إسبال المطر على قصب السكر

 [مسألة في الصحيح وتعريفه وأقسامه:]
(22) وهو بنقل العدل ذي التمام ... في ضبط ما يروي عن الأعلام
(23) متصلا إسناد ما يرويه ... لا علة ولا شذوذ فيه
(24) يدعى الصحيح في العلوم عرفا ... لذاته وإن نظرت الوصفا
قوله وهو أي خبر الآحاد وهذا أول تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع لأنه إما يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا الأول الصحيح لذاته وهو فعيل بمعنى فاعل من الصحة وهي حقيقة في الأجسام واستعمالها فيه مجازا واستعارة والثاني إن وجد ما يجبر ذلك القصور ككثرة الطرق فهو الصحيح أيضا لكن لا لذاته وحيث لا جبر فهو الحسن لذاته وإن قامت قرينة ترجح جانب قبول ما يتوقف فيه فهو الحسن أيضا لكن لا لذاته وقدم الصحيح لذاته لعلو رتبته والمراد بالعدل على ما قاله الحافظ ابن حجر من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروة والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة انتهى كلامه واعلم أنا قد كتبنا على تفسير الحافظ للعدالة كغيره بما ذكر رسالة سميناها ثمرات النظر في علم الأثر ولنشر إلى شيء مما اشتملت عليه وإلا فهي بسيطة مشتملة على فوائد شريفة فنقول

(1/220)


تفسير العدالة بما ذكر وإن تطابقت عليه كتب أصول الفقه وعلوم الحديث وكتب وقد يحذف البعض قيد الابتداع إلا أنهم الكل اتفقوا أنها ملكة .. إلى آخره ثم لا يخفى أن في عبارة الحافظ في رسمه للتقوى قصورا حيث قال والمراد بالتقوى .. الخ فإنه لا بد من زيادة قيد واجتناب المقبحات إذا عرفت تطابقهم على أنها ملكة والملكة هي كيفية راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة يمتنع بها عن اقتراف كل فرد فرد من الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة والرذائل الجائزة كالبول في الطرقات وأكل غير السوقي فيه فأقول ولا ريب أن هذا تشديد في العدالة لا يتم إلا في حق المعصومين وأفراد من خلص المؤمنين بل جاء في الحديث أن كل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون وفي حديث آخر أخرجه البزار المؤمن واه راقع أي واه لدينه بالذنب راقع له بالتوبة تمامه فالسعيد من مات على رقعة وفي الحديث الآخر ما من نبي إلا عصى أو هم الحديث وحديث لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم حديث صحيح

(1/221)


ولا يخفى أن حصول هذه الملكة في كل راو من رواة الحديث عزيز لا يكاد يتفق ومن طالع تراجم الرواة علم ذلك ثم إن الذي عرفوا العدالة بما ذكر لم نجد لهم دليلا على ما قالوه ولا تعرضوا للدليل على ذلك وحيث لا دليل لهم فالبحث لغوي يجب علينا النظر حينئذ لمعناها لغة فرجعنا إلى اللغة فوجدنا في القاموس قال العدل ضد الجور وهو في هذه الألفاظ قليل الإفادة لأنه يقول والجور نقيض العدل فيدور وفي النهاية العدل الذي لا يميل به الهوى وهو وإن كان تفسيرا للعادل فقد أفاد المراد وفي غيرها العدل الاستقامة ولأئمة التفسير في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} أقوال قال الإمام الرازي بعد سرده الأقوال أنه عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط قلت هو قريب من تفسيره بالاستقامة وقد فسر الاستقامة الصحابة وهم أهل اللغة بعدم الرجوع إلى عبادة الأوثان وأنكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه على من فسرها بعدم الإتيان بذنب وقال حملتم الأمر على أشده وفسرها أمير المؤمنين علي عليه السلام بالإتيان بالفرائض انتهى وقال تعالى في الشهود {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} و {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وهو كالتفسير للعدل بالمرضي والمرضي من تسكن النفس إلى خبره ويرضى به القلب ولا يضطرب ومنه {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وفي كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام حدثني رجال

(1/222)


مرضيون وأرضاهم عمر وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فانكحوه وإذا عرفت هذا فقد قال الشافعي في العدالة قولا استحسنه كثير من العقلاء بعده قال لو كان العدل من لم يذنب لم نجد عدلا ولو كان كل ذنب لا يمنع من العدالة لم نجد مجروحا ولكن من ترك الكبائر وكانت محاسنه أكثر من مساويه فهو عدل انتهى قلت وهو قول حسن ويؤيده تفسير أهل اللغة للعدل بنقيض الجور وليس الجور عبارة عن ملكة راسخة توجب إتيان كل معصية ولا الجائر لغة من يأتي بكل معصية بل من غلب جوره على عدله وشره على خيره فالعدل حينئذ هو من قارب وسدد وكان خيره أكثر من شره ثم قد أخد الحافظ عدم البدعة في رسم العدالة وأن المبتدع ليس بعدل ولكنه بعد ذلك كما يأتي يقول بقبول خبر المبتدع الذي لا تقتضي بدعته التكفير وهو يناقض ما هنا ويأتي الكلام عليه ثم قال في تفسير ألفاظ الرسم والضبط ضبط صدر وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من إحضاره متى شاء وضبط كتاب وهو صيانته لديه منذ سمعه وصححه إلى أن يؤدي منه وقيد بالتام إشارة إلى المرتبة العليا في ذلك والمتصل ما سلم إسناده من سقوط فيه بحيث يكون كل من رجاله سمع ذلك المروى من شيخه والسند تقدم تعريفه والمعلل لغة ما فيه علة واصطلاحا ما فيه علة خفيه قادحة

(1/223)


والشاذ لغة الفرد واصطلاحا ما يخالف الراوي من هو أرجح منه وله تفسير آخر سيأتي انتهى كلام الحافظ وقوله والمروءة هي بضم الميم والراء بعدها واو ساكنة ثم همزة وقد تبدل وتدغم ولم يفسرها الحافظ وفسرها غيره فقال وهي كمال الإنسان من صدق اللسان واحتمال عثرات الإخوان وبذل الإحسان إلى أهل الزمان وكف الأذى عن الجيران وقيل المروءة التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه ولداته في لبسه ومشيه وحركاته وسكناته وسائر صفاته قاله الهروي وقوله وقيد بالتمام .. إلخ قيل عليه إن كان هذا هو التمام فلا تتحقق المراتب فإن من لم يكن له هذه الحيثية فهو سيء الحفظ أو ضعيفه ثم الضبط بالكتاب لا يتصور فيه تمام وقصور وبالجملة ففي التعريف تجهيل انتهى وقال السيد محمد في رسم الصحيح والصحيح من الآحاد نقل عدل تام الضبط متصل السند غير معل وعند من يقبل المرسل نقل عدل غير مغفل بصيغة الجزم دون صيغة التمريض والبلاغ انتهى قلت ذكر الحافظ خمسة شروط للصحيح ثلاثة وجودية واثنين عدمية وهي الاتصال وعدالة الراوي وهي ترجع إلى الدين وضبطه وهي ترجع إلى الحفظ والفطنة والعدميان عدم الشذوذ وعدم العلة وقيدها بكونها خفية قادحة لأن العلة الظاهرة ترجع إلى ضعف الراوي أو عدم اتصال السند وقد تقدم الاحتراز عنهما بقوله متصل السند بنقل العدل الضابط فإذا عدم أحدهما

(1/224)


عدما ظاهرا سمي باسمه من انقطاع أو ضعف أو نحوهما من أول وهلة فلا تكون العلة أمرا ظاهرا إلا إذا كانت مع قدحها خفية وفي كلام الحافظ في نكته على ابن الصلاح زاد أهل الحديث أي في تعريف الصحيح قيدي عدم الشذوذ والعلة لأن أحدا لا يقول أن الحديث يعمل به وإن وجدت فيه علة قادحة غايته أن بعض العلل التي ذكروها لا يعتبرها الفقهاء فهم إنما يخالفونهم في تسمية بعض العلل علة لا في أن العلة توجد ولا تقدح وأهل الحديث يشترطون في الحديث الذي اجتمعت فيه الثلاثة الأصناف مزيد تفتيش حتى يغلب أنه سالم من الشذوذ والعلة والفقهاء لا يشترطون ذلك بل متى اجتمعت الثلاثة الأوصاف سموه صحيحا ثم متى ظهر أنه شاذ ردوه قال فلا خلاف بينهما في المآل إنما الخلاف في تسميته في الحال بعد وجود الأوصاف الثلاثة والفريقان مجمعون على أن العلة القادحة متى وجدت ضرت قلت وقد قيل إن مرادهم بعدل الرواية عدل يضبط مرويه كما أن عدل الشهادة يشترط فيه مع العدالة أن يكون ضابطا لما يشهد به فالمغفل متوقف فيه رواية وشهادة وإن كان عدلا في الدين فمن يكون كثير الخطأ فاحش الغلط لا يكون عدلا في شهادة ولا رواية فالاقتصار على العدالة حينئذ كاف عن التقييد بالضبط وبهذا القيد أي قيد العدالة اكتفى الخطابي إذا عرفت هذا فلا وجه لحذف قيد الشذوذ في رسم السيد محمد فإنه قيد معتبر وإن أراد أنه حد الصحيح على اصطلاح الفقهاء فلا وجه لزيادة قيد عدم العلة ولا لحذف وصفها بأنها خفية قادحة كما قاله الحافظ كما أنه لا وجه لزيادته في رسم

(1/225)


المرسل ووصف العدل بأنه غير مغفل فإن المغفل لا يقبل في مسند ولا مرسل ولكن قوله غير معل قد أفاد إخراج العلة القادحة الخفية لأن المعل ما فيه علة قادحة خفية ولا يكون معلا إلا إذا اشتمل على علة موصوفة بالوصفين كما قاله البقاعي وبهذا يندفع إيراد أنه لا وجه لحذف وصفها بالخفاء والقدح وقولنا وإن نظرت الوصفا أي الذي يقتضي التصحيح في القوة وهي قيود التعريف فإنها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية وإلى إفادة ذلك [أتى قولنا:]

(25) وجدت فيه ثابتا وأثبتا ... لأجل هذا قدموا ما قد أتى
(26) عن البخاري من صحيح ألفا ... وبعده لمسلم مصنفا
وجدت فيه أي في الصحيح ثابتا أي صحيحا وأثبتا أي أصح قال الحافظ إنها لما كانت الأوصاف مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية فإذا كان كذلك فما يكون راويه في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه وهنا ذكر الحافظ ما قيل في أصح الأسانيد وقد نقل ذلك السيد محمد في التنقيح وأوضحناه في شرحه التوضيح فلا حاجة إلى ذكره هنا لأنه

(1/226)


ليس من القواعد التي يفتقر إلى معرفتها إنما هي أفراد وأمثلة كل من الأئمة قال ما رجح عنده قالوا ومن المراتب العلية ما جعلوه بعدما قيل فيه أصح الأسانيد على ما اتفق الشيخان على تخريجه بالنسبة إلى ما انفرد به أحدهما وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما انفرد به مسلم لاتفاق العلماء بعدهما على تلقي كتابيهما بالقبول واختلاف بعضهم في أن أيهما أرجح فما اتفقا عليه أرجح من هذه الحيثية مما لم يتفقا عليه وقد صرح الجمهور بتقديم البخاري في الصحة ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه ولا يقال إن الاختلاف في أن أيهما أرجح تصريح بالنقيض لأنا نقول كأنهم لم يصرحوا به وإنما أخذ من إطلاقاتهم وما يفهم من كلامهم ولم يكن منهم تصريح بذلك وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم فلم يصرح بأنه أصح من صحيح البخاري لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم إذ المنفي إنما هو ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارك كتاب مسلم في الصحة يمتاز بتلك الزيادة عليه ولم ينف المساواة هذا تأويل الحافظ لكلام أبي علي قلت ولا يخفى بعد تسليمه أنه آل معنى كلام أبي علي أن كتاب البخاري ومسلم سواء في أنه ليس تحت أديم السماء أصح منهما وليس هذا

(1/227)


محل النزاع ولا هو المطلوب بل المطلوب أن كتاب البخاري أصح من كتاب مسلم قال البقاعي إنه قد حقق السعد التفتازاني هذا البحث في شرح المقاصد بما حاصله إن هذه الصيغة تارة تستعمل على مقتضى أصل اللغة فتنتفي الزيادة فقط وتارة على مقتضى ما شاع من العرف فتنتفي المساواة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم ما طلعت ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر ذكره المحب الطبري في مناقب العشرة عن الدارقطني والمخلص الذهبي من حديث أبي الدرداء وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكنه إنما سيق لأفضلية المذكور والسر في ذلك أن الغالب من حال كل اثنين هو التفاضل دون التساوي فإذا نفي أفضلية أحدهما ثبت أفضلية الآخر وبمثل هذا ينحل الإشكال المشهور على قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وغيره واللفظ له من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ذلك أو زاد عليه لأنه في معنى أن من قال ذلك فقد أتى بأفضل مما جاء به كل أحد إلا أحدا قال مثل ذلك أو زاد فالاستثناء بظاهره من النفي والتحقيق أنه من الإثبات ويصير ذلك كالحديث الذي رواه البزار من رواية جابر الجعفي عن أبي المنذر الجهني قال قلت يا نبي الله علمني أفضل الكلام قال يا أبا المنذر قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده

(1/228)


الخير وهو على كل شيء قدير مائة مرة فإنك يومئذ أفضل الناس عملا إلا من قال مثل ما قلت انتهى قال الحافظ فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأشد وشرطه فيها أقوى وأشد أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عدداً من الرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم بخلاف مسلم في الأمرين وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم هذا مع اتفاق العلماء أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث منه وأن مسلما تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره حتى لقد كان يقول الدارقطني لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء انتهى وقد بينا في شرح التنقيح ما في كلام الحافظ وشرحناه مفصلا فهذه الوجوه التي بها قدم صحيح البخاري ثم بعده مسلم لمشاركته للبخاري في تلقي العلماء كتابه بالقبول أيضا إلا ما علل قالوا ثم يقدم ما وافقه شرطهما قال الحافظ لأن المراد به أي

(1/229)


شرطهما رواتهما مع ما في شروط الصحيح ورواتهما قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل فإن كان الخبر على شرطهما معا كان دون ما أخرجه مسلم كذا قال قيل عليه الذي يقتضيه النظر أنه إذا كان على شرطهما وليس له علة مقدم على ما أخرجه مسلم وحده لأن قوة الحديث إنما هي النظر إلى رجاله لا بالنظر إلى كونه في كتاب كذا قلت بل ويقتضي أنه مقدم على ما أخرجه البخاري أيضا وحده لأنه لما كان الخبر على شروطهما معا صار كالمتفق عليه عندهما وهو مقدم على ما انفرد به واحد منهما إلا أنه قال البقاعي إنما تأخر ما هو على شرطهما عما أخرجه أحدهما لأن الذي أخرجه أحدهما تلقته الأمة بالقبول بخلاف ما كان على شرطهما ولم يخرجاه واعلم أن الحافظ جزم هنا أن شرط الشيخين رواتهما وقد اختلف أئمة الحديث في شرطهما لأنهما لم يذكرا شرطا قال النووي إنه ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما قلت إنما العلماء الباحثون تتبعوا ما فيهما حتى تحصل لكل ناظر ما عده شرطا واختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا قد بسطناه وما يرد عليه في شرحنا على تنقيح الأنظار مالم يسبق به النظار وقررنا أنه إذا لم يعرف شرطهما إلا بالتخمين والتنحيت فالأحوط للورع أن يتوقف

(1/230)


ويمسك عن الجزم بوصف حديث لم يخرجاه في كتابيهما بأنه على شرطهما لأن شرطهما غير معلوم جزما فكيف يجزم بوصف حديث بذلك ويصححه مع الشك فيما يوجبه ويتفرع عنه تصحيحه والشك لا يتفرع عنه يقين وأحسن ما يحمل عليه من قال في حديث لم يخرجاه أنه على شرطهما أي في ظنه أن لهما شرطا وأنه ما ظنه فكيف يقال إنه يستحق التقديم ما وصف بأنه على شرطهما فإنه إن كان تقديمه بالنسبة إلى الظان من المجتهدين بأنه شرطهما فهو مخاطب بظنه ومأمور بالعمل به ما لم يجد رتبة أرفع من الظن وإن كان بالنسبة إلى غيره من المقلدين أو المجتهدين فلا يلزمهم ظن غيرهم ولا يجوز العمل به والحافظ وغيره يسوقون هذا أي تقديم ماهو على شرطهما مساق التقيد كما يسوقون تقديم ما اتفقا عليه أو ما انفرد به البخاري ثم مسلم لكن هذا قد ذكروا دليله وهو تلقي الأمة بالقبول على ما فيه مما أسلفناه آنفا بخلاف ما هو على شرطهما فإنهم لم يتفقوا على شرط لهما ولا صرحا هما بأن لهما شرطا وكلام السيد محمد في مختصره مثل كلام الحافظ فإنه قال ثم شرطهما عملا بالغالب عند الجهل انتهى فاستدل لما قاله من تقديم ما هو على شرطهما بعدهما بأنه عمل بالغالب كأنه يقول فإن غالب شرطهما الصحة لكنا نقول نعم لو علم لكنه في حيز الدعوى عليهما أولا ثم في حيز الجهالة ثانيا كما عرفت فتحصل كما قال الحافظ ستة أقسام ما اتفقا عليه ما أخرجه البخاري ما أخرجه مسلم ما كان على شرطهما معا على شرط البخاري وحده على شرط مسلم وحده إلا أنه قد أورد على هذا أقسام زائدة على ما عده هي من الصحيح الأول المتواتر فيكون أعلى الأقسام وأجيب بأنه لا يرد لأنه لا يشترط فيه عدالة الراوي والكلام في الصحيح الذي سبق تعريفه

(1/231)


الثاني المشهور الذي فقد فيه بعض شروط التواتر الثالث ما اتفق عليه الستة قال الحافظ ولا يرد منهما إلا المشهور وأنا متوقف في رتبته هل هي قبل ما اتفقا عليه أو بعده وأما ما أخرجه الستة فلا يرد فإنه قسم لا قسيم إذ قد اندرج تحت ما أخرجاه وقد تعقب البقاعي كلام شيخه الحافظ بما فيه طول.
[تنبيه]
قال ابن الهمام الحنفي في شرح الهداية وقول من قال أصح الأحاديث ما في الصحيحين ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم ثم ما اشتمل على شرطهما تحكم لا يجوز التقليد فيه إذ الأصحية ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الصحيحين الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم ثم حكمهما أو أحدهما بأن الراوي يجمع تلك الشروط مما لا يقطع فيه بمطابقة الواقع فيجوز كون الواقع خلافه وقد أخرج مسلم عن كثير في كتابه ممن لم يسلم من غوائل الجرح وكذا في البخاري جماعة تكلم فيهم فمدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم وكذا في الشروط حتى أن من اعتبر شرطا وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه الشرط مكافيا بمعارضته الذي اشتمل على ذلك الشرط وكذا فيمن ضعف راويا ووثقه الآخر نعم تسكن نفس غير المجتهد ومن لم يجد أمرا بنفسه إلى ما أجمع عليه الأكثر أما المجتهد فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه فإذا صح في غير الكتابين عارض ما في الكتابين انتهى قلت وهنا يذكرون عدة أحاديث البخاري قال الحافظ في

(1/232)


مقدمة شرح البخاري إنه عده بنفسه فبلغت أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعين حديثا وبلغ ما فيه من التعاليق ألفا وثلاثمائة وإحدى وأربعين حديثا فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا وهذه العدة خارجة عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات على التابعين فمن بعدهم وبلغت أحاديثه بلا تكرار ألفين وخمسمائة وثلاثة وعشرين نقل هذا البقاعي إلا أنه قال إنه راجع نسخته من المقدمة وقد قرأها على الحافظ فوجدها بلفظ فجميع مافي صحيح البخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير ألف حديث وستمائة حديث وحديثان ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثا فجميع ذلك ألفا حديث وسبعمائة حديث وأحد وستون حديثا قال الحافظ في النكت ذكر النووي عدة أحاديث مسلم فقال إن عدة أحاديثه نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرر ولم يذكر عدته بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري لكثرة طرقه وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنه اثنا عشر ألف حديث قال البقاعي ومما نقل عن خطة شيخنا أن الجوزقي قال إن عدة الأحاديث التي اتفق الشيخان عليها ألفا حديث ومائتا حديث وذكر نحو هذا القاضي أبو بكر بن العربي فقال أحاديث الأحكام التي اشتمل عليهما الصحيحان نحو ألفا حديث انتهى قلت إلا أنه خصها بأحاديث الأحكام والأول بالمتفق عليه

(1/233)


[مسألة القسم الثاني الحسن:]
أشار إليه قولنا:

(27) وبعد ذا شرطهما وإن من ... يخف ضبطا فالذي يروي الحسن
(28) لذاته وقد يصح إن أتت ... طرق له بكثرة تعددت
قد عرفت معنى قوله وبعد ذا شرطهما وهو شامل لثلاثة أقسام من الصحيح وإن لم يفصله النظم فالسياق قد أفهم المراد قال الحافظ خف ضبطه أي قل يقال خف القوم خفوفا قلوا والمراد مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح يريد من اتصال السند والعدالة وعدم الشذوذ والعلة فهذا هو الحسن لذاته لا لشيء خارج وهو الذي يكون حسنه بحسب الاعتضاد نحو حديث المستور إذا تعددت يريد الراوي الذي لم تحقق عدالته ولا جرحه قال السخاوي المستور من لم ينقل فيه جرح ولا تعديل وكذا إذا نقلا ولم يترجح أحدهما قال ويخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في الاحتجاج به ومشابه له في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض انتهى كلام الحافظ وأقول اعلم أن أقوال الأئمة قد اختلفت في الحديث الحسن فقال الخطابي هو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء قال الترمذي ما ذكرنا في هذا الكتاب يعني كتاب السنن حديثا حسنا فإنما أردنا حسن إسناده وهو كل حديث يروى ولا يكون في

(1/234)


إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن انتهى وقد اعترض القولان وأوضحنا في شرح التنقيح ما قيل في ذلك وما رد به عليه قال ابن الصلاح وقد أمنعت النظر في ذلك جامعا بين أطراف كلامهم فاتضح لي أن الحسن قسمان أحدهما لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته على أنه ليس مغفلا كثير الخطأ ولا متهما بالكذب في الحديث ولا بفسق ويكون متن الحديث قد عرف بمتابع أو شاهد فيخرج عن كونه شاذا أو منكرا وكلام الترمذي على هذا يتنزل الثاني أن يكون رواته من المشهورين بالصدق والأمانة لكن لا يبلغ درجة الصحيح لكونهم أنقص منهم في الحفظ والإتقان مع سلامة الحديث وهو مع ذلك يرتفع عمن يعد ما ينفرد به منكرا ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من الشذوذ والنكارة سلامته من أن يكون معللا وعلى هذا يتنزل كلام الخطابي انتهى قلت والسيد محمد جمع تعريف الحافظ مع زيادة بعض قيود ابن الصلاح فقال في مختصره فإن خف الضبط وكان من جنسه تابع أو شاهد فالحسن انتهى ولم يقل لذاته هذا ولا يخفى أن خفة الضبط أمر فيه جهالة فهو رسم لمجهول ثم قال السيد وأدلة قبول الآحاد تشمله وإن انفرد أي خفيف الضبط عند الأصوليين خلافا للبخاري وإن توبع قوله تشمله أي لكونه مظنون العدالة مظنون الصدق

(1/235)


وقوله وإن انفرد أي فإنه يعمل به عند أهل الأصول لكونه خبرا آحاديا قد قام الدليل على قبوله وخالف البخاري فقال لا يعمل به في التحليل والتحريم وإن وجد له متابع والحاصل أن كلام العلماء مضطرب في رسم الحسن ولا سلم رسم من الاعتراض حتى قيل لا يطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان تحتها فإنا على إياس من ذلك قاله الذهبي نقله عنه ابن ناصر الدين ثم قال وما أحسن ما قال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني نوع الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر كان شيئا ينقدح في نفس الحافظ قد تقصر عبارته عنه كما قيل في الاستحسان فلذلك صعب تعريفه وقوله وقد يصح إلى آخره قال الحافظ وإنما يحكم له بالصحة عند تعدد الطرق لأن للصورة المجموعة قوة تجبر القدر الذي يضر به ضبط راوي الحسن عن راوي الصحيح وقال السيد محمد وبكثرة طرقه يصح اجتهادا وإنما قيده بالاجتهاد لأن المجتهد هو الذي يتمكن من معرفة الطرق ويرتقي عنده إلى رتبة الصحيح والحسن كما قال ابن ناصر الدين نوع متجاذب بين الصحة والضعف قال وقد أدرجه جماعة في قسم الصحيح لأنه إن قوي ارتفع إلى الصحة كسماك عن عكرمة عن ابن عباس وهو أدنى مراتب الصحيح وإن لم يقو ينحط عن مرتبة الصحيح ويرتفع عن الضعف كبهز عن أبيه عن جده وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ومحمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومحمد بن إسحاق عن جده إبراهيم التيمي عن أشياخه ونحو ذلك ودونه في المرتبة أحاديث الحارث الأعور وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة وحصيف وأمثالهم فبعضهم يحسنها وآخرون يضعفونها انتهى

(1/236)


(29) وإن ترى الراوي له قد جمعا ... في الوصف بالصحة والحسن معاً
لما وقع للحافظ الترمذي وصف كثير من الأحاديث بالصحة والحسن معا مع أنهما متغايران رسما وقد يزيد الوصف بالغرابة تكلم العلماء في توجيه ذلك قال الحافظ في النخبة فإن جمعا فللتردد كما أفاده قولنا

(30) فإنه عند انفراد من روى ... تردد العالم في هذا وذا
أي أنه تردد المجتهد في الراوي هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها وهذا حيث يحصل منه التفرد يتلك الرواية قال الحافظ وعرف بهذا جواب من استشكل الجمع بين الوصفين فقال الحسن قاصر عن الصحيح ففي الجمع بين الوصفين إثبات لذلك القصور ونفيه ومحصل الجواب أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين فيقال فيه حسن باعتبار وصفه عند قوم صحيح باعتبار وصفه عند قوم غاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح لأن الجزم أقوى من التردد وهذا حيث حصل التفرد فإن لم يحصل التفرد بل حصل التعدد وأطلق الوصفين معا على الحديث فقد أفاد جوابه قولنا

(31) ما لم يكن فوصفه بذين ... كان اعتبار منه لاسنادين
ما لم يكن أي يوجد التفرد بل حصل التعدد في الرواة ووصف بالأمرين فإنه وصف بهما اعتباراً للاسنادين فإن أحدهما صحيح والآخر حسن وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح فقط إذا كان فردا لأن كثرة الطرق تقوي ولكنه لما كان

(1/237)


الترمذي هو الذي يجمع بين الوصفين لا يتم هذا الجواب الآخر على رأيه إذ مبناه على تعدد الطرق والحال أنه قد يصرح الترمذي نفسه بأنها غير متعددة بل ويضيف إلى تفرد الراوي وصف الحديث بالغرابة فيقول حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه فكيف يتم هذا التوجيه الآخر قلنا قال الحافظ فإن قيل قد صرح الترمذي بان شرط الحسن أن يروى من غير وجه فكيف يقول في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه فالجواب أن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقا وإنما عرفه بنوع خاص منه وقع في كتابه وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب وفي بعضها حسن صحيح وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب وفي بعضها حسن صحيح غريب وتعريفه إنما وقع على الأول فقط وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في أواخر كتابه وما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا لأن كل حديث يروى لا يكون راويه متهما بالكذب ويروى من غير وجه نحو ذلك ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط أما ما يقول فيه حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريفه كما لم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط وكأنه ترك ذلك استغناء بشهرته عند أهل الفن واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط إما لغموضه وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله عندنا ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي وبهذا التقرير يندفع كثير من الإيرادات التي طال البحث فيها ولم يسفر وجه توجيهها فلله الحمد على ما ألهم وعلم انتهى وهو كلام حسن

(1/238)


إذا تم أنه لا يقول الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه إلا فيما وصفه بأي صفة من صحيح أو غريب أو حسن مع أيهما أو معهما وهذا يفتقر إلى تتبع الترمذي في أبواب سننه وحديثهما هذا وقال السيد محمد فإن وصف الحديث بالصحة والحسن معا فأقول يريد أقوالا لأئمة الحديث في توجيه ذلك ثم ذكرها فقال أحدها باعتبار إسنادين قلت هو الجواب الثاني للحافظ وثانيها أن يكون باعتبار اللغة يشير إلى جواب ابن الصلاح عن الإشكال فإنه قال غير مستنكر أن يراد بالحسن معناه اللغوي دون الاصطلاحي ولما أورد على هذا الجواب أنه يلزم عليه الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ دفعه بقوله هذا الإلزام عجيب فإن ابن الصلاح إنما فرض المسألة حيث يقول القائل حسن صحيح فحكمه بالصحة يمنع معه أن يكون موضوعا وأجاب السيد محمد في التنقيح عن إشكال الجمع بين الوصفين بقوله ويمكن أن الترمذي يريد صحيح الإسناد حسن الاحتجاج به فلا يرد الموضوع لأنع لا يحسن الاحتجاج به قلت الإيراد للشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد على من قال إنه يريد الحسن اللغوي فالجواب بأنه يمكن أنه أراد الترمذي حسن الاحتجاج خروج عن محل الإيراد ولأنه إذ قد وصفه بالصحة علم حسن الاحتجاج به فلا حاجة إلى التصريح به وثالثها أي الأقوال إنه يريد العرف وهو أن يكون أراد صحيح الإسناد والمتن حسنهما ويدخل الحسن تحت الصحيح دخول النوع تحت الجنس كالإنسان تحت الحيوان جعلناه ثالث الأقوال التي أشار إليها السيد وإن كان لم يصرح بأنه الثالث بل عطفه على اللغة عطف النسق لكن لا يخفى أن معناه العرفي غير معناه اللغوي فهو قسيم له لا أنه هو ولا قسم منه وقد حققنا ما أشار إليه وبحثنا في هذا في شرح التنقيح وقال ابن العربي في شرحه

(1/239)


على الترمذي لما قال في أول حديث حسن صحيح قال ونحن نبين معنى قوله هذا زائدا على بيانه أما قوله صحيح فإن الصحيح من الأحاديث له عشر مراتب أولها صحيح مطلق وهو الذي لا خلاف فيه ولا كلام عليه وهو قليل جدا عزيز في الباب الثاني صحيح بنقل عدل واحد الثالث صحيح شاذ بغير شواهد والقسم الثاني ينقسم إلى قسمين نقل عدل واحد عن الصحابي أو نقل عدل واحد عن التابعي ويدخل عليهما ثالث وهو حديث تفرد به واحد من الأئمة فهذه خمسة أقسام ذكر جميعها أبو عيسى واقتصر الجعفي يريد البخاري والقشيري يريد مسلما على الأربعة دون الشاذ السادس المراسيل ذكر الإمامان منها شيئا يسيرا وأهل الحديث ينكرونها والصحيح قبولها على وجه بيناه في أصول الفقه السابع الحديث المدلس اتفق أهل العلم على ذكره والعمل به والتدليس على أقسام لا نطول بذكرها منها حديث يرويه راو عن أحد قد لقيه لم يسمعه منه لكن لا يقول حدثنا فلان إنما يقول عن فلان أو قال فلان الثامن صحيح خولف راويه فيه وفي كل كتاب جملة منها التاسع حديث مبتدع لا يدعو إلى بدعته وفي الصحيح منه جملة في الشواهد ونادر في الأصول لا سيما في غير الأحكام العاشر حديث فيه راو صدوق غير حافظ وليس يصحح أبو عيسى مثله وفي الصحيح مثله في الشواهد وأما قوله حسن فإن بعض أهل العلم قال الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله كحديث البصريين عن قتادة والكوفيين عن أبي إسحاق السبيعي والمدنيين عن ابن شهاب والمكيين عن عطاء وعليه مدار الحديث وقد أكثر منه أبو داود وأبو عيسى وقال أبو عيسى في آخر

(1/240)


كتابه أردت بقولي حسن من لا يكون في سنده متهم بالكذب ولا يكون شاذا ويروى من غير وجه وأما قولي غريب فمعناه أن لا يروى إلا من طريق واحد وقد يروى من طريق فيستغرب إذا جاء من طريق منفردة غيرها انتهى كلام ابن العربي وقد توسع في مسمى الصحيح وكأنه اصطلاح للمالكية وزاد السيد محمد فإن وصف بالغرابة والحسن فباعتبار انقسام رجال الإسناد ومثل أن يكون إسناد الحديث إلى أحد الحفاظ حسنا عن غير واحد لكن ذلك الحافظ تفرد به فهو عنه حسن غير غريب ومنه إلى فوق صحيح غريب انتهى واعلم أنا قد قدمنا الدليل على العمل بالحديث الحسن إنما وقع البحث في الحسن الذي يحكم عليه الترمذي بالحسن بل وما حكم عليه بالصحة وقد أورده السيد محمد سؤالا في التنقيح فقال فإن قيل هل يجوز العمل بما حكم الترمذي بتحسينه وبتصحيحه فإن ابن حزم قد زعم أنه مجهول وإن الحفاظ قد يعترضونه في بعض ما يحسنه أو يصححه ثم ذكر بعض ما بنكر من تصحيحه ثم قال قلنا قد قال الذهبي في ترجمة الترمذي في الميزان أنه حافظ علم ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد ابن حزم إنه مجهول فإنه ما عرفه ولا درى بوجود الجامع ولا العلل التي له انتهى كلامه وفيه ما يدل على جواز الاعتماد على تحسين الترمذي وتصحيحه لانعقاد الإجماع على ثقته وحفظه في الجملة ولكنه لما ندر منه الغلط الفاحش استحسنوا اجتناب ما صحح أو حسن انتهى إلا أنه نقل السيد محمد عن الذهبي قبيل هذا أنه قال لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي ذكره في ترجمة كثير بن عبدالله فقال السيد محمد مراد الذهبي أنهم لا يعتمدون عليه في تصحيحه لحديث كثير بن

(1/241)


عبدالله بخصوصه لا بكل ما صححه قال وهوخطأ نادر والعصمة مرتفعة من الأئمة الحفاظ والعلماء ثم أطال في ذكر عذر الترمذي في تصحيحه لحديث كثير وقرر العمل بما صححه أو حسنه وقد أوضحناه في شرح التنقيح.
...

[مسألة في زيادة العدل:]
(32) وإن أتت زيادة للرواية ... فإنها تقبل لا المنافيه
(33) لأوثق منه ومهما خولفا ... بأرجح فسمه معرفا
قال الحافظ وزيادة راوي أيهما أي الصحيح والحسن مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق منه ممن لم يذكر هذه الزيادة فقوله زيادة أي في الصحيح والحسن إذ الكلام فيهما فهو غني عن التقييد بهما مع أن التعريف في الرواية دال عليه إذ المراد به رواية الصحيح والحسن وقولنا للراويه صيغة دالة على أنه الذي عرف بالرواية وشهرتها بين الأئمة وهو العدل لأنه لا يتصف الحديث بأيهما إلا حديث العدل وقيدنا قبولها بعدم المنافاة لرواية من هو أوثق من لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينهما وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقا لأنها في حكم الحديث المستقل الذي تفرد به الثقة ولا يرويه غيره وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح

(1/242)


واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه والعجب ممن أغفل ذلك مع اشتراطهم لانتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين وعد جماعة منهم ثم قال وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة انتهى وزاد السيد محمد قيدا أو جعله على قيد الحافظ وهو عدم منافاتها رواية من هو أوثق يعني وإن لم تناف رواية الأوثق فإنها ترد للعلة وكأن الحافظ لم يذكر هذا القيد للعلم به لاستفادته من السياق فإن الكلام في زيادة العدل في روايته حديثا صحيحا أو حسنا وقد عرف من تعريفهما عدم العلة فالزيادة المعلولة لا تتصف بما اتصف به المزيد عليه وكلامنا في زيادة بصفتها ليصح اسمها زيادة وإلا فهي حديث منفرد مستقل واعلم أن لأهل أصول الفقه كلاما في الزيادة فإن صادمت ما رواه الثقات بحيث يتعذر الجمع بينهما فإنها ترد وأما لا تصادم فينظر فإن تعدد المجلس فإنها تقبل اتفاقا لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر الزيادة في أحد المجلسين دون الآخر وإن اتحد فإن كان غير راوي الزيادة من الرواة في الكثرة بحيث لا يتصور غفلة مثلهم عن مثل تلك الزيادة لم تقبل وإن كانوا ممن يجوز عليهم الذهول والغفلة عن مثلها فالجمهور من المحدثين وأهل الأصول والفقهاء أنها مقبولة وذهب بعض المحدثين وأحمد بن حنبل في رواية عنه إلى أنها لا تقبل احتج الأولون بأن راوي الزيادة عدل جازم بالرواية في حكم ظني فوجب قبولها وسكوت غيره عن نقل ما نقله لا يمنع قبوله ولا يقدح في روايته لجواز الغفلة عن سماعها أي غفلة من

(1/243)


لم يروها وثمة تفاصيل في الزيادة في أصول الفقه هذا وقولنا ومهما خولفا إلى قولنا مسألة المحفوظ والشاذ

(34) بلفظه المحفوظ والمقابلا ... بالشاذ والمحفوظ أن يقابلا
فإنه يتعلق بقولنا فسمه وهو إشارة إلى تقسيم آخر للخبر الآحادي إلى محفوظ وغيره قال الحافظ فإن خولف أي الراوي بأرجح منه بمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالراجح يقال له المحفوظ أي يسمى به لأن الغالب أنه حفظ عن الخطأ وقولنا ومهما خولفا بأرجح فسمه معرفا أي حال كونك بالتسمية معرفا له بها وقولنا والمقابلا عطف على ضمير سمه أي سم ما قابله وهو المرجوح بالشاذ أي سمه شاذا في عرف أئمة الحديث فالشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه لأنه بعد عن رواية بقية الرواة وبعد عن أسباب الترجيح قال الحافظ مثاله ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق ابن عيينه عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس أن رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه الحديث قلت تمامه فجعل صلى الله عليه وسلم ميراثه له وتابع ابن عيينه على وصله ابن جريح وغيره وخالفهم حماد بن زيد فرواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة ولم يذكر ابن عباس

(1/244)


قال أبو حاتم المحفوظ حديث ابن عيينه انتهى فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط ومع ذلك رجح أبو حاتم رواية من هم أكثر عددا منه وعرف بهذا التقرير أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح انتهى وفي التنقيح نقل كلام الناس في الشاذ ثم قال آخره إن ابن الصلاح قال إن الأمر فيه أي الشاذ على تفصيل نبينه فنقول إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان مخالفا لما رواه من هو أحفظ منه لذلك وأضبط كان ما تفرد به شاذا مردودا وإن لم يكن فيه مخالفا لما رواه غيره فينظر في هذا المنفرد فإن كان عدلا ضابطا معتدا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارما له مرجوحا مزحزحا له عن مرتبة الصحيح ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه فإن كان المتفرد به غير بعيد من درجة الحافظ المتقن المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الضعيف وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ قال فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان أحدهما الفرد المخالف والثاني الفرد الذي ليس في روايه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجب الشذوذ وقال ابن الصلاح أيضا وإطلاق الحكم على التفرد بالرد والنكارة والشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث والصواب فيه التفصيل الذي بيناه قال السيد محمد فثبت بهذا أن قدح أهل الحديث بالشذوذ والنكارة مشكل وأكثره ضعيف إلا ما يتبين فيه سبب النكارة والشذوذ انتهى ثم ذكر موقع ذلك من المحدثين وقد زدناه إيضاحا في التوضيح شرحنا على التنقيح إذا

(1/245)


عرفت هذا فكلامنا في المقابل للمحفوظ مع كونه أي المقابل من رواية المقبول وسيناه شاذا وأما إذا كان راوي المقابل غير مقبول بل ضعيفا لسوء حفظه أو جهالته أو نحوهما فقد ألم به قولنا والمحفوظ أن يقابلا.
...

[مسألة المنكر:]
(35) ما ضعفوا فذلك المعروف ... قابله المنكر والضعيف
قال الحافظ ومع الضعف فالراجح يقال له المعروف أي لكونه معروفا عندهم وهو الذي سموه محفوظا لما قابله الشاذ ومقابله يقال له المنكر لأنهم أنكروه قال السخاوي فالمنكر ما رواه الضعيف مخالفا قال الحافظ مثاله أي المنكر ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن حبيب قلت الأول بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وتشديد التحتية مكسورة والثاني بفتح فكسر وهو أخو حمزة بن حبيب الزيات المقري عن أبي إسحاق عن العيزار قلت بفتح العين المهملة وسكون التحتية وألف بين زاي وراء بن حريث بضم المهملة وراء مفتوحة وياء ساكنة بعدها مثلثة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أقام الصلاة وآتى الزكاة وحج وصام وقرا الضيف دخل الجنة قال أبو حاتم هو منكر لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا أي عن ابن عباس وقد رواه حبيب مرفوعا وهو أي الوقف المعروف

(1/246)


قال الحافظ وعرف بهذا أن بين الشاذ والمنكر عموما وخصوصا من وجه لأن بينهما اجتماعا في اشتراط المخالفة وافتراقا في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق والمنكر راويه ضعيف وقد غفل من سوى بينهما انتهى قلت اعترض بعض تلاميذ الحافظ هذا وقالوا بينهما التباين الكلي ونقل عن الحافظ أنه قال مراده بذلك ما فسره به وهو أن بينهما اجتماعا وافتراقا قال فشرط العموم والخصوص موجود هنا وهو وجود مادة يصدق فيها كل منهما لأن لنا راويا واحدا يكون حديثه شاذا ومنكرا شاذ باعتبار أنه صدوق ومنكر باعتبار أنه سيء الحفظ أو مغفل أو فاحش الغلط أو مبتدع فهو ضعيف بهذه الاعتبارات إذ كل واحد من هذه الأوصاف يضعف بها الراوي ولا ينافي أن يكون صدوقا انتهى وهذا الذي سوى بينهما هو ابن الصلاح وقولنا والضعيف زيادة بيان أن المنكر ضعيف لا أنه سماه في النخبة هنا ضعيفا واعلم أنه زاد السيد محمد بعد ذكر هذين القسمين قوله والمساوي منهما أي في الروايتين أي إذا تساوت الروايتان ولم يترجح إحداهما على الأخرى في المتن أو في السند فهو المضطرب وأمثلته معروفة وعبارة السيد بلفظ والمساوي منهما المضطرب فمزجناها بتفسيرها

(1/247)


[مسألة المتابع والشاهد:]
(36) والفرد نسبيا إذا ما وافقه ... سواه سمي عندهم ما رافقه
(37) متابعا بوزن لفظ الواحد ... والمتن ما شابهه بالشاهد
هذا عود إلى بيان حال ما تقدم من الفرد النسبي أنه إن وجد بعد ظن كونه فردا قد وافقه غيره فهو المتابع بكسر الموحدة كما قلنا بلفظ الواحد وقدمنا لك عبارة السيد محمد أن الفرد النسبي إن وافقه غيره فهو المتابع كما هنا هذا والمتابعة على مراتب إن حصلت للراوي نفسه أي دون شيخه فهي التامة وإن حصلت لشيخه أي دون الراوي نفسه فمن فوقه فهي القاصرة ويستفاد منها أي تامة كانت أو قاصرة التقوية مثال المتابعة أي الشاملة للتامة والقاصرة ما رواه الشافعي في الأم عن مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين فهذا الحديث بهذا اللفظ ظن قوم أن الشافعي تفرد به عن مالك فعدوه في غرائبه لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسناد بلفظ فإن غم عليكم فاقدروا له لكن وجدنا للشافعي متابعا وهو

(1/248)


عبدالله بن مسلمة القعنبي كذلك أخرجه البخاري عنه عن مالك وهذه متابعة تامة ووجدنا له أيضا متابعة قاصرة في صحيح ابن خزيمة من رواية عاصم بن محمد عن أبيه محمد بن زيد عن جده عبدالله بن عمر بلفظ فكملوا ثلاثين وفي صحيح مسلم من رواية عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ فاقدروا ثلاثين ولا اقتصار في هذه المتابعة سواء كانت تامة أو قاصرة على اللفظ بل لو جاءت بالمعنى لكفى لكنها مختصة بكونها من رواية ذلك الصحابي أي فلا يقال إنها تفاوتت هنا الألفاظ ففي الأولى منهما فكملوا ثلاثين بدل قوله فأكملوا العدة ثلاثين وفي الثانية منهما فاقدروا ثلاثين بدله والعبرة بالمعنى كما عرفت وقولنا والمتن ما شابهه بالشاهد عطف على قوله ما وافقه أي وسمي عندهم المتن الذي يشابه متن الفرد النسبي بالشاهد كما قال الحافظ فإن وجد متن يروى من حديث صحابي آخر يشبهه في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط فهو الشاهد ومثاله في الحديث الذي قدمناه ما رواه النسائي من رواية محمد بن حنين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثل حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر سواء فهذا باللفظ وأما بالمعنى فمثل ما رواه البخاري من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين وخص قوم المتابعة بما حصل باللفظ سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم لا والشاهد بما حصل بالمعنى كذلك وقد تطلق المتابعة على الشاهد وبالعكس والأمر فيه سهل انتهى

(1/249)


[مسألة الاعتبار:]
قولنا:

(38) تتبع الطرق لذين يدعى ... بالاعتبار نلت منه نفعا
إشارة إلى الاعتبار فإنه عبارة عن تتبع طرق الحديث من الجوامع وهي الكتب التي جمع فيها الأحاديث على ترتيب كتب الفقه كالكتب الستة أو ترتيب الحروف الهجائية ومن المسانيد وهي الكتب التي جمع فيها مسند كل صحابي على حدة على اختلاف في مراتب الصحابة وطبقاتهم والتزم نقل جميع مروياتهم صحيحا كان أو ضعيفا ومن الأجزاء وهي ما دون فيها حديث شخص واحد أو أحاديث جماعة في مادة واحدة فإذا تتبعت طرق الحديث الذي ظن أنه فرد ليعلم هل له متابع أم لا فإن هذا التتبع يسمى ويدعى ويقال له الاعتبار قال الحافظ وجميع ما تقدم من أقسام المقبول تحصل فائدة تقسيمه باعتبار مراتبه عند المعارضة قلت الأقسام التي مرت له هي المحفوظ والشاذ والمعروف والمنكر وأما الفرد النسبي فقد قسمه إلى قسمين ما له متابع وما له شاهد.
...

[مسألة في المقبول والمحكم ومختلف الحديث:]
(39) وهذه الأقسام للمقبول ... قال بها جماعة الفحول
(40) إن لم يعارض سمه بالمحكم ... أو مثله عارضه فلتعلم
(41) بأنه إن أمكن الجمع فقل ... مختلف الحديث أولا فلتسل
هذا تقسيم أيضا للمقبول إلى معمول به وغير معمول لأنه إن سلم من

(1/250)


معارضة حديث آخر ناقضه فإنه يسمى المحكم كما قلنا فسمه بالمحكم وأمثلته واسعة وإن ناقضه حديث آخر في المعنى فلا يخلو إما أن يكون معارضه مقبولا مثله أو يكون مردودا فالثاني لا أثر له لأن القوي لا يؤثر فيه مخالفة الضعيف وإن كان للمعارض مثله كما قلنا أو مثله عارضه أي أو عارضه مثله فهو فاعل لفعل محذوف أو مبتدأ خبره عارضه أو من باب ما أضمر عامله فهذا القسم لا يخلو إما أن يمكن الجمع بين مدلوليهما بغير تعسف أو لا فإن أمكن الجمع فهذا هو النوع المسمى مختلف الحديث بفتح اللام أي مختلف مدلول حديثه ويناسبه ما يقابله وهو الناسخ وضبطه بعضهم بفتح اللام على أنه مصدر ميمي ويناسبه قوله فيما بعد بالترجيح ومثل له ابن الصلاح بحديث لا عدوى ولا طيرة مع حديث فر من المجذوم فرارك من الأسد وكلاهما في الصحيح فظاهرهما التعارض وذكر الحافظ جمع ابن الصلاح ثم قال والأولى في الجمع بينهما أن يقال إن نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى باق على عمومه أي على نفيه طبعا وسببا وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم لا يعدي شيء شيئا وقوله صلى الله عليه وسلم لمن عارضه أن البعير الأجرب يكون في الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب حيث رد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول يعني أن الله تعالى قد ابتدأ ذلك في الثاني كما ابتدأه في

(1/251)


الأول وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله ابتداء لا بالعدوى المنفية فيظن أن ذلك بسبب مخالطته فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسما للمادة هذا كلام الحافظ إلا أنه أورد عليه اجتنابه صلى الله عليه وسلم عن المجذوم عند إرادة المبايعة مع أن منصب النبوة بعيد من أن يورد لحسم مادة ظن العدوى كلاما يكون مادة لظنها أيضا فإن الأمر بالتجنب أظهر في قبح مادة ظن أن العدوى لها تأثير بالطبع وعلى كل تقدير فلا دلالة أصلا على نفي العدوى سببا فإنه إذا ظن أن الجذام حصل بسبب المخالطة واعتقد صحة العدوى بالتأثير السببي لا حرج فيه وإن أريد أنه بسبب المخالطة يعتقد صحة العدوى بالطبع فيرد عليه أنه يجب حينئذ على كل أحد أن يجتنب ما يتعلق بالأسباب كالمعالجة بالأدوية بل مزاولة الأطعمة والأشربة حيث يحتمل أنه يظن أن الأدوية ونحوها لها تأثير بطبعها فيعتقد الطبيعية فيخرج عن الملة الحنيفية انتهى هذا حيث أمكن الجمع بين المختلفين فإن تعذر فلا يخلوا إما أن يعرف التاريخ أو لا إن عرفت فهو الذي أفاده قولنا فلتسل عن الأخير إلى آخره وهي مسألة الناسخ كما قلنا:

(42) عن الأخير منهما إن ثبتا ... كان هو الناسخ والثاني أتى

(1/252)


أي أولا يمكن الجمع فسل عن الأخير من الحديثين فإن ثبت المتأخر فهو الناسخ وحقيقة النسخ رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه والناسخ ما دل على الرفع المذكور وتسميته ناسخا مجاز من باب إضافة الفعل إلى السبب والدليل لأن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ويعرف النسخ بأمور ثلاثة الأول وهو أصرحها ما ورد في النص كحديث بريدة مرفوعا في صحيح مسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر بالآخرة وهذا الحديث من غرائب الناسخ والمنسوخ حيث شملهما والغالب أن يكونا حديثين بينهما فصل وثانيهما ما يجزم الصحابي بأنه متأخر كقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار أخرجه أصحاب السنن والثالث ما يعرف بالتاريخ وهو كثير وهذه الوجوه المتفق عليها وقد ذكر غيرها مما لا ينهض وقولنا والثاني أتى أي الذي عرف تقدمه عن ناسخه وفاعل أتى قولنا المنسوخ وفي رسمه متعلق يأتي

(43) في رسمه المنسوخ أو لم يعرف ... فارجع إلى الترجيح فيه أو قف
أي أنه سمى الأول بالمنسوخ كما سمى الآخر بالناسخ هذا كله مع معرفة التاريخ فإن لم يعرف المتأخر منهما فله تقسيم آخر لأنه لا يخلو

(1/253)


إما أن يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه المرجحة المتعلقة بالمتن أو بالإسناد أولا فإن أمكن الترجيح تعين المصير إليه وإلا فلا فصار ما ظاهره التعارض واقعا على هذا الترتيب الجمع إن أمكن وإلا فاعتبار الناسخ والمنسوخ وإلا فالترجيح ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين وقد شمل النظام جميع الأقسام قال الحافظ والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالساقط لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه قلت يريد أنه اشتهر على الألسنة أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا أي تساقط حكمهما وهو يوهم الاستمرار مع أن الأمر ليس كذلك لأن سقوطه إنما هو لعدم ظهور ترجيح أحدهما حينئذ ولا يلزم استمرار الساقط مع أن إطلاق الساقط على الأدلة الشرعية خارج عن سنن الآداب السنية وإلى هاهنا انتهى الكلام في المقبول وأقسامه من قولنا ومهما خولفا ويقابله المردود وله أقسام واسعة.
...

[مسألة في أقسام المردود:]
وقد أشار إليها قولنا:

(44) ثم لما قابله أقسام ... أكثر منه عدها الأعلام

(1/254)


(45) فرده إما لسقط في السند ... أو كان عن طعن فقل فيما ورد
أي لما قابل المقبول وهو المردود أقسام ستمر بك وهي أكثر من أقسام المقبول كما قلنا أكثر منه لأنهم قسموا وجه رده إلى قسمين ألم بهما قولنا إما لسقط في السند أو بطعن أي في رواته فالسقط له أقسام الأول المعلق تضمنها قولنا:

(46) فالسقط إن كان من المبادي ... من الذي صنف بالإسناد
(47) فإنهم يدعونه معلقا ... أو كان من آخره نلت التقى
أي أن الرد بالسقط ينقسم أقساما لأن السقط إن كان من مبادئ الإسناد من تصرف من مصنف أو من آخره أي الإسناد بعد التابعي أو غير ذلك فالذي كان سقطه من مبادئ السند فإنهم يسمونه معلقا سواء كان الساقط واحدا أو أكثر ويأتي ما بينه وبين المعضل من النسبة فالمعلق لابد أن يكون من تصرف المصنف من مبادئ السند والتعليق في البخاري كثير جدا وفي مسلم في موضع واحد في التيمم وموضعان في الحدود والبيوع والذي في البخاري من ذلك موصول في موضع آخر من كتابه وإنما أورد معلقا اختصارا ومجانبة للتكرار والذي لم يصله في موضع آخر مائة وستون حديثا وصلها شيخ الإسلام في مؤلف لطيف سماه التوفيق ومن صوره أن يحذف جميع السند ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صوره أن يحذف إلا الصحابي أو إلا التابعي والصحابي معا

(1/255)


ومن صوره أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه فإن كان من فوقه شيخا لذلك المصنف فقد اختلف هل يسمى تعليقا أو لا والصحيح في هذا التفصيل فإن عرف بالنص والاستقراء أن فاعل ذلك مدلس قضى به وإلا فتعليق واعلم أنهم إنما ذكروا التعليق في قسم المردود للجهل بحال المحذوف وقد يحكم بصحته إن عرف بأن يسمى من وجه آخر فإن قال جميع من أحذفه ثقات جاءت مسألة التعديل على الإبهام وعند الجمهور لا يقبل حتى يسمى قالوا لاحتمال أن يكون ثقة عنده دون غيره فإذا ذكر علم حاله ورد بأنه تقديم للجرح المتوهم على التعديل الصريح ودفع بأن التعديل الصريح على المبهم المجهول كلا تعديل لكنه قال ابن الصلاح هنا إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته كالبخاري فما أتى فيه بالجزم أي قيل فيه روى فلان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على أنه ثبت إسناده عنده قلت وذلك لأنه لا يجوز أن يجزم بذلك عنه إلا وقد صح عنده وإنما حذفه لغرض من الأغراض وما أتى فيه بغير الجزم أي نحو يروى ويذكر مجهولا ففيه مقال قاله الحافظ ابن حجر على كلام ابن الصلاح إنه لا وجه للاستدراك فإن الجمهور إذا لم يقبلوا تصريح راوي المعلق بأن جميع من أحذفه ثقة وكذا قول من يقول حدثني الثقة كيف يقبلون من التزم صحة كتابه ويذكر فيه تعليقات ولم يصرح بأن تعليقه صحيح أم لا فإنه لو صرح به لكان من قبيل ما سبق والحال أنه يحتمل أنه حذفه لغرض من الأغراض سواء ذكره بصيغه الجزم أو بصيغة التمريض نعم صيغة المجهول أبعد من المعلوم في كونه مقبولا إذا عرفت هذا فهذا القسم الأول من المردود بالسقط وهو ما كان

(1/256)


من مبادئ السند والقسم الثاني ما أفاده قولنا أو كان من أخره مع قولنا وهي:
...