التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث

النوع الحادي والعشرون:
الموضوع
هو المختلق المصنوع وشر الضعيف، ويحرم روايته مع العلم به في أي معنى كان إلا مبيناً، ويعرف الوضع بإقرار واضعه أو معنى إقراره، أو قرينة في الراوي أو المروي، فقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة لفظها ومعانيها، وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلدين، أعني أبا الفرج بن الجوزي، فذكر كثيراً مما لا دليل على وضعه، بل هو ضعيف

(1/46)


والواضعون أقسام أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة في زعمهم، فقلبت موضوعاتهم ثقة بهم، وجوزت الكرامية الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم، ووضعت الزنادقة جملاً فبين جهابذة الحديث أمرها ولله الحمد، وربما أسند الواضع كلاماً لنفسه أو لبعض الحكماء، وربما وقع في شبه الوضع بغير قصد، ومن الموضوع الحديث المروي عن أبي بن كعب في فضل القرآن سورة سورة، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين، والله أعلم.

النوع الثاني والعشرون:
المقلوب
هو نحو حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع ليرغب فيه، وقلب أهل بغداد على البخاري مائة حديث امتحاناً فردها على وجهها فأذعنوا بفضله، والله أعلم.

فرع
إذا رأيت حديثاً بإسناد ضعيف فلك أن تقول: هو ضعيف بهذا الإسناد ولا تقلا ضعيف المتن لمجرد ضعف ذلك الإسناد إلا أن يقول

(1/47)


إمام أنه لم يرو من وجه صحيح أو أنه حديث ضعيف مفسراً ضعفه، فإن أطلق ففيه كلام يأتي قريباً، وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وما أشبهه من صيغ الجزم، بل قل: روى كذا أو بلغنا كذا أو ورد أو جاء أو نقل أو ما أشبهه، وكذا ما يشك في صحته، ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف والعمل به من غير بيان ضعفه في غير صفات الله تعالى والأحكام كالحلال والحرام وغيرهما وذلك كالقصص، وفضائل الأعمال، والمواعظ وغيرها مما لا تعلق له بالعقائد والأحكام، والله أعلم.

النوع الثالث والعشرون:
صفة من تقبل روايته وما يتعلق به
فيه مسائل:
إحداها: أجمع المشاهير من أئمة الحديث والفقه أنه يشترط فيه أن يكون عدلاً ضابطاً بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً سليماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة متيقظاً، حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدث منه، عالماً بما يخيل المعنى إن روى به.
الثانية: تثبت العدالة بتنصيص عدلين عليها أو بالاستفاضة فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بها كفى فيها، كمالك، والسفيانين، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأشباههم وتوسع ابن عبد

(1/48)


البر فيه فقال: كل حامل علم معروف العناية به محمول أبداً على العدالة حتى يبين جرحه، وقوله هذا غير مرضي.
الثالثة: يعرف ضبطه بموافقته الثقات المتقنين غالباً ولا تضر مخالفته النادرة فإن كثرت اختل ضبطه ولم يحتج به.
الرابعة: يقبل التعديل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور، ولا يقبل الجرح إلا مبين السبب، وأما كتب الجرح والتعديل التى لا يذكر فيها سبب الجرح ففائدتها التوقف فيمن جرحوه فإن بحثنا عن حاله وانزاحت عنه الريبة، وحصلت الثقة به قبلنا حديثه كجماعة في الصحيحين بهذه المثابة.
الخامسة: الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد، وقيل لا بد من اثنين، وإذا اجتمع فيه جرح وتعديل فالجرح مقدم، وقيل إن زاد المعدلون قدم التعديل، وإذا قال: حدثني الثقة أو نحوه لم يكتف به على الصحيح، وقيل يكتفي فإن كان القائل عالماً كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين، وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلاً عند الأكثرين وهو الصحيح، وقيل هو تعديل وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكماً بصحته ولا مخالفته قدح في صحته ولا في راويه، والله أعلم.
السادسة: رواية مجهول العدالة ظاهراً وباطناً لا تقبل عند الجماهير.

(1/49)


ورواية المستور وهو عدل الظاهر خفي الباطن يحتج بها بعض من رد الأول وهو قول بعض الشافعيين. قال الشيخ: يشبه أن يكون العمل على هذا في كثير من كتب الحديث في جماعة من الرواة تقادم العهد بهم وتعذرت خبرتهم باطناً، وأما مجهول العين فقد لا يقبله بعض من يقبل مجهول العدالة، ثم من روى عنه عدلان عيناه ارتفعت جهالة عينه، قال الخطيب: المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء، ولا يعرفه حديثه إلا من جهة واحدة، وأقل ما يرفع الجهالة رواية اثنين مشهورين، ونقل ابن عبد البر عن أهل الحديث نحوه. قال الشيخ رداً على الخطيب: قد روى البخاري عن مرداس الأسلمي، ومسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنهما غير واحد، والخلاف في ذلك متجه كالاكتفاء بتعديل واحد والصواب نقل الخطيب ولا يصح الرد عليه بمرداس وربيعة فإنهما صحابيان مشهوران والصحابة كلهم عدول.

فرع
يقبل تعديل العبد والمرأة العارفين، ومن عرفت عينه وعدالته وجهل اسمه احتج به، وإذا قال أخبرني فلان أو فلان وهما عدلان احتج به، فإن جهل عدالة أحدهما أو قال فلان أو غيره لم يحتج به.
السابعة: من كفر ببدعة لم يحتج به بالاتفاق ومن لم يكفر قيل

(1/50)


لا يحتج به مطلقاً، وقيل يحتج به إن لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، وحكي عن الشافعي وقيل يحتج به إن لم يكن داعية إلى بدعته، ولا يحتج به إن كان داعية، وهذا هو الأظهر الأعدل، وقول كثير أو الأكثر وضعف الأول باحتجاج صاحبي الصحيحين وغيرهما بكثير من المبتدعة غير الدعاة.
الثامنة: تقبل رواية التائب من الفسق إلا الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقبل أبداً وإن حسنت طريقه، كذا قال أحمد بن حنبل، والحميدي شيخ البخاري، والصيرفي الشافعي، قال الصيرفي: كل من أسقطنا خبره بكذب لم نعد لقبوله بتوبة ومن ضعفناه لم نقوه بعده بخلاف الشهادة، وقال السمعاني: من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، قلت وكل ذلك مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا ولا يقوى الفرق بينه وبين الشهادة.
التاسعة: إذا روى حديثاً ثم نفاه المسمع فالمختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال ما رويته ونحوه وجب رده ولا يقدح في باقي روايات الراوي عنه. فإن قال: لا أعرفه أو لا أذكره أو نحوه لم يقدح فيه ومن روى حديثاً ثم نسيه جاز العمل به على الصحيح، وهو قول الجمهور من الطوائف خلافاً لبعض الحنفية؛ ولا يخالف هذا كراهة الشافعي وغيره الرواية عن الأحياء، والله أعلم.
العاشرة: من أخذ على التحديث أجراً لا تقبل روايته عند أحمد، وإسحاق، وأبي حاتم، وتقبل عند أبي نعيم الفضل، وعلي بن عبد العزيز، وآخرين. وأفتى

(1/51)


الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجوازها لمن امتنع عليه الكسب لعياله بسبب التحديث.
الحادية عشرة: لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماعه أو أسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في السماع، أو يحدث لا من أصل مصحح، أو عرف بقبول التلقين في الحديث أو كثرة السهو في روايته إذا لم يحدث من أصل، أو كثرت الشواذ والمناكير في حديثه، قال ابن المبارك، وأحمد، والحميدي، وغيرهم: من غلظ في حديث فبين له فأصر على روايته سقطت رواياته. وهذا صحيح إن ظهر أنه أصر عناداً أو نحوه.
الثانية عشرة: أعرض الناس هذه الأزمان عن اعتبار مجموع الشروط المذكورة لكون المقصود صار إبقاء سلسلة الإسناد المختص بالأمة فليعتبر ما يليق بالمقصود، وهو كون الشيخ مسلماً بالغاً، عاقلاً، غير متظاهربفسق، أو سخف في ضبطه، بوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه وقد قال: نحو ما ذكرناه الحافظ أبو بكر البيهقي.
الثالثة عشرة: في ألفاظ الجرح والتعديل. وقد رتبها ابن أبي حاتم فأحسن. فألفاظ التعديل مراتب: أعلاها ثقة أو متقن أو ثبت أو حجة أو عدل حافظ أو ضابط. الثانية: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، قالابن أبي حاتم: هو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية وهو كما قال، لأن هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه على ما تقدم، وعن يحيى بن معين إذا قلت لا بأس به فهو ثقة، ولا يقاوم قوله عن نفسه. نقل ابن أبي حاتم عن أهل الفن. الثالثة: شيخ فيكتب وينظر. الرابعة: صالح الحديث يكتب للاعتبار،

(1/52)


وأما ألفاظ الجرح، فمراتب، فإذا قاولوا لين الحديث كتب حديثه ونظر اعتباراً، وقال الدارقطني: إذا قلت لين لم يكن ساقطاً، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة، وقولهم: ليس بقوي يكتب حديثه، وهو دون لين، وإذا قالوا: ضعيف الحديث فدون ليس بقوي ولا يطرح بل يعتبر به؛ وإذا قالوا: متروك الحديث، أو ذاهبه، أو كذاب، فهو ساقط لا يكتب حديثه، ومن ألفاظهم: فلان روى عن الناس، وسط، مقارب الحديث، مضطربه، لا يحتج به، مجهول، لا شيء، ليس بذاك، ليس بذاك القوي، فيه أو في حديثه ضعف، ما أعلم به بأساً، ويستدل على معانيها بما تقدم، والله أعلم.

(1/53)