عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بَاب إِذا نوى بِالنَّهَارِ صوما
أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا نوى الْإِنْسَان بِالنَّهَارِ صوما وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره هَل يَصح أَولا وَإِنَّمَا لم يذكرُوا الْجَواب لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ على مَا يَجِيء بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى (وَقَالَت أم الدَّرْدَاء كَانَ ابو الدَّرْدَاء يَقُول عنْدكُمْ طَعَام فَإِن قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي صَائِم يومي هَذَا) أم الدَّرْدَاء اسْمهَا خيرة بِسُكُون الْيَاء آخِره الْحُرُوف وَاسم أبي الدَّرْدَاء عُوَيْمِر الْأنْصَارِيّ تقدما فِي فضل الْفجْر فِي جمَاعَة وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة من طَرِيق ابي قلَابَة " أم الدَّرْدَاء قَالَت كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء يَغْدُو أَحْيَانًا ضحى فَيسْأَل الْغَدَاء فَرُبمَا لم يُوَافقهُ عندنَا فَيَقُول إِذا أَنا صَائِم "

وَفعله أَبُو طَلْحَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن الْعَبَّاس وَحُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُم
أَي فعل أَبُو طَلْحَة مِثْلَمَا فعل أَبُو الدَّرْدَاء وَاسم أبي طَلْحَة زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ وَوصل أَثَره عبد الرَّزَّاق ن طَرِيق قَتَادَة وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق حميد كلهما عَن أنس وَلَفظ قَتَادَة " إِن أَبَا طَلْحَة كَانَ يَأْتِي أَهله فَيَقُول هَل من غذَاء فَإِن قَالُوا لَا صَامَ يَوْمه ذَلِك قَالَ قَتَادَة وَكَانَت معَاذ يَفْعَله " قَوْله " أَبُو هُرَيْرَة " عطف على قَوْله " أَبُو طَلْحَة " أَي وَفعله أَيْضا أَبُو هُرَيْرَة وَوصل أَثَره الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب عَن عُثْمَان بن بن نجيح " عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَة يطوف بِالسوقِ ثمَّ يَأْتِي أَهله فَيَقُول عنْدكُمْ شَيْئا فَإِن قَالُوا لَا قَالَ فانا صَائِم " قَوْله " وَابْن عَبَّاس " أَي فعله ابْن عَبَّاس فوصل اثره الطَّحَاوِيّ

(10/302)


من طَرِيق عَمْرو بن أبي عمر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه كَانَ يصبح حَتَّى يظْهر ثمَّ يَقُول: وَالله لقد أَصبَحت وَمَا أُرِيد الصَّوْم، وَمَا أكلت من طَعَام وَلَا شراب مُنْذُ الْيَوْم، ولأصومن يومي هَذَا. قَوْله: (وَحُذَيْفَة) أَي: وَفعله حُذَيْفَة فوصل أَثَره عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق سعيد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرحمان السّلمِيّ، قَالَ: (قَالَ حُذَيْفَة: من بدا لَهُ الصّيام بعد مَا تَزُول الشَّمْس فليصم) ، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: (أَن حُذَيْفَة بدا لَهُ فِي الصَّوْم بعد مَا زلات الشَّمْس، فصَام) .
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن نوى الصَّوْم بعد طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق: لَا يجوز صَوْم رَمَضَان إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، وَقَالَ النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر: تجوز النِّيَّة فِي صَوْم رَمَضَان، وَالنّذر الْمعِين، وَصَوْم النَّفْل إِلَى مَا قبل الزَّوَال.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِيمَن أصبح يُرِيد الْإِفْطَار ثمَّ بدا لَهُ أَن يَصُوم تَطَوّعا، فَقَالَت طَائِفَة: لَهُ أَن يَصُوم مَتى مَا بدا لَهُ، فَذكر أَبَا الدَّرْدَاء وَأَبا طَلْحَة وَأَبا هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَأَبا أَيُّوب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي نَقله ابْن الْمُنْذر عَن الشَّافِعِي من الْجَوَاز مُطلقًا، سَوَاء كَانَ قبل الزَّوَال أَو بعده هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ للشَّافِعِيّ، وَالَّذِي نَص عَلَيْهِ فِي مُعظم كتبه التَّفْرِقَة. وَقَالَ مَالك فِي النَّافِلَة: لَا يَصُوم إلاَّ أَن يبيت إلاَّ أَن كَانَ يسْرد الصَّوْم فَلَا يحْتَاج إِلَى التبييت؛ وَلَكِن الْمَعْرُوف عَن مَالك وَاللَّيْث وَابْن أبي ذِئْب أَنه لَا يَصح صِيَام التَّطَوُّع إلاَّ بنية من اللَّيْل. وَقَالَ مُجَاهِد: الصَّائِم بِالْخِيَارِ مَا بَينه وَبَين نصف النَّهَار فَإِذا جَاوز ذَلِك فَإِنَّمَا بَقِي لَهُ بِقدر مَا بَقِي من النَّهَار، وَقَالَ الشّعبِيّ: من أَرَادَ الصَّوْم فَهُوَ مُخَيّر مَا بَينه وَبَين نصف النَّهَار، وَعَن الْحسن: إِذا تسحر الرجل فقد وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم، فَإِن أفطر فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَإِن هم بِالصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ صَامَ وَإِن شَاءَ أفطر. وروى ابْن أبي شيبَة عَن الْمُعْتَمِر عَن حميد عَن أنس: (من حدث نَفسه بالصيام فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لم يتكمل حَتَّى يَمْتَد النَّهَار) . وَقَالَ سُفْيَان بن سعيد وَأحمد بن حَنْبَل: من أصبح وَهُوَ يَنْوِي الْفطر إلاَّ أَنه لم يَأْكُل وَلم يشرب وَلَا وطىء فَلهُ أَن يَنْوِي الصَّوْم مَا لم تغب الشَّمْس، وَيصِح الصَّوْم.

4291 - حدّثنا أبُو عاصِمٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَة بنِ الأكْوَع رَضِي الله عَنْهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ رَجُلاً يُنادهي فِي النَّاسَ يَوْمَ عاشورَاءَ أنَّ مَنْ أكَلَ فَلْيُتِمَّ أوْ فَلْيَصُمْ ومَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي جَوَاز نِيَّة الصَّوْم بِالنَّهَارِ لِأَن قَوْله: (فليتم) . وَقَوله: (فَلَا يَأْكُل) يدلان على جَوَاز النِّيَّة بِالصَّوْمِ فِي النَّهَار، وَلم يشْتَرط التَّبْيِين، وَهَذَا الحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ وَهُوَ خَامِس الثلاثيات لَهُ، وَأَبُو عَاصِم هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد بتصغير العَبْد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَاسم الْأَكْوَع سِنَان بن عبيد الله. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مكي بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه فِي خبر الْوَاحِد عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع) وَفِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان (عَن يزِيد بن أبي عبيد حَدثنَا سَلمَة بن الْأَكْوَع) كَمَا سَيَأْتِي فِي خبر الْوَاحِد. قَوْله: (بعث رجلا يُنَادي فِي النَّاس) وَفِي رِوَايَة يحيى: (قَالَ لرجل من أسلم: أذن فِي قَوْمك) . وَاسم هَذَا الرجل: هِنْد بن أَسمَاء بن حَارِثَة الْأَسْلَمِيّ، وَأخرج حَدِيثه أَحْمد وَابْن أبي حيثمة من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر (عَن خبيب بن هِنْد بن أَسمَاء الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قومِي من أسلم فَقَالَ: مُرقومك أَن يَصُومُوا هَذَا الْيَوْم، يَوْم عَاشُورَاء، فَمن وجدته مِنْهُم قد أكل فِي أول يَوْمه فليصم آخِره) . وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث، وَبِحَدِيث الْبَاب على صِحَة الصّيام لمن لم ينوِ من اللَّيْل، سَوَاء كَانَ رَمَضَان أَو غَيره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالصَّوْمِ فِي أثْنَاء النَّهَار، فَدلَّ على أَن النِّيَّة لَا تشْتَرط من اللَّيْل، وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب بِأَن ذَلِك يتَوَقَّف على أَن صِيَام يَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا، وَالَّذِي يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء أَنه لم يكن فرضا. انْتهى. قلت: روى الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا

(10/303)


تصومه قُرَيْش من الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَصُومهُ، فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة صَامَهُ وَأمر بصيامه، فَلَمَّا فرض رَمَضَان. قَالَ: من شَاءَ صَامَهُ وَمن شَاءَ تَركه) . فَهَذَا الحَدِيث يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا، وَعَن عَائِشَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَجَابِر بن سَمُرَة: أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا قبل أَن يفْرض رَمَضَان، فَلَمَّا فرض رَمَضَان فَمن شَاءَ صَامَ وَمن شَاءَ ترك، ذكره ابْن شَدَّاد فِي أَحْكَامه. (وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أرسل إِلَى قرى الْأَنْصَار الَّتِي حول الْمَدِينَة: من كَانَ أصبح صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن كَانَ أصبح مُفطرا فليصم بَقِيَّة يَوْمه، وَمن لم يكن أكل فليصم) . مُتَّفق عَلَيْهِ، وَكَانَ صوما وَاجِبا متعنياً. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: فَفِي هَذِه الأثار وجوب صَوْم عَاشُورَاء، وَفِي أمره، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، بصومه بَعْدَمَا أَصْبحُوا، وَأمره بالإمساك بعد مَا أكلُوا دَلِيل على وُجُوبه، إِذا لَا يَأْمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي النَّفْل بالإمساك إِلَى آخر النَّهَار بعد الْأكل، وَلَا بصومه لمن لم يصمه.
وَفِيه دَلِيل أَيْضا على أَن من كَانَ عَلَيْهِ صَوْم يَوْم بِعَيْنِه وَلم يكن نوى صَوْمه من اللَّيْل تجزيه النِّيَّة بعد مَا أصبح، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه كَانَ فرضا وَنسخ بِصَوْم رَمَضَان. فَإِن قلت: يُعَارض مَا ذكرْتُمْ حَدِيث مُعَاوِيَة (أَنه قَالَ على الْمِنْبَر: يَا أهل الْمَدِينَة: أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا يَوْم عَاشُورَاء، لم يكْتب الله عَلَيْكُم صايمه فَمن شَاءَ فليصم وَمن شَاءَ فليفطر، وَأَنا صَائِم) . قلت: بعد النّسخ لم يبْق مَكْتُوبًا علينا، وَلِأَن الْمُثبت أولى من النَّافِي، وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور: وَالَّذِي يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء أَنه، أَي: إِن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء لم يكن فرضا، وعَلى تَقْدِير أَنه كَانَ فرضا فقد نسخ بِلَا ريب، فقد نسخ حكمه وشرائطه. انْتهى. قلت: هَذَا مُكَابَرَة فَلَا يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء إلاَّ إِن كَانَ فرضا، لما ذكرنَا من الدَّلَائِل، وَقَوله: فنسخ حكمه وشرائطه غير صَحِيح، أَلا ترى أَن التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس قد نسخ وَلم تنسخ سَائِر أَحْكَام الصَّلَاة وشرائطها؟ وَقَوله: وَأمره بالإمساك لَا يسْتَلْزم الْأَجْزَاء، لِأَن الْأَمر بالإمساك يحْتَمل أَن يكون لحُرْمَة الْوَقْت. قلت: الِاحْتِمَال إِذا كَانَ ناشئاً عَن غير دَلِيل لَا يعْتَبر بِهِ فبالاحتمال الْمُطلق لَا يثبت الحكم وَلَا يَنْفِي، ثمَّ اسْتدلَّ هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: الْأَمر بالإمساك لَا يسْتَلْزم الْأَجْزَاء بقوله: كَمَا يُؤمر من قدم من سفر فِي رَمَضَان نَهَارا، وكما يُؤمر من أفطر يَوْم الشَّك، ثمَّ رُؤِيَ الْهلَال، وكل ذَلِك لَا يُنَافِي أَمرهم بِالْقضَاءِ بل قد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِي حَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن بن سَلمَة عَن عَمه: (إِن أم أسلم أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: صمتم يومكم هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم واقضوه) . قلت: هَذَا الْقيَاس بَاطِل، لِأَن الرمضانية متعينة فِي الصُّورَة الأولى، ونفيت فِي الثَّانِيَة، فَكيف لَا يُؤمر بِالْقضَاءِ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ.
والْحَدِيث الَّذِي قوَّى كَلَامه بِهِ غير صَحِيح من وُجُوه. الأول: إِن النَّسَائِيّ أخرجه وَلم يذكر واقضوه، وَقَالَ عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام الْكُبْرَى) وَلَا يَصح هَذَا الحَدِيث فِي الْقَضَاء، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : لَفْظَة: واقضوا، مَوْضُوعه بِلَا شكّ. الثَّانِي: إِن الْبَيْهَقِيّ قَالَ عبد الرَّحْمَن: هَذَا مَجْهُول ومختلف فِي اسْم أَبِيه، وَلَا يدْرِي من عَمه، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: قيل عبد الرحمان بن مسلمة، كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد. وَقيل: ابْن سَلمَة، وَقيل: ابْن الْمنْهَال بن سَلمَة، وَرَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عبد الرحمان بن الْمنْهَال بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ عَن عَمه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأسلم: صُومُوا الْيَوْم، قَالُوا: إِنَّا قد أكلنَا، قَالَ: صُومُوا بَقِيَّة يومكم، يَعْنِي عَاشُورَاء) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أخرجهَا ابْن حزم أَيْضا عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة (عَن عبد الرحمان بن مسلمة الْخُزَاعِيّ عَن عَمه، قَالَ: غدونا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبِيحَة عَاشُورَاء، فَقَالَ لنا: أَصْبَحْتُم صياما؟ قُلْنَا: قد تغدينا يَا رَسُول الله! فَقَالَ: فصوموا بَقِيَّة يومكم، وَلم يَأْمُرهُم بِالْقضَاءِ) . الثَّالِث: أَن شُعْبَة قَالَ: كنت أنظر إِلَى فَم قَتَادَة، فَإِذا قَالَ: حدثن كتبت، وَإِذا قَالَ: عَن فلَان) أَو قَالَ: فلَان لم أكبه، وَهُوَ مُدَلّس دلّس عَن مجهولين، وَقَالَ الْكَرَابِيسِي وَغَيره: فَإِذا قَالَ المدلس: حَدثنَا، يكون حجَّة، وَإِذا قَالَ: فلَان قَالَ، أَو: عَن فلَان، لَا يكون حجَّة، فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، فَإِذا كَانَت الرِّوَايَة، يَعْنِي عَن الثِّقَة الْمَعْرُوف بِالْحِفْظِ والضبط، لَا تكون حجَّة فَكيف تكون حجَّة؟ وَقد رَوَاهُ عَن مَجْهُول؟ وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: رِوَايَة: واقضوا، قَاطِعَة لحجة الْمُخَالف، وَنَصّ مَا يَقُوله الْجُمْهُور وجوب اعْتِبَار النِّيَّة من اللَّيْل، وَأَن نِيَّته من النَّهَار غير مُعْتَبرَة ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَيفَ يحْتَج بِمَا لَيْسَ بِحجَّة على خَصمه مَعَ علمه، ويعتقد أَنه يخفي، وَذكر مَا ذكرنَا من الْوُجُوه، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاحْتج الْجُمْهُور

(10/304)


لاشْتِرَاط النِّيَّة فِي الصَّوْم من اللَّيْل بِمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن أُخْته حَفْصَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ) ، لفظ النَّسَائِيّ، وَلأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَرجح التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ الْمَوْقُوف بعد أَن أطنب فِي تَخْرِيج طرقه، وَحكى التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل عَن البُخَارِيّ تَرْجِيح وَقفه، وَعمل بِظَاهِر الْإِسْنَاد جمَاعَة من الْأَئِمَّة فصححوا الحَدِيث الْمَذْكُور مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحكم وَابْن حزم، وروى لَهُ الدَّارَقُطْنِيّ طَرِيقا أُخْرَى، وَقَالَ: رجالها ثِقَات، وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، وَأبْعد من ذَلِك تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض إِذا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء، فتجزي النِّيَّة فِي النَّهَار أَولا فِي يَوْم بِعَيْنِه كرمضان، فَلَا يَجْزِي، إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزي فِي اللَّيْل، وَفِي النَّهَار، وَقد تعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَام غث لَا أصل لَهُ. انْتهى. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَفْصَة حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، يَعْنِي من الْوَجْه الَّذِي رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يجمع الصيم قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَفِي بعض النّسخ: تفرد بِهِ يحيى بن أَيُّوب، قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَوْله وَهُوَ أصح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَرِوَايَة حَمْزَة الصَّوَاب عندنَا مَوْقُوف وَلم يَصح رَفعه، لِأَن يحيى بن أَيُّوب لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَحَدِيث ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ غير مَحْفُوظ. وَالله أعلم.
وَقَالَ شَيخنَا: وَأما الْمَوْقُوف الَّذِي ذكر التِّرْمِذِيّ أَنه أصح فقد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) كَذَلِك عَن نَافِع عَن ان عمر قَوْله: وَمن طَرِيقه رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَوْله: وَقد جَاءَ من طرق مَوْقُوفا على حَفْصَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة، وَمن رِوَايَة يُونُس وَمعمر وَابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن أَبِيه عَن حَفْصَة. وَمن رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة عَن حَفْصَة لم يذكر ابْن عمر، وَمن طَرِيق مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عَائِشَة وَحَفْصَة، رَضِي الله تعال عَنْهُمَا، قَوْلهمَا مُرْسلا.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عِنْد حَدِيث رَوَاهُ إِسْحَاق بن حَازِم عَن عبد الله ابْن أبي بكر عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا: (لَا صِيَام لمن لم ينومن اللَّيْل) ، وَرَوَاهُ يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا، قلت لَهُ: أَيهمَا أصح؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، لِأَن عبد الله بن أبي بكر أدْرك سالما وروى عَنهُ، وَلَا أَدْرِي سمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُ أَو سَمعه من الزُّهْرِيّ عَن سَالم؟ وَقد رُوِيَ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن حَفْصَة قَوْلهَا، وَهُوَ عِنْدِي أشبه. وَقَالَ أَبُو عمر: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب. وَفِيه يحيى بن أَيُّوب الغافقي، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَالصَّوَاب فِي: مَوْقُوف، وَلذَلِك لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ، وَذكره أَبُو الْفرج فِي الضُّعَفَاء والمتروكين. وَقَالَ أَحْمد هُوَ سيء الْحِفْظ وهم يردون الحَدِيث بِأَقَلّ من هَذَا، وَالْجرْح مقدم على التَّعْدِيل، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ من الثِّقَات الرفعاء.
وَأما قَول هَذَا الْقَائِل: وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، فَكَلَام سَاقِط لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن من لم يخص هَذَا الحَدِيث بصيام الْقَضَاء وَالنّذر الْمُطلق، وَصَوْم الْكَفَّارَات يلْزم مِنْهُ النّسخ لمُطلق الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، فَلَا يجوز ذَلِك، بَيَانه أَن قَوْله تَعَالَى: {} إِلَى قَوْله: {} (الْبَقَرَة: 781) مُبِيح للْأَكْل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي ليَالِي رَمَضَان إِلَى طُلُوع الْفجْر، ثمَّ الْأَمر بالصيام عَنْهَا بعد طُلُوع الْفجْر مُتَأَخّر عَنهُ، لِأَن كلمة: ثمَّ، للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي، فَكَانَ هَذَا أمرا بالصيام متراخياً عَن أول النَّهَار، وَالْأَمر بِالصَّوْمِ أَمر بِالنِّيَّةِ إِذْ لَا صَوْم شرعا بِدُونِ النِّيَّة، فَكَانَ أمرا بِالصَّوْمِ بنية مُتَأَخِّرَة عَن أول النَّهَار، وَقد أَتَى بِهِ، فَيخرج عَن الْعهْدَة.
وَفِيه: دلَالَة أَن الْإِمْسَاك فِي أول النَّهَار يَقع صوما، وُجدت فِيهِ النِّيَّة أَو لم تُوجد، لِأَن إتْمَام الشَّيْء يقتضى سَابِقَة وجود بعض شَيْء مِنْهُ، فَإِذا شرطنا النِّيَّة فِي أول اللَّيْل بِخَبَر الْوَاحِد يكون نسخا لمُطلق الْكتاب، فَلَا يجوز ذَلِك، فحينئذٍ يحمل ذَلِك على الصّيام

(10/305)


الْخَاص الْمعِين، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، لِأَن مَشْرُوع الْوَقْت فِي هَذَا متنوع، فَيحْتَاج إِلَى التَّعْيِين بِالنِّيَّةِ، بِخِلَاف شهر رَمَضَان لِأَن الصَّوْم فِيهِ غير متنوع، فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّعْيِين، وَكَذَلِكَ النّذر الْمعِين فَهَذَا هُوَ السِّرّ الْخَفي فِي هَذَا التَّخْصِيص الَّذِي استبدعه من لَا وقُوف لَهُ على دقائق الْكَلَام، ومدارك اسْتِخْرَاج الْمعَانِي من النُّصُوص، وَلم يكتف الْمُدَّعِي بعد هَذَا الْكَلَام لبعد إِدْرَاكه حَتَّى ادّعى الأبعدية فِي تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض وَصَوْم التَّطَوُّع، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَة لِأَن حَامِل الطَّحَاوِيّ على هَذِه التَّفْرِقَة مَا رَوَاهُ مُسلم، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَت: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة {هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ قَالَت: فَقلت: لَا يَا رَسُول الله مَا عندنَا شَيْء} قَالَ: فَإِنِّي صَائِم) ، وبنحوه روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل نقل عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ كلَاما لَا يُوجد أسمج مِنْهُ، لِأَن من يتعقب كَلَام أحد إِن لم يذكر وَجهه بِمَا يقبله الْعلمَاء، يكون كَلَامه هُوَ غثاء لَا أصل لَهُ، وَأجَاب بعض أَصْحَابنَا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور، أَعنِي: حَدِيث حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد التَّسْلِيم بِصِحَّتِهِ وسلامته عَن الِاضْطِرَاب بِأَنَّهُ مَحْمُول على نفي الْفَضِيلَة والكمال، كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاَّ فِي الْمَسْجِد) .

(10/306)


22 - (بابُ الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّائِم حَال كَونه يصبح جنبا، هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟ وَأطلق التَّرْجَمَة للْخلاف الْمَوْجُود فِيهِ.

6291 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عَن سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحارِثِ بنِ هِشامِ بنِ الْمُغِيرَةِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ كُنتُ أنَا وَأبي حينَ دَخَلْنَا عَلَى عائِشَةَ وأمِّ سَلَمَةَ (ح) حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبَرَنِي أبُو بَكْرِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ أنَّ أباهُ عَبْدَ الرَّحْمانِ أخْبَرَ مَرْوَانَ أنَّ عائِشَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ أخْبَرَتاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهْوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ويَصُومُ وقالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّه لَتُقَرِّعَنَّ بِها أبَا هُرَيْرَةَ ومَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى المَدِينَةِ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ ذلِكَ عَبْدُ الرَّحْمانِ ثُمَّ قدِّرَ لَنا أنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الحُلَيفَةِ وكَانَتْ لأِبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أرْضٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ لأِبِي هُرَيْرَةَ إنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أمْرا ولَوْلاَ مَرْوَانُ أقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أذْكُرْهُ لَكَ فذَكَرَ قَوْلَ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كذلِكَ حدَّثني الْفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ وهوَ أعْلَمُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب) .
ذكر رِجَاله وهم عشرَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس، الثَّالِث: سمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي الْأَذَان. الرَّابِع: أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، رَاهِب قُرَيْش، مر فِي الصَّلَاة. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم الْقرشِي المَخْزُومِي، ابْن عَم عِكْرِمَة بن أبي جهل بن هِشَام، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين. السَّادِس: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. السَّابِع: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّامِن: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة. الْعَاشِر: أم الْمُؤمنِينَ أم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة

(11/2)


الْإِفْرَاد فِي موضِعين، وبصيغة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَبُو الْيَمَان وَشُعَيْب حمصيان والبقية كلهم مدنيون. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين وهم: أَبُو بكر وَأَبوهُ عبد الرَّحْمَن وَالزهْرِيّ ومروان.
ذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ: فِيهِ اخْتِلَاف كثير جدا على أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَغَيره، وَقد اخْتلف فِيهِ على الزُّهْرِيّ أَيْضا. فَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَحَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَنْهَا بِمَعْنَاهُ، وَقد اخْتلف فِيهِ على الشّعبِيّ أَيْضا، وَحَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِيهِ قصَّة لم يذكرهَا التِّرْمِذِيّ، وَذكرهَا مُسلم من طَرِيق ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن أبي بكر، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يقص، يَقُول فِي قصصه: من أدْركهُ الْفجْر حنبا فَلَا يصم. قَالَ: فَذكر ذَلِك أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث لِأَبِيهِ، فَأنْكر ذَلِك، فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن وَانْطَلَقت مَعَه حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة وَأم سَلمَة، فَسَأَلَهُمَا عبد الرَّحْمَن عَن ذَلِك فكلتاهما قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصبح جنبا من غير حلم ثمَّ يَصُوم. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلنَا على مَرْوَان، فَذكر ذَلِك لَهُ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْهِ إلاَّ مَا ذهبت إِلَى أبي هُرَيْرَة فَرددت عَلَيْهِ مَا يَقُول، فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبُو بكر حَاضر ذَلِك كُله، قَالَا: فَذكر ذَلِك لَهُ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة لَهما: قالتاه لَك؟ قَالَ: نعم قَالَ: هما أعلم، ثمَّ رد أَبُو هُرَيْرَة مَا كَانَ يَقُول فِي ذَلِك إِلَى الْفضل بن عَبَّاس، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: سَمِعت ذَلِك من الْفضل، وَلم أسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَرجع أَبُو هُرَيْرَة عَمَّا كَانَ يَقُول من ذَلِك) الحَدِيث، هَكَذَا ذكره مُسلم لم يرفع قَول أبي هُرَيْرَة، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْركهُ الصُّبْح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ) . وَذكر الحَدِيث بِنَحْوِهِ، وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ أخصر مِنْهُ من رِوَايَة ابْن شهَاب إِلَى قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس، وَهُوَ أعلم) ، وَفِي رِوَايَة للنسائي من رِوَايَة أبي عِيَاض عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث بن هِشَام، فَأَتَاهُ فَأخْبرهُ، قَالَ: هن أعلم يُرِيد أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يذكر أَبُو هُرَيْرَة فِي هَذِه الرِّوَايَة من حَدثهُ، وَهَكَذَا النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده أَن عَائِشَة أخْبرته: لَيْسَ فِيهِ ذكر أم سَلمَة، وَفِيه: فَذهب عبد الرَّحْمَن فَأخْبرهُ، بذلك قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَهِيَ أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منا، إِنَّمَا كَانَ أُسَامَة بن زيد حَدثنِي ذَلِك، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة أَن الْمخبر لأبي هُرَيْرَة أُسَامَة، وَقد تقدم أَنه الْفضل، وَفِي رِوَايَة للنسائي أخبرنيه مخبر، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقَالَ: هَكَذَا كنت أَحسب، وَلم يحكه عَن أحد، وَفِي رِوَايَة للنسائي من رِوَايَة الحكم عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: عَائِشَة إِذا أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلابْن حبَان من رِوَايَة عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه فَقَالَ هما أعلم يُرِيد عَائِشَة وَأم سَلمَة وَفِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: هَكَذَا حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس وَهن أعلم. وَفِيه: أَيْضا من الِاخْتِلَاف مَا يَقْتَضِي أَن عبد الرَّحْمَن لم يشافه عَائِشَة، وَأم سَلمَة بالسؤال عَن ذَلِك، فَفِي النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي عِيَاض، (عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، قَالَ: أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى عَائِشَة فأتيتها، فَلَقِيت غلامها ذكْوَان فأرسلته إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك. وَفِيه: (فأرسلني إِلَى أم سَلمَة فَلَقِيت غلامها نَافِعًا فأرسلته إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك) الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا أَن عبد الرَّحْمَن شافهها بالسؤال أَكثر وَأَصَح، وَمَعَ هَذَا فَيجوز أَن يكون أرسل الْمولى أَولا ثمَّ أَتَى هُوَ فشافهته، أَو أَن الْمولى كَانَ وَاسِطَة فِي الدُّخُول عَلَيْهَا مَعَ عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَحدثنَا أَبُو الْيَمَان) ، عطف على قَوْله: (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة) ، فَأخْرجهُ من طَرِيقين. وَأخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السِّتَّة خلا ابْن مَاجَه من طرق عديدة. قَوْله: (كنت أَنا وَأبي حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة وَأم سَلمَة) ، هَكَذَا أوردهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الطَّرِيق من رِوَايَة مَالك مُخْتَصرا، ثمَّ ذكر الطَّرِيق الثَّانِي: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الله، وَرُبمَا يظنّ ظان أَن سياقهما وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ يذكر لفظ مَالك بَعْدَمَا بَين، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر مَرْوَان وَلَا قصَّة أبي هُرَيْرَة، نعم قد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن سمي مطولا، وَرَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عبد ربه بن سعيد عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن

(11/3)


مُخْتَصرا، وَأخرجه مُسلم من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن عبد ربه بن سعيد عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام (عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة زَوْجَتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِن كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليُصبح جنبا من جماع غير احْتِلَام فِي رَمَضَان ثمَّ يَصُوم) . قَوْله: (إِن أَبَاهُ عبد الرَّحْمَن أخبر مَرْوَان) هُوَ مَرْوَان بن عبد الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن قصي الْقرشِي الْأمَوِي، أَبُو عبد الْملك، ولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِأَرْبَع، وَلم يَصح لَهُ سَماع من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ مَالك: ولد يَوْم أحد، وَقيل: يَوْم الخَنْدَق، وَقيل: ولد بِمَكَّة، وَقيل: بِالطَّائِف وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل لما نفى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاهُ الحكم، وَكَانَ مَعَ أَبِيه حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فردهما واستكتب عُثْمَان مَرْوَان وضمه إِلَيْهِ، وَاسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْمَدِينَة وَمَكَّة والطائف، ثمَّ عَزله عَن الْمَدِينَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين، وَلما مَاتَ مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَلم يعْهَد إِلَى أحد بَايع النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، ثمَّ مَاتَ، وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة أشهر، مَاتَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى مُسلم. قَوْله: (كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب) أَي: وَالْحَال أَنه جنب من أَهله، ثمَّ يغْتَسل ويصوم، وَفِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن عَائِشَة: كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر فِي رَمَضَان من غير حلم) ، وَسَيَأْتِي بعد بَابَيْنِ. وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن أَبِيه عَنْهَا: كَانَ يصبح جنبا من غير احْتِلَام ثمَّ يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) . وَفِي لفظ لَهُ: (كَانَ يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: أَنه كَانَ يُجَامع فِي رَمَضَان وَيُؤَخر الْغسْل إِلَى بعد طُلُوع الْفجْر بَيَانا للْجُوَاز. وَالثَّانيَِة: أَن ذَلِك كَانَ من جماع لَا من احْتِلَام، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَلِم، إِذْ الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ قيل فِي قَول عَائِشَة من غير احْتِلَام إِشَارَة إِلَى جَوَاز الِاحْتِلَام عَلَيْهِ وَإِلَّا لما كَانَ لاستثنائه معنى ورد بِأَن الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم عَنهُ، وَلَكِن الِاحْتِلَام يُطلق على الْإِنْزَال، وَقد يَقع الْإِنْزَال من غير رُؤْيَة شَيْء فِي الْمَنَام.
قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث: أقسم بِاللَّه لتقرعن بهَا أَبَا هُرَيْرَة) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عِكْرِمَة بن خَالِد (عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: إلقَ أَبَا هُرَيْرَة فحدثه بِهَذَا، فَقَالَ: إِنَّه لجاري وَإِنِّي لأكْره أَن استقبله بِمَا يكره، فَقَالَ: أعزم عَلَيْك لتلقينه) ، وَمن طَرِيق عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن لمروان: غفر الله لَك، إِنَّه لي صديق وَلَا أحب أَن أرد عَلَيْهِ) قَوْله: (وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يُفْتى أَن من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ، على مَا رَوَاهُ مَالك عَن سمي (عَن أبي بكر أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ، وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق المَقْبُري: (كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي النَّاس: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) ، وَإِلَيْهِ كَانَ يذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعُرْوَة بن الزبير وطاووس، وَلَكِن أَبَا هُرَيْرَة لم يثبت على قَوْله هَذَا حَيْثُ رد الْعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ: عَائِشَة أعلم مني، أَو قَالَ: أعلم بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منِّي. وَقَالَ أَبُو عمر: روى عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان الرُّجُوع عَن ذَلِك، وَحَكَاهُ الْحَازِمِي عَن سعيد بن الْمسيب، وَقَالَ الْخطابِيّ وَابْن الْمُنْذر: أحسن مَا سَمِعت من خبر أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه مَنْسُوخ، لِأَن الْجِمَاع كَانَ محرما على الصَّائِم بعد النّوم، فَلَمَّا أَبَاحَ الله تَعَالَى الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر جَازَ للْجنب إِذا أصبح قبل أَن يغْتَسل أَن يَصُوم لارْتِفَاع الْحَظْر، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي بِمَا سَمعه من الْفضل على الْأَمر الأول وَلم يعلم بالنسخ، فَلَمَّا سمع خبر عَائِشَة وَأم سَلمَة رَجَعَ إِلَيْهِ. قَوْله: (لتفزعن) ، بِالْفَاءِ وَالزَّاي من الْفَزع وَهُوَ الْخَوْف، أَي: لتخيفنه بِهَذِهِ الْقِصَّة الَّتِي تخَالف فتواه، وَقد أكد هَذَا بِاللَّامِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة، وَهَذَا كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (تقرعن) ، من القرع بِالْقَافِ وَالرَّاء أَي لتقرعن أَبَا هُرَيْرَة بِهَذِهِ الْقِصَّة، يُقَال: قرعت بِكَذَا، سمْعَ فلَان: إِذا أعلمته إعلاما صَرِيحًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى (لتعرفن) ، من التَّعْرِيف. قَوْله: (ومروان يَوْمئِذٍ على الْمَدِينَة) ، أَي: حَاكما عَلَيْهَا من جِهَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (فكره ذَلِك عبد الرَّحْمَن) ، أَي: فكره عبد الرَّحْمَن فعل مَا قَالَه مَرْوَان من قرع أبي هُرَيْرَة وإفزاعه فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ. قَوْله: (ثمَّ قدر لنا) أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: ثمَّ بعد ذَلِك قدر الله لنا الِاجْتِمَاع بِذِي الحليفة، وَهُوَ الْموضع الْمَعْرُوف، وَهُوَ مِيقَات أهل الْمَدِينَة وَكَانَ لأبي هُرَيْرَة هُنَالك أَي: فِي ذِي الحليفة أَرض، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة هُنَاكَ فِي ذَلِك الْوَقْت. فَإِن قلت: فَفِي رِوَايَة مَالك:

(11/4)


(فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: أَقْسَمت عَلَيْك لتركبن دَابَّتي فَإِنَّهَا بِالْبَابِ، ولتذهبن إِلَى أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه، فَركب عبد الرَّحْمَن وَركبت مَعَه) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: وَركبت مَعَ عبد الرَّحْمَن، فَهَذِهِ تخَالف رِوَايَة الْكتاب، فَإِن العقيق غير ذِي الحليفة، لِأَن العقيق وَاد بِظَاهِر الْمَدِينَة مسيل للْمَاء، وَهُوَ الَّذِي ورد ذكره فِي الحَدِيث أَنه وادٍ مبارك، وكل مسيل شقَّه مَاء السَّيْل فَهُوَ عقيق، وَالْجمع أعقة. قلت: لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ من حَيْثُ إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَت لَهُ أَرض أَيْضا بالعقيق، فَالظَّاهِر أَن أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا أَبَا هُرَيْرَة للاجتماع لَهُ امتثالاً لأمر مَرْوَان، فَأتيَا إِلَى العقيق بِنَاء على أَنه هُنَاكَ فَلم يجداه، فذهبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ. فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر: فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْكُمَا لما ذهبتما إِلَى أبي هُرَيْرَة، قَالَ: فلقينا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بَاب الْمَسْجِد قلت: الْجَواب الْحسن هُنَا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد ذِي الحليفة، لأَنهم ذكرُوا أَن بِذِي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِد أبي هُرَيْرَة بالعقيق لَا الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. قلت: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا من مَنْهَج الصَّوَاب، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا فِي التَّوْفِيق بَين قَوْله: بِذِي الحليفة، وَقَوله: بالعقيق: يحْتَمل أَن يَكُونَا يَعْنِي: أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا إِلَى العقيق بِنَاء على أَن أَبَا هُرَيْرَة فِيهَا فَلم يجداه، قَالَ: ثمَّ وجداه بِذِي الحليفة، وَكَانَ لَهُ بهَا أَيْضا أَرض، وَمعنى كَلَامه: أَنَّهُمَا لما لم يجداه بالعقيق ذَهَبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ عِنْد بَاب الْمَسْجِد، فَيلْزم من مُقْتَضى كَلَامه أَنهم عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق ولاقياه فِيهَا عِنْد بَاب الْمَسْجِد، وَهَذَا كَلَام خَارج أَجْنَبِي عَن مُقْتَضى معنى التَّرْكِيب، لأَنهم لَو كَانُوا عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق، كَيفَ كَانَ أَبُو بكر وَعبد الرَّحْمَن يَقُولَانِ: لَقينَا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بَاب الْمَسْجِد؟ وَالْحَال أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ مَعَهُمَا على مُقْتَضى كَلَامه؟ ثمَّ ذكر هَذَا الْقَائِل وَجها آخر أبعد من الأول، حَيْثُ قَالَ: أَو يجمع بِأَنَّهُمَا التقيا بالعقيق، فَذكر لَهُ عبد الرَّحْمَن الْقِصَّة مجملة، أَو لم يذكرهَا، بل شرع فِيهَا ثمَّ لم يتهيأ لَهُ ذكر تفصيلها وَسَمَاع جَوَاب أبي هُرَيْرَة إلاَّ بعد أَن رجعا إِلَى الْمَدِينَة، وأرادا دُخُول الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. قلت: الَّذِي حمله على هَذَا التَّفْسِير تَفْسِيره الْمَسْجِد: بِمَسْجِد العقيق، وَلَو فسره بِمَسْجِد ذِي الحليفة لاستراح وأراح، على أَنا نقُول: من قَالَ: إِنَّه كَانَ لأبي هُرَيْرَة مَسْجِد بالعقيق، وَأما الْمَسْجِد الَّذِي بِذِي الحليفة فقد نَص عَلَيْهِ أهل السّير والإخباريون، وَلَا دلَالَة أصلا فِي الحَدِيث على هَذَا التَّوْجِيه الَّذِي ذكره، وَلَا قَالَ بِهِ أحد قبله. قَوْله: (إِنِّي ذَاكر أمرا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إِنِّي أذكر لَك) ، بِصِيغَة الْمُضَارع. قَوْله: (لم أذكرهُ لَك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لم أذكر ذَلِك) . قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس) ، وَقد أحَال أَبُو هُرَيْرَة فِيهِ مرّة على الْفضل، وَمرَّة على أُسَامَة بن زيد فِيمَا رَوَاهُ عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده، وَمرَّة قَالَ: أخبرنيه مخبر، وَمرَّة قَالَ: حَدثنِي فلَان وَفُلَان، فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان عَن عبد الْملك بن أبي بكر عَن أَبِيه عَنهُ على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لَا وَرب هَذَا الْبَيْت، مَا أَنا قلت: من أدْرك الصُّبْح جنبا فَلَا يصم مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرب الْكَعْبَة قَالَه. ثمَّ حَدَّثَنِيهِ الْفضل) . قَوْله: (وَهُوَ أعلم) أَي: الْفضل أعلم مني بِمَا روى، والعهدة عَلَيْهِ فِي ذَلِك لَا عَليّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان الحكم الَّذِي بوب الْبَاب لأَجله. وَفِيه: دُخُول الْفُقَهَاء على السُّلْطَان ومذاكرتهم لَهُ بِالْعلمِ. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ مَرْوَان من الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ومسائل الدّين، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الدُّنْيَا، ومروان عِنْدهم أحد الْعلمَاء وَكَذَلِكَ ابْنه عبد الْملك. وَفِيه: مَا يدل على أَن الشَّيْء إِذا تنوزع فِيهِ رد إِلَى من يظنّ أَنه يُوجد عِنْده علم مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم النَّاس بِهَذَا الْمَعْنى بعده. وَفِيه: أَن من كَانَ عِنْده علم فِي شَيْء وَسمع بِخِلَافِهِ كَانَ عَلَيْهِ إِنْكَاره، من ثِقَة سمع ذَلِك أَو غَيره، حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ صِحَة خلاف مَا عِنْده. وَفِيه: أَن الْحجَّة القاطعة عِنْد الِاخْتِلَاف فِيمَا لَا نَص فِيهِ من الْكتاب وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: إِثْبَات الْحجَّة فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل وَأَن الْمَرْأَة فِي ذَلِك كَالرّجلِ سَوَاء، وَأَن طَرِيق الْإِخْبَار فِي هَذَا غير طَرِيق الشَّهَادَات. وَفِيه: طلب الْحجَّة وَطلب الدَّلِيل والبحث على الْعلم حَتَّى يَصح فِيهِ وَجه، أَلا ترى أَن مرواه لما أخبرهُ عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة بِمَا أخبرهُ بِهِ من هَذَا الحَدِيث، بعث إِلَى أبي هُرَيْرَة طَالبا

(11/5)


للحجة وباحثا عَن موقعها ليعرف من أَيْن قَالَ أَبُو هُرَيْرَة مَا قَالَه من ذَلِك؟ وَفِيه: اعْتِرَاف الْعَالم بِالْحَقِّ وإنصافه إِذا سمع الْحجَّة، وَهَكَذَا أهل الْعلم وَالدّين أولو إنصاف واعتراف. وَفِيه: دَلِيل على تَرْجِيح رِوَايَة صَاحب الْخَبَر إِذا عَارضه حَدِيث آخر، وترجيح مَا رَوَاهُ النِّسَاء مِمَّا يخْتَص بِهن إِذا خالفهن فِيهِ الرِّجَال، وَكَذَلِكَ الْأَمر فِيمَا يخْتَص بِالرِّجَالِ على مَا أحكمه الأصوليون فِي: بَاب التَّرْجِيح للآثار. وَفِيه: حسن الْأَدَب مَعَ الأكابر وَتَقْدِير الِاعْتِذَار قبل تَبْلِيغ مَا يظنّ الْمبلغ أَن الْمبلغ يكرههُ.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أصبح جنبا وَهُوَ يُرِيد الصَّوْم: هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟ على سَبْعَة أَقْوَال: الأول: أَن الصَّوْم صَحِيح مُطلقًا فرضا كَانَ أَو تَطَوّعا أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا أَو لنوم أَو نِسْيَان، لعُمُوم الحَدِيث، وَبِه قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو ذَر وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو عمر: إِنَّه الَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بالعراق والحجاز أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار، مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وأصحابهم وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية وَأَبُو عُبَيْدَة وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ وَجَمَاعَة من أهل الحَدِيث. الثَّانِي: أَنه لَا يَصح صَوْم من أصبح جنبا مُطلقًا، وَبِه قَالَ الْفضل بن عَبَّاس وَأُسَامَة بن زيد وَأَبُو هُرَيْرَة، ثمَّ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَة عَنهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين أَن يُؤَخر الْغسْل عَالما بجنابته أم لَا، فَإِن علم وأخره عمدا لم يَصح وإلاَّ صَحَّ، رُوِيَ ذَلِك عَن طَاوُوس وَعُرْوَة بن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ صَاحب (الْإِكْمَال) : وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة. الرَّابِع: التَّفْرِقَة بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فَلَا يجْزِيه فِي الْفَرْض ويجزيه فِي النَّفْل، رُوِيَ ذَلِك عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَيْضا، حَكَاهُ صَاحب (الْإِكْمَال) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكى أَبُو عمر عَن الْحسن بن حَيّ أَنه: كَانَ يسْتَحبّ لمن أصبح جنبا فِي رَمَضَان أَن يَقْضِيه، وَكَانَ يَقُول: يَصُوم الرجل تَطَوّعا وَإِن أصبح جنبا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ. الْخَامِس: أَن يتم صَوْمه ذَلِك الْيَوْم ويقضيه. رُوِيَ ذَلِك عَن سَالم بن عبد الله وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَيْضا وَعَطَاء بن أبي رَبَاح. السَّادِس: أَنه يسْتَحبّ الْقَضَاء فِي الْفَرْض دون النَّفْل، حَكَاهُ فِي (الاستذكار) عَن الْحسن بن صَالح بن حَيّ. السَّابِع: أَنه لَا يبطل صَوْمه إلاَّ أَن تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس قبل أَن يغْتَسل وَيُصلي، فَيبْطل صَوْمه، قَالَه ابْن حزم بِنَاء على مذْهبه فِي أَن الْمعْصِيَة عمدا تبطل الصَّوْم.
فَإِن قلت: حَدِيث الْفضل فِيهِ: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم، وَحَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِيهِ حِكَايَة فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يصبح جنبا ثمَّ يَصُوم، فَهَلا جمعتم بَين الْحَدِيثين بِحمْل حَدِيثهمَا على أَنه من الخصائص، وَحَدِيث الْفضل لغيره من الْأمة؟ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي حديثيهما أَنه أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا، فَلَعَلَّهُ نَام عَن ذَلِك. قلت: الأَصْل عدم التَّخْصِيص، وَمَعَ ذَلِك فَفِي الحَدِيث التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْخُصُوص، فروى مَالك عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن معمر عَن أبي يُونُس، مولى عَائِشَة، (عَن عَائِشَة: أَن رجلا قَالَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ وَاقِف على الْبَاب وَأَنا أسمع: يَا رَسُول الله {إِنِّي أصبح جنبا، وَأَنا أُرِيد الصّيام} فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأَنا أصبح جنبا وَأَنا أُرِيد الصّيام، فأغتسل وَأَصُوم، فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا رَسُول الله إِنَّك لست مثلنَا، قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر، فَغَضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن أكون أخشاكم لله، وَأعْلمكُمْ بِمَا اتقِي) . وَمن طَرِيق مَالك أخرجه أَبُو دَاوُد، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ هَمَّامٌ وابْنُ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ كانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأمُرُ بالْفِطْرِ والأوَّلُ أسْندُ همام هُوَ ابْن مُنَبّه الصَّنْعَانِيّ، وَقد مر فِي: بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق معمر عَنهُ بِلَفْظ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا نُودي للصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح أحدكُم جنب فَلَا يصم يَوْمئِذٍ) . قَوْله: (وَابْن عبد الله) ، بِالرَّفْع عطف على همام، وَكَانَ لعبد الله بنُون سِتَّة. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِابْن عبد الله هُنَا هُوَ سَالم لِأَنَّهُ يروي عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: الْجَزْم بِأَنَّهُ سَالم بن عبد الله غير صَحِيح، لِأَن فِيهِ اخْتِلَافا، فَقيل: هُوَ عبد الله بن عمر، وَقيل: هُوَ عبيد الله بن عبد الله بِالتَّكْبِيرِ والتصغير. فِي اسْم الابْن، وَلأَجل هَذَا الِاخْتِلَاف لم يسمه البُخَارِيّ صَرِيحًا، وَأما تَعْلِيق

(11/6)


ابْن عبد الله بن عمر فوصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن شهَاب عَن ابْن عبد الله بن عمر عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ، فَقيل: قد اخْتلف على الزُّهْرِيّ فِي اسْمه، فَقَالَ شُعَيْب عَنهُ: أَخْبرنِي عبد الله بن عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْمُرنَا بِالْفطرِ إِذا أصبح الرجل جنبا) ، أخرجه النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين، وَقَالَ عقيل، عَنهُ: عَن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بِهِ، فَاخْتلف على الزُّهْرِيّ، هَل هُوَ عبد الله بِالتَّكْبِيرِ أَو عبيد الله بِالتَّصْغِيرِ. قَوْله: (وَالْأول أسْند) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي حَدِيث أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ أسْند، أَي: أصح إِسْنَادًا. قلت: لَيْسَ المُرَاد بقوله: أسْند، أَي: أصح لِأَن الْإِسْنَاد إِلَى أبي هُرَيْرَة هُوَ الْإِسْنَاد إِلَى أُمِّي الْمُؤمنِينَ فِي أَكثر الطّرق. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَالْأول أسْند، يُرِيد وَالله أعلم أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، فَلَيْسَ فِي أحد من الصَّحِيحَيْنِ إِسْنَاده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا قَالَ: كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس، وَقد ذكرنَا أَن أَبَا هُرَيْرَة أحَال فِيهِ عَلَيْهِ وعَلى غَيره، تَارَة بتصريح وَتارَة بإبهام. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، مَعْنَاهُ أظهر إِسْنَادًا وَأبين فِي الِاتِّصَال. وَقَالَ ابْن التِّين: أَي الطَّرِيق الأول أوضح رفعا. وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ أقوى إِسْنَادًا، لِأَن حَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِي ذَلِك جَاءَ عَنْهُمَا من طرق كَثِيرَة جدا بِمَعْنى وَاحِد، حَتَّى قَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه صَحَّ وتواتر، وَأما أَبُو هُرَيْرَة فَأكْثر الرِّوَايَات عَنهُ أَنه كَانَ يُفْتِي بِهِ. قلت: قد ذكرنَا الْآن أَن الْإِسْنَاد إِلَى أبي هُرَيْرَة هُوَ الْإِسْنَاد إِلَى أُمِّي الْمُؤمنِينَ فِي أَكثر الطّرق، فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَقد روى أَبُو عمر من رِوَايَة عَطاء بن مينا، (عَن أبي هُرَيْرَة، أَنه قَالَ: كنت حدثتكم: من أصبح جنبا فقد أفطر، وَإِن ذَلِك من كيس أبي هُرَيْرَة) ؟ قلت: لَا يَصح ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة لِأَنَّهُ من رِوَايَة عمر بن قيس، وَهُوَ مَتْرُوك، وَذكر ابْن خُزَيْمَة أَن بعض الْعلمَاء توهم أَن أَبَا هُرَيْرَة غلط فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ رد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يغلط، بل أحَال على رِوَايَة صَادِق، إلاَّ أَن الْخَبَر مَنْسُوخ. انْتهى.
وَقد ذكرنَا وَجه النّسخ بِأَن حَدِيث عَائِشَة هُوَ النَّاسِخ لحَدِيث الْفضل، وَلم يبلغ الْفضل وَلَا أَبَا هُرَيْرَة النَّاسِخ، فاستمر أَبُو هُرَيْرَة على الْفتيا بِهِ، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ بعد ذَلِك لما بلغه، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي يُونُس مولى عَائِشَة عَنْهَا، وَقد ذكرنَا عَن قريب مَا يشْعر بِأَن ذَلِك كَانَ بعد الْحُدَيْبِيَة لقَوْله فِيهَا: (غفر الله لَك مَا تقدم وَمَا تَأَخّر) ، وَأَشَارَ إِلَى آيَة الْفَتْح، وَهِي إِنَّمَا نزلت عَام الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ، وَابْتِدَاء فرض الصّيام كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة، وَالله أعلم وَمِنْهُم من جمع بَين الْحَدِيثين بِأَن الْأَمر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَمر إرشاد إِلَى الْأَفْضَل، بِأَن الْأَفْضَل أَن يغْتَسل قبل الْفجْر، فَلَو خَالف جَازَ، وَيحمل حَدِيث عَائِشَة على بَيَان الْجَوَاز، وَيُعَكر على حمله على الْإِرْشَاد التَّصْرِيح فِي كثير من طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِالْأَمر بِالْفطرِ وبالنهي عَن الصّيام، فَكيف يَصح الْحمل الْمَذْكُور إِذا وَقع ذَلِك فِي رَمَضَان وَقيل: هُوَ مَحْمُول على من أدْركهُ الْفجْر مجامعا، فاستدام بعد طلوعه عَالما بذلك، وَيُعَكر عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي حَازِم عَن عبد الْملك ابْن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من احْتَلَمَ وَعلم باحتلامه وَلم يغْتَسل حَتَّى أصبح فَلَا يَصُوم، وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم أَنه سقط كلمة: لَا، من حَدِيث الْفضل، وَكَانَ فِي الأَصْل: مَن أصبح جنبا فِي رَمَضَان فَلَا يفْطر، فَلَمَّا سَقَطت: لَا، صَار: فليفطر، وَهَذَا كَلَام واهٍ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم عدم الوثوق بِكَثِير من الْأَحَادِيث بطرقها مثل هَذَا الِاحْتِمَال، فَكَانَ قَائِله مَا وقف على شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث إلاَّ على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَالله أعلم.

32 - (بابُ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُبَاشرَة للصَّائِم، الْمُبَاشرَة، مفاعلة، وَهِي الْمُلَامسَة، وَأَصله من لمس بشرة الرجل بشرة الْمَرْأَة، وَقد ترد بِمَعْنى: الْوَطْء فِي الْفرج وخارجا مِنْهُ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة: الْجِمَاع.
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا يَحْرُمُ عَليْهِ فَرْجُهَا أَي: يحرم على الصَّائِم فرج امْرَأَته، وَهَذَا التَّعْلِيق، وَصله الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب، قَالَ: حَدثا اللَّيْث عَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج عَن أبي مرّة مولى عقيل، (عَن حَكِيم بن عقال أَنه قَالَ: سَأَلت عَائِشَة: مَا يحرم عَليّ من امْرَأَتي وَأَنا صَائِم؟ قَالَت: فرجهَا) . وبنحوه أخرج ابْن حزم فِي (الْمحلي) من طَرِيق معمر عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي

(11/7)


قلَابَة (عَن مَسْرُوق، قَالَ: سَأَلت عَائِشَة، أم الْمُؤمنِينَ: مَا يحل للرجل من امْرَأَته صَائِما؟ فَقَالَ: (كل شَيْء إلاَّ الْجِمَاع) ، وَأَبُو مرّة اسْمه: يزِيد مولى عقيل بن أبي طَالب، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَحَكِيم بن عقال الْعجلِيّ الْبَصْرِيّ وَثَّقَهُ ابْن حبَان.

42 - (بابُ القُبْلَةِ لِلصَّائِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْقبْلَة للصَّائِم.
وَقَالَ جابِرُ بنُ زَيْدٍ إنْ نَظَرَ فأمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ
جَابر بن زيد هُوَ أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ، وَقد تقدم، وَهَذَا الْأَثر وَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر فِي آخر الْبَاب السَّابِق، وَوَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَمْرو بن هرم، سُئِلَ جَابر بن زيد فَذكره.

8291 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبِي عنْ عائِشةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ هِشَامٍ عَن أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أزْوَاجِهِ وهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ ضَحِكَتْ. (انْظُر الحَدِيث 7291) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ليقبل بعض أَزوَاجه وَهُوَ صَائِم) ، وَهَذَا الْفِعْل هُوَ الْمُبَاشرَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بن سعيد.
قَوْله:

(11/8)


(إِن كَانَ) ، كلمة: إِن، مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة فَتدخل على الجملتين، فَإِن دخلت على الإسمية جَازَ إعمالها خلافًا للكوفيين، وَإِن دخلت على الفعلية وَجب إعمالها، وَالْأَكْثَر كَون الْفِعْل مَاضِيا نَاسِخا، وَهنا كَذَلِك. قَوْله: (ليقبل) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد. قَوْله: (وَهُوَ صَائِم) جملَة حَالية. قَوْله: (ثمَّ ضحِكت) قيل: كَانَ ضحكها تَنْبِيها على أَنَّهَا صَاحِبَة الْقَضِيَّة ليَكُون أبلغ فِي الثِّقَة بحديثها. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل ضحكها التَّعَجُّب مِمَّا خَالفه فِيهِ أَو من نَفسهَا حَيْثُ جَاءَت بِمثل هَذَا الحَدِيث الَّذِي يستحي من ذكره، لَا سِيمَا حَدِيث الْمَرْأَة عَن نَفسهَا للرِّجَال: لَكِنَّهَا اضطرت إِلَى ذكره لتبليغ الحَدِيث، فتعجبت من ضَرُورَة الْحَال المضطرة لَهَا إِلَى ذَلِك، وَقيل: ضحِكت سُرُورًا بتذكر مَكَانهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحالها مَعَه.
ذكر بَيَان الْخلاف فِي هَذَا الْبَاب: ذهب شُرَيْح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَأَبُو قلَابَة وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة ومسروق ابْن الأجدع وَعبد الله بن شبْرمَة إِلَى أَنه لَيْسَ للصَّائِم أَن يُبَاشر الْقبْلَة فَإِن قبل فقد أفطر وَعَلِيهِ أَن يقْضِي يَوْمًا، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا الْفضل بن دُكَيْن عَن إِسْرَائِيل عَن زيد بن جُبَير عَن أبي يزِيد الضني (عَن مَيْمُونَة، مولاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن رجل قبل امْرَأَته وهما صائمان؟ قَالَ: قد أفطرا) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَلَفظه: (عَن مَيْمُونَة بنت سعد قَالَت: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقبْلَة للصَّائِم؟ فَقَالَ: أفطرا جَمِيعًا) . وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو يزِيد الضني، بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة: نِسْبَة إِلَى ضنة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَقَالَ ابْن حزم: مَجْهُول، ومَيْمُونَة بنت سعد، وَقيل: سعيد، خَادِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه ابْن حزم وَلَفظه: عَن مَيْمُونَة بنت عقبَة مولاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث، وَكَذَا قَالَ السُّهيْلي وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ يَعْنِي البُخَارِيّ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أحدث بِهِ، وَأَبُو يزِيد لَا أعرف اسْمه وَهُوَ رجل مَجْهُول. قَوْله: (قد أفطرا) ، أَي: المقبِّل والمقبَّل كِلَاهُمَا أفطرا، يَعْنِي: انْتقض صومهما، وَقَالَ أَبُو عمر: وَمِمَّنْ كره الْقبْلَة للصَّائِم عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعُرْوَة بن الزبير، وَقد رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن عروق الخصيتين معلقَة بالأنف، فَإِذا وجد الرّيح تحرّك، وَإِذا تحرّك دعِي إِلَى مَا هُوَ أَكثر من ذَلِك، وَالشَّيْخ أملك لأربه، وَكره مَالك الْقبْلَة للصَّائِم فِي رَمَضَان للشَّيْخ والشاب، وَعَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه أرخص فِيهَا للشَّيْخ، وكرهها للشاب. وَقَالَ عِيَاض: مِنْهُم من أَبَاحَهَا على الْإِطْلَاق، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد من الْفُقَهَاء، وَمِنْهُم من كرهها على الْإِطْلَاق وَهُوَ مَشْهُور قَول مَالك، وَمِنْهُم من كرهها للشاب وأباحها للشَّيْخ وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ عَن مَالك، وَمِنْهُم من أَبَاحَهَا فِي النَّفْل ومنعها فِي الْفَرْض، وَهِي رِوَايَة ابْن وهب عَن مَالك، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن حركت الْقبْلَة الشَّهْوَة فَهِيَ حرَام على الْأَصَح عِنْد أَصْحَابنَا، وَقيل: مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة فِي فروعهم: لَا بَأْس بالقبلة والمعانقة إِذا أَمن على نَفسه أَو كَانَ شَيخا كَبِيرا، وَيكرهُ لَهُ مس فرجهَا، وَعَن أبي حنيفَة: تكره المعانقة والمصافحة والمباشرة الْفَاحِشَة بِلَا ثوب والتقبيل الْفَاحِش مَكْرُوه وَهُوَ أَن يمضغ شفتيها، قَالَه مُحَمَّد. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من طَرِيق مصدع أبي يحيى (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبلهَا ويمص لسانها) . قلت: كلمة: ويمص، لسانها غير مَحْفُوظَة، وَإِسْنَاده ضَعِيف، والآفة من مُحَمَّد بن دِينَار عَن سعد بن أَوْس عَن مصدع، وَتفرد بِهِ أَبُو دَاوُد، وَحكى ابْن الْأَعرَابِي عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح، وَعَن يحيى بن مُحَمَّد بن دِينَار: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ تغير قبل أَن يَمُوت، وَسعد بن أَوْس ضعفه يحيى أَيْضا. قيل: على تَقْدِير صِحَة الحَدِيث يجوز أَن يكون التَّقْبِيل وَهُوَ صَائِم فِي وَقت، والمص فِي وَقت آخر، وَيجوز أَن يمصه وَلَا يبتلعه، وَلِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق انْفِصَال مَا على لسانها من البلل، وَفِيه نظر لَا يخفى. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِن قبَّل فأمنى أفطر بِلَا خلاف، فَإِن أمذى أفطر عندنَا وَعند مَالك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يفْطر، وَرُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، واللمس بِشَهْوَة كالقبلة، فَإِن كَانَ بِغَيْر شَهْوَة فَلَيْسَ مَكْرُوها بِحَال.
وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث عَائِشَة من رِوَايَة عَمْرو بن مَيْمُون: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقبل فِي شهر الصَّوْم) ، قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب وَحَفْصَة وَأبي سعيد وَأم سَلمَة

(11/9)


وَابْن عَبَّاس وَأنس وَأبي هُرَيْرَة. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَأم حَبِيبَة ومَيْمُونَة زَوجي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومَيْمُونَة بنت سعد مولاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرجل من الْأَنْصَار عَن امْرَأَته.
أما حَدِيث عَائِشَة فَروِيَ من طرق عديدة حَتَّى إِن الطَّحَاوِيّ أخرجه من عشْرين طَرِيقا. وَأما حَدِيث عمر بن الْخطاب فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث جَابر بن عبد الله، قَالَ: (قَالَ عمر ابْن الْخطاب: هششت فَقبلت وَأَنا صَائِم، فَقلت: يَا رَسُول الله صنعت الْيَوْم أمرا عَظِيما {قبلت وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَو مضمضت من المَاء وَأَنت صَائِم؟ قلت: لَا بَأْس} قَالَ: فَمه) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَقد أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ) صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَأما حَدِيث حَفْصَة فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح عَن شُتَيْر بن شكل عَن حَفْصَة، قَالَت: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل وَهُوَ صَائِم) . وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: (رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقبْلَة للصَّائِم والحجامة) . وَأما حَدِيث أم سَلمَة فَأخْرجهُ مُسلم من رِوَايَة عبد ربه بن سعيد عَن عبد الله بن كَعْب الْحِمْيَرِي (عَن عمر بن أبي سَلمَة، أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيقبل الصَّائِم؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سل هَذِه لأم سَلمَة فَأَخْبَرته أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنع ذَلِك، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما وَالله إِنِّي لأتقاكم لله وأخشاكم لَهُ) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) وروى البُخَارِيّ عَنْهَا أَيْضا على مَا سَيَأْتِي. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ القَاضِي يُوسُف بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان ابْن حَرْب، حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، قَالَ: حَدثنِي رجل من بني سدوس، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصِيب من الرؤوس وَهُوَ صَائِم، يَعْنِي الْقبل) . وروينا هَذَا الحَدِيث عَن شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله، قَالَ: أَخْبرنِي بِهِ أَبُو المظفر مُحَمَّد بن يحيى الْقرشِي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ: أخبرنَا عبد الرَّحِيم بن يُوسُف ابْن الْمعلم أخبرنَا عمر بن مُحَمَّد الْمُؤَدب أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ أخبرنَا الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن كيسَان أخبرنَا يُوسُف بن يَعْقُوب القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ. وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) و (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيقبل الصَّائِم؟ قَالَ: وَمَا بَأْس ذَلِك؟ رَيْحَانَة يشمها) . وَرِجَاله ثِقَات. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي العنبس عَن الْأَغَر عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل حَدِيث قبله، وَأَبُو العنبس اسْمه محَارب بن عبيد بن كَعْب.
وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي (كتاب الْعِلَل) فَقَالَ: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ قيس بن حَفْص بن قيس بن الْقَعْقَاع الدَّارمِيّ: حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد حَدثنَا سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن شيتر بن شكل (عَن عَليّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم) ثمَّ قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: هَذَا خطأ إِنَّمَا هُوَ الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن شُتَيْر بن شكل عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) فِي تَرْجَمَة غَالب بن عبد الله الْجَزرِي (عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم وَلَا يُعِيد الْوضُوء) ، وغالب الْجَزرِي ضَعِيف. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) عَنهُ قَالَ: (كُنَّا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء شَاب، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} أقبل وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فجَاء شيخ فَقَالَ: أقبل وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: نعم. قَالَ فَنظر بَعْضنَا إِلَى بعض، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد علمت لم نظر بَعْضكُم إِلَى بعض، إِن الشَّيْخ يملك نَفسه) . وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ. وَأما حَدِيث أم حَبِيبَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنْهَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم) قَالَ النَّسَائِيّ: الصَّوَاب عَن حَفْصَة. وَأما حَدِيث مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبِّل وَهُوَ صَائِم) . قَالَ أَبُو زرْعَة: رَوَاهُ هَكَذَا عَمْرو بن أبي قيس وَهُوَ خطأ، وَرَوَاهُ الثَّوْريّ وَآخَرُونَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأما حَدِيث مَيْمُونَة مولاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه وَقد ذَكرْنَاهُ. وَأما حَدِيث الرجل الْأنْصَارِيّ عَن امْرَأَته، فَأخْرجهُ أَحْمد مطولا، وَفِيه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك) .
فَإِن قلت: قَوْله: (يقبل وَهُوَ صَائِم) ، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون فِي رَمَضَان قلت: فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: كَانَ يقبل فِي شهر

(11/10)


الصَّوْم، وَهَذَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون فِي رَمَضَان، لِأَنَّهُ شهر الصَّوْم، وَقد جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يقبل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم) . فَإِن قلت: لَا يلْزم من قَوْله: (فِي رَمَضَان) ، أَن يكون بِالنَّهَارِ؟ قلت: فِي رِوَايَة عَن عَائِشَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) (كَانَ يقبل ويباشر وَهُوَ صَائِم) ، فَبين أَن ذَلِك فِي حَالَة الصّيام.

9291 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامِ بنِ أبِي عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عنْ أُمِّهَا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ بَيْنَمَا أنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الخَمِيلَةِ إذْ حِضْتُ فانْسَلَلْتُ فأخَذْتُ ثَيَابَ حِيضَتِي فَقَالَ مَا لَكِ أنَفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ فدَخَلْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ وكانَتْ هِيَ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إنَاءٍ واحِدٍ وكانَ يُقَبِّلُها وهُوَ صَائِمٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ يقبلهَا وَهُوَ صَائِم) ، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب من سمى النّفاس حيضا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مكي بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام ... إِلَى آخِره، وَزَاد هُنَا، قَوْله: (وَكَانَت هِيَ) إِلَى آخِره، وَهُنَاكَ: (بَينا أَنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجِعَة فِي خميصة) ، وَهنا: (فَدخلت مَعَه فِي الخميلة) ، وَهُنَاكَ: (فاضطجعت مَعَه فِي الخميلة) ، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، والخميلة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: ثوب من صوف لَهُ علم. قَوْله: (حيضتي) بِكَسْر الْحَاء، قَوْله: (أنفست؟) الصَّحِيح فِيهِ أَنه بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء: مَعْنَاهُ أحضتِ؟ وَبَقِيَّة المباحث مرت هُنَاكَ.

52 - (بابُ اغْتِسَالِ الصَّائِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاغْتِسَال للصَّائِم وَهُوَ جَوَازه، قيل: إِنَّمَا أطلق الِاغْتِسَال ليشْمل جَمِيع أَنْوَاعه من الْفَرْض وَالسّنة وَغَيرهمَا، وَقَالَ بَعضهم: وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ضعف مَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من النَّهْي عَن دُخُول الصَّائِم الْحمام، أخرجه عبد الرَّزَّاق، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَاعْتَمدهُ الْحَنَفِيَّة فكرهوا الِاغْتِسَال للصَّائِم. انْتهى. قلت: قَوْله: كَأَنَّهُ يُشِير، كَلَام كَاد أَن يكون عَبَثا، لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يُرَاد بِالْإِشَارَةِ مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَلَا مَعْنَاهَا الاصطلاحي، وَقَوله: وَاعْتَمدهُ الْحَنَفِيَّة، غير صَحِيح على إِطْلَاقه، لِأَن قَوْله: كَرهُوا الِاغْتِسَال للصَّائِم، رِوَايَة عَن أبي حنيفَة غير مُعْتَمد عَلَيْهَا، وَالْمذهب الْمُخْتَار أَنه لَا يكره، ذكره الْحسن عَن أبي حنيفَة، نبه عَلَيْهِ صَاحب (الْوَاقِعَات) وَذكر فِي (الرَّوْضَة) و (جَوَامِع الْفِقْه) : لَا يكره الِاغْتِسَال وبل الثَّوْب وصب المَاء على الرَّأْس للْحرّ، وروى أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لقد رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالعرج يصب على رَأسه المَاء وَهُوَ صَائِم من الْحر، أَو من الْعَطش) . وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا أَزْهَر عَن ابْن عون: كَانَ ابْن سِيرِين لَا يرى بَأْسا أَن يبل الثَّوْب، ثمَّ يلقيه على وَجهه، وَحدثنَا يحيى ابْن سعيد عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ أَنه كَانَ يصب عَلَيْهِ المَاء وَيروح عَنهُ وَهُوَ صَائِم.
وبَلَّ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ثَوْبا فألْقَاهُ عَلَيْهِ وهُوَ صَائِمٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الثَّوْب المبلول إِذا ألقِي على الْبدن بل الْبدن، فَيُشبه الْبدن الَّذِي سكب عَلَيْهِ المَاء. قَوْله: (فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ) ، رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (فألقي عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، فَكَأَنَّهُ أَمر غَيره وألقاه عَلَيْهِ. قَوْله: (وَهُوَ صَائِم) جملَة وَقعت حَالا. هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن يحيى بن سعيد عَن عبد الله بن أبي عُثْمَان، (قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يبل الثَّوْب ثمَّ يلقيه عَلَيْهِ) ، وَقَالَ بَعضهم: وَأَرَادَ البُخَارِيّ بأثر ابْن عمر هَذَا مُعَارضَة مَا جَاءَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بأقوى مِنْهُ، فَإِن وكيعا روى عَن الْحسن بن صَالح عَن مغيره عَنهُ أَنه كَانَ يكره للصَّائِم بل الثِّيَاب. قلت: هَذَا كَلَام صادر من غير تَأمل فَأَنَّهُ اعْترف أَن الَّذِي رَوَاهُ إِبْرَاهِيم أقوى من الَّذِي ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، فَكيف تصح الْمُعَارضَة حِينَئِذٍ؟ بل الَّذِي يُقَال: إِنَّه أَرَادَ بِهِ الْإِشَارَة إِلَى مَا روى عَن ابْن عمر من فعله ذَلِك، فَافْهَم.
ودَخَلَ الشَّعْبِيُّ الحَمَّامَ وهُوَ صَائِمٌ

(11/11)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة عَن الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق، قَالَ: رَأَيْت الشّعبِيّ يدْخل الْحمام وَهُوَ صَائِم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأسَ أنْ يتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أوِ الشَّيءَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التطعم من الشَّيْء الَّذِي هُوَ إِدْخَال الطَّعَام فِي الْفَم من غير بلغ لَا يضر الصَّوْم، فإيصال المَاء إِلَى الْبشرَة بِالطَّرِيقِ الأولى أَن لَا يضر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عِكْرِمَهْ عَنهُ بِلَفْظ: (لَا بَأْس أَن يتطاعم الْقدر) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْعمريّ أَنبأَنَا عبد الله الشريحي أَنبأَنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ حَدثنَا عَليّ بن الجدع أَنبأَنَا شريك عَن سُلَيْمَان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَلَفظه: (لَا بَأْس أَن يتطاعم الصَّائِم بالشَّيْء) ، يَعْنِي المرقة وَنَحْوهَا.
قَوْله: (أَن يتطعم الْقدر) ، بِكَسْر الْقَاف وَهُوَ الظّرْف الَّذِي يطْبخ فِيهِ الطَّعَام، وَالتَّقْدِير: من طَعَام الْقدر، وَأَرَادَ بقوله: أَو الشَّيْء أَي شَيْء كَانَ من المطعومات، وَهُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن إِسْرَائِيل عَن جَابر عَن عَطاء عَنهُ قَالَ: لَا بَأْس أَن يَذُوق الْخلّ أَو الشَّيْء مَا لم يدْخل حلقه وَهُوَ صَائِم، وَعَن الْحسن: لَا بَأْس أَن يتطاعم الصَّائِم الْعَسَل وَالسمن وَنَحْوه ويمجه، وَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء: لَا بَأْس أَن يتطعم الطَّعَام من الْقدر، وَعَن الحكم نَحوه، وَفعله عُرْوَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يحْتَرز عَن ذوق الطَّعَام خوف الْوُصُول إِلَى حلقه. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذا لم يدْخل حلقه لَا يفْطر وصومه تَامّ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ مَالك: أكرهه وَلَا يفطره إِن لم يدْخل حلقه، وَهُوَ مثل قَوْلنَا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا بَأْس أَن تمضغ الصائمة لصبيها الطَّعَام، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ، وَكَرِهَهُ مَالك وَالثَّوْري والكوفيون إلاَّ لمن لم يجد بدا من ذَلِك، وَبِه صرح أَصْحَابنَا. وَفِي (الْمُحِيط) : وَيكرهُ الذَّوْق للصَّائِم وَلَا يفطره، وَفِيه: لَا بَأْس أَن يَذُوق الصَّائِم الْعَسَل أَو الطَّعَام ليشتريه ليعرف جيده ورديئه كَيْلا يغبن فِيهِ مَتى لم يذقه، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَا بَأْس للْمَرْأَة أَن تمضغ الطَّعَام لصبيها إِذا لم تَجِد مِنْهُ بدا.
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بأسَ بالمَضْمَضَةِ والتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الْمَضْمَضَة جُزْء للْغسْل، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق بِمَعْنَاهُ قلت: لم يبين ذَلِك، بل روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة خلاف ذَلِك، فَقَالَ: حَدثنِي عبد الْأَعْلَى عَن هِشَام عَن الْحسن أَنه كَانَ يكره أَن يمضمض الرجل إِذا أفطر وَإِذا أَرَادَ أَن يشرب. قَوْله: (والتبرد) أَعم من أَن يكون فِي سَائِر جسده أَو فِي بعضه، مثل مَا إِذا تبرد بِالْمَاءِ على وَجهه أَو على رجلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ إذَا كانَ صَوْمُ أحَدِكُمْ فَلْيْصْبحْ دَهِينا مُتَرَجِّلاً
ذكر فِي وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة وُجُوه: الأول: أَن الإدهان من اللَّيْل يَقْتَضِي اسْتِصْحَاب أَثَره فِي النَّهَار، وَهُوَ مِمَّا يرطب الدِّمَاغ وَيُقَوِّي النَّفس، فَهُوَ أبلغ من الِاسْتِعَانَة بِبرد الِاغْتِسَال لَحْظَة من النَّهَار، ثمَّ يذهب أَثَره. قلت: هَذَا بعيد جدا، لِأَن الادهان فِي نَفسهَا مُتَفَاوِتَة، وَمَا كل دهن يرطب الدِّمَاغ، بل فِيهَا مَا يضرّهُ، يعرفهُ من ينظر فِي علم الطِّبّ. وَقَوله: أبلغ من الِاسْتِعَانَة ... إِلَى آخِره، غير مُسلم لِأَن الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ لتَحْصِيل الْبُرُودَة والدهن يُقَوي الْحَرَارَة، وَهُوَ ضد ذَاك، فَكيف يَقُول: هُوَ أبلغ ... ؟ إِلَى آخِره. الْوَجْه الثَّانِي: قَالَه بَعضهم: إِن الْمَانِع من الِاغْتِسَال لَعَلَّه سلك بِهِ مَسْلَك اسْتِحْبَاب التقشف فِي الصّيام، كَمَا ورد مثله فِي الْحَج، والادهان والترجل فِي مُخَالفَة التقشف كالاغتسال قلت: هَذَا أبعد من الأول، لِأَن التَّرْجَمَة فِي جَوَاز الِاغْتِسَال لَا فِي مَنعه، وَكَذَلِكَ أثر ابْن مَسْعُود فِي الْجَوَاز لَا فِي الْمَنْع، فَكيف يَجْعَل الْجَوَاز مناسبا للْمَنْع؟ الْوَجْه الثَّالِث مَا قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على من كره الِاغْتِسَال للصَّائِم، لِأَنَّهُ إِن كرهه خشيَة وُصُول المَاء إِلَى حلقه فالعلة بَاطِلَة بالمضمضة وبالسواك وبذوق الْقدر، وَنَحْو ذَلِك، وَإِن كرهه للرفاهية فقد اسْتحبَّ السّلف للصَّائِم الترفه والتجمل والادهان والكحل وَنَحْو ذَلِك؟ قلت: هَذَا أقرب إِلَى الْقبُول، وَلَكِن تَحْقِيقه أَن يُقَال: إِن بالاغتسال يحصل التطهر والتنظف للصَّائِم، وَهُوَ فِي ضِيَافَة الله تَعَالَى ينْتَظر الْمَائِدَة، وَمن حَاله هَذِه يحسن لَهُ التطهر والتنظف

(11/12)


والتطيب، وَهَذِه تحصل بالاغتسال والادهان والترجل.
قَوْله: (دهينا) ، على وزن: فعيل، بِمَعْنى مفعول أَي: مدهونا. قَوْله: (مترجلاً) ، من التَّرَجُّل، وَهُوَ تَسْرِيح الشّعْر وتنظيفه، وَكَذَلِكَ الترجيل وَمِنْه أَخذ الْمرجل وَهُوَ الْمشْط، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: يسْتَحبّ للصَّائِم أَن يدهن حَتَّى يذهب عَنهُ غبرة الصَّوْم، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ: لَا بَأْس أَن يدهن الصَّائِم شَاربه، وَمِمَّنْ أجَاز الدّهن للصَّائِم: مطرف وَابْن عبد الحكم وإصبغ، ذكره ابْن حبيب، وَكَرِهَهُ ابْن أبي ليلى.
وَقَالَ أنَسٌ إنَّ لِي أبْزَنا أتَقَحَّمُ فِيه وأنَا صَائِمً
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الدُّخُول فِي الإبزَنِ فَوق الِاغْتِسَال، والإبزن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الزَّاي وَفِي آخِره نون: وَهُوَ الْحَوْض. وَقَالَ ابْن قرقول: مثل الْحَوْض الصَّغِير من فخار، وَنَحْوه، وَقيل: هُوَ حجر منقور كالحوض، وَقَالَ أَبُو ذَر: كالقدر يسخن فِيهِ المَاء، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَلذَلِك لَا يصرف. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ شَيْء يتَّخذ من الضفر للْمَاء، لَهُ جَوف. وَفِي كتاب (لُغَة المنصوري) لِابْنِ الحشا، وَمن خطه: أبزن، ضَبطه، بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَهُوَ مستنقع يكون أَكثر ذَلِك فِي الْحمام، وَقد يكون فِي غَيره، ويتخذ من صفر وَمن خشب. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : الَّذِي قرأته على جمَاعَة من فضلاء الْأَطِبَّاء، وعد جمَاعَة: أبزن، بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (اتقحم فِيهِ) ، أَي: أَدخل، ومادته: قَاف وحاء مُهْملَة وَمِيم. قَوْله: (وَأَنا صَائِم) جملَة حَالية، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله قَاسم بن ثَابت فِي (غَرِيب الحَدِيث) لَهُ، من طَرِيق عِيسَى بن طهْمَان: سَمِعت أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: إِن لي إبزن إِذا وجدت الْحر تقحمت فِيهِ وَأَنا صَائِم.
ويُذْكَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ اسْتَاكَ وهُوَ صَائِمٌ مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يحصل بِهِ تَطْهِير الْفَم، كَمَا ورد فِي الحَدِيث: (السِّوَاك مطهرة للفم) كَمَا يحصل الطهير للبدن بالاغتسال، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تحصل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين الحَدِيث الَّذِي ذكره بِصِيغَة التمريض. فَإِن قلت: فِي استنان الصَّائِم إِزَالَة الخلوف الَّذِي هُوَ أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك؟ قلت: إِنَّمَا مدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخلوف نهيا للنَّاس عَن تعزز مكالمة الصائمين بِسَبَب الخلوف، لَا نهيا للصوام عَن السِّوَاك، وَالله غَنِي عَن وُصُول الرَّائِحَة الطّيبَة إِلَيْهِ، فَعلمنَا يَقِينا أَنه لم يرد بِالنَّهْي اسْتِبْقَاء الرَّائِحَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ نهي النَّاس عَن كراهتها، وروى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان عَن عَاصِم بن عبيد الله (عَن عبد الله بن عَامر بن ربيعَة عَن أَبِيه، قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا أحصي يتَسَوَّك وَهُوَ صَائِم) ، ثمَّ قَالَ: حَدِيث عَامر بن ربيعَة حَدِيث حسن، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن شريك وَعَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان، كِلَاهُمَا عَن عَاصِم، وَلَفظه: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك وَهُوَ صَائِم) ، زَاد فِي رِوَايَة: (مَا لَا أعد وَلَا أحصي) . قَالَ صَاحب (الإِمَام) : ومداره على عَاصِم بن عبيد الله، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) بعد أَن حكى عَن التِّرْمِذِيّ أَنه حسنه: لَكِن مَدَاره على عَاصِم بن عبيد الله وَقد ضعفه الْجُمْهُور، فَلَعَلَّهُ اعتضد. انْتهى. وَقَالَ الْمزي: وَأحسن مَا قيل فِيهِ قَول الْعجلِيّ: لَا بَأْس بِهِ، وَقَول ابْن عدي: هُوَ مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، بعد تَخْرِيجه: عَاصِم بن عبيد الله لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث عَامر بن ربيعَة قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قلت: حَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي إِسْمَاعِيل الْمُؤَدب، واسْمه إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان: عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من خير خِصَال الصَّائِم السِّوَاك) ، ومجالد بن سعيد ضعفه الْجُمْهُور، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وروى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أنس وحبان بن الْمُنْذر وخباب بن الْأَرَت وَأبي هُرَيْرَة. فَحَدِيث أنس رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق الْخَوَارِزْمِيّ، قَاضِي خوارزم، قَالَ: سَأَلت عَاصِمًا الْأَحول، فَقلت: أيستاك الصَّائِم؟ فَقَالَ: نعم، فَقلت: برطب السِّوَاك ويابسة؟ قَالَ: نعم قلت: أول النَّهَار وَآخره؟ قَالَ: نعم. قلت: عَمَّن؟ قَالَ: عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَبُو إِسْحَاق الْخَوَارِزْمِيّ ضَعِيف يبلغ عَن عَاصِم الْأَحول بِالْمَنَاكِيرِ، لَا يحْتَج بِهِ. انْتهى.

(11/13)


وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي كتاب (الْأَسْمَاء والكنى) فِي تَرْجَمَة أبي إِسْحَاق، وَقَالَ: اسْمه إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن، مُنكر الحَدِيث. وَحَدِيث حبَان بن الْمُنْذر رَوَاهُ أَبُو بكر الْخَطِيب نَحْو حَدِيث خباب بن الْأَرَت. وَحَدِيث خباب بن الْأَرَت رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه من رِوَايَة كيسَان أبي عمر القصاب عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن عَن خباب عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صمتم فاستاكوا بِالْغَدَاةِ، وَلَا تستاكوا بالْعَشي، فَإِنَّهُ لَيْسَ من صَائِم تيبس شفتاه بالْعَشي إلاَّ كَانَتَا نورا بَين عَيْنَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كيسَان أَبُو عمر لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقد ضعفه يحيى بن معِين والساجي. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عمر بن قيس عَن عَطاء (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: لَك السِّوَاك إِلَى الْعَصْر، فَإِذا صليت الْعَصْر فألقه فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: خلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) . وَعمر بن قيس هُوَ الملقب بِسَنَد مكي مَتْرُوك، قَالَه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، وَلَكِن الحَدِيث الْمَرْفُوع مِنْهُ صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأما اسْتِدْلَال أبي هُرَيْرَة بِهِ على السِّوَاك فَلَيْسَ فِي الصَّحِيح، وَأما حكم السِّوَاك للصَّائِم فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ على سِتَّة أَقْوَال: الأول: أَنه لَا بَأْس بِهِ للصَّائِم مُطلقًا قبل الزَّوَال وَبعده، ويروى عَن عَليّ وَابْن عمر أَنه: لَا بَأْس بِالسِّوَاكِ الرطب للصَّائِم، وَرَوَاهُ ذَلِك أَيْضا عَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن علية، وَرويت الرُّخْصَة فِي السِّوَاك للصَّائِم عَن عمر وَابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن علية: السِّوَاك سنة للصَّائِم والمفطر وَالرّطب واليابس سَوَاء. الثَّانِي: كراهيته للصَّائِم بعد الزَّوَال واستحبابه قبله برطب أَو يَابِس، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي أصح قوليه، وَأبي ثَوْر، وَقد رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَرَاهَة السِّوَاك بعد الزَّوَال رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ. الثَّالِث: كَرَاهَته للصَّائِم بعد الْعَصْر فَقَط، ويروى عَن أبي هُرَيْرَة. الرَّابِع: التَّفْرِقَة بَين صَوْم الْفَرْض وَصَوْم النَّفْل، فَيكْرَه فِي الْفَرْض بعد الزَّوَال وَلَا يكره فِي النَّفْل، لِأَنَّهُ أبعد عَن الرِّيَاء، حَكَاهُ المَسْعُودِيّ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَحَكَاهُ صَاحب الْمُعْتَمد من الشَّافِعِيَّة عَن القَاضِي حُسَيْن. الْخَامِس: أَنه يكره السِّوَاك للصَّائِم بِالسِّوَاكِ الرطب دون غَيره، سَوَاء أول النَّهَار وَآخره، وَهُوَ قَول مَالك وَأَصْحَابه، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ كَرَاهَة السِّوَاك الرطب للصَّائِم الشّعبِيّ وَزِيَاد بن حدير وَأَبُو ميسرَة وَالْحكم ابْن عتيبة وَقَتَادَة. السَّادِس: كَرَاهَته للصَّائِم بعد الزَّوَال مُطلقًا، وَكَرَاهَة الرطب للصَّائِم مُطلقًا، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ أوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ ولاَ يَبْلَعُ رِيقَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وَهَذَا التَّعْلِيق روى مَعْنَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن عبيد الله بن نَافِع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر، بِلَفْظ: (كَانَ يستاك إِذا أَرَادَ أَن يروح إِلَى الظّهْر وَهُوَ صَائِم) .
وَقَالَ عَطَاءٌ إِن ازْدَرَدَ رِيقَهُ لاَ أقُولُ يُفْطِرُ
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح فِي أثر ابْن عمر الْمَذْكُور: إِن ازدرد، أَي: إِن ابتلع رِيقه بعد التسوك لَا يفْطر، وأصل: ازدرد: ازترد لِأَنَّهُ من: زرد، إِذا بلع فَنقل إِلَى بَاب الافتعال: فَصَارَ: ازترد، ثمَّ قلبت: التَّاء دَالا، فَصَارَ: ازدرد.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ لاَ بَأسَ بالسِّوَاكِ الرَّطْبِ قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ والمَاءُ لَهُ طَعْمٌ وأنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبيد بن سهل الفداني عَن عقبَة بن أبي حَمْزَة الْمَازِني، قَالَ: أَتَى مُحَمَّد بن سِيرِين رجل فَقَالَ: مَا ترى فِي السِّوَاك للصَّائِم؟ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ: إِنَّه جَرِيدَة وَله طعم، قَالَ: المَاء لَهُ طعم وَأَنت تمضمض بِهِ. فَإِن قلت: لَا طعم للْمَاء لِأَنَّهُ تفه. قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ منى} (الْبَقَرَة: 942) . وَقَالَ صَاحب (الْمُجْمل) : الطَّعَام يَقع على كل مَا يُطعم حَتَّى المَاء.
وَلم يَرع أنَسٌ والحَسَنُ وإبْرَاهِيمُ بالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأسا

(11/14)


أنس هُوَ ابْن مَالك الصَّحَابِيّ، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَمَسْأَلَة الْكحل للصَّائِم وَقعت هُنَا اسْتِطْرَادًا لَا قصدا، فَلذَلِك لَا تطلب فِيهَا الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
أما التَّعْلِيق عَن أنس فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (السّنَن) من طَرِيق عبيد الله أبي بكر بن أنس (عَن أنس: أَنه كَانَ يكتحل وَهُوَ صَائِم) ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي عَاتِكَة (عَن أنس: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: اشتكت عَيْني أفأكتحل وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: نعم) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ، وَلَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب شَيْء، وَأَبُو عَاتِكَة اسْمه: طريف بن سُلَيْمَان، وَقيل: سُلَيْمَان. وَقيل: اسْمه سلمَان بن طريف. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ذَاهِب الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة، وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح لَا بَأْس بِهِ (عَن عَائِشَة، قَالَت: اكتحل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ صَائِم) ، وَفِي (كتاب الصّيام) لِابْنِ أبي عَاصِم بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ من حَدِيث نَافِع (عَن ابْن عمر: خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَيناهُ مملوءتان من الإثمد فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم) . فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الرَّحْمَن بن النُّعْمَان بن معبد بن هودة عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر بالإثمد المروح عِنْد النّوم، وَقَالَ: ليتَّقِهِ الصَّائِم قلت: قَالَ أَبُو أَبُو دَاوُد: قَالَ لي يحيى بن معِين: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَقَالَ الْأَثْرَم عَن أَحْمد) هَذَا حَدِيث مُنكر فَلَا مُعَارضَة حِينَئِذٍ، وروى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة حبَان بن عَليّ عَن مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكتحل بالإثمد وَهُوَ صَائِم، وَمُحَمّد هَذَا قَالَ فِيهِ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء، وروى الْحَارِث بن أبي أُسَامَة عَن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن إِسْحَاق: حَدثنَا سعيد بن زيد عَن عَمْرو بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن عَليّ عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ بن أبي طَالب، وَعَن حبيب بن ثَابت عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: انتظرنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرج فِي رَمَضَان إِلَيْنَا، فَخرج من بَيت أم سَلمَة وَقد كحلته وملأت عَيْنَيْهِ كحلاً) . وَلَيْسَ هَذَانِ الحديثان صريحين فِي الْكحل للصَّائِم إِنَّمَا ذكر فيهمَا رَمَضَان فَقَط، وَلَعَلَّه كَانَ فِي رَمَضَان فِي اللَّيْل، وَالله أعلم. وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اكتحل بالإثمد يَوْم عَاشُورَاء لم يرمد أبدا) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف. وَفِيه: روى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، وَالضَّحَّاك لم يلق ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب (فَضَائِل الشُّهُور) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي حَدِيث طَوِيل فِيهِ: صِيَام عَاشُورَاء والاكتحال فِيهِ، قَالَ ابْن نَاصِر: هَذَا حَدِيث حسن عَزِيز، رِجَاله ثِقَات وَإِسْنَاده على شَرط الصَّحِيح، وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الموضوعات) ، وَقَالَ شَيخنَا: وَالْحق مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ، وَأَنه حَدِيث مَوْضُوع. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث بَرِيرَة (قَالَت: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكتحل بالإثمد وَهُوَ صَائِم) .
وَأما أثر الْحسن فوصله عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: (لَا بَأْس بالكحل للصَّائِم) .
وَأما أثر إِبْرَاهِيم فَاخْتلف عَنهُ، فروى سعيد بن مَنْصُور عَن جرير (عَن الْقَعْقَاع بن يزِيد: سَأَلت إِبْرَاهِيم: أيكتحل الصَّائِم؟ قَالَ: نعم، قلت: أجد طعم الصَّبْر فِي حلقي؟ قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء) ، وروى عَن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: لَا بَأْس بالكحل للصَّائِم مَا لم يجد طعمه.
وَأما حكم الْمَسْأَلَة فقد اخْتلفُوا فِي الْكحل للصَّائِم فَلم يَرَ الشَّافِعِي بِهِ بَأْسا سَوَاء وجد طعم الْكحل فِي الْحلق أم لَا، وَاخْتلف قَول مَالك فِيهِ فِي الْجَوَاز وَالْكَرَاهَة، قَالَ فِي (الْمُدَوَّنَة) : يفْطر مَا وصل إِلَى الْحلق من الْعين، وَقَالَ أَبُو مُصعب: لَا يفْطر، وَذهب الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق إِلَى كَرَاهَة الْكحل للصَّائِم، وَحكى عَن أَحْمد أَنه إِذا وجد طعمه فِي الْحلق أفطر، وَعَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر: يجوز بِلَا كَرَاهَة، وَأَنه لَا يفْطر بِهِ سَوَاء وجد طعمه أم لَا. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَابْن شبْرمَة وَابْن أبي ليلى أَنهم قَالُوا: يبطل صَوْمه. وَقَالَ ابْن قَتَادَة: يجوز بالإثمد، وَيكرهُ بِالصبرِ، وَفِي (سنَن) أبي دَاوُد عَن الْأَعْمَش قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا من أَصْحَابنَا يكره الْكحل للصَّائِم.
38 - (حَدثنَا أَحْمد بن صَالح قَالَ حَدثنَا ابْن وهب قَالَ حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة وَأبي بكر قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُدْرِكهُ الْفجْر //

(11/15)


جنبا فِي رَمَضَان من غير حلم فيغتسل ويصوم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَقد مضى هَذَا الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب ببابين فِي بَاب الصَّائِم يصبح جنبا وَتَقَدَّمت المباحث فِيهِ هُنَاكَ وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام وَأَبُو بكر هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث قَوْله " من غير حلم " بِضَم الْحَاء تَقْدِيره من جَنَابَة من غير حلم فَاكْتفى بِالصّفةِ عَن الْمَوْصُوف لظُهُوره
39 - (حَدثنَا إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنِي مَالك عَن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام بن الْمُغيرَة أَنه سمع أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن قَالَ كنت أَنا وَأبي فَذَهَبت مَعَه حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أشهد على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن كَانَ ليُصبح جنبا من جماع غير احْتِلَام ثمَّ يَصُومهُ ثمَّ دَخَلنَا على أم سَلمَة فَقَالَت مثل ذَلِك) هَذَا الحَدِيث أَيْضا مضى فِي بَاب الصَّائِم يصبح جنبا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره مطولا وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ -
62 - (بابُ الصَّائِمِ إذَا أكَلَ أوْ شَرِبَ نَاسِيا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّائِم إِذا أكل أَو شرب حَال كَونه نَاسِيا وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب إِذا لمَكَان الْخلاف فِيهِ، تَقْدِيره: هَل يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء أم لَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ إنِ اسْتَنثَرَ فَدَخَلَ المَاءُ فِي حَلْقِهِ لَا بأسَ بِهِ إنْ لَمْ يَمْلِكْ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حكم دُخُول المَاء فِي حلق الصَّائِم بعد الاستنثار وَلم يملك دَفعه كَحكم شرب المَاء نَاسِيا فِي عدم وجوب الْقَضَاء، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن جريج أَن إنْسَانا قَالَ لعطاء: استنثرت فَدخل المَاء فِي حلقي، قَالَ: لَا بَأْس لم تملك، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا بَأْس إِن لم تملك كَذَا، فِي نُسْخَة السماع، وَفِي غَيرهَا سُقُوط: إِن، وَفِي نُسْخَة: إِذْ لم تملك. قلت: وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي: لَا بَأْس لم يملك، بِإِسْقَاط: إِن، وَمعنى قَوْله: (إِن لم يملك) يَعْنِي: دفع المَاء بِأَن غَلبه، فَإِن ملك دفع المَاء فَلم يدْفع حَتَّى دخل حلقه أفطر، ويروى: إِن لم يملك دَفعه، وَقَوله: لم يملك، بِدُونِ إِن، اسْتِئْنَاف كَلَام، تعليلاً لما تقدم عَلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لَا بَأْس هُوَ جَزَاء الشَّرْط فَلَا بُد من الْفَاء. قلت: هُوَ مُفَسّر للجزاء الْمَحْذُوف، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة جَزَاء لقَوْله: إِن استنثر، وعَلى نُسْخَة سُقُوط: إِن، الْفَاء محذوفة كَقَوْلِه:
من يفعل الْحَسَنَات الله يشكرها
وَقَوله: إِن استنثر، من الاستنثار وَهُوَ إِخْرَاج مَا فِي الْأنف بعد الِاسْتِنْشَاق، وَقيل: هُوَ نفس الِاسْتِنْشَاق.
وَقَالَ الحسَنُ إنْ دَخلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حكم دُخُول الذُّبَاب فِي حلق الصَّائِم كَحكم الْأكل نَاسِيا فِي عدم وجوب الْقَضَاء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق وَكِيع عَن الرّبيع عَنهُ، قَالَ: (لَا يفْطر الرجل بِدُخُول حلقه الذُّبَاب) ، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ: (إِذا دخل الذُّبَاب لَا يفْطر) ، وَبِه قَالَت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلم يحفظ عَن غَيرهم خِلَافه، وَفِي (الْمُحِيط) : وَلَو دخل حلقه الذُّبَاب أَو الدُّخان أَو الْغُبَار لم يفطره، وَكَذَا لَو بَقِي بَلل فِي فَمه بعد الْمَضْمَضَة وابتلعه مَعَ رِيقه لعدم إِمْكَان الِاحْتِرَاز عَنهُ، بِخِلَاف مَا لَو دخل الْمَطَر أَو الثَّلج حلقه حَيْثُ يفطره، وَفِي (الْكتاب) فِي الْأَصَح، وَفِي (الْمَبْسُوط) : فِي الصَّحِيح، وَفِي (الذَّخِيرَة) قيل: يفْسد صَوْمه فِي الْمَطَر وَلَا يفْسد فِي الثَّلج، وَفِي بعض الْمَوَاضِع على الْعَكْس، وَفِي (الْجَامِع الْأَصْغَر) : يفْسد فيهمَا، وَهُوَ الْمُخْتَار.

(11/16)


وَلَو خَاضَ المَاء فَدخل أُذُنه لَا يفطره، بِخِلَاف الدّهن، وَإِن كَانَ بِغَيْر صنعه لوُجُود إصْلَاح بدنه، وَلَو صب المَاء فِي أذن نَفسه فَالصَّحِيح أَنه لَا يفطره لعدم إصْلَاح الْبدن بِهِ، لِأَن المَاء يضر بالدماغ، وَفِي (الخزانة) : لَو دخل حلقه من دُمُوعه أَو عرق جَبينه قطرتان وَنَحْوهمَا لَا يضرّهُ، وَالْكثير الَّذِي يجد ملوحته فِي حلقه يفْسد صَوْمه لَا صلَاته، وَلَو نزل المخاط من أَنفه فِي حلقه عَليّ تعمد مِنْهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَلَو ابتلع بزاق غَيره أفسد صَوْمه وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ. كَذَا فِي (الْمُحِيط) . وَفِي (الْبَدَائِع) : لَو ابتلع ريق حَبِيبه أَو صديقه، قَالَ الْحلْوانِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ لَا يعافه بل يلتذ بِهِ، وَقيل: لَا كَفَّارَة فِيهِ، وَلَو جمع رِيقه فِي فِيهِ ثمَّ ابتلعه لم يفطره، وَيكرهُ ذكره المرغيناني.
وَقَالَ الحَسَنُ ومُجَاهِدٌ إنْ جامَعَ ناسِيا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حكم الْجِمَاع نَاسِيا كَحكم الْأكل وَالشرب نَاسِيا فِي عدم وجوب شَيْء عَلَيْهِ، وَتَعْلِيق الْحسن وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن رجل عَن الْحسن، قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَة من أكل أَو شرب نَاسِيا. وَتَعْلِيق مُجَاهِد وَصله عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن ابْن جريج عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: لَو وطىء رجل امْرَأَته وَهُوَ صَائِم نَاسِيا فِي رَمَضَان لم يكن عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد وَعبيد الله بن الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن بن صَالح وَأبي ثَوْر وَابْن أبي ذِئْب وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَكَذَلِكَ فِي الْأكل وَالشرب نَاسِيا. وَقَالَ ابْن علية وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَمَالك: يفْطر وَعَلِيهِ الْقَضَاء، زَاد أَحْمد: وَالْكَفَّارَة فِي الْجِمَاع نَاسِيا، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة.
40 - (حَدثنَا عَبْدَانِ قَالَ أخبرنَا يزِيد بن زُرَيْع قَالَ حَدثنَا هِشَام قَالَ حَدثنَا ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا نسي فَأكل وَشرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد مروا غير مرّة وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي وَهِشَام هُوَ الدستوَائي يروي على مُحَمَّد بن سِيرِين والْحَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية عَن هِشَام عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه " من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَقَالَ حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب وحبِيب وَهِشَام عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي أكلت وشربت نَاسِيا وَأَنا صَائِم قَالَ الله أطعمك وسقاك " وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدثنَا أَبُو سعيد حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن حجاج عَن قَتَادَة عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أكل أَو شرب نَاسِيا فَلَا يفْطر فَإِنَّمَا هُوَ رزق رزقه الله " وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس عَن هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة " إِذا أكل الصَّائِم أَو شرب نَاسِيا فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة عَوْف عَن خلاس وَمُحَمّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أفطر نَاسِيا وَهُوَ صَائِم فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " وروى ابْن حبَان أَيْضا من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " من أفطر فِي شهر رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة " وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق ابْن علية عَن هِشَام " فَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْهِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرج حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَفِي الْبَاب عَن أبي سعيد وَأم إِسْحَق. فَحَدِيث أبي سعيد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْفَزارِيّ عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أفطر فِي شهر رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ إِن الله أطْعمهُ وسقاه " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ الْفَزارِيّ هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَزْرَمِي (قلت) هُوَ ضَعِيف. وَحَدِيث أم إِسْحَق رَوَاهُ أَحْمد حَدثنَا عبد الصَّمد حَدثنَا بشار بن عبد الْملك قَالَ " حَدَّثتنِي أم حَكِيم بنت دِينَار عَن مولاتها أم إِسْحَق

(11/17)


أَنَّهَا كَانَت عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأتى بقصعة من ثريد فَأكلت مَعَه وَمَعَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فناولها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عرقا فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ يَا أم إِسْحَق أصيبي من هَذَا فَذكرت أَنِّي كنت صَائِمَة فبردت يَدي لَا أقدمها وَلَا أؤخرها فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَك قَالَت كنت صَائِمَة فنسيت فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ الْآن بَعْدَمَا شبعت فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتمي صومك فَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْك " وبشار بن عبد الْملك الْمُزنِيّ ضعفه يحيى بن معِين وَأم حَكِيم اسْمهَا خَوْلَة قَوْله " إِذا نسي " أَي الصَّائِم قَوْله " فَأكل وَشرب " ويروى " أَو شرب " قَوْله " فليتم صَوْمه " وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ " فَلَا يفْطر " قَالَ شَيخنَا يجوز أَن يكون لَا فِي جَوَاب الشَّرْط للنَّهْي وَيفْطر مَجْزُومًا وَيجوز أَن تكون لَا نَافِيَة وَيفْطر مَرْفُوعا وَهُوَ أولى فَإِنَّهُ لم يرد بِهِ النَّهْي عَن الْإِفْطَار وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه لم يحصل إفطار النَّاسِي بِالْأَكْلِ وَيكون تَقْدِيره من أكل أَو شرب نَاسِيا لم يفْطر قَوْله " فَإِنَّمَا " تَعْلِيل لكَون النَّاسِي لَا يفْطر وَوجه ذَلِك أَن الرزق لما كَانَ من الله لَيْسَ فِيهِ للْعَبد تحيل فَلَا ينْسب إِلَيْهِ شبه الْأكل نَاسِيا بِهِ لِأَنَّهُ لَا صنع للْعَبد فِيهِ وَإِلَّا فالأكل مُتَعَمدا حَيْثُ جَازَ لَهُ الْفطر رزق من الله تَعَالَى بِإِجْمَاع الْعلمَاء وَكَذَلِكَ هُوَ رزق وَإِن لم يجز لَهُ الْفطر على مَذْهَب أهل السّنة وَقد يسْتَدلّ بِمَفْهُوم هَذَا الحَدِيث من يَقُول بِأَن الْحَرَام لَا يُسمى رزقا وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَالْمَسْأَلَة مقررة فِي الْأُصُول (فَإِن قلت) كَيفَ وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْأكل وَالشرب نَاسِيا لَا يُوجب شَيْئا وَلَا ينْقض صَوْمه (قلت) قَوْله " فليتم " أَمر بالإتمام وسمى الَّذِي يتمه صوما وَالْحمل على الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة هُوَ الْوَجْه ثمَّ لَا فرق عندنَا وَعند الشَّافِعِي بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِيهِ وَجْهَان كالوجهين فِي بطلَان الصَّلَاة بالْكلَام الْكثير وَحمل بعض الشَّافِعِيَّة الحَدِيث على صَوْم التَّطَوُّع حَكَاهُ ابْن التِّين عَن ابْن شعْبَان وَكَذَا قَالَ ابْن الْقصار لِأَنَّهُ لم يَقع فِي الحَدِيث تعْيين رَمَضَان فَيحمل على التَّطَوُّع وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره لم لم يذكر فِي الحَدِيث إِثْبَات الْقَضَاء فَيحمل على سُقُوط الْكَفَّارَة عَنهُ وَإِثْبَات عذره وَرفع الْإِثْم عَنهُ وَبَقَاء نِيَّته الَّتِي بَيتهَا وَالْجَوَاب عَن ذَلِك كُله بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور آنِفا فَإِن فِيهِ تعْيين رَمَضَان وَنفي الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة (فَإِن قلت) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ تفرد بِهِ مُحَمَّد بن مَرْزُوق عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ (قلت) أخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْبَاهِلِيّ وَأخرجه الْحَاكِم من طَرِيق أبي حَازِم الرَّازِيّ كِلَاهُمَا عَن الْأنْصَارِيّ -
72 - (بابٌ السوَاكُ الرَّطْبُ والْيابِسُ لِلصَّائِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِعْمَال السِّوَاك الرطب، وَبَيَان حكم اسْتِعْمَال السِّوَاك الْيَابِس. قَوْله: (الرطب واليابس) ، صفتان للسواك، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَقع: بَاب سواك الرطب واليابس، من قبيل قَوْلهم: مَسْجِد الْجَامِع، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الصّفة لَا يُضَاف إِلَيْهَا موصوفها، فَإِن وجد ذَلِك يقدر مَوْصُوف كَمَا فِي هَذِه الصُّورَة، وَالتَّقْدِير: مَسْجِد الْمَكَان الْجَامِع، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: صَلَاة الأولى أَي: صَلَاة السَّاعَة الأولى، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي: سواك الرطب، سواك الشّجر الرطب. قلت: مَذْهَب الْكُوفِيّين فِي هَذَا أَن الصّفة يذهب بهَا مَذْهَب الْجِنْس، ثمَّ يُضَاف الْمَوْصُوف إِلَيْهَا كَمَا يُضَاف بعض الْجِنْس إِلَيْهِ، نَحْو: خَاتم حَدِيد، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير مَحْذُوف، وَقَالَ بَعضهم: وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من كره للصَّائِم الاستياك بِالسِّوَاكِ الرطب كالمالكية وَالشعْبِيّ قلت: لم يكن مُرَاده أصلا من وضع هَذِه التَّرْجَمَة مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا لما أورد فِي هَذَا الْبَاب الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا فِيهِ الَّتِي دلّت بعمومها على جَوَاز الاستياك للصَّائِم مُطلقًا، سَوَاء كَانَ سواكا رطبا أَو سواكا يَابسا ترْجم لذَلِك بقوله: بَاب السِّوَاك الرطب ... إِلَى آخِره.
ويُذْكَرُ عنْ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَاكُ وهُوَ صَائِمٌ مَا لاَ أُحْصِي أوْ أعُدُّ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَدِيث دلَالَة عُمُوم قَوْله: (يستاك) على جَوَاز الاستياك مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الاستياك بِالسِّوَاكِ الرطب أَو الْيَابِس، وَسَوَاء كَانَ صَائِما فرضا أَو تَطَوّعا، وَسَوَاء كَانَ فِي أول النَّهَار أَو فِي آخِره. وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي: بَاب اغتسال الصَّائِم، وَيذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه استاك وَهُوَ صَائِم، وَذكر هُنَا: وَيذكر عَن عَامر بن ربيعَة ... إِلَى آخِره، وَذكرنَا

(11/18)


هُنَاكَ أَن حَدِيث عَامر بن ربيعَة هَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مَوْصُولا، وَإِنَّمَا ذكر فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصِيغَة التمريض، لِأَن فِي سَنَده: عَاصِم بن عبيد الله، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، فَليرْجع إِلَيْهِ من يُرِيد الْوُقُوف عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله: (بِالسِّوَاكِ) أَعم من السِّوَاك الرطب والسواك الْيَابِس، ومضمون الحَدِيث يَقْتَضِي إِبَاحَته فِي كل وَقت، وَفِي كل حَال، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر: أخبرنَا عبد الله عَن عبيد الله عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي (الْمُوَطَّأ) : عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: (لَوْلَا أَن يشق على أمته لأمرهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء) ، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا يدْخل فِي الْمسند عِنْدهم لاتصاله من غير مَا وَجه، وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ أَكثر الروَاة عَن مَالك، وَرَوَاهُ بشر بن عمر وروح بن عبَادَة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء) ، وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث روح، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب مَالك) من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي ومطرف بن عبد الرَّحْمَن وَابْن عتمة بِمَا يَقْتَضِي أَن لَفظهمْ: (مَعَ كل وضوء) ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) مصححا بِلَفْظ: (لفرضت عَلَيْهِم السِّوَاك مَعَ كل وضوء) ، وَرَوَاهُ الْمثنى عَنهُ: (مَعَ كل طَهَارَة) ، وَرَوَاهُ أَبُو معشر عَنهُ: (لَوْلَا أَن أشق على النَّاس لأمرتهم عِنْد كل صَلَاة بِوضُوء، وَمَعَ الْوضُوء بسواك) . وَالله أعلم.
ويُرْوَى نَحْوُهُ عنْ جابِرٍ وزَيْدِ بنِ خالِدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَعَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن من مشاهير الصَّحَابَة، وَهَذَانِ التعليقان رَوَاهُمَا أَبُو نعيم الْحَافِظ. فَالْأول من حَدِيث إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْفَروِي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الموَالِي عَن عبد الله بن عقيل عَنهُ بِلَفْظ: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) ، وَالثَّانِي من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن أبي سَلمَة عَن زيد، وَلَفظه: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) وَإِنَّمَا ذكره بِصِيغَة التمريض لأجل مُحَمَّد بن إِسْحَاق فَإِنَّهُ لم يحْتَج بِهِ، وَلَكِن ذكره فِي (المتابعات) . وَأما الأول فضعفه ظَاهر بِابْن عقيل الْفَروِي، فَإِنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ، وروى ابْن عدي حَدِيث جَابر من وَجه آخر بِلَفْظ: (لجعلت السِّوَاك عَلَيْهِم عَزِيمَة) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. فَإِن قلت: هَل فرق بَين قَوْله: (نَحوه) ، وَبَين قَوْله: (مثله؟) قلت: إِذا كَانَ الحديثان على لفظ وَاحِد يُقَال: مثله، وَإِذا كَانَ الثَّانِي على مثل مَعَاني الأول يُقَال: نَحوه.
وَاخْتلف أهل الحَدِيث فِيمَا إِذا روى الرَّاوِي حَدِيثا بِسَنَدِهِ ثمَّ ذكر سندا آخر وَلم يسق لفظ مَتنه، وَإِنَّمَا قَالَ بعده: مثله، أَو: نَحوه، فَهَل يسوغ للراوي عَنهُ أَن يروي لفظ الحَدِيث الْمَذْكُور أَولا لإسناد الثَّانِي أم لَا؟ على ثَلَاثَة مَذَاهِب. أظهرها: أَنه لَا يجوز مُطلقًا. وَهُوَ قَول شُعْبَة وَرجحه ابْن الصّلاح وَابْن دَقِيق الْعِيد. وَالثَّانِي: أَنه إِن عرف الرَّاوِي بالتحفظ والتمييز للألفاظ جَازَ، وإلاَّ فَلَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَابْن معِين. وَالثَّالِث: وَهُوَ اخْتِيَار الْحَاكِم: التَّفْرِقَة بَين قَوْله: مثله، وَبَين قَوْله: نَحوه، فَإِن قَالَ: مثله، جَازَ بِالشّرطِ الْمَذْكُور، وَإِن قَالَ: نَحوه، لم يجز، وَهُوَ قَول يحيى بن معِين. وَقَالَ الْخَطِيب: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن معِين بِنَاء على منع الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، فَأَما على جَوَازهَا فَلَا فرق.
ولَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِه
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أَي: لم يخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ من الصَّحَابَة أَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَزيد بن خَالِد الْمَذْكُور الْآن الصَّائِم من غير الصَّائِم، وَلَا السِّوَاك الْيَابِس من غَيره، فَيدْخل فِي عُمُوم الْإِبَاحَة كل جنس من السِّوَاك رطبا إو يَابسا، وَلَو افترق الحكم فِيهِ بَين الرطب واليابس فِي ذَلِك لبينه، لِأَن الله عز وَجل فرض عَلَيْهِ الْبَيَان لأمته.

(11/19)


وقالَتْ عائِشَةُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ
وَقع هَذَا فِي بعض النّسخ مقدما فَوق حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَلَيْسَ هَذَا وَحده، بل وَقع فِي غير رِوَايَة أبي ذَر فِي سِيَاق الْآثَار، وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَلَيْسَ يَبْنِي عَلَيْهِ عَظِيم أَمر، وَأما التَّعْلِيق عَن عَائِشَة فوصله أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي عَتيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق عَن أَبِيه عَنْهَا.
قَوْله: (مطهرة) ، بِفَتْح الْمِيم: إِمَّا مصدر ميمي بِمَعْنى اسْم الْفَاعِل من التَّطْهِير، وَإِمَّا بِمَعْنى الْآلَة. وَفِي (الصِّحَاح) : المطهرة والمطهرة يَعْنِي: بِفَتْح الْمِيم وكسرهما، الْإِدَاوَة، وَالْفَتْح أَعلَى، وَالْجمع: الْمَطَاهِر، وَيُقَال: السِّوَاك مطهرة للفم. قَوْله: (مرضاة للرب) ، المرضاة بِالْفَتْح مصدر ميمي بِمَعْنى الرضى، وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي مرضى الرب، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يُمكن أَن يُقَال إِنَّهَا مثل (الْوَلَد المبخلة مجينة) : أَي السِّوَاك مَظَنَّة للطَّهَارَة والرضى أَي يحمل السِّوَاك الرجل على الطَّهَارَة ورضى الرب، وَعطف مرضاة يحْتَمل التَّرْتِيب بِأَن تكون الطَّهَارَة بِهِ عِلّة للرضى، وَأَن يَكُونَا مستقلين فِي الْعلية قلت: يُؤْخَذ الْجَواب من هَذَا السُّؤَال من يسْأَل: كَيفَ يكون السِّوَاك سَببا لرضى الله تَعَالَى؟ وَيُمكن أَن يُقَال أَيْضا: من حَيْثُ إِن الْإِتْيَان بالمندوب مُوجب للثَّواب، وَمن جِهَة أَنه مُقَدّمَة للصَّلَاة، وَهِي مُنَاجَاة الرب، وَلَا شكّ أَن طيب الرَّائِحَة يَقْتَضِي رضى صَاحب الْمُنَاجَاة.
وَقَالَ عَطَاءٌ وقَتَادَةُ يَبْتَلعُ رِيقَهُ
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة بن دعامة: يبتلع الصَّائِم رِيقه: يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء إِذا بلع رِيقه، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن أَصْحَابنَا أَن الصَّائِم إِذا جمع رِيقه فِي فَمه ثمَّ ابتلعه لم يفْطر، وَلكنه يكره. قَوْله: (يبتلع) ، من بَاب الافتعال، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: يبلع من البلع، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: يتبلع من بَاب التفعل الَّذِي يدل على التَّكَلُّف، وَتَعْلِيق عَطاء وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن المارك (عَن ابْن جريج قلت: لعطاء: الصَّائِم يمضمض ثمَّ يزدرد رِيقه وَهُوَ صَائِم؟ قَالَ: لَا يضرّهُ، وَمَا بَقِي فِي فِيهِ) ؟ وَكَذَلِكَ أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، وَوَقع فِي أصل البُخَارِيّ: وَمَا بَقِي فِيهِ؟ وَقَالَ ابْن بطال: ظَاهِرَة إِبَاحَة الازدراد لما بَقِي فِي الْفَم من مَاء الْمَضْمَضَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ بِلَفْظ: (وماذا بَقِي فِي فِيهِ؟) فَكَأَن: ذَا، سَقَطت من رُوَاة البُخَارِيّ، وَأثر قَتَادَة وَصله عبد بن حميد فِي التَّفْسِير عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ نَحْو مَا روى عَن عَطاء.
41 - (حَدثنَا عَبْدَانِ قَالَ أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا معمر قَالَ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد عَن حمْرَان قَالَ رَأَيْت عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ تَوَضَّأ فأفرغ على يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثمَّ تمضمض واستنثر ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا ثمَّ غسل يَده الْيُمْنَى إِلَى الْمرْفق ثَلَاثًا ثمَّ غسل يَده الْيُسْرَى إِلَى الْمرْفق ثَلَاثًا ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ ثمَّ غسل رجله الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأ نَحْو وضوئي هَذَا ثمَّ قَالَ من تَوَضَّأ نَحْو وضوئي هَذَا ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يحدث نَفسه فيهمَا بِشَيْء إِلَّا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) قد مر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْوضُوء فِي بَاب الْوضُوء ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب إِلَى آخِره وَأخرجه هُنَا عَن عَبْدَانِ وَهُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن معمر بن رَاشد الْأَزْدِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره ومناسبة ذكره هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب فِي قَوْله " تَوَضَّأ " فَإِن مَعْنَاهُ تَوَضَّأ وضُوءًا كَامِلا جَامعا للسنن وَمن جملَته السِّوَاك وَقَالَ ابْن بطال حَدِيث عُثْمَان حجَّة وَاضِحَة فِي إِبَاحَة كل جنس من السِّوَاك رطبا كَانَ أَو يَابسا وَهُوَ انتزاع ابْن سِيرِين مِنْهُ حِين قَالَ لَا بَأْس بِالسِّوَاكِ الرطب

(11/20)


فَقيل لَهُ طعم فَقَالَ وَالْمَاء لَهُ طعم وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ لِأَن المَاء أرق من ريق السِّوَاك وَقد أَبَاحَ الله تَعَالَى الْمَضْمَضَة بِالْمَاءِ فِي الْوضُوء للصَّائِم قَوْله " بِشَيْء " أَي بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ قَوْله " إِلَّا غفر لَهُ " ويروى بِدُونِ كلمة الِاسْتِثْنَاء وَوجه الِاسْتِثْنَاء هُوَ الِاسْتِفْهَام الإنكاري الْمُفِيد للنَّفْي وَيحْتَمل أَن يُقَال المُرَاد لَا يحدث نَفسه بِشَيْء من الْأَشْيَاء فِي شَأْن الرَّكْعَتَيْنِ إِلَّا بِأَنَّهُ قد غفر لَهُ وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت هُنَاكَ -