الشرح المختصر لنخبة الفكر لابن حجر العسقلاني

الأحكام المركبة:
قال الحافظ: -[(فإن جمعا فللتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسنادين).]-
وقال في "النزهة" (ص/79): (فإن جمعا، أي الصحيح والحسن، في وصف واحد، كقول الترمذي وغيره: "حديث حسن صحيح"، فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل: هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها، وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية.
وعرف بهذا جواب من استشكل الجمع بين الوصفين؛ فقال: الحسن قاصر عن الصحيح؛ ففي الجمع بين الوصفين إثبات لذلك القصور ونفيه!.
ومحصل الجواب: أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين، فيقال فيه: حسن باعتبار وصفه عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم، وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول: "حسن أو صحيح"، وهذا كما حذف حرف العطف من الذي بعده. وعلى هذا فما قيل فيه: "حسن صحيح" دون ما قيل فيه صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد، وهذا حيث التفرد.

(1/22)


وإلا إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معا على الحديث يكون باعتبار إسنادين:
أحدهما صحيح، والآخر حسن.
وعلى هذا فما قيل فيه: "حسن صحيح" فوق ما قيل فيه: "صحيح" فقط -إذا كان فردا- لأن كثرة الطرق تقوي).
والوجه الثاني عند الحافظ وارد عليه إشكال فيما يقول فيه الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال الحافظ الذهبي في "الموقظة" (ص: 29) فقال: (وقول الترمذي: (هذا حديث حسن، صحيح) عليه إشكال: بأن الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد مجاذبة! وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبدا، وهو أن ذلك راجع إلى الإسناد: فيكون قد روي بإسناد حسن، وبإسناد صحيح. وحينئذ لو قيل: (حسن، صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، لبطل هذا الجواب! وحقيقة ذلك - أن لو كان كذلك - أن يقال: (حديث حسن وصحيح). فكيف العمل في حديث يقول فيه: (حسن، صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)؟ فهذا يبطل قول من قال: أن يكون ذلك بإسنادين).
واعلم أن اختلاف العلماء في بيان مراد الإمام الترمذي بهذه الاصطلاحات وهذا الاختلاف يرجع إلى عدة أمور منها:
1 - أن الإمام الترمذي لم يفصح عن مراده من هذه الاصطلاحات إلا ما سبق ذكره من تعريفه للحديث الحسن، وأيضاً ما ذكر من أسباب استغراب العلماء للحديث.
2 - صعوبة تحديد قول الترمذي في حكمه على الحديث، وذلك لكثرة اختلاف النسخ فتجد أن الترمذي يقول عن حديث (حسن صحيح) وفي نسخة (حسن) وفي نسخة (صحيح) وهكذا، وعليه فلتحقيق صحة نسبة حكم للترمذي على حديث لابد من مراجعة عدة أصول.
3 - نظراً لأن الترمذي لم يفصح عن مقصوده من هذه الاصطلاحات فإنه يصعب الجزم بأن مقصوده من هذه الأحكام الحكم على الأسانيد، أم الحكم على المتن من أنه معمول به، كما قال عقب حديث: (المسلمون على شروطهم) حسن صحيح، مع أن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني قد أغلظ فيه العلماء القول حتى قال عنه الإمام الشافعي: أحد الكذابين أو أحد أركان الكذب.
4 - أن كل من قام بتفسير أحكام الترمذي المركبة إنما أصدر أحكاماً أغلبية، صادرة عن تتبع واستقراء جزئي لبعض الأحاديث، لذلك فالمتأمل لكلام العلماء الذين خاضوا في

(1/23)


هذا الشأن دائماً يصرحون بأن أحكامهم أغلبية، ونجد كذلك أن التعقب عليهم يكون له وجه.
5 - اختلاف العلماء في الحكم على الترمذي نفسه بالتشدد، أو التساهل في التصحيح
والتضعيف (1)، والصحيح عندي أن هذا الاختلاف ناتج عن عدم تحرير أحكام الترمذي، ومنهجه في الحكم على الأحاديث، فينبغي تحرير ذلك أولاً.
((لما سبق، ولغيره فإنني أرى الآتي:
عدم جدوى التفسير القاصر لأحكام الترمذي.
ضرورة سبر وتتبع أحكام الترمذي في سننه بالاستقراء التام حتى يكون الحكم كلي، لا أغلبي.
وبعد فإنني قد وقفت على جملاً كثيرة مما كتب العلماء، وطلاب العلم حول تفسير أحكام الترمذي المركبة، وأرى أن الأقرب في تفسير قول الترمذي: "حسن صحيح" من الناحية النظرية - إن كان لابد من ذلك - أن الطرق التي ذكرها تقوت وارتفعت لدرجة الصحة، فيكون كالمنزلة التي يقول عنها ابن حجر: صحيح لغيره، وهذا إنما يتجه على كلا الاحتمالين الذين قد سبق وأن ذكرتهما قريباً في تفسير قول الترمذي: لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب. فعلى كلام الحافظ ابن رجب فظاهر لدخول الراوي الثقة الذي يقل، أو يكثر في حديثه الغلط، وكذلك الراوي الصدوق. وعلى كلام الحافظ ابن حجر من اقتصاره على الرواة الذين فيهم ضعف محتمل دون الثقات، فيكون التقوي بالهيئة الاجتماعية.
وإنما يتأتى هنا إشكالاً- على كلام ابن حجر - فيما يقول فيه الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث فلان، أو من هذا الوجه، والجواب عندي على هذا الإشكال أن يقال: لعل التقوي هنا إنما يتجه للمتن، لا للإسناد، كأن يشهد لمتن الحديث ظاهر القرآن، أو كأن يكون عليه العمل عند العلماء، كما قال في حديث: (الظهر يركب إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب نفقته) فقد ساقه مرفوعاً من طريق أبي كريب ويوسف بن عيسى قالا حدثنا وكيع عن زكريا عن عامر عن أبي
__________
(1) انظر دفاع د. نور الدين عتر عن اتهام الترمذي بالتساهل في كتابه (الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه والصحيحين) (237 - 265) فإنه قد أجاد فيه وأحسن الدفاع، واستقصى الكلام.

(1/24)


هريرة مرفوعاً به، ثم قال: (هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عامر الشعبي عن أبي هريرة وقد روى غير واحد هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم ليس له أن ينتفع من الرهن بشيء) والله أعلم.
وقد وسعت الكلام في: شرحي الموقظة على أحكام الترمذي المركبة.

زيادة الثقة والشاذ:
قال الحافظ: -[(وزيادة راويهما مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ)]-.
المقصود أن زيادة راوي الحديث المقبول - سواء أكان تام الضبط أم خفيف الضبط - مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أولى منه، أما إن خولف هذا الراوي بأرجح منه عددا أو صفة فالراجح يقال له المحفوظ، والمخالف يقال له شاذ.
قال الحافظ في "النزهة" (ص/82): (وزيادة راويهما، أي: الصحيح والحسن، مقبولة، ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة: إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها؛ فهذه تقبل مطلقا؛ لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره. وإما أن تكون منافية، بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى؛ فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها؛ فيقبل الراجح ويرد المرجوح.
واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا، من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه.
والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين: كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم، اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة ... فإن خولف بأرجح منه: لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالراجح يقال له: "المحفوظ". ومقابله، وهو المرجوح، يقال له: "الشاذ" مثال ذلك: ما رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عوسجة، عن ابن عباس: "أن رجلا توفي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه ... "، الحديث، وتابع ابن عيينة على

(1/25)


وصله ابن جريج وغيره، وخالفهم حماد بن زيد؛ فرواه عن عمرو بن دينار، عن عوسجة. ولم يذكر ابن عباس. قال أبو حاتم: "المحفوظ حديث ابن عيينة". انتهى.
فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط، ومع ذلك، رجح أبو حاتم رواية من هم أكثر عددا منه.
وعرف من هذا التقرير أن الشاذ: ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه، وهذا هو
المعتمد في تعريف الشاذ، بحسب الاصطلاح).

تتمة:
المثال الذي ذكره الحافظ كمثال للزيادة في الإسناد ظاهره أنه مثال للزيادة المقبولة وليست الشاذة فزيادة الوصل مقبولة.
ويجاب عن هذا كما قال اللقاني (1/ 380) بأن إطلاق المخالفة في كلام الحافظ شاملة للزيادة والنقص، سواء كانت في السند، أم المتن.
وهذا المثال الذي ذكره الحافظ مثال للمخالفة بالنقص في السند.
ومن أمثلة الزيادة الشاذة في الإسناد ما رواه الحاكم من طريق عبيد بن محمد العجلي، حدثني العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثني إسحاق بن منصور، ثنا هُرَيْمُ بن سفيان، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" وذكر أبي موسى فيه شاذ.
قال الحافظ في "إتحاف المهرة" (ذكر أبي موسى فيه وهم فقد أخرجه أبو داود: عن عباس بن عبد العظيم، بهذا الإسناد بدون ذكره. والحاكم، وشيخه أبو بكر بن إسحاق، وشيخه عبيد بن محمد حفاظ لكنها زيادة شاذة، فقد أخرجه الدارقطني من وجه آخر: عن إسحاق بن منصور كما قال أبو داود. وكذا أخرجه الطبراني من وجه آخر: عن إسحاق).
ومن أمثلة الزيادة المقبولة في المتن:
ما رواه النسائي في "الكبرى" من طريق أبي داود الحفري، وفي "الكبرى" و"عمل اليوم والليلة" من طريق القاسم بن يزيد الجرمي، والدارمي من طريق محمد بن يوسف الفريابي، ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن سلمة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: " أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما، وما كان من المشركين ". ورواه أحمد عن وكيع عن سفيان به

(1/26)


وزاد وكيع: "وإذا أمسى"، وهي زيادة ثقة مقبولة غير منافية.
ومن أمثلة الزيادة الشاذة في المتن ما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعا: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
وهذه الزيادة شاذة أيضا فقد انفرد بها حماد بن سلمة، وخالف غيره ممن رواها عن محمد بن عمرو بدونها قال الأرناؤوط في "هامش المسند": (أخرجه الترمذي من طريق عَبْدَة بن سليمان وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، وابن ماجه من طريق محمد بن بشر العبدي، وابن حبان من طريق ثابت بن يزيد الأحول، والبغوي من طريق النضر بن شُمَيْل، خمستهم عن محمد بن عمرو، بهذا الإسناد - دون قوله: "وما تأخر"، فقد انفرد بها حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، فهي زيادة شاذة).
- وقال اللقاني (1/ 834) في تفسير المخالفة في تعريف الشاذ: (قوله: "مخالفا" أي مخالفة بتعذر معها الجمع، وفي مقدمة الشارح: "يكفي التعذر بغير الوجوه المتكلفة جدا").

تنبيه:
وأما إن وقعت الزيادة منافية لرواية من هو مساو له في الوثوق فلا تقبل بل يتوقف فيها (1).

المنكر:
قال الحافظ: -[(ومع الضعف فالراجح المعروف، ومقابله المنكر).]-
وقال في "النزهة" (ص/86): (وإن وقعت المخالفة له (2) مع الضعف فالراجح يقال له: "المعروف"، ومقابله يقال له: "المنكر".
مثاله: ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن حبيب - وهو أخو حمزة بن حبيب الزيات المقرئ- عن أبي إسحاق عن الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحج، وصام، وقرى الضيف دخل الجنة". قال أبو حاتم: هو منكر؛ لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا وهو المعروف).
تنبيه:
ظاهر قول الحافظ: (وإن وقعت المخالفة له) أن المخالفة هنا وقعت من ضعيف لراوي الحديث المقبول سواء أكان ثقة أم خفيف الضبط، ويؤيد ذلك المثال الذي ذكره، فقد نقل عن أبي حاتم تعليل النكارة بقوله: (لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا).
وعلى ذلك يأتي إشكال لماذا سمى الحديث الراجح بالمعروف وهناك بالمحفوظ، وهذا الاحتمال في حمل كلامه عليه صرح بعض تلامذته عنه بخلافه من أن المقصود هنا أن يكون الضعف من الجانبين مع رجحان أحدهما بأن يكون أحسن حالا من الآخر.
قال اللقاني (1/ 841): قوله: "وإن وقعت المخالفة ... " إلخ: نقل بعض تلامذة المصنف عنه أنه قال: "المراد بقولي: وإن وقعت المخالفة مع الضعف: أن يكون الضعف في الجانبين مع رحجان أحدهما" انتهى.
قلت: والمعنى: أن الضعيف إذا روى حديثا، وخالف في إسناده أو متنه ضعيفا أرجح منه؛ لكونه أقل منه وأحسن منه حالا، فما رواه الضعيف (الراجح يقال له: المعروف، ومقابله - وهو ما رواه الضعيف) المرجوح - يقال له: المنكر، والتمثيل الآتي يشكل عليه.
فخرج بقيد الضعيف في كل منهما: المحفوظ والشاذ؛ لأن كل واحد منهما راويه مقبول).
توجيه المثال المذكور:
قال اللقاني (1/ 848): (قول أبي حاتم: "لأن غيره من الثقات رووه" لا يناسب ما مر عن المصنف من أنه لابد في المنكر من ضعف كلٍّ من راوييه المخالِف والمخالَف، لذا قال بعض تلامذة المصنف: أنه أوقفه على هذا، فقال له: إن اللائق التمثيل بغيره، وإنه روجع مرة أخرى، فقال: يعتبر الضعف في راوي المنكر المخالِف.
نعم لو وجد فيهما كان كذلك في التسمية، بأن يقال لمن قل ضعفه: معروف وللآخر منكر. انتهى).
ولا خلاف بين الجوابين، فكان الأولى به أن يذكر مثالا يجمع فيه بين المعروف والمنكر، والمثال الذي ذكره مثال صحيح للمنكر دون المعروف.
فتحصل من ذلك أن مخالفة الضعيف منكرة مطلقا، والمخالَف قد يكون معروفا إن كان أقرب في الضعف من المخالِف، وقد يكون مقبولا إن كان راويه مقبولا.
إشكال:
بقي الجواب عن ظاهر قوله: (وزيادة راويهما - أي الصحيح والحسن - مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق. فإن خولف - أي راويهما - بأرجح فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ، وإن وقعت المخالفة له مع الضعف فالراجح المعروف، ومقابله المنكر) فظاهر قوله المخالَف من الضعيف هو راوي الصحيح والحسن.
قال اللقاني (1/ 849): (وأما أن موضوع التقسيم راوي الحسن والصحيح؛ فجوابه: أن في الكلام شبه استخدام (3) لقصد الاستطراد).
والمقصود أن الظاهر هنا غير مراد وإنما ألجأ الماتن لذلك طريقة اللف والنشر المرتب التي سلكها وهي قريبة من طريقة السبر والتقسيم عند الأصوليين ليلتزم نظاما دقيقا، يستوعب كل مجموعة من علوم الحديث في ظل قسم واحد يجمعها في موضع واحد فيبدأ بذكر الأجناس ثم يفصل بذكر الأنواع مرتبة.

تتمة:
قال اللقاني (1/ 843): (اعلم أن المنكر فردان:
أحدهما: ما خالف فيه المستور، أو الضعيف الذي ينجبر بمتابعة مثله.
وثانيهما: ما تفرد به الضعيف الذي لا ينجبر بمتابعة مثله.

وقد قدمنا في الشاذ أنه: ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه، أو تفرد به قليل الضبط، فله فردان - أيضا -، فظهر أنهما متميزان، وأن كلا منهما قسمان، وان المقابل للشاذ: المحفوظ، والمنكر: المعروف ...
ثم قال: عُلِمَ من كلام المصنف: أن الشاذ ما خالف الثقةُ الأوثقَ منه، وأن المحفوظ: ما خالف فيه الأوثق للثقة، وأن المنكر: ما خالف فيه الأضعف للضعيف، وأن المعروف: ما خالف فيه الضعيف الأضعف.

مثال المخالفة في المتن:
ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من طريق أبي عقيل زهرة بن معبد، عن ابن عمه، عن عقبة بن عامر عن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء - أو قال نظره إلى السماء - فقال: أشهد أن لا إله
__________
(1) انظر شرح القاري (ص/315).
(2) هذه الزيادة مذكورة في بعض النسخ دون بعض.
(3) جاء في حاشية قضاء الوطر: الاستخدام: هو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان، ثم يأتي بلفظتين يستخدم كل منهما في معنى من معاني تلك اللفظة المتقدمة. نهاية الأرب.

(1/27)


إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيهن شاء " وزيادة رفع البصر إلى السماء منكرة فقد زادها ابن عم أبي عقيل وهم ومجهول، وقد رواه مسلم في "صحيحه" من طريق أبي إدريس الخولاني وجبير بن نفير عن عقبة عن عمر به دون هذه الزيادة.

المتابعة:
قال الحافظ: -[(والفرد النسبي إن وافقه فهو المتابع).]-
وقال في "النزهة" (ص/87): (وما تقدم ذكره من الفرد النسبي، إن وجد بعد ظن كونه فردا قد وافقه غيره فهو المتابِع بكسر الموحدة.
والمتابعة على مراتب: لأنها إن حصلت للراوي نفسه فهي التامة. وإن حصلت لشيخه فمن فوقه فهي القاصرة، ويستفاد منها التقوية.
مثال المتابعة: ما رواه الشافعي في "الأم"، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". فهذا الحديث، بهذا اللفظ، ظن قوم أن الشافعي تفرد به عن مالك، فعدوه في غرائبه؛ لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسناد بلفظ: "فإن غم عليكم فاقدروا له". لكن وجدنا للشافعي متابعا، وهو عبد الله بن مسلمة القعنبي، كذلك أخرجه البخاري عنه، عن مالك، وهذه متابعة تامة.
ووجدنا له، أيضا، متابعة قاصرة في صحيح ابن خزيمة من رواية عاصم بن محمد، عن أبيه محمد بن زيد عن جده عبد الله بن عمر، بلفظ: "فكملوا ثلاثين"، وفي صحيح مسلم من رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ: "فاقدروا ثلاثين".
ولا اقتصار في هذه المتابعة - سواء كانت تامة أم قاصرة - على اللفظ، بل لو جاءت بالمعنى كفى، لكنها مختصة بكونها من رواية ذلك الصحابي).

تنبيهات:
- قال اللقاني (1/ 860): (قوله: "النسبي" إنما قيد به لأن الفرد المطلق لا يتأتى فيه المتابعة؛ لأن الذي ينفرد بروايته واحد عن الصحابي فما وُجِدَ له متابع لم يكن فردا مطلقا.
كذا قيل، وفيه نظر؛ لأنه ليس الكلام مفروضا فيما أثبت فرديته، بل فيما يشك في فرديته، وأي متابع من ظن فردية مطلقة لحديث؛ فيسبر ويعتبر فيوجد غير فرد مطلق كما أن الفرد النسبي كذلك، ولعل التقييد باعتبار الكثير، وظاهر كلام ابن الصلاح

(1/30)


والعراقي الإطلاق بل صريحهما ذلك).
- قوله: (وافقه غيره) يشمل الثقة وغيره ممن يعتبر حديثه، وممن لا يعتبر، وإن كانت متابعة الواهي لا تفيد الحجية (1).
- سميت المتابعة التامة بذلك لمشاركته في رجال السند كلهم، ويقال لها أيضا متابعة حقيقية. وأما القاصرة فسميت بذلك لقصورها عن مشاركته هو وكلما بعد المتابع كانت أقصر.

الشاهد:
قال الحافظ: -[(وإن وجد متن يشبهه فهو الشاهد).]-
وقال في "النزهة" (ص/90): (وإن وجد متن يروى من حديث صحابي آخر يشبهه في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط فهو "الشاهد". ومثاله في الحديث الذي قدمناه: ما رواه النسائي من رواية محمد بن حنين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثل حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر سواء، فهذا باللفظ.
وأما بالمعنى فهو ما رواه البخاري من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة، بلفظ: "فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين").

الاعتبار:
قال الحافظ: -[(وتتبع الطرق لذلك هو الاعتبار).]-
وقال في "النزهة" (ص/90): (واعلم أن تتبع الطرق: من الجوامع، والمسانيد، والأجزاء، لذلك الحديث الذي يظن أنه فرد؛ ليعلم: هل له متابع أم لا؟ هو "الاعتبار").
__________
(1) انظر اللقاني لهذا التنبيه وتاليه (1/ 863، 864).

(1/31)


المقبول

المحكم:
قال الحافظ: -[(ثم المقبول: إن سلم من المعارضة فهو المحكم)]-.
وقال في "النزهة" (ص/216): (ثم المقبول: ينقسم، أيضا، إلى معمول به وغير معمول به؛ لأنه إن سلم من المعارضة، أي: لم يأت خبر يضاده، فهو "المحكم"، وأمثلته كثيرة).
قال اللقاني في "قضاء الوطر" (1/ 879): (أشار إلى أن المراد بالمعارضة: المضادة، وهو قريب من قول الجدليين وغيرهم، معناها: إقامة الدليل على خلاف ما أقام الخصم عليه الدليل، فلابد بقرينة المقام في الخبر المضاد له من كونه مقبولا وفي مرتبته أيضا. وفي كلامه إشاره إلى أنه لابد من تعذر الجمع الغير متكلَّف حال الاعتبار أيضا).
ومفاد كلامه أن المحكم هو: الحديث المقبول الذي سلم من معارضة مثله في القبول. وأنه يعمل به بلا شبهة.
وقوله: (وأمثلته كثيرة) فقد مثل له الحاكم بحديث «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل»، وحديث «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول»، وحديث «إذا وضع العشاء، وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء» ... وعقب الحاكم على كل حديث بقوله: (هذه سنة صحيحة لا معارض لها) ثم قال: (وقد صنف عثمان بن سعيد الدارمي فيه كتابا كبيرا) وهذا الكتاب اسمه " لا معارض له"، وقد أورد فيه كل حديث لا معارض له (1).

مختلف الحديث:
قال الحافظ: -[(وإن عورض - أي المقبول - بمثله: فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث).]-
ومفاد كلامه أن المختلف هو: الحديث المقبول المعارض بمثله مع إمكان الجمع.
قوله: (عورض) أي معارضة ظاهرية أو صورية من وجهة نظر المجتهد وليست معارضة حقيقة، فالأدلة لا يكون بينها تعارض حقيقي.
لا فرق بين الأدلة الظنية والقطعية (2) في امتناع وقوع التعارض بينهما بمعنى أنه يمتنع
__________
(1) انظر "التحبير في المعجم الكبير" (1/ 123).
(2) المقصود بما كان قطعيا من الأدلة، هو ما كان قطعيا في دلالته وثبوته، وما كان ظنيا أي في
دلالته أو في ثبوته.

(1/32)


حدوث تعارض حقيقي بين الأدلة، وأنه إذا حدث تعارض بين الأدلة فإنه يكون صوريا أي
من وجهة نظر المجتهد فقط، وذلك لأن كتاب الله سالم من الاختلاف والاضطراب والتناقض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82] ولهذا مدح الله تعالى الراسخين في العلم حيث قالوا: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]؛ أي: محكمه ومتشابهه حق. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) (1). كما أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة مبرأة من التناقض والاختلاف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من التناقض والاختلاف بإجماع الأمة، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4]. وكل هذه الأدلة تشمل الظني والقطعي منهما.
قوله: (بمثله) أي في القبول وليس في القوة، فلا يشترط التساوي في القوة فيمكن أن يقع التعارض بين المتواتر والآحاد، أو الصحيح والحسن، ونحو ذلك.
قوله: (أمكن الجمع) أي بين مدلوليهما بغير تعسف (2).
قال اللقاني في "قضاء الوطر" (1/ 886): (قوله: "بغير تعسف" أي: بأن يكون موافقا للقوانين اللغوية، أو الشرعية، أو العقلية، بحيث لا يخالف القواطع منها).
قال القاري في "شرح النخبة" (ص:362): ((إما أن يمكن الجمع) أي بتأويل، أو تقييد، أو تخصيص (بين مدلوليهما) أي معنييهما، (بغير تعسف) متعلق بالجمع، والتعسف: أزيد من التكلف، لأنه خروج عن الجادة. قال المصنف: لأن ما كان بتعسف فللخصم أن يرده، وينتقل إلى ما بعده من المراتب).

أمثلته:
قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (1/ 452): (ومثل له جمع بحديث الترمذي وغيره: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" مع حديث أبي داود والترمذي وغيرهما: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". الشامل للإهاب المدبوغ وغيره حملناه على غيره جمعا بين
__________
(1) رواه أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبي عن جده، وصححه الشيخ الألباني والشيخ الأرناؤوط.
(2) انظر "النزهة" (1/ 216).

(1/33)


الدليلين ... ).
قال السخاوي في "فتح المغيث" (4/ 66): (وهو من أهم الأنواع، تضطر إليه جميع الطوائف من العلماء، وإنما يكمل للقيام به من كان إماما جامعا لصناعتي الحديث والفقه، غائصا على المعاني الدقيقة ; ولذا كان إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة من أحسن الناس فيه كلاما، لكنه توسع حيث قال: (لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده شيء من ذلك فليأتني به لأؤلف بينهما). وانتقد عليه بعض صنيعه في توسعه، فقال البلقيني: إنه لو فتحنا باب التأويلات لاندفعت أكثر العلل.
وأول من تكلم فيه إمامنا الشافعي، وله فيه مجلد جليل، ولكنه لم يقصد استيعابه، بل هو مدخل عظيم لهذا النوع، يتنبه به العارف على طريقه. وكذا صنف فيه أبو محمد بن قتيبة، وأتى فيه بأشياء حسنة، وقصر باعه في أشياء قصر فيها. وأبو جعفر بن جرير الطبري، وأبو جعفر الطحاوي في كتابه (مشكل الآثار)، وهو من أجل كتبه، ولكنه قابل للاختصار غير مستغن عن الترتيب والتهذيب، وقد اختصره ابن رشد، وممن صنف فيه أيضا أبو بكر بن فورك، وأبو محمد القصري، وابن حزم، وهو نحو عشرة آلاف ورقة).

الناسخ والمنسوخ:
قال الحافظ: -[(أو لا، وثبت المتأخر فهو الناسخ، والآخر المنسوخ.)]-
فإن لم يمكن الجمع بين الحديثين المقبولين المتعارضين، أو أمكن الجمع ولكن بتعسف، فهنا إن ثبت تأخر أحدهما فهو الناسخ والآخر هو المنسوخ.
قال في "النزهة" (ص/217): (ويعرف النسخ بأمور: أصرحها ما ورد في النص، كحديث بريدة في صحيح مسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر الآخرة". ومنها ما يجزم الصحابي بأنه متأخر، كقول جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترك الوضوء مما مست النار"، أخرجه أصحاب السنن. ومنها ما يعرف بالتاريخ، وهو كثير (1)، وليس منها ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارضا لمتقدم عنه؛ لاحتمال أن يكون سمعه من صحابي آخر أقدم من المتقدم المذكور، أو مثله
__________
(1) مثل له الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "الأصول" (ص/54) بقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) [الأنفال: 66]. الآية، فقوله: (الْآنَ) - قال في شرح الأصول (ص/413): (الآن ظرف للحاضر، وهذا يقتضي أن ما قبله مغاير لما بعده) - يدل على تأخر هذا الحكم وكذا لو ذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حكم بشيء قبل الهجرة ثم حكم بعدها بما يخالفه فالثاني ناسخ).

(1/34)


فأرسله (1)، لكن إن وقع التصريح بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم فيتجه أن يكون ناسخا (2)، بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبل إسلامه (3). وأما الإجماع فليس بناسخ، بل يدل على ذلك (4)).

الترجيح والتوقف بين المتعارضين:
قال ابن حجر: -[(وإلا فالترجيح، ثم التوقف.)]-
وقال في "النزهة" (ص/218): (وإن لم يعرف التاريخ فلا يخلو: إما أن يمكن ترجيح أحدهما على الآخر، بوجه من وجوه الترجيح المتعلقة بالمتن، أو بالإسناد (5)، أو لا. فإن أمكن الترجيح تعين المصير إليه، وإلا فلا.
فصار ما ظاهره التعارض واقعا على هذا الترتيب: الجمع إن أمكن، فاعتبار الناسخ
والمنسوخ، فالترجيح إن تعين، ثم التوقف (6) عن العمل بأحد الحديثين. والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط؛ لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة، مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه).

المردود
المعلق والمرسل:
قال الحافظ: (ثم المردود: إما أن يكون لسقط، أو طعن، والسقط إما أن يكون من مبادئ السند من مصنف أو من آخره بعد التابعي، أو غير ذلك. فالأول: المعلق، والثاني: المرسل).

المعلق:
قال في "النزهة" (ص/218): (والسقط إما أن يكون من مبادئ السند من تصرف مصنف (7) فهو المعلق، سواء كان الساقط واحدا، أم أكثر (8).
ومن صور المعلق: أن يحذف جميع السند ويقال مثلا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن يحذف إلا الصحابي، أو إلا التابعي والصحابي معا. ومنها: أن يحذف من حدثه، ويضيفه إلى من هو فوقه، فإن كان من فوقه شيخا لذلك المصنف فقد اختلف فيه: هل يسمى تعليقا، أو لا؟ والصحيح في هذا التفصيل: فإن عرف بالنص أو الاستقراء أن فاعل ذلك مدلس قضي به، وإلا فتعليق.
وإنما ذكر التعليق في قسم المردود للجهل بحال المحذوف. وقد يحكم بصحته إن عرف، بأن يجيء مسمى من وجه آخر. فإن قال: جميع من أحذفه ثقات، جاءت مسألة
__________
(1) قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (1/ 472): (قال - ابن حجر -: وإنما قلته لأن المصطفى قال ليلة العقبة أن المصائب للذنوب كفارة لأهلها فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له. وروى أبو هريرة وهو متأخر الإسلام عن ليلة العقبة بنحو سبع سنين أن المصطفى قال: " لا أدري الحدود كفارة لأهلها أو لا ". وهذا خبر لا يجوز النسخ فيه) وقد أعل البخاري في "تاريخه" حديث أبي هريرة بالإرسال.
(2) روى الشيخان وغيرهما عن جرير رضي الله عنه أنه بال، ثم «توضأ فمسح على الخفين» وقال: ما يمنعني أن أمسح وقد «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح»، قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة) واللفظ لأبي داود.
(3) قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (1/ 474): (قال الكمال بن أبي شريف: ويشترط - أيضا - أن يكون متقدم الإسلام سمع الحديث المعارض قبل سماع متأخر الإسلام، بأن يعلم ذلك بنقل أو قرينة. قال البقاعي: ولا بد من الاحتراز عن هذا، لأن المتقدم الصحبة يحتمل أن يسمع حديثا بعد ما سمعه فيها المتأخر).
(4) قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 563): (ومثله ما ذكر الخطيب البغدادي: أن زر بن حبيش قال لحذيفة (أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع) وأجمع المسلمون على أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب، مع بيان ذلك من قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة: 187] الآية قال العلماء في مثل هذا: إن الإجماع مبين للمتأخر، وإنه ناسخ لا إن الإجماع هو الناسخ).
(5) قال اللقاني (1/ 919): (والمتعلق بالمتن كسماعه من الشيخ وقراءته عليه، مع أخذ مقابله عرضا، أو إجازة. وبالإسناد كزيادة الضبط وزيادة العدالة) ومن المرجحات المتعلقة بالسند ترجيح صاحب القصة على غيره كترجيح ما رواه الترمذي عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة رضي الله عنها وهو حلال على ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم. بقرينة قول أبو رافع: وكنت الرسول بينهما، فرجح بكون راويه صاحب الواقعة فهو أدرى بذلك.
(6) والقول بالتوقف هو المتعين؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، وقال البعض بالتخيير بين أيهما، وذلك يستلزم تعدد الحق، وأنه ليس محصورا في واحد منهما.
(7) أي أن الحديث له سند حذفه المصنف لعلة، وفيه احتراز مما لا أصل له، أو ما لا يعرف مسندا.
(8) وقد عرف الحافظ المعلق في "النكت" (1/ 97) بقوله: (هو الذي حذف من أول إسناده واحد فأكثر).

(1/35)


التعديل على الإبهام (1)، والجمهور: لا يقبل حتى يسمى (2). لكن، قال ابن الصلاح هنا: إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته، كالبخاري، فما أتى فيه بالجزم (3) دل على أنه ثبت إسناده عنده، وإنما حذف لغرض من الأغراض، وما أتى فيه بغير الجزم (4) ففيه مقال).

المرسل:
قال الحافظ: -[(والسقط إما أن يكون من آخره بعد التابعي فالمرسل.)]-
قال في "النزهة" (ص/219): (ما سقط من آخره من بعد التابعي، هو "المرسل".
وصورته: أن يقول التابعي سواء كان كبيرا أم صغيرا (5): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، ونحو ذلك.
وإنما ذُكِر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون صحابيا، ويحتمل أن يكون تابعيا. وعلى الثاني (6) يحتمل أن يكون ضعيفا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد. أما بالتجويز العقلي فإلى ما لا نهاية له (7)، وأما
__________
(1) كأن يقول: حدثني الثقة، أو من أثق به، أو من لا أتهم.
(2) وهذا القول هو الراجح؛ لأن الأصل في الرواة الجهالة، فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين. ولما كان الخبر عن التوثيق والتعديل يختلف باختلاف المُعَدِّل، فقد يُظهر له المُعَدَّل ما يجعله يحكم له بالعدالة أو التوثيق، في حين أنه لو صرح به لأنكشف حاله؛ وعليه فتمسكاً بالأصل الأول في الرواة، وحماية لجناب السنة، نختار القول بعدم قبو ل هذا التعديل أو التوثيق للمجاهيل والمبهمين. والله أعلم. وقد عرضت لذكر الأقوال في هذه المسألة في شرحي للموقظة.
(3) كقال فلان، وروى فلان.
(4) وتسمى صيغة التمريض، ك: يروى، ويذكر.
(5) قال اللقاني (1/ 961): (ليس المراد بالكبر والصغر ما يرجع إلى السن وإنما المراد بالكبير: من جُل روايته عن الصحابة، كعبدالله بن الخِيَار، وبالصغير من عداه، كمن جُل روايته عن التابعين كيحيى بن سعيد، وبعضهم فسر الكبير بمن لقى كثيرا من الصحابة، والصغير بمن لقى القليل منهم).
(6) أي كونه تابعيا.
(7) قال المناوي في " اليواقيت والدرر" (1/ 499): (اعترضه ابن قطلوبغا: بأنه محال عند العقل أن يجوز أن يكون بين التابعي والنبي من لا يتناهى، كيف وقد وقع التناهي في الوجود الخارجي بذكر النبي. والكمال بن أبي شريف: بأنه لو قال: فإلى ما لا ضابط له، أو قال: إما بالتجويز العقلي فلا ضابط له - لكان متجها - وإلا فعدد التابعين متناه). وأجاب عنه الصنعاني في: "إسبال المطر (ص: 257) بقوله: (وأجيب بأنه أراد الكثرة وأتى بما لا نهاية له مبالغة إذ من المعلوم عند العقلاء أن الانتساب إلى آدم أمر متناه فكيف إلى نبينا صلى الله عليه وسلم).

(1/37)


بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض. فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف؛ لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما - وهو قول المالكيين والكوفيين-: يقبل مطلقا، وقال الشافعي: يقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى، مسندا أو مرسلا، ليرجح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر (1)).