السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن

- الْبَاب الأول
-
اعْلَم أَن الْإِسْنَاد المعنعن وَهُوَ مَا يُقَال فِيهِ فلَان عَن فلَان مثل قَوْلنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أنس بن مَالك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَنْقُول فِيهِ عَن الْمُتَقَدِّمين أَرْبَعَة مَذَاهِب وَحدث للمتأخرين فِيهِ مصطلح خَامِس
فَالْمَذْهَب الأول
مَذْهَب أهل التَّشْدِيد وَهُوَ أَن لَا يعد مُتَّصِلا من الحَدِيث إِلَّا مَا نَص فِيهِ على السماع أَو حصل الْعلم بِهِ من طَرِيق آخر وَأَن مَا قيل فِيهِ

(1/43)


فلَان عَن فلَان فَهُوَ من قبيل الْمُرْسل أَو الْمُنْقَطع حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله بِغَيْرِهِ
حَكَاهُ الإِمَام أَبُو عَمْرو النصري الشهرزوري شهر بِابْن الصّلاح أحد الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين المعتمدين وَلم يسم قَائِله وَلَفظ مَا حَكَاهُ
فلَان عَن فلَان عده بعض النَّاس من قبيل الْمُرْسل والمنقطع حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله بِغَيْرِهِ
وَهَذَا الْمَذْهَب وَإِن قل الْقَائِل بِهِ بِحَيْثُ لَا يُسمى وَلَا يعلم فَهُوَ الأَصْل الَّذِي كَانَ يَقْتَضِيهِ الِاحْتِيَاط وحجته أَن عَن لَا تَقْتَضِي اتِّصَالًا لَا لُغَة وَلَا عرفا وَإِن توهم متوهم فِيهَا اتِّصَالًا لُغَة فَإِنَّمَا ذَلِك بِمحل الْمُجَاوزَة الْمَأْخُوذ عَنهُ

(1/44)


تَقول أَخذ هَذَا عَن فلَان فالأخذ حصل مُتَّصِلا بِالْمحل الْمَأْخُوذ عَنهُ وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيل على اتِّصَال الرَّاوِي بالمروي عَنهُ وَمَا علم مِنْهُم أَنهم يأْتونَ بعن فِي مَوضِع الْإِرْسَال والانقطاع يخرم ادِّعَاء الْعرف
وَإِذا أشكل الْأَمر وَجب أَن يحكم بِالْإِرْسَال لِأَنَّهُ أدون الْحَالَات فَكَأَنَّهُ أَخذ بِأَقَلّ مَا يَصح حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ
وَكَانَ يَنْبَغِي لصَاحب هَذَا الْمَذْهَب أَن لَا يَقُول بِالْإِرْسَال بل بالتوقف حَتَّى يتَبَيَّن لمَكَان الِاحْتِمَال
لَعَلَّ ذَلِك مُرَاده وَهُوَ الَّذِي نَقله مُسلم عَن أهل هَذَا الْمَذْهَب أَنهم يقفون الْخَبَر وَلَا يكون عِنْدهم مَوضِع حجَّة لِإِمْكَان الْإِرْسَال فِيهِ وَإِن هَذَا الْقَصْد ليلوح من قَول هَذَا الْقَائِل حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله بِغَيْرِهِ وَلَكِن صدر الْكَلَام يأباه لقَوْله عده بعض النَّاس من قبيل الْمُرْسل والمنقطع

(1/45)


وَكَأن فِي ربط الْعَجز بالصدر تنافرا مَا إِلَّا أَن هَذَا الْمَذْهَب رفضه جُمْهُور الْمُحدثين بل جَمِيعهم وَهُوَ الَّذِي لَا إِشْكَال فِي أَن أحدا من أَئِمَّة السّلف مِمَّن يسْتَعْمل الْأَخْبَار كَمَا قَالَ مُسلم رَحمَه الله ويتفقد صِحَة الْأَسَانِيد وسقمها مثل أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَابْن عون وَمَالك وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَمن سمى مَعَهم لَا يَشْتَرِطه وَلَا يبْحَث عَنهُ وَلَو اشْترط

(1/46)


ذَلِك لضاق الْأَمر جدا وَلم يتَحَصَّل من السّنة إِلَّا النزر الْيَسِير فَكَأَن الله تَعَالَى أتاح الْإِجْمَاع عصمَة لذَلِك وتوسعة علينا وَالْحَمْد لله
فَهَذَا الْمَذْهَب الْمَجْهُول قَائِله لَا يعرج عَلَيْهِ وَلَا يلْتَفت اللَّيْث إِلَيْهِ وَقد تولى الإِمَام أَبُو عَمْرو النصري رد هَذَا الْمَذْهَب الَّذِي حَكَاهُ وَقَالَ ان الصَّحِيح وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل أَنه من قبيل الْإِسْنَاد الْمُتَّصِل
قَالَ وَإِلَى هَذَا ذهب الجماهير من أَئِمَّة الحَدِيث وَغَيرهم وأودعه

(1/47)


المشترطون للصحيح فِي تصانيفهم فِيهِ وقبلوه
وَقد نقل أَيْضا هَذَا الْمَذْهَب مُبْهما لقائله أَبُو مُحَمَّد بن خَلاد فِي كتاب الْفَاصِل لَهُ
أَنا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق بن طرخان السخوي سَمَاعا عَلَيْهِ بثغر الْإسْكَنْدَريَّة قَالَ أَنا القَاضِي أَبُو طَالب أَحْمد بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن عبد الْمجِيد الْكِنْدِيّ شهر بِابْن حَدِيد سَمَاعا عَلَيْهِ قَالَ أَنا الإِمَام أَبُو طَاهِر السلَفِي سَمَاعا عَلَيْهِ قَالَ أَنا أَبُو الْحُسَيْن الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار الصَّيْرَفِي بِبَغْدَاد قِرَاءَة قيل لَهُ أخْبركُم أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ الفالي بِقِرَاءَتِك عَلَيْك فَأقر بِهِ قَالَ أَنا القَاضِي أَبُو عبد الله أَحْمد بن إِسْحَاق بن خربَان النهاوندي قَالَ أَنا القَاضِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي قَالَ قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين من الْفُقَهَاء كل من روى من أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبرا فَلم يقل فِيهِ سمعته وَلَا حَدثنَا وَلَا أَنبأَنَا وَلَا

(1/48)


أخبرنَا وَلَا لَفْظَة توجب صِحَة الرِّوَايَة إِمَّا بِسَمَاع أَو غَيره مِمَّا يقوم مقَامه فَغير وَاجِب أَن يحكم بِخَبَرِهِ
وَإِذا قَالَ نَا أَو أَنا فلَان عَن فلَان وَلم يقل نَا فلَان أَن فلَانا حَدثهُ وَلَا مَا يقوم مقَام هَذَا من الْأَلْفَاظ احْتمل أَن يكون بَين فلَان الَّذِي حَدثهُ وَبَين فلَان الثَّانِي رجل آخر لم يسمه لِأَنَّهُ لَيْسَ بمنكر أَن يَقُول قَائِل حَدثنَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا وَكَذَا ووفلان حَدثنَا عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ وَسَوَاء قيل ذَلِك مِمَّن علم أَن الْمُخَاطب لم يره أَو مِمَّن لم يعلم ذَلِك مِنْهُ لَان معنى قَوْله عَن إِنَّمَا هُوَ أَن رد الحَدِيث إِلَيْهِ وَهَذَا سَائِغ فِي اللُّغَة مُسْتَعْمل بَين النَّاس قَالَ وَهَذَا هُوَ الْعلَّة فِي المراسل قَالَ وَقد نظم هَذَا بعض الْمُتَأَخِّرين شعرًا فَقَالَ
يتَأَدَّى الي عَنْك مليح
من حَدِيث وبارع من بَيَان ... فَلهَذَا اشتهت حَدِيثك أذناي
وَلَيْسَ الْإِخْبَار مثل العيان ... بَين قَول الْفَقِيه حَدثنَا سفي
ان فرق وَبَين عَن سُفْيَان
انْتهى كَلَام ابْن خَلاد
وَقد رددنا هَذَا الْمَذْهَب بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة واذ بَان أَنه قَول لبَعض الْفُقَهَاء

(1/49)


الْمُتَأَخِّرين فَهُوَ مَسْبُوق بِإِجْمَاع عُلَمَاء الشَّأْن وَالله الْمُوفق
وَقد بَين ذَلِك أَبُو عمر بن عبد الْبر بِمَا حَكَاهُ من الْإِجْمَاع بعد أَن ذكر بِإِسْنَاد عَن وَكِيع قَالَ قَالَ شُعْبَة فلَان عَن فلَان لَيْسَ بِحَدِيث قَالَ وَكِيع وَقَالَ سُفْيَان هُوَ حَدِيث قَالَ أَبُو عمر ثمَّ إِن شُعْبَة انْصَرف عَن هَذَا إِلَى قَول سُفْيَان
قلت وَمَا نَقله مُسلم رَحمَه الله عَن الْعلمَاء الَّذين سمى وَمن جُمْلَتهمْ شُعْبَة من أَنهم لَا يتفقدون ذَلِك يدلك أَيْضا على رُجُوع شُعْبَة كَمَا ذكر أَبُو عمر
فقد بَان أَنه لَا يعلم لمتقدم فِيهِ خلاف إِذا جمع رُوَاته الْعَدَالَة واللقاء والبراءة من التَّدْلِيس وَأَن شُعْبَة رَجَعَ عَن قَوْله

(1/50)


وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عَمْرو الْمقري وَمَا كَانَ من الْأَحَادِيث المعنعنة الَّتِي يَقُول فِيهَا ناقلوها عَن عَن فَهِيَ أَيْضا مُسندَة متصله بِإِجْمَاع أهل النَّقْل إِذا عرف أَن النَّاقِل أدْرك الْمَنْقُول عَنهُ إدراكا بَينا وَلم يكن مِمَّن عرف بالتدليس وان لم يذكر سَمَاعا
إِلَّا أَن قَوْله إدراكا بَينا فِيهِ إِجْمَال وسنستوفي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي ذكر الْمَذْهَب الثَّالِث بحول الله
الْمَذْهَب الثَّانِي
وَهُوَ أَيْضا من مَذَاهِب أهل التَّشْدِيد إِلَّا أَنه أخف من الأول وَهُوَ مَا حَكَاهُ الإِمَام أَبُو عَمْرو النصري ابْن الصّلاح قَالَ وَذكر أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ فِي المعنعنة أَنه يشْتَرط طول الصُّحْبَة بَينهم
قلت وَهَذَا بِلَا ريب يتَضَمَّن السماع غَالِبا لجملة مَا عِنْد الْمُحدث أَو أَكْثَره وَلَا بُد مَعَ هَذَا أَن يكون سالما من وصمة التَّدْلِيس

(1/51)


وَحجَّة هَذَا الْمَذْهَب هِيَ الأولى بِعَينهَا وَلكنه خفف فِي اشْتِرَاك السماع تنصيصا فِي كل حَدِيث حَدِيث لتعذر ذَلِك ولوجود الْقَرَائِن المفهمة للإتصال من إِيرَاد الْإِسْنَاد وَإِرَادَة الرّفْع بَعضهم عَن بعض عِنْد قَوْلهم فلَان عَن فلَان مَعَ طول الصُّحْبَة
الْمَذْهَب الثَّالِث
وَهُوَ رَأْي كثير من الْمُحدثين مِنْهُم الإِمَام أَبُو عبد الله البُخَارِيّ وَشَيْخه أَبُو الْحسن عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَغَيرهمَا
نقل ذَلِك عَنْهُم القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض وَغَيره
وَهُوَ مَذْهَب متوسط فِي اشْتِرَاط ثُبُوت السماع أَو اللِّقَاء فِي الْجُمْلَة لَا فِي حَدِيث حَدِيث
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من مَذَاهِب الْمُحدثين وَهُوَ الَّذِي يعضده النّظر فَلَا يحمل مِنْهُ على الإتصال إِلَّا مَا كَانَ بَين متعاصرين يعلم أَنَّهُمَا قد التقيا من دهرهما مرّة فَصَاعِدا وَمَا لم يعرف ذَلِك فَلَا تقوم الْحجَّة مِنْهُ إِلَّا بِمَا شهد لَهُ لفظ السماع أَو التحديث أَو مَا أشبههما من الْأَلْفَاظ الصَّرِيحَة إِذا أخبر بهَا الْعدْل عَن الْعدْل
وَحجَّة هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا مَا تقدم من إِجْمَاع جَمَاهِير النقلَة على

(1/52)


قبُول الْإِسْنَاد المعنعن وإيداعه فِي كتبهمْ الَّتِي اشترطوا فِيهَا إِيرَاد الصَّحِيح مَعَ مَا تقرر من مذاهبهم أَن الْمُرْسل لَا تقوم بِهِ حجَّة وَأَنَّهُمْ لَا يودعون فِيهَا إِلَّا مَا اعتقدوا أَنه مُسْند
قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن عبد الْبر الْحَافِظ الإِمَام وجدت أَئِمَّة الحَدِيث أَجمعُوا على قبُول المعنعن لَا خلاف بَينهم فِي ذَلِك إِذا جمع شُرُوطًا ثَلَاثَة
عدالتهم
ولقاء بَعضهم لبَعض مجالسة ومشاهدة
وبراءتهم من التَّدْلِيس

(1/53)


قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح الإِمَام النَّاقِد والإعتماد فِي الحكم بالإتصال على مَذْهَب الْجُمْهُور إِنَّمَا هُوَ على اللِّقَاء والإدراك قلت وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي من حَيْثُ الإحتياط أَن يشْتَرط تحقق السماع فِي الْجُمْلَة لَا مُطلق اللِّقَاء فكم من تَابع لَقِي صاحبا وَلم يسمع مِنْهُ وَكَذَلِكَ من بعدهمْ
وَيَنْبَغِي أَن يحمل قَول البُخَارِيّ وَابْن الْمَدِينِيّ على أَنَّهُمَا يُريدَان باللقاء السماع
وَهَذَا الْحَرْف لم نجد عَلَيْهِ تنصيصا يعْتَمد وَإِنَّمَا وجدت ظواهر مُحْتَملَة

(1/54)


أَن يحصل الإكتفاء عِنْدهم باللقاء الْمُحَقق وَإِن لم يذكر سَماع وَأَن لَا يحصل الإكتفاء إِلَّا بِالسَّمَاعِ وَأَنه الْأَلْيَق بتحريهما وَالْأَقْرَب إِلَى صوب الصَّوَاب فَيكون مرادهما باللقاء وَالسَّمَاع معنى وَاحِدًا

(1/55)


وَفِي قَول مُسلم حاكيا لِلْقَوْلِ الَّذِي تولى رده مَا يَقْتَضِي الإكتفاء بِمُجَرَّد اللِّقَاء حَيْثُ قَالَ فِي تضاعيف كَلَامه
وَلم نجد فِي شَيْء من الرِّوَايَات أَنَّهُمَا التقيا قطّ أَو تشافها بِحَدِيث الْفَصْل
فَظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن أَحدهمَا بدل من الآخر وَأَن أَو للتقسيم لَا بِمَعْنى الْوَاو وَقد أَتَى بِهِ أَيْضا فِي أثْنَاء كَلَامه بِالْوَاو فَقَالَ وَإِن لم يَأْتِ فِي خبر قطّ أَنَّهُمَا اجْتمعَا وَلَا تشافها بِكَلَام وكرره أَيْضا بِالْوَاو فَقَالَ ثمَّ أدخلت فِيهِ الشَّرْط فَقلت حَتَّى

(1/56)


يعلم أَنَّهُمَا قد كَانَا قد التقيا مرّة فَصَاعِدا وَسمع مِنْهُ شَيْئا
وَهَذَا أبين أَلْفَاظه
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن البيع الْحَاكِم فِي كتاب معرفَة عُلُوم الحَدِيث لَهُ فِي النَّوْع الْحَادِي عشر مِنْهُ المعنعن بِغَيْر تَدْلِيس مُتَّصِل بِإِجْمَاع أهل النَّقْل على تورع رُوَاته عَن التَّدْلِيس
وَقَالَ الْفَقِيه الْمُحدث أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ وَكَذَلِكَ مَا قَالُوا فِيهِ عَن عَن فَهُوَ أَيْضا من الْمُتَّصِل إِذا عرف أَن ناقله أدْرك الْمَنْقُول عَنهُ إدراكا بَينا وَلم يكن مِمَّن عرف بالتدليس
قلت وقولهما مَعًا لَا يَخْلُو من إِجْمَال إِذْ لَا بُد أَن يكون مُرَاد الْحَاكِم ثُبُوت المعاصرة أَو السماع إِذْ لَا يقبل مُعَنْعَن من لم تصح لَهُ معاصرة فَلَا بُد من قيد وَكَأَنَّهُ اكْتفى عَنهُ بقوله على تورع رُوَاته عَن التَّدْلِيس
وَقد سبق لَهُ فِي كِتَابه هَذَا فِي النَّوْع الرَّابِع مِنْهُ فِي معرفَة المسانيد من الْأَحَادِيث تَقْيِيد ذَلِك بِمَا نَصه والمسند من الحَدِيث أَن يرويهِ الْمُحدث

(1/57)


عَن شيخ يظْهر سَمَاعه مِنْهُ بسن مُحْتَملَة وَكَذَلِكَ سَماع شَيْخه من شَيْخه إِلَى أَن يصل الْإِسْنَاد إِلَى صَحَابِيّ مَشْهُور إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِلَّا أَن هَذَا الْموضع من كتاب الْحَاكِم فِيهِ اضْطِرَاب بَين رُوَاته فَروِيَ كَمَا ذَكرْنَاهُ بسن مُحْتَملَة
وَعند ابْن سعدون بسن يحتملة
وَالْمعْنَى وَاحِد أَي أَنه يَكْتَفِي فِي ظُهُور السماع بِكَوْن السن تحْتَمل اللِّقَاء وَمعنى هَذَا يكْتَفى بالمعاصرة وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب مُسلم رَحمَه الله حَيْثُ قَالَ وَذَلِكَ أَن القَوْل الشَّائِع الْمُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل الْعلم بالأخبار وَالرِّوَايَات قَدِيما وحديثا أَن كل رجل ثِقَة روى عَن مثله حَدِيثا وَجَائِز مُمكن لَهُ لقاؤه وَالسَّمَاع مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عصر وَاحِد وَإِن لم يَأْتِ فِي خبر قطّ أَنَّهُمَا اجْتمعَا وَلَا تشافها بِكَلَام فَالرِّوَايَة ثَابِتَة وَالْحجّة بهَا لَازِمَة إِلَّا أَن تكون هُنَاكَ دلَالَة بَيِّنَة أَن هَذَا الرَّاوِي لم يلق من روى عَنهُ أَو لم يسمع مِنْهُ شَيْئا فَأَما وَالْأَمر مُبْهَم على الْإِمْكَان الَّذِي فسرنا فَالرِّوَايَة على السماع أبدا حَتَّى تكون الدّلَالَة الَّتِي بَينا انْتهى

(1/58)


وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَيْضا ذهب الْحَافِظ أَبُو عَمْرو المقريء الداني فِي جزيء لَهُ وَضعه فِي بَيَان الْمُتَّصِل والمرسل وَالْمَوْقُوف والمنقطع فَقَالَ الْمسند من الْآثَار الَّذِي لَا إِشْكَال فِي اتِّصَاله هُوَ مَا يرويهِ الْمُحدث عَن شيخ يظْهر سَمَاعه مِنْهُ بسن يحتملها وَكَذَلِكَ شَيْخه عَن شَيْخه إِلَى أَن يصل الْإِسْنَاد إِلَى الصَّحَابِيّ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَهَذَا مُوَافق ظَاهره لهَذِهِ الرِّوَايَة وَقد يحْتَمل أَن يكون مُرَاده بقوله يظْهر سَمَاعه بسن تحتمله أَي أَنه يعلم السماع بقوله وَتَكون سنه تصدق ذَلِك وَالله أعلم
ويروى أَيْضا كَلَام الْحَاكِم يظْهر سَمَاعه مِنْهُ لَيْسَ يحْتَملهُ وَهَكَذَا قرأته بِخَط خلف بن مُدبر فِي أَصله وَذكر فِي صدر كِتَابه أَنه روى الْكتاب عَن الْبَاجِيّ والعذري وَهَذِه الرِّوَايَة عِنْدِي أظهر وَعَلَيْهَا يدل كَلَامه بعد عِنْد التَّمْثِيل وَظَاهر الْكَلَام أَيْضا مشْعر بذلك من حَيْثُ قرينَة الْمُطَابقَة حَيْثُ قَالَ يظْهر سَمَاعه فَهَذَا إِثْبَات لظُهُور السماع ثمَّ أكد ذَلِك بقوله لَيْسَ يحْتَملهُ فنفى أَن يكْتَفى بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال من

(1/59)


حَيْثُ المعاصرة بل لَا بُد أَن يكون السماع ظَاهرا مَعْلُوما والتمثيل يدل على صِحَة هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ وَمِثَال ذَلِك مَا حَدثنَا أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن أَحْمد بن السماك بِبَغْدَاد
قَالَ نَا الْحسن بن مكرم قَالَ نَا عُثْمَان بن عمر قَالَ نَا يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه أَنه تقاضى ابْن أبي حَدْرَد دينا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد فارتفعت أصواتهما حَتَّى سَمعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج حَتَّى كشف سجف حجرته فَقَالَ يَا كَعْب ضع من دينك هَذَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَي الشّطْر قَالَ نعم فقضاه
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَبَيَان مِثَال مَا ذكرته أَن سَمَاعي من ابْن السماك ظَاهر وسماعه من الْحسن بن مكرم ظَاهر وَكَذَلِكَ سَماع الْحسن بن عُثْمَان بن عمر وَسَمَاع عُثْمَان من يُونُس بن يزِيد وَهُوَ عَال لعُثْمَان وَيُونُس مَعْرُوف بالزهري وَكَذَلِكَ الزُّهْرِيّ ببني كَعْب بن مَالك وَبَنُو كَعْب بأبيهم وَكَعب برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصحبته انْتهى مَا أردناه من كَلَام الْحَاكِم
وسندنا فِي كتاب معرفَة عُلُوم الحَدِيث لَهُ من طَرِيق ابْن سعدون

(1/60)


هُوَ مَا اُخْبُرْنَا بِهِ إجَازَة شَيخنَا الأديب الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن هَارُون الطَّائِي الْقُرْطُبِيّ قَالَ أَنا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن يزِيد بن بَقِي إجَازَة قَالَ أَنا الراوية أَبُو الْقَاسِم خلف بن عبد الْملك بن بشكوال إجَازَة قَالَ قرأته على القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز ابْن أبي الْخَيْر وناولنيه أَبُو بَحر الْأَسدي قَالَا قرأناه على أبي عبد الله مُحَمَّد بن سعدون الْقَرَوِي قَالَ أَنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ المطوعي النَّيْسَابُورِي قَالَ أَنا مُؤَلفه
وسندنا فِيهِ من طَرِيق أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ مَا أجَازه لنا أَبُو الْحسن عَليّ ابْن أَحْمد بن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي عَن أبي طَاهِر بَرَكَات بن إِبْرَاهِيم بن طَاهِر الدِّمَشْقِي إجَازَة عَن الإِمَام أبي بكر الطرطوشي كِتَابَة عَن أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ قَالَ نَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ المطوعي النَّيْسَابُورِي أَنا الْحَاكِم
وَقد روينَاهُ أَعلَى من هَذَا دَرَجَة على علوه وَلَكِن الْمُعَارضَة إِنَّمَا حصلت لنا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فَلذَلِك اقتصرنا عَلَيْهِمَا
وَأما لفظ الْقَابِسِيّ فَيمكن أَن يُرِيد بِهِ ثُبُوت المعاصرة الْبَيِّنَة وَهُوَ أظهر احتماليه فِيهِ وَيُمكن أَن يُرِيد طول الصُّحْبَة فَيكون مُوَافقا لما ذكره أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ
وَحكى ابْن عبد الْبر عَن جُمْهُور أهل الْعلم أَنه لَا اعْتِبَار بالحروف والألفاظ وَإِنَّمَا هُوَ باللقاء والمجالسة والمشاهدة

(1/61)


قَالَ ابْن الصّلاح يَعْنِي مَعَ السَّلامَة من التَّدْلِيس
هَذَا مَا حَضَرنَا من النَّقْل عَن أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن
وَأما من حَيْثُ النّظر فَكَانَ الأَصْل كَمَا قدمنَا أَن لَا يقبل إِلَّا مَا علم فِيهِ السماع حَدِيثا حَدِيثا عِنْد من لَا يَقُول بالمرسل لاحْتِمَال الِانْفِصَال إِلَّا أَن عُلَمَاء الحَدِيث رَأَوْا ان تتبع طلب لفظ صَرِيح فِي الِاتِّصَال يعز وجوده وَأَنه إِذا ثَبت اللِّقَاء ظن مَعَه السماع غَالِبا وَأَن الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعهم فَمن بعدهمْ استغنوا كثيرا بِلَفْظ عَن فِي مَوضِع سَمِعت وَحدثنَا وَغَيرهمَا من الْأَلْفَاظ الصَّرِيحَة فِي الِاتِّصَال اختصارا وَلما عرف من عرفهم الْغَالِب فِي ذَلِك وَأَنه لَا يَضَعهَا فِي مَحل الِانْقِطَاع عَمَّن علم سَمَاعه مِنْهُ لغير ذَلِك الحَدِيث بِقصد الْإِيهَام إِلَّا مُدَلّس يُوهم انه سمع مَا لم يسمع أَنَفَة من النُّزُول أَو لغير ذَلِك من الْأَغْرَاض الَّتِي لَا يَخْلُو أَكْثَرهَا من كَرَاهَة فا نتهض ذَلِك مرجحا لقبُول المعنعن عِنْد ثُبُوت اللِّقَاء
لَا يُقَال إِن غير المدلس قد يَقُول عَن فِي مَحل الْإِرْسَال وَلَا يعد بذلك مدلسا لِأَنَّهُ قد علم من مذْهبه أَنه لَا يُدَلس لأَنا نقُول فِي الْجَواب إِن غير المدلس لَا يَفْعَله إِلَّا فِيمَا علم أَنه لم يسمعهُ لتحَقّق عدم المعاصرة كَمَا يَقُول التَّابِعِيّ أَو تَابعه أَو من بعدهمَا روينَا عَن رَسُول الله

(1/62)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا فَهَذَا مَعْلُوم أَنه بَلَاغ فَلَا يُوهم ذَلِك سَمَاعا فَعدل عَن الْعرف إِلَى عَام اللُّغَة مكتفيا بِقَرِينَة عدم اللِّقَاء وَالسَّمَاع كَمَا عدل هُنَاكَ إِلَى خَاص الِاصْطِلَاح مكتفيا بِقَرِينَة معرفَة السماع
فَإِن قيل قد وجد الْإِرْسَال من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمِمَّنْ بعدهمْ مِمَّن يعلم أَو يظنّ أَنه لَا يُدَلس عَمَّن لقِيه وَسمع مِنْهُ قُلْنَا أما حَال الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي ذَلِك الَّذين وَجَبت محاشاتهم عَن قصد التَّدْلِيس فتحتمل وُجُوهًا
مِنْهَا أَن يَكُونُوا فعلوا ذَلِك اعْتِمَادًا على عَدَالَة جَمِيعهم فالمخوف فِي الْإِرْسَال قد أَمن يدل على ذَلِك
مَا قَالَه أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ ذكر أَبُو بكر بن أبي خَيْثَمَة فِي تَارِيخه قَالَ نَا مُوسَى ابْن اسماعيل وهدبة قَالَا نَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن حميد أَن أنسا حَدثهمْ بِحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ رجل أَنْت سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَغَضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ وَالله مَا كل مَا نحدثكم سمعنَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن كَانَ يحدث بَعْضنَا بَعْضًا وَلَا يتهم بَعْضنَا بَعْضًا

(1/63)


قلت وَلذَلِك قبل جُمْهُور الْمُحدثين بل جَمِيع الْمُتَقَدِّمين وَإِنَّمَا خَالف فِي ذَلِك بعض من تأصل من الْمُحدثين الْمُتَأَخِّرين مراسل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وعَلى الْقبُول محققو الْفُقَهَاء والأصليين
وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا أَتَوا بِلَفْظ قَالَ أَو عَن وَلَفظ قَالَ أظهر إِذْ هُوَ مهيع الْكَلَام قبل أَن يغلب الْعرف فِي استعمالهما للإتصال
وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا فعلوا ذَلِك عِنْد حُصُول قرينَة مفهمة للإرسال مَعَ تحقق سَلامَة أغراضهم وإرتفاعهم عَن مَقَاصِد المدلسين وأغراضهم
وَمِنْهَا أَن يَكُونُوا أَتَوا بِلَفْظ مفهم لذَلِك فَاخْتَصَرَهُ من بعدهمْ لثقة جَمِيعهم وَلَعَلَّ قَول كثير من التَّابِعين عَمَّن يروون عَنهُ من الصَّحَابَة ينمي الحَدِيث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو يبلغ بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَو يرفعهُ أَو مَا أشبه هَذَا من الْأَلْفَاظ عبارَة عَن ذَلِك
وَأما من سوى الصَّحَابَة فَإِنَّمَا فعل ذَلِك من فعله مِنْهُم بِقَرِينَة مفهمة للإرسال فِي ظَنّه وَإِلَّا عد مدلسا

(1/64)


وَأما المعاصر غير الملاقي إِذا أطلق عَن فالضاهر لظَاهِر أَنه لَا يعد مدلسا بل هُوَ أبعد عَن التَّدْلِيس لِأَنَّهُ لم يعرف لَهُ لِقَاء وَلَا سَماع بِخِلَاف من علم لَهُ لِقَاء أَو سَماع
وَبِالْجُمْلَةِ فلولا مَا فهم قصد الْإِيهَام بالإفهام من جمَاعَة من الْأَعْلَام مَا جَازَ أَن ينسبوا إِلَى ذَلِك ولعدوا مرسلين كَمَا عد من تحقق مِنْهُ أَنه لَا يُدَلس إِذا أرسل ورحم الله إِمَام الْأَئِمَّة وعالم الْمَدِينَة أَبَا عبد الله مَالك ابْن أنس حَيْثُ اسْتعْمل لفظ الْبَلَاغ وجانب الْأَلْفَاظ الموهمة فَللَّه دره مَا أجمل مقاصده وأرضى مذاهبه
هَذَا تَقْرِير دَلِيل هَذَا الْمَذْهَب وتحريره وَهُوَ أرجح الْمذَاهب وأوسطها
فَلَا تغل فِي شَيْء من الْأَمر واقتصد ... كلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم
وَقرر الْحَافِظ أَبُو عَمْرو النصري هَذَا الدَّلِيل بِمَا لَا يسلم مَعَه من الِاعْتِرَاض وورود النَّقْض فَإِنَّهُ قَالَ وَمن الْحجَّة
فِي ذَلِك أَنه لَو لم يكن قد سَمعه مِنْهُ لَكَانَ بِإِطْلَاقِهِ الرِّوَايَة عَنهُ من غير ذكر الْوَاسِطَة بَينه وَبَينه مدلسا وَالظَّاهِر السَّلامَة من وصمة التَّدْلِيس وَالْكَلَام فِيمَن لم يعرف بالتدليس انْتهى
وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ ينْتَقض بِأَقْوَام عنعنوا مرسلين وَلم يعدوا مدلسين

(1/65)


كَمَا ذكر مُسلم رَحمَه الله من أَن الْأَئِمَّة الَّذين نقلوا الْأَخْبَار كَانَت لَهُم تارات يرسلون فِيهَا الحَدِيث إرْسَالًا وَلَا يذكرُونَ من سَمِعُوهُ مِنْهُ وَتارَة ينشطون فِيهَا فيسندون الْخَبَر على هَيْئَة مَا سمعُوا فيخبرون بالنزول فِيهِ إِن نزلُوا وبالصعود إِن صعدوا
فَإِذا قرر هَذَا الدَّلِيل كَمَا قَرَّرْنَاهُ نَحن انزاح قَول من قَالَ إِنَّه لَا يقبل إِلَّا مَا نَص فِيهِ على السماع رجلا رجلا وحديثا حَدِيثا محتجا بِأَنَّهُم يأْتونَ ب عَن فِي مَوضِع الْإِرْسَال والانقطاع واضمحلت شبهته بِمَا بَيناهُ من أَن غير المدلس إِنَّمَا يَفْعَله حَيْثُ يعلم مِنْهُ أَو يفهم عَنهُ أَنه بَلَاغ لَا سَماع وَمَتى أبهم فأوهم قصدا مِنْهُ لذَلِك عد مدلسا
وَلَا يخلص الإِمَام أَبَا عَمْرو النصري من النَّقْض الاحتراس بقوله وَالْكَلَام فِيمَن لم يعرف بالتدليس لأَنا نقُول وَكَذَلِكَ فَرضنَا نَحن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِيمَن لم يعرف بالتدليس أما من عرف بالتدليس فمعرفته بذلك كَافِيَة فِي التَّوَقُّف فِي حَدِيثه حَتَّى يتَبَيَّن الْأَمر وَإِنَّمَا اعترضنا قَوْله لِأَنَّهُ لَو لم يكن قد سَمعه مِنْهُ لَكَانَ بِإِطْلَاقِهِ الرِّوَايَة عَنهُ من غير ذكر الْوَاسِطَة بَينهمَا مدلسا فَإِن هَذَا لَا يلْزم لِإِمْكَان وسط بَينهمَا وَهُوَ كَونه مُرْسلا فَلَيْسَ بِمُجَرَّد العنعنة من غير ذكر الْوَاسِطَة يعد مدلسا بل بِقصد

(1/66)


إِيهَام السماع فِيمَا لم يسمع وَكَأن الإِمَام أَبَا عَمْرو استشعر النَّقْض فرام الاحتراس مِنْهُ بقوله وَالْكَلَام فِيمَن لم يعرف بالتدليس وَمَعَ ذَلِك فَيصح أَن يُقَال لَا يلْزم من قَوْله لم يعرف بالتدليس أَن يعرف بالسلامة مِنْهُ بل الْأَمر مُحْتَمل لَكِن حمل على السَّلامَة لِأَنَّهَا الْغَالِب وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الإِمَام أَبُو عَمْرو بقوله وَالظَّاهِر السَّلامَة من وصمة التَّدْلِيس
هَذَا هُوَ الفيصل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهَذِه نُكْتَة نفيسة تكشف لَك حجاب الْإِشْكَال وتوضح الْفرق بَين من عنعن فعد مُرْسلا وَمن عنعن فعد مدلسا وَقد أَتَى مُسلم رَحمَه الله بأمثلة من ذَلِك نتكلم عَلَيْهَا بعد إِن شَاءَ الله فِي الدَّلِيل الثَّانِي من الْبَاب الثَّانِي بِمَا يفتح الله تَعَالَى بِهِ فَهُوَ الفتاح الْعَلِيم
الْمَذْهَب الرَّابِع
أَنه لَا يشْتَرط فِي الحكم بالاتصال فِي الْإِسْنَاد المعنعن إِلَّا المعاصرة فَقَط والسلامة من التَّدْلِيس علم السماع أَو لم يعلم إِلَّا أَن يَأْتِي مَا

(1/67)


يُعَارض ذَلِك مثل أَن يعلم أَنه لم يسمع أَو لم يلق الْمَنْقُول عَنهُ وَلَا شَاهده أَو تكون سنه لَا تَقْتَضِي ذَلِك
وَهَذَا الْمَذْهَب الرَّابِع هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ أَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج رَحمَه الله فِي مُقَدّمَة كِتَابه الْمسند الصَّحِيح
وَقد تقدم لَفظه فِي ذَلِك حَيْثُ دَعَا إِلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام فِي تضاعيف الْمَذْهَب الثَّالِث فأغنى عَن إِعَادَته وَهُوَ الْمَذْهَب الَّذِي اسْتدلَّ عَلَيْهِ وَادّعى فِيهِ الْإِجْمَاع وَعرف الْمُحدثين وَأنكر قَول من خَالفه إنكارا شَدِيدا بِأَلْفَاظ مخشوشنة وَمَعَان مستوبلة وَجعل الْقَائِل بِهِ خارقا للْإِجْمَاع ظنا مِنْهُ رَحمَه الله أَنه خلاف فِي مَوضِع الْإِجْمَاع
وَمَوْضِع الْإِجْمَاع لَا يسلم لَهُ إِنَّه يتَنَاوَل مَحل النزاع حَسْبَمَا

(1/68)


يتَبَيَّن بعد إِن شَاءَ الله فِي الْبَاب الثَّانِي
قَالَ الإِمَام أَبُو عَمْرو النصري وَأنكر مُسلم بن الْحجَّاج فِي خطْبَة صَحِيحَة على بعض أهل عصره حَيْثُ اشْترط فِي العنعنة ثُبُوت اللِّقَاء والاجتماع وَادّعى انه قَول مخترع لم يسْبق قَائِله إِلَيْهِ وَأَن القَوْل

(1/69)


الشَّائِع الْمُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل الْعلم بالأخبار قَدِيما وحديثا أَنه يَكْفِي فِي ذَلِك أَن يثبت كَونهمَا فِي عصر وَاحِد وَإِن لم يَأْتِ فِي خبر قطّ أَنَّهُمَا اجْتمعَا أَو تشافها قَالَ وَفِيمَا قَالَه مُسلم نظر ثمَّ قَالَ وَقد قيل إِن القَوْل الَّذِي رده مُسلم هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة هَذَا الْعلم عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا انْتهى
قلت قد بَينا قبل أَنه مَذْهَب البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ حَسْبَمَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله عَنْهُمَا وَقد تبع مُسلما على مذْهبه فرقة من الْمُحدثين وَفرْقَة من الأصليين مِنْهُم القَاضِي الإِمَام أَبُو بكر ابْن الطّيب الباقلاني الْمَالِكِي فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي أَبُو الْفضل عَنهُ وَأَبُو بكر الشَّافِعِي الصَّيْرَفِي فِيمَا حكى ابْن الصّلاح عَنهُ أَنه قَالَ كل من علم لَهُ سَماع من إِنْسَان فَحدث مِنْهُ فَهُوَ على السماع حَتَّى يعلم أَنه لم يسمع مِنْهُ مَا حَكَاهُ وكل من علم لَهُ لِقَاء إِنْسَان فَحدث عَنهُ فَحكمه هَذَا الحكم قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِيمَن لم يظْهر تدليسه
قلت ولاشك أَنه مَذْهَب متساهل فِيهِ نعم لَو علمنَا من كل وَاحِد وَاحِد من رُوَاة ذَلِك الحَدِيث أَنه لَا يُطلق عَن إِلَّا فِي مَوضِع

(1/70)


الِاتِّصَال وَلَا يُجِيز غير ذَلِك أَو صَحَّ فِيهِ إِجْمَاع من الروَاة كلهم وَعرف لَا ينخرم ضَبطه وَلَكِن ذَلِك لم يثبت نعم قد يسلم الْمنصف أَنه كثير وَلَا يلْزم من كثرته الحكم بِهِ مُطلقًا لوُجُود الإحتمال
الْمَذْهَب الْخَامِس
اصْطِلَاح حدث عِنْد الْمُتَأَخِّرين قَالَ الإِمَام أَبُو عَمْرو النصري وَكثر فِي عصرنا وَمَا قاربه بَين المنتسبين إِلَى الحَدِيث اسْتِعْمَال عَن فِي الْإِجَازَة فَإِذا قَالَ أحدهم قَرَأت على فلَان عَن فلَان أَو نَحْو ذَلِك فَظن بِهِ أَنه رَوَاهُ عَنهُ بِالْإِجَازَةِ قَالَ وَلَا يُخرجهُ ذَلِك من قبيل الِاتِّصَال على مَا لَا يخفى
قلت وَهَذَا اصْطِلَاح تواضع عَلَيْهِ قوم فَلَا نحتاج لَهُ إِلَى تكلّف احتجاج وَكَأن هَؤُلَاءِ استشعروا أَن الْإِجَازَة آخذة بشوب من الِانْقِطَاع إِذْ لابد فِي الْإِجَازَة الْمُجَرَّدَة عَن المناولة لذَلِك الشَّيْء بِعَيْنِه أَو كتبته بِعَيْنِه من الِاعْتِمَاد على الوجادة أَو بُلُوغ ذَلِك إِلَيْهِ بِنَقْل الْآحَاد الْعُدُول أَو الاستفاضة أَو التَّوَاتُر فكأنهم رَأَوْا أَن إِلْغَاء الْمبلغ يدْخلهُ شوبا من الْإِرْسَال فَلذَلِك استعملوا فِيهَا عَن الَّتِي قد تسْتَعْمل فِي الْإِرْسَال على أَن الإِمَام أَبَا عَمْرو ابْن الصّلاح أَبى أَن يكون فِي الْإِجَازَة انْقِطَاع وَقَالَ لَيْسَ فِي

(1/71)


الْإِجَازَة مَا يقْدَح فِي اتِّصَال الْمَنْقُول بهَا وَفِي الثِّقَة بِهِ
وَمَا اخْتَارَهُ هُوَ الَّذِي لَا يتَّجه غَيره عِنْد مجيزي الْإِجَازَة الْمُطلقَة وجاعليها إِخْبَارًا فِي الْجُمْلَة وَهُوَ الَّذِي اعْتَمدهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فَإِنَّهُ يَقُول فِيمَا يروي بِالْإِجَازَةِ أخبرنَا مُطلقًا من غير ذكر إجَازَة لِأَنَّهُ يَرَاهَا إِخْبَارًا فِي الْجُمْلَة زمن الْإِجَازَة ثمَّ يحصل الْعلم لَهُ بالتفصيل فِي ثَانِي حَال
وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَافِظ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْمفضل الْمَقْدِسِي حَاكم الْإسْكَنْدَريَّة من خلاف ذَلِك لَيْسَ بِصَحِيح حَيْثُ قَالَ أثْنَاء كَلَام لَهُ فِي جُزْء سَمَّاهُ تَحْقِيق الْجَواب عَمَّن أُجِيز لَهُ مَا فَاتَهُ من الْكتاب لما تكلم على الطّرق المحصلة الْعلم عِنْد الْمجَاز بِأَن هَذَا من حَدِيث الْمُجِيز لَهُ قَالَ فِيهِ إِلَّا أَنه إِذا لم يسم من أخبرهُ عَمَّن أجَاز لَهُ فَهُوَ مُرْسل لَا محَالة
قلت وَهَذَا سد لباب الْإِجَازَة الْمُطلقَة وَلم يعْتَبر أحد مِمَّن يعْتَبر عِنْد علمه بتفصيل الْمجَاز لَهُ إِعْمَال هَذِه الْوَاسِطَة بل اعتمدوا إلغاؤها وعَلى ذَلِك اسْتمرّ عَمَلهم قَدِيما وحديثا وَإِن ذكرهَا ذَاكر من أهل التشدد قَائِلا أَنا فلَان إجَازَة وأفادنا أَن ذَلِك من حَدِيثه فلَان فطلبا للأكمل وتحريا لبَيَان الْحَالة كَيفَ وَقعت وخروجا عَن الْعهْدَة لَا سِيمَا

(1/72)


حَيْثُ يكون الْمجَاز مِمَّن لَا يعرف الْأَسَانِيد والطرق فَيرى الْبَرَاءَة من الْعهْدَة وإلزاقها بالمخبر لَهُ وَمَا بَيناهُ لَك من أَنه لَا بُد فِيهَا من الِاعْتِمَاد على الوجادة أَو الْبَلَاغ
والوجادة وَإِن أخذت بِطرف من الِاتِّصَال إِذا انْفَرَدت فَلَا يخفى مَا فِيهَا من الِانْقِطَاع لَكِنَّهَا إِذا ازدوجت مَعَ الْإِجَارَة قوى فِيهَا جَانب الإتصال بل صَارَت مُتَّصِلَة وَصَارَ ذَلِك الإنقطاع ملغى عِنْد وجادة الْمجَاز والاطلاع عَلَيْهِ تَفْصِيلًا مَعَ تقدم الْإِجَازَة المفهمة الْإِخْبَار إِجْمَالا فتحقق حكم الِاتِّصَال فِي ثَانِي حَال كَحكم الْكتاب إِذا وصل إِلَى الْمَكْتُوب إِلَيْهِ فَعرف خطّ كَاتبه أَو خَتمه بِأَيّ وَجه عرف ذَلِك ألغى الْوَاسِطَة المبلغة وَثَبت الِاتِّصَال على مَا هُوَ المتقرر الْمَشْهُور من عمل الْأَئِمَّة الماضين من الصَّحَابَة فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعده وَالتَّابِعِينَ بعدهمْ كَمَا روينَاهُ سَمَاعا بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدّم إِلَى أبي مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي قَالَ حَدثنِي الْعَبَّاس بن الْحسن قَالَ نَا أَحْمد بن عبد الله بن بكر النَّيْسَابُورِي قَالَ نَا يحيى بن عُثْمَان قَالَ نَا بَقِيَّة قَالَ سَمِعت شُعْبَة يَقُول كتب إِلَيّ مَنْصُور بِأَحَادِيث فَقلت أَقُول حَدثنِي قَالَ نعم إِذا كتبت إِلَيْك فقد حدثتك قَالَ شُعْبَة فَسَأَلت أَيُّوب عَن ذَلِك فَقَالَ صدق إِذا كتب إِلَيْك إِذا حَدثَك

(1/73)


فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّة ثَلَاثَة رَأَوْا ذَلِك
قَالَ القَاضِي عِيَاض أَبُو الْفضل وَأَجْمعُوا على الْعَمَل بِمُقْتَضى هَذَا الحَدِيث وعدوه فِي الْمسند بِغَيْر خلاف يعرف فِي ذَلِك وَهُوَ مَوْجُود فِي الْأَسَانِيد كثير
قلت وَوَجهه وضاح الأسرة وَقد سفر عَنهُ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي فِيمَا روينَاهُ عَنهُ بإسنادنا إِلَيْهِ فَقَالَ لِأَن الْغَرَض من القَوْل بِاللِّسَانِ فِيمَا تقع الْعبارَة فِيهِ بِاللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ تَعْبِير اللِّسَان عَن ضمير الْقلب فَإِذا وَقعت الْعبارَة عَن الضَّمِير بِأَيّ سَبَب كَانَ من أَسبَاب الْعبارَة إِمَّا بِكِتَاب وَإِمَّا بِإِشَارَة وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك مِمَّا يقوم مقَامه كَانَ ذَلِك سَوَاء انْتهى

(1/74)


قلت وَإِنَّمَا اعْتمد النَّاس مُنْذُ مُدَّة مُتَقَدّمَة على الْإِجَازَة الْمُطلقَة وَالْكِتَابَة الْمُطلقَة توسعة لباب النَّقْل وترحيبا لمجال الْإِسْنَاد لعزة وجود السماع على وَجهه فِي هَذِه الْأَعْصَار بل قبلهَا بِكَثِير وَتعذر الرحل فِي الْأَكْثَر من الْأَحْوَال واعتمادا على أَن الْأَحَادِيث لما صَارَت فِي دفاتر محصورة وأمات مصنفات مَشْهُورَة ومرويات الشُّيُوخ فِي فهارس مفهرسة قَامَ ذَلِك عِنْدهم مقَام التَّعْيِين الَّذِي كَانَ من مضى من السّلف يَفْعَله فَاكْتفى المجيزون بالإخبار الْجملِي واعتمدوا فِي الْبَحْث عَن التَّفْصِيل على الْمجَاز إِذا تأهل لذَلِك فَكَانَت رخصَة أَخذ بهَا جَمَاهِير أهل الْعلم إبْقَاء لسلسلة الْإِسْنَاد الَّتِي خصت بهَا هَذِه الْأمة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَإِن كَانَت هَذِه لَيست الْإِجَازَة المتعارفة عِنْد التَّابِعين وتابعيهم كالحسن بن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ وَنَافِع مولى عبد الله بن عمر وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة وَمُجاهد بن جبر وعلقمة بن قيس وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَغَيرهم مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة فَإِنَّمَا كَانَت تِلْكَ فِي الشَّيْء الْمعِين يعرفهُ الْمُجِيز وَالْمجَاز لَهُ أَو مَعَ حُضُور الشَّيْء الْمجَاز فِيهِ
كَمَا أَنا بكتابه غير مرّة مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق الْأمَوِي قَالَ أَنا أَبُو الْحسن ابْن الْمفضل إجَازَة إِن لم يكن سَمَاعا قَالَ أَنا القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى العثماني بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أَنا أَبُو الْفضل جَعْفَر بن إِسْمَاعِيل بن خلف الْأنْصَارِيّ أَنا أبي أَنا أَبُو ذَر عبد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الْهَرَوِيّ نَا أَبُو الْعَبَّاس الْوَلِيد بن بكر ابْن مخلد الأندلسي نَا تَمِيم بن مُحَمَّد نَا أَبُو الْغُصْن السُّوسِي نَا عون ابْن يُوسُف نَا ابْن وهب قَالَ كنت عِنْد مَالك فَجَاءَهُ رجل يحمل

(1/75)


الْمُوَطَّأ فِي كسائه فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله هَذَا موطؤك قد كتبته وقابلته فأجزه لي
قَالَ قد فعلت قَالَ فَكيف أَقُول نَا مَالك أَو أخبرنَا قَالَ قل أَيهمَا شِئْت
قَالَ ابْن الْمفضل أَنا بهَا عَالِيا أَبُو طَاهِر السلَفِي قَالَ أَنبأَنَا أَبُو مَكْتُوم عِيسَى بن أبي ذَر الْهَرَوِيّ عَن أَبِيه بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدّم وَتَمِيم هَذَا الْمَذْكُور فِي هَذَا الْإِسْنَاد هُوَ أَبُو الْعَبَّاس تَمِيم بن أبي الْعَرَب مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَمِيم التَّمِيمِي القيرواني فَقِيه من أهل الْعلم والورع والزهد وَالْعِبَادَة والسخاء والمروءة مجمع على فَضله
وَأَبُو الْغُصْن هُوَ نَفِيس الغرابلي الإفْرِيقِي فَقِيه حَافظ ثِقَة
وَعون بن يُوسُف هُوَ أَبُو مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ القيرواني فَقِيه ثِقَة حكى القَاضِي عِيَاض عَن عَوْف هَذَا أَنه تفقه بِابْن وهب قَالَ وَلَقَد حضرت ابْن وهب فَأَتَاهُ رجل بتليس فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّد

(1/76)


هَذِه كتبك فَقَالَ لَهُ ابْن وهب صححت وقابلت فَقَالَ لَهُ نعم فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَحدث بهَا فقد أجزتها لَك فَإِنِّي حضرت مَالِكًا فَقَالَ مثل ذَلِك
قلت والحكاية عَن مَالك صَحِيحَة ورجالها ثِقَات وَقد أَنا بهَا أَيْضا الإِمَام الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْحُسَيْن عبيد الله بن أبي الرّبيع الْقرشِي عَن الْفَقِيه القَاضِي أبي الْقَاسِم بن بَقِي عَن أبي الْحسن شُرَيْح بن مُحَمَّد كُله إجَازَة قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد بن خزرج قَالَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَاسم بن إِبْرَاهِيم بن قَاسم الخزرجي نَا أَبُو الْقَاسِم خلف بن يحيى بن غيث قَالَ نَا أَبُو جَعْفَر تَمِيم بن مُحَمَّد وَذكر الْإِسْنَاد سَوَاء والحكاية بمعناها
وَفِي هَذِه الْقِصَّة عَن مَالك فَائِدَة جليلة وَهِي تَصْدِيق الشَّيْخ للتلميذ أَن هَذَا من حَدِيثه وَأَنه كتبه وقابله فَيَأْذَن لَهُ فِي حمله عَنهُ على تَقْدِير صِحَة قَوْله إِنَّه نقل وقابل وَإِن لم يتصفح الشَّيْخ ذَلِك فتفهم هَذَا فَإِنَّهُ يتَخَرَّج مِنْهُ تسويغ الْإِجَازَة الْمُطلقَة فِي جَمِيع الْمَرْوِيّ ويعتمد الشَّيْخ فِي تعْيين ذَلِك على التلميذ وَهَذَا ابْن وهب قد تَابع مَالِكًا على ذَلِك وَهُوَ فَقِيه أهل مصر أَو فِيمَا ينسخه الشَّيْخ الْمُجِيز من حَدِيثه

(1/77)


أَو كِتَابه الَّذِي أَلفه وَيبْعَث بِهِ إِلَى الْمجَاز أَو بِغَيْر ذَلِك من الْوُجُوه الْبَيِّنَة والطرق الْمعينَة
كَمَا أَنا مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق الْقرشِي الْأمَوِي سَمَاعا عَلَيْهِ أَنا أَحْمد بن عبد الله بن الْحُسَيْن الْكِنْدِيّ سَمَاعا عَلَيْهِ
أَنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد السلَفِي سَمَاعا عَلَيْهِ أَنا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار الطيوري قِرَاءَة أَنا عَليّ بن أَحْمد الفالي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أَنا أَحْمد بن إِسْحَاق النهاوندي أَنا الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي القَاضِي نَا يُوسُف مشطاح قَالَ سَمِعت أَحْمد بن الْمِقْدَام أَبَا الْأَشْعَث الْعجلِيّ يَقُول كتب إِلَيّ جمَاعَة من أهل بغداذ يسألونني إجَازَة فَكتبت إِلَيْهِم
كتابي هَذَا فافهموه فَإِنَّهُ
كتابي إِلَيْكُم وَالْكتاب رَسُول ... وَفِيه سَماع من رجال لقيتهم ... لَهُم بصرفي علمهمْ وعقول ... فَإِن شِئْتُم فارووه عني فَإِنَّكُم ... تَقولُونَ مَا قد قلته وَأَقُول ... أَلا فاحذروا التَّصْحِيف فِيهِ فَرُبمَا
تغير مَعْقُول لَهُ ومقول

(1/78)


وَبِالْإِسْنَادِ نَفسه قَالَ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد كتب إِلَيّ بعض وزراء الْمُلُوك يسألني إجَازَة
كتاب ألفته لِابْنِ لَهُ فَكتبت الْكتاب لَهُ وَوَقعت عَلَيْهِ
يَا أَبَا الْقَاسِم الْكَرِيم الْمحيا
زانك الله بالتقى والرشاد ... وتولاك بالكفاية والعز ... وَطول الْبَقَاء والإسعاد ... ارو عني هَذَا الْكتاب فقد هَذ
بت مَا قد حواه من مُسْتَفَاد ... وشكلت الْحُرُوف مِنْهُ فَقَامَتْ
لَك بالشكل فِي نظام السداد ... جَاءَ مستخلصا لسبك الْمعَانِي
كالدنانير من يَد النقاد ... نظم شعر ونثر قَول يروقان
كنور الرياض غب العهاد

(1/79)


لايعنيك بالهجاء ولايش
كل فِي الْخط بَين صَاد وضاد ... وَكَأن السطور مِنْهُ سموط
بل عُقُود يلحن فِي أجياد ... فتحفظ مَا فِيهِ من ملح الآ
دَاب واضبط طرائق الْإِسْنَاد ... وَاحْذَرْ اللّحن فِي الرِّوَايَة والتح
ريف فِيهَا وَالْكَسْر فِي الإنشاد ... وَالْقِيَاس الْجَلِيّ يوجدك الإخ
بار فِي نشره على الْأَفْرَاد
فَانْظُر عنايته بِأَن الْإِخْبَار الْجملِي يتَضَمَّن الْإِخْبَار التفصيلي وَأَن الْقيَاس الْجَلِيّ يَقْتَضِي ذَلِك فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى جَوَاز الْإِجَازَة الْمُطلقَة

وَأجل شَيْء نعرفه لمتقدم فِي الْإِجَازَة الْمقيدَة وَأَجْلَاهُ لفظا وأصحه معنى مَا ذكره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ الإِمَام الْحَافِظ فِي كتاب الْعِلَل لَهُ فِي آخر الدِّيوَان فِي بَاب التَّارِيخ الَّذِي نَقله عَن الإِمَام أبي عبد الله البُخَارِيّ رَحمَه الله وَقد انْتهى بِالسَّمَاعِ عَلَيْهِ إِلَى بعض حرف الْعين مَا نَصه
قَالَ أَبُو عِيسَى إِلَى هَاهُنَا سَمَاعي من أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل من أول الحكايات وَمَا بعْدهَا فَهُوَ مِمَّا أجَازه لي وشافهني بِهِ

(1/80)


بَعْدَمَا عارضته بِأَصْلِهِ إِلَى أَن يَنْقَضِي بِهِ كَلَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فَقَالَ قد أجزت لَك أَن تروي إِلَى آخر بَاب ي انْتهى
هَذَا أجلى نَص تَجدهُ فِي الْإِجَازَة لمتقدم مُعْتَمد من لفظ قَائِله نعم تَجِد ألفاظا مُطلقَة مجملة غير مفسرة منقولة عَنْهُم بِالْمَعْنَى أَو ظواهر مُحْتَملَة
وَهَذَا كَانَ دأب تِلْكَ الطَّبَقَة من الْإِجَازَة فِي الْمعِين أَو الكتبة لَهُ وَمَا أرى الْإِجَازَة الْمُطلقَة حدثت إِلَّا بعد زمن البُخَارِيّ حَيْثُ اشتهرت التصانيف وفهرست الفهارس وَإِن كَانَ بَعضهم قد نقل الْإِجَازَة الْمُطلقَة عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ وَغَيره فَمَا أرى ذَلِك يَصح وَالله الْمُوفق
وَإِنَّمَا الَّذِي صَحَّ عندنَا الْإِسْنَاد الصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ تسويغ ذَلِك فِي الْمعِين كَمَا أَنا أَبُو عبد الله بن طرخان أَنا أَبُو طَالب بن حَدِيد أَنا أَبُو طَاهِر الْأَصْبَهَانِيّ أَنا أَبُو الْحسن الصرفي أَنا أَبُو الْحسن الفالي أَنا ابْن خربَان أَنا ابْن خَلاد نَا زَكَرِيَّاء بن يحيى السَّاجِي قَالَ نَا هَارُون ابْن سعيد الْأَيْلِي قَالَ نَا أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله بن عمر قَالَ أشهد على ابْن شهَاب لقد كَانَ يُؤْتى بالكتب فَيُقَال لَهُ يَا أَبَا بكر هَذِه كتبك فَيَقُول نعم فيجتزيء بذلك وَتحمل عَنهُ مَا قريء عَلَيْهِ

(1/81)


رِجَاله كلهم ثِقَات
وَذكر الإِمَام أَبُو عَمْرو بن الصّلاح فِي هَذَا الْمَذْهَب الْخَامِس أَنه مَذْهَب حَادث للمتأخرين وَقد وَقع نَحْو مِنْهُ لبَعض الْمُتَقَدِّمين وَهُوَ مَا سمعته يقْرَأ بثغر الْإسْكَنْدَريَّة على شَيخنَا الْعدْل أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق بن طرخان بالسند الْمُتَقَدّم وَأَنا بِهِ أَيْضا بهَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الصّقليّ الْبَزَّاز المتفقه قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد بن رواج سَمَاعا عَلَيْهِ قَالَ أَنا الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي سَمَاعا عَلَيْهِ بالسند الْمُتَقَدّم إِلَى أبي مُحَمَّد بن خَلاد قَالَ نَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن محمويه العسكري قَالَ نَا أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي قَالَ أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة قَالَ قلت للأوزاعي فِي المناولة أَقُول فِيهَا حَدثنَا قَالَ إِن كنت حدثتك فَقل فَقلت أَقُول فِيهَا أخبرنَا قَالَ لَا قلت فَكيف أَقُول قَالَ قل قَالَ أَبُو عَمْرو وَعَن أبي عَمْرو

(1/82)


قلت وَقد اسْتعْمل عَن فِي الْإِجَازَة الْمُطلقَة على المصطلح الَّذِي ذكره أَبُو عَمْرو بن الصّلاح شَيخنَا الإِمَام الْعَلامَة النقاب النسابة الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن خلف التوني حَافظ الْبِلَاد المصرية وَهُوَ مِمَّا أجَازه لي فِي بعض تخاريجه الَّتِي خرج من عالي حَدِيثه قَالَ
قريء على الشَّيْخ الصَّالح المعمر أبي الْحسن بن أبي عبد الله بن أبي الْحسن الْبَغْدَادِيّ وَأَنا أسمع عَن الشريف النَّقِيب أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن سُلَيْمَان بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب الْمَكِّيّ أَنا ابو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن الْحسن بن مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الشَّافِعِي الْمَكِّيّ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع بهَا أَنا أَبُو الْحسن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن فراس العبقسي الْمَكِّيّ نَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله الديبلي نَا أَبُو صَالح مُحَمَّد بن أبي الْأَزْهَر الْمَكِّيّ نَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْمدنِي أَخْبرنِي عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ حَالفا فَلَا يحلف إِلَّا بِاللَّه وَكَانَت قُرَيْش تحلف بِآبَائِهَا فَقَالَ لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ
قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد رَوَاهُ مُسلم عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر فَوَقع لنا بَدَلا عَالِيا تساعيا

(1/83)


وَرَوَاهُ أَيْضا نازلا عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن عمر بن الْخطاب
فباعتبار هَذَا الْعدَد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنِّي سمعته من مُسلم وصافحته بِهِ وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَهُوَ ولي التَّوْفِيق
قلت فَقَوله عَن الشريف النَّقِيب يَعْنِي إجَازَة
وَأَبُو الْحسن بن أبي عبد الله هُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن أبي الْحسن عَليّ بن مَنْصُور بن أبي مَنْصُور البغداذي الْأَزجيّ الْحَنْبَلِيّ النجار شهر بِابْن المقير وَكَانَ شَيخا صَالحا تاليا لِلْقُرْآنِ كثير السماع صَحِيحه وَله إجازات عالية وامتد أَجله حَتَّى ألحق الصغار بالكبار وَكَانَت فِيهِ غَفلَة وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَكَانَ مولده مستهل شَوَّال من سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة عَاشَ مائَة إِلَّا سنتَيْن إِلَّا خَمْسَة وَأَرْبَعين يَوْمًا ذكر هَذَا أَبُو بكر المهلبي فِي مُعْجَمه فِيمَا وجدته عَنهُ وَهَذَا الحَدِيث وَقع أَيْضا لشَيْخِنَا الشريف الْمُحدث شرف الْمُحدثين تَاج الدّين أبي الْحسن عَليّ بن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد المحسن الْحُسَيْنِي

(1/84)


الغرافي رَضِي الله عَنهُ وَعَن سلفه الْكَرِيم مصافحتة لمُسلم وَهُوَ عندنَا عَنهُ باتصال السماع
قَرَأت عَلَيْهِ بلفظي وَنسخت من أصل بثغر الْإسْكَنْدَريَّة المحروس قَالَ
أَخْبرنِي الْحَافِظ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن الْقطيعِي قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع ببغداذ قَالَ أَنا الشريف أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز العباسي الْمَكِّيّ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع قَالَ أَنا أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن الْحسن بن مُحَمَّد الشَّافِعِي الْمَكِّيّ بهَا قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا اسْمَع قَالَ أَنا أَبُو الْحسن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن فراس الْمَكِّيّ العبقسي نَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْفضل الْمَكِّيّ الديبلي قِرَاءَة عَلَيْهِ من كِتَابه نَا أَبُو صَالح مُحَمَّد بن أبي الْأَزْهَر الْمَعْرُوف بِابْن زنبور الْمَكِّيّ مولى بني هَاشم نَا إِسْمَاعِيل يَعْنِي ابْن جَعْفَر فَذكره سَوَاء بنصه حرفا حرفا بِحرف فَكَأَن شَيخنَا الشريف أَبَا الْحسن صَافح بِهِ مُسلما وسمعته مِنْهُ وَكَأَنِّي صافحت بِهِ إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان صَاحب مُسلم وسمعته مِنْهُ وَهَذَا من بعض فَوَائِد الرحلة وَالْحَمْد لله

(1/85)