْم الْجُمُعَة مُحدث وَقَالَ ابْن
سِيرِين أول من رفع يَدَيْهِ فِي الْجُمُعَة عبيد الله بن
عبد الله بن معمر. وَفِيه الاسْتِسْقَاء بِالدُّعَاءِ
بِدُونِ صَلَاة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ وَبِه احْتج على ذَلِك وَفِيه قيام
الْوَاحِد بِأَمْر الْعَامَّة. وَفِيه إتْمَام الْخطْبَة
فِي الْمَطَر وَفِيه قَالَ ابْن شعْبَان فِي قَوْله "
إِلَّا انفرجت " خرجت عَن الْمَدِينَة كَمَا يخرج الجيب
عَن الثَّوْب وَقَالَ ابْن التِّين فِيهِ دَلِيل على أَن
من أودع وَدِيعَة فَجَعلهَا فِي جيب قَمِيصه أَنه يضمن
قَالَ وَقيل لَا يضمن قَالَ وَالْأول أحوط لهَذَا الحَدِيث
-
36 - (بابُ الإنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإمَامُ
يَخْطُبُ وإذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أنْصِتْ فقَدْ لَغَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِنْصَات يَوْم
الْجُمُعَة فِي حَالَة خطْبَة الإِمَام. قَوْله:
(وَالْإِمَام يخْطب) جملَة حَالية ذكرهَا للإشعار بِأَن
الْإِنْصَات قبل شُرُوع الإِمَام فِيهَا لَا يجب، خلافًا
لقوم فِي ذَلِك، وَلَكِن الأولى الْإِنْصَات من وَقت
خُرُوج الإِمَام. قَوْله: (وَإِذا قَالَ لصَاحبه: انصت،
فقد لَغَا) من جملَة التَّرْجَمَة، وَهُوَ لفظ حَدِيث
الْبَاب فِي بعض طرقه، وَهِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن
قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد
بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قَالَ الرجل لصَاحبه يَوْم
الْجُمُعَة، وَالْإِمَام يخْطب: انصت، فقد لَغَا)
وَبِهَذَا السَّنَد روى التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن
اللَّيْث إِلَى آخِره، وَلَفظه: (من قَالَ يَوْم
الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب: انصت، فقد لَغَا) . قَوْله:
(لصَاحبه) المُرَاد بِهِ، جليسه، وَقيل: الَّذِي يخاطبه
بذلك مُطلقًا، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ الصاحب
بِاعْتِبَار أَنه صَاحبه فِي الْخطاب أَو الْجُلُوس.
قَوْله: (أنصت) أَمر من أنصت ينصب إنصاتا. وَقَالَ أَبُو
الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) : نصت ينصت إِذا سكت، وأنصت
لُغَتَانِ أَي: اسْتمع يُقَال: انصته وأنصت لَهُ وينشد:
(اذا قَالَت حذام فأنصتوها)
ويروى: فصدقوها، وَفِي (الْمُحكم) : أنصت أَعلَى، والنصتة
الِاسْم من الْإِنْصَات. وَفِي (الْجَامِع) : وَالرجل ناصت
ومنصت. وَفِي (الْمُجْمل) و (الْمغرب) : الْإِنْصَات
السُّكُوت للاستماع وَأنْشد الرَّاغِب فِي المجالسات:
(السّمع للإنصات والإنصات للأذن)
وَقد مر عَن قريب: بَاب الِاسْتِمَاع إِلَى الْخطْبَة،
وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الِاسْتِمَاع هُوَ الإصغاء،
وَيعلم الْفرق بَين الِاسْتِمَاع والإنصات مِمَّا ذكرنَا
الْآن، فَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ تَرْجَمَة للاستماع
وترجمة للانصات. قَوْله: (فقد لَغَا) اللَّغْو واللغاء:
السقط وَمَا لَا يعْتد بِهِ من كَلَام وَغَيره، وَلَا يحصل
مِنْهُ على فَائِدَة وَلَا نفع واللغو فِي الْأَيْمَان:
لَا وَالله وبلى وَالله، وَقيل: مَعْنَاهُ الْإِثْم، ولغا
فِي القَوْل يَلْغُو ويلغى لَغوا ولغا وملغاة: أخطا، ولغا
يَلْغُو لَغوا: تكلم ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع)
: اللَّغْو: الْبَاطِل، تَقول: لغيت ألغى لغيا ولغىً
بِمَعْنى، ولغا الطَّائِر يَلْغُو لَغوا: إِذا صَوت. وَفِي
(التَّهْذِيب) : لغوت اللَّغْو والغى ولغى، ثَلَاث لُغَات،
واللغو: كل مَا لَا يجوز. وَقَالَ الْأَخْفَش، اللَّغْو
السَّاقِط من القَوْل، وَقيل: الْميل عَن الصَّوَاب.
وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل، معنى لغوت خبت من الْأجر.
وَقيل: بطلت فَضِيلَة جمعتك، وَقيل: صَارَت جمعتك ظهرا.
وَقيل: تَكَلَّمت بِمَا لَا يَنْبَغِي.
وقالَ سَلْمَانُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُنْصِت إذَا تكَلَّمَ الإمَامُ
هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث سلمَان الَّذِي أخرجه
فِي: بَاب الدّهن للْجُمُعَة، وَفِي: بَاب لَا يفرق بَين
إثنين يَوْم الْجُمُعَة.
934 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيثُ عَن عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي
سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أخبَرَهُ
أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا
قُلْتَ لِصاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أنْصِتْ والإمَامُ
يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم،
وَعقيل: بِضَم الْعين: هُوَ ابْن خَالِد الْأَيْلِي،
وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن
رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث عَنهُ بِهِ. وَعَن عبد
الْملك بن شُعَيْب عَن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده
عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن
القعْنبِي عَن مَالك عَن ابْن شهَاب
(6/239)
عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك:
أنصت، وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت) . وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من قَالَ
يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب: انصت، فقد لَغَا) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث
إِلَى آخِره،، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب. وَأخرجه
ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن شَبابَة بن سوار
عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت
لصاحبك: أنصت يَوْم الْجُمُعَة، وَالْإِمَام يخْطب، فقد
لغوت) وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيثه. قَالَ: وَفِي
الْبَاب عَن ابْن أبي أوفى وَجَابِر بن عبد الله، أما
حَدِيث ابْن أبي أوفى فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن السكْسكِي، قَالَ:
سَمِعت ابْن أبي أوفى قَالَ: (ثَلَاث من سلم مِنْهُنَّ غفر
لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى: من أَن يحدث
حَدثا، يَعْنِي: أَذَى، أَو أَن يتَكَلَّم أَو أَن يَقُول:
صه) . وَرِجَاله ثِقَات، وَهَذَا، وَإِن كَانَ مَوْقُوفا،
فَمثله لَا يُقَال من قبل الرَّأْي، فَحكمه الرّفْع. وَأما
حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى فِي
(مسنديهما) من رِوَايَة مجَالد بن سعيد عَن عَامر (عَن
جَابر، قَالَ: قَالَ سعد لرجل يَوْم الْجُمُعَة: لَا
صَلَاة لَك، قَالَ: فَذكر ذَلِك الرجل للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن سَعْدا
قَالَ: لَا صَلَاة لَك، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لِمَ يَا سعد؟ قَالَ: إِنَّه كَانَ
يتَكَلَّم وَأَنت تخْطب قَالَ: صدق سعد) . اللَّفْظ
لِابْنِ أبي شيبَة، وَقَالَ أَبُو يعلى وَالْبَزَّار:
سَمِعت سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
ومجالد ضعفه الْجُمْهُور؟
قلت: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَأبي ذَر وَأبي
الدَّرْدَاء وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَمْرو
وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. أما
حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي
(مسنديهما) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة
مجَالد عَن عَامر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(من تكلم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَهُوَ
كالحمار يحمل أسفارا، وَالَّذِي يَقُول لَهُ: أنصت، لَيْسَ
لَهُ جُمُعَة) . وَأما حَدِيث أبي ذَر وَأبي الدَّرْدَاء
فرواهما الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة أنس ابْن عِيَاض عَن
شريك عَن عَطاء بن يسَار (عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي ذَر:
قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم
الْجُمُعَة على الْمِنْبَر سُورَة، فغمز أَبُو الدَّرْدَاء
أبي بن كَعْب، فَقَالَ: مَتى أنزلت هَذِه السُّورَة. .
فَإِنِّي لم أسمعها إِلَّا الْآن؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَن:
اسْكُتْ. فَلَمَّا انصرفوا قَالَ أبي: لَيْسَ لَك من
صَلَاتك إِلَّا مَا لغوت، فَأخْبر أَبُو الدَّرْدَاء
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا قَالَ أبي،
فَقَالَ: صدق أبي) . وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي
(المُصَنّف) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة
الركين بن الرّبيع عَن أَبِيه عَن عبد الله، قَالَ: (كفى
لَغوا، إِذا صعد الإِمَام الْمِنْبَر أَن تَقول لصاحبك:
أنصت) وَرِجَاله ثِقَات فَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع،
لِأَنَّهُ لَا يُقَال من قبل الرَّأْي. وَأما حَدِيث عبد
الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُسَدّد
وَأَبُو كَامِل قَالَا: حَدثنَا يزِيد عَن حبيب الْمعلم
عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يحضر
الْجُمُعَة ثَلَاثَة نفر: رجل حضرها بلغو فَهُوَ حَظه
مِنْهَا، وَرجل حضرها يَدْعُو فَهُوَ رجل دَعَا الله عز
وَجل إِن شَاءَ أعطَاهُ وَإِن شَاءَ مَنعه، وَرجل حضرها
بإنصات وسكوت وَلم يتخط رَقَبَة مُسلم وَلم يؤذ أحدا
فَهِيَ كَفَّارَة إِلَى الْجُمُعَة الَّتِي تَلِيهَا،
وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَذَلِكَ بِأَن الله
تَعَالَى يَقُول: من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر
أَمْثَالهَا) . وَأما حَدِيث عَليّ فَأخْرجهُ أَحْمد
مَرْفُوعا. (وَمن قَالَ: صه، فقد تكلم، وَمن تكلم فَلَا
جُمُعَة لَهُ.
قَوْله: (لصاحبك) المُرَاد مِنْهُ: الجليس، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (وَالْإِمَام يخْطب) جملَة حَالية. قَوْله: (فقد
لغوت) ، قد مر تَفْسِيره. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض
الرِّوَايَات: لغيت، وَظَاهر الْقُرْآن يَقْتَضِي هَذِه
اللُّغَة، قَالَ الله تَعَالَى: {والغوا فِيهِ} (فصلت: 26)
. وَهَذَا من لغى يلغي، إِذْ لَو كَانَ من لغى يَلْغُو
لقَالَ: والغوا بِضَم الْغَيْن.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن فِيهِ: النَّهْي عَن
جَمِيع الْكَلَام حَال الْخطْبَة، وَنبهَ بِهَذَا على مَا
سواهُ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: أنصت، وَهُوَ فِي الأَصْل
أَمر بِمَعْرُوف، وَسَماهُ لَغوا، فَغَيره أولى. قيل:
ذَلِك لِأَن الْخطْبَة أُقِيمَت مقَام الرَّكْعَتَيْنِ.
فَكَمَا لَا يجوز التَّكَلُّم فِي المنوب لَا يجوز فِي
النَّائِب، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب
الِاسْتِمَاع إِلَى الْخطْبَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَقَوله: (وَالْإِمَام يخْطب) دَلِيل على أَن وجوب
الْإِنْصَات وَالنَّهْي عَن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي
حَال الْخطْبَة، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمذهب مَالك
وَالْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب الْإِنْصَات
بِخُرُوج الإِمَام قلت: أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الصَّلَاة
وَالْكَلَام بعد خُرُوج الإِمَام.
(6/240)
37 - (بابُ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ
الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السَّاعَة الَّتِي الدعْوَة
فِيهَا مستجابة فِي يَوْم الْجُمُعَة.
935 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنْ
أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَكَرَ يَوْمَ
الجُمُعَةِ فَقَالَ فيهِ ساعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ
وَهْوَ قائِمٌ يُصَلِّي يَسْألُ الله تَعَالَى شيْئا إلاَّ
أعْطَاهُ إيَّاهُ وأشَارَ بِيَدِهِ ويُقَلِّلُهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ ذكر
السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة، فَفِي كل من
الحَدِيث والترجمة السَّاعَة مُبْهمَة، وَقد بيّنت فِي
أَحَادِيث أُخْرَى كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي
وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجُمُعَة عَن يحيى بن يحيى
وقتيبة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة
وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن
ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وروى هَذَا الحَدِيث عَن
أبي هُرَيْرَة ابْن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى وَمُحَمّد بن
سِيرِين وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَهَمَّام
وَمُحَمّد بن زِيَاد وَأَبُو سعيد المَقْبُري وَسَعِيد بن
الْمسيب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَأَبُو رَافع وَأَبُو
الْأَحْوَص وَأَبُو بردة وَمُجاهد وَيَعْقُوب بن عبد
الرَّحْمَن. أما طَرِيق ابْن عَبَّاس فأخرجها النَّسَائِيّ
فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. وَأما طَرِيق أبي مُوسَى
فَذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله. وَأما طَرِيق ابْن
سِيرِين فأخرجها البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق على مَا
سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما طَرِيق أبي
سَلمَة فأخرجها أَبُو دَاوُد حَدثنَا القعْنبِي عَن مَالك
عَن يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد عَن مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (خير يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة)
، الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وفيهَا سَاعَة لَا يصادفها
عبد مُسلم وَهُوَ يُصَلِّي يسْأَل الله حَاجَة إلاّ
أعطَاهُ إِيَّاهَا) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا
إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ حَدثنَا معن حَدثنَا
مَالك بن أنس إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه النَّسَائِيّ:
حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ: حَدثنَا بكر وَهُوَ ابْن
مُضر عَن ابْن الْهَاد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن
أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:
(أتيت الطّور فَوجدت فِيهِ كَعْبًا) الحَدِيث بِطُولِهِ،
وَفِيه: (وفيهَا سَاعَة لَا يصادفها عبد مُؤمن وَهُوَ فِي
الصَّلَاة يسْأَل الله تَعَالَى شَيْئا إلاّ أعطَاهُ
إِيَّاه) . وَأما طَرِيق همام فأخرجها مُسلم. وَأما طَرِيق
مُحَمَّد بن زِيَاد فأخرجها مُسلم أَيْضا. وَأما طَرِيق
أبي سعيد المَقْبُري فأخرجها النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة. وَأما طَرِيق سعيد بن الْمسيب فأخرجها
النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. وَأما
طَرِيق عَطاء من أبي رَبَاح فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ
وَقَالَ: وَهُوَ مَوْقُوف. وَمن رَفعه فقد وهم. وَأما
طَرِيق أبي رَافع فَذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي (علله) .
وَأما طَرِيق أبي الْأَحْوَص فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ
أَيْضا وَقَالَ: الْأَشْبَه عَن ابْن مَسْعُود. وَأما
طَرِيق أبي بردة وَمُجاهد فذكرهما الدَّارَقُطْنِيّ
أَيْضا. وَأما طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب فَذكرهَا
أَبُو عمر بن عبد الْبر وصححها.
قَوْله: (لَا يُوَافِقهَا) أَي: لَا يصادفها وَهَذِه
اللَّفْظَة أَعم من أَن يقْصد لَهَا أَو يتَّفق لَهُ
وُقُوع الدُّعَاء فِيهَا. قَوْله: (مُسلم) وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ: (مُؤمن) . قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) جملَة
إسمية وَقعت حَالا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (وَهُوَ
قَائِم) ، مَفْهُومه أَنه لَو لم يكن قَائِما لَا يكون
لَهُ هَذَا الحكم، ثمَّ أجَاب بِأَن شَرط مَفْهُوم
الْمُخَالفَة أَن لَا يخرج مخرج الْغَالِب، وَهَهُنَا ورد
بِنَاء على أَن الْغَالِب فِي الْمُصَلِّي أَن يكون
قَائِما، فَلَا اعْتِبَار لهَذَا الْمَفْهُوم، قَوْله:
(يُصَلِّي) ، جملَة فعلية حَالية. وَقَوله: (يسْأَل الله)
أَيْضا جملَة حَالية من الْأَحْوَال المترادفة أَو
المتداخلة. وَقَالَ بَعضهم: (وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي
يسْأَل الله) ، صِفَات: (لمُسلم) قلت: لَا يَصح ذَلِك
لِأَن لفظ: مُسلم، وَلَفظ: صَالح، صفتان لعبد، وَالصّفة
والموصوف فِي حكم شَيْء وَاحِد، والنكرة إِذا اتصفت يكون
حكمهَا حكم الْمعرفَة، فَلَا يجوز وُقُوع الْجمل بعْدهَا
صِفَات لَهَا، لِأَن الْجمل لَا تقع صفة للمعرفة، بل إِذا
وَقعت بعْدهَا تكون حَالا كَمَا هُوَ الْمُقَرّر فِي
مَوْضِعه، وَالْعجب مِنْهُ أَنه قَالَ: وَيحْتَمل أَن
يكون: يُصَلِّي، حَالا فَلَا وَجه لذكر الِاحْتِمَال
لكَونه حَالا محققا. قَوْله: (قَائِم يُصَلِّي) يحْتَمل
الْحَقِيقَة، أَعنِي حَقِيقَة الْقيام، وَيحْتَمل:
الدُّعَاء
(6/241)
وَيحْتَمل الِانْتِظَار وَيحْتَمل
الْمُوَاظبَة على الشَّيْء لَا الْوُقُوف من قَوْله
تَعَالَى: {مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} (آل عمرَان: 75) .
يَعْنِي: مواظبا وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ بَعضهم: معنى
(يُصَلِّي) ، يَدْعُو، وَمعنى: (قَائِم) ، ملازم ومواظب،
وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الِاحْتِمَالَات لِئَلَّا يرد
الْإِشْكَال بأصح الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي تعْيين
السَّاعَة الْمَذْكُورَة، وهما حديثان: أَحدهمَا من جُلُوس
الْخَطِيب على الْمِنْبَر إِلَى انْصِرَافه من الصَّلَاة.
وَالْآخر: من بعد الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، فَفِي
الأول حَال الْخطْبَة كُله، وَلَيْسَت صَلَاة حَقِيقَة
وَفِي الثَّانِي: لَيست سَاعَة صَلَاة أَلا ترى أَن أَبَا
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما روى حَدِيثه
الْمَذْكُور قَالَ: (فَلَقِيت عبد الله بن سَلام، فَذكرت
لَهُ هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: أَنا أعلم تِلْكَ
السَّاعَة، فَقلت: أَخْبرنِي بهَا وَلَا تضنن بهَا عَليّ
{قَالَ: هِيَ بعد الْعَصْر إِلَى أَن تغرب الشَّمْس. قلت:
وَكَيف تكون بعد الْعَصْر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُوَافِقهَا عبد مُسلم وَهُوَ
يُصَلِّي) ، وَتلك السَّاعَة لَا يُصَلِّي فِيهَا؟ قَالَ
عبد الله ابْن سَلام: أَلَيْسَ قد قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (من جلس مَجْلِسا ينْتَظر الصَّلَاة
فَهُوَ فِي صَلَاة؟ قلت: بلَى، قَالَ: فَهُوَ ذَاك)
انْتهى. فَهَذَا دلّ على أَن المُرَاد من الصَّلَاة
الدُّعَاء وَمن الْقيام الْمُلَازمَة والمواظبة لَا
حَقِيقَة الْقيام، وَلِهَذَا سقط قَوْله: (قَائِم) ، من
رِوَايَة أبي مُصعب وَابْن أبي أويس ومطرف والتنيسي
وقتيبة، وأثبتها الْبَاقُونَ. قَالَ أَبُو عمر: وَهَذِه
زِيَادَة مَحْفُوظَة عَن أبي الزِّنَاد من رِوَايَة مَالك
وورقاء وَغَيرهمَا عَنهُ، وَكَانَ مُحَمَّد بن وضاح يَأْمر
بِحَذْف هَذِه الزِّيَادَة من الحَدِيث لأجل أَنه كَانَ
يسْتَشْكل بالإشكال الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَلَكِن الْجَواب
مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (شَيْئا) أَي: مِمَّا يَلِيق أَن
يَدْعُو بِهِ الْمُسلم وَيسْأل الله، وَفِي رِوَايَة عِنْد
البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق: (يسْأَل الله خيرا) ، وَفِي
رِوَايَة لمُسلم كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه:
(مَا لم يسْأَل حَرَامًا) . وَعند أَحْمد فِي حَدِيث سعد
بن عبَادَة: (مَا لم يسْأَل إِثْمًا أَو قطيعة رحم) ،
فَإِن قلت: قطيعة رحم من جملَة الْإِثْم. قلت: هُوَ من عطف
الْخَاص على الْعَام للاهتمام بِهِ. قَوْله: (وَأَشَارَ
بِيَدِهِ) ، أَي: وَأَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِيَدِهِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي مُصعب عَن
مَالك. قَوْله: (يقللها) ، جملَة وَقعت حَالا، وَهُوَ من
التقليل خلاف التكثير، يُرِيد أَن السَّاعَة لَحْظَة
خَفِيفَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (يزهدها) ، وَهُوَ
بِمَعْنَاهُ،، وَفِي لفظ: (وَهِي سَاعَة خَفِيفَة) ،
وللطبراني فِي (الْأَوْسَط) فِي حَدِيث أنس: (وَهِي قدر
هَذَا) ، يَعْنِي قَبْضَة. ثمَّ بَقِي الْكَلَام هُنَا فِي
بَيَان السَّاعَة الْمَذْكُورَة وَبَيَان مَا فِيهَا من
الْأَقْوَال وَهُوَ مُشْتَمل على وُجُوه:
الأول: فِي حَقِيقَة السَّاعَة، وَهِي: اسْم لجزء مَخْصُوص
من الزَّمَان وَيرد على أنحاء: أَحدهَا يُطلق على جُزْء من
أَرْبَعَة وَعشْرين جزأ، وَهِي مَجْمُوع الْيَوْم
وَاللَّيْلَة، وَتارَة تطلق مجَازًا على جُزْء مَا غير
مُقَدّر من الزَّمَان. فَلَا يتَحَقَّق. وَتارَة تطلق على
الْوَقْت الْحَاضِر، ولأرباب النُّجُوم والهندسة وضع آخر،
وَذَلِكَ أَنهم يقسمون كل نَهَار وكل لَيْلَة بِاثْنَيْ
عشر قسما سَوَاء كَانَ النَّهَار طَويلا أَو قَصِيرا،
وَكَذَلِكَ اللَّيْل، ويسمون كل سَاعَة من هَذِه
الْأَقْسَام سَاعَة، فعلى هَذَا تكون السَّاعَة تَارَة
طَوِيلَة وَتارَة قَصِيرَة على قدر النَّهَار فِي طوله
وقصره، ويسمون هَذِه السَّاعَات المعوجة، وَتلك الأول:
مُسْتَقِيمَة.
الثَّانِي: إِن فِي هَذِه السَّاعَة اخْتِلَافا هَل هِيَ
بَاقِيَة أَو رفعت؟ فَزعم قوم أَنَّهَا رفعت، حَكَاهُ
أَبُو عمر بن عبد الْبر وزيفه، وَقَالَ عِيَاض: رده السّلف
على قَائِله، وَاحْتج أَبُو عمر فِيهِ بِمَا رَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن دَاوُد بن أبي عَاصِم (عَن
عبد الله بن يحنس مولى مُعَاوِيَة، قَالَ: قلت لأبي
هُرَيْرَة: زَعَمُوا أَن السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم
الْجُمُعَة قد رفعت؟ قَالَ: كذب من قَالَ ذَلِك. قلت:
فَهِيَ بَاقِيَة فِي كل جُمُعَة اسْتَقْبلهَا؟ قَالَ: نعم)
. إِسْنَاده قوي، قَالَ أَبُو عمر على هَذَا تَوَاتَرَتْ
الْأَخْبَار. وَفِي (صَحِيح الْحَاكِم) من حَدِيث أبي
سَلمَة: (قلت: يَا أَبَا سعيد، إِن أَبَا هُرَيْرَة
حَدثنَا عَن السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة، هَل
عنْدك فِيهَا علم؟ فَقَالَ: سَأَلنَا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا، فَقَالَ: إِنِّي كنت أعلمها ثمَّ
أنسيتها كَمَا أنسيت لَيْلَة الْقدر) . ثمَّ قَالَ:
صَحِيح. وخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي (صَحِيحه) وَفِي
(كتاب ابْن زَنْجوَيْه) : عَن مُحَمَّد ابْن كَعْب
الْقرظِيّ أَن كَلْبا مر بعد الْعَصْر فِي مَسْجِد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رجل من
الصَّحَابَة: اللَّهُمَّ اقتله، فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد وَافق هَذَا السَّاعَة
الَّتِي إِذا دعِي اسْتُجِيبَ.
الثَّالِث: أَنَّهَا لما ثَبت أَنَّهَا بَاقِيَة، هَل هِيَ
فِي كل جُمُعَة أَو فِي جُمُعَة وَاحِدَة من كل سنة؟ قَالَ
كَعْب الْأَحْبَار: فِي كل سنة يَوْم، فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَة، بلَى فِي كل جُمُعَة} قَالَ: فَقَرَأَ كَعْب
التَّوْرَاة، فَقَالَ: صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
وَالتِّرْمِذِيّ، فَرجع كَعْب إِلَيْهِ.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي بَيَان وَقتهَا، وَهُوَ على
أَقْوَال، فَقيل: هِيَ مخفية فِي جَمِيع الْيَوْم كليلة
الْقدر، قَالَه ابْن قدامَة، وَحَكَاهُ القَاضِي
(6/242)
عِيَاض وَغَيره، وَنَقله ابْن الصّباغ عَن
كَعْب الْأَحْبَار. وَالْحكمَة فِي إخفائها الْجد
وَالِاجْتِهَاد فِي طلبَهَا فِي كل الْيَوْم كَمَا أخْفى
أولياءه فِي خلقه تحسينا للظن بالصالحين. وَقيل: إِنَّهَا
تنْتَقل فِي يَوْم الْجُمُعَة وَلَا تلْزم سَاعَة مُعينَة
لَا ظَاهِرَة وَلَا مخفية، قَالَ الْغَزالِيّ: هَذَا أشبه
الْأَقْوَال، وَجزم بِهِ ابْن عَسَاكِر وَغَيره. وَقَالَ
الْمُحب الطَّبَرِيّ: إِنَّه هُوَ الْأَظْهر. وَقيل: إِذا
أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الْغَدَاة، ذكره ابْن أبي شيبَة.
وَقيل: من طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس،
وَرَوَاهُ ابْن عَسَاكِر من طَرِيق أبي جَعْفَر الرَّازِيّ
عَن لَيْث بن أبي سليم عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة،
قَوْله: وَقيل مثله، وَزَاد: وَمن الْعَصْر إِلَى
الْغُرُوب، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن خلف بن خَليفَة
عَن لَيْث ابْن أبي سليم عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة،
وَتَابعه فُضَيْل بن عِيَاض عَن لَيْث عَن ابْن الْمُنْذر،
وَقيل مثله وَزَاد: وَمَا بَين أَن ينزل الإِمَام من
الْمِنْبَر إِلَى أَن يكبر، رَوَاهُ حميد بن زَنْجوَيْه
فِي (التَّرْغِيب) لَهُ من طَرِيق عَطاء بن قُرَّة عَن عبد
الله بن سَمُرَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: التمسوا
السَّاعَة الَّتِي يُجَاب فِيهَا الدُّعَاء يَوْم
الْجُمُعَة فِي هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة، فَذكرهَا.
وَقيل: إِنَّهَا أول سَاعَة بعد طُلُوع الشَّمْس، حَكَاهُ
الْمُحب الطَّبَرِيّ. وَقيل: عِنْد طُلُوع الشَّمْس،
حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) وَقيل: فِي آخر
الثَّالِثَة من النَّهَار، لما رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (يَوْم
الْجُمُعَة فِيهِ طبعت طِينَة آدم، وَفِي آخِره ثَلَاث
سَاعَات مِنْهُ سَاعَة، من دعى الله تَعَالَى فِيهَا
اسْتُجِيبَ لَهُ) . وَفِي إِسْنَاده فَرح بن فضَالة وَهُوَ
ضَعِيف، وَعلي لم يسمع من أبي هُرَيْرَة. وَقيل: من
الزَّوَال إِلَى أَن يصير الظل نصف ذِرَاع، حَكَاهُ
الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي (الْأَحْكَام) وَقيل: مثله لَكِن
قَالَ إِلَى أَن يصير الظل ذِرَاعا، حَكَاهُ عِيَاض
والقرطبي وَالنَّوَوِيّ. وَقيل: بعد زَوَال الشَّمْس بشبر
إِلَى ذِرَاع، رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر وَابْن عبد الْبر
بِإِسْنَاد قوي إِلَى الْحَارِث بن يزِيد الْحَضْرَمِيّ
عَن عبد الرَّحْمَن بن حجيرة عَن أبي ذَر أَن امْرَأَته
سَأَلته عَنْهَا فَقَالَ ذَلِك. وَقيل: إِذا زَالَت
الشَّمْس، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي الْعَالِيَة،
وروى ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) : عَن عبيد الله بن
نَوْفَل نَحوه، وروى ابْن عَسَاكِر من طَرِيق سعيد بن أبي
عرُوبَة عَن قَتَادَة قَالَ: كَانُوا يرَوْنَ السَّاعَة
المستجاب فِيهَا الدُّعَاء إِذا زَالَت الشَّمْس. وَقيل:
إِذا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الْجُمُعَة، رَوَاهُ ابْن
الْمُنْذر عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
قَالَت: يَوْم الْجُمُعَة مثل يَوْم عَرَفَة تفتح فِيهِ
أَبْوَاب السَّمَاء، وَفِيه سَاعَة لَا يسْأَل الله فِيهَا
العَبْد شَيْئا إلاّ أعطَاهُ. قيل: أَيَّة سَاعَة؟ قَالَت:
إِذا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الْجُمُعَة، وَالْفرق بَينه
وَبَين القَوْل الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن الْأَذَان قد
يتَأَخَّر عَن الزَّوَال. وَقيل: من الزَّوَال إِلَى أَن
يدْخل الرجل فِي الصَّلَاة، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن أبي
السوار الْعَدوي، وَحَكَاهُ ابْن الصّباغ بِلَفْظ: إِلَى
أَن يدْخل الإِمَام. وَقيل: من الزَّوَال إِلَى خُرُوج
الإِمَام، حَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ:
وَقيل: من الزَّوَال إِلَى غرُوب الشَّمْس، حُكيَ عَن
الْحسن وَنَقله صَاحب (التَّوْضِيح) . وَقيل: مَا بَين
خُرُوج الإِمَام إِلَى أَن تُقَام الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْن
الْمُنْذر عَن الْحسن. وَقيل: عِنْد خُرُوج الإِمَام،
رُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن. وَقيل: مَا بَين خُرُوج الإِمَام
إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْن جرير من
طَرِيق إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن الشّعبِيّ. قَوْله: (من
طَرِيق مُعَاوِيَة) بن قُرَّة عَن أبي بردة لبن ابي
مُوسَى، قَوْله: (وَفِيه أَن ابْن عمر استصوب ذَلِك) .
وَقيل: مَا بَين أَن يحرم البيع إِلَى أَن يحل، رَوَاهُ
سعيد بن مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر عَن الشّعبِيّ. قَوْله:
(وَقيل مَا بَين الْأَذَان إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة) ،
رَوَاهُ حميد بن زَنْجوَيْه عَن ابْن عَبَّاس، وَحَكَاهُ
الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) عَنهُ. وَقيل: مَا بَين أَن
يجلس الإِمَام على الْمِنْبَر إِلَى أَن تَنْقَضِي
الصَّلَاة، رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق مخرمَة
بن بكير عَن أَبِيه عَن أبي بردة بن أبي مُوسَى أَن ابْن
عمر سَأَلَهُ عَمَّا سمع من أَبِيه فِي سَاعَة الْجُمُعَة،
فَقَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وسلمد، يَقُول، فَذكره. . وَيحْتَمل أَن يكون
هَذَا وَالْقَوْلَان اللَّذَان قبله متحدة. وَقيل: عِنْد
التأذين، وَعند تذكير الإِمَام، وَعند الْإِمَامَة،
رَوَاهُ حميد بن زَنْجوَيْه من طَرِيق سليم بن عَامر عَن
عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ الصَّحَابِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. وَقيل: مثله لَكِن قَالَ: إِذا أذن وَإِذا
رقي الْمِنْبَر، وَإِذا أُقِيمَت الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن أبي أُمَامَة
الصَّحَابِيّ. قَوْله. وَقيل: من حِين يفْتَتح الإِمَام
الْخطْبَة حَتَّى يفرغها، رَوَاهُ ابْن عبد الْبر من
طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن ابْن
عمر مَرْفُوعا، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقيل: إِذا بلغ
الْخَطِيب الْمِنْبَر وَأخذ فِي الْخطْبَة، حَكَاهُ
الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) . وَقيل: عِنْد الْجُلُوس
بَين الْخطْبَتَيْنِ حَكَاهُ الطَّيِّبِيّ عَن بعض شرَّاح
(المصابيح) . وَقيل: عِنْد نزُول الإِمَام عَن الْمِنْبَر،
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَحميد بن زَنْجوَيْه وَابْن جرير
وَابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى أبي إِسْحَاق
عَن أبي بردة قَوْله. وَقيل: حِين تُقَام الصَّلَاة حَتَّى
يقوم الإِمَام فِي مقَامه، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن
الْحسن
(6/243)
أَيْضا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من
حَدِيث مَيْمُونَة بنت سعد نَحوه مَرْفُوعا بِإِسْنَاد
ضَعِيف. وَقيل: من إِقَامَة الصَّلَاة إِلَى تَمام
الصَّلَاة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيق
كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده
مَرْفُوعا، وَفِيه قَالُوا: (أَيَّة سَاعَة يَا رَسُول
الله؟ قَالَ: حِين تُقَام الصَّلَاة إِلَى الِانْصِرَاف
مِنْهَا) . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان)
من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: (مَا بَين أَن ينزل الإِمَام
من الْمِنْبَر إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة) ، وَرَوَاهُ
ابْن أبي شيبَة من طَرِيق مُغيرَة عَن وَاصل الأحدب عَن
أبي بردة قَوْله، وَإِسْنَاده قوي، وَفِيه أَن ابْن عمر
اسْتحْسنَ ذَلِك مِنْهُ. وبرك عَلَيْهِ وَمسح على رَأسه،
وَرَوَاهُ ابْن جرير وَسَعِيد بن مَنْصُور عَن ابْن
سِيرِين نَحوه. وَقيل: هِيَ السَّاعَة الَّتِي كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهَا
الْجُمُعَة، رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن
ابْن سِيرِين. وَقيل: من صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب
الشَّمْس، رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن
ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَمن طَرِيق صَفْوَان بن سليم عَن
أبي سَلمَة عَن أبي سعيد مَرْفُوعا بِلَفْظ: (فالتمسوها
بعد الْعَصْر) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق مُوسَى
بن وردان عَن أنس مَرْفُوعا بِلَفْظ: بعد الْعَصْر إِلَى
غيبوبة الشَّمْس، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقيل: فِي صَلَاة
الْعَصْر، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن عمر بن أبي ذَر عَن
يحيى بن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا. وَقيل: بعد الْعَصْر إِلَى آخر
وَقت الِاخْتِيَار، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي (الْأَحْيَاء)
. وَقيل: بعد الْعَصْر مُطلقًا، رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق
مُحَمَّد بن سَلمَة الْأنْصَارِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة وَابْن سعيد مَرْفُوعا بِلَفْظ: (وَهِي بعد
الْعَصْر) ، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد مثله.
وَقيل: من حِين تصفر الشَّمْس إِلَى أَن تغيب، رَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن كيسَان عَن
طَاوُوس قَوْله. وَقيل: آخر سَاعَة بعد الْعَصْر، رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا، وَلَفظه: (يَوْم
الْجُمُعَة ثنتا عشرَة، يُرِيد سَاعَة لَا يُوجد مُسلم
يسْأَل الله شَيْئا إلاّ أَتَاهُ الله، فالتمسوها آخر
السَّاعَة يَوْم الْجُمُعَة) ، وَأخرجه النَّسَائِيّ
وَالْحَاكِم. وَقيل: من حِين يغيب نصف قرص الشَّمْس إِلَى
أَن يتكامل غُرُوبهَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْأَوْسَط) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل)
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) و (فَضَائِل الْأَوْقَات) من
طَرِيق زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم: (حَدَّثتنِي مرْجَانَة مولاة فَاطِمَة
بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت:
حَدَّثتنِي فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن
أَبِيهَا ... فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (قلت للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي سَاعَة هِيَ؟ قَالَ: إِذا تدلى
نصف الشَّمْس للغروب، فَكَانَت فَاطِمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا ...
فَهَذِهِ أَرْبَعُونَ قولا، وَكثير من هَذِه الْأَقْوَال
يُمكن اتحاده مَعَ غَيره. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ:
أصح الْأَحَادِيث فِيهَا حَدِيث أبي مُوسَى، وَأشهر
الْأَقْوَال فِيهَا قَول عبد الله بن سَلام. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُسلم أَنه قَالَ:
حَدِيث أبي مُوسَى أَجود شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وأصحه،
وَبِذَلِك قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ
وَجَمَاعَة آخَرُونَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هُوَ نَص فِي
مَوضِع الْخلاف فَلَا يلْتَفت إِلَى غَيره. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح بل الصَّوَاب، وَجزم فِي
(الرَّوْضَة) أَنه هُوَ الصَّوَاب، وَرجح أَيْضا
بِكَوْنِهِ مَرْفُوعا صَرِيحًا فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ،
وَذهب الأخرون إِلَى تَرْجِيح قَول عبد الله بن سَلام،
فَحكى التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: أَكثر
الْأَحَادِيث على ذَلِك. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه
أثبت شَيْء فِي هَذَا الْبَاب قلت: حَدِيث أبي مُوسَى
أخرجه مُسلم من رِوَايَة مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه عَن
أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: (قَالَ لي
عبد الله بن عمر: أسمعت أَبَاك؟ . .) الحَدِيث، وَقد
ذَكرْنَاهُ، وَلما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس وَأبي
هُرَيْرَة قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي مُوسَى وَأبي ذَر
وسلمان وَعبد الله بن سَلام وَأبي أُمَامَة وَسعد بن
عبَادَة. قلت: وَفِيه أَيْضا: عَن جَابر وَعلي بن أبي
طَالب وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَفَاطِمَة بنت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ومَيْمُونَة بنت سعد. فَحَدِيث أبي
مُوسَى عِنْد مُسلم كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَحَدِيث أبي ذَر
عِنْد. وَحَدِيث سلمَان عِنْد وَحَدِيث عبد الله بن سَلام
عِنْد ابْن مَاجَه. وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد ابْن
مَاجَه أَيْضا. وَحَدِيث سعد بن عبَادَة عِنْد أَحْمد
وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ. وَحَدِيث جَابر عِنْد أبي
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عِنْد
الْبَزَّار. وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد أَحْمد. وَحَدِيث
فَاطِمَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) .
وَحَدِيث مَيْمُونَة بنت سعد عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) [/ ح.
وَقَالَ شَيخنَا شَارِح التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي
هُرَيْرَة أَصَحهَا وَلَيْسَ بَين حَدِيث أبي هُرَيْرَة
وَبَين حَدِيث أبي مُوسَى اخْتِلَاف وَلَا تبَاين،
(6/244)
وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف بَين حَدِيث أبي
مُوسَى وَبَين الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَونهَا بعد
الْعَصْر أَو آخر سَاعَة مِنْهُ، فإمَّا أَن يُصَار إِلَى
الْجمع أوالترجيح، فَأَما الْجمع فَإِنَّمَا يُمكن بِأَن
يُصَار إِلَى القَوْل بالانتقال، وَإِن لم يقل بالانتقال
يكون الْأَمر بالترجيح، فَلَا شكّ أَن الْأَحَادِيث
الْوَارِدَة فِي كَونهَا بعد الْعَصْر أرجح لكثرتها
واتصالها بِالسَّمَاعِ، وَلِهَذَا لم يخْتَلف فِي رَفعهَا،
والاعتضاد بِكَوْنِهِ قَول أَكثر الصَّحَابَة فَفِيهَا
أوجه من وُجُوه التَّرْجِيح.
وَفِي حَدِيث أبي مُوسَى وَجه وَاحِد من وُجُوه
التَّرْجِيح، وَهُوَ كَونه فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ دون
بَقِيَّة الْأَحَادِيث، وَلَكِن عَارض كَونه فِي أحد
الصَّحِيحَيْنِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ
مُتَّصِلا بِالسَّمَاعِ بَين مخرمَة بن بكير وَبَين أَبِيه
بكير بن عبد الله بن الْأَشَج، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل:
مخرمَة ثِقَة وَلم يسمع من أَبِيه، وَقَالَ عَبَّاس الدوري
عَن ابْن معِين: مخرمَة ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ حَدِيثه
بِشَيْء، يَقُولُونَ: إِن حَدِيثه عَن أَبِيه كتاب.
وَالْأَمر الثَّانِي: أَن أَكثر الروَاة جَعَلُوهُ من قَول
أبي بردة مَقْطُوعًا، وَأَنه لم يرفعهُ غير مخرمَة عَن
أَبِيه، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا استدركه الدَّارَقُطْنِيّ
على مُسلم.
38 - (بابٌ إذَا نَفَرَ النَّاسُ عنُ الإمَامِ فِي صَلاَةِ
الجُمُعَةِ فَصَلاَةُ الإمَامِ ومَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا نفر النَّاس عَن الإِمَام
... إِلَى آخِره، يَعْنِي خَرجُوا عَن مجْلِس الإِمَام
وذهبوا. قَوْله: (فَصَلَاة الإِمَام) كَلَام إضافي
مُبْتَدأ. قَوْله: (وَمن بَقِي) ، عطف عَلَيْهِ، أَي:
وَصَلَاة منبقي من الْقَوْم مَعَ الإِمَام. قَوْله:
(جَائِزَة) خبر الْمُبْتَدَأ. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ:
تَامَّة. وَظَاهر هَذِه التَّرْجَمَة يدل على أَن
البُخَارِيّ، رَحمَه الله، لَا يرى اسْتِمْرَار الْجُمُعَة
الَّذين تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة إِلَى تَمامهَا شرطا فِي
صِحَة الْجُمُعَة، وَسَيَجِيءُ بَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ
مفصلا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
936 - حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا
زَائِدَةُ عنْ حُصَيْنٍ عنْ سَالِمِ بنِ أبِي الجَعْدِ
قَالَ حدَّثنا جابِرُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ بَيْنَما
نَحْنُ نُصَلِّي معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذْ
أقْبلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَاما فالْتَفَتُوا إلَيْهَا
حَتَّى مَا بقِيَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إلاّ اثْنا عشَرَ رَجُلاً فنَزلَتْ هاذِهِ الآيَةُ وَإِذا
رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انفًضُّوا إِلَيْهَا وترَكُوكَ
قَائِما. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّحَابَة لما
انْفَضُّوا حِين إقبال العير وَلم يبْق مِنْهُم إلاّ
اثْنَا عشر نفسا أتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صَلَاة الْجُمُعَة بهم، لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه أعَاد
الظّهْر، فَدلَّ على التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن
الْمُهلب الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، أَصله كُوفِي، مَاتَ
فِي جمادي الأولى سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: زَائِدَة بن قدامَة أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي.
الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد
الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَبعدهَا نون: ابْن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ.
الرَّابِع: سَالم بن أبي الْجَعْد وَاسم أبي الْجَعْد
رَافع الْكُوفِي. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله
الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ
روى هُنَا عَن مُعَاوِيَة بن عمر وَبلا وَاسِطَة وروى فِي
مَوَاضِع عَنهُ بِوَاسِطَة عبد الله بن المسندي وَمُحَمّد
بن عبد الرَّحِيم وَأحمد بن أبي رَجَاء. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي وواسطي، وَقد علم ذَلِك
مِمَّا سلف. وَفِيه: أَن مدَار هَذَا الحَدِيث فِي
الصَّحِيحَيْنِ على حُصَيْن الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ تَارَة
يرويهِ عَن سَالم بن أبي الْجَعْد وَحده كَمَا هُنَا،
وَهِي رِوَايَة أَكثر أَصْحَابه، وَتارَة عَن أبي سُفْيَان
طَلْحَة بن نَافِع وَحده، وَهِي رِوَايَة قيس بن الرّبيع
وَإِسْرَائِيل عِنْد ابْن مرْدَوَيْه، وَتارَة جمع
بَينهمَا عَن جَابر وَهِي رِوَايَة خَالِد بن عبد الله
عِنْد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير، وَعند مُسلم وَكَذَا
رِوَايَة هشيم عِنْده أَيْضا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْبيُوع عَن طلق بن غَنَّام عَن زَائِدَة
وَعَن مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل
وَفِي التَّفْسِير عَن حَفْص بن عمر عَن خَالِد بن عبد
الله. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عُثْمَان ابْن أبي
شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَعَن رِفَاعَة بن الْهَيْثَم وَعَن إِسْمَاعِيل بن
سَالم. وَأخرجه
(6/245)
التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد
بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّلَاة عَن
عبد الله بن أَحْمد بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد مر غير مرّة أَن
أَصله: بَين، فزيدت عَلَيْهِ: الْألف وَالْمِيم، وأضيف
إِلَى الْجُمْلَة بعده. وَقَوله: (إِذا أَقبلت) جَوَابه،
ويروى: (بَينا) بِدُونِ الْمِيم. قَوْله: (نَحن نصلي)
ظَاهره أَن انفضاضهم كَانَ بعد دُخُولهمْ فِي الصَّلَاة،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة خَالِد بن عبد الله عِنْد
أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : (بَيْنَمَا نَحن مَعَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الصَّلَاة) .
وَلَكِن وَقع عِنْد مُسلم: (وَرَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب) وَله فِي رِوَايَة: (بَينا
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِم) وَزَاد أَبُو
عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ
من طَرِيقه: (يخْطب) . فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين
الْكَلَامَيْنِ؟ قلت: قَالُوا: قَوْله: (نصلي) أَي:
نَنْتَظِر الصَّلَاة، وَهُوَ معنى: قَوْله: (فِي
الصَّلَاة) فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي الْخطْبَة، وَهُوَ
من تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا قاربه. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَالْمرَاد بِالصَّلَاةِ انتظارها فِي حَال الْخطْبَة
ليُوَافق رِوَايَة مُسلم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ:
مَعْنَاهُ حَضَرنَا الصَّلَاة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يخْطب يَوْمئِذٍ قَائِما، وَبَين هَذَا فِي حَدِيث
جَابر أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخْطب
قَائِما. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْأَشْبَه أَن يكون
الصَّحِيح رِوَايَة من روى أَن ذَلِك كَانَ فِي الْخطْبَة.
قلت: إِخْرَاج كَلَام جَابر الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ
يُؤَدِّي إِلَى عدم مطابقته للتَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ وضع
التَّرْجَمَة فِي نفور الْقَوْم عَن الإِمَام وَهُوَ فِي
الصَّلَاة، وَمَا ذكره يدل على أَنهم نفروا وَالْإِمَام
يخْطب. قَوْله: (عير) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهِي
الْإِبِل الَّتِي تحمل التِّجَارَة طَعَاما كَانَت أَو
غَيره، وَهِي مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأذن
مُؤذن أيتها العير} (يُوسُف: 70) . إِنَّهَا الْإِبِل
الَّتِي عَلَيْهَا الْأَحْمَال لِأَنَّهَا تعير أَي: تذْهب
وتجيء. وَقيل: هِيَ قافلة الْحمير، ثمَّ كثر حَتَّى قيل
لكل قافلة: عير، كَأَنَّهَا جمع: عير، بِفَتْح الْعين
وَالْمرَاد: أَصْحَاب العير، فعلى هَذَا إِسْنَاد الإقبال
إِلَى العير مجَاز وَفِي (الْمُحكم) : وَالْجمع: عيرات
وعير، وَنقل عبد الْحق فِي جمعه: أَن البُخَارِيّ لم يخرج
قَوْله: (إِذا أَقبلت عير تحمل طَعَاما) ، وَلَيْسَ
كَذَلِك، فَإِنَّهُ ثَبت هُنَا وَفِي أَوَائِل الْبيُوع،
نعم سقط ذَلِك فِي التَّفْسِير. وَزَاد البُخَارِيّ فِي
الْبيُوع، أَنَّهَا أَقبلت من الشَّام، وَمثله لمُسلم من
طَرِيق جرير عَن حُصَيْن فَإِن قلت: لمن كَانَت العير
الْمَذْكُورَة؟ قلت: فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق
السّديّ أَن الَّذِي قدم بهَا من الشَّام هُوَ دحْيَة بن
خَليفَة الْكَلْبِيّ، وَقَالَ السُّهيْلي: ذكر أهل
الحَدِيث أَن دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ قدم من
الشَّام بعير لَهُ تحمل طَعَاما وَبرا، وَكَانَ النَّاس
إِذْ ذَاك مُحْتَاجين، فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتركُوا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة ابْن
مرْدَوَيْه من طَرِيق الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: جائت
عير لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت:
قيل جمع بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن التِّجَارَة
كَانَت لعبد الرَّحْمَن وَكَانَ دحْيَة السفير فِيهَا.
قلت: يحْتَمل أَن يَكُونَا مشتركين فَصحت نسبتها لكل
مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَار. قَوْله: (فالتفتوا
إِلَيْهَا) أَي: إِلَى العير، وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل
فِي الْبيُوع: (فانفض النَّاس) أَي: فَتفرق النَّاس،
وَهُوَ مُوَافق لنَصّ الْقُرْآن، فَدلَّ هَذَا على أَن
المُرَاد من الِالْتِفَات: الِانْصِرَاف، وَبِهَذَا يرد
على من حمل الِالْتِفَات على ظَاهره حَيْثُ قَالَ: لَا
يفهم من هَذَا الِانْصِرَاف عَن الصَّلَاة وقطعها،
وَإِنَّمَا الَّذِي يفهم مِنْهُ التفاتهم بِوُجُوهِهِمْ
أَو بقلوبهم، وَيرد هَذَا أَيْضا قَوْله: (حَتَّى مَا
بَقِي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا
اثْنَا عشر رجلا) فَإِن بَقَاء اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم
يدل على أَن البَاقِينَ مَا بقوا مَعَه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي قَوْله: (فالتفتوا) ،
الْتِفَات لِأَن السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يَقُول:
فالتفتنا، وَكَأن النُّكْتَة فِي عدُول جَابر عَن ذَلِك
أَنه هُوَ لم يكن مِمَّن الْتفت. قلت: لَيْسَ فِيهِ
الْتِفَات، لِأَن جَابِرا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
كَانَ من الاثْنَي عشر، على مَا جَاءَ أَنه قَالَ: وَأَنا
فيهم، فَيكون هَذَا إِخْبَارًا عَن الَّذين انْفَضُّوا،
فَلَا عدُول فِيهِ عَن الأَصْل. قَوْله: (إلاّ اثْنَا عشر)
اسْتثِْنَاء من الضَّمِير الَّذِي فِي لَفظه: بَقِي،
الَّذِي يعود إِلَى الْمُصَلِّي، فَإِذا كَانَ كَذَلِك
يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، وَجَاءَت الرِّوَايَة بهما،
وَلَا يُقَال: إِن الِاسْتِثْنَاء مفرغ، فَيتَعَيَّن
الرّفْع لِأَن إعرابه على حسب العوامل، لِأَن مَا ذكر
يمْنَع أَن يكون مفرغا. وَهنا وَجه آخر لجَوَاز الرّفْع
وَالنّصب، أما الرّفْع فَيكون الْمُسْتَثْنى فِيهِ محذوفا
تَقْدِيره: مَا بَقِي أحد مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إلاّ عدد كَانُوا اثْنَي عشر رجلا، وَأما النصب
فلإعطاء اثْنَي عشر حكم أخواته الَّتِي هِيَ ثَلَاثَة عشر
وَأَرْبَعَة عشر وَغَيرهمَا، لِأَن الأَصْل فِيهَا الْبناء
لتضمنها الْحَرْف. فَافْهَم.
ثمَّ تعْيين عدد الَّذين بقوا مَعَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا هُوَ فِي (الصَّحِيح) وهم: اثْنَي
عشر، وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ لَيْسَ مَعَه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلاّ أَرْبَعِينَ رجلا أَنا فيهم، ثمَّ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يقل كَذَلِك
(6/246)
إلاّ عَليّ بن عَاصِم عَن حُصَيْن،
وَخَالفهُ أَصْحَاب حُصَيْن فَقَالُوا: اثْنَي عشر رجلا،
وَفِي (الْمعَانِي) للفراء إلاّ ثَمَانِيَة نفر، وَفِي
تَفْسِير عبد بن حميد: إلاّ سَبْعَة. وَوَقع فِي (تَفْسِير
الطَّبَرِيّ) وَابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى
قَتَادَة (قَالَ: قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: كم أَنْتُم؟ فعدوا أنفسهم فَإِذا اثْنَا عشر رجلا
وَامْرَأَة) . وَفِي تَفْسِير إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد
الشَّامي: وَامْرَأَتَانِ، وَلابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث
ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: وَسبع
نسْوَة، لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف.
وَأما تسميتهم فَوَقع فِي رِوَايَة خَالِد الطَّحَّان
عِنْد مُسلم أَن جَابِرا قَالَ: أَنا فيهم، وَله فِي
رِوَايَة هشيم: فيهم أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. وَفِي تَفْسِير إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد
الشَّامي: أَن سالما مولى أبي حُذَيْفَة مِنْهُم، روى
الْعقيلِيّ عَن ابْن عَبَّاس: أَن مِنْهُم الْخُلَفَاء
الْأَرْبَعَة وَابْن مَسْعُود وأناس من الْأَنْصَار، وَحكى
السُّهيْلي أَن أَسد بن عَمْرو روى بِسَنَد مُنْقَطع أَن
الاثْنَي عشر هم: الْعشْرَة المبشرة وبلال وَابْن
مَسْعُود. قَالَ: وَفِي رِوَايَة: عمار، بدل: ابْن
مَسْعُود. وأهمل جَابِرا، وَهُوَ مِنْهُم. كَمَا ذكر فِي
الصَّحِيح.
قَوْله: (فَنزلت هَذِه الْآيَة) ظَاهر هَذَا أَن سَبَب
نزُول هَذِه الْآيَة قدوم العير الْمَذْكُورَة، وَفِي
(مَرَاسِيل أبي دَاوُد) : حَدثنَا مَحْمُود بن خَالِد
حَدثنَا الْوَلِيد أَخْبرنِي بكير بن مَعْرُوف أَنه سمع
مقَاتل بن حبَان قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْجُمُعَة قبل الْخطْبَة مثل
الْعِيدَيْنِ، حَتَّى كَانَ يَوْم جُمُعَة، وَالنَّبِيّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، وَقد صلى الْجُمُعَة فَدخل
رجل فَقَالَ: إِن دحْيَة قدم بتجارته، وَكَانَ دحْيَة إِذا
قدم تَلقاهُ أَهله بِالدُّفُوفِ، فَخرج النَّاس لم
يَظُنُّوا إلاّ أَنه لَيْسَ فِي ترك الْخطْبَة شَيْء،
فَأنْزل الله عز وَجل: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة}
(الْجُمُعَة: 11) . الْآيَة، فَقدم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة وَأخر
الصَّلَاة، فَكَانَ أحد لَا يخرج لرعاف أَو حدث بعد
النَّهْي حَتَّى يسْتَأْذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يُشِير إِلَيْهِ بإصبعه الَّتِي تلِي الْإِبْهَام،
فَيَأْذَن لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يُشِير
إِلَيْهِ بِيَدِهِ) قَالَ السُّهيْلي: هَذَا، وَإِن لم
ينْقل من وَجه ثَابت، فالظن الْجَمِيل بالصحابة يُوجب أَن
يكون صَحِيحا. وَقَالَ عِيَاض: وَقد أنكر بَعضهم كَونه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خطب قطّ بعد صَلَاة الْجُمُعَة، وَفِي
(سنَن الشَّافِعِي) رَحمَه الله: عَن إِبْرَاهِيم بن
مُحَمَّد (حَدثنِي جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه: كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة،
وَكَانَت لَهُم سوق يُقَال لَهَا: الْبَطْحَاء، كَانَت
بَنو سليم يجلبون إِلَيْهَا الْخَيل وَالْإِبِل وَالسمن،
وَقدمُوا فَخرج إِلَيْهِم النَّاس وَتركُوا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ لَهُم لَهو إِذا تزوج
أحد من الْأَنْصَار يضربونه، يُقَال لَهُ: الْكبر، فعيرهم
الله بذلك فَقَالَ: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا}
(الْجُمُعَة: 11) . وَهُوَ مُرْسل، لِأَن مُحَمَّد الباقر
من التَّابِعين، وَوَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه)
والطبري يذكر جَابِرا فِيهِ: أَنهم كَانُوا إِذْ نكحوا
تضرب لَهُم الْجَوَارِي بالمزامير فيشتد النَّاس إِلَيْهِم
وَيدعونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلمقائما، فَنزلت
هَذِه الْآيَة، وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: حَدثنَا يعلى
عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس: قدم
دحْيَة بِتِجَارَة فَخَرجُوا ينظرُونَ إلاّ سَبْعَة نفر،
وَأَخْبرنِي عَمْرو بن عَوْف عَن هشيم عَن يُونُس، (عَن
الْحسن قَالَ: فَلم يبْق مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إلاّ رَهْط مِنْهُم: أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، فَنزلت هَذِه الْآيَة: {وَإِذا رَأَوْا
تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11) . فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو تَتَابَعْتُمْ
حَتَّى لَا يبْقى معي أحد مِنْكُم لَسَالَ بكم الْوَادي
نَارا) . حَدثنَا يُونُس عَن شَيبَان (عَن قَتَادَة قَالَ:
ذكر لنا أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ
يَوْم جُمُعَة فخطبهم، فَقيل: جَاءَت عير، فَجعلُوا
يقومُونَ حَتَّى بقيت عِصَابَة مِنْهُم، فَقَالَ: كم
أَنْتُم فعدوا أنفسهم فَإِذا اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة،
ثمَّ قَامَ الْجُمُعَة الثَّانِيَة فخطبهم ووعظهم فَقيل:
جَاءَت عير، فَجعلُوا يقومُونَ حَتَّى بقيت مِنْهُم
عِصَابَة، فَقيل لَهُم: كم أَنْتُم فعدوا أنفسهم فَإِذا
اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة. فَقَالَ: وَالَّذِي نفس
مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو اتبع آخركم أولكم لألهب الْوَادي
عَلَيْكُم نَارا، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهَا مَا
تَسْمَعُونَ: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11)
. الْآيَة) . حَدثنَا شَيبَان عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لَهو}
(الْجُمُعَة: 11) . قَالَ: كَانَ رجال يقومُونَ إِلَى
نواضحهم وَإِلَى السّفر يقدمُونَ يتبعُون التِّجَارَة
وَاللَّهْو. وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : جمع
إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي عَن جُوَيْبِر عَن
الضَّحَّاك عَن أبان (عَن أنس: بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب يَوْم الْجُمُعَة
إِذْ سمع أهل الْمَسْجِد صَوت الطبول والمزامير، وَكَانَ
أهل الْمَدِينَة إِذا قدمت عَلَيْهِم العير من الشَّام
بِالْبرِّ وَالزَّبِيب استقبلوها فَرحا بالمعازف، فَقدمت
عير لدحية وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب،
فتركوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَرجُوا،
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من هَهُنَا؟
فَقَالَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود
وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة. . فَإِذا اثْنَا عشر رجلا
وَامْرَأَتَانِ. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو
اتبع آخركم أولكم لاضطرم الْوَادي عَلَيْكُم نَارا،
وَلَكِن الله تطول على بكم
(6/247)
فَرفع الْعقُوبَة بكم عَمَّن خرج، فَنزلت
الْآيَة. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَكَانُوا إِذا
أَقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وَهُوَ المُرَاد
باللهو، وَفِيه أَيْضا: (بَينا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، إِذْ قدم دحْيَة
بن خَليفَة الْكَلْبِيّ ثمَّ أحد بني الْخَزْرَج ثمَّ أحد
بني زيد بن مَنَاة من الشَّام بِتِجَارَة، وَكَانَ إِذا
قدم لم يبْق بِالْمَدِينَةِ عاتق، وَكَانَ يقدم إِذا قدم
بِكُل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من دَقِيق أَو بر أَو غَيره،
فَنزل عِنْد أَحْجَار الزَّيْت، وَهُوَ مَكَان فِي سوق
الْمَدِينَة، ثمَّ يضْرب الطبل ليؤذن النَّاس بقدومه
فَيخرج إِلَيْهِ النَّاس ليبتاعوا مِنْهُ، فَقدم ذَات
يَوْم جُمُعَة، وَكَانَ ذَلِك قبل أَن يسلم، وَرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم على الْمِنْبَر يخْطب،
فَخرج إِلَيْهِ النَّاس فَلم يبْق فِي الْمَسْجِد إلاّ
اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: كم بَقِي فِي الْمَسْجِد؟ فَقَالُوا:
اثْنَي عشر رجلا وَامْرَأَة. فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لَوْلَا هَؤُلَاءِ لقد سومت لَهُم
الْحِجَارَة من السَّمَاء، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة) .
قَوْله: (انْفَضُّوا إِلَيْهَا) من الانفضاض، وَهُوَ
التَّفَرُّق. يُقَال: فضضت الْقَوْم فَانْفَضُّوا أَي:
فرقتهم فَتَفَرَّقُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: كَيفَ
قَالَ: إِلَيْهَا، وَقد ذكر شَيْئَيْنِ؟ قلت: تَقْدِيره
إِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا
انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَحذف أَحدهمَا لدلَالَة الْمَذْكُور
عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَة من قَرَأَ: انْفَضُّوا
إِلَيْهِ، وَقِرَاءَة من قَرَأَ لهوا أَو تِجَارَة
انْفَضُّوا إِلَيْهَا. وقرىء: إِلَيْهِمَا. انْتهى. وَقيل:
أُعِيد الضَّمِير إِلَى التِّجَارَة فَقَط لِأَنَّهَا
كَانَت أهم إِلَيْهِم. وَقَالَ الزّجاج: يجوز فِي
الْكَلَام: انْفَضُّوا إِلَيْهِ وإليها وإليهما، وَلِأَن
الْعَطف إِذا كَانَ ضميرا فقياسه عوده إِلَى أَحدهمَا لَا
إِلَيْهِمَا، وَأَن الضَّمِير أُعِيد إِلَى الْمَعْنى دون
اللَّفْظ أَي: انْفَضُّوا إِلَى الرُّؤْيَة الَّتِي رأوها،
أَي: مالوا إِلَى طلب مَا رَأَوْهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد من ظَاهر حَدِيث
الْبَاب أَن الْقَوْم إِذا نفروا عَن الإِمَام وَهُوَ فِي
صَلَاة الْجُمُعَة فَصَلَاة من بَقِي وَصَلَاة الإِمَام
على حَالهَا، فَلذَلِك ترْجم البُخَارِيّ الْبَاب بقوله:
بَاب إِذا نفر النَّاس. . إِلَى آخِره. وَقَالَ ابْن بطال:
اخْتلف الْعلمَاء فِي الإِمَام يفْتَتح صَلَاة الْجُمُعَة
بِجَمَاعَة ثمَّ يتفرقون، فَقَالَ الثَّوْريّ: إِذا
ذَهَبُوا إلاّ رجلَيْنِ صلى رَكْعَتَيْنِ، وَإِن بَقِي
وَاحِد صلى أَرْبعا. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: يُصليهَا
جُمُعَة. انْتهى. قلت: إِذا اقْتدى النَّاس بِالْإِمَامِ
فِي صَلَاة الْجُمُعَة ثمَّ عرض للنَّاس عَارض أداهم إِلَى
النفور فنفروا وَبَقِي الإِمَام وَحده، وَذَلِكَ قبل أَن
يرْكَع وَيسْجد اسْتقْبل الظّهْر عِنْد أبي حنيفَة،
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: إِن نفروا عَنهُ
بَعْدَمَا افْتتح الصَّلَاة صلى الْجُمُعَة، وَإِن بَقِي
وَحده. وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ: فِي قَول، وَإِن نفروا
عَنهُ بَعْدَمَا ركع وَسجد سَجْدَة بنى على الْجُمُعَة،
فِي قَوْلهم جَمِيعًا، خلافًا لزفَر، فَعنده: يُصَلِّي
الظّهْر، وَعند مَالك: ان انْفَضُّوا بعد الْإِحْرَام ويئس
من رجوعهم بنى على إِحْرَامه أَرْبعا، وإلاّ جعلهَا
نَافِلَة وانتظرهم، وَإِن انْفَضُّوا بعد رَكْعَة، قَالَ
أَشهب وَعبد الْوَهَّاب: يُتمهَا جُمُعَة، وَهُوَ
اخْتِيَار الْمُزنِيّ. وَقَالَ سَحْنُون: هُوَ كَمَا بعد
الْإِحْرَام، فتشترط إِلَى الِانْتِهَاء. وَقَالَ
إِسْحَاق: إِن بَقِي مَعَه اثْنَا عشر صلى الْجُمُعَة،
وَظَاهر كَلَام أَحْمد اسْتِدَامَة الْأَرْبَعين.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَو أحرم بالأربعين الْمَشْرُوطَة
ثمَّ انْفَضُّوا، فَفِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَصَحهَا:
يُتمهَا ظهرا كالابتداء، وللمزني تخريجان: أَحدهمَا:
يُتمهَا جُمُعَة وَحده، وَالثَّانِي: إِن صلى رَكْعَة
بسجدتيها أتمهَا جُمُعَة. وَقيل: إِن بَقِي مَعَه وَاحِد
أتمهَا جُمُعَة، نَص عَلَيْهِ فِي الْقَدِيم وَذكر ابْن
الْمُنْذر: إِن بَقِي مَعَه اثْنَان أتمهَا جُمُعَة. وَهِي
رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّقْرِيب) :
يحْتَمل أَن يَكْتَفِي بِالْعَبدِ وَالْمُسَافر، وَأقَام
الْمَاوَرْدِيّ الصَّبِي وَالْمَرْأَة مقامهما،
فَالْحَاصِل بَقَاء الْأَرْبَعين فِي كل الصَّلَاة، هَل
هُوَ شَرط أم لَا؟ قَولَانِ: فَإِن قُلْنَا: لَا، فَهَل
يشْتَرط بَقَاء عدد أم لَا؟ فَقَوْلَانِ: فَإِن قُلْنَا:
لَا. فَهَل يفصل بَين الرَّكْعَة الأولى وَالثَّانيَِة أم
لَا؟ قَولَانِ، فَإِن قُلْنَا: نعم فكم يشْتَرط؟ قَولَانِ:
أَحدهمَا: ثَلَاثَة، وَالْآخر، إثنان فَإِذا أردْت
اخْتِصَار ذَلِك؟ قلت: فِي الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: يُتمهَا ظهرا كَيفَ مَا كَانَ، وَهُوَ الصَّحِيح.
وَالثَّانِي: جُمُعَة كَيفَ مَا كَانَ. وَالثَّالِث: إِن
بَقِي مَعَه إثنان أتمهَا جُمُعَة. وإلاّ ظهرا. الرَّابِع:
إِن بَقِي مَعَه وَاحِد أتمهَا جُمُعَة. وَالْخَامِس: إِن
انْفَضُّوا أَو بَعضهم بعد تَمام الرَّكْعَة بسجدتيها
أتمهَا جُمُعَة وإلاّ ظهرا.
قلت: الأَصْل أَن الْجَمَاعَة من شَرَائِط الْجُمُعَة
لِأَنَّهَا مُشْتَقَّة مِنْهَا. وأجمعت الْأمة على أَن
الْجُمُعَة لَا تصح من الْمُنْفَرد إلاّ مَا ذكر ابْن حزم
فِي (الْمحلى) عَن بعض النَّاس: أَن الْفَذ يُصَلِّي
الْجُمُعَة كالظهر. ثمَّ أقل الْجَمَاعَة عِنْد أبي حنيفَة
ثَلَاثَة سوى الإِمَام، وَبِه قَالَ زفر وَاللَّيْث بن
سعد، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْأَوْزَاعِيّ
وَالثَّوْري فِي قَول وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ
الْمُزنِيّ وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: اثْنَان سوى
الإِمَام. وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَالثَّوْري فِي قَول:
وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، ثمَّ الْجَمَاعَة
للْجُمُعَة شَرط تأحكد العقد بِالسَّجْدَةِ عِنْد أبي
حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا للشروع، وَعند زفر يشْتَرط دوامها
كالوقت
(6/248)
وَالطَّهَارَة، وَفَائِدَة الْخلاف تظهر
فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَنْهُم الْآن.
وَفِي الْعدَد الَّذِي تصح بِهِ الْجُمُعَة أَرْبَعَة عشر
قولا. ثَلَاثَة سوى الإِمَام عِنْد أبي حنيفَة، وإثنان
سواهُ عِنْدهمَا، وَوَاحِد سواهُ عِنْد النَّخعِيّ
وَالْحسن بن حَيّ وَجَمِيع الظَّاهِرِيَّة، وَسَبْعَة عَن
عِكْرِمَة، وَتِسْعَة وَاثنا عشر عَن ربيعَة، وَثَلَاثَة
عشر وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ عَن مَالك فِي رِوَايَة ابْن
حبيب، وَأَرْبَعُونَ موَالِي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز،
وَأَرْبَعُونَ أحرارا بالغين عقلاء مقيمين لَا يظعنون صيفا
وَلَا شتاءً إلاّ ظعن حَاجَة عِنْد الشَّافِعِي، وَأحمد
فِي ظَاهر قَوْله، وَخَمْسُونَ رجلا عَن أَحْمد فِي
رِوَايَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي رِوَايَة،
وَثَمَانُونَ ذكره الْمَازرِيّ وَغير مَحْدُود بِعَدَد
ذكره الْمَازرِيّ أَيْضا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي
الحَدِيث دَلِيل لمَالِك حَيْثُ قَالَ: تَنْعَقِد
الْجُمُعَة بإثني عشر، وَأجَاب الشَّافِعِي بِأَنَّهُ
مَحْمُول على أَنهم رجعُوا أَو رَجَعَ مِنْهُم تَمام
أَرْبَعِينَ، فَأَتمَّ بهم الْجُمُعَة. قلت: فِي
اسْتِدْلَال مَالك نظر، وَكَذَا فِي جَوَاب
الشَّافِعِيَّة، لِأَنَّهُ لم يرد أَنه أتم الصَّلَاة،
وَيحْتَمل أَنه أتمهَا ظهرا. وَقيل: إِن إِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه ذهب إِلَى ظَاهر هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِذا
تفَرقُوا بعد الِانْعِقَاد يشْتَرط بَقَاء اثْنَي عشر،
وَتعقب بِأَنَّهَا وَاقعَة عين لَا عُمُوم لَهَا، وَقَالَ
بَعضهم: ترجح كَون انفضاض الْقَوْم وَقع فِي الْخطْبَة لَا
فِي الصَّلَاة،، وَهُوَ اللَّائِق بالصحابة تحسينا للظن
بهم. وَقَالَ الْأصيلِيّ: وصف الله تَعَالَى الصَّحَابَة
بِخِلَاف هَذَا فَقَالَ: {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة
وَلَا بيع عَن ذكر الله} (النُّور: 37) . قلت: قيل: إِن
نزُول الْآيَة بعد وُقُوع هَذَا الْأَمر على أَنه لَيْسَ
فِي الْآيَة تَصْرِيح بنزولها فِي الصَّحَابَة، وَلَئِن
سلمنَا فَلم يكن تقدم لَهُم نهي عَن ذَلِك، فَلَمَّا نزلت
آيَة الْجُمُعَة وفهموا مِنْهَا ذمّ ذَلِك اجتنبوه فوصفوا
بعد ذَلِك بِآيَة النُّور.
39 - (بابُ الصَّلاةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ وقَبْلَهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كمية الصَّلَاة بعد صَلَاة
الْجُمُعَة وَقبلهَا.
9337 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّي قبْلَ
الظُّهْرِ ركْعَتَيْنِ وبعْدَهَا ركْعَتَيْنِ وبَعْدَ
المغْرِبِ ركْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وبَعْدَ العِشَاءِ
رَكْعَتَيْنِ وكانَ لاَ يُصَلِّي بَعْدَ الجُمُعَةِ حَتَّى
ينْصَرِفَ فَيُصَلِّي ركْعَتَيْنِ ...
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ لَا يُصَلِّي
بعد الْجُمُعَة. .) إِلَى آخِره. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة
مُشْتَمِلَة على بعد الْجُمُعَة وَقبلهَا، وَلَيْسَ فِي
الحَدِيث إلاّ بعْدهَا؟ قلت: أُجِيب عَنهُ من وُجُوه:
الأول: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق
حَدِيث الْبَاب وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن
حبَان من طَرِيق أَيُّوب، (عَن نَافِع قَالَ: كَانَ ابْن
عمر يُطِيل الصَّلَاة قبل الْجُمُعَة وَيُصلي بعْدهَا
رَكْعَتَيْنِ، وَيحدث أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: كَانَ يفعل ذَلِك وَقد جرت عَادَته بِمثل ذَلِك) .
وَالثَّانِي: أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى اسْتِوَاء الظّهْر
وَالْجُمُعَة حَتَّى يدل الدَّلِيل على خِلَافه، لِأَن
الْجُمُعَة بدل الظّهْر، وَكَانَت عنايته بِحكم الصَّلَاة
بعْدهَا أَكثر، فَلذَلِك ذكره فِي التَّرْجَمَة مقدما على
خلاف الْعَادة فِي تَقْدِيم الْقبل على الْبعد.
وَالثَّالِث: وُرُود الْخَبَر فِي الْبعد صَرِيح،
وَأَشَارَ إِلَى الَّذِي فِيهِ الْقبل، فَذكر الَّذِي
فِيهِ الْبعد صَرِيحًا، وَأَشَارَ الَّذِي فِيهِ الْقبل.
وَأما رجال الحَدِيث فقد ذكرُوا غير مرّة.
وَأما من أخرجه غَيره: فقد أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق مَالك عَن نَافِع إِلَى آخِره.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم
عَن ابْن عمر عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (أَنه كَانَ يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ)
. وَأخرجه ابْن ماجة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن
الزُّهْرِيّ، وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث
سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ
مِنْكُم مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل أَرْبعا) . وَفِي
(سنَن سعيد ابْن مَنْصُور) : عَن أبي عبد الرَّحْمَن
السّلمِيّ، قَالَ: (علمنَا ابْن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَن نصلي بعد الْجُمُعَة أَرْبعا،
فَلَمَّا قدم علينا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، علمنَا أَن نصلي سِتا. .) . وروى ابْن
حبَان من حَدِيث عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (مَا من صَلَاة مَفْرُوضَة إلاّ وَبَين يَديهَا
رَكْعَتَانِ) . وَعند أبي دَاوُد، وَقَالَ: هُوَ مُرْسل:
(عَن أبي قَتَادَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كره الصَّلَاة نصف النَّهَار إلاّ يَوْم الْجُمُعَة)
. وَقَالَ: (إِن جَهَنَّم تسجر إلاّ يَوْم الْجُمُعَة) .
وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله، رَوَاهُ
(6/249)
الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم شَيْخه. وَفِي
(الْأَوْسَط) للطبراني من حَدِيث ابْن عُبَيْدَة عَن
أَبِيه (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ
يُصَلِّي قبل الْجُمُعَة أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا) .
وَعند ابْن مَاجَه بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْكَع
قبل الْجُمُعَة أَرْبعا لَا يفصل فِي شَيْء مِنْهُنَّ) ،
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) :
بِرِجَال ابْن مَاجَه، وَهِي رِوَايَة بَقِيَّة عَن مُبشر
بن عبيد عَن حجاج بن أَرْطَاة عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ
عَن ابْن عَبَّاس، فَزَاد فِيهِ: (وَبعدهَا أَرْبعا) .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : هَذَا حَدِيث
بَاطِل اجْتمع فِيهِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة وهم ضعفاء،
ومبشر وضَّاع صَاحب أباطيل. قلت: بَقِيَّة بن الْوَلِيد
موثق وَلكنه مُدَلّس، وحجاج صَدُوق روى لَهُ مُسلم
مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وعطية مَشاهُ يحيى بن معِين فَقَالَ
فِيهِ: صَالح وَلَكِن ضعفهما الْجُمْهُور.
قَوْله: (حَتَّى ينْصَرف) أَي: إِلَى الْبَيْت. قَوْله:
(فَيصَلي) بِالرَّفْع لَا بِالنّصب.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن صَلَاة النَّوَافِل فِي
الْبَيْت أولى، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أعَاد ابْن
عمر ذكر الْجُمُعَة بعد ذكر الظّهْر من أجل أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي سنة الْجُمُعَة فِي بَيته،
بِخِلَاف الظّهْر، قَالَ: وَالْحكمَة فِيهِ أَن الْجُمُعَة
لما كَانَت بدل الظّهْر وَاقْتصر فِيهَا على رَكْعَتَيْنِ
ترك التَّنَفُّل بعْدهَا فِي الْمَسْجِد خشيَة أَن يظنّ
أَنَّهَا الَّتِي حذفت. انْتهى. وَقد أجَاز مَالك
الصَّلَاة بعد الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد للنَّاس وَلم يجز
للْأمة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي
الصَّلَاة بعد الْجُمُعَة، فَقَالَت طَائِفَة: يُصَلِّي
بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ فِي بَيته كالتطوع بعد الظّهْر،
وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعمْرَان بن حُصَيْن
وَالنَّخَعِيّ، وَقَالَ مَالك: إِذا صلى الإِمَام
الْجُمُعَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يرْكَع فِي الْمَسْجِد،
لما رُوِيَ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أَنه: كَانَ ينْصَرف بعد الْجُمُعَة وَلم يرْكَع فِي
الْمَسْجِد، حَتَّى قَالَ: وَمن خَلفه أَيْضا إِذا سلمُوا،
فَأحب أَن ينصرفوا، وَلَا يركعوا فِي الْمَسْجِد، وَإِن
ركعوا فَذَاك وَاسع. وَقَالَت طَائِفَة: يُصَلِّي بعْدهَا
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَرْبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن
عمر وَأبي مُوسَى، وَهُوَ قَول عَطاء وَالثَّوْري وَأبي
يُوسُف إلاّ أَن أَبَا يُوسُف اسْتحبَّ أَن تقدم
الْأَرْبَع قبل الرَّكْعَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: مَا
أَكثر الْمُصَلِّي بعد الْجُمُعَة من التَّطَوُّع فَهُوَ
أحب إِلَيّ. وَقَالَت طَائِفَة: يُصَلِّي بعْدهَا أَرْبعا
لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن
مَسْعُود وعلقمة وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَإِسْحَاق.
حجَّة الْأَوَّلين حَدِيث ابْن عمر: (أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة
إلاّ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيته) . قَالَ الْمُهلب: وهما
الركعتان بعد الظّهْر. وَحجَّة الطَّائِفَة الثَّانِيَة
مَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق (عَن عَطاء قَالَ: صليت مَعَ
ابْن عمر الْجُمُعَة، فَلَمَّا سلم قَامَ فَرَكَعَ
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ صلى أَربع رَكْعَات ثمَّ انْصَرف) .
وَجه قَول أبي يُوسُف مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن
إِبْرَاهِيم عَن سُلَيْمَان بن مسْهر عَن حرشة بن الْحر:
أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كره أَن تصلي بعد
صَلَاة مثلهَا. وَحجَّة الطَّائِفَة الثَّالِثَة مَا
رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن
أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من كَانَ مِنْكُم
مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل أَرْبعا) . وَقد مر ذكره.
وَبَقِي الْكَلَام فِي سنة الظّهْر وَالْمغْرب وَالْعشَاء.
أما سنة الظّهْر فَسَيَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. وَأما سنة الْمغرب، فقد روى التِّرْمِذِيّ من
حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: (مَا أحصي مَا
سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقْرَأ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قبل
صَلَاة الْفجْر. {بقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} و {قل
هُوَ الله أحد} وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ أَيْضا من رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع عَن
ابْن عمر قَالَ: (حفظت من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عشر رَكْعَات) الحَدِيث. وَفِيه: (رَكْعَتَيْنِ بعد
الْمغرب فِي بَيته) . وَاتفقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ من
رِوَايَة يحيى بن سعيد عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع
عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَفِي هَذَا
الْبَاب عَن عبد الله بن جَعْفَر عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْأَوْسَط) وَابْن عَبَّاس عِنْد أبي دَاوُد وَأبي
أُمَامَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَأبي
هُرَيْرَة عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: وَهَاتَانِ
الركعتان بعد الْمغرب من السّنَن الْمُؤَكّدَة، وَبَالغ
بعض التَّابِعين فيهمَا، فروى ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) : عَن وَكِيع عَن جرير بن حَازِم عَن عِيسَى بن
عَاصِم الْأَسدي عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: لَو تركت
الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب لَخَشِيت أَن لَا يغْفر لي،
وَقد شَذَّ الْحسن الْبَصْرِيّ فَقَالَ بوجوبهما، وَلم يقل
مَالك بِشَيْء من التوابع للفرائض إلاّ رَكْعَتي الْفجْر،
وروى ابْن أبي شيبَة (عَن ابْن عمر، قَالَ: من صلى بعد
الْمغرب أَرْبعا كَانَ كَالْمُعَقبِ غَزْوَة بعد غَزْوَة)
. وَرُوِيَ أَيْضا عَن مَكْحُول، قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى رَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب) ،
يَعْنِي: قبل أَن يتَكَلَّم (رفعت صلَاته فِي عليين) .
قَالَ شَارِح التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا لَا يَصح لإرساله،
وَأَيْضًا فَلَا يدْرِي من الْقَائِل، يَعْنِي: قبل أَن
يتَكَلَّم.
(6/250)
قلت: رَوَاهُ مُتَّصِلا أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي
كتاب (الثَّوَاب وفضائل الْأَعْمَال) من رِوَايَة مقَاتل
عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مَرْفُوعا:
(مَا من صَلَاة أحب إِلَى الله من الْمغرب) . الحَدِيث،
وَفِيه: (فَمن صلاهَا ثمَّ صلى بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ قبل
أَن يتَكَلَّم جليسه رفعت صلَاته فِي أَعلَى عليين) . قلت:
يَصح هَذَا مُسْتَندا لِأَصْحَابِنَا فِي استحبابهم
إِيصَال السّنَن للفرائض. وَقَالَ شَارِح التِّرْمِذِيّ:
وَله وَجه فِي الْمغرب بِسَبَب ضيق وَقتهَا على القَوْل
بِأَن وَقتهَا ضيق على قَول الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد،
ثمَّ الْمُسْتَحبّ فِي رَكْعَتي الْمغرب أَن تَكُونَا فِي
بَيته لظَاهِر الحَدِيث، وَكَذَلِكَ سَائِر النَّوَافِل
التابعة للفرائض أَن تكون فِي الْبَيْت عِنْد جُمْهُور
الْعلمَاء، للْحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ: (أفضل صَلَاة
الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الْمَكْتُوبَة) . وَعند
الثَّوْريّ وَمَالك: نوافل النَّهَار كلهَا فِي الْمَسْجِد
أفضل، وَذهب ابْن أَلِي ليلى إِلَى أَن سنة الْمغرب لَا
يجزىء فعلهَا فِي الْمَسْجِد. وَأما سنة الْعشَاء، وهما
الركعتان بعْدهَا، فَمن السّنَن الْمُؤَكّدَة، وَقد صَحَّ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يدعهما. وَعَن أنس
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من
صلى رَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء الْآخِرَة يقْرَأ فِي كل
رَكْعَة بِفَاتِحَة الْكتاب وَعشْرين مرّة. {قل هُوَ الله
أحد} بنى الله عز وَجل لَهُ قصرا فِي الْجنَّة) . رَوَاهُ
أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان. |