إسبال المطر على قصب السكر

الكتاب: إسبال المطر على قصب السكر (نظم نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر)
تأليف: الإمام محمد بن إسماعيل الأمير "الشهير بالصنعاني" (1099 - 1182 هـ)
تحقيق وتعليق: عبد الحميد بن صالح بن قاسم آل أعوج سبر
الناشر: دار ابن حزم - بيروت
الطبعة: الأولى 1427هـ - 2006م
عدد الأجزاء: [1]
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

(1/179)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد [وآله] [الطاهرين].
وبعد:
فهذا شرح على منظومتنا "قصب السكر" نظم " نخبة الفكر " حل مبانيها وأبان معانيها مع اختصار واعتصار ووفاء ببيان القواعد (والمختار).

[المقدمة:]
(1) حمدا لمن يسند كل حمد ... إليه مرفوعا بغير عد
نصب على المصدرية بفعل واجب حذفه، لما تقرر من أن كل مصدر بين فاعله بالإضافة نحو: كتاب الله (و) صبغة الله، أو بين مفعول بها نحو: ضرب الرقاب، وسبحان الله، ومعاذ الله، أو بين فاعله بحرف الجر نحو (سحقا له أي: شدة) أو بين مفعوله بحرف الجر نحو شكرا لك

(1/181)


وحمدا لك فإنه يحذف ناصبه قياسا كما قاله الفاضل الرضي (من) أن الضابط هاهنا، ما ذكرنا من ذكر الفاعل أو المفعول بعد المصدر، مضافا إليه، أو بحرف الجر (لا) لبيان النوع إلى آخر (ما ذكره). وهنا قد بين مفعول الحمد بالأم أي: حمدا مني. وقوله: "يسند" في القاموس: سند إليه سنودا، وساند: استند وفي الجبل صعد، كأسند وأسندته (انتهى). فالمراد: يصعد كل حمد إليه تعالى، من قوله (تعالى): (إليه يصعد الكلم الطيب) ولما كان الحمد له أفراد لا تنحصر باعتبار لفظه ومعناه وقائليه أتى بكلمة "كل " المفيدة للشمول، أما لفظه فالعبارات عنه واسعة جدا، بالجمل الاسمية: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وهي في أوائل خمس سور من القرآن بها، والفعلية: حمدت الله ونحمده وغير ذلك. وأما معناه: فإنه تابع لاختلاف ألفاظه. وأما القائلون: فرب العالمين يحمد نفسه: "أنت كما أثنيت على نفسك". وملائكته: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).

(1/182)


(وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) وأنبياءه: قال لنوح: (فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين)، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) الآية، ومعلوم أن أنبياءه يقولون ما أمروا به. [وقال الخليل: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) وسكان جنانه فيها: (وقالوا)] (الحمد لله الذي هدانا لهذا) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) أي: أرض الجنة. وإذا عرفت ذلك فكل حمد من أي قائل وبأي عبارة وفي أي مقام وفي أي دار دار الدنيا ودار الآخرة يسند إليه (تعالى)، لأنه الذي أمر به والذي علم عباده وهداهم و (لذا) قال الصحابي في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

(1/183)


وقلت من أبيات:
لك الحمد إذا علمتني الحمد والثناء ... ولولاك لم أعرفه لفظا ولا معنى
ولي أبيات إلاهية:
فالكل يعجز عن ثنا ما ناله ... بل شكرهم فيه لك النعماء
يثنى بجارحة وأنت وهبتها ... وعبارة هي من يديك عطاء
لولاك ما نطق اللسان بلفظة ... ولكان أفصحنا هم البكماء
ولنا من أبيات إلالهية:
فلله كل الحمد في كل حالة ... ومن فضله إجراؤه الحمد في فينا
وقوله: "مرفوعا" في القاموس: رفعه كمنعه، ضد وضعه، فقوله: مرفوعا من قوله تعالى: (والعمل الصالح يرفعه)، فهو يصعد إليه تعالى. ومرفوعا منصوب على الحالية من فاعل يسند أي: يصعد إليه كل حمد حال كونه مرفوعا (و) قوله: ": بغير عد" متعلق به حال أيضا عنه أي: كل حمد يرفع حال كونه بغير عد يحصره، إذ لا يعلم عدة الحمد وعدة الحامدين إلا رب العالمين.
ويحتمل تعلقه بقوله: "حمدا" أي: أحمده حمدا بغير عد، (وهو أقرب ويحتمل التنازع فيه بينهما لقوله متصل كما يأتي) هذا والمسند من الحديث: ما أسند إلى قائله كما في القاموس، وفي تعريفات الشريف: المسند: خلاف المرسل وهو الذي اتصل إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1/184)


والمرفوع من الحديث النبوي ما أخبر به الصحابي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - ويراد - أو فعله أو تقريره أو وصفه أو همه (وفيهما) براعة استهلال. قال في التعريفات: براعة الاستهلال، هي: كون (ابتداء) الكلام مناسبا للمقصود وهي تقع في ديباجات الكتب كثيرا:

(2) متصل ليس له انقطاع ... ما فيه كذاب ولا ضاع
قوله: "متصل" خبر مبتدأ محذوف أي: هو، أي حمدا إلى آخره. متصل لا ينقطع ولذا كان بغير عد (والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل لم كان بغير عد) قال: لأنه متصل لا ينقطع (حتى ينفد كل معدود ومحدود). والاتصال ضد الانقطاع فقوله: "ليس له انقطاع "وصف تأكيدي مثل "نفخة واحدة"، وقوله " ما فيه كذاب " فعال صيغة مبالغة من الكذب، وحقيقته: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه عمدا كان أو سهوا، واشترط المعتزلة "العمدية". وفي الحديث: "من كذب علي متعمدا "والمبالغة هنا أريد بها ما أريد بها في قوله تعالى: (وما ربك بظلام) (للعبيد) على أحد الوجوه: من أنه لو وقع كذب في الحمد وقصور لكان أبلغ الكذب، كما أنه لو وقع منه تعالى ظلم لكان أبلغ ظلم.

(1/185)


وتحقيقه أن الحمد (لله) لا يتصور فيه جهة كذب أصلا لأنه دائما مطابق للواقع -"والوضاع" مثله في نكتة المبالغة وفي البيت، الإشارة إلى ما يتضمنه التأليف.

(3) ثم صلاة الله تغشى أحمدا ... وآله وصحبه أهل التقى
أردف الثناء على الله تعالى بالدعاء لرسوله صلى الله عليه وسلم وأتى بحرف الترتيب للإشارة إلى تقديم الحمد على ذلك، لأن المشروع البداية بالثناء على الله لحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه" الحديث. والعطف للجملة (الخبرية) الاسمية على الخبرية الفعلية وهما خبريتان لفظا إنشائيتان معنى كما قال القاضي زكريا: إن المقصود بها إيجاد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما أن المقصود بالأولى إيجاد الثناء على الله تعالى. وفسر القاضي زكريا الصلاة بالرحمة وهو تابع لغيره ممن فسرها بذلك وقال ابن القيم: إنه ضعيف كالقول بأن صلاة الله مغفرته، وهو رواية عن الضحاك. (ووجه ضعفه) الأول: أنه تعالى عطف الرحمة على الصلاة في قوله: (ألئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) والأصل فيه المغايرة وإن وقع خلافه فنادر (شاذ) (و) لا يحمل عليه أفصح الكلام.

(1/186)


والثاني: أن صلاته تعالى خاصة بأنبيائه ورسله والمؤمنين وأما رحمته فوسعت كل شيء فليست مرادفة لها، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها فمن فسرها بالرحمة فهو: تفسير ببعض ثمراتها. (و) الثالث: أنه لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين بخلاف الصلاة على غير الأنبياء ففي جوازها خلاف على ثلاثة أقوال. الرابع: أنها لو كانت الرحمة بمعناها لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من قال بوجوبها، إذا قال: "اللهم ارحم محمدا " وليس كذلك وعد خمسة عشر وجها في رد القول: بأن الصلاة الرحمة هنا، واختار أنها ثناء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله، وحرمته. وذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: " صلاة الله على رسوله ثناءه عليه عند الملائكة". وقوله تغشى أحمدا هو اسم علم له صلى الله عليه وسلم كما قال عيسى - روح الله وكلمته - (ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد) وكما ثبت في حديث جبير بن مطعم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لي أسماء أنا محمد (وأنا) أحمد (وأنا) الماحي الذي يمحو الله بي الكفر"، إذا عرفت هذا فاسماه

(1/187)


الأولان مشتقان من الحمد، والفرق بين محمد وأحمد من وجهين: الأول أن محمدا هو المحمود حمدا بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له. وذلك مستلزم كثرة موجبات الحمد فيه وأحمد أفعل تفضيل من الحمد يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره. فمحمد زيادة حمد في الكمية وأحمد زيادة (حمد) في الكيفية فيحمد أكثر حمد وأفضل حمد حمده البشر. (و) الثاني أن محمدا هو المحمود حمدا متكررا وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره فدل محمد على كونه محمودا ودل أحمد على كونه أحمد الحامدين لربه تعالى. وقوله: "وآله" عطف على أحمد، أتى بهم لما ثبت في حديث الصحيحين في بيان كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم التي أمر الله تعالى بها عباده فإنه علمهم الكيفية بذكر الآل. لما قالوا له صلى الله عليه وسلم: كيف نصلي عليك، قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " الحديث، فأمرهم بهذا اللفظ الشامل للآل. (و) أما من هم الآل ففيه أربعة أقوال: الأول من حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال: الأول: بنو هاشم وبنو المطلب، والثاني: بنو هاشم خاصة، الثالث: بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل فيهم بنو المطلب وبنو أمية وبنو نوفل ومن فوقهم إلى غالب، الأول للشافعي ورواية عن أحمد، الثاني لأبي حنيفة ورواية أيضا عن أحمد، الثالث لأشهب من أصحاب مالك.

(1/188)


الثاني: من الأربعة الأقوال أن (الآل) هم ذريته وأزواجه خاصة لحديث أبي حميد مرفوعا: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته"، مع ثبوت رواية حديث "وآله" فدل هذا المفصل أنهم المرادون بالآل. الثالث منها: أنهم أتباعه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة حكاه ابن عبدالبر عن بعض أهل العلم وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبدالله ذكره البيهقي ورجحه النووي في شرح مسلم. الرابع منها: أن آله صلى الله عليه وسلم الأتقياء من أمته ودلائل الأقوال مبسوطة في محلها. وأقربها القول بأنهم من حرمت عليهم الصدقة لما رواه البخاري من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن أحد الحسنين أخذ تمرة من الصدقة فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجها من فيه وقال: "أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة ".

(1/189)


ورواه مسلم بلفظ: "إنا لا تحل لنا الصدقة"، ولحديث مسلم أيضا عن زيد بن أرقم في قصة غدير خم، وفيه أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: "أذكركم الله في أهل بيتي" كررها ثلاثاً. فقال حصين بن سبرة: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساءه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم [عليهم] الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. قال: أكل هؤلاء حرم عليهم الصدقة؟ ... الحديث والصحابي أعرف بتفسير ما رواه. وقوله: وصحبه جمع صاحب، كما في القاموس حيث قال: وهم أصحاب وأصاحيب وصحبان، وصحاب وصحب انتهى ويأتي الخلاف في مسماه عرفاً، وهذا العطف مبني على جواز الصلاة على غير الأنبياء عليهم السلام تبعاً لهم.

(4) وبعد فالنخبة في علم الأثر ... مختصر يا حبذا من مختصر
بعد من الظروف الغايات، له ثلاث حالات، ذكر ما يضاف إليه فيعرب كسائر المعربات، وحذفه مع إرادته فيبنى على الضم وحذفه نسيا

(1/190)


فيعرب منوناً، كما عرف في النحو وهي هنا من القسم الثاني أي بعد الحمد والصلاة. والفاء في حيزها مبنية على توهم أما التي تلازمها غالباً والنخبة بالضم وكهمزة المختار. وانتخبه اختاره كما في القاموس، فهي علم نقل من ذلك. و"في علم الأثر" متعلق بها بتقدير "المؤلفة في علم الأثر" وفي نسخة "الخبر"وهو مبني على ترادفهما كترادف الحديث والخبر. وقيل: الأثر يطلق على ما كان موقوفاً على الصحابة فمن بعدهم والخبر يختص بما كان مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما أنه قد قيل بالفرق بين الخبر والحديث أن الحديث ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم والخبر ما جاء عن غيره وقوله جاء عنه صلى الله عليه وسلم أي من قول أو فعل أو تقدير أو همٍ أو صفة. واعلم أنه لا غنى عن معرفة رسمه وموضوعه وغايته وقد رسموه فقيل: إنه علم يبحث فيه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إسناداً ومتناً لفظاً ومعنى من

(1/191)


حيث القبول والرد وما يتبع ذلك من كيفية تحمل الحديث وروايته وكيفية ضبطه وكتابته وأدب راويه وطالبيه. وقيل في رسمه ما هو أخصر وهو أنه علم يعرف به حال الراوي والمروي من جهة القبول والرد. وموضوعه: الراوي والمروي من هذه الجهة. وغايته معرفة ما يقبل وما يرد من ذلك، والمصنف ابن حجر رحمه الله [تعالى] يرى ترادف الخبر والأثر كما دل له تسمية كتابه [هذا] "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"فلذا جعلها الناظم نسختين. والاختصار [وهو] حذف الفضول من الشيء كما في القاموس. وقولنا: يا حبذا حذف المنادى: أي يا قوم - أو- يا علماء، وحبذا من أفعال المدح كما عرف في النحو.

(5) ألفها الحافظ في حال السفر ... وهو الشهاب بن علي بن حجر
ذكر الإمام العلامة محمد بن إبراهيم المعروف بابن الوزير، وكان معاصرا للحافظ ابن حجر: أن الحافظ كتب في سفره إلى مكة سنة سبع

(1/192)


عشرة وثمانمائة مختصرا بديعا في علوم الحديث قال: فوقفت عليه وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه فوجدته كما قيل:
أبلغ العلم وأشفاه ... لأدواء الفؤاد
اختصار في جلاء ... وبلوغ في مراد
(قلت): البيتان ينسبان إلى نشوان بن سعيد الحميري. قال السيد محمد: "لكنه بقي [عليه] فيه ما يقيه من العين ولا يشعر بمثله إلا في سواد العين) كفوقة الظفر لا يدري بموضعها ومثلها في سواد العين مشهور (قلت): الفوقة نقطة بيضاء تكون في الأظفار. قال: "وذلك لكثرة اشتغاله في أوان ارتحاله لا لقصور [في] عرفانه، فهو إمام زمانه فرأيت أن أقلل مما وقع نقدي عليه فأما الإحصاء فلا سبيل إليه، إذ السهو والخطأ والنسيان من صفة كل إنسان. وأتدلل (قلت: بالدال المهملة من الإدلال على من لك عنده منزلة) عليه بزيادة يسيرة أو تحرير عبارة عدلا لا عدوا لاعترافي أن الكتاب كتابه لفظا ومعنى ونصا لا فحوى، ليس لي فيه حق ولا رجوى ولا شبهة ولا دعوى إلا ما زدته عليه من الدلائل غيرة على دعاويه العواطل من مشابهتها للدعاوى البواطل " انتهى. وإنما نقلته بطوله لأني - إن شاء الله - سأذكر ما انتقده ذهنه الوقاد وحرره من الأدلة وزاد.

(1/193)


وفي قوله وهو الشهاب إلى آخره من البديع الاطراد، وقد ألف الحافظ السخاوي كتابا حافلا في ترجمة [الحافظ] ابن حجر سماه الجواهر والدرر.

(6) طالعتها يوما من الأيام ... فاشتقت أن أودعها نظامي
(7) فتم من بكرة ذاك اليوم ... إلى المسا عند وفود النوم
كان ذلك في شهر صفر سنة [ثلاث وسبعين] ومائة وألف في الروضة البهية.

(8) مشتملا: على الذي حواه ... فالحمد للرحمن لا سواه
مشتملا: حال من فاعل تم، وضمير حواه للمؤلف الذي أريد نظمه.
...

[مسألة تقسيم الخبر إلى المتواتر والآحاد:]
(9) وكل ما يروى من الأخبار ... إما بحضر أو بلا انحصار
الأخبار: جمع خبر وهو قسم من الكلام يأتي في تعريفه وقدمنا [الكلام في أنه] هل [هو] مرادف للحديث أو لا؟ ووجه الانحصار قد

(1/194)


أفاده قوله إما بحصر: أي في طرقه والحصر فيهما [أي المتواتر والآحاد] صرح به إمام الحرمين في الورقات [حيث] قال: والآحاد يقابل التواتر، قال شارح شرحه: تصريح بانحصار الخبر في القسمين: المتواتر والآحاد، إذ معنى مقابلته له أنه ما عداه، فلا ثالث لهما [انتهى]. والطرق: وهي الأسانيد، والإسناد: حكاية طريق المتن ويأتي قريبا تقسيم طرق [الحصر - أي الطرق التي ينحصر الخبر الأحادي فيها وأنها ثلاث طرق] وهو القسم الأول والثاني وهو قوله أو بلا انحصار: أي بأن يروي الحديث جماعة لا ينحصرون في عدد معين، بل تكون العادة قد أحالت تواطؤهم على الكذب: أي توافقهم عليه، فلا معنى لتعيين العدد، [وهذا] على الصحيح الذي ذهب إليه الجمهور قالوا: [سواء] كانوا كفارا أو فساقا وأهل بلد واحد ودين واحد أو لا، ولذا قلنا في بغية الآمل: "وحاصل بفاسق أو كافر". وقلنا فيها في ترجيح كلام الجمهور والقول القوي: فقد اعتبار العدد المحصور بل ما أفاد علمنا الضروري ولابد أن تكون الجماعة كذلك من ابتدائه إلى انتهائه، والمراد بالاستواء أن لا تنقص الكثرة المذكورة في بعض المواضع، لا أن لا تزيد، إذ الزيادة [هنا] مطلوبة من باب الأولى. وأن يكون مستند انتهائه الأمر المشاهد أو المسموع لا ما ثبت بقضية

(1/195)


العقل الصرف فإذا جمع هذه الشروط الأربعة قال الحافظ: "وهي عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء وكان مستند انتهائهم الحس وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه فهذا هو المتواتر". واعلم أن الحافظ جعل الرابع انضياف العلم وقد استشكل، لأن كون المتواتر موجبا للعلم يقتضي تقدمه بالذات على حصول العلم منه، فإنه أثر من آثاره المترتبة عليه، والشيء يتقدم بالذات على أثره فكيف يعد حصول العلم [به] من شروطه، قيل: إلا أن يتأول بأن مراده من شرطه العلم بأنه متواتر ويأتي ذكره.
...

[مسألة: تقسيم الآحاد إلى ثلاثة أقسام:]
(10) فالأول المروي بفوق اثنين ... أو بهما أو واحد في العين
انقسمت الآحاد وهي جمع أحد، كبطل وأبطال إلى ثلاثة بقوله: فالأول أي: المروي بحصر في رواته، فالتعريف للعهد الخارجي، لأنه المذكور في اللف الأول فهو لا يخلو عن ثلاثة أقسام: الأول: أن يرويه ثلاثة فصاعدا ما لم تجتمع شروط التواتر وهذا هو المشهور أو المستفيض، كما يأتي، والثاني: أن يرويه اثنان عن اثنين إلى منتهاه، فلا يرد بأقل منهما في رواية فإن ورد بأكثر في بعض المواضع من السند فلا يضر، إذ الأقل في هذا يقضي على الأكثر أي: يغلب، وهذا هو العزيز، والثالث: أن يرويه واحد في أي موضع وقع التفرد، وإن زاد في غيره، وهذا هو الغريب ويأتي [تفصيل] الثلاثة.

(1/196)


[مسألة التواتر]
(11) ثانيهما يدعونه التواترا ... ترى به العلم اليقيني حاضراً
أي ثاني ما في اللف - وهو قوله: "بلا انحصار" فإنهم يسمونه المتواتر؛ والتواتر لغة: التتابع، وهو كون الشيء بعد الشيء بفترة، وضبطه إمام الحرمين بأنه ما يوجب العلم أي بنفسه إيجابا عاديا ولذا قلنا: "ترى به العلم اليقيني حاضرا"، أي أنه لا يختلف عنه من هذه الحيثية. وفي النخبة: أنه المفيد للعلم اليقيني بشروطه، واليقين هو الاعتقاد الجازم المطابق وهذا هو المعتمد، أن خبر التواتر يفيد العلم الضروري وهو الذي يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكنه دفعه وبه قيدناه في النظم [كما] في أصله، وقيل: إنه لا يفيد العلم إلا نظريا. قال الحافظ: "وليس بشيء لأن العلم بالتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي إذ النظر: ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم، أو ظنون وليس في العامي أهلية ذلك، فلو كان نظريا لما حصل لهم" انتهى وفي شرح شرح الورقات أن إمام الحرمين يقول: "إنه نظري"، وفسر كونه نظريا بتوقفه على مقدمات حاصلة عند السامع، وهي المحققة لكون الخبر متواترا من كونه خبر جمع وكونهم بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب وكونه خبرا عن محسوس لا أنه يحتاج إلى نظر عقب سماع الخبر. قال المحلي - في شرح جمع الجوامع -: "فلا خلاف في المعنى أنه ضروري لأن توفقه على تلك لا ينافي كونه ضروريا" انتهى ولا يخفى أن المتواتر على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد إذ علم الإسناد: ما يبحث فيه عن صحة الحديث، أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء والمتواتر: لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث.

(1/197)


واعلم أن قولنا: إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه - المراد إلى الواقعة التي أخبر بوقوعها، سواء: كانت بعينها مضمون خبرهم، ويسمى الخبر - حينئذ - متواترا تواترا لفظيا أو قدرا مشتركا بين أخبارهم ويسمى حينئذ متواتر تواترا معنويا كما إذا [أخبر واحد] عن حاتم، أنه أعطى دينارا وآخر أنه أعطى فرسا، [وآخر أنه أعطى فقيرا كذا وكذا] فقد اتفقوا على معنى كلي، وهو الإعطاء. ولذا قلنا في "بغية الآمل":
واللفظ لا يختص بالتواتر ... بل جاء في المعنى كإقدام الوصي
كرم ربي ذلك الوجه الرضي، وذلك ما ثبت من الروايات المتكاثرة بأنه قتل يوم بدر كذا، ويوم خيبر كذا، ويوم أحد كذا، وبأنه لا يعلم أنه فر عن زحف من الزحوف وهذه دلالة قطعية بأنه شجاع. وقد ذكر الأئمة أن أكثر الأحاديث النبوية التي تواترت من القسم الثاني، والأقل من القسم الأول، وعد منه حديث: "من كذب علي متعمدا" رواه من الصحابة نحو مائة، وقيل: مائتين وحديث: "تقتلك يا عمار الفئة الباغية"، قال الذهبي - في ترجمة عمار من النبلاء -: "حديث متواتر" قال الحافظ ابن حجر: "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل لعلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط، أفاد العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله. ومثل ذلك في الكتب المشهور كثير" انتهى قال السخاوي: "ذكر شيخنا [يريد ابن حجر] الأحاديث التي وصفت بالتواتر: حديث الشفاعة، والحوض فإن عدد رواتهما من الصحابة

(1/198)


زادوا على الأربعين وممن وصفهما بذلك عياض في الشفا، وحديث "من بنى لله مسجدا"، وحديث "الأئمة من قريش"، وحديث حنين الجذع، وحديث النهي عن الصلاة في معاطن الإبل كما قاله فيه ابن حزم، وحديث اهتزاز العرش لموت سعد، وحديث انشقاق القمر" انتهى. [و] قال الحاكم أبو سعيد: "حديث الموالاة، وحديث غدير خم رواه جماعة من الصحابة وتواتر النقل به حتى دخل في حد التواتر". وذكر محمد بن جرير: حديث غدير خم وطرقه من خمسة وسبعين طريقا، وأفرد له كتابا سماه "كتاب الولاية" وصنف الذهبي جزءا في طرقه وحكم بتواتره، وذكر أبو العباس ابن عقدة - حديث غدير خم من مائة وخمسين طريقا وأفرد له كتابا. وذكر السيد محمد رحمه الله في التنقيح من أمثلة المتواتر - حديث رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام بالصلاة؛ فإنه روي من طرق كثيرة قال ابن عبدالبر: رواه ثلاثة عشر من الصحابة وقال السلفي: أربعة عشر وقال ابن كثير: عشرون، وجمع زين الدين رواته فبلغوا خمسين، فيهم العشرة- رضي الله عنهم - وكذلك قال الحاكم ابن البيع: "إن العشرة اجتمعوا على روايته وجعل ذلك من خصائص [هذه] السنة الشريفة" ومن أمثلة ذلك أحاديث المسح على الخفين قال صاحب الإمام: "عن ابن المنذر: روينا عن الحسن البصري أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين"، وذكر ابن عبدالبر أنه من السنن المتواترة قال زين الدين: "رواه أكثر من ستين من الصحابة منهم العشرة رضي الله عنهم"انتهى.

(1/199)


وقد جمع أئمة ما تواتر لهم من الأحاديث النبوية آخرهم - فيما علمت - العلامة المقبلي نزيل حرم الله - رحمه الله - جمعها في الأحاديث التي تكلم فيها على مسائل شتى. واعلم: أن السيد محمد عرف المتواتر في مختصره الذي أشرنا إليه سابقا بقوله: " الحديث إما تعلم صحته بكثرة رواته فهو المتواتر"، فعرفه بعلم من بلغه صحته بكثرة رواته، فجعل لازمه العلم بصحته الناشئ عن كثرة رواته ولا يخفى أن العلم بالصحة لا يستلزم العلم اليقيني؛ فإن الآحاد قد تعلم صحته ولا يلزم العلم اليقيني بمضمونه. ويأتي بقية كلامه.
...

[مسألة المشهور والمستفيض]
(12) بشرطه وأول الأقسام ... سموه مشهورا وفي الأعلام
(13) من قال هذا المستفيض اسما ... ثانيهما له العزيز وسما
قوله: " بشرطه" يتعلق بقوله: ترى به العلم ... الخ والمراد أنه يفيد اليقين بشرطه، كما قال الحافظ: " المفيد للعلم اليقيني بشروطه"، وأفردنا الشرط إرادة للجنس، وتقدم أنه أربعة. [وقولنا] "وأول الأقسام" أي أولها في اللف حيث قيل: فالأول: المروي بفوق الاثنين أي بثلاثة فصاعدا وهو أول أقسام الآحاد سماه

(1/200)


أئمة الأحاديث بالمشهور - أي عند المحدثين - لوضوحه، وقد يطلق المشهور على ما اشتهر على الألسنة فيشمل ماله إسناد واحد فصاعدا. وعلى ما ليس له إسناد أصلا، بل قد يشتهر على الألسنة وهو موضوع، وقد صنف السخاوي في ذلك كتابا جيدا - سماه المقاصد الحسنة - في بيان كثير من الأحاديث الدائرة على الألسنة. وقولنا: "وفي الأعلام من قال"الخ أي [أن] من العلماء - وهم جماعة من الفقهاء - قالوا: إن هذا هو [المستفيض يسمى بذلك لانتشاره - من فاض الماء يفيض فيضا - ومنهم من غاير بين] المستفيض والمشهور، [بأن] الأول: يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك. ومنهم من غاير على كيفية أخرى وهي: أن الأول ما تلقته الأمة بالقبول دون اعتبار عدد، وقال الصيرفي: "إنه هو والمتواتر واحد"انتهى. ولذا قال الحافظ: "إنه على هذه الكيفية ليس من مباحث هذا الفن؛ لأنه صار كالمتواتر [وهو] ليس من مباحثه كما عرفت. وقولنا: "ثانيها له العزيز وسما" أي ثاني الثلاثة الأقسام، من الآحاد، وهو الثالث: بالنظر إلى قسم المتواتر وقد أتى "له" أي لهذا القسم الذي له طرق محصورة بأكثر من اثنين لفظ العزيز وسما أي اسما وعلامة قيل: يسمى بذلك إما لقلة وجوده فإنه يعز أن يستمر لكل راو راويان من أوله إلى آخره وإما لكونه عز - أي: قوي - لمجيئه من طريق أخرى.

(14) وليس شرطا للصحيح فاعلم ... وقد رمي من قال بالتوهم
أي: ليس هذا القسم - وهو: العزيز- شرطا لصحيح البخاري، كما قاله القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في أوائل شرح البخاري فإنه: ادعى أن ذلك شرط البخاري ورد عليه العلماء [ذلك] و [ذكروا] أنه وهم. قال ابن رشد في كتاب "ترجمان التراجم": "ولقد كان يكفي القاضي

(1/201)


في بطلان ما ادعى أنه شرط البخاري أول حديث مذكور فيه أي في صحيح البخاري - يعني فإنه مروي بالآحاد يريد به: حديث "إنما الأعمال بالنيات" فإنه تفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة، ثم تفرد به يحيى بن سعيد عن محمد، وتفرد به أيضا عمر". (قلت): قد تنبه ابن العربي [لهذا] فقال: " فإن قيل حديث الأعمال بالنيات فرد لم يروه عن عمر إلا علقمة قلنا: قد خطب به عمر على المنبر بحضرة الصحابة فلولا أنهم يعرفونه لأنكروه"، كذا قال. وتعقب بأنه لا يلزم من كونهم سكتوا عنه أن يكونوا سمعوه من غيره، وبأن هذا لو سلم في عمر منع في تفرد علقمة، ثم في تفرد محمد بن إبراهيم عن علقمة، ثم [في] تفرد يحيى بن سعيد به عن محمد، وقد أورد عليه أيضا آخر حديث في البخاري وهو حديث: "كلمتان خفيفتان على اللسان" فإنه تفرد به أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم وتفرد به عنه أبو زرعة، وتفرد به عمارة بن القعقاع، وتفرد به عنه محمد بن فضيل، وعنه انتشر فبطل قول ابن العربي، فلذا قلنا: "وقد رمي من قال" أي: بأن العزيز شرط الصحيح بالتوهم، فإنه قول مبني على التوهم [أن ذلك شرطه] لا على التحقيق على أنه حكى الحازمي عن الحاكم، وهو من أجل علماء الحديث أن شرط الشيخين العدد. (قلت): وقد حققنا ذلك في شرح "تنقيح الأنظار" ويأتي الكلام في ذلك. وقد زعم ابن حبان أن رواية اثنين عن اثنين لا توجد أصلا، قال

(1/202)


الحافظ ابن حجر: قلت: "إن أرادوا اثنين فقط عن اثنين فقط [إلى أن ينتهي] لا توجد أصلا؛ فيمكن أن يسلم وأما صورة العزيز الذي حررناه فموجودة بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين". ومثاله: ما رواه الشيخان من حديث أنس، والبخاري وحده من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" الحديث قلت: تمامه: "والناس أجمعين" رواه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب ورواه عن قتادة شعبة وسعيد [ورواه عن عبد العزيز] إسماعيل بن علية، وعبد الوارث، ورواه عن كل جماعة انتهى، ونسبوا إلى أبي علي الجبائي المعتزلي القول: "بأن هذا شرط كون الحديث صحيحا".
...

[مسألة الغريب]
(15) ثالثها يدعونه الغريبا ... والكل آحاد ترى ضروبا
هذا ثالث أقسام الآحاد - وهو رابع أصل القسمة بالنظر إلى المتواتر - وهذا هو الذي يتفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد في السند - على ما سيقسم إليه الغريب المطلق والغريب النسبي كما يأتي. وقولنا: "والكل آحاد"أي: الأقسام الثلاثة آحاد، وهي: المشهور، والعزيز، والغريب كل واحد منها من أخبار الآحاد. وخبر الواحد في اللغة: ما يرويه

(1/203)


واحد، وفي الاصطلاح ما لم يجمع شروط التواتر، وإن رواه أكثر من واحد وقولنا: "ترى ضروبا" جمع ضرب، وهو: المثل، كما في القاموس ويفسره ما بعده من الأبيات. واعلم: أنه استدل السيد محمد رحمه الله في "مختصره"للعمل بالآحاد بقوله: " والعمل به واجب لإجماع الصحابة المعلوم ولإرساله (صلى الله عليه وسلم) الآحاد وتقريره صلى الله عليه وسلم المسلمين على قبوله ولحسن العمل بالظن عقلا"انتهى. فهذه أربعة أدلة، فيها رد [على] من زعم، "إنها لا تقبل أخبار الآحاد" والقائل بذلك الإمامية، والبغدادية، والظاهرية والخوارج. فالدليل الأول: إجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد، وشيوع ذلك بينهم من غير نكير، - والقضايا فيه لا تدخل تحت حصر- ولذا قال: "المعلوم" أي: أنه إجماع معلوم -[لا أنه] مظنون والقول بأن عمر لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان ولا قبل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، حتى أتيا معهما بمن يشهد لهما فالجواب أن هذا - بعد الإتيان بمن شهد لهما - لم يخرج عن خبر الآحاد وقد [عمل به عمر في غيره - أي في غير خبر الاستئذان] بأخبار عدة من الآحاد وإنما استثبت في ذلك، فلا يتم فعل عمر دليلا لمن منع قبول الآحاد؛ بل هو دليل لمن قبلها. وكذلك ما روي عن أن أمير المؤمنين عليا - رضي الله عنه - كان يستخلف الراوي، فإن حلف قبل روايته؛ فإنه مجرد استثبات منه - لا لريبة في روايته - فإنه لا يدفعها يمينه؛ لجواز أنه فاجر فيها. وإنما كان - عليه السلام - يرى الأخذ بالأقوى من الظن، وقبول الرواية مع اليمين أقوى ظنا من قبولها مع عدمها، ومع ذلك فلم يخرج العمل بها -[بعد] اليمين - عن الآحاد، فهو دليل لنا على قبول الآحاد.

(1/204)


والثاني إرساله صلى الله عليه وآله وسلم للآحاد إلى الملوك وغيرهم يدعونهم إلى الإيمان ويعلمونهم الشرائع، وهذا أيضا معلوم، يعرفه - يقينا - من عرف السنن النبوية والسير المحمدية - وكانت تقوم بذلك الحجة على المرسل إليه، ويقبل صلى الله عليه وسلم خبر الرسل الآحاد بإخبارهم بإسلام من أسلم وامتناع من امتنع، ويرتب [صلى الله عليه وسلم] على ذلك الأحكام الشرعية في الفريقين، ولم يقل أحد ممن أرسل إليه صلى الله عليه وسلم الآحاد هذا خبر واحد لا يجب علي العمل به "، وقد أشرنا إلى هذين الدليلين في بغية الآمل، حيث قلنا:
لبعثة المختار للآحاد ... وما أتى عن صحبه الأمجاد
وشاع فيهم عملا وذاعا ... فكان إذ لم ينكروا إجماعا
والمسألة مبسوطة في أصول الفقه. الثالث: قوله: وتقريره صلى الله عليه وسلم المسلمين على قبوله فإنه لا يشك [ناظر] أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم عمل أصحابه بأخبار الآحاد في عدة قضايا - لا تنحصر - ولم ينكر عليهم، بل يقرهم [على ذلك] فهذان دليلان من السنة فعله صلى الله عليه وسلم وتقريره. والرابع: قوله: " ولحسن العمل بالظن عقلا"وهذا دليل عقلي بعد الثلاثة النقلية - وتقريره: أنا نعلم بالضرورة أن من أحضر إليه طعام وأخبره من يظن صدقه أن فيه سما، أو في الطريق - التي يريد سلوكها - سبعا أو لصا، فإن العقل يقضي بحسن ترك ذلك الطعام أو الطريق، وأنه إن أقدم على ذلك لامه العقلاء، وحسن ذمة عندهم. قال السيد محمد: "ولأن راده -[أي]: من رد العمل بالآحاد - تمسك في رده بالظن أي كان دليله على عدم قبوله أدلة ظنية - وإنما فر - أي إنما فر عن العمل بالآحاد - لأنها لا

(1/205)


تفيد إلا الظن، قلنا: فقد عملت بالظن في رد العمل بها، إذ لا دليل معك قطعي في رد العمل [بهذا] " فهذا ما أشار إليه من الاستدلال - وهو مما زاده على "النخبة" كما أفاده قوله في الديباجة: "إلا ما زدته عليه من الدلائل غيرة على دعاويه العواطل". وقال إمام الحرمين: وهو - أي الخبر - الآحادي - يوجب العمل - أي - بشروطه من العدالة وغيرها أي يكون سببا في وجوب العمل بمضمونه. واختلفوا، فقيل: إن الوجوب بالعقل وإن دل السمع عليه - أيضا -وذلك لأنه لو لم يجب العمل به لتعطلت وقائع الأحكام المروية بالآحاد - وهي كثيرة جدا ولا سبيل إلى القول بذلك. وقيل بالسمع دون العقل؛ وذلك لبعثه صلى الله عليه وسلم الآحاد - كما قدمناه - ولعمل الصحابة إلى آخر ما سقناه وساقه شارح "الورقات" ولما قلنا: "ضروبا" بينا ذلك بقولنا:

(16) فيها أتى المقبول والمردود ... إذ هي في الأحكام لا تفيد
(17) حتى يتم البحث عن ثقاتها ... وطرح من ضعف من رواتها
هذا بيان قوله: "ضروبا" فالمقبول - وهو: من عدلت رواته - ضرب من الآحاد والمردود، وهو - الذي لم يرجح صدق المخبر به - ضرب، والمتوقف فيه ضرب. قال الحافظ: وإنما وجب العمل بالمقبول منها؛ لأنها إما أن يوجد فيها أصل صفة القبول، وهو: ثبوت صدق الناقل أو أصل صفة الرد، وهو: كذب الناقل، أو لا، فالأول: يغلب على الظن صدق الخبر لثبوت صدق ناقله - فيؤخذ به، والثاني: يغلب على الظن كذب الخبر لثبوت كذب ناقله فيطرح والثالث إن وجدت قرينة تلحقه بأحد القسمين التحق وإلا فيتوقف فيه انتهى وقد عرفت أن المتوقف فيه في حكم المردود فقد شمل البيتان الثلاثة الضروب والحاصل أن كل خبر يحتمل

(1/206)


الصدق والكذب من حيث أنه خبر فلا بد لترجيح أحد الاحتمالين من مرجح كما أشير إليه وإذا فقد بقي على الاحتمال
...

[مسألة: إفادة الآحاد العلم النظري بالقرائن:]
(18) وقد تفيد العلم أعني النظري ... إذا أتت قرائن للخبر
وقد تفيد أي أخبار الآحاد المنقسمة إلى الثلاثة العلم النظري هذا إشارة إلى أن الخبر الآحادي لا يفيد إلا الظن وفيه خلاف قد أوضحناه وبسطنا القول فيه في شرح تنقيح الأنظار وفي قوله قد تفيد إشارة إلى قلة إفادته العلم وقد عرفت أن العلم نظري وضروري فالمراد هنا الأول كما قيدناه به وعرفت أنا قيدنا إفادة التواتر العلم بنفسه وبالضروري فخرج المقيد له بالقرائن عن التواتر والمراد من القرائن هي الزائدة على القرائن التي لا تنفك عن الخبر وهي ما يلزمه عادة من أحوال في نفس الخبر كالهيئات المقارنة الموجبة لتحقق مضمونه وفي المخبر أي المتكلم ككونه موسوما بالصدق مباشرا للأمر الذي أخبر به والمخبر عنه أي الواقعة التي أخبروا بوقوعها لكونه أمرا قريب الوقوع فيحصل أي العلم بعدد أقل وبعيده فيفتقر إلى أكثر فإنه من المتواتر وإن كان العلم بمعونة مثل هذه القرائن وبذلك يتفاوت عدد التواتر هذا حاصل ما في العضد وحاشيته وغيرهما ولكن كلامنا في القرائن غيرها وهي ما اشتهر المثال بها وهو خبر ملك بموت ولد له مشرف على الموت وانضم إليه قرائن الصراخ والجنازة وخروج المخدرات على حال منكرة وغير معتادة دون موت مثله وخروج الملك وأكابر مملكته فإنا

(1/207)


نقطع بصحة ذلك الخبر ونعلم به موت الولد نجد ذلك من أنفسنا وجدانا ضروريا لا يتطرق إليه الشك واعترض بأن العلم بذلك لم يحصل بالخبر بل بالقرائن وأجيب بأنه حصل بضميمة القرائن إذ لولا الخبر لجوزنا موت شخص آخر ويحصل العلم بغير القرائن كالعلم بمضمون الخبر بالضرورة كقولنا الواحد نصف الاثنين أو بالنظر كقولنا العالم حادث وقال السيد محمد في مختصره ويعز وجوده أي الخبر المحفوف بالقرائن قلت بل قال عضد الدين في شرح المختصر إن ذلك لا يوجد في الشرع وإنه لا يشترط عدالة المخبر فيما يعلم بالقرائن انتهى قلت وقد عد الحافظ للخبر المحتف بالقرائن أنواعا منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر فإنه احتفت به قرائن منها جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين وبما لم يقع التخالف بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته فإن قيل إنما اتفقوا على وجوب العمل لا على صحته منعناه وسند

(1/208)


المنع أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح ولو لم يخرجه الشيخان فلم يبق للصحيحين في هذا مزية والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني ومن أئمة الحديث أبو عبدالله الحميدي وأبو الفضل بن طاهر وغيرهما ويحتمل أن يقال المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح انتهى كلام الحافظ واعلم أنه قال ابن الصلاح ما أخرجه الشيخان مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد بأصله إلا الظن وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا ثم بأن لي أن المذهب الذي اخترناه أولا هو الصحيح لأن ظن من هو معصوم الخطأ لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ ولهذا كان الإجماع المبتنى على الاجتهاد حجة مقطوعا بها وأكثر إجماعات العلماء كذلك قال النووي ما قاله ابن الصلاح خلاف ما قاله المحققون والأكثرون فإنهم قالوا أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن فإنها الآحاد والآحاد إنما يفيد الظن على ما تقرر ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك وتلقي الأمة إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر ويوجد فيه شرط الصحيح ولا يلزم من إجماع العلماء على ما فيهما إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحكي تغليط مقالة ابن الصلاح عن ابن

(1/209)


برهان وكذا عابه ابن عبدالسلام قلت وقد أشار النووي إلى مزية الصحيحين على غيرهما أنه وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه فهذه هي المزية التي قال ابن حجر إن الإجماع حاصل أن لهما مزية لا ما قاله من أنها إفادة العلم انتهى ما قاله الهروي ولا يخفى أن الحافظ ابن حجر قد جعل أحاديث الصحيحين غير ما استثناه مما يفيد العلم النظري لاحتفافهما بالقرائن وأعظمهما تلقي الأمة قال فإنه أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر فقد جعل التلقي كما جعله ابن الصلاح طريق إفادة العلم بأحاديثهما وقد علله ابن الصلاح بأن الأمة معصومة في إجماعها من الخطأ وقال النووي إن الأمة إنما أجمعت على وجوب العمل بما فيهما قلت الإجماع على وجوب العمل يقضي بأن أحاديثهما صحيحة أو حسنة إذ لا يجب العمل إلا بذلك فهو إجماع بأنه كلام النبي إذ صلى الله عليه وسلم لا يجب العمل بكلام غيره من أفراد الأمة واعلم أن السيد محمد جعل المتلقى بالقبول قسيما للمعلوم بالقرائن وأنه مما يعلم بالنظر فقال إن الحديث إما إن يعلم صحته بكثرة رواته فهو المتواتر أو بالقرائن على قول فهو المعلوم بالقرائن ويعز وجوده في الشرع أو بالنظر وهو ما حكم بصحته المعصوم ظنا على قول وهو المتلقى بالقبول والصحيح الذي عليه المحققون أنه ظني كما عزاه النووي إلى المحققين والأكثرين قال سر المسألة هل تجويز الخطأ في ظن المعصوم يناقض العصمة والحق أنه لا يناقضها حيث يكون خطأه فيما طلب لا فيما وجب ولا يوصف خطأه حينئذ بقبح كتحري القبلة ووقت

(1/210)


الفطرة والصلاة وعدالة الشاهد ورمي الكافر لنا لو وجب القطع بانتفائه لبطل كونه ظنا والفرض أنه ظن هذا خلف ولوجوب الترجيح عند تعارض المتلقى بالقبول ولا ترجيح مع القطع ومن السمع قول يعقوب في قصة أخي يوسف {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيل} كما قال ذلك في قصة يوسف وقوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وحديث إنما أقطع له قطعة من نار وأحاديث سهو النبي (صلى الله عليه وسلم) في الصلاة ولا يمتنع أن يدخل الظن في استدلال الأمة ثم يجب القطع باتباعهم كخبر الواحد وطرق الفقه ولذلك يسمى الفقه علما فبطل القطع بأن حديث البخاري ومسلم معلوم كما ظنه ابن الصلاح وابن طاهر وأبو نصر انتهى كلامه رحمه الله تعالى وإذا عرفت ما ذكره فهو محتاج إلى إيضاح وتحقيق الحق وقد كنت بسطت الكلام على كلامه هذا في رسالة حل العقال عما في رسالة الجلال في الزكاة من الإشكال لأنه نقل كلام السيد محمد هذا ورتب عليه

(1/211)


بحثه في كلامه ولننقل خلاصة ما كتبنا عليه فأقول المراد من قوله هل يجوز الخطأ في ظن المعصوم أراد بهم أهل الإجماع فإن الأمة معصومة وذكره للرسل عليهم السلام استطرادا وإلا فالبحث في عصمة أهل الإجماع وإنما ذكر الرسل وما وقع لهم من الخطأ لأنه يعلم أن وقوعه من الأمة أولى ثم إنه قسم العصمة إلى أمرين بالنظر إلى المطلوب فقال العصمة إنما هي عن مخالفة المعصوم فيما أوجبه الله عليه لا عن مخالفته ما طلبه مثاله الرسول وجب عليه أن يحكم بين الخصمين بالبينة فهذا قد عصم عن مخالفته فإنه لا يحكم إلا حكما جامعا لشرائط الصحة وأما المطلوب له وهو موافقة الحق في نفس الأمر فهذا لم يعصم عن مخالفته لأنه يجوز أن يكون الحكم على خلاف ذلك ولذلك قال فإنما أقطع له قطعة من نار وكذلك من تحرى القبلة الواجب عليه التحري والمطلوب له بيان العين والممتنع وقوعه من المعصوم مخالفته الأول دون الثاني وخلاصته أنه عصم عما وجب عليه أن يخل به ولم يعصم عن الإخلال بما يطلبه ويريده من الإتيان بالواجب على الوجه المطابق لما في نفس الأمر فإنه يطلب الإتيان به عليه لكنه لم يعصم عن أن يخطئه قلت ولك أن تقول من أين أن المطلوب له ما في نفس الأمر بل مطلوبه ما أرشد إليه الدليل طابق أو لم يطابق واعلم أن المدعى فيه جواز الخطأ من الرسل هو فيما كان عن اجتهاد لا ما كان عن وحي من الله يبلغونه إلينا فإنه لا يجوز فيه عليهم الخطأ ولا يقول أحد بجوازه قلت ومن هنا نقول حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبينة التي نص الله عليها بقوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية ليس من الاجتهاد بل من النص

(1/212)


فلا يجري فيه الخطأ وقوله صلى الله عليه وسلم فإنما أقطع له قطعة من نار ليس إعلاما بأنه قد يخطئ في حكمه بل قاله صلى الله عليه وسلم إعلاما بأن الله ناط الأحكام الشرعية بأمر ظاهر ليس فيه إطلاع على حقيقة ما في نفس الأمر فلا يغتر من حكم له ببينة يعرف المحكوم له عدم صحتها أنه قد صار ما حكم له به حلالا هذا وأقول قول يعقوب يحتمل أن مراده ما نسبتم إليه من قولكم {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} من تزيين النفس وتسويلها لكم لا أنه سرق حقيقة كما جزمتم به وقد كان كذلك فإنه لم يسرق بل وضع الصواع في متاعه ووجدانه فيه لا يدل على سرقته له فما كان لهم أن يجزموا ويقولوا {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} ويقولوا ليوسف {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} فهذا كله يشعر أنه من تسويل نفوسهم وأنه كان فيها شيء على أخيهم سيما بعد قولهم {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أي ليس من شأننا الاتصاف بذلك وقوله وأحاديث سهو النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة يقال الكلام في جواز الخطأ في الاجتهاد والنسيان ليس من ذلك وإن كانت عبارته في قوله تجويز ظن الخطأ عامة لكن الخطأ غير النسيان لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان أو نحو هذا اللفظ ثم لنا ههنا بحث وهو أنا نسلم جواز خطأ المعصوم لما ذكره السيد

(1/213)


محمد رحمه الله من الأدلة ولكنا نقول إنه لا يخفى أن اتباع المعصوم قطعي الوجوب على المكلفين سواء أصاب ما في نفس الأمر أو أخطأه لا فرق في وجوب الإتباع فإن مناطه ثبوت المعجزة لمدعي النبوة وثبوت دليل عصمة الأمة في حجية الإجماع فاتباعه قطعي الوجوب اتفاقا فيما كان عن الله كذلك اتباعهم فيما جوزنا أنه غير مطابق لما في نفس الأمر وكان عن اجتهاد لأن اتباعهم واجب قطعا معلوم من ضرورة الدين سواء كان عن وحي أو اجتهاد كما يدل له {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولم يقيده بوحي ولا اجتهاد ولذا قال السيد إبراهيم في الفصول وأما مخالفته أي المعصوم إذا جوز خطأه فيحرم إجماعا انتهى إذا عرفت هذا عرفت أولا أنه لا وجه لتجويزنا خطأه وثانيا على تقدير الخطأ أنه لا فرق في وجوب الاتباع بين الأمرين وأنه قطعي فيهما وأن من قال له الرسول صلى الله عليه وسلم افعل كذا وجب عليه امتثاله قطعا سواء قاله عن اجتهاد أو عن وحي وأما النظر إلى إصابة ما في نفس الأمر أو عدمها فلا تكليف به وإذا عرفت هذا فقد جعل السيد محمد عصمة الأمة كعصمة الرسل فالحكم واحد فيما أجمع عليه وفيما صدر عن الرسل لأن الكل حجة

(1/214)


ثم إن الأصل في حكم المعصوم مطابقته لما في نفس الأمر للعلم القطعي بأن ما طابق ما في نفس الأمر من أفعال الرسل أكثر مما خالف فإن المخالف أندر شيء بالنسبة إلى ما طابق على أنه لا سبيل لنا إلى العلم بأن المعصوم أخطأ ما في نفس الأمر إلا بوحي ولا يخفى أن كلامه هنا في عصمة الإجماع وأنه يجوز فيه الخطأ وقد علمت أنه لا إجماع إلا بعد عصر النبوة كما علم من حقيقة الإجماع وحينئذ فلا يعلم ولا يظن خطأ إجماع لما طلب أصلا والأصل المطابقة وبعد تحقيقك ما قررناه تعلم أن هذا السر الذي ذكره السيد محمد في كتبه لا طائل تحته ومراده الرد على من ذكره من القائلين بان ما أخرجه الشيخان مقطوع بصحته فإنهم استدلوا بأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ والسيد محمد رحمة الله رد هذا الدليل بتجويز خطأ المعصوم في ظنه وأورد ما دل على وقوعه من الرسل مع عصمتهم يريد والخطأ يجوز في الإجماع فإنه لم يناف العصمة قلت وإن لم يعلم وقوعه من الأمة لما عرفت من أنه لا يعلم خطأ المعصوم إلا بالوحي ولا إجماع إلا بعد انقطاعه وعلمت وجوب اتباع المعصوم وحجية ما قاله على الأمة وإن جوز أنه خطأ وهذا قد أفاده قول السيد محمد ولا يمتنع أن يدخل الظن في الاستدلال ثم يجب القطع باتباعهم فيقال حينئذ قد وجب القطع

(1/215)


باتباع الأمة في تلقيها أحاديث الصحيحين بالقبول سواء قلنا برأي ابن الصلاح أو برأي النووي فلا فرق فضاع إبداء هذا السر ولم ينفع فيما أريد نفعه فتأمل قلت إلا أن لنا هاهنا أبحاثا الأول أن أحاديث عصمة الأمة إنما وردت بما يفيد عصمتها عن الضلال لا عن الخطأ كما عرف من مجموعها وقد ساقها أئمة الأصول في بيان حجية الإجماع وهذا سهل لأنه بعد ثبوت حجية الإجماع يجب اتباعه وإن جوز أنه خطأ الثاني ظاهر كلام الجميع ممن قدمنا ذكره من الأعلام أن الأمة أي مجتهديها لأنهم المعتبرون في الإجماع تلقوا كل حديث من أحاديث الصحيحين بالقبول ولذا قال الحافظ وهذا أي التلقي يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ إلى آخره ويقال عليه إنه لا بد من إقامة البينة على هذه الدعوى وهذه هي دعوى الإجماع الذي قال فيه أحمد بن حنبل إن من ادعاه فهو كاذب ثم إنه يغلب في الظن أو يحصل القطع بأن في مجتهدي الأمة من لا يعرف أحاديث الصحيحين فإن معرفتهما بخصوصهما ليست شرطا في الاجتهاد قطعا بل صرح إمام الشافعية الغزالي أنه يكفي فيه سنن أبي داود وصرح السيد محمد في كتابه القواعد إنه يكفي فيه التلخيص الحبير فكيف تروج دعوى أن كل مجتهد في مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وعدنها قد فتش

(1/216)


عن كل فرد فرد من أحاديث الصحيحين ثم تلقاه بالقبول بأن يكون عاملا به أو متأولا له إذ هذا معنى التلقي بالقبول عند أهل الأصول والسيد محمد رسمه في كتبه بأنه ما حكم المعصوم بصحته ضمنا وهو يوافق رسمهم لأنه لا عمل ولا تأويل إلا لما صح وقد بسطنا هذا في شرح التنقيح ورسالة ثمرات النظر في علم الأثر ولا تستطيل ما ذكرناه فإنا رأينا تطبيق الأئمة الجهابذة النقاد على ذلك فاستبعدناه الثالث أنه لو تم الدعوى لما تم الجزم بالصحة لأن الحسن يعمل به كما يأتي فالتلقي بالقبول شمله فيدل التلقي على الصحة أو الحسن لا على الصحة خاصة ولعله يأتي في بحثه.

[مسألة الغريب المطلق والغريب النسبي:]
(19) هذا على المختار والغرابة ... قسمان فيما قال ذو الإصابة
قد عرفت أن الغريب أحد الثلاثة الآحادية وهو ما تفرد بروايته شخص واحد في أي موضع من السند وإذا قد عرفت ذلك فإن الغرابة انقسمت إلى قسمين الأول أفاده قولنا

(20) الأول الحاصل في أصل السند ... فسمه المطلق والثاني ورد
(21) فيما عداه سمه بالنسبي ... وهو قليل ذكره في الكتب
المراد بأصل السند الموضع الذي يدور عليه الإسناد ويرجع ولو تعددت الطرق إليه وهو طرفه الذي فيه الصحابي وذلك بأن يرويه تابعي واحد عن صحابي ولا يتابعه غيره في روايته عن ذلك الصحابي سواء تعدد الصحابي في تلك الرواية أو لا وأما انفراد الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس

(1/217)


غرابة إذ ليس في الصحابة ما يوجب قدحا فهذا القسم يسمى بالغريب المطلق قال السيد محمد في مختصره ويقل وجوده انتهى قلت ولم أجد هذا في غيره وقال ابن حجر إن أمثلة الفرد المطلق كثيرة وساق منها في كتابه النكت كثيرا فينظر في كلام السيد ثم قال الحافظ هنا ومثلوه بحديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته تفرد به عبدالله بن دينار عن ابن عمر وقد يتفرد به راو عن ذلك المنفرد كحديث شعب الإيمان تفرد به أبو صالح عن أبي هريرة وتفرد به عبدالله بن دينار عن أبي صالح ولفظه الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان قال الحافظ وفي مسند البزار والمعجم الأوسط للطبراني أمثلة لذلك كثيرة انتهى قلت وقد قسموه إلى غريب السند وغريب المتن وإلى صحيح وغير صحيح ومثال الصحيح ما رواه ابن وهب متفردا به فقال أخبرني محمد يعني الرعيني عن ابن جريج عن ابن شهاب عن يحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال ليسوا بشيء وأمثال هذا من أفراد الصحيح وأما الغريب الذي ليس بصحيح فكثير وهو الذي حذر منه الأئمة كما قال الإمام أحمد لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وأكثرها عن الضعفاء وأمثلة ذلك كثيرة

(1/218)


وقد عدوا من أنواع الغريب غريب ألفاظ الحديث قالوا وأول من صنف فيه النضر بن شميل وقيل أبو عبيدة معمر بن المثنى وما زال التأليف فيها وأجمعها النهاية لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير وصنف بعد النهاية كتابا فائقا في شرح غريب الأحاديث والآثار الطوال ونحوها سماه منال الطالب في شرح طوال الغرائب ذكر هذا ابن ناصر الدين في كتابه علوم الحديث ويأتي بحث غريب ألفاظ الحديث هذا والثاني هو ما أفاده قولنا والثاني ورد إلى آخره فهذا هو القسم الثاني من الغريب ويسمى بالنسبي بكسر النون وسكون السين المهملة وموحدة ومثناة تحتية مشددة في آخره سموه نسبيا لكون التفرد حصل بالنسبة إلى شخص معين وإن كان الحديث في نفسه مشهورا بأن يكون مرويا من أوجه أخر لم ينفرد فيها راو قال الحافظ ويقل إطلاق الفرد عليه ولذا قلنا وهو قليل ذكره في الكتب أي على الفرد النسبي بل يقال له الغريب غالبا قال لأن الغريب والفرد يترادفان لغة واصطلاحا إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي هذا من حيث إطلاق الاسمية عليهما وأما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون فيقولون في المطلق والنسبي تفرد به فلان أو أغرب به فلان انتهى زاد هنا السيد محمد فإن وافقه أي الفرد النسبي غيرة فهو المتابع بكسر الموحدة وإن وجد متن يشبهه فالشاهد وتتبع الطرق لذاك الاعتبار انتهى ويأتي تحقيقها

(1/219)