الشرح المختصر لنخبة الفكر لابن حجر العسقلاني المشهور:
قال الحافظ: -[(والثاني: المشهور وهو المستفيض على رأي).]-
وقال في "النزهة" (ص/49): (والثاني - وهو أول أقسام الآحاد-:
ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، وهو المشهور عند المحدثين.
سمي بذلك لوضوحه (1)، وهو المستفيض على رأي جماعة من أئمة
الفقهاء، سمي بذلك لانتشاره، من: فاض الماء يفيض فيضا، ومنهم
من غاير بين المستفيض والمشهور، بأن المستفيض يكون في ابتدائه
وانتهائه سواء (2)، والمشهور أعم من ذلك (3) ... ثم المشهور
يطلق: على ما حرر هنا، وعلى ما اشتهر على الألسنة؛ فيشمل ما له
إسناد واحد فصاعدا، بل ما لا يوجد له إسناد أصلا (4)).
العزيز:
قال الحافظ:-[(والثالث: العزيز، وليس شرطاً للصحيح خلافاً لمن
زعمه).]-
وقال في "النزهة" (ص/50): (والثالث: العزيز: وهو أن لا يرويه
أقل من اثنين عن
اثنين. وسمي بذلك إما لقلة وجوده، وإما لكونه عز، أي قوي
بمجيئه من طريق أخرى.
__________
(1) قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (1/ 270): (أشار بذلك
إلى المناسبة المصححة لنقله من المعنى اللغوي إلى الاصطلاحي.
قال البقاعي: ولو قال لظهوره كان أبلغ لأهل اللغة، فإنهم
قالوا: المشهور ظهور الشيء، والشهير معروف).
(2) قال اللقاني في "قضاء الوطر" (1/ 552): (بأن لا ينقص فيهما
عن ثلاثة، قال البقاعي: "وكذلك فيما بين ذلك". قلت: فكان
الأولى للمصنف: من ابتدائه إلى انتهائه).
(3) وقال اللقاني: (يشمل ما أوله منقول عن الواحد ن كما صرح به
شيخ الإسلام الأنصاري).
(4) الشهرة عموماً سواء أكانت اصطلاحية أو غير اصطلاحية لا
تلازم بينها وبين الصحة، وحتى ما اشتهر بين أهل الحديث فينبغي
أن ينظر في إسناده.
(1/11)
وليس شرطا للصحيح، خلافا لمن زعمه).
الغريب:
قال الحافظ: -[(والرابع: الغريب).]-
وقال في "النزهة" (ص/54): (والرابع: الغريب: وهو ما يتفرد
بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند).
قال اللقاني في "قضاء الوطر" (1/ 593): (لفظ "ما" فيه عموم،
فيشمل كل المتن وبعضه وبعض السند، فالأول: كانفراد عبدالله بن
دينار بحديث: "النهي عن بيع الولاء وهبته" فإنه لم يصح إلا من
حديثه.
والثاني: كانفراد مالك بزيادة من المسلمين في حديث: "زكاة
الفطر" عن سائر رواته.
ومثال الثالث: انفراد الدراوردي برواية حديث أم زرع عن هشام عن
أبيه بلا واسطة،
والمحفوظ فيه رواية عيسى بن يونس وغيره عن هشام بن عروة عن
أخيه عبدالله عن
أبيهما). وسوف يأتي الكلام على أنواع الغرابة قريبا بإذن الله
- تعالى -.
تتمة:
قال الحافظ: -[(وكلها - سوى الأول - آحاد، وفيها المقبول
والمردود لتوقف الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها دون
الأول، وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على
المختار)]-
وفيه مسائل منها:
الأولى - أنواع الآحاد:
قال في "النزهة" (ص/55): (وخبر الواحد في الاصطلاح: ما لم يجمع
شروط التواتر).
وهذا التعريف من ابن حجر يتمشى مع اصطلاحه حيث لم يجعل واسطة
بين المتواتر والآحاد، ويدخل فيه مع الآحاد المشهور والعزيز.
إلا أن قوله (ص/17): (وقد يقال: إن الشروط الأربعة إذا حصلت
استلزمت حصول العلم، وقد وضح بهذا تعريف المتواتر. وخلافه قد
يرد بلا حصر أيضاً، لكن مع فقد بعض الشروط، (أو مع حصر بما فوق
الاثنين)؛ أي بثلاثة فصاعدا ما لم يجمع شروط المتواتر ... ).
واختار اللقاني في "قضاء الوطر" (1/ 492) أن المقصود بقوله:
(وخلافه قد يرد بلا حصر أيضاً، لكن مع فقد بعض الشروط) هو قسم
من المشهور قد يلتبس بالمتواتر لعدم حصر الرواة في طبقاته
ولكنه فقد باقي الشروط الأخرى للمتواتر أو بعضها، واستشهد
(1/12)
بقول السخاوي بأن المشهور قسمان: قسم لم
يرتق إلى التواتر وهو الأغلب فيه، وقسم يرتقي إليه. وهذا هو
الأقرب فغير هذا النوع من الآحاد رواته محصورين.
فتحصل مما سبق أن الآحاد يشمل المشهور بقسميه، والعزيز،
والغريب.
الثانية - المتواتر لا يبحث عن
أحوال رواته.
قوله: (وفيها المقبول والمردود لتوقف الاستدلال بها على البحث
عن أحوال رواتها دون الأول). يفهم منه أن المتواتر كله صحيح
وأن الاستدلال به لا يتوقف على البحث عن أحوال رواته، وصرح
بذلك فقال في "النزهة" (ص/42): (وإنما أبهمت شروط المتواتر في
الأصل؛ لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذ علم
الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه؛ ليعمل به أو يترك من
حيث: صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل
يجب العمل به من غير بحث).
الثالثة - خبر الآحاد المحتف
بالقرائن.
قوله: (وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على
المختار).
وقال في "النزهة" (ص/58): (وقد يقع فيها- أي في أخبار الآحاد
المنقسمة إلى:
مشهور، وعزيز، وغريب- ما يفيد العلم النظري بالقرائن على
المختار، خلافا لمن أبى ذلك. والخلاف في التحقيق لفظي، لأن من
جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظريا، وهو الحاصل عن الاستدلال،
ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر، وما عداه عنده ظني،
لكنه، لا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح مما خلا عنها.
والخبر المحتف بالقرائن أنواع:
أ - منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ التواتر،
فإنه احتفت به قرائن، منها:
- جلالتهما في هذا الشأن.
- وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
- وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في
إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر.
إلا أن هذا:
يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين.
وبما لم يقع التخالف بين مدلوليه مما وقع في الكتابين، حيث لا
ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير
ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك
(1/13)
فالإجماع حاصل على تسليم صحته.
فإن قيل: إنما اتفقوا على وجوب العمل به لا على صحته، منعناه،
وسند المنع: أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح، ولو لم
يخرجه الشيخان؛ فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل
على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة.
وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري:
- الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني.
- ومن أئمة الحديث: أبو عبد الله الحميدي.
- وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما. ويحتمل أن يقال: المزية
المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح.
ب - ومنها: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف
الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو
منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فورك، وغيرهما.
جـ - ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون
غريبا، كالحديث الذي
يرويه أحمد بن حنبل، مثلا، ويشاركه فيه غيره عن الشافعي
ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه
بالاستدلال من جهة جلالة رواته وأن فيهم من الصفات اللائقة
الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك
من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكا، مثلا، لو
شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة
ازداد قوة، وبعد ما يخشى عليه من السهو.
وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا
للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة، المطلع على
العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف
المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.
ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها أن:
الأول: يختص بالصحيحين.
والثاني: بما له طرق متعددة.
والثالث: بما رواه الأئمة.
ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد، ولا يبعد حينئذ القطع
بصدقه، والله أعلم).
أنواع الغريب:
قال الحافظ: (ثم الغرابة: إما أن تكون في أصل السند، أو لا.
فالأول: الفرد المطلق. والثاني: الفرد النسبي، ويقل إطلاق
الفرد عليه). وفيه مسائل منها:
الأولى - الفرد المطلق والنسبي.
قال في "النزهة" (ص/64): (ثم الغرابة إما أن تكون: في أصل
السند: أي في الموضع الذي يدور الإسناد عليه ويرجع، ولو تعددت
الطرق إليه، وهو طرفه الذي فيه الصحابي (1). أو لا يكون كذلك،
بأن يكون التفرد في أثنائه، كأن يرويه عن الصحابي أكثر من
واحد، ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد.
فالأول: الفرد المطلق: كحديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته،
تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وقد ينفرد به راو عن
ذلك المنفرد، كحديث شعب الإيمان، تفرد به أبو صالح عن أبي
هريرة، وتفرد به عبد الله بن دينار عن أبي صالح، وقد يستمر
التفرد في جميع رواته أو أكثرهم. وفي مسند البزار، والمعجم
الأوسط، للطبراني أمثلة كثيرة لذلك.
والثاني: الفرد النسبي: سمي بذلك لكون التفرد فيه حصل بالنسبة
إلى شخص معين، وإن كان الحديث في نفسه مشهورا (2)).
وقال في "النكت" (2/ 705): (وأما النسبي فيتنوع - أيضا -
أنواعا:
أحدهما: تفرد شخص عن شخص.
ثانيها: تفرد أهل بلد عن شخص.
ثالثها: تفرد شخص عن أهل بلد.
رابعها: تفرد أهل البلد عن أهل بلد أخرى.
مثال الأول: حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر - رضي
الله عنه - في قصة الكُدْيَة التي عرضت لهم يوم الخندق أخرجه
البخاري، وقد تفرد به عبد الواحد عن أبيه. وقد روي من غير حديث
جابر - رضي الله عنه -.
ومثال الثاني: حديث "القضاة ثلاثة". تفرد به أهل مرو، عن عبد
الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه -.
ومثال الثالث: وهو عكس الذي قبله، فهو قليل جدا وصورته أن
ينفرد شخص عن جماعة بحديث تفردوا به.
ومثال الرابع: ما رواه أبو دواد من حديث جابر - رضي الله عنه -
في قصة المشجوج: "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويصعب على جرحه
خرقة".قال ابن أبي داود: فيما حكاه الدارقطني في "السنن": "هذه
سنة تفرد بها أهل مكة، وحملها عنهم أهل الجزيرة").
الثانية - الفرد والغريب.
قال الحافظ عن الفرد النسبي: (ويقل إطلاق الفرد عليه).
وقال في "النزهة" (ص/66): (ويقل إطلاق الفردية عليه (3)؛ لأن
الغريب والفرد
__________
(1) قال القاري في "شرح النخبة" (1/ 233): (وكون الغرابة في
هذا الطرف هو أن يروي تابعي واحد عن صحابي، ولا يتابعه غيره في
روايته عن ذلك الصحابي، سواء تعدد الصحابي في تلك الرواية أو
لا. وأما انفراد الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليس
غرابة إذ ليس في الصحابة ما يوجب قدحا، فانفراد الصحابي يوجب
تعادل تعدد غيره، بل يكون أرجح. قال تلميذه: قوله: وهو طرفه
الذي فيه الصحابي. قال المصنف: أي الذي يروي عن الصحابي، وهو
التابعي، وإنما لم يتكلم في الصحابي، لأن المقصود ما يترتب
عليه من القبول والرد. والصحابة كلهم عدول ... فقوله: طرفه
أراد به التابعي، وأما الصحابي وإن كان من رجال الإسناد، إلا
أن المحدثين لم يعدوه منهم لأن كلهم عدول على الإطلاق من خالط
الفتن وغيرهم ... فقوله: فيه الصحابي، أي في ذلك الطرف، مسامحة
أي، ينتهي ذلك الطرف إلى الصحابي، ويتصل به).
(2) قال القاري (1/ 238): (أنه إنما سمي نسبيا لأن التفرد إنما
حصل فيه بالنسبة إلى شخص معين من طريق واحد، وإن كان مشهورا في
نفسه لكونه مرويا من طرق أخرى، ففرديته بالنسبة إلى الطريق
الأولى، ومشهوريته باعتبار الطريق الأخرى).
(3) استشكل البعض ظاهر هذه العبارة وخاصة أنه عللها بوقوع
الترادف بين الغريب والفرد لغة واصطلاحا؛ فالترادف يسوغ كثرة
إطلاق الفردية على الغريب لا قلتها.
قال المناوي في " اليواقيت والدرر" (1/ 327): (قال البقاعي:
ليت شعري هذا التعليل لماذا؟ إن كان لعلة إطلاق الفردية لم
يصح، لأن الترادف إن لم يقتض التسوية في الإطلاق لم يقتض ترجيح
أحد المترادفين فيه، وإن كان تعليلا لإطلاق الفرد المطلق
والفرد النسبي على الغريب لم يصح أيضا، لأن الترادف إنما هو
بين مطلق الغريب ومطلق الفرد (لا بين الفرد) المقيد بالإطلاق
أو بالنسبة بينه وبين الغريب). وأجاب عن ذلك اللقاني في "شرح
النخبة" (1/ 652) بأن مراده بقلة الإطلاق أي قلة الاستعمال لا
أصل الإطلاق الذي يستلزمه الترادف فقال: (قوله:"ويقل إطلاق
الفردية عليه" أي: ويقل استعمال ذي الفردية فيه، فالإطلاق
بمعنى الاستعمال و"على" بمعنى "في" مثل: {وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:
15]، وبهذا يسقط الاعتراض بخفاء العبارة في إفادة المراد).
(1/14)
مترادفان لغة (1) واصطلاحا، إلا أن أهل
الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد
أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه
على الفرد النسبي، وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما، وأما من
حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون، فيقولون في المطلق
والنسبي تفرد به فلان، أو أغرب به فلان).
الصحيح لذاته:
قال الحافظ: -[(وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند،
غير معلل ولا شاذ: هو الصحيح لذاته. وتتفاوت رتبه، أي الصحيح،
بسبب تفاوت هذه الأوصاف. ومن ثم قدم صحيحُ البخاري، ثم مسلم،
ثم شرطُهُما)]-.
قال في "النزهة" (ص/70): (قوله: وخبر الآحاد: كالجنس، وباقي
قيوده كالفصل) وهذا تأكيد من الحافظ لكون المتواتر ليس من علم
الدراية ولا يبحث عن إسناده، وأنه كله مقبول إذا توفرت فيه
شروطه.
خرج بقوله: (خبر الآحاد) المتواتر، وبقوله (عدل) غير العدل
كالكاذب، وبقوله (تام الضبط) خفيف الضبط وفاحش الغلط ونحوه،
وبقوله (متصل السند) المنقطع على أي وجه كان انقطاعه، وبقوله
(غير معلل ولا شاذ) المعلل والشاذ.
وهذا الحد غير مانع ولابد من إضافة قيد: (عن مثله إلى منتهاه)
ليخرج ما كان فقط أحد رواته على صفة الصحيح دون باقي رواته.
وعليه فالصحيح لذاته (خبر الآحاد متصل السند بنقل عدل تام
الضبط، عن مثله إلى منتهاه، ولم يكن معللا ولا شاذا).
شرح قيود التعريف:
العدالة: قال الحافظ في "شرح النخبة" (ص/69): (والمراد بالعدل
من له ملكة تحمله
على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال
السيئة من شرك أو فسق أو بدعة).
واعترض الصنعاني في "ثمرات النظر في علم الأثر" على هذا
التعريف بعدة اعتراضات، واختار أن مدار العدالة على مظنة صدق
الراوي دون بقية الشروط المذكورة في تعريف العدالة، وقد ذكرت
اعتراضاته في شرح الموقظة، فلا داعي للتكرار.
تعريف الضابط:
قال الصنعاني في "توضيح الأفكار" (1/ 8): (الضابط عندهم من
يكون حافظا متيقظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل
والأداء وهذا الضبط التام وهو المراد هنا). أي في تعريف الحديث
الصحيح.
بمَّ يعرف الضبط؟
قال ابن الصلاح في "مقدمته" (ص/61): (يعرف كون الراوي ضابطا
بأن نعتبر روايته بروايات الثقاة المعروفين بالضبط والإتقان.
فإن وجدنا رواياته موافقة - ولو من حيث المعنى - لرواياتهم، أو
موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه
ضابطا ثبتا. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه،
ولم نحتج بحديثه، والله أعلم).
أقسام الضبط:
قال الحافظ في "المزهة" (ص/69): (والضبط: ضبط صدر: وهو أن يثبت
ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء. وضبط كتاب: وهو
صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه. وقيد بالتام
إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك).
وقال الصنعاني في "توضيح الأحكام" (1/ 19): (فالذي ذكر
المحدثون أربع صور: تام الضبط، خفيفه، كثير الغلط، من غلطه
أكثر من حفظه، فالأوليان مقبول من اتصف بهما، والأخريان مردود
من اتصف بهما).
اتصال السند:
وقال المليباري في رسالته علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين
النقاد: (وأما العنصر الثاني - أي اتصال السند - فيعرف بما
يلي:
1 - تصريح كل من سلسلة الإسناد بما يدل على سماعه للحديث من
مصدره الذي
__________
(1) قال المناوي (1/ 326): (قال الكمال بن أبي شريف: فيما زعمه
من كونهما مترادفين لغة نظر، أي لأن الفرد في اللغة الوتر، وهو
الواحد. والغريب من بعد عن وطنه، وأغرب فلان جاء بشيء غريب أو
كلام غريب بعيد عن الفهم. هذا كلام أهل اللغة، فالقول بالترادف
لغة باطل. ولهذا قال الشيخ قاسم: الله أعلم بمن حكى هذا
الترادف، وقد قال ابن فارس في " المجمل ": عزب بعد، والغربة
الاغتراب عن الوطن. والفرد: الوتر، والفرد المنفرد هذا كلام
أهل اللغة، وليس فيه ما يقتضي الترادف ولا يوهمه).وأفاد الشيخ
عبدالله السمين أن الجواب أنهما مترادفان بحسب المآل؛ لأن
الغريب عن وطنه كأنه انفرد. وانظر اللقاني (1/ 656).
(1/17)
روى عنه ذلك الحديث، كقوله ك (سمعت فلاناً)
أو (سمعنا فلاناً) أو (حدثني فلان) أو (حدثنا) أو (قرأت عليه)
أو (حدثني قراءة عليه) أو (حدثنا قراءة عليه) أو (أخبرني) أو
(أخبرنا) أو (أنبأني) أو (أنبأنا) أو (قال لي) أو (قال لنا)،
أو نحو ذلك من العبارات الدالة على أن الراوي قد لقي من فوقه،
وأنه سمع منه ذلك الحديث.
2 - عنعنة الراوي، إذا لم يكن مدلساً، أو مرسلاً، فتفيد عنعنته
الاتصال، وأما إن كان الراوي المعنعن مدلساً، فعنعنته تحمل على
الانقطاع لقوة احتمال تدليسه في الإسناد بإسقاط شيخه الذي سمع
منه هذا الحديث.
وكذا الأمر إذا اختلف العلماء في سماع الراوي ممن فوقه عموماً،
ولم يتبين الراجح في ذلك، فإن الحكم على الإسناد باتصاله حينئذ
متوقف على ما يزول به احتمال الانقطاع، من القرائن ... ).
وسوف يأتي بإذن الله الكلام على الشاذ والمعلل.
رتب الصحيح:
قال الحافظ: -[(وتتفاوت رتبه، أي الصحيح، بسبب تفاوت هذه
الأوصاف. ومن ثم قدم صحيحُ البخاري، ثم مسلم، ثم شرطُهُما).]-
وقال في "النزهة" (ص/71): (وتتفاوت رتبه؛ أي: الصحيح، بسبب
تفاوت هذه الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة؛ فإنها لما كانت
مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة؛ اقتضت أن يكون لها
درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية.
وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة
والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح؛ كان أصح مما دونه.
فمن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض الأئمة أنه أصح
الأسانيد:
كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.
وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو السلماني عن علي.
وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود.
ودونها في الرتبة: كرواية بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده
عن أبيه أبي موسى.
وكحماد بن سلمة عن ثابت «البناني» عن أنس.
ودونها في الرتبة:
كسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
وكالعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.
(1/19)
فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط؛ إلا
أن للمرتبة الأولى من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم
على التي تليها، وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها
على الثالثة، وهي مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسنا؛
كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر، وعمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده.
وقس على هذه المراتب ما يشبهها.
والمرتبة الأولي هي التي أطلق عليها بعض الأئمة أنها أصح
الأسانيد، والمعتمد عدم الإطلاق لترجمة معينة منها.
نعم؛ يستفاد من مجموع ما أطلق الأئمة عليه ذلك أرجحيته على ما
لم يطلقوه.
ويلتحق بهذا التفاضل ما اتفق الشيخان على تخريجه بالنسبة إلى
ما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما
انفرد به مسلم؛ لاتفاق العلماء بعدهما على تلقي كتابيهما
بالقبول، واختلاف بعضهم على أيهما أرجح، فما اتفقا عليه أرجح
من هذه الحيثية مما لم يتفقا عليه.
وقد صرح الجمهور بتقديم «صحيح البخاري» في الصحة، ولم يوجد عن
أحد التصريح بنقيضه.
وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال: ما تحت أديم
السماء أصح من كتاب مسلم؛ فلم يصرح بكونه أصح من صحيح البخاري؛
لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم؛ إذ المنفي إنما هو
ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارك كتاب مسلم في
الصحة، يمتاز بتلك الزيادة عليه، ولم ينف المساواة.
وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح
البخاري؛ فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب.
ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية، ولو أفصحوا به
لرده عليهم شاهد الوجود، فالصفات التي تدور عليها الصحة في
كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأشد، وشرطه فيها أقوى
وأسد.
أما رجحانه من حيث الاتصال؛ فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت
له لقاء من روى عنه ولو مرة، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة،
وألزم البخاري بأنه يحتاج إلى أن لا يقبل العنعنة أصلا!
وما ألزمه به ليس بلازم؛ لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة؛ لا
يجري في رواياته احتمال أن لا يكون «قد» سمع منه؛ لأنه يلزم من
جريانه أن يكون مدلسا، والمسألة
(1/20)
مفروضة في غير المدلس.
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط؛ فلأن الرجال الذين تكلم
فيهم من رجال مسلم أكثر عددا من الرجال الذين تكلم فيهم من
رجال البخاري، مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم، بل
غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم، بخلاف مسلم في
الأمرين.
وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال؛ فلأن ما انتقد على
البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم، هذا مع
اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف
بصناعة الحديث منه، وأن مسلما تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد
منه ويتتبع آثاره حتى «لقد» قال الدارقطني: لولا البخاري لما
راح مسلم ولا جاء.
ومن ثم؛ أي: «و» من هذه الحيثية - وهي أرجحية شرط البخاري على
غيره - قدم «صحيح البخاري» على غيره من الكتب المصنفة في
الحديث.
ثم صحيح مسلم؛ لمشاركته للبخاري في اتفاق العلماء على تلقي
كتابه بالقبول أيضا، سوى ما علل.
ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما؛ لأن
المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح، ورواتهما قد حصل
الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم، فهم مقدمون على
غيرهم في رواياتهم، وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل.
فإن كان الخبر على شرطهما معا؛ كان دون ما أخرجه مسلم أو مثله.
وإن كان على شرط أحدهما؛ فيقدم شرط البخاري وحده على شرط مسلم
وحده تبعا لأصل كل منهما.
فخرج لنا من هذا ستة أقسام تتفاوت درجاتها في الصحة.
وثمة قسم سابع، وهو ما ليس على شرطهما اجتماعا وانفرادا.
وهذا التفاوت إنما هو بالنظر إلى الحيثية المذكورة.
أما لو رجح قسم على ما «هو» فوقه بأمور أخرى تقتضي الترجيح؛
فإنه يقدم على ما فوقه - إذ قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقا -.
كما لو كان الحديث عند مسلم مثلا، وهو مشهور قاصر عن درجة
التواتر، لكن حفته قرينة صار بها يفيد العلم؛ فإنه يقدم «بها»
على الحديث الذي يخرجه البخاري إذا كان فردا مطلقا. وكما لو
كان الحديث الذي لم يخرجاه من ترجمة وصفت بكونها أصح الأسانيد
كمالك عن نافع عن ابن عمر؛ فإنه يقدم على ما انفرد به أحدهما
مثلا، لا سيما
(1/21)
إذا كان في إسناده من فيه مقال).
الحسن لذاته:
قال الحافظ: -[(فإن خف الضبط فالحسن لذاته).]-
وقال في "النزهة" (ص/78): (فإن خف الضبط؛ أي: قل - يقال: خف
القوم خفوفا: قلوا والمراد مع بقية الشروط المتقدمة في حد
الصحيح؛ فهو الحسن لذاته لا لشيء خارج، وهو الذي يكون حسنه
بسبب الاعتضاد، نحو حديث المستور إذا تعددت طرقه. وخرج باشتراط
باقي الأوصاف الضعيف. وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في
الاحتجاج به، وإن كان دونه، ومشابه له في انقسامه إلى مراتب
بعضها فوق بعض).
وعليه فتعريف الحسن هو: (خبر الآحاد متصل السند بنقل العدل
الذي خف ضبطه عن مثله أو أضبط منه إلى منتهاه ولم يكن معللا
ولا شاذا).
الصحيح لغيره:
قال الحافظ: -[(وبكثرة طرقه يصحح).]-
وقال في النزهة (ص/78): (وبكثرة طرقه يصحح، وإنما نحكم له
بالصحة عند تعدد الطرق؛ لأن للصورة المجموعة قوة تجبر القدر
الذي قصر به ضبط راوي الحسن عن راوي الصحيح، ومن ثم تطلق الصحة
على الإسناد الذي يكون حسنا لذاته لو تفرد إذا تعدد). |