عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 71 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ
آذَانُ بِلاَلٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. قَوْله: (لَا يمنعنَّكم)
، بنُون التَّأْكِيد فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (لَا يمنعْكم) بِسُكُون الْعين من
غير نون التَّأْكِيد، والسحور، بِفَتْح السِّين: اسْم مَا
يتسحر بِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب، وبالضم الْمصدر،
وَالْفِعْل نَفسه، وَأكْثر مَا يرْوى بِالْفَتْح، وَقيل:
إِن الصَّوَاب بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ بِالْفَتْح الطَّعَام
وَالْبركَة وَالْأَجْر وَالثَّوَاب فِي الْفِعْل لَا فِي
الطَّعَام.
8191 - حدّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ عنْ أبي أُسَامَةَ
عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ
والْقَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله
عَنْهَا أنَّ بِلاَلاً كانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقال
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلُوا واشْرَبُوا
حَتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فإنَّهُ لاَ
يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ..
قَالَ الْقاسِمُ ولَمْ يَكنْ بَيْنَ أذَانِهِمَا إلاَّ أنْ
يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا. (انْظُر الحَدِيث 226) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَعْنَاهُ وَمعنى
التَّرْجَمَة وَاحِد، وَإِن اخْتلف اللَّفْظ. وَقَالَ ابْن
بطال: وَلم يَصح عِنْد البُخَارِيّ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لفظ التَّرْجَمَة، فاستخرج مَعْنَاهُ من
حَدِيث عَائِشَة، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ نظر
من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ صَحَّ عِنْده لفظ التَّرْجَمَة،
وَذَلِكَ أَنه ذكر فِي: بَاب الآذان قبل الْفجْر حَدِيث
ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ: (لَا يمنعن أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم آذان
بِلَال من سحوره) ، فَلَو خرجه أَبُو عبد الله فِي هَذَا
الْبَاب لَكَانَ أمس، وَقَالَ ابْن بطال: وَلَفظ
التَّرْجَمَة رَوَاهُ وَكِيع عَن أبي هِلَال عَن سوَادَة
بن حَنْظَلَة عَن سَمُرَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمنعكم من سحوركم آذان بِلَال وَلَا
الْفجْر المستطيل، وَلَكِن الْفجْر المستطير فِي الْأُفق)
. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن، وَقد مضى فِي
كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب الآذان قبل الْفجْر؛
عَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى عَن عبيد الله
بن عمر عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن
عبيد بن إِسْمَاعِيل: اسْمه فِي الأَصْل عبد الله، يكنى
أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، مر فِي
الْحيض عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن عبيد
الله بن عمر عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر وَالقَاسِم بن
مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
قَوْله: (وَالقَاسِم) ، بِالْجَرِّ عطف على نَافِع لَا على
ابْن عمر، لِأَن عبيد الله بن عمر رَوَاهُ عَن نَافِع عَن
ابْن عَمْرو عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَالْحَاصِل أَن
لِعبيد الله هُنَا شَيْخَانِ يروي عَنْهُمَا، وهما نَافِع
وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَقَالَ ابْن التِّين: وَأَخْطَأ
من ضَبطه بِالرَّفْع. قَوْله: (حَتَّى يُؤذن ابْن أم
مَكْتُوم) ، هُوَ عَمْرو بن الْقَيْس العامري، وَقيل: غير
ذَلِك، وَقد مر فِيمَا مضى، وَأم مَكْتُوم اسْمهَا
عَاتِكَة بنت عبد الله. قَوْله: (إلاَّ أَن يرقى) ،
بِفَتْح الْقَاف، أَي: يصعد. يُقَال: رقى يرقى رقياً من
بَاب: علم يعلم. قَوْله: (وَينزل) ؛ بِالنّصب أَي: وَأَن
ينزل، وَكلمَة، أَن، مَصْدَرِيَّة، وَكلمَة: ذَا، فِي
الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية. وَقَالَ
الْمُهلب: وَالَّذِي يفهم من اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا
الحَدِيث أَن بِلَالًا كَانَت رتبته أَن يُؤذن بلَيْل على
أمره بِهِ الشَّارِع من الْوَقْت ليرْجع الْقَائِم وينبه
النَّائِم وليدرك السّحُور مِنْهُم من لم يتسحر، وَقد روى
هَذَا كُله ابْن مَسْعُود عَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانُوا يتسحرون بعد آذانه وَفِيه قريب
أَذَان ابْن أم مَكْتُوم من آذان بِلَال. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: قَوْله: (لم يكن بَين أذانيهما)
إِلَى آخِره، وَقد قيل لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت، دَلِيل على
أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَ يُرَاعِي قرب طُلُوع الْفجْر
أَو طلوعه، لِأَنَّهُ لم يكن يَكْتَفِي بآذان بِلَال فِي
علم الْوَقْت، لِأَن بِلَالًا فِيمَا يدل عَلَيْهِ
(10/296)
الحَدِيث كَانَ تخْتَلف أوقاته، وَإِنَّمَا
حكى من قَالَ: ينزل ذَا ويرقى ذَا، مَا شَاهد فِي بعض
الْأَوْقَات، وَلَو كَانَ فعله لَا يخْتَلف لَا كتفى بِهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يقل: (فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) ، ولقال إِذا
فرغ بِلَال فكفوا وَلكنه جعل أول أَذَان ابْن أم مَكْتُوم
عَلامَة للكف، وَيحْتَمل أَن لِابْنِ أم مَكْتُوم من
يُرَاعِي الْوَقْت، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ رُبمَا خَفِي
عَنهُ الْوَقْت، وَيبين ذَلِك مَا روى ابْن وهب عَن يُونُس
عَن ابْن شهَاب (عَن سَالم، قَالَ: كَانَ ابْن أم مَكْتُوم
ضَرِير الْبَصَر، وَلم يكن يُؤذن حَتَّى يَقُول لَهُ
النَّاس حِين ينظرُونَ إِلَى بزوغ الْفجْر: إذِّن) .
وقدروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أنيسَة، وَكَانَت حجت مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أَنَّهَا قَالَت:
كَانَ إِذا نزل وَأَرَادَ أَن يصعد ابْن أم مَكْتُوم
تعلقوا بِهِ، قَالُوا: كَمَا أَنْت حَتَّى نتسحر، وَقَالَ
أَبُو عبد الْملك: هَذَا الحَدِيث فِيهِ صعوبة، وَكَيف لَا
يكون بَين آذانيهما، إلاَّ ذَلِك، وَهَذَا يُؤذن بلَيْل
وَهَذَا بعد الْفجْر، فَإِن صَحَّ أَن بِلَالًا كَانَ
يُصَلِّي وَيذكر الله فِي الْموضع الَّذِي هُوَ بِهِ حِين
يسمع مَجِيء ابْن أم مَكْتُوم، وَهَذَا لَيْسَ يبين
لِأَنَّهُ قَالَ: (لم يكن بَين آذانيهما إِلَّا أَن يرقى
ذَا وَينزل ذَا) ، فَإِذا أَبْطَأَ بعد الآذان لصَلَاة
وَذكر لم يقل ذَلِك، وَإِنَّمَا يُقَال: لما نزل هَذَا طلع
هَذَا، وَقَالَ الدَّاودِيّ: فعلى هَذَا كَانَ فِي وَقت
تَأَخّر بِلَال، بآذانه فشهده الْقَاسِم، فَظن أَن ذَلِك
عَادَتهمَا، قَالَ: وَلَيْسَ بمنكر أَن يَأْكُلُوا حَتَّى
يَأْخُذ الآخر فِي آذانه، وَجَاء أَنه كَانَ لَا يُنَادي
حَتَّى يُقَال لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت، أَي: دخلت فِي
الصَّباح، أَو قاربته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) :
قَوْله: فشهده الْقَاسِم، غلط فَتَأَمّله. قلت: لِأَن
قاسماً لم يدْرك هَذَا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الْبَاب أَن الصَّائِم لَهُ
أَن يَأْكُل وَيشْرب إل طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، فَإِذا
طلع الْفجْر الصَّادِق كف، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَذهب معمر وَسليمَان
الْأَعْمَش وَأَبُو مجلز وَالْحكم بن عتيبة: إِلَى جَوَاز
التسحر مَا لم تطلع الشَّمْس، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك
بِحَدِيث حُذَيْفَة، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة زر
بن حُبَيْش، قَالَ: (تسحرت ثمَّ انْطَلَقت إِلَى
الْمَسْجِد فمررت بمنزل حُذَيْفَة فَدخلت عَلَيْهِ فَأمر
بلقحة فحلبت، وبقدر فسخنت، ثمَّ قَالَ: كل، فَقلت: إِنِّي
أُرِيد الصَّوْم، فَقَالَ: وَأَنا أُرِيد الصَّوْم. قَالَ:
فأكلنا وشربنا ثمَّ أَتَيْنَا الْمَسْجِد فأقيمت
الصَّلَاة. قَالَ: هَكَذَا فعل بِي رَسُول الله، صلى الله
تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أَو: صنعت مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: بعد الصُّبْح؟ قَالَ:
بعد الصُّبْح، غير أَن الشَّمْس لم تطلع) . وَأخرجه
النَّسَائِيّ وَأحمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ ابْن حزم عَن
الْحسن: كل مَا امتريت، وَعَن ابْن جريج: قلت: لعطاء:
أيكره أَن أشْرب وَأَنا فِي الْبَيْت لَا أَدْرِي لعَلي
أَصبَحت؟ قَالَ: لَا بَأْس بذلك، هُوَ شكّ، وَقَالَ ابْن
شيبَة: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن
مُسلم، قَالَ: لم يَكُونُوا يعدون الْفجْر فجركم إِنَّمَا
كَانُوا يعدون الْفجْر الَّذِي يمْلَأ الْبيُوت والطرق.
وَعَن معمر: أَنه كَانَ يُؤَخر السّحُور جدا حَتَّى يَقُول
الْجَاهِل: لَا صَوْم لَهُ. وروى سعيد بن مَنْصُور وَابْن
أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر، من طرق: عَن أبي بكر أَنه
أَمر بغلق الْبَاب حَتَّى لَا يرى الْفجْر، وروى ابْن
الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ،
أَنه صلى الصُّبْح، ثمَّ قَالَ: الْآن حِين يتَبَيَّن
الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: ذهب بَعضهم إِلَى أَن المُرَاد بتبين بَيَاض
النَّهَار من سَواد اللَّيْل أَن ينتشر الْبيَاض من الطّرق
والسكك والبيوت، وروى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سَالم بن عبيد
الْأَشْجَعِيّ وَله صُحْبَة، أَن أَبَا بكر، رَضِي الله
عَنهُ، قَالَ لَهُ: أخرج فَانْظُر هَل طلع الْفجْر؟ قَالَ:
فَنَظَرت ثمَّ أَتَيْته فَقلت: قد ابيَّض وسطع، ثمَّ
قَالَ: أخرج فَانْظُر هَل طلع؟ فَنَظَرت فَقلت: قد اعْترض.
فَقَالَ: الْآن أبلغني شرابي. وروى من طَرِيق وَكِيع عَن
الْأَعْمَش أَنه قَالَ: لَوْلَا الشُّهْرَة لصليت
الْغَدَاة ثمَّ تسحرت، وروى التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ:
حَدثنَا هناد حَدثنَا ملازم بن عمر وحَدثني عبيد الله بن
النُّعْمَان عَن قيس بن طلق بن عَليّ حَدثنِي أبي طلق بن
عَليّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا يهيدنكم الساطع المصعد، فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يعْتَرض لكم الْأَحْمَر) . قَوْله:
(لَا يهيدنكم) أَي: يمنعنكم الْأكل من هاد، يهيد، وأصل:
الهيد، الزّجر. قَوْله: (الساطع المصعد) ، قَالَ
الْخطابِيّ: سطوعه ارتفاعه مصعداً قبل أَن يعْتَرض. قَالَ:
وَمعنى الْأَحْمَر هَهُنَا أَن يستبطن الْبيَاض
الْمُعْتَرض أَوَائِل حمرَة، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
(10/297)
81 - (بابُ تأخِيرِ السُّحُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَأْخِير السّحُور إِلَى
قرب طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، وَفِي كثير من النّسخ: بَاب
تَعْجِيل السّحُور، أَي: الْإِسْرَاع خوفًا من طُلُوع
الْفجْر فِي أول الشُّرُوع، وَقَالَ ابْن بطال: وَلَو
ترْجم لَهُ: بَاب تَأْخِير السّحُور لَكَانَ حسنا. وَقَالَ
صَاحب التَّلْوِيح: وَكَأَنَّهُ لم يَرَ مَا فِي نُسْخَة
أُخْرَى صَحِيحَة من كتاب (الصَّحِيح) : بَاب تَأْخِير
السّحُور، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر فِي شَيْء من نسخ
البُخَارِيّ. قلت: لَيْت شعري هَل أحَاط هُوَ بِجَمِيعِ
نسخ البُخَارِيّ فِي أَيدي النَّاس وَفِي الْبِلَاد؟ وَعدم
رُؤْيَته ذَلِك لَا يسْتَلْزم الْعَدَم.
0291 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله قَالَ حَدثنَا
عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي حَازِمٍ عنْ أبي حازِمٍ عنْ
سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ كُنْتُ
أتَسَحَّرُ فِي أهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أنْ
أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
(انْظُر الحَدِيث 775) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ تَأْخِير
السّحُور بِحَيْثُ أَن سهلاً كَانَ يسْرع بعد تسحره إِلَى
الصَّلَاة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخَافَة
الْفَوات، وَأما الْمُطَابقَة فِي نُسْخَة: بَاب تَعْجِيل
السّحُور، فأظهر من ذَلِك.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَقد أخرجه فِي:
بَاب وَقت الْفجْر: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن
أَخِيه عَن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم أَنه سمع سهل بن سعد
إِلَى آخِره وَهَهُنَا أخرجه عَن مُحَمَّد بن عبيد الله
أبي ثَابت الْمدنِي من كبار مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن عبد
الْعَزِيز بن أبي حَازِم، وَأَبُو حَازِم اسْمه سَلمَة بن
دِينَار، قَوْله: (ثمَّ تكون سرعتي) أَي: اتسرع لِأَن
أدْرك السّحُور، أَي: الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة
سُلَيْمَان بن بِلَال: (ثمَّ تكون سرعَة بِي) ؛ وَتَكون
تَامَّة، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (أَن أدْرك
السّحُور) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي
وَفِي رِوَايَة الْجُمْهُور: (أَن أدْرك السُّجُود) ،
وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي الرِّوَايَة الَّتِي مَضَت فِي
الْمَوَاقِيت: (أَن أدْرك صَلَاة الْفجْر) ، وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (صَلَاة الصُّبْح) ، وَفِي
رِوَايَة أُخْرَى: (صَلَاة الْغَدَاة) ، وَقَالَ الْمزي:
أخرج البُخَارِيّ حَدِيث، (كنت أتسحر فِي الصَّوْم) عَن
مُحَمَّد بن عبيد الله وقتيبة، كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ،
وَحَدِيث قُتَيْبَة ذكره خلف وَلم يجده فِي (الصَّحِيح)
وَلَا ذكره أَبُو مَسْعُود. وَقَالَ بَعضهم: رَأَيْت هُنَا
بِخَط القطب ومغلطاي مُحَمَّد بن عبيد بِغَيْر إِضَافَة،
وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب: عبيد الله. قلت: لَيْسَ فِي
الْأَدَب أَن يُقَال إِنَّه غلط، لِأَن الظَّاهِر أَن
مغلطاي تبع القطب، وَيحْتَمل أَن تكون لَفْظَة: الله،
سَاقِطَة من نُسْخَة القطب لسهو الْكَاتِب.
91 - (بابُ قَدْرِكَمْ بَيْنَ السُّحُور وصَلاَةِ
الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مِقْدَار الزَّمَان الَّذِي
بَين السّحُور وَصَلَاة الصُّبْح.
1291 - حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ حدّثنا
هِشَامٌ قَالَ حَدثنَا قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ عنْ زَيْدِ بنِ
ثَابِتٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ تَسَحَّرْنا مَعَ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قامَ إلَى الصَّلاَةِ
قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَ الآذَنِ والسُّحُورِ قَالَ قَدْرُ
خَمْسِينَ آيَةً.
(انْظُر الحَدِيث 575) [/ ح.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ تَأْخِير
السّحُور إِلَى أَن يبْقى من الْوَقْت بَين الآذان وَأكل
السّحُور مِقْدَار قِرَاءَة خمسين آيَة، وَأما
الْمُطَابقَة فِي نُسْخَة: بَاب تَعْجِيل السّحُور، فَمن
حيثءِ يدل على أَنهم كَانُوا يستعجلون بِهِ حَتَّى يبْقى
بَينهم وَبَين الْفجْر الْمِقْدَار الْمَذْكُور، وَلَا
يقدمونه أَكثر من الْمِقْدَار الْمَذْكُور. والْحَدِيث قد
مضى فِي: بَاب وَقت الْفجْر فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَمْرو بن عَاصِم عَن همام
عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن زيد
بن ثَابت
(10/298)
حَدثهُ ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن
مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام الدستوَائي إِلَى آخِره.
وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
قَوْله: (قلت) ، الْقَائِل هُوَ أنس الَّذِي سَالَ
والمسؤول عَنهُ هُوَ زيد بن ثَابت، وَقَالَ بَعضهم: قلت:
مقول أنس. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ قَوْله، وَالْمقول
هُوَ قَوْله: (كم كَانَ بَين الْأَذَان والسحور) . قَوْله:
(قَالَ) ، أَي: زيد بن ثَابت. قَوْله: (قدر خمسين آيَة)
أَي: مِقْدَار قِرَاءَة خمسين آيَة، وَقَالَ بَعضهم: (قدر
خمسين آيَة) ، أَي متوسطة لَا طَوِيلَة وَلَا قَصِيرَة
وَلَا سريعة وَلَا بطيئة. قلت: هَذَا بطرِيق الحدس
والتخمين، وَهُوَ أَعم من تَقْيِيده بِهَذِهِ الْقُيُود،
وَأَيْضًا السرعة والبطء من صِفَات القارىء لَا من صِفَات
الْآيَة، وَيجوز فِي قَوْله: (قدر) الرّفْع وَالنّصب، أما
الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ
قدر خمسين آيَة، يَعْنِي: الزَّمَان الَّذِي بَين
الْأَذَان والسحور، وَأما النصب فعلى أَنه خبر: كَانَ
الْمُقدر، تَقْدِيره: كَانَ الزَّمَان بَينهمَا قدر خمسين
آيَة. وَقَالَ الْمُهلب: فِيهِ تَقْدِير الْأَوْقَات
بأعمال الْبدن، وَكَانَت الْعَرَب تقدر الْأَوْقَات
بِالْأَعْمَالِ، كَقَوْلِهِم: قدر حلب شَاة، وَقدر نحر
جزور، فَعدل زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن
ذَلِك إِلَى التَّقْدِير بِالْقِرَاءَةِ إِشَارَة إِلَى
أَن ذَلِك الْوَقْت كَانَ وَقت الْعِبَادَة بالتلاوة.
وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن أوقاتهم كَانَت مستغرقة
بِالْعبَادَة. وَفِيه: تَأْخِير السّحُور لكَونه أبلغ فِي
الْمَقْصُود، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
ينظر إِلَى مَا هُوَ أرْفق بأمته. وَفِيه: الِاجْتِمَاع
على السّحُور. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز الْمَشْي
بِاللَّيْلِ للْحَاجة، لِأَن زيد بن ثَابت مَا كَانَ يبيت
مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَا نسلم نفي
بيتوته مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ
اللَّيْلَة الَّتِي تسحر فِيهَا مَعَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يبيت مَعَه كل
لَيْلَة، وَقَالَ أَيْضا هَذَا الْقَائِل. وَفِيه: حسن
الْأَدَب فِي الْعبارَة لقَوْله: (تسحرنا مَعَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلم يقل: نَحن وَرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما يشْعر لفظ الْمَعِيَّة
بالتبعية. قلت: كلمة: مَعَ، مَوْضُوعَة للمصاحبة، وإشعارها
بالتبعية لَيْسَ من مَوْضُوع الْكَلِمَة، وَمعنى قَوْله:
(تسحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي:
فِي صحبته، وَقَوله: (تسحرنا) بدل على أَنه لم يكن وَحده
مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ
اللَّيْلَة. فَإِن قلت: الحَدِيث يدل على أَن الْفَرَاغ من
السّحُور كَانَ قبل الْفجْر بِمِقْدَار قِرَاءَة خمسين
آيَة، وَقد مر فِي حَدِيث حُذَيْفَة: أَن تسحرهم كَانَ
بعدالصبح، غير أَن الشَّمْس لم تطلع؟ . قلت: أجَاب بَعضهم
بِأَن لَا مُعَارضَة، بل يحمل على اخْتِلَاف الْحَال،
فَلَيْسَ فِي رِوَايَة وَاحِد مِنْهُمَا مَا يشْعر
بالمواظبة انْتهى. قلت: هَذَا الْجَواب لَا يشفي العليل
لَا يروي الغليل، بل الْجَواب الْقَاطِع مَا ذكره
الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ بقوله، بعد أَن روى
حَدِيث حُذَيْفَة: وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خلاف مَا رُوِيَ عَن حُذَيْفَة، فَذكر
الْأَحَادِيث الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ
وَغَيرهمَا. مِنْهَا: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال. .) الحَدِيث، وَقَالَ
أَيْضا: وَقد يحْتَمل أَن يكون حَدِيث حُذَيْفَة وَالله
أعلم قيل نزُول قَوْله تَعَالَى: {} (الْبَقَرَة: 781)
الْآيَة. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ مَا ملخصه: لَا
يثبت ذَلِك من حُذَيْفَة، وَمَعَ ذَلِك من أَخْبَار
الْآحَاد فَلَا يجوز الِاعْتِرَاض على الْقُرْآن، قَالَ
الله تَعَالَى: {} (الْبَقَرَة: 781) فَأوجب الصّيام
بِظُهُور الْخَيط الْأَبْيَض الَّذِي هُوَ بَيَاض الْفجْر،
فَكيف يجوز التسحر الَّذِي هُوَ الْأكل بعد هَذَا مَعَ
تَحْرِيم الله إِيَّاه بِالْقُرْآنِ؟ .
02 - (بابُ بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إيْجَابٍ
لأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحابَهُ
واصَلُوا ولَمْ يُذْكَرِ السُّحُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان بركَة السّحُور، وَأَشَارَ
بِهِ إِلَى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تسحرُوا
فَإِن فِي السّحُور بركَة) أخرجه الشَّيْخَانِ
وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن أنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (من غير إِيجَاب) جملَة فِي مجل
النصب على الْحَال، لِأَن الْجُمْلَة إِذا وَقعت بعد
النكرَة تكون صفة، وَإِذا وَقعت بعد الْحَال تكون حَالا،
وَالْمعْنَى من غير أَن يكون وَاجِبا، ثمَّ علل لعدم
الْوُجُوب بقوله: لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَصْحَابه واصلوا فِي صومهم وَلم يذكر فِيهِ السّحُور،
وَلَو كَانَ السّحُور وَاجِبا لذكر فِيهِ، وَقَوله: لم
يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (السّحُور) ،
بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني والنسفي وَلم يذكر: (سحور) بِدُونِ
اللَّام. فَإِن قلت: قَوْله: (تسحرُوا) أَمر وَمُقْتَضَاهُ
الْوُجُوب؟ قلت:
(10/299)
أُجِيب بِأَنَّهُ أَمر ندب بِالْإِجْمَاع،
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أجمع الْفُقَهَاء على أَن
السّحُور مَنْدُوب إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِب، وَالْأَوْجه
أَن يُقَال: إِن الْأَمر الَّذِي مُقْتَضَاهُ الْوُجُوب
هُوَ الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن، وَهَهُنَا قرينَة تدفع
الْوُجُوب، وَهُوَ أَن السّحُور إِنَّمَا هُوَ أكل للشهوة
وَحفظ الْقُوَّة، وَهُوَ مَنْفَعَة لنا، فَلَو قُلْنَا
بِالْوُجُوب يَنْقَلِب علينا، وَهُوَ مَرْدُود، وَقَالَ
ابْن بطال: فِي هَذِه التَّرْجَمَة غَفلَة من البُخَارِيّ
لِأَن قد خرج بعد هَذَا حَدِيث أبي سعيد: (أَيّكُم أَرَادَ
أَن يواصل فليواصل إِلَى السحر) ، فَجعل غَايَة الْوِصَال
السحر، وَهُوَ وَقت السّحُور قَالَ: والمفسر يقْضِي على
الْمُجْمل. انْتهى. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ لم يترجم
على عدم مَشْرُوعِيَّة السّحُور، وَإِنَّمَا ترْجم على عدم
إِيجَابه، وَأخذ من الْوِصَال عدم وجوب السّحُور.
2291 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حَدثنَا
جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ
أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصَلَ فَوَاصَلَ
النَّاسُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَنَاهُمْ قالُوا إنَّكَ
توَاصِلُ قَالَ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أظَلُّ
أُطْعَمُ واسْقَى.
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله:
(لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه
واصلوا) .
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة
وَهُوَ جوَيْرِية بن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي الْبَصْرِيّ،
وَعبد الله هُوَ ابْن عمر.
وَأخرجه مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ:
قَرَأت على مَالك عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْوِصَال، قَالُوا:
إِنَّك تواصل! قَالَ: إِنِّي لست كهيئتكم، إِنِّي أطْعم
وأسقى) .
قَوْله: (وَاصل) ، أَي: بَين الصومين فِي غير إفطار
بِاللَّيْلِ، وواصل النَّاس، أَيْضا تبعا لَهُ، صلى الله
تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. قَوْله: (فشق عَلَيْهِم)
أَي: فشق الْوِصَال على النَّاس لمَشَقَّة الْجُوع والعطش.
قَوْله: (فنهاهم) أَي: عَن الْوِصَال لما رأى مشقتهم.
قَوْله: (إِنَّك مواصل) ، ويروى: (فَإنَّك تواصل) .
قَوْله: (لست كهيئتكم) أَي: لسي حَالي مثل حالكم،
وَيُقَال: لفظ الْهَيْئَة زَائِد، أَي: لست كأحدكم.
قَوْله: (أظل) ، بِفَتْح الْهمزَة والظاء الْمُعْجَمَة من
ظلّ يظل، يُقَال: ظللت أعمل كَذَا بِالْكَسْرِ ظلولاً إِذا
عملته بِالنَّهَارِ دون اللَّيْل. فَإِن قلت: إِذا كَانَ
لفظ ظلّ لَا يكون إلاَّ بِالنَّهَارِ، فَكيف يكون
الْمَعْنى هُنَا؟ قلت: قد جَاءَ ظلّ أَيْضا بِمَعْنى صَار،
قَالَ تَعَالَى: {} (النَّحْل: 85) وَيجوز أَيْضا إِرَادَة
الْوَقْت الْمُطلق لَا الْمُقَيد بِالنَّهَارِ،
وَيُؤَيِّدهُ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لفظ:
(أَبيت أطْعم وأسقى) ، وَيجوز أَن يكون: ظلّ، على بَابه،
وَيكون الْمَعْنى: (أظل أطْعم وأسقى) لَا على صُورَة
طَعَامكُمْ وسقيكم، لِأَن الله تَعَالَى يفِيض عَلَيْهِ
مَا يسد مسد طَعَامه وَشَرَابه من حَيْثُ إِنَّه يشْغلهُ
عَن إحساس الْجُوع والعطش، ويقويه على الطَّاعَة، ويحرسه
عَن تَحْلِيل يُفْضِي إِلَى ضعف الْقوي وكلال الْحَواس.
فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يكون الْمَعْنى على ظَاهره بِأَن
يرزقه طَعَاما وَشَرَابًا من الْجنَّة؟ قلت: قد قيل ذَلِك،
وَلَا مَانع مِنْهُ لِأَنَّهُ أكْرم على الله من ذَلِك.
فَإِن قلت: لَو كَانَ الْمَعْنى على حَقِيقَته لم يكن
مواصلاً. قلت: طَعَام الْجنَّة وشرابها لَيْسَ كطعام
الدُّنْيَا وشرابها، فَلَا يقطع الْوِصَال. وَقيل: هُوَ من
خَصَائِصه لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد من الْأمة فَإِن قلت:
مَا حِكْمَة النَّهْي فِيهِ؟ قلت: إيراث الضعْف وَالْعجز
عَن الْمُوَاظبَة على كثير من وظائف الطَّاعَات
وَالْقِيَام بحقوقها، وللعلماء فِيهِ اخْتِلَاف فِي أَنه
نهى تَحْرِيم أَو تَنْزِيه، وَالظَّاهِر الأول. فَإِن قلت:
هَل هُوَ نهي عَن عبَادَة فِي حق من أطاقها وحرص
عَلَيْهَا؟ قلت: لَا، لِأَنَّهُ كَانَ خوفًا أَن يُؤَدِّي
ذَلِك إِلَى الْمُنَازعَة، لِأَنَّهُ كَانَ من خَصَائِصه،
كَمَا قَالَ بَعضهم: فَإِن قلت: جَاءَ الْوِصَال عَن
جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم، فَفِي كتاب
(الْأَوَائِل) للعسكري: كَانَ ابْن الزبير يواصل خَمْسَة
عشر يَوْمًا حَتَّى تيبس أمعاؤه، فَإِذا كَانَ يَوْم فطره
أَتَى بِسمن وصبر فيحساه حَتَّى لَا تنفتق الأمعاء، وَعَن
عَامر بن عبد الله بن الزبير أَنه كَانَ يواصل لَيْلَة
سِتّ عشرَة، وَلَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان لَا يفرق
بَينهمَا، وَيفْطر على السّمن، فَقيل لَهُ، فَقَالَ:
السّمن يبل عروقي، وَالْمَاء يخرج من جَسَدِي. قلت: قَالَ
ابْن عبد الْبر: أجمع الْعلمَاء على أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْوِصَال، وَاخْتلفُوا فِي
تَأْوِيله، فَقيل: نهى عَنهُ رفقا بهم، فَمن قدر على
الْوِصَال فَلَا حرج عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لله، عز وَجل، يدع
طَعَامه وَشَرَابه، وَكَانَ عبد الله بن الزبير وَجَمَاعَة
يواصلون الْأَيَّام، وَكَانَ أَحْمد وَإِسْحَاق لَا يكرهان
الْوِصَال من سحر إِلَى سحرلا غير، وَكره
(10/300)
أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ،
وَجَمَاعَة من أهل الْفِقْه والأثر الْوِصَال على كل حَال
لمن قوي عَلَيْهِ وَلغيره، وَلم يجيزوا الْوِصَال لأحد
لحَدِيث الْبَاب. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْوِصَال من
خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحظور على
أمته، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيمه. وَفِي (شرح
الْمُهَذّب) : مَكْرُوه كَرَاهَة تَحْرِيم، وَقيل:
كَرَاهَة تَنْزِيه، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: وَرُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة وَغَيرهم من
تَرْكِهم الْأكل الْأَيَّام ذَوَات الْعدَد، وَكَانَ ذَلِك
مِنْهُم على أنحاء شَتَّى، فَمنهمْ من كَانَ ذَلِك مِنْهُ
لقدرته عَلَيْهِ فَيصْرف فطره إِلَى أهل الْفقر
وَالْحَاجة، وَمِنْهُم من كَانَ يَفْعَله اسْتغْنَاء عَنهُ
أَو كَانَت نَفسه قد اعتادته، كَمَا روى الْأَعْمَش عَن
التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: ربم ألبث ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَا
أطْعم من غير صَوْم، وَمَا يَمْنعنِي ذَلِك من حوائجي،
وَقَالَ الْأَعْمَش: كَانَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يمْكث
شَهْرَيْن لَا يَأْكُل، وَلكنه يشرب شربة من نَبِيذ،
وَمِنْهُم من كَانَ يَفْعَله منعا لنَفسِهِ شهوتها مَا لم
تَدعه إِلَيْهِ الضَّرُورَة، وَلَا يخَاف الْعَجز عَن
أَدَاء وَاجِب عَلَيْهِ إِرَادَة قهرها وَحملهَا على
الْأَفْضَل.
3291 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ
قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسَحَّرُوا فإنَّ
فِي السَّحُورِ بَرَكَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ورجاهل قد ذكرُوا غير
مرّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ
عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَابْن ماجة عَن أَحْمد بن عُبَيْدَة.
وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي
هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله
وَابْن عَبَّاس وَعَمْرو بن الْعَاصِ والعرباض بن سَارِيَة
وَعتبَة بن عبد وَأبي الدَّرْدَاء. قلت: وَفِي الْبَاب عَن
عَليّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَأبي
أُمَامَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ والمقدام بن معدي كرب
وَعَائِشَة وميسرة الْفجْر وَرجل آخر غير مُسَمّى.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ
مَرْفُوعا وموقوفاً بِلَفْظ حَدِيث أنس، وروى أَبُو يعلى
فِي (مُسْنده) عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم دَعَا بِالْبركَةِ فِي السّحُور والثريد) ، وَفِي
رِوَايَة لَهُ، قَالَ: (السّحُور بركَة والثريد بركَة
وَالْجَمَاعَة بركَة) . وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود
فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا مَرْفُوعا وموقوفاً،
وَقَالَ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، قَالَ شَيخنَا:
هَكَذَا حَكَاهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَلم أره فِي
(السّنَن الصُّغْرَى) وَلَا (الْكُبْرَى) . وَأما حَدِيث
جَابر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ
بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدّم وَفِيه مقَال. وَأما حَدِيث ابْن
عَبَّاس فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه عَن عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (اسْتَعِينُوا بِطَعَام السحر على
صِيَام النَّهَار، والقيلولة على قيام اللَّيْل) . وَأخرجه
الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) . وَأما حَدِيث عَمْرو بن
الْعَاصِ فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا عَن
قُتَيْبَة، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من طرق وَأَبُو دَاوُد
من رِوَايَة مُوسَى بن عَليّ بِسَنَد. وَأما حَدِيث
الْعِرْبَاض بن سَارِيَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: (دَعَاني رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السّحُور فِي رَمَضَان.
فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاء الْمُبَارك) وَعند
النَّسَائِيّ: (هلموا) ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه)
وَضَعفه ابْن الْقطَّان. وَأما حَدِيث: عتبَة بن عبد وَأبي
الدَّرْدَاء فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) :
عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (تسحرُوا من آخر اللَّيْل، وَكَانَ يَقُول: هُوَ
الْغَدَاء الْمُبَارك) وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ ابْن عدي عَنهُ أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (تسحرُوا وَلَو بِشَربَة
من مَاء، وأفطروا وَلَو على شربة من مَاء) ، وَفِي سَنَده
حسن بن عبد الله بن حَمْزَة وَهُوَ مَتْرُوك. وَأما حَدِيث
عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَنهُ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(تسحرُوا وَلَو بجرعة من مَاء) . وَأما حَدِيث عبد الله بن
عمر بن الْخطاب فَأخْرجهُ ابْن حبَان أَيْضا عَنهُ قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله
وَمَلَائِكَته يصلونَ على المتسحرين) . وَأما حَدِيث أبي
أُمَامَة فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين)
عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: (اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي سحورها، تسحرُوا
وَلَو بِشَربَة من مَاء، وَلَو بتمرة، وَلَو بحبات زبيب،
فَإِن الْمَلَائِكَة تصلي عَلَيْكُم) وَفِيه مقَال. وَأما
حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَأخْرجهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (السّحُور بركَة وَلَو أَن يجرع أحدكُم
جرعة من مَاء فَإِن الله عز وَجل وَمَلَائِكَته يصلونَ على
المتسحرين) ، وَرَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا عَنهُ، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ
صل على المتسحرين، تسحرُوا وَلَو أَن يَأْكُل أحدكُم
لقْمَة أَو يجرع جرعة مَاء) ، وَفِيه مقَال وَأما حَدِيث
الْمُقدم بن معدي كرب فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (عَلَيْكُم
بالسحور فَإِنَّهُ هُوَ الْغَدَاء الْمُبَارك) ، وَرُوِيَ
مُرْسلا
(10/301)
أَيْضا وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
فَأخْرجهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده عَنْهَا قَالَت: قَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قرب
إِلَيْنَا الْغذَاء الْمُبَارك يَعْنِي السّحُور وأولو
آكله وَلَو حسوة فَإِنَّهَا اكلة بركَة وَهُوَ فصل بَين
صومكم وَصَوْم النَّصَارَى " وَفِيه مقَال وَقَالَ
الذَّهَبِيّ ميسرَة الْفجْر لَهُ صُحْبَة من أَعْرَاض
الْبَصْرَة " قَالَ يَا رَسُول الله مَتى كنت نَبيا "
وَإِمَّا حَدِيث الصَّحَابِيّ الَّذِي لم يسم فَأخْرجهُ
النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث يحدث عَن
رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ " دخلت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يتسحر فَقَالَ إِنَّهَا
بركَة أَعْطَاكُم الله إِيَّاهَا فَلَا تَدعُوهُ "
وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات قَوْله " تسحرُوا " قد ذكرنَا
أَنه أَمر ندب بِالْإِجْمَاع قَوْله " فِي السّحُور "
قَالَ شَيخنَا رَحمَه الله روينَا بِفَتْح السِّين
وَضمّهَا وَهُوَ بِالضَّمِّ الْفِعْل وبالفتح اسْم مَا
يتسحر بِهِ كَالْوضُوءِ والسعوط والحنوط وَنَحْوهَا قَوْله
" بركَة " قد ذكرُوا فِيهَا معَان الأول إِنَّه يُبَارك
باليسير مِنْهُ بِحَيْثُ يحصل بِهِ الْإِعَانَة على
الصَّوْم وَيدل عَلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " وَلَو بجرعة مَاء وَلَو بتمرة " وَنَحْو
ذَلِك وَيكون ذَلِك بالخاصية كَمَا بورك فِي الثَّرِيد
وَالطَّعَام إِذا هدى فِي الْحَرَارَة واجتماع الْجَمَاعَة
على الطَّعَام لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - " اجْتَمعُوا على طَعَامكُمْ يُبَارك لكم فِيهِ "
الثَّانِي يُرَاد بِالْبركَةِ نفي التبعة فِيهِ وَقد ذكر
صَاحب الفردوس من حَدِيث أبي هُرَيْرَة " ثَلَاثَة لَا
يُحَاسب عَلَيْهَا العَبْد اكلة السّحُور وَمَا أفطر
عَلَيْهِ وَمَا أكل مَعَ الإخوان " الثَّالِث يُرَاد
بِالْبركَةِ الْقُوَّة عَن الصّيام وَغَيره من أَعمال
النَّهَار الرَّابِع يُرَاد بِالْبركَةِ الرُّخْصَة
وَالصَّدَََقَة وَهُوَ الزِّيَادَة فِي الْأكل على الْأكل
عِنْد الْإِفْطَار كَمَا كَانَ أَولا ثمَّ نسخ وَاصل
الْبركَة فِي اللُّغَة الزِّيَادَة والنماء وَقَالَ عِيَاض
قد تكون هَذِه الْبركَة مَا يتَّفق للمتسحر من ذكر أَو
صَلَاة أَو اسْتِغْفَار وَغَيره من زيادات الْأَعْمَال
الَّتِي لَوْلَا الْقيام للسحور لَكَانَ الْإِنْسَان
نَائِما عَنْهَا وتاركاً لَهَا وتجديد النِّيَّة للصَّوْم
ليخرج من الِاخْتِلَاف وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد هَذِه
الْبركَة يجوز أَن تعودوا إِلَى الْأُمُور الأخروية فَإِن
اتامة السّنة توجب الْأجر وزيادته وَيحْتَمل أَن تعود
إِلَى الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كقوة الْبدن على الصَّوْم
وتيسيره من غير أضرار بالصائم قَالَ وَمِمَّا يُعلل بِهِ
اسْتِحْبَاب السّحُور الْمُخَالفَة لأهل الْكتاب لِأَنَّهُ
مُمْتَنع عِنْدهم وَهَذَا أحد الْوُجُوه الْمُقْتَضِيَة
بِالزِّيَادَةِ فِي الأجور الأخروية |