عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 21 - (بابُ تَزْوِيجِ المحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَزْوِيج الْمحرم، وَلم يبين
هَل هُوَ جَائِز أَو غير جَائِز اكْتِفَاء بِمَا دلّ
عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب فَإِنَّهُ يدل على أَنه يجوز،
وَإِشَارَة إِلَى أَنه لم يثبت عِنْده النَّهْي عَن ذَلِك،
وَلَا ثَبت أَنه من الخصائص.
7381 - حدَّثنا أبُو المُغِيرَةِ عَبْدُ القُدُّوسِ بنُ
الحَجَّاجِ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني
عطَاءُ بنُ أبِي رَباحٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وهْوَ مُحْرِمٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ تَزْوِيج
الْمحرم، وَفِيه بَيَان أَيْضا لما أبهمه فِي
التَّرْجَمَة، وَهُوَ أَنه جَائِز.
وَأَبُو الْمُغيرَة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا: عبد القدوس
بن الْحجَّاج الْحِمصِي، مَاتَ سنة ثِنْتَيْ عشرَة
وَمِائَتَيْنِ. وَالْأَوْزَاعِيّ: عبد الرَّحْمَن بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن
صَفْوَان بن عَمْرو الْحِمصِي، وَفِيه وَفِي الصَّوْم عَن
شُعَيْب بن شُعَيْب وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن سُلَيْمَان
بن أَيُّوب مُرْسلا، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث هِشَام
بن حسان عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) ،
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب عَن
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، قَالَ:
سَمِعت أَبَا الشعْثَاء يحدث (عَن ابْن عَبَّاس أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة
وَهُوَ محرم) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن
صَحِيح، وَأَبُو الشعْثَاء اسْمه جَابر بن زيد، وَرَوَاهُ
البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه كلهم من
رِوَايَة سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار نَحوه، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. قلت: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ،
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة أبي عوَانَة عَن
أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج وَهُوَ محرم) ، وَأخرجه
الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَلَفظه: (تزوج رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بعض نِسَائِهِ وَهُوَ محرم) ،
وَأَبُو عوَانَة الوضاح، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة كَامِل أبي الْعَلَاء عَن أبي
صَالح (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: تزوج رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) . وَاحْتج
بِهَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري
وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحكم بن عتيبة وَحَمَّاد بن
أبي سُلَيْمَان وَعِكْرِمَة ومسروق وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد، قَالُوا: لَا بَأْس للْمحرمِ أَن ينْكح،
وَلكنه لَا يدْخل بهَا حَتَّى يحل، وَهُوَ قَول ابْن
عَبَّاس وَابْن مَسْعُود، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَسَالم
وَالقَاسِم وَسليمَان بن يسَار وَاللَّيْث
وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق: لَا يجوز للْمحرمِ أَن يَنكَحَ وَلَا يُنكِحَ
غَيره، فَإِن فعل ذَلِك فَالنِّكَاح بَاطِل، وَهُوَ قَول
عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَاحْتَجُّوا
فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا يحيى بن يحيى،
قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن نَافِع عَن نبيه بن وهب: أَن
عمر بن عبد الله أَرَادَ أَن يُزَوّج طَلْحَة بن عمر بنت
شيبَة بن جُبَير، فَأرْسل إِلَى أبان بن عُثْمَان يحضر
ذَلِك وَهُوَ أَمِير الْحَاج، فَقَالَ أبان: سَمِعت
عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا ينْكح
الْمحرم وَلَا ينْكح وَلَا يخْطب) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد
أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَلَا ينْكح) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْكَاف من
الْإِنْكَاح، وَمَعْنَاهُ: لَا ينْكح غَيره، أَي: لَا
يعْقد على غَيره، وَوَجهه أَنه لما كَانَ مَمْنُوعًا من
نِكَاح نَفسه مُدَّة الْإِحْرَام، كَانَ معزولاً تِلْكَ
الْمدَّة أَن يعْقد لغيره، وشابه الْمَرْأَة الَّتِي لَا
تعقد على نَفسهَا وعَلى غَيرهَا. قَوْله: (وَلَا يخْطب) ،
لما فِي الْخطْبَة من التَّعَرُّض إِلَى النِّكَاح، ثمَّ
قَالُوا لأهل الْمقَالة الأولى: من يتابعكم أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ
محرم، وَهَذَا أَبُو رَافع ومَيْمُونَة يذكران أَن ذَلِك
كَانَ مِنْهُ وَهُوَ حَلَال؟ فَذكرُوا مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد
بن زيد عَن مطر الْوراق عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن
عَن سُلَيْمَان بن يسَار (عَن أبي رَافع، قَالَ: (تزوج
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ
حَلَال، وَكنت أَنا الرَّسُول فِيمَا بَينهمَا) .
وَحَدِيث مَيْمُونَة رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن
أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن آدم، قَالَ: حَدثنَا
جرير بن حَازِم، قَالَ: حَدثنَا أَبُو فَزَارَة (عَن يزِيد
ابْن الْأَصَم، قَالَ: حَدَّثتنِي مَيْمُونَة أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال،
قَالَ: وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس) .
وَأخرجه
(10/195)
التِّرْمِذِيّ وَفِي آخِره: (وَبنى بهَا
حَلَالا، وَمَاتَتْ بسرف ودفنها فِي الظلة الَّتِي بنى
فِيهَا) . وَأجَاب أهل الْمقَالة الأولى عَن هَذَا بِأَن
فِي حَدِيث أبي رَافع مَطَرا الْوراق، وَهُوَ عِنْدهم
لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بحَديثه، وَقد رَوَاهُ مَالك وَهُوَ
أضبط مِنْهُ وأحفظ، فَقَطعه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
وَهَذَا حَدِيث حسن وَلَا نعلم أحدا أسْندهُ غير حَمَّاد
بن زيد عَن مطر الْوراق عَن ربيعَة، وَرَوَاهُ مَالك ابْن
أنس (عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال) ، رَوَاهُ
مَالك مُرْسلا، قَالَ: رَوَاهُ أَيْضا سُلَيْمَان ابْن
بِلَال عَن ربيعَة مُرْسلا، وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث
مَالك عَن ربيعَة فِي هَذَا الْبَاب غير مُتَّصِل، وَقد
رَوَاهُ مطر الْوراق فوصله، رَوَاهُ حَمَّاد بن زيد عَن
مطر الْوراق عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن
سُلَيْمَان بن يسَار عَن أبي رَافع، وَهَذَا عِنْدِي غلط
فِي مطر، لِأَن سُلَيْمَان بن يسَار ولد سنة أَربع
وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة تسع وَعشْرين. وَمَات أَبُو
رَافع بِالْمَدِينَةِ بعد قتل عُثْمَان بِيَسِير، وَكَانَ
قتل عُثْمَان فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ،
وَغير جَائِز وَلَا مُمكن أَن يسمع سُلَيْمَان من أبي
رَافع، فَلَا معنى لرِوَايَة مطر، وَمَا رَوَاهُ مَالك
أولى، وَالْعجب من الْبَيْهَقِيّ يعرف هَذَا الْمِقْدَار
فِي هَذَا الحَدِيث ثمَّ يسكت عَنهُ، وَيَقُول: مطر بن
طهْمَان الْوراق قد احْتج بِهِ مُسلم بن الْحجَّاج.
قُلْنَا: وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَهُوَ لَيْسَ كرواة حَدِيث
ابْن عَبَّاس. وَلَا قَرِيبا مِنْهُم. وَقد قَالَ
النَّسَائِيّ: مطر لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَعَن أَحْمد:
كَانَ فِي حفظه سوء، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث مَيْمُونَة
بِأَن عَمْرو بن دِينَار قد ضعف يزِيد ابْن الْأَصَم فِي
خطابه لِلزهْرِيِّ، وَترك الزُّهْرِيّ الْإِنْكَار
عَلَيْهِ، وَأخرجه من أهل الْعلم وَجعله أَعْرَابِيًا
بوالاً على عَقِبَيْهِ، وهم يضعفون الرجل بِأَقَلّ من
هَذَا الْكَلَام، وبكلام من هُوَ أقل من عَمْرو بن
دِينَار، وَالزهْرِيّ، وَمَعَ هَذَا فَالَّذِينَ رووا أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم
نَحْو سعيد بن جُبَير وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد
وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد أَعلَى وَأثبت من الَّذين
رووا أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال، وَمَيْمُون بن مهْرَان
وحبِيب بن الشهير وَنَحْوهمَا لَا يلحقون هَؤُلَاءِ
الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن عِيسَى بن
يُونُس عَن ابْن جريج (عَن عَطاء، قَالَ: تزوج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) .
وَفِي (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد أَنبأَنَا أَبُو نعيم
حَدثنَا جَعْفَر بن برْقَان عَن مَيْمُون بن مهْرَان.
قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد عَطاء فَسَأَلَهُ رجل: هَل
يتَزَوَّج الْمحرم؟ فَقَالَ عَطاء: مَا حرم الله النِّكَاح
مُنْذُ أحله، قَالَ مَيْمُون: فَذكرت لَهُ حَدِيث يزِيد بن
الْأَصَم تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال. قَالَ: فَقَالَ عَطاء: مَا
كُنَّا نَأْخُذ هَذَا إِلَّا عَن مَيْمُونَة، وَكَذَا
نسْمع أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا
وَهُوَ محرم) . وأنبأنا ابْن نمير وَالْفضل بن دُكَيْن عَن
زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة (عَن الشّعبِيّ أَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) ،
وأنبأنا جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد
وأنبأنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا قُرَّة بن خَالِد
حَدثنَا أَبُو يزِيد الْمَدِينِيّ، قَالَا: (إِن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) .
وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي
بكر. قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن نِكَاح الْمحرم؟
فَقَالَ: مَا بِهِ بَأْس هَل هُوَ إلاَّ كَالْبيع؟ وَذكره
أَيْضا ابْن حزم عَن معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: يَقُول من أجَاز نِكَاح
الْمحرم لَا يعدل يزِيد بن الْأَصَم أعز أبي بِابْن
عَبَّاس، قَالُوا: وَقد يخفى على مَيْمُونَة كَون سيدنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما، فالمخبر
بِكَوْنِهِ كَانَ محرما مَعَه زِيَادَة علم، قَالُوا:
وَخبر ابْن عَبَّاس وَارِد بِزِيَادَة حكم فَهُوَ أولى.
وَقَالُوا فِي خبر عُثْمَان: مَعْنَاهُ لَا يوطىء غَيره
وَلَا يطَأ. قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ ابْن حزم وَهَذَا
لَيْسَ بِشَيْء أما تأويلهم فِي خبر عُثْمَان فقد بَينه
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَا يخْطب) ، فصح أَنه
أَرَادَ النِّكَاح الَّذِي هُوَ العقد. وَأما ترجيحهم ابْن
عَبَّاس على يزِيد فَنعم، وَالله لَا يقرن يزِيد بِعَبْد
الله وَلَا كَرَامَة، وَهَذَا تمويه مِنْهُم لِأَن يزِيد
إِنَّمَا رَوَاهُ عَن مَيْمُونَة وروى أَصْحَاب ابْن
عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس، وَنحن لَا نقرن ابْن عَبَّاس
صَغِير من الصَّحَابَة إِلَى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ،
لَكِن نعدل يزِيد إِلَى أَصْحَاب ابْن عَبَّاس، وَلَا نقطع
بفضلهم عَلَيْهِ، وَأما قَوْلهم: قد يخفى على مَيْمُونَة
إِحْرَامه إِذا تزَوجهَا، فيعارضون بِأَن يُقَال لَهُم: قد
يخفى على ابْن عَبَّاس إحلال رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من إِحْرَامه، فالمخبرة بِكَوْنِهِ قد أحل
زَائِدَة عَاما، وَأما قَوْلهم: خبر ابْن عَبَّاس وَارِد
بِحكم زَائِد، فَلَيْسَ كَذَلِك بل خبر عُثْمَان هُوَ
الزَّائِد الحكم، فَبَقيَ أَن يرجح خبر عُثْمَان وَخبر
مَيْمُونَة على خبر ابْن عَبَّاس.
فَنَقُول: خبر يزِيد عَنْهَا هُوَ الْحق، وَقَول ابْن
عَبَّاس وهم لَا شكّ فِيهِ لوجوه: أَولهَا: أَنَّهَا على
علم بِنَفسِهَا مِنْهُ، ثَانِيهَا: أَنَّهَا كَانَت إِذْ
ذَاك امْرَأَة كَامِلَة، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَوْمئِذٍ
ابْن عشرَة أَعْوَام وَأشهر، فَبين الضبطين فرق لَا يخفى.
ثَالِثهَا: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا
تزَوجهَا فِي عمْرَة الْقَضَاء هَذَا مِمَّا لَا يخْتَلف
فِيهِ اثْنَان وَمَكَّة يَوْمئِذٍ دَار حَرْب،
(10/196)
وَإِنَّمَا هادنهم النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على أَن يدخلهَا مُعْتَمِرًا وَيبقى
فِيهَا ثَلَاثَة أَيَّام فَقَط، ثمَّ يخرج فَأتى من
الْمَدِينَة محرما بِعُمْرَة، وَلم يقدم شَيْئا إِذْ دخل
على الطّواف وَالسَّعْي، وَتمّ إِحْرَامه فِي الْوَقْت
وَلم يشك أحد فِي أَنه إِنَّمَا تزَوجهَا بِمَكَّة حَاضرا
بهَا لَا بِالْمَدِينَةِ، فصح أَنَّهَا بِلَا شكّ إِنَّمَا
تزَوجهَا بعد تَمام إِحْرَامه لَا فِي حَال طَوَافه وسعيه،
فارتفع الْإِشْكَال جملَة وَبَقِي خبر عُثْمَان
ومَيْمُونَة لَا معَارض لَهما، ثمَّ لَو صَحَّ خبر ابْن
عَبَّاس بِيَقِين وَلم يَصح خبر مَيْمُونَة لَكَانَ خبر
عُثْمَان هَذَا الزَّائِد الْوَارِد بِحكم لَا يحل
خِلَافه، لِأَن النِّكَاح قد أَبَاحَهُ الله تَعَالَى فِي
كل حَال، ثمَّ لما أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا
ينْكح الْمحرم كَانَ بِلَا شكّ نَاسِخا للْحَال
الْمُتَقَدّمَة من الْإِبَاحَة لَا يُمكن غير هَذَا أصلا،
وَكَانَ يكون خبر ابْن عَبَّاس مَنْسُوخا بِلَا شكّ
لموافقته للْحَال المنسوخة بِيَقِين انْتهى. قلت: الْجَواب
عَن كل فصل. أما عَن قَوْله: يزِيد إِنَّمَا رَوَاهُ عَن
مَيْمُونَة وَهِي امْرَأَة عافلة، وَابْن عَبَّاس صَغِير
فلقائل أَن يَقُول: إِن كَانَ يزِيد رَوَاهُ عَن خَالَته
فَابْن عَبَّاس من الْجَائِز غير الْمُنكر أَن يرويهِ
عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو يرويهِ عَن أَبِيه
الَّذِي ولي عقد النِّكَاح بمشهد عَنهُ ومرأى، أَو يرويهِ
عَن خَالَته الْمَرْأَة الْعَاقِلَة وإيّا مَا كَانَ
فَلَيْسَ صَغِيرا، فروايته مُقَدّمَة على رِوَايَة يزِيد
بن الْأَصَم، وَلِأَن لعبد الله متابعين وَلَيْسَ ليزِيد
عَن خَالَته متابع مِنْهُم عَطاء بقوله بِسَنَد صَحِيح:
مَا كُنَّا نَأْخُذ هَذَا إلاَّ من مَيْمُونَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، ومسروق بِسَنَد صَحِيح، وَلَيْسَ
لقَائِل أَن يَقُول: لَعَلَّ عَطاء ومسروقا أخذاه عَن ابْن
عَبَّاس لتصريح عَطاء بِأَخْذِهِ إِيَّاه من مَيْمُونَة.
وَأما مَسْرُوق فَلَا نعلم لَهُ رِوَايَة عَن عبد الله،
فَدلَّ أَنه أَخذه عَن غَيره. وَأما عَن قَوْله: نعدل
يزِيد إِلَى أَصْحَاب عبد الله وَلَا نقطع بفضلهم
عَلَيْهِ، فَكيف يكون شخص وَاحِد حَدِيثه عِنْد مُسلم
وَحده يعدل بعطاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي
الشعْثَاء وَعِكْرِمَة فِي آخَرين من أَصْحَاب عبد الله
الَّذين رووا عَنهُ هَذَا الحَدِيث؟ وَأما عَن قَوْله:
هِيَ أعلم بِنَفسِهَا من عبد الله، فَنَقُول بِمُوجبِه:
نعم، هِيَ أعلم بِنَفسِهَا إِذْ حدثت عَطاء وَابْن
أُخْتهَا بِمَا هِيَ أعلم بِهِ من غَيرهَا. وَأما عَن
قَوْله: إِنَّمَا تزَوجهَا بِمَكَّة حَاضرا بهَا فَيردهُ،
مَا رَوَاهُ مَالك عَن ربيعَة عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أَبَا رَافع
ورجلاً من الْأَنْصَار بزوجاته: مَيْمُونَة وَرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ قبل أَن يخرج.
انْتهى. فَيُشبه أَنَّهُمَا زوجاه إِيَّاهَا وَهُوَ ملتبس
بِالْإِحْرَامِ فِي طَرِيقه إِلَى مَكَّة، وَلما حل بنى
بهَا، وَذكر مُوسَى بن عقبَة (عَن ابْن شهَاب: خرج رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمِرًا فِي ذِي
الْقعدَة، فَلَمَّا بلغ موضعا ذكره بعث جَعْفَر بن أبي
طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَين يَدَيْهِ إِلَى
مَيْمُونَة يخطبها عَلَيْهِ، فَجعلت أمرهَا إِلَى
الْعَبَّاس فَزَوجهَا مِنْهُ) . وَقد أوضح ذَلِك أَبُو
عُبَيْدَة فِي كِتَابه (الزَّوْجَات) : توجه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة مُعْتَمِرًا سنة سبع، وَقدم
جَعْفَر يخْطب عَلَيْهِ مَيْمُونَة، فَجعلت أمرهَا إِلَى
الْعَبَّاس، فَأَنْكحهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهُوَ محرم، وَبنى بهَا بسرف وَهُوَ حَلَال. وَأما عَن
قَوْله وَبَقِي خبر عُثْمَان ومَيْمُونَة لَا معَارض
لَهما، فَنَقُول: الْمُعَارضَة لَا تكون إِلَّا مَعَ
التَّسَاوِي، والتساوي هُنَا غير مُمكن لِأَن حَدِيث ابْن
عَبَّاس رَوَاهُ عَنهُ من ذَكَرْنَاهُمْ من الْأَئِمَّة
الْأَعْلَام، وَحَدِيث عُثْمَان رَوَاهُ نبيه بن وهب
وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَلَيْسَ لَهُ من الْحِفْظ
وَالْعلم مَا يُسَاوِي أحدا مِنْهُم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك
فَكيف تصح دَعْوَى النّسخ فِيهِ؟ فَإِن قلت: قَالَ قوم
مِمَّن رد حَدِيث ابْن عَبَّاس على تَسْلِيم صِحَّته: إِن
معنى تزَوجهَا محرما أَي: فِي الْحرم، وَهُوَ حَلَال
لِأَنَّهُ يُقَال لمن هُوَ فِي الْحرم محرم وَإِن كَانَ
حَلَالا، وَهِي لُغَة شائعة مَعْرُوفَة، وَمِنْه الْبَيْت
الْمَشْهُور:
(قتلوا ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما)
قلت: أَجمعُوا على أَن كسْرَى قتل بِالْمَدَائِنِ من
بِلَاد فَارس، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(قتلوا كسْرَى بلَيْل محرما)
أفتراه كَانَ يسكن الْحرم أَو أحرم بِالْحَجِّ؟ فَإِن قلت:
قَالُوا: قد تعَارض معنى فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقَوله: وَالرَّاجِح القَوْل لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى
الْغَيْر، وَالْفِعْل قد يكون مَقْصُورا عَلَيْهِ. قلت: قد
فهم الْجَواب من قَوْلنَا الْآن أَن التَّعَارُض قد يكون
عِنْد التَّسَاوِي. فَإِن قلت: قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة:
إِن هَذَا من خَصَائِصه وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ عِنْدهم:
قلت: دَعْوَى التَّخْصِيص تحْتَاج إِلَى دَلِيل. فَإِن
قلت: يحْتَمل أَنه زَوجهَا حَلَالا وَظهر أَمر تزَوجهَا
وَهُوَ محرم. قلت: هَذَا لَا يُسَاوِي شَيْئا لِأَنَّهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة محرما لَا حَلَالا،
فَكيف يتَصَوَّر ذَلِك؟
31 - (بابُ مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ
والمُحْرِمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى عَنهُ من
اسْتِعْمَال الطّيب للْمحرمِ والمحرمة، يَعْنِي أَنَّهُمَا
فِي ذَلِك سَوَاء، وَلم تخْتَلف
(10/197)
الْأَئِمَّة فِي ذَلِك وَالْحكمَة فِي
مَنعه من الطّيب أَنه من دواعي الْجِمَاع ومقدماته الَّتِي
تفْسد الْإِحْرَام، وَفِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أخرجه الْبَزَّار (الْحَاج الشعث التفل) ، والتفل
بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَكسر الْفَاء: الَّذِي ترك
اسْتِعْمَال الطّيب من التفل وَهِي الرّيح الكريهة.
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَا
تَلْبَسُ المُحْرِمَةُ ثَوْبا بِوَرْسٍ أوْ زَعْفَرَانٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الثَّوْب الْمَصْبُوغ
بالورس والزعفران تفوح لَهُ رَائِحَة مثل مَا تفوح
رَائِحَة الطّيب من أَنْوَاع مَا يتطيب بِهِ، وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو
عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو عمر بن مطر حَدثنَا يحيى
بن مُحَمَّد عَن عبيد الله بن معَاذ حَدثنَا أبي حَدثنَا
حبيب عَن يزِيد الرشك، (عَن معَاذَة عَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: الْمُحرمَة تلبس من
الثِّيَاب مَا شَاءَت إلاَّ ثوبا مَسّه ورس أَو زعفران) .
والورس، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره سين
مُهْملَة، نبت أصفر تصبغ بِهِ الثِّيَاب، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب مَا لَا يلبس الْمحرم
من الثِّيَاب.
8381 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قامَ رجلٌ
فقالَ يَا رسولَ الله ماذَا تأمُرُنَا أنْ نَلْبَسَ مِنَ
الثِّيَابِ فِي الإحْرَامِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ ولاَ
السَّرَاوِيلاتِ ولاَ العَمَائِمَ ولاَ البَرَانِسَ إلاَّ
أنْ يَكُونَ أحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسِ
الخُفَّيْنِ ولْيَقْطَعْ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ ولاَ
تَلْبَسُوا شَيئا مَسَّهُ زَعْفرَانٌ ولاَ الوَرْسُ وَلَا
تَنْتَقِبُ الْمَرْأةُ المُحْرِمَة ولاَ تَلْبَسُ
الْقُفَازَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تلبسوا شَيْئا
مَسّه زعفران وَلَا الورس) ، وَعبد الله بن يزِيد من
الزِّيَادَة المقريء، مولى آل عمر، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة
وَمِائَتَيْنِ، وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي آخر كتاب
الْعلم فِي: بَاب من أجَاب السَّائِل بِأَكْثَرَ مِمَّا
سَأَلَهُ: عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع وَذكره
أَيْضا فِي أَوَائِل الْحَج فِي: بَاب مَا لَا يلبس
الْمحرم من الثِّيَاب: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك
عَن نَافِع وَزَاد فِيهِ هَهُنَا: (وَلَا تنتقب الْمَرْأَة
الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين) . قَوْله: (القفازين) ،
تَثْنِيَة قفاز، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء وَبعد
الْألف زَاي، وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ ضرب من الْحلِيّ،
وتقفزت الْمَرْأَة نقشت يَديهَا ورجليها بِالْحِنَّاءِ،
وَقَالَ الْقَزاز: القفاز تلبس فِي الْكَفّ، وَقَالَ ابْن
فَارس وَابْن دُرَيْد: هُوَ ضرب من الْحلِيّ تتخذه
الْمَرْأَة فِي يَديهَا ورجليها، وَفِي (الصِّحَاح) :
بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد شَيْء يعْمل لِلْيَدَيْنِ يحشى
بِقطن. وَيكون لَهُ أزرار تزر على الساعدين من الْبرد
تلبسه الْمَرْأَة فِي يَديهَا. وَفِي (الغريبين) : تلبسه
نسَاء الْأَعْرَاب فِي أَيْدِيهنَّ لتغطية الْأَصَابِع
والكف. وَفِي (الْمغرب) : هُوَ شَيْء يَتَّخِذهُ الصَّائِد
فِي يَدَيْهِ من جلد أَو لبد. وَهَذَا الحَدِيث يشْتَمل
على أَحْكَام قد ذَكرنَاهَا فِي آخر كتاب الْعلم. فَقَوله:
(الْقَمِيص) ويروى: القمص، بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُون الْمِيم
أَيْضا: جمع قَمِيص. (والبرانس) جمع: برنس وَهُوَ ثوب
رَأسه ملتزق. قَوْله: (وليقطع أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) ،
وَعَن أَحْمد: لَا يلْزمه قطعهمَا، فِي الْمَشْهُور عَنهُ.
قَالَ ابْن قدامَة: وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَبِه قَالَ عَطاء وَعِكْرِمَة وَسَعِيد
بن سَالم القداح، احْتج أَحْمد بِحَدِيث ابْن عَبَّاس من
عِنْد البُخَارِيّ: (من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس
الْخُفَّيْنِ) ، وَحَدِيث جَابر مثله رَوَاهُ مُسلم عَنهُ،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله ت: (من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس
خُفَّيْنِ، وَمن لم يجد إزارا فليلبس من سَرَاوِيل) .
وَعند أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرين: لَا
يجوز لبسهما إلاَّ بعد قطعهمَا، كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب،
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس وَجَابِر مُطلق يحمل على الْمُقَيد،
لِأَن الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة. وَقَالَ ابْن
التِّين: ابْن عَبَّاس حفظ لبس الْخُفَّيْنِ وَلم ينْقل
صفة اللّبْس، بِخِلَاف ابْن عمر فَهُوَ أولى، وَقد قيل:
فليقطعهما من كَلَام نَافِع، كَذَا فِي أمالى أبي
الْقَاسِم بن بَشرَان بِسَنَد صَحِيح: أَن نَافِعًا قَالَ،
بعد رِوَايَته الحَدِيث: وليقطع الْخُفَّيْنِ أَسْفَل
الْكَعْبَيْنِ، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ وَابْن التِّين أَن
جَعْفَر بن برْقَان فِي رِوَايَته: قَالَ نَافِع، وَيقطع
الْخفاف أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، وَقَالَ ابْن قدامَة:
وروى ابْن أبي مُوسَى عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن سيدنَا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص للْمحرمِ أَن يلبس
الْخُفَّيْنِ وَلَا يقطعهما، وَكَانَ ابْن عمر يُفْتِي
بقطعهما، قَالَت صَفِيَّة: فَلَمَّا أخْبرته بذلك رَجَعَ،
وَقَالَ ابْن قدامَة: وَيحْتَمل أَن يكون
(10/198)
الْأَمر بقطعهما قد نسخ فَإِن عَمْرو بن
دِينَار قد روى الْحَدِيثين جَمِيعًا. وَقَالَ: انْظُرُوا
أَيهمَا كَانَ قبل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ أَبُو
بكر النَّيْسَابُورِي: حَدِيث ابْن عمر قبل لِأَنَّهُ قد
جَاءَ فِي بعض رواياته: (نَادَى رجل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد) يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ
فَكَأَنَّهُ كَانَ قبل الْإِحْرَام، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس
يَقُول: سمعته يخْطب بِعَرَفَات ... الحَدِيث، فَيدل على
تَأَخره عَن حَدِيث ابْن عمر، فَيكون نَاسِخا لَهُ،
لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْقطع وَاجِبا لبينه للنَّاس، إِذْ
لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ،
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: روى حَدِيث ابْن عمر مَالك
وَعبيد الله وَأَيوب فِي آخَرين فوقفوه على ابْن عمر،
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس سَالم من الْوَقْف مَعَ مَعَ عضده
من حَدِيث جَابر، وَيحمل قَوْله: وليقطعهما، على الْجَوَاز
من غير كَرَاهَة لأجل الْإِحْرَام، وَينْهى عَن ذَلِك فِي
غير الْإِحْرَام لما فِيهِ من الْفساد، فَأَما إِذا لبس
الْخُف الْمَقْطُوع من أَسْفَل الكعب مَعَ وجود النَّعْل
فعندنا أَنه لَا يجوز وَيجب عَلَيْهِ الْفِدَاء، خلافًا
لأبي حنيفَة وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن قدامَة:
وَالْأولَى قطعهمَا عملا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح، وخروجا
من الْخلاف وأخذا بِالِاحْتِيَاطِ.
تابَعَهُ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ وإسْمَاعِيلُ بنُ
إبْرَاهِيمَ بنِ عُقْبَةَ وجُوَيْرِيَةُ وابنُ إسْحَاقَ
فِي النِّقَابِ والْقُفَازَيْنِ
أَي: تَابع اللَّيْث هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة فِي
الرِّوَايَة عَن نَافِع. أما مُتَابعَة مُوسَى بن عقبَة بن
أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمدنِي فقد وَصلهَا النَّسَائِيّ
من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن مُوسَى عَن نَافِع،
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث حَاتِم بن
إِسْمَاعِيل وَيحيى بن أَيُّوب عَن مُوسَى مَرْفُوعا.
وَأما مُتَابعَة إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بن
أبي عَيَّاش، وَهُوَ ابْن أخي مُوسَى الْمَذْكُور، وَهُوَ
من أَفْرَاد البُخَارِيّ، فوصلها عَليّ بن مُحَمَّد
الْمصْرِيّ فِي فَوَائده من رِوَايَة الْحَافِظ السلَفِي
عَن الثَّقَفِيّ: عَن ابْن بَشرَان عَنهُ عَن يُوسُف بن
يزِيد عَن يَعْقُوب بن أبي عباد عَن إِسْمَاعِيل عَن
نَافِع بِهِ. وَأما مُتَابعَة جوَيْرِية بن أَسمَاء فوصلها
أَبُو يعلى الْموصِلِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن
أَسمَاء عَنهُ عَن نَافِع. وَأما مُتَابعَة مُحَمَّد بن
إِسْحَاق فوصلها أَحْمد وَالْحَاكِم من حَدِيث يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن ابْن إِسْحَاق، قَالَ:
حَدثنِي نَافِع بِهِ مَرْفُوعا.
قَوْله: (فِي النقاب والقفازين) أَي: فِي ذكرهمَا، والنقاب
الْخمار الَّذِي يشد على الْأنف أَو تَحت المحاجر،
وَظَاهره اخْتِصَاص ذَلِك بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِن الرجل
فِي القفاز مثلهَا لكَونه فِي معنى الْخُف فَإِن كلاًّ
مِنْهُمَا مُحِيط بِجُزْء من الْبدن، وَأما النقاب فَلَا
يحرم على الرحل من جِهَة الْإِحْرَام لِأَنَّهُ لَا يحرم
عَلَيْهِ تَغْطِيَة وَجهه.
وَقَالَ عُبَيْدُ الله ولاَ ورْسٌ وكانَ يَقُولُ لاَ
تَتَنَقَّبُ المُحْرِمَةُ ولاَ تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ
عبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ: قَوْله: (وَلَا ورس) ،
يَعْنِي قَالَ عبيد الله فِي الحَدِيث الْمَذْكُور إِلَى
قَوْله: (وَلَا ورس) ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن عبيد
الله هَذَا وَافق الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين فِي رِوَايَة
الحَدِيث الْمَذْكُور عَن نَافِع حَيْثُ جعل الحَدِيث
إِلَى قَوْله: (وَلَا ورس) مَرْفُوعا ثمَّ فصل بَقِيَّة
الحَدِيث فَجعله من قَول ابْن عمر، وَهُوَ معنى قَوْله:
(وَكَانَ يَقُول) أَي: وَكَانَ ابْن عمر يَقُول: (لَا
تنتقب الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين) وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَوْله: كَانَ يَقُول: فَإِن قلت: لم قَالَ
أَولا بِلَفْظ: قَالَ؟ وَثَانِيا قَالَ: كَانَ يَقُول؟
قلت: لَعَلَّه قَالَ ذَلِك مرّة، وَهَذَا كَأَن يَقُول
دَائِما مكررا، وَالْفرق بَين الْمَرَّتَيْنِ إِمَّا من
جِهَة حذف لفظ الْمَرْأَة وَإِمَّا من جِهَة أَن الأول
بِلَفْظ لَا تنتقب من التفعل، وَالثَّانِي من الافتعال،
وَإِمَّا من جِهَة أَن الثَّانِي، بِضَم الْبَاء على
سَبِيل النَّفْي لَا غير، وَالثَّانِي بِالضَّمِّ
وَالْكَسْر نفيا ونهيا. انْتهى قلت: قَوْله: كَانَ يَقُول،
دَائِما مكررا كَأَنَّهُ أَخذه من قَول من قَالَ: إِن:
كَانَ، يدل على الدَّوَام والاستمرار. قَوْله من التفعل،
يَعْنِي: من بَاب التفعل، يُقَال من هَذَا: تنقبت المرأت
تنتقب تنقبا. قَوْله: من الافتعال، أَي: من بَاب الافتعال،
يُقَال من هَذَا: انتقبت الْمَرْأَة تنتقب انتقابا.
قَوْله: (وَقَالَ عبيد الله) إِلَى آخِره مُعَلّق وَصله
إِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) عَن مُحَمَّد بن
بشر وَحَمَّاد بن مسْعدَة وَابْن خُزَيْمَة من طَرِيق بشر
بن الْمفضل، ثَلَاثَتهمْ عَن عبيد الله ابْن عمر عَن
نَافِع، فساق الحَدِيث إِلَى قَوْله: (وَلَا ورس) ، قَالَ:
وَكَانَ عبد الله يَعْنِي: ابْن عمر: (يَقُول: وَلَا تنتقب
الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين) وَمعنى: لَا تنتقب لَا
تستر وَجههَا، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك فَمَنعه الْجُمْهُور
وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ
(10/199)
رِوَايَة عَن الشَّافِعِيَّة والمالكية.
وَقَالَ مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ لاَ
تَتَنَقَّبِ المُحْرِمَةُ
هَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) كَمَا قَالَ مَالك، وَهُوَ اقتصره
على الْمَوْقُوف فَقَط، وَقد اخْتلف فِي قَوْله: لَا تنتقب
الْمَرْأَة فِي رَفعه وَوَقفه، فَنقل الْحَاكِم عَن شَيْخه
على النَّيْسَابُورِي أَنه من قَول ابْن عمر، أدرج فِي
الحَدِيث. وَقَالَ الْخطابِيّ فِي (المعالم) : وعللوه
بِأَن ذكر القفازين، إِنَّمَا هُوَ قَول ابْن عمر لَيْسَ
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعلق الشَّافِعِي
القَوْل فِي ذَلِك، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة)
: أَنه رَوَاهُ اللَّيْث مدرجا وَقد اسْتشْكل الشَّيْخ
تَقِيّ الدّين فِي (الإِمَام) الحكم بالإدراح فِي هَذَا
الحَدِيث من وَجْهَيْن. الأول: لوُرُود النَّهْي عَن
النقاب والقفازين مُفردا مَرْفُوعا، فروى أَبُو دَاوُد من
رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد الْمدنِي عَن نَافِع عَن ابْن
عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(الْمُحرمَة لَا تنتقب وَلَا تلبس القفازين) . وَالْوَجْه
الثَّانِي: أَنه جَاءَ النَّهْي عَن القفازين مُبْتَدأ
بِهِ فِي صدر الحَدِيث مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سَابِقًا على النَّهْي عَن غَيره. قَالَ:
وَهَذَا يمْنَع من الإدراج وَيُخَالف الطَّرِيق
الْمَشْهُورَة، فروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث ابْن
إِسْحَاق، قَالَ: فَإِن نَافِعًا مولى عبد الله بن عمر،
حَدثنِي (عَن عبد الله بن عمر أَنه سمع رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نهى النِّسَاء فِي إحرامهن عَن
القفازين والنقاب وَمَا مس الورس والزعفران من الثِّيَاب،
ولتلبس بعد ذَلِك مَا أحبت من ألوان الثِّيَاب معصفرا أَو
خَزًّا أَو حليا وَسَرَاويل أَو قمصا) . وَقَالَ شَيخنَا
زين الدّين: فِي الْوَجْه الأول قرينَة تدل على عدم
الإدراج، فَإِن الحَدِيث ضَعِيف لِأَن إِبْرَاهِيم بن سعيد
الْمدنِي مَجْهُول، وَقد ذكره ابْن عدي مُقْتَصرا على ذكر
النقاب، وَقَالَ: لَا يُتَابع إِبْرَاهِيم بن سعيد هَذَا
على رَفعه، قَالَ: وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن نَافِع من قَول
ابْن عمر، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (الْمِيزَان) : أَن
إِبْرَاهِيم بن سعيد هَذَا مُنكر الحَدِيث غير مَعْرُوف،
ثمَّ قَالَ: لَهُ حَدِيث وَاحِد فِي الْإِحْرَام أخرجه
أَبُو دَاوُد، وَسكت عَنهُ، فَهُوَ مقارب الْحَال. وَفِي
الْوَجْه الثَّانِي: إِبْنِ إِسْحَاق وَهُوَ لَا شكّ دون
عبيد الله بن عمر فِي الْحِفْظ والإتقان، وَقد فصل
الْمَوْقُوف من الْمَرْفُوع. وَقَول الشَّيْخ: إِن هَذَا
يمْنَع من الإدراج مُخَالف لقَوْله فِي الاقتراح: إِنَّه
يضعف لَا يمنعهُ، فَلَعَلَّ بعض من ظَنّه مَرْفُوعا قدمه،
والتقديم وَالتَّأْخِير فِي الحَدِيث سَائِغ بِنَاء على
جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى.
وتابَعَهُ لَيْثُ بنُ أبِي سُلَيْمٍ
أَي: وتابع مَالِكًا فِي وَقفه لَيْث بن أبي سليم، بِضَم
السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام بن زنيم الْقرشِي
الْكُوفِي، وَاسم أبي سليم أنس مولى عَنْبَسَة ابْن أبي
سُفْيَان، مَاتَ فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين
وَمِائَة، وَكَانَ من الْعباد، وَاخْتَلَطَ فِي آخر عمره
حَتَّى لَا يكَاد يدْرِي مَا يحدث بِهِ.
9381 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ
مَنْصُورٍ عنِ الحَكَمِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا قَالَ وقَصَتْ
بِرَجُلٍ محْرِمٍ ناقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ فأُتِيَ بِهِ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اغْسِلُوهُ
وكَفِّنُوهُ ولاَ تغَطُّوا رَأسَهُ ولاَ تُقَرِّبُوهُ
طِيبا فإنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تقربوه طيبا
فَإِنَّهُ مَاتَ محرما) وَالْمحرم مَمْنُوع عَن الطّيب،
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن
الْمُعْتَمِر، وَالْحكم هُوَ ابْن عتيبة.
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب
الْجَنَائِز فِي: بَاب كَيفَ يُكفن الْمحرم من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن أبي
بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. وَالْآخر: عَن
مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو وَأَيوب عَن سعيد
بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب
الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ: عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد
عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب
الحنوط للْمَيت عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن
سعيد بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الْمحرم يَمُوت
بِعَرَفَة من وَجْهَيْن: الأول: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب
عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن
جُبَير. وَالثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب أَيْضا عَن
حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا
فِي: بَاب سنة الْمحرم إِذا مَاتَ: عَن يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم عَن هشيم عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير،
وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى مستقصىً.
قَوْله: (وقصت)
(10/200)
فعل مَاض وفاعله قَوْله: (نَاقَته) أَي:
كسرت رقبته. قَوْله: (وَلَا تقربوه) ، بتَشْديد الرَّاء.
قَوْله: (يهل) ، بِضَم الْيَاء أَي: يرفع صَوته
بِالتَّلْبِيَةِ، وَهِي جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير
الَّذِي فِي: يبْعَث احتجت الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر هَذَا
الحَدِيث على بَقَاء إِحْرَام الْمَيِّت فِي إِحْرَامه
وَلَا يجوز أَن يلبس الْمخيط وَلَا يخمر رَأسه، وَلَا يمس
طيبا، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَت
الْحَنَفِيَّة والمالكية: يَنْقَطِع الْإِحْرَام
بِمَوْتِهِ، وَيفْعل بِهِ مَا يفعل بالحي، وَهُوَ قَول
الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا، وجوابهم عَنهُ أَنه وَاقعَة عين
لَا عُمُوم فِيهَا لِأَنَّهُ علل ذَلِك بقوله: (لِأَنَّهُ
يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا) ، وَهَذَا الْأَمر لَا
يتَحَقَّق وجوده فِي غَيره، فَيكون خَاصّا بذلك الرجل،
وَلَو اسْتمرّ بَقَاؤُهُ على إِحْرَامه لأمر بِقَضَاء
بَقِيَّة مَنَاسِكه، وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْقصار: لَو
أُرِيد تَعْمِيم هَذَا الحكم فِي كل محرم لقَالَ: فَإِن
الْمحرم، كَمَا جَاءَ: (إِن الشَّهِيد يبْعَث وجرحه يقطر
دَمًا) .
41 - (بابُ الاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاغْتِسَال إِمَّا لأجل
التَّطْهِير من الْجَنَابَة، وَإِمَّا لأجل التَّنْظِيف.
قَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن للْمحرمِ أَن
يغْتَسل من الْجَنَابَة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الحَمَّامَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا تَعْلِيق وَصله
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن
عِكْرِمَة عَنهُ، قَالَ: يدْخل الْمحرم الْحمام وَينْزع
ضرسه، وَإِذا انْكَسَرَ ظفره طَرحه، وَيَقُول: أميطوا
عَنْكُم الْأَذَى إِن الله لَا يصنع بأذاكم شَيْئا. وروى
الْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس (أَنه دخل
حَماما بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ محرم، وَقَالَ: إِن الله لَا
يعبأ بأوساخكم شَيْئا) . وَحكى ابْن أبي شيبَة كَرَاهَة
ذَلِك عَن الْحسن وَعَطَاء، وَفِي (التَّوْضِيح) :
وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق للْمحرمِ دُخُول الْحمام. وَقَالَ
مَالك: إِن دخله فتدلك وانقى الْوَسخ فَعَلَيهِ
الْفِدْيَة، وَحكى عَن سعيد بن عبَادَة مثل قَول مَالك،
وَكَانَ أَشهب وَابْن وهب يتغامسان فِي المَاء وهما
محرمان، مُخَالفَة لِابْنِ الْقَاسِم، وَكَانَ ابْن
الْقَاسِم يَقُول: إِن غمس رَأسه فِي المَاء أطْعم شَيْئا
من طَعَام، خوفًا من قتل الدَّوَابّ، وَلَا تجب الْفِدْيَة
إلاَّ بِيَقِين. وَعَن مَالك اسْتِحْبَابه، وَلَا بَأْس
عِنْد جَمِيع أَصْحَاب مَالك أَن يصب الْمحرم على رَأسه
المَاء لحر يجده، وَقَالَ أَشهب: لَا أكره غمس الْمحرم
رَأسه فِي المَاء، وَنقل ابْن التِّين أَن انغماس الْمحرم
فِيهِ مَحْظُور. وروى عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس
إِجَازَته. وَأما إِن غسل رَأسه بالخطمي والسدر فَإِن
الْفُقَهَاء يكرهونه، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ، وَأوجب مَالك وَالشَّافِعِيّ عَلَيْهِ
الْفِدْيَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر: لَا شَيْء
عَلَيْهِ، وَقد رخص عَطاء وطاووس وَمُجاهد لمن لبد رَأسه
فشق عَلَيْهِ الْحلق أَن يغسل بالخطمى حِين يُلَبِّي،
وَكَانَ ابْن عمر يفعل ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر
وَذَلِكَ جَائِز.
ولَمْ يَرَ ابنُ عُمَرَ وعائِشَةُ بِالحَكِّ بَأْسا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي الحك من إِزَالَة
الْأَذَى كَمَا فِي الْغسْل، وَأثر ابْن عمر وَصله
الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي مجلز. قَالَ: رَأَيْت ابْن
عمر يحك رَأسه وَهُوَ محرم، ففطنت لَهُ، فَإِذا هُوَ يحك
بأطراف أنامله، وَأثر عَائِشَة وَصله مَالك عَن عَلْقَمَة
بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه، وَاسْمهَا مرْجَانَة، سَمِعت
عَائِشَة تسْأَل عَن الْمحرم: أيحك جسده؟ قَالَت: نعم،
وليشدد. وَقَالَت عَائِشَة: لَو ربطت يداي وَلم أجد إلاَّ
أَن أحك برجلي لحككت.
0481 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ إبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ
الله بنِ حُنَيْنٍ عنْ أبِيهِ أنَّ عَبْدَ الله بنَ
العَبَّاسِ والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا
بِالأبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ
الْمُحْرِمُ رَأسَهُ وَقَالَ المِسْوَرُ لاَ يَغْسِلُ
المُحْرِمُ رأسَهُ فأرْسلَنِي عَبْدُ الله ابنُ العَبَّاسِ
إلَى أَي أيُّوبَ الأنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ
بَيْنَ القَرْنَيْنِ وهْوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هاذا فَقُلْتُ أَنا عَبْدُ الله بنُ
حُنَيْنٍ إرْسَلَنِي إلَيْكَ عَبْدُ الله بنُ الْعَبَّاسِ
أسْألُكَ كَيْفَ
(10/201)
كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَغْسِلُ رَأسَهُ وهْوَ مُحْرِمٌ فوَضَعَ أبُو أيُّوبَ
يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فطَأطَأهُ حتَّى بَدَا لِي رَأسُهُ
ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ
عَلَى رَأسِهِ ثُمَّ رأسَهُ بِيَدَيْهِ فأقْبَلَ بِهِمَا
وأدْبَرَ وَقَالَ هكذَا رَأيْتُهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَفْعَلُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله
بن حنين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون الأولى
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو إِسْحَاق، مولى
الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب الْمدنِي، والمسور، بِكَسْر
الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو
وبالراء: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء وَسُكُون
الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: ابْن نَوْفَل الْقرشِي
أَبُو عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ لَهُ ولأبيه صُحْبَة.
قَوْله: (عَن زيد بن أسلم عَن إِبْرَاهِيم) كَذَا فِي
جَمِيع الموطآت، وَأغْرب يحيى بن يحيى الأندلسي فَأدْخل
بَين زيد وَإِبْرَاهِيم نَافِعًا. قَالَ ابْن عبد الْبر:
وَذَلِكَ مَعْدُود من خطئه. قَوْله: (عَن إِبْرَاهِيم) ،
وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: عَن زيد أَخْبرنِي
إِبْرَاهِيم. أخرجه أَحْمد وَإِسْحَاق والْحميدِي فِي
(مسانيدهم) عَنهُ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عِنْد أَحْمد:
عَن زيد بن أسلم أَن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن حنين مولى
ابْن عَبَّاس أخبرهُ، كَذَا قَالَ: مولى ابْن عَبَّاس،
وَالْمَشْهُور أَنه: مولى للْعَبَّاس، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (أَن عبد الله بن عَبَّاس) وَفِي رِوَايَة ابْن
جريج عِنْد أبي عوَانَة: كنت مَعَ ابْن عَبَّاس والمسور بن
مخرمَة، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن
قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن
أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب، أربعتهم
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَعَن عَليّ بن خشرم، كِلَاهُمَا عَن قيس بن يُونُس عَن
ابْن جريج. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ: عَن عبد الله بن
مسلمة القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي مُصعب
أَحْمد ابْن أبي بكرالزهري، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك بِهِ.
قَوْله: (بالأبواء) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة: مَوضِع قريب من مَكَّة وَقد ذكر غير مرّة،
وَالْبَاء فِيهِ بِمَعْنى: فِي. أَي: اخْتلفَا وهما نازلان
فِي الْأَبْوَاء. قَوْله: (إِلَى أبي أَيُّوب) واسْمه
خَالِد بن زيد بن كُلَيْب الْأنْصَارِيّ، وَفِي رِوَايَة
ابْن عُيَيْنَة بالعرج، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم، وَهِي قَرْيَة
جَامِعَة قريبَة من الْأَبْوَاء. قَوْله: (بَين القرنين) ،
أَي: بَين قَرْني الْبِئْر، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن
عُيَيْنَة، والقرنان هما جانبا الْبناء الَّذِي على رَأس
الْبِئْر يوضع خشب البكرة عَلَيْهِمَا. قَوْله: (فَقلت:
أَنا عبد الله) وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (فَقَالَ: قل
لَهُ: يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام ابْن أَخِيك عبد الله بن
عَبَّاس يَسْأَلك) . قَوْله: (فطأطأه) أَي خفضه وأزاله عَن
رَأسه، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (حَتَّى رَأَيْت رَأسه
وَوَجهه) . وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (جمع ثِيَابه
إِلَى صَدره حَتَّى نظرت إِلَيْهِ) . قَوْله: (وَقَالَ)
أَي: أَبُو أَيُّوب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(هَكَذَا رَأَيْته) أَي: هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل، وَزَاد ابْن عُيَيْنَة:
(فَرَجَعت إِلَيْهِمَا فأخبرتهما، فَقَالَ الْمسور لِابْنِ
عَبَّاس: لَا أماريك أبدا) أَي: لَا أجادلك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مناظرة الصَّحَابَة فِي
الْأَحْكَام ورجوعهم إِلَى النُّصُوص. وَفِيه: قبُول خبر
الْوَاحِد وَلَو كَانَ تابعيا، وَقَالَ ابْن عبد الْبر:
لَو كَانَ معنى الِاقْتِدَاء فِي قَوْله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ
أقتديتم اهْتَدَيْتُمْ) ، يُرَاد بِهِ الْفَتْوَى لما
احْتَاجَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
إِلَى إِقَامَة الْبَيِّنَة على دَعْوَاهُ، بل كَانَ
يَقُول للمسور: أَنا نجم وَأَنت نجم، فبأينا اقْتدى من
بَعدنَا كَفاهُ، وَلَكِن مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْمُزنِيّ
وَغَيره من أهل النّظر: أَنه فِي النَّقْل لِأَن جَمِيعهم
عدُول. وَفِيه: اعْتِرَاف للفاضل بفضله وإنصاف الصَّحَابَة
بَعضهم بَعْضًا. وَفِيه: أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا
فِي قَضِيَّة لم تكن الْحجَّة فِي قَول أحد مِنْهُم إلاَّ
بِدَلِيل يجب التَّسْلِيم لَهُ من كتاب أَو سنة، كَمَا
أَتَى أَبُو أَيُّوب بِالسنةِ. وَفِيه: ستر المغتسل
بِثَوْب وَنَحْوه عِنْد الْغسْل. وَفِيه: الِاسْتِعَانَة
فِي الطَّهَارَة. وَفِيه: جَوَاز الْكَلَام وَالسَّلَام
حَالَة الطَّهَارَة، وَلَكِن لَا بُد من غض الْبَصَر
عَنهُ. وَفِيه: التناظر فِي الْمسَائِل والتحاكم فِيهَا
إِلَى الشُّيُوخ الْعَالمين بهَا. وَفِيه: جَوَاز غسل
الْمحرم وتشريبه شعره بِالْمَاءِ ودلكه بِيَدِهِ إِذا أَمن
تناثره، وَاسْتدلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيّ على وجوب الدَّلْك
فِي الْغسْل، قَالَ: لِأَن الْغسْل لَو كَانَ يتم
بِدُونِهِ لَكَانَ الْمحرم أَحَق بِأَن يجوز لَهُ تَركه،
وَفِيه: نظر لَا يخفى، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي غسل
الْمحرم رَأسه، فَذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: إِلَى
أَنه لَا بَأْس بذلك، وَردت الرُّخْصَة بذلك عَن عمر بن
الْخطاب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور،
(10/202)
وحجتهم حَدِيث الْبَاب. وَكَانَ مَالك يكره
ذَلِك للْمحرمِ، وَذكر أَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ لَا يغسل رَأسه إلاَّ من
الِاحْتِلَام.
51 - (بابُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ
يَجِدِ النَّعْلَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم لبس الْخُفَّيْنِ للْمحرمِ
إِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ هَل يقطع الْخُفَّيْنِ أم لَا؟
1481 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ
قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ
جابِرَ بنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ بِعَرَفاتٍ منْ لَمْ يَجِدِ
النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ ومنْ لَمْ يَجِدْ
إزَارا فَلْيَلْبَسُ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليلبس الْخُفَّيْنِ) ،
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ
وَجَابِر بن زيد أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ اليحمدي
الجوفي، بِالْجِيم نِسْبَة إِلَى نَاحيَة من عمان،
الْبَصْرِيّ من ثِقَات التَّابِعين، وَقد مضى صدر هَذَا
الحَدِيث فِي: بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى.
قَوْله: (فليلبس الْخُفَّيْنِ) أَي: مَقْطُوع الْأَسْفَل
إِذْ الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد. قَوْله: (الْمحرم)
، مَرْفُوع على أَنه فَاعل: فليلبس، و: سَرَاوِيل،
مَفْعُوله. ويروى: (للْمحرمِ) بِاللَّامِ الجارة الَّتِي
للْبَيَان أَي: هَذَا الحكم للْمحرمِ، كاللام فِي: هيت
لَك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث
أَحْمد فَأجَاز لبس الْخُف والسراويل للْمحرمِ الَّذِي لَا
يجد النَّعْلَيْنِ، والإزار على حَالهمَا، وَاشْترط
الْجُمْهُور قطع الْخُف وفتق السَّرَاوِيل، وَلَو لبس
شَيْئا مِنْهُمَا على حَاله لَزِمته الْفِدْيَة لحَدِيث
ابْن عمر: (وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا أَسْفَل من
الْكَعْبَيْنِ) ، وَقد قُلْنَا: إِن الْمُطلق هَهُنَا
مَحْمُول على الْمُقَيد لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الحكم،
وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة جَوَاز لبس السَّرَاوِيل
بِغَيْر فتق. كَقَوْل أَحْمد، وَاشْترط الفتق مُحَمَّد بن
الْحسن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَطَائِفَة، وَعَن أبي
حنيفَة: منع السَّرَاوِيل للْمحرمِ مُطلقًا، وَمثله عَن
مَالك، وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من أَصْحَابنَا: يجوز
لبسه وَعَلِيهِ الْفِدْيَة.
2481 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ شِهابٍ عنْ
سَالِمٍ عنْ أبِيهِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَلْبَسُ
المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ فَقَالَ لاَ يَلْبَس
الْقَمِيصَ ولاَ الْعَمَائِمَ ولاَ السَّرَاوِيلاتِ ولاَ
البُرْنُسَ ولاَ ثَوْبا مسَّهُ زَعْفَرَانٌ ولاَ وَرْسٌ
وإنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ
ولْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أسْفَلَ مِنَ
الْكَعْبَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن لم يجد
نَعْلَيْنِ، وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا أَسْفَل من
الْكَعْبَيْنِ) وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن
ابْن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي،
كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن عمر، والْحَدِيث
مضى فِي: بَاب مَا ينْهَى من الطّيب للْمحرمِ، وَلكنه
مُخْتَلف الْإِسْنَاد والمتن.
61 - (بابٌ إذَا لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبِسِ
السَّرَاوِيلَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يجد الَّذِي يُرِيد
الْإِحْرَام الْإِزَار يشد بِهِ وَسطه فليلبس السَّرَاوِيل
حِينَئِذٍ.
3481 - حدَّثني آدم قَالَ حدَّثنا شُعْبَةْ قَالَ حدَّثنا
عَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ جابِرِ بنِ زَيْدٍ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَنَا
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ منْ
لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ ومَنْ
لَمْ يَجدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من لم يجد الْإِزَار
فليلبس السَّرَاوِيل) ، والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب
السَّابِق، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن أبي
(10/203)
الْوَلِيد عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا: عَن آدم
عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.
71 - (بابُ لُبْسِ السِّلاحِ لِلْمُحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز لبس السِّلَاح للْمحرمِ
إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ إذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ
السِّلاحَ وافْتَدَى ولمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي
الفِدْيَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَوْله: (عِكْرِمَة) هُوَ
مولى ابْن عَبَّاس. قَوْله: (إِذا خشِي) أَي: الْمحرم،
وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَيْهِ بِدلَالَة الْقَرِينَة
عَلَيْهِ. قَوْله: (وافتدى) أَي: أعْطى الْفِدْيَة،
وَقَالَ ابْن بطال: أجَاز مَالك وَالشَّافِعِيّ حمل
السِّلَاح للْمحرمِ فِي الْحَج وَالْعمْرَة، وَكَرِهَهُ
الْحسن. قَوْله: (وَلم يُتَابع عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَة) ،
من كَلَام البُخَارِيّ، وَلم يُتَابع على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: لم يُتَابع عِكْرِمَة على قَوْله:
(وافتدى) ، وَحَاصِل الْكَلَام لم يقل أحد غَيره بِوُجُوب
الْفِدْيَة عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيّ: لَعَلَّه أَرَادَ
أذا كَانَ محرما، فَلَا يكون مُخَالفا للْجَمَاعَة
وَيَقْتَضِي كَلَام البُخَارِيّ أَنه توبع عَلَيْهِ فِي
جَوَاز لبس السِّلَاح عِنْد الخشية، وخولف فِي وجوب
الْفِدْيَة.
81 - (بابُ دُخُولِ الحَرَمِ ومَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول الْحرم بِغَيْر
إِحْرَام إِذا لم يرد الْحَج وَالْعمْرَة. قَوْله:
(وَمَكَّة) ، أَي: وَدخُول مَكَّة، وَهُوَ من عطف الْخَاص
على الْعَام، لِأَن المُرَاد من مَكَّة هُنَا الْبَلَد،
فَيكون الْحرم أعلم.
ودَخَلَ ابنُ عُمَرَ حَلالاً
أَي: دخل عبد الله بن عمر مَكَّة حَال كَونه حَلَالا
بِغَيْر إِحْرَام، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي
(الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع قَالَ: أقبل عبد الله بن عمر
من مَكَّة حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد بِضَم الْقَاف جَاءَهُ
خبر عَن الْفِتْنَة فَرجع فَدخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام،
وروى ابْن أبي
(10/204)
شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عَليّ بن مسْهر
عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن عبد الله، وبلغه بِقديد أَن
جَيْشًا من جيوش الْفِتْنَة دخلُوا الْمَدِينَة، فكره أَن
يدْخل عَلَيْهِم فَرجع إِلَى مَكَّة فَدَخلَهَا بِغَيْر
إِحْرَام.
وإنَّما أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإهْلالِ
لِمَنْ أرَادَ الحَجَّ والْعُمْرَةَ ولَمْ يَذْكُرْهُ
لِلْحَطَّابِينَ وغَيْرِهمْ
هَذَا كُله من كَلَام البُخَارِيّ. قَوْله: (وَلم يذكرهُ)
أَي: وَلم يذكر الإهلال أَي: الْإِحْرَام للحطابين أَي:
للَّذين يجلبون الْحَطب إِلَى مَكَّة للْبيع، ويروى: وَلم
يذكر الحطابين بِغَيْر الضَّمِير أَي: لم يذكرهم فِي منع
الدُّخُول بِغَيْر إِحْرَام، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن
مذْهبه أَن من دخل مَكَّة من غير أَن يُرِيد الْحَج أَو
الْعمرَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك
بِمَفْهُوم حَدِيث ابْن عَبَّاس مِمَّن أَرَادَ الْحَج
وَالْعمْرَة، وَمَفْهُوم هَذَا أَن المتردد إِلَى مَكَّة
عَن غير قصد الْحَج أَو الْعمرَة لَا يلْزمه الْإِحْرَام.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب، فَقَالَ ابْن
الْقصار: وَاخْتلف قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي جَوَاز
دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام لمن لم يرد الْحَج
وَالْعمْرَة، فَقَالَا مرّة: لَا يجوز دُخُولهَا إِلَّا
بِالْإِحْرَامِ لاختصاصها ومباينتها جَمِيع الْبلدَانِ
إلاَّ الحطابين، وَمن قرب مِنْهَا مثل جدة والطائف
وَعُسْفَان لِكَثْرَة ترددهم إِلَيْهَا، وَبِه قَالَ أَبُو
حنيفَة وَاللَّيْث، وعَلى هَذَا فَلَا دم عَلَيْهِ، نَص
عَلَيْهِ فِي (الْمُدَوَّنَة) . وَقَالا مرّة أُخْرَى:
دُخُولهَا بِهِ مُسْتَحبّ لَا وَاجِب. قلت: مَذْهَب
الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي
قَول، وَمَالك فِي رِوَايَة، وَابْن وهب وَدَاوُد بن عَليّ
وَأَصْحَابه الظَّاهِرِيَّة: أَنه لَا بَأْس بِدُخُول
الْحرم بِغَيْر إِحْرَام، وَمذهب عَطاء بن أبي رَبَاح
وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه
وَمَالك فِي رِوَايَة، وَهِي قَوْله الصَّحِيح،
وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأحمد وَأبي ثَوْر
وَالْحسن بن حَيّ: لَا يصلح لأحد كَانَ منزله من وَرَاء
الْمِيقَات إِلَى الْأَمْصَار أَن يدْخل مَكَّة إِلَّا
بِالْإِحْرَامِ، فَإِن لم يفعل أساءو لَا شَيْء عَلَيْهِ
عِنْد الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَعند أبي حنيفَة:
عَلَيْهِ حجَّة أَو عمْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم
خلافًا بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي الحطابين وَمن يدمن
الِاخْتِلَاف إِلَى مَكَّة ويكثره فِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة أَنهم لَا يأمرون بذلك لما عَلَيْهِم من
الْمَشَقَّة، وَقَالَ ابْن وهب عَن مَالك: لست آخذ بقول
ابْن شهَاب فِي دُخُول الْإِنْسَان مَكَّة بِغَيْر
إِحْرَام، وَقَالَ: إِنَّمَا يكون ذَلِك على مثل مَا عمل
بِهِ عبد الله بن عمر من الْقرب إلاَّ رجلا يَأْتِي
بالفاكهة من الطَّائِف، أَو ينْقل الْخطب يَبِيعهُ، فَلَا
أرى بذلك بَأْسا. قيل لَهُ: فرجوع ابْن عمر من قديد إِلَى
مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام؟ فَقَالَ: ذَلِك أَنه جَاءَهُ خبر
من جيوش الْمَدِينَة.
5481 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ
حدَّثنا ابنُ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ
ولأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلَ ولأِهْلِ الْيَمَنِ
يَلَمْلَمَ هُنَّ ولِكُلِّ آتٍ عَلَيْهِنَّ مِنْ
غَيْرِهِمْ مَنْ أرَادَ الحَجَّ والْعُمْرَةَ فَمَنْ كانَ
دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أنْشَأَ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ
مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من أَرَادَ الْحَج
وَالْعمْرَة) ، حَيْثُ خصص لمريدهما الْمَوَاقِيت وَلم
يعين لغير مريدهما ميقاتا. والْحَدِيث مضى بِعَيْنِه فِي
أَوَائِل كتاب الْحَج فِي: بَاب مهل مَكَّة، غير أَنه
أخرجه: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب، وَهَهُنَا
أخرجه: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم القصاب عَن وهيب بن
خَالِد عَن عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
6481 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
دخَلَ عامَ الفَتْحِ وعَلى رَأسِهِ المغْفرُ فَلَمَّا
نزَعَهُ جاءَ رَجُلً فَقال إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّق
بأسْتَارِ الكَعْبَةَ فَقَالَ اقْتُلُوهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة وعَلى رَأسه المغفر، فَلَو
كَانَ محرما لَكَانَ يدْخل وَهُوَ مَكْشُوف الرَّأْس،
والترجمة فِي دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام. وَهَذَا
الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن أبي
الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ،
(10/205)
وَفِي الْجِهَاد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي
أويس، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن قزعة، وَأخرجه مُسلم
فِي الْمَنَاسِك عَن القعْنبِي وَيحيى بن يحيى وقتيبة كلهم
عَن مَالك، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن
القعْنبِي بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة بِهِ وَفِي الشَّمَائِل عَن عِيسَى بن أَحْمد
عَن ابْن وهب عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج
عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عبيد الله بن فضَالة عَن
الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَنهُ بِهِ
مُخْتَصرا. وَفِي السّير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن
الْقَاسِم عَنهُ بِتَمَامِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الْجِهَاد عَن هِشَام بن عمار وسُويد بن سعيد كِلَاهُمَا
عَنهُ بِهِ.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: وَهَذَا الحَدِيث عد من
أَفْرَاد مَالك، تفرد بقوله: (وعَلى رَأسه المغفر) كَمَا
تفرد بِحَدِيث: (الرَّاكِب شَيْطَان) ، وَبِحَدِيث:
(السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) ، وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: قد أوردت أَحَادِيث من رَوَاهُ عَن
مَالك فِي جُزْء مُفْرد وهم نَحْو من مائَة وَعشْرين رجلا
أَو أَكثر مِنْهُم: السُّفْيانَانِ وَابْن جريج
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث تفرد
بِهِ مَالك وَلَا يحفظ عَن غَيره وَلم يروه عَن ابْن شهَاب
سَوَاء من طَرِيق صَحِيح، وَقد رُوِيَ عَن ابْن أخي ابْن
شهَاب عَن عَمه عَن أنس، وَلَا يكَاد يَصح، وَرُوِيَ من
غير هَذَا الْوَجْه، وَلَا يثبت أهل الْعلم فِيهِ
إِسْنَادًا غير حَدِيث مَالك، وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو أويس
وَالْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وروى مُحَمَّد بن سليم
بن الْوَلِيد الْعَسْقَلَانِي عَن مُحَمَّد بن السّري عَن
عبد الرَّزَّاق عَن مَالك وَعَن ابْن شهَاب (عَن أنس: دخل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح
وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) ، وَمُحَمّد بن سليم لم يكن
مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ، وَتَابعه على ذَلِك بِهَذَا
الْإِسْنَاد الْوَلِيد بن مُسلم وَيحيى الوحاظي، وَمَعَ
هَذَا فَإِنَّهُ لَا يحفظه عَن مَالك فِي هَذَا، إلاَّ
المغفر. قَالَ أَبُو عمر، وَرُوِيَ من طَرِيق أَحْمد بن
إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن أبي الزبير (عَن جَابر: أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة
سَوْدَاء) ، وَلم يقل: عَام الْفَتْح، وَهُوَ مَحْفُوظ من
حَدِيث جَابر زَاد مُسلم فِي (صَحِيحه) : (بِغَيْر
إِحْرَام) .
قَالَ وروى جمَاعَة مِنْهُم بشر بن عمرَان الزهْرَانِي
وَمَنْصُور بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ حَدِيث المغفر
فَقَالَا: مغفر من حَدِيد، وَمَنْصُور وَبشر ثقتان،
وتابعهما على ذَلِك جمَاعَة لَيْسُوا هُنَاكَ، وَكَذَا
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن سَلام عَن ابْن بكير عَن
مَالك، وَرَوَاهُ روح بن عبَادَة بِإِسْنَادِهِ هَذَا
وَفِيه زِيَادَة: (وَطَاف وَعَلِيهِ المغفر) ، وَلم يقلهُ
غَيره، وَرَوَاهُ عبد الله بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ عَن
مَالك عَن الزُّهْرِيّ (عَن أنس قَالَ: دخل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح مَكَّة وعَلى رَأسه
مغفر، واستلم الْحجر بمحجن) ، وَهَذَا لم يقلهُ عَن مَالك
غير عبد الله هَذَا، وروى دَاوُد بن الزبْرِقَان عَن معمر
وَمَالك جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب (عَن أنس: أَنه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، دخل عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان وَلَيْسَ
بصائم) . وَهَذَا اللَّفْظ لَيْسَ بِمَحْفُوظ بِهَذَا
الْإِسْنَاد لمَالِك من هَذَا الْوَجْه، وَقد روى سُوَيْد
بن سعيد عَن مَالك عَن ابْن شهَاب (عَن أنس: أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة عَام الْفَتْح غير محرم) ،
وَتَابعه على ذَلِك عَن مَالك إِبْرَاهِيم بن عَليّ
المقرىء، وَهَذَا لَا يعرف هَكَذَا، إلاَّ بهما وَإِنَّمَا
هُوَ فِي الْمُوَطَّأ عِنْد جمَاعَة الروَاة من قَول ابْن
شهَاب لم يرفعهُ إِلَى أنس.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي الإكليل: اخْتلفت الرِّوَايَات فِي
لبسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِمَامَة والمغفر يَوْم
الْفَتْح، وَلم يَخْتَلِفُوا أَنه دَخلهَا وَهُوَ حَلَال.
قَالَ: وَقَالَ بعض النَّاس: الْعِمَامَة كالمغفر على
الرَّأْس وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث جَابر الْمَذْكُور آنِفا.
قَالَ: وَهُوَ، وَإِن صَححهُ مُسلم، وَحده، فَالْأول
يَعْنِي: حَدِيث أنس مجمع على صِحَّته، وَالدَّلِيل على
أَن المغفر غير الْعِمَامَة قَوْله: من حَدِيد، فَبَان
بِهَذَا أَن حَدِيث المغفر من حَدِيد أثبت من الْعِمَامَة
السَّوْدَاء، لِأَن راويها أَبُو الزبير. وَقَالَ عَمْرو
بن دِينَار: أَبُو الزبير يحْتَاج إِلَى دعامة، وَقد روى
عَمْرو بن حُرَيْث ومزيدة وعنبسة صَاحب (الألواح) عَن عبيد
الله ابْن أبي بكر (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبس الْعِمَامَة
السَّوْدَاء) ، وَلَا يَصح مِنْهَا، وَإِنَّمَا لبس
الْبيَاض وَأمر بِهِ. قلت: روى مُسلم من طرق من حَدِيث أبي
الزبير (عَن جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ
عِمَامَة سَوْدَاء) ، وَمن طَرِيق جَعْفَر بن عَمْرو بن
حُرَيْث عَن أَبِيه قَالَ: (كَأَنِّي أنظر إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء
قد أرْخى طرفيها بَين كَتفيهِ) ، وَقَالَ ابْن السّديّ:
إِن ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ حِين قيل لَهُ: لم يروه إلاَّ
مَالك قد رويته من ثَلَاثَة عشر طَرِيقا غير طَرِيق مَالك،
واتهموه فِي ذَلِك ونسبوه إِلَى المجازفة، وَقد أخطأوا فِي
ذَلِك لقلَّة أطلاعهم فِي هَذَا الْبَاب وَعدم وقوفهم على
مَا وقف عَلَيْهِ ابْن الْعَرَبِيّ، وَقَالَ شَيخنَا زين
الدّين، رَحمَه الله، حِين قيل لَهُ: تفرد بِهِ
الزُّهْرِيّ عَن مَالك: إِنَّه قد ورد من طَرِيق ابْن أخري
الزُّهْرِيّ وَأبي أويس وَمعمر وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ:
إِن رِوَايَة ابْن أخي الزُّهْرِيّ عِنْد الْبَزَّار،
وَرِوَايَة أبي أويس عِنْد ابْن سعد وَابْن عدي،
وَرِوَايَة معمر ذكرهَا ابْن عدي، وَرِوَايَة
الْأَوْزَاعِيّ ذكرهَا لمزي، وَقيل: يُقَال: إِنَّه يحمل
قَول من قَالَ: تفرد بِهِ مَالك،
(10/206)
يَعْنِي بِشَرْط الصِّحَّة وَلَيْسَ طَرِيق
غير طَرِيق مَالك فِي شَرط الصِّحَّة. فَافْهَم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن أنس) فِي رِوَايَة أبي أويس
عِنْد ابْن سعد: أَن أنس بن مَالك حَدثهُ. قَوْله: (وعَلى
رَأسه المغفر) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَفتح الْفَاء، قَالَ ابْن سَيّده، المغفر
وَالْمَغْفِرَة والغفارة: زرد ينسج من الدروع على قدر
الرَّأْس، وَقيل: هُوَ رَفْرَف الْبَيْضَة، وَقيل: هُوَ
حلق يتقنع بِهِ المتسلح، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مَا
غطى الرَّأْس من السِّلَاح: كالبيضة وَشبههَا من حَدِيد
كَانَ ذَلِك أَو غَيره، وَفِي (الْمَشَارِق) : هُوَ مَا
يَجْعَل من فضل درع الْحَدِيد على الرَّأْس مثل القلنسوة.
فَإِن قلت: روى زيد بن الْحباب عَن مَالك يَوْم الْفَتْح:
وَعَلِيهِ مغفر من حَدِيد، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي
(الغرائب) وَالْحَاكِم فِي (الإكليل) وَقد مر عَن مُسلم:
(دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) .
وَبَين الرِّوَايَتَيْنِ تعَارض؟ قلت: قَالَ أَبُو عمر:
لَيْسَ عِنْدِي تعَارض، فَإِنَّهُ يُمكن أَن يكون على
رَأسه عِمَامَة سَوْدَاء وَعَلَيْهَا المغفر، فَلَا يتعارض
الحديثان، وَذكر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن طَاهِر
الداني فِي كِتَابه (أَطْرَاف الْمُوَطَّأ) : لَعَلَّ
المغفر كَانَ تَحت الْعِمَامَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ،
يكون نزع المغفر عِنْد انقياد أهل مَكَّة وَلبس
الْعِمَامَة بعده، وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا خطبَته
وَعَلِيهِ الْعِمَامَة، لِأَن الْخطْبَة إِنَّمَا كَانَت
عِنْد بَاب الْكَعْبَة بعد تَمام الْفَتْح، وَقيل فِي
الْجَواب عَن ذَلِك: إِن الْعِمَامَة السَّوْدَاء كَانَت
ملفوفة فَوق المغفر، وَكَانَت تَحت وقاية لراسه من صدى
الْحَدِيد فَأَرَادَ أنس بِذكر المغفر كَونه دخل متأهبا
للحرب، وَأَرَادَ جَابر بِذكر الْعِمَامَة كَونه دخل غير
محرم. قَوْله: (فَلَمَّا نَزعه) أَي: فَلَمَّا قلعه،
وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى المغفر. قَوْله:
(جَاءَهُ رجل) ، وَهُوَ أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح
الزَّاي، واسْمه نَضْلَة بن عبيد وَجزم بِهِ الْكرْمَانِي
والفاكهي فِي (شرح الْعُمْدَة) : قَوْله: (ابْن خطل)
مُبْتَدأ أَو خَبره وَهُوَ قَوْله: (مُتَعَلق بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَة) ، وَالْجُمْلَة مقول لقَوْله: (قَالَ) ، أَي:
قَالَ ذَلِك الرجل، وَاسم ابْن خطل: عبد الله، وَقيل:
هِلَال وَلَيْسَ بِصَحِيح، وهلال اسْم أَخِيه، صرح بذلك
الْكَلْبِيّ فِي (النّسَب) وَالأَصَح أَن اسْمه كَانَ عبد
الْعُزَّى فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا أسلم سمي عبد
الله. وَقيل: هُوَ عبد الله بن هِلَال بن خطل، وَقيل:
غَالب بن عبد الله بن خطل، وَاسم خطل عبد منَاف من بني
تَمِيم ابْن فهر بن غَالب، وخطل لقب عَلَيْهِ. قَوْله:
(فَقَالَ: اقْتُلُوهُ) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: اقْتُلُوهُ أَي: ابْن خطل فَقتل.
وَاخْتلف فِي اسْم قَاتله، فَقيل: قَتله أَبُو بَرزَة،
وَقيل: سعيد بن حُرَيْث المَخْزُومِي، وَقيل: زبير بن
الْعَوام، وَجزم ابْن هِشَام فِي (السِّيرَة) بِأَنَّهُ
سعيد بن حُرَيْث وَأَبا بَرزَة الْأَسْلَمِيّ اشْتَركَا
فِي قَتله. وَفِي حَدِيث سعيد بن يَرْبُوع عِنْد الْحَاكِم
وَالدَّارَقُطْنِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: (أَرْبَعَة لَا أؤمنهم فِي حل وَلَا حرم:
الْحُوَيْرِث بن نقيد) بِضَم النُّون وَفتح الْقَاف مصغر
(وهلال ابْن خطل، وَمقيس بن صبَابَة، وَعبد الله بن أبي
سرح. قَالَ: فَأَما هِلَال بن خطل فَقتله الزبير) . وروى
الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) نَحوه من
حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، لَكِن قَالَ: أَرْبَعَة نفر،
وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِن
وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلقين بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة. لَكِن
قَالَ: عبد الله بن خطل، بدل: هِلَال، وَقَالَ عِكْرِمَة:
بدل، الْحُوَيْرِث، وَلم يسم الْمَرْأَتَيْنِ. وَقَالَ:
فَأَما عبد الله بن خطل فَأدْرك وَهُوَ مُتَعَلق
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة، فَاسْتَبق إِلَيْهِ سعيد بن
حُرَيْث وعمار بن يَاسر فَسبق سعيد عمارا. وَكَانَ أثبت
الرجلَيْن فَقتله، وروى ابْن أبي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ
فِي (الدَّلَائِل) من طَرِيق الحكم بن عبد الْملك عَن
قَتَادَة (عَن أنس: أَمن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، النَّاس يَوْم فتح مَكَّة إلاَّ أَرْبَعَة من
النَّاس: عبد الْعُزَّى بن خطل، وَمقيس بن صبَابَة
الْكِنَانِي، وَعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وَأم سارة.
فَأَما عبد الْعُزَّى بن خطل فَقتل وَهُوَ مُتَعَلق
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: فَقتل بَين
الْمقَام وزمزم، وروى الْحَاكِم من طَرِيق أبي معشر عَن
يُوسُف بن يَعْقُوب عَن السَّائِب بن زيد، قَالَ: فَأخذ
عبد الله بن خطل من تَحت أَسْتَار الْكَعْبَة فَقتل بَين
الْمقَام وزمزم، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي
عُثْمَان النَّهْدِيّ أَن أَبَا بَرزَة الْأَسْلَمِيّ قتل
ابْن خطل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة،
وَرَوَاهُ أَحْمد من وَجه آخر وَهُوَ أصح مَا ورد فِي
تعْيين قَاتله. وَبِه جزم البلاذري وَغَيره. وَأهل الْعلم
بالأخبار. وَتحمل بَقِيَّة الرِّوَايَات على أَنهم ابتدروا
قَتله، فَكَانَ الْمُبَاشر لقَتله أَبُو بَرزَة.
وَقد جمع الْوَاقِدِيّ عَن شُيُوخه أَسمَاء من لم يُؤمن
يَوْم الْفَتْح، وَأمر بقتْله عشرَة أنفس: سِتَّة رجال
وَأَرْبع نسْوَة، وَالسَّبَب فِي قتل ابْن خطل وَعدم
دُخُوله فِي قَوْله (من دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن) مَا
رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي: (حَدثنِي عبد الله
بن أبي بكر وَغَيره أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
(10/207)
حِين دخل مَكَّة قَالَ: لَا يقتل أحد إلاَّ
من قَاتل إلاَّ نَفرا سماهم، فَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِن
وَجَدْتُمُوهُمْ تَحت أَسْتَار الْكَعْبَة، مِنْهُم: عبد
الله بن خطل وَعبد الله بن سعد) . وَإِنَّمَا أَمر بقتل
ابْن خطل لِأَنَّهُ كَانَ مُسلما، فَبَعثه رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا وَبعث مَعَه رجلا من
الْأَنْصَار وَكَانَ مَعَه مولى يَخْدمه وَكَانَ مُسلما،
فَنزل منزلا فَأمر الْمولى أَن يذبح تَيْسًا ويصنع لَهُ
طَعَاما ونام، واستيقظ وَلم يصنع لَهُ شَيْئا، فَعدا
عَلَيْهِ فَقتله ثمَّ ارْتَدَّ مُشْركًا، وَكَانَت لَهُ
قينتان تُغنيَانِ بِهِجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَقَالَ أَبُو عمر: لِأَنَّهُ كَانَ أسلم وَبَعثه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا وَبعث مَعَه
رجلا من الْأَنْصَار وَأمر عَلَيْهِم الْأنْصَارِيّ،
فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وثب على الْأنْصَارِيّ
فَقتله وَذهب بِمَالِه. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) :
وروينا فِي مجَالِس الْجَوْهَرِي أَنه كَانَ يكْتب
الْوَحْي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ إِذا
نزل: غَفُور رَحِيم، يكْتب: رَحِيم غَفُور، وَإِذا أنزل:
سميع عليم، وَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى الضَّحَّاك عَن
النزال بن سُبْرَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَكَانَ يُقَال لِابْنِ خطل: ذَا
القلبين، وَفِيه نزل قَوْله: {مَا جعل الله لرجل من قلبين
فِي جَوْفه} (الْأَحْزَاب: 4) . فِي رِوَايَة يُونُس عَن
ابْن إِسْحَاق: لما قتل يَعْنِي ابْن خطل قَالَ سيدنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يقتل قرشي صبرا
بعد هَذَا الْيَوْم، وَقيل: قَالَ هَذَا فِي غَيره. وَهُوَ
الْأَكْثَر، وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك أَن الحَدِيث فِيهِ
دلَالَة على جَوَاز دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام. فَإِن
قلت: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
محرما، وَلكنه غطى رَأسه لعذر. قلت: قد مر فِي حَدِيث
مُسلم عَن جَابر أَنه لم يكن محرما. فَإِن قلت: يشكل هَذَا
من وَجه آخر، وَهُوَ أَنه. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ
متأهبا لِلْقِتَالِ، وَمن كَانَ هَذَا شَأْنه جَازَ لَهُ
الدُّخُول بِغَيْر إِحْرَام قلت: حَدِيث جَابر أَعم من
هَذَا، فَمن لم يرد نسكا جَازَ دُخُوله لِحَاجَتِهِ،
تكَرر: كالحطاب والحشاش والسقَّاء والصياد وَغَيرهم، أم لم
يتَكَرَّر: كالتاجر والزائر وَغَيرهمَا، وَسَوَاء كَانَ
آمنا أَو خَائفًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا أصح
الْقَوْلَيْنِ للشَّافِعِيّ، وَبِه يُفْتِي أَصْحَابه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجوز دُخُولهَا بِغَيْر
إِحْرَام إِن كَانَت حَاجته لَا تكَرر إلاَّ أَن يكون
مُقَاتِلًا أَو خَائفًا من قتال أَو من ظَالِم لَو ظهر،
وَنقل القَاضِي نَحْو هَذَا عَن أَكثر الْعلمَاء. انْتهى.
وَاحْتج أَيْضا من أجَاز دُخُولهَا بِغَيْر إِحْرَام أَن
فرض الْحَج مرّة فِي الدَّهْر، وَكَذَا الْعمرَة، فَمن
أوجب على الدَّاخِل إحراما فقد أوجب عَلَيْهِ غير مَا أوجب
الله. وَمِنْه: اسْتِدْلَال بَعضهم بِحَدِيث الْبَاب على
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتح مَكَّة عنْوَة،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة والأكثرين. وَقَالَ الشَّافِعِي
وَغَيره: فتحت صلحا، وتأولوا هَذَا الحَدِيث على أَن
الْقِتَال كَانَ جَائِزا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
مَكَّة، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ لفعله، وَلَكِن مَا
احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كَانَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صَالحهمْ، وَلَكِن لما لم يَأْمَن غدرهم
دخل متأهبا. قلت: لَا يعرف فِي شَيْء من الْأَخْبَار
صَرِيحًا أَنه صَالحهمْ. وَمِنْه: اسْتِدْلَال بَعضهم على
جَوَاز إِقَامَة الْحُدُود وَالْقصاص فِي حرم مَكَّة،
قُلْنَا: قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل
عمرَان: 69) . وَمَتى تعرض إِلَى من التجأ بِهِ يكون سلب
الْأَمْن عَنهُ، وَهَذَا لَا يجوز، وَكَانَ قتل ابْن خطل
فِي السَّاعَة الَّتِي أحلّت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَمِنْه: اسْتِدْلَال جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة
على جَوَاز قتل من سبّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأَنه يقتل وَلَا يُسْتَتَاب. وَقَالَ أَبُو عمر: فِيهِ
نظر، لِأَن ابْن خطل كَانَ حَرْبِيّا وَلم يدْخلهُ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أَمَانه لأهل مَكَّة،
بل اسْتَثْنَاهُ مَعَ من اسْتثْنى. وَمِنْه: مَشْرُوعِيَّة
لبس المغفر وَغَيره من آلَات السِّلَاح حَال الْخَوْف من
الْعَدو، وَأَنه لَا يُنَافِي التَّوَكُّل. وَمِنْه:
جَوَاز رفع أَخْبَار أهل الْفساد إِلَى وُلَاة الْأَمر،
وَلَا يكون ذَلِك من الْغَيْبَة الْمُحرمَة وَلَا النميمة.
91 - (بَاب إذَا أحْرَمَ جاهِلاً وعلَيْهِ قَمِيصٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحرم شخص حَال كَونه
جَاهِلا بِأُمُور الْإِحْرَام، وَالْحَال أَن عَلَيْهِ
قَمِيصًا وَلم يدر هَل عَلَيْهِ فديَة فِي ذَلِك أم لَا؟
وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب لِأَن حَدِيث الْبَاب لَا
يُصَرح بِعَدَمِ وجوب الْفِدْيَة. ألاَ ترى أَنه ذكر أَولا
أثر عَطاء بن أبي رَبَاح الَّذِي هُوَ رَاوِي حَدِيث
الْبَاب، وَلَو كَانَ فهم مِنْهُ وجوب الْفِدْيَة لما
خَفِي عَلَيْهِ، فَلذَلِك قَالَ: لَا فديَة عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ إذَا تَطَيَّبَ أوْ لَبِسَ جاهِلاً أوْ
نَاسِيا فَلاَ كَفَّارةَ عَلَيْهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي
رَبَاح. قَوْله: (إِذا تطيب) ، أَي: الْمحرم: وجاهلاً
وناسيا، حالان، وَيَقُول عَطاء: قَالَ
(10/208)
الشَّافِعِي، وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه
تجب الْفِدْيَة بالتطيب نَاسِيا، وباللبس نَاسِيا قِيَاسا
على الْأكل فِي الصَّلَاة.
7481 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ
قَالَ حدَّثنا عَطَاءٌ قَالَ حدَّثني صَفْوَانُ بنُ
يَعْلَى عنْ أبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فأتاهُ رَجلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فِيهِ أثَرُ
صُفْرَةٍ أوْ نَحْوُهُ كانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي تُحِبُّ
إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ أنْ تَرَاهُ فنَزَلَ
عَلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اصْنَعْ فِي
عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ. وعَضَّ رَجُلٌ يَدَ
رَجُلٍ يَعْنِي فانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فأبْطَلَهُ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل كَانَ قد أحرم
بِالْعُمْرَةِ وَعَلِيهِ جُبَّة وَكَانَ جَاهِلا بِأَمْر
الْإِحْرَام. فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة لفظ
الْقَمِيص، وَالْمَذْكُور فِي الحَدِيث لفظ الْجُبَّة،
فَمن أَيْن الْمُطَابقَة؟ قلت: لَا شكّ أَن حكمهمَا وَاحِد
فِي التّرْك، وَكَيف لَا والجبة قَمِيص مَعَ شَيْء آخر،
لِأَن الْجُبَّة ذَات طاقين.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام
بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. الثَّانِي: همام بن يحيى بن
دِينَار العوذي الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عَطاء
بن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ. الرَّابِع: صَفْوَان بن يعلى
التَّمِيمِي أَو التَّيْمِيّ الْمَكِّيّ. الْخَامِس:
أَبوهُ يعلى بن أُميَّة، وَيُقَال لَهُ: ابْن منية، وَهِي
أمه أُخْت عتبَة بنت غَزوَان، كَانَ عَامل عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على نَجْرَان، عداده فِي أهل مَكَّة، سمع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد البُخَارِيّ
وَمُسلم، وروى عَن عمر عِنْد مُسلم فِي الصَّلَاة، روى
عَنهُ ابْنه صَفْوَان عِنْدهمَا، وَعبد الله بن بابية
عِنْد مُسلم، وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف)
: يعلى بن أُميَّة، وَهُوَ أَبُو خلف، وَيُقَال: أَبُو
خَالِد، وَيُقَال: أَبُو صَفْوَان يعلى بن أُميَّة بن أبي
عُبَيْدَة، واسْمه: عبيد، وَيُقَال: زيد بن همام بن
الْحَارِث بن بكر بن زيد بن مَالك بن حَنْظَلَة بن مَالك
بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَيعرف بِابْن منية وَهِي أمه،
وَيُقَال: جدته، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَاهُ قَتَادَة
وَالْحجاج بن أَرْطَأَة وَغير وَاحِد عَن عَطاء عَن
صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قلت: أخرج الطَّرِيق الأول التِّرْمِذِيّ:
عَن قُتَيْبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن عبد الْملك بن
سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة، وَالنَّسَائِيّ
أَيْضا من رِوَايَة هشيم: عَن عبد الْملك، وَأخرجه أَيْضا
من رِوَايَة هشيم عَن مَنْصُور عَن عَطاء، وَأخرج أبي
دَاوُود من رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي بشر بن عَطاء،
وَأخرج الطَّرِيق الثَّانِي التِّرْمِذِيّ أَيْضا: عَن
ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن
عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا أخرجه الشَّيْخَانِ وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، فَأخْرجهُ مُسلم
وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، وَاتفقَ
الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ من طَرِيق ابْن جريج وَهَمَّام عَن
عَطاء، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة همام،
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن جريج، وَرَوَاهُ مُسلم
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة قيس بن سعد عَن
عَطاء، وَانْفَرَدَ بِهِ مُسلم من رِوَايَة رَبَاح بن أبي
مَعْرُوف عَن عَطاء، وَقَالَ بَعضهم: فِي الْإِسْنَاد
صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
أبي ذَر، وَهُوَ تَصْحِيف، وَالصَّوَاب مَا ثَبت فِي
رِوَايَة غَيره: صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه، فتصحف عَن
فَصَارَت ابْن، و: أَبِيه، فَصَارَت: أُميَّة، وَلَيْسَت
لِصَفْوَان صُحْبَة وَلَا رُؤْيَة. قلت: لم نجد فِي النّسخ
الْكثير الْمُعْتَبرَة إلاَّ: صَفْوَان بن يعلى عَن
أَبِيه، فَلَا يحْتَاج أَن ينْسب هَذَا التَّصْحِيف إِلَى
أبي ذَر، وَلَا إِلَى غَيره.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْحَج، وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن أبي
نعيم، وَفِي الْمَغَازِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم،
وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن أَيْضا عَن مُسَدّد، وَفِي
الْحَج أَيْضا. قَالَ أَبُو عَاصِم: وَأخرجه مُسلم فِي
الْحَج عَن شَيبَان بن فروخ عَن همام بِهِ، وَعَن زُهَيْر
بن حَرْب وَعَن عبد بن حميد وَعَن عَليّ بن خشرم عَن
مُحَمَّد بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عقبَة بن
مكرم وَمُحَمّد بن رَافع كِلَاهُمَا عَن وهب. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد رَحمَه الله، فِيهِ عَن عقبَة بن مكرم بِهِ
وَعَن مُحَمَّد بن كثير وَعَن مُحَمَّد بن عِيسَى وَعَن
يزِيد بن خَالِد عَن اللَّيْث عَن عَطاء عَن يعلى بن منية
عَن أَبِيه، كَذَا قَالَ، وَلم يقل: عَن أبي يعلى. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن نوح بن
حبيب وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعبد الْجَبَّار بن
الْعَلَاء، فرقهما وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن
عِيسَى بن حَمَّاد عَن لَيْث عَن عَطاء عَن ابْن منية عَن
أَبِيه بِهِ. فَافْهَم.
(10/209)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَأَتَاهُ رجل)
وَفِي رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عَطاء بن أبي
رَبَاح: (أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بحنين) ، الحَدِيث فِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ: فَبَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بالجعرانة وَمَعَهُ نفر من أَصْحَابه جَاءَ رجل) .
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ:
(رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجعرانة
أَعْرَابِيًا قد أحرم وَعَلِيهِ حَبَّة فَأمره أَن
يَنْزِعهَا. قَوْله: (عَلَيْهِ جُبَّة) ، جملَة إسمية فِي
مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لرجل. قَوْله: (فِيهِ أثر
صفرَة) أَي: فِي الرجل، ويروى: (بِهِ) ، أَي بِالرجلِ،
ويروى (وَعَلَيْهَا أثر صفرَة) ، أَي: وعَلى الْجُبَّة
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وَعَلِيهِ جُبَّة بهَا أثر من
خلوق) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كَيفَ ترى فِي رجل عَلَيْهِ
جُبَّة صوف متضمخ بِطيب؟) وَفِي رِوَايَة: (عَلَيْهِ
جُبَّة وَعَلَيْهَا خلوق) ، وَفِي رِوَايَة: (وَهُوَ متضمخ
بالخلوق) ، وَفِي رِوَايَة لغيره: (وَعَلِيهِ جُبَّة
عَلَيْهَا أثر الزَّعْفَرَان) ، وَفِي رِوَايَة:
(وَعَلِيهِ أثر الخلوق) ، وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة نوع من الطّيب يَجْعَل فِيهِ الزَّعْفَرَان.
قَوْله: (أَن ترَاهُ) أَن: كلمة مَصْدَرِيَّة، وَهُوَ فِي
مَحل النصب على أَنه مفعول لقَوْله: (تحب) . قَوْله: (ثمَّ
سري عَنهُ) ، بِضَم السِّين أَي كشف. قَوْله: (إصنع فِي
عمرتك مَا تصنع فِي حجك) ، يَعْنِي من الطّواف بِالْبَيْتِ
وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَالْحلق والاحتراز عَن
مَحْظُورَات الْإِحْرَام فِي الْحَج.
قَوْله: (وعض رجل يَد رجل) ، وَحَدِيث آخر وَمَسْأَلَة
مُسْتَقلَّة بذاتها، وَجه تعلقه بِالْبَابِ كَونه من
تَتِمَّة الحَدِيث، وَهُوَ مَذْكُور بالتبعية. قَوْله:
(تثنيته) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الثَّنية وَاحِدَة الثنايا
من السن. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: فِي الْفَم الْأَسْنَان
الثنايا والرباعيات والأنياب والضواحك والطواحين والأرحاء
والنواجذ، وَهِي سِتَّة وَثَلَاثُونَ، من فَوق وأسفل أَربع
ثنايا: ثنيتان من أَسْفَل وثنيتان من فَوق، ثمَّ يَلِي
الثنايا أَربع رباعيات، رباعيتان من فَوق ورباعيتان من
أَسْفَل ثمَّ يَلِي الرباعيات الأنياب، وَهِي أَرْبَعَة:
نابان من فَوق ونابان من أَسْفَل، ثمَّ يَلِي الأنياب
الضواحك، وَهِي أَرْبَعَة أضراس إِلَى كل نَاب من أَسْفَل
الْفَم وَأَعلاهُ: ضَاحِك ثمَّ يَلِي الضواحك الطواحين
والأرحاء، وَهِي سِتَّة عشر فِي كل شقّ ثَمَانِيَة:
أَرْبَعَة من فَوق وَأَرْبَعَة من أَسْفَل، ثمَّ يَلِي
الأرحاء النواجذ أَرْبَعَة أضراس وَهِي آخر الأضراس نباتا،
الْوَاحِد ناجذ. قَوْله: (فأبطله النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) أَي: جعله هدرا لِأَنَّهُ نَزعهَا دفعا
للصائل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَنه احْتج بِهِ عَطاء
وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين
وَمَالك وَمُحَمّد بن الْحسن على كَرَاهَة اسْتِعْمَال
الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، وَذهب مُحَمَّد بن
الْحَنَفِيَّة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعُرْوَة بن الزبير
وَالْأسود بن يزِيد وخارجة ابْن زيد وَالقَاسِم بن
مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ
وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَزفر وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق إِلَى أَنه لَا بَأْس بالتطيب عِنْد
الْإِحْرَام، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة أَيْضا
وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بِأَن الطّيب الَّذِي كَانَ على
ذَلِك الرجل إِنَّمَا كَانَ صفرَة وَهُوَ خلوق، فَذَلِك
مَكْرُوه لَا للرجل للْإِحْرَام، وَلكنه لِأَنَّهُ
مَكْرُوه فِي نَفسه فِي حَال الْإِحْلَال، وَفِي حَال
الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا أُبِيح من الطّيب عِنْد
الْإِحْرَام مَا هُوَ حَلَال فِي حَال الْإِحْلَال،
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن حَدِيث يعلى الَّذِي رُوِيَ
بطرق مُخْتَلفَة، قد بيَّن ذَلِك وأوضح أَن ذَلِك الطّيب
الَّذِي أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغسْلِهِ كَانَ
خلوفا. وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ فِي كل الْأَحْوَال.
وَمِنْه: صِحَة إِحْرَام المتلبس بمحظورات الْإِحْرَام من
اللبَاس وَالطّيب. وَمِنْه: عدم جَوَاز لبس الْمخيط كالجبة
للْمحرمِ. وَمِنْه: أَنه لَا يجب قطع الْجُبَّة والقميص
للْمحرمِ إِذا أَرَادَ نَزعهَا بل لَهُ أَن ينْزع ذَلِك من
رَأسه وَإِن أدّى إِلَى الْإِحَاطَة بِرَأْسِهِ خلافًا لمن
قَالَ يشقه، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ، ويروى
ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير، وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ نزع الْقَمِيص بِمَنْزِلَة
اللبَاس، لِأَن الْمحرم لَو حمل على رَأسه ثيابًا أَو
غَيرهَا لم يكن بذلك بَأْس، وَلم يدْخل ذَلِك فِيمَا نهى
عَنهُ من تَغْطِيَة الرَّأْس بالقلانس وَشبههَا، لِأَنَّهُ
غير لابس، فَكَانَ النَّهْي إِنَّمَا وَقع فِي ذَلِك على
مَا يَلِيهِ الرَّأْس لَا على مَا يُغطي بِهِ. وَفِيه:
مَسْأَلَة العاض، وَسَيذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الدِّيات
فِي: بَاب إِذا عض رجلا فَوَقَعت ثناياه عَن صَفْوَان بن
يعلى عَن أَبِيه وَعَن زُرَارَة بن أوفى (عَن عمرَان بن
حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رجلا عض يَد رجل
فَنزع يَده من فَمه فَوَقَعت ثنيتاه فاختصموا إِلَى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ يعَض أحدكُم
أَخَاهُ كَمَا يعَض الْفَحْل لَا دِيَة لَك) . وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (فأبطلها) أَي: الدِّيَة، وَفِي رِوَايَة
لَهُ: (فأهدر ثنيته) ، وَبِهَذَا أَخذ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ: فِي أَن المعضوض إِذا نزع يَده فَسَقَطت
أَسْنَان العاض وَفك لحيته لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَهُوَ
قَول الْأَكْثَرين، وَقَالَ مَالك: يضمن.
(10/210)
|