التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث

النوع الرابع والعشرون
كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه
تقبل رواية المسلم البالغ ما تحمله قبلهما، ومنع الثاني قوم فأخطأوا، قال جماعة من العلماء: يستحب أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة، وقيل بعد عشرين، وللصواب في هذه الأزمان التبكير به من حين يصح سماعه، وبكتبه وتقييده حين يتأهل له، ويختلف باختلاف الأشخاص، ونقل القاضي عياض رحمه الله: أن أهل الصنعة حددوا أول زمن يصح فيه السماع بخمس سنين، وعلى هذا استقر العمل والصواب اعتبار التمييز، فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزاً صحيح السماع، وإلا فلا، وروي نحو هذا عن موسى بن هارون، وأحمد بن حنبل.

بيان أقسام طرق تحمل الحديث
ومجامعها ثمانية أقسام
القسم الأول:
سماع لفظ الشيخ
وهو إملاء وغيره من حفظ ومن كتاب، وهو أرفع الأقسام عند الجماهير. قال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في هذا للسامع أن يقول في روايته: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت فلاناً وقال لنا: وذكر لنا. قال الخطيب: أرفعهما سمعت ثم حدثنا وحدثني ثم أخبرنا، وهو

(1/54)


كثير في الاستعمال، وكان هذا قبل أن يشيع أخبرنا ب

القراءة على الشيخ. قال: ثم أنبأنا ونبأنا وهو قليل في الاستعمال. قال الشيخ: حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت من جهة، إذ ليس في سمعت دلالة أن الشيخ رواه إياه بخلافهما. وأما قال لنا، أو ذكر لنا، فكحدثنا. غير أنه لائق بسماع المذاكرة وهو به أشبه من حدثنا، وأوضح العبارات: قال أو ذكر من غير لي، أو لنا، وهو أيضاً محمول على السماع إذا عرف اللقاء على ما تقدم في نوع المعضل، لا سيما إن عرف أنه لا يقول قال إلا فيما سمعه منه، وخص الخطيب حمله على السماع به والمعروف أنه ليس بشرط.

القسم الثاني:
القراءة على الشيخ
ويسميها أكثر المحدثين عرضاً سواء قرأت أو قرأ غيرك وأنت تسمع من كتاب أو حفظ الشيخ أم لا إذا أمسك أصله هو أو ثقة، وهي رواية صحيحة بلا خلاف في جميع ذلك إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد به، واختلفوا في مساواتها للسماع من لفظ الشيخ ورجحانه عليها ورجحانها عليه، فحكى الأول عن مالك وأصحابه وأشياخه ومعظم علماء الحجاز والكوفة والبخاري وغيرهم، والثاني عن جمهور أهل المشرق وهو الصحيح؛ والثالث عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما ورواية عن مالك،

(1/55)


والأحوص في الرواية بها: قرأت عن فلان أو قرئ عليه وأنا أسمع فأقر به، ثم عبارات السماع مقيدة: كحدثنا أو أخبرنا قراءة عليه وأنشدنا في الشعر قراءة عليه، ومنع إطلاق حدثنا وأخبرنا ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد والنسائي وغيرهم وجوزوها طائفة. قيل: إن مذهب الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان والبخاري وجماعات من المحدثين ومعظم الحجازيين والكوفيين، ومنهم من أجاز فيها سمعت، ومنعت طائفة حدثنا وأجازت أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل الشرق، وقيل أنه مذهب أكثر المحدثين وروى عن ابن جريج والأوزاعي وابن وهب، وروى عن النسائي أيضاً وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث.
الأول: إذا كان أصل الشيخ حال القراءة بيد موثوق به مراع لما يقرأ أهل له فإن حفظ الشيخ ما يقرأ فهو كإمساكه أصله وأولى، وإن لم يحفظه فقيل: لا يصح السماع، والصحيح المختار الذي عليه العمل أنه صحيح، فإن كان بيد القارئ الموثوق بدينه ومعرفته فأولى بالتصحيح، ومتى كان الأصل بيد غير موثوق به لم يصح السماع إن لم يحفظه الشيخ.
الثاني: إذا قرأ على الشيخ قائلاً أخبرك فلان أو نحوه والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر، صح السماع وجازت الرواية به، ولا يشترط نطق الشيخ

(1/56)


على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الفنون، وشرط بعض الشافعين والظاهرين نطقه، وقال ابن الصباغ الشافعي: ليس له أن يقول حدثني، وله أن يعمل به وأن يرويه قائلاً: قرئ عليه وهو يسمع.
الثالث: قال الحاكم: الذي اختاره وعهدت إليه أكثر مشايخي وأئمة عصري، أن يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ: حدثني ومع غيره حدثنا وما قرأ عليه أخبرني وما قرئ بحضرته أخبرنا وروى نحوه عن ابن وهب وهو حسن، فإن شك فالأظهر أن يقول: حدثني أو يقول: أخبرني لا حدثنا وأخبرنا، وكل هذا مستحب باتفاق العلماء، ولا يجوز إبدال حدثنا بأخبرنا أو عكسه في الكتب المؤلفة، وما سمعته من لفظ المحدث فهو على الخلاف في الرواية بالمعنى إن كان قائله يجوز إطلاق كليهما وإلا فلا يجوز.
الرابع: إذا نسخ السامع أو المسمع حال القراءة. قال إبراهيم الحربي وابن عدي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني الشافعي: لا يصح السماع. وصححه الحافظ موسى بن هارون الجمال وآخرون وقال أبو بكر الضبعي الشافعي: يقول حضرت ولا يقول أخبرنا، والصحيح التفصيل، فإن فهم المقروء صح وإلا لم يصح

(1/57)


ويجزي هذا الخلاف فيما إذا تحدث الشيخ أو السامع أو أفرط القارئ في الإسراع أو هَيْنَمَ أو بعد بحيث لا يفهم، والظاهر أنه يعفى عن نحو الكلمتين، ويستحب للشيخ أن يجيز للسامعين رواية ذلك الكتاب وإن كتب لأحدهم كتب سمعه مني وأجزت له روايته، كذا فعله بعضهم، ولو عظم مجلس المملي فبلغ عنه المستملي فذهب جماعة من المتقدمين وغيرهم إلى أنه يجوز لمن سمع المستملي أن يروي ذلك عن المملي، والصواب الذي قاله المحققون: أنه لا يجوز ذلك وقال أحمد في الحرف يدغمه الشيخ فلا يفهم وهو معروف أرجو أن لا يضيق روايته عنه، وقال في الكلمة تستفهم من المستملي: إن كانت مجتمعاً عليها فلا بأس، وعن خلف بن سالم منع ذلك.
الخامس: يصح السماع من وراء حجاب إذا عرف صوته إن حدث بلفظه أو حضوره بمسمع منه إن قرئ عليه، ويكفي في المعرفة خبر ثقة وشرط شعبة روايته وهو خلاف الصواب وقول الجمهور.
السادس: إذا قال المسموع منه بعد السماع: لا تروعني أو رجعت عن اخبارك ونحو ذلك غير مسند ذلك إلى خطأ أو شك ونحوه لم يمتنع روايته، ولو خص بالسماع قوماً فسمع غيرهم بغير علمه جاز لهم الرواية عنه، ولو قال: أخبركم ولا أخبر فلاناً لم يضر، قاله الأستاذ أبو إسحاق.

القسم الثالث:
الإجازة
وهي أضرب:
الضرب الأول: أن يجيز معيناً لمعين كأجزتك البخاري أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذا أعلى أضربها المجردة عن

المناولة، والصحيح الذي قاله الجمهور من الطوائف واستقر عليه العمل جواز الرواية والعمل بها، وأبطلها جماعات من الطوائف وهو إحدى الروايتين عن الشافعي، وقال بعضهم الظاهرية ومتابعيهم: لا يعمل بها كالمرسل، وهذا باطل.

(1/58)


الضرب الثاني: يجيز معيناً غيره كأجزتك مسموعاتي فالخلاف فيه أقوى وأكثر، والجمهور من الطوائف جوزوا الرواية وأوجبوا العمل بها.
الضرب الثالث: يجيز غير معين بوصف العموم كأجزت المسلمين أو كل أحد أو أهل زماني، وفيه خلاف للمتأخرين، فإن قيد بوصف خاص فأقرب إلى الجواز، ومن المجوزين القاضي أبو الطيب، والخطيب، وأبو عبد الله بن منده، وابن عتاب، والحافظ أبو العلاء، وآخرون. قال الشيخ: ولم نسمع عن أحد يقتدي به الرواية بهذه. قلت: الظاهر من كلام مصححيها جواز الرواية بها، وهذا مقتضي صحتها، وأي فائدة لها غير الرواية بها.
الضرب الرابع: إجازة مجهول أوله كأجزتك كتاب السنن وهو يروي كتباً في السنن، أو أجزت لمحمد ابن خالد الدمشقي، وهناك جماعة مشتركون في هذا الاسم وهي باطلة، فإن أجاز لجماعة مسمين في الاستجازة أو غيرها ولم يعرفهم بأعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم ولا تصفحهم صحت الإجازة كسماعهم منه في مجلسه في هذا الحال، وأما أجزت لمن يشاء فلان أو نحو هذا ففيه جهالة وتعليق فالأظهر بطلانه، وبه قطع القاضي أبو الطيب الشافعي، وصححه ابن الفراء الحنبلي، وابن عمروس المالكي، ولو قال أجزت لمن يشاء الإجازة فهو كأجزت لمن يشاء فلان وأكثر جهالة، فلو قال أجزت لمن يشاء الرواية عني فأولى بالجواز، لأنه تصريح بمقتضى الحال،

(1/59)


ولو قال أجزت لفلان كذا إن شاء روايته عني، أو لك إن شئت أو أحببت أو أردت، فالأطهر جوازه.
الضرب الخامس: الإجازة للمعدوم كأجزت لمن يولد لفلان، واختلف المتأخرون في صحتها فإن عطفه على موجود كأجزت لفلان ومن يولد له أو لك ولعقبك ما تناسلوا فأولى بالجواز، وفعل الثاني من المحدثين أبو بكر بن أبي داود، وأجاز الخطيب الأول، وحكاه عن ابن الفراء، وابن عمروس، وأبطلها القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: الشافعيان، وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، وأما الإجازة للطفل الذي لا يميز فصحيحه على الصحيح الذي قطع به القاضي أبو الطيب، والخطيب خلافاً لبعضهم.
الضرب السادس: إجازة ما لم يتحمله المجيز بوجه ليرويه المجاز إذا تحمله المجيز. قال القاضي عياض: لم أر من تكلم فيه، ورأيت بعض المتأخرين يصنعونه، ثم حكى عن قاضي قرطبة أبي الوليد منع ذلك، قال عياض: وهو الصحيح، وهذا هو الصواب، فعلى هذا يتعين على من أراد أن يروي عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته أن يبحث حتى يعلم أن هذا ما تحمله شيخه قبل الإجازة، أما قوله أجزت لك ما صح أو يصح عندك من مسموعاتي فصحيح تجوز الرواية بما لما صح عنده سماعه له قبل الإجازة، وفعله الدارقطني وغيره.
الضرب السابع: إجازة المجاز كأجزتك مجازاتي فمنعه بعض من لا يعتد

(1/60)


به، والصحيح الذي عليه العمل جوازه، وبه قطع الحفاظ: الدارقطني، وابن عقدة، وأبو نعيم وأبو الفتح نصر المقدسي، وكان أبو الفتح يروي بالإجازة عن الإجازة، وربما والى بين ثلاث، وينبغي للراوي بها تأملها لئلا يروي ما لم يدخل تحتها، فإن كانت إجازة شيخ شيخه أجزت له ما صح عنده من سماعي فرأى سماع شيخ شيخه فليس له روايته عن شيخه عنه حتى يعرف أنه صح عند شيخه كونه من مسموعات شيخه.

فرع
قال أبو الحسين بن فارس: الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية والحرث، يقال: استجزته فأجازني إذا أسقاك ماءً لماشيتك أو أرضك كذا طالب العلم علمه فيجيزه، فعلى هذا يجوز أن تقول أجزت فلاناً مسموعاتي، ومن جعل الإجازة إذناً وهو المعروف يقول: أجزت له رواية مسموعاتي، ومتى قال: أجزت له مسموعاتي فعلى الحذف كما في نظائره، قالوا: إنما تستحسن الإجازة إذا علم المجيز ما يجيز، وكان المجاز من أهل العلم، واشترطه بعضهم وحكي عن مالك، وقال ابن عبد البر: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة في معين لا يشكل إسناده، وينبغي للمجيز كتابة أن يتلفظ بها فإن اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة صحت، والله أعلم.

القسم الرابع:
المناولة
هي ضربان مقرونة بالإجازة، ومجردة، فالمقرونة أعلى أنواع الإجازة مطلقاً، ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو مقابلاً. ويقول: هذا سماعي أو روايتي عن فلان

(1/61)


فاروه أو أجزت لك روايته عني، ثم يبقيه معه تمليكاً أو لينسخه أو نحوه، ومنها أن يدفع إليه الطالب سماعه فيتأمله وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول: هو حديثي أو روايتي فاروه عني أو أجزت لك روايته، وهذا سماه غير واحد من أئمة الحديث عرضاً، وقد سبق أن القراءة عليه تسمى عرضاً فليسمّ هذا عرض المناولة وذاك عرض القراءة، وهذه المناولة كالسماع في القوة عند الزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومجاهد، والشعبي، وعلقمة، وإبراهيم، وأبي العالية، وأبي الزبير، وأبي التوكل، ومالك، وابن وهب، وابن القاسم، وجماعات آخرين، والصحيح أنها منحطة عن السماع والقراءة، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، البويطي، والمزني، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن يحيى. قال الحاكم: وعليه عهدنا أئمتنا وإليه نذهب، والله أعلم. ومن صورها أن يناول الشيخ الطالب سماعه ويجيزه له ثم يمسكه الشيخ، وهذا دون ما سبق، ويجوز روايته إذا وجد الكتاب أو مقابلاً به موثوقاً بموافقته ما تناولته الإجازة كما يعتبر في الإجازة المجردة، ولا يظهر في هذه المناولة كبير مزية على الإجازة في معين، وقال جماعة من أصحاب الفقه والأصول: لا فائدة فيها، وشيوخ الحديث قديماً وحديثاً يرون لها مزية معتبرة، ومنها أن يأتيه الطالب بكتاب ويقول: هذا روايتك فناولنيه وأجزلي روايته فيجيبه إليه من غير نظر فيه وتحقق لروايته فهذا باطل، فإن وثق

(1/62)


بخبر الطالب ومعرفته اعتمده وصحت الإجازة كما يعتمده في القراءة، ولو قال: حدث عني بما فيه إن كان حديثي مع براءتي من الغلط كان جائزاً حسناً، والله أعلم.
الضرب الثاني: المجردة بأنه يناوله مقتصراً على: هذا سماعي، فلا تجوز الرواية بها على الصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول، وعابوا المحدثين المجوزين.

فرع
جوز الزهري، ومالك، وغيرهما، إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة، وهو مقتضى قول من جعلها سماعاً، وحكي عن أبي نعيم الأصبهاني وغيره جوازه في الإجازة. والصحيح الذي عليه الجمهور وأهل التحري المنع وتخصيصها بعبارة مشعرة بها: كحدثنا وأخبرنا إجازة أو مناولة وإجازة أو إذناً أو في إذنه أو فيما أذن لي أو فيما أطلق لي روايته أو أجازني أولي أو ناولني أو أشبه ذلك وعن الأوزاعي تخصيصها بخبرنا والقراءة بأخبرنا، واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة، واختاره صاحب كتاب الوجازة وكان البيهقي يقول أنبأني إجازة، وقال الحاكم: الذي اختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن

(1/63)


يقول فيما عرض على المحدث فأجازه شفاها: أنبأني، وفيما كتب إليه كتب إلي، وقال أبو جعفر بن حمدان: كل قول البخاري قال لي فلان: عرض ومناولة، وعبر قوم عن الإجازة بأخبرنا فلان أن فلاناً حدثه أو أخبره، واختاره الخطابي أو حكاه، وهو ضعيف، واستعمل المتأخرون في الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ حرف عن فيقول من سمع شيخاً بإجازته عن شيخ: قرأت على فلان عن فلان، ثم أن المنع من إطلاق حدثنا لا يزول بإباحة المجيز ذلك والله أعلم.

القسم الخامس:
المكاتبة
وهي أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطه أو بأمره، وهي ضربان: مجردة عن الإجازة، ومقرونة بأجزتك ما كتب لك أو إليك ونحوه من عبارة الإجازة، وهي في الصحة والقوة كالمناولة المقرونة، وأما المجردة فمنع الرواية بها قوم، منهم القاضي الماوردي الشافعي، وأجازها كثيرون من المتقدمين والمتأخرين، منهم أيوب السختياني، ومنصور، والليث، وغير واحد من الشافعيين، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المشهور بين أهل الحديث، ويوجد في مصنفاتهم: كتب إليّ فلان قال حدثنا فلان، والمراد به هذا وهو المعمول به عندهم معدود في الموصول لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعاني فقال، هي أقوى من الإجازة، ثم يكفي معرفته خط الكاتب، ومنهم من شرط البينة وهو ضعيف؛ ثم الصحيح أنه يقول في الرواية بها: كتب إليّ فلان قال: حدثنا فلان أو

(1/64)


أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة ونحوه، ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا، وجوزه الليث، ومنصور، وغير واحد من علماء المحدثين وكبارهم.

القسم السادس:
إعلام الشيخ الطالب
أن هذا الحديث أو الكتاب سماعه مقتصراً عليه، فجوز الرواية به كثير من أصحاب الحديث، والفقه، والأصول، والظاهر، منهم ابن جريج، وابن الصباغ الشافعي، وابو العباس الغمري، بالمعجمة المالكي، قال بعض الظاهرية: لو قال هذه روايتي لا تروها كان له روايتها عنه، والصحيح ما قاله غير واحد من المحدثين وغيرهم: إنه لا يجوز الرواية به لكن يجب العمل به إن صح سنده.

القسم السابع:
الوصية
هي أن يوصي عند موته أو سفره بكتاب يرويه فجوز بعض السلف للموصى له روايته عنه، وهو غلط، والصواب أنه لا يجوز.

القسم الثامن:
الوجادة
وهي مصدر لوجد مولّد غير مسموع من العرب، وهي أن يقف على أحاديث بخط راويها لا يرويها الواجد فله أن يقول: وجدت أو قرأت

(1/65)


بخط فلان أو في كتابه بخطه حدثنا فلان ويسوق الإسناد والمتن، أو قرأت بخط فلان عن فلان، هذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع، وفيه شوب إتصال، وجازف بعضهم فأطلق فيها حدثنا وأخبرنا، وأنكر عليه، وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص، قال ذكر فلان أو قال أخبرنا فلان وهذا منقطع لا شوب فيه، وهذا كله إذا وثق بأنه خطه وكتابه، وإلا فليقل: بلغني عن فلان أو وجدت عنه ونحوه أو قرأت في كتاب: أخبرني فلان إنه بخط فلان، أو ظننت أنه خط فلان، أو ذكر كتابه أنه فلان، أو تصنيف فلان، أو قيل: بخط أو تصنيف فلان، وإذا نقل من تصنيف فلا يقل: قال فلان إلا إذا وثق بصحة النسخة بمقابلته أو ثقة لها، فإن لم يوجد هذا ولا نحوه فليقل: بلغني عن فلان، أو وجدت في نسخة من كتابه ونحوه، وتسامح أكثر الناس في هذه الأعصار بالجزم في ذلك من غير تحر، والصواب ما ذكرناه، فإن كان المطالع متقناً لا يخفى عليه غالباً الساقط والمغير رجونا جوازاً الجزم له، وإلا هذا استروح كثير من المصنفين في نقلهم، وأما العمل بالوجادة فنقل عن معظم المحدثين والفقهاء المالكيين، وغيرهم أنه لا يجوز، وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه وقطع بعض المحققين الشافعيين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة، وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه هذه الأزمان غيره والله أعلم.

(1/66)


النوع الخامس والعشرون:
كتابة الحديث وضبطه
وفيه مسائل:
إحداها:
اختلف السلف في كتابة الحديث، فكرهها طائفة وأباحها طائفة، ثم أجمعوا على جوازها، وجاء في الإباحة والنهي حديثان، فالأذن لمن خيف نسيانه، والنهي لمن أمن وخيف اتكاله، أو نهى حين خيف اختلاطه بالقرآن وأذن حين أمن، ثم على كاتبه صرف الهمة إلى ضبطه وتحقيقه شكلاً ونقطاً يؤمن اللبس، ثم قيل إنما يشكل المشكل ونقل عن أهل العلم كراهة الاعجام الأعراب إلا في الملتبس، وقيل يشكل الجميع.

الثانية:
ينبغي أن يكون اعتناؤه بضبط الملتبس من الأسماء أكثر، ويستحب ضبط المشكل في نفس الكتابة وكتبه مضبوطاً واضحاً في الحاشية قبالته، ويستحب تحقيق الخط دون مشقة وتعليقه، ويكره تدقيقه إلا من المهملة، قيل تجعل تحت الدال، والراء، والسين،

(1/67)


والصاد، والطاء، والعين، النقط التي فوق نظائرها، وقيل فوقها كقلامة الظفر مضطجعة على قفاها، وقيل تحتها حرف صغير مثلها، وفي بعض الكتب القديمة فوقها خط صغير، وفي بعضها تحتها همزة، ولا ينبغي أن يصطلح مع نفسه برمز لا يعرفه الناس، فإن فعل فليبين في أول الكتاب أو آخره مراده، وينبغي أن يعتني بضبط مختلف الروايات وتمييزها، فيجعل كتابه على رواية، ثم ما كان في غيرها من زيادة ألحقها في الحاشية، أو نقص أعلم عليه، أو خلاف كتبه معيناً في كل ذلك من رواه بتمام اسمه لا رامزاً إلا أن يبين أول الكتاب أو آخره، واكتفى كثيرون بالتمييز بحمرة فالزيادة تلحق بحمرة والنقص يحوِّق عليه بحمرة مبيناً اسم صاحبها أول الكتاب أو آخره.

الثالثة:
ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دائرة، نقل ذلك عن جماعات من المتقدمين، واستحب الخطيب أن تكون غفلاً، فإذا قابل نقط وسطها، ويكره في مثل عبد الله، وعبد الرحمن بن فلان كتابة عبد آخر السطر واسم الله مع ابن فلان أول الآخر، وكذا يكره رسول آخره والله صلى الله عليه وسلم أوله، وكذا ما أشبهه، وينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسأم من تكراره، ومن أغفله حرم حظاً عظيماً، ولا يتقيد فيه بما في الأصل إن كان ناقصاً، وهكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى: كعز وجل، وسبحانه وتعالى وشبهه، وكذا الترضي والترحم على الصحابة والعلماء وسائر الأخيار، وإذا جاءت الرواية بشيء منه كانت العناية به أكثر وأشد، ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم والرمز إليهما في الكتابة، بل يكتبهما بكمالهما.

الرابعة:
عليه مقابلة كتابه بأصل شيخه وإن كان إجازة، وأفضلهما أن

(1/68)


يمسك هو وشيخه كتابيهما حال التسميع، ويستحب أن ينظر معه من لا نسخة معه لا سيما إن أراد النقل من نسخته، وقال يحيى ابن معين: لا يجوز أن يروي من غير أصل الشيخ إلا أن ينظر فيه حال السماع، والصواب الذي قاله الجماهير أنه لا يشترط نظره ولا مقابلته بنفسه بل يكفي مقابلة ثقة أي وقت كان، ويكفي مقابلته بفرع قوبل بأصل الشيخ ومقابلته بأصل أصل الشيخ المقابل به اصل الشيخ، وإن لم يقابل أصىً فقد أجاز الرواية منه الأستاذ أبو إسحاق، وآباء بكر الإسماعيلي، والبرقاني، والخطيب إن كان الناقل صحيح النقل، قليل السقط، ونقل من الأصل، وبين حال الرواية أنه لم يقابل، ويراعي في كتاب شيخه مع من فوقه ما ذكرنا في كتابه، ولا يكن كطائفة إذا رأوا سماعه لكتاب سمعوه من أي نسخة اتفقت، وسيأتي فيه خلاف وكلام آخر في أول النوع الآتي.

الخامسة:
المختار في تخريج الساقط وهو اللحق " بفتح اللام والحاء " أن يخط من موضع سقوطه في السطر خطاً صاعداً معطوفاً بين السطرين عطفه يسيرة إلى جهة الحق، وقيل: تمد العطفة إلى أول اللحق ويكتب واللحق قبالة العطفة في الحاشية اليمنى إن اتسعت إلا أن يسقط في آخر السطر فيخرجه إلى الشمال وليكتبه صاعداً إلى أعلى الورقة، فإن زاد اللحق على سطر ابتدأ سطوره من أعلى إلى أسفل، فإن كان في يمين الورقة انتهت إلى باطنها، وإن كان في الشمال فإلى طرفها، ثم يكتب في انتهاء اللحق صح، وقيل يكتب مع " صح " رجع، وقيل يكتب الكلمة المتصلة به داخل الكتاب وليس بمرضي لأنه تطويل موهم، وأما الحواشي من غير الأصل كشرح، وبيان غلط، أو اختلاف رواية،

(1/69)


أو نسخة ونحوه، فقال القاضي عياض رحمه الله: لا يخرج له خط، والمختار استحباب التخريج من وسط الكلمة المخرج لأجلها.

السادسة:
شأن المتقنين التصحيح، والتضبيب، والتمريض. فالتصحيح كتابة صح على كلام صح رواية ومعنى، وهو عرضه للشك أو الخلاف، والتضبيب، ويسمى التمريض أن يمد خط أوله كالصاد، ولا يلزق بالممدود عليه، يمد على ثابت نقلاً فاسد لفظاً أو معنى أو ضعيف أو ناقص، ومن الناقص موضع الإرسال أو الانقطاع، وربما اختصر بعضهم علامة التصحيح فاشتبهت الضبة، ويوجد في بعض الأصول القديمة في الإسناد الجامع جماعة معطوفاً بعضهم على بعض علامة تشبه الضبة بين أسمائهم وليست ضبة وكأنها علامة اتصال.

السابعة
إذا وقع في الكتاب ما ليس منه نفي بالضرب، أو الحك، أو المحو، أو غيره، وأولاها الضرب، ثم قال الأكثرون: يخط فوق المضروب عليه خطا بيناً دالا على إبطاله مختلطاً به، ولا يطمسه بل يكون ممكن القراءة، ويسمى هذا الشق، وقيل: لا يخلط بالمضروب عليه بل يكون فوقه معطوفاً على أوله وآخره، وقيل يحوق على أوله نصف دائرة وكذا آخره، وإذا كثر المضروب عليه فقد يكتفي بالتحويق أوله وآخره، وقد يحوق أول كل سطر وآخره، ومنهم من اكتفى بدائرة صغيرة أول الزيادة وآخرها، وقيل يكتب لا في أوله وإلى في آخره، وأما الضرب على المكرر فقيل يضرب على الثاني، وقيل يبقى أحسنهما صورة وأبينهما، وقال عياض رحمه الله: إن كانا أول سطر ضرب على الثاني، أو آخره فعلى الأول، أو أول سطر وآخر آخَر، فعلى آخر السطر، فإن تكرر المضاف والمضاف إليه أو الموصوف والصفة ونحوه روعي اتصالهما، وأما الحك، والكشط والمحو فكرهها أهل العلم، والله أعلم.

الثامنة:
غلب عليهم الاقتصار على الرمز في حدثنا وأخبرنا وشاع

(1/70)


بحيث لا يخفى، فيكتبون من حدثنا: الثاء والنون والألف، وقد تحذف الثاء، ومن أخبرنا: أنا، ولا يحسن زيادة الباء قبل النون وإن فعله البيهقي، وقد يزاد راء بعد الألف ودال أول رمز حدثنا، ووجدت الدال في خط الحاكم وأبي عبد الرحمن السلمي، والبيهقي، والله أعلم. وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الإنتقال من إسناد إلى إسناد ولم يعرف بيانها عمن تقدم، وكتب جماعة من الحفاظ موضعها صح، فيشعر بأنها رمز صح، وقيل هي من التحويل من إسناد إلى إسناد، وقيل لأنها تحول بين الإسنادين فلا نكون من الحديث فلا يلفظ عندها بشيء، وقيل هي رمز إلى قولنا الحديث، وأهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث، والمختار أن يقول حَاوَيَمُرّ، والله أعلم.

التاسعة:
ينبغي أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ ونسبه وكنيته ثم يسوق المسموع، ويكتب فوق البسملة أسماء السامعين، وتاريخ السماع، أو يكتبه في حاشية أول ورقة أو آخر الكتاب، أو حيث لا يخفى منه، وينبغي أن يكون بخط ثقة معروف الخط، ولا بأس عند هذا بأن لا يصح الشيخ عليه، ولا بأس أن يكتب سماعه بخط نفسه إذا كان ثقة كما فعله الثقات، وعلى كاتب التسميع التحري وبيان السامع، والمسمع، والمسموع، بلفظ وجيز غير محتمل ومجانبة التساهل فيمن يثبته، والحذر من إسقاط بعضهم لغرض فاسد، فإن لم يحضر فله أن يعتمد في حضورهم خبر ثقة حضر، ومن ثبت في كتابه سماع غيره فقبيح به كتمانه ومنعه نقل سماعه منه أو نسخ الكتاب، وإذا أعاره فلا يبطئ عليه، فإن منعه فإن كان سماعه مثبتاً برضا صاحبالكتاب لزمه إعارته وإلا فلا يلزمه، كذا قاله أئمة مذاهبهم في أزمانهم، منهم القاضي حفص بن غياث الحنفي، وإسماعيل القاضي المالكي، وأبو عبد الله الزبيري الشافعي، وحكم به القاضيان، وخالف فيه بعضهم، والصواب الأول،

(1/71)


وإذا نسخه فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية، ولا ينقل سماع إلى نسخة إلا بعد مقابلة مرضية إلا أن يبين كونها غير مقابلة، والله أعلم.