الشرح المختصر لنخبة الفكر لابن حجر العسقلاني المعضل:
قال الحافظ: -[(والسقط إن كان باثنين فصاعدا مع التوالي فهو
المعضل.)]-
قال السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 198): ((والمعضل) وهو بفتح
المعجمة من الرباعي المتعدي، يقال: أعضله فهو معضل وعضيل،
وأعله المرض فهو عليل بمعنى معل، وفعيل بمعنى مفعل إنما يستعمل
في المتعدي، والعضيل: المستغلق الشديد. ففي حديث: «إن عبدا
قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم شأنك، فأعضلت
بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبان». . . الحديث " قال أبو عبيد:
هو من العضال، الأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه). انتهى.
فكأن المحدث الذي حدث به أعضله؛ حيث ضيق المجال على من يؤديه
إليه، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح، وشدد
عليه الحال، ويكون ذاك الحديث معضلا له لإعضال الراوي له. هذا
تحقيقه لغة، وبيان استعارته.
وهو في الاصطلاح: (الساقط منه) أي: من إسناده (اثنان فصاعدا)
أي: مع التوالي، حتى لو سقط كل واحد من موضع كان منقطعا، لا
معضلا).
العلاقة بين المعلق والمعضل:
قال في "النزهة" (ص/219): (بين المعلق وبين المعضل، عموم وخصوص
من وجه: فمن حيث تعريف المعضل بأنه: سقط منه اثنان فصاعدا؛
يجتمع مع بعض صور المعلق، ومن حيث تقييد المعلق بأنه من تصرف
مصنف من مبادئ السند يفترق منه؛ إذ هو أعم من ذلك).
__________
(1) وهذا القول هو الأقوى وثمة شروط أخرى ذكرها الإمام الشافعي
وغيره، ولا يتسع المجال لذكرها ومناقشتها.
(1/38)
شأن العموم والخصوص الوجهي أن يجتمعا في
صورة، وينفرد كل واحد منهما في صورة، فالمعلق والمعضل يجتمعان
في السقط إن كان في أوله لراويبن أو أكثر على التوالي من أوله،
وينفرد المعلق إن كان السقط لراو واحد من أوله، وينفرد المعضل
إن كان السقط لراويين أو أكثر على التوالي من أي مكان غير أول
السند.
المنقطع:
-[قال الحافظ: (وإلا فالمنقطع).]-
والمقصود أن السقط في السند إن لم يكن على أي صورة من الصور
السابقة فهو المنقطع.
قال في "النزهة" (ص/220): (وإلا، فإن كان الساقط باثنين غير
متواليين، في موضعين مثلا، فهو المنقطع، وكذا إن سقط واحد،
فقط، أو أكثر من اثنين، لكنه، بشترط عدم التوالي).
وعليه فالمنقطع هو: ما سقط من وسط سنده راو فأكثر لا على
التوالي.
فائدة:
قال ابن حجر في "النكت" (2/ 581): (قال الجوزقاني مقدمة كتابه
في الموضوعات: "المعضل أسوأ حالا من المنقطع، والمنقطع أسوأ
حالا من المرسل والمرسل لا تقوم به حجة". قلت: وإنما يكون
المعضل أسوأ حالا من المنقطع إذا كان الانقطاع في موضع واحد من
الإسناد، وأما إذا كان في موضعين أو أكثر، فإنه يساوي المعضل
في سوء الحال).
أقسام السقط من حيث الظهور والخفاء:
السقط الظاهر:
قال الحافظ: -[(ثم قد يكون واضحا أو خفيا - إي السقط -.
فالأول: يدرك بعدم التلاقي، ومن ثم احتيج إلى التأريخ).]-
وقال في "النزهة" (ص/221): (ثم إن السقط من الإسناد قد يكون
واضحا يحصل
الاشتراك في معرفته، ككون الراوي، مثلا، لم يعاصر من روى عنه،
أو يكون خفيا فلا
يدركه إلا الأئمة الحذاق المطلعون على طرق الحديث وعلل
الأسانيد.
فالأول: وهو الواضح، يدرك بعدم التلاقي بين الراوي وشيخه،
بكونه لم يدرك عصره، أو
(1/39)
أدركه لكن، لم يجتمعا، وليست له منه إجازة،
ولا وجادة (1)،ومن ثم، احتيج إلى التاريخ؛ لتضمنه تحرير مواليد
الرواة ووفياتهم، وأوقات طلبهم وارتحالهم، وقد افتضح أقوام
ادعوا الرواية عن شيوخ ظهر بالتاريخ كذب دعواهم (2)).
فائدة:
قال اللقاني (1/ 980): (فإن قلت: لم يذكر المصنف لهذا النوع
اسما.
قلت: نعم، لكن قال البقاعي: إن هذا القسم لا اسم له إلا
المنقطع وإن كان من أول السند من تصرف مصنف سمى معلقا - أيضا -
انتهي.
والذي يظهر دخوله - أيضا - في باب المعضل والمرسل، والحاصل أن
هذا لاقسم ليس له اسم خاص لجريانه في البواب السابقة، فينظر
لمحل ذلك الحذف الواضح، ويحكم له بما يَلحق به من مسميات تبك
الأقاب السابقة، وتطبق عليه أسماؤها من تعليق، أو انقطاع، أو
عضل، أو إرسال).
السقط الخفي:
(المدلَّس):
قال الحافظ: -[(والثاني المدلَّس ويرد بصيغة تحتمل اللقى: كعن،
وقال).]-
وقال في "النزهة" (ص/221): (والقسم الثاني: وهو الخفي:
المدَّلس - بفتح اللام- سمي بذلك لكون الراوي لم يُسم مَن
حدثه، وأوهم سماعه للحديث ممن لم يحدثه به. واشتقاقه من
الدَّلَس بالتحريك، وهو اختلاط الظلام بالنور، سمي بذلك
لاشتراكهما في الخفاء.
ويَرِد المدَّلس بصيغة من صيغ الأداء تحتمل وقوع اللقى بين
المدلس ومن أسند عنه، كـ"عن"، وكذا "قال". ومتى وقع بصيغة
صريحة لا تجوز فيها كان كذبا.
وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلا: أن لا يقبل منه إلا ما
صرح فيه بالتحديث،
على الأصح).
تنبيه:
قال اللقاني (1/ 992): (كلام الشرح والأصل ليس فيه إلا تدليس
الإسناد، وهو أن يروي عمن لقيه، أو سمع منه ما لم يسمع منه
موهما أنه سمع منه.
وسكت عن تدليس الشيوخ وهو أن يصف الشيخ الواحد الذي سمع منه
ذلك الحديث بما لا يكون معروفا به، ولا مشهورا من اسم أو لقب
أو كنية أو نسبة إلى قبيلة أو بلدة أو صفة أو نحوها.
والحامل عليه مقاصد: إما ضعف في الراوي عنه، وإما صغره عند
المدلس بأن يكون أصغر من المدلس أو أكبر منه لكن بيسير، أو
بكثير لكن تأخرت وفاته حتى شاركه في الأخذ من هو دونه.
وملخصه: أن يستكبر المدلس عن الرواية عنه لشئ من هذه الأمور،
وإما لإيهام المدلس أنه يروي ذلك الحديث عن عدة شيوخ.
كما سكت أيضا عن تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء
بالتجويد بحيث قالوا: "جَوَّد فلانا الإسناد" فإنما يريدون
ذَكَرَ من فيه من الأجواد، وحذف الأدنياء، وهو أن يروي حديثا
عن ضعيف بين ثقتين لقى أحدهما الآخر فيسقط المدلس الضعيف ويروي
الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة.
ولعله إنما سكت عنهما؛ لرجوع الأول للرواية عن المجهول والثاني
لتدليس الإسناد كما صرح به المصنف في الثاني حيث جعله نوعا من
تدليس الإسناد).
المرسل الخفي:
قال الحافظ: (وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق).
وقال في "النزهة" (ص/221): (وكذا المرسل الخفي، إذا صدر من
معاصر لم يلق من حدث عنه، بل بينه وبينه واسطة.
والفرق بين المدلس والمرسل الخفي دقيق، حصل تحريره بما ذكر
هنا: وهو أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، فأما إن
عاصره، ولم يعرف أنه لقيه، فهو المرسل الخفي).
أسباب الطعن في الراوي
قال الحافظ: (ثم الطعن: إما أن يكون لكذب الراوي (3)، أو تهمته
بذلك، أو فحش غلطه، أو غفلته، أو فسقه، أو وهمه، أو مخالفته،
أو جهالته، أو بدعته، أو سوء حفظه.
فالأول: الموضوع، والثاني: المتروك، والثالث: المنكر على رأي،
وكذا الرابع والخامس.
ثم الوهم: إن اطلع عليه بالقرائن، وجمع الطرق: فالمُعَلَّل.
ثم المخالفة: إن كانت بتغيير السياق: فمدرج الإسناد، أو بدمج
موقوف بمرفوع: فمدرج المتن، أو بتقديم أو تأخير: فالمقلوب، أو
بزيادة راو: فالمزيد في متصل الأسانيد، أو بإبداله ولا مرجح:
فالمضطرب وقد يقع الإبدال عمدا امتحانا أو بتغيير مع بقاء
السياق: فالمصحف والمحرف. ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص
والمرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني. فإن خفي المعنى احتيج
إلى شرح الغريب وبيان المشكل.
ثم الجهالة: وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فيذكر بغير ما
اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح، وقد يكون مقلا فلا يكثر
الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان، ولا يسمى اختصارا، وفيه
المبهمات، ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح،
فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين، أو اثنان فصاعدا، ولم
يوثق: فمجهول الحال، وهو المستور.
ثم البدعة: إما بمكفر، أو بمفسق، فالأول: لا يقبل صاحبها
الجمهور، والثاني: يقبل من لم يكن داعية في الأصح، إلا إن روى
ما يقوي بدعته فيرد على المختار، وبه صرح الجُوزقاني شيخ
النسائي.
ثم سوء الحفظ: إن كان لازما فهو الشاذ على رأي، أو طارئا
فالمختلط، ومتى توبع سيئ الحفظ بمعتبر، وكذا المستور والمرسل،
والمدلس: صار حديثهم حسنا لا لذاته، بل بالمجموع.).
ذكر الماتن - رحمه الله - عشرة أسباب للطعن في الحديث خمسة
منها متعلقة بالعدالة وهي: الكذب، والتهمة به، والفسق،
والجهالة، والبدعة.
وخمسة تتعلق بالضبط وهي: فحش الغلط، والغفلة، والوهم،
والمخالفة، وسوء الحفظ.
ولم يميز الماتن بينهما؛ لأنه فضل ذكرها مرتبة على الأشد
فالأشد في موجب الرد على
سبيل التدلي، وفيه فائدة أعظم من تمييزها سيما للمبتدئ (4).
الكذب:
وقال في "النزهة" (ص/223): (الطعن إما أن يكون: لكذب الراوي في
الحديث النبوي: بأن يروي عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يقله
(5)، متعمدا لذلك (6).
فالقسم الأول: وهو الطعن بكذب الراوي في الحديث النبوي هو
الموضوع.
والحكم عليه بالوضع إنما هو بطريق الظن الغالب، لا بالقطع؛ إذ
قد يصدق الكذوب، لكن، لأهل العلم بالحديث ملكة قوية يميزون بها
ذلك، وإنما يقوم بذلك منهم من يكون اطلاعه تاما، وذهنه ثاقبا،
وفهمه قويا، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكنة.
وقد يعرف الوضع بإقرار واضعه، قال ابن دقيق العيد: "لكن لا
يقطع بذلك، لاحتمال أن يكون كذب في ذلك الإقرار" انتهى. وفهم
منه بعضهم أنه لا يعمل بذلك الإقرار أصلا، وليس ذلك مراده،
وإنما نفي القطع بذلك، ولا يلزم من نفي القطع نفي الحكم؛ لأن
الحكم يقع بالظن الغالب، وهو هنا كذلك، ولولا ذلك لما ساغ قتل
المقر بالقتل، ولا رجم المعترف بالزنى؛ لاحتمال أن يكونا
كاذبين فيما اعترفا به.
ومن القرائن، التي يدرك بها الوضع: ما يؤخذ من حال الراوي، كما
وقع للمأمون بن أحمد أنه ذكر بحضرته الخلاف في كون الحسن سمع
من أبي هريرة أو لا، فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: سمع الحسن من أبي هريرة. وكما وقع لغِياث
بن إبراهيم، حيث دخل على المهدي فوجده يلعب بالحمام؛ فساق في
الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا سبق
إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح"، فزاد في الحديث: "أو
جناح"؛ فعرف المهدي أنه كذب لأجله فأمر بذبح الحمام.
ومنها ما يؤخذ من حال المروي: كأن يكون مناقضا لنص القرآن، أو
السنة المتواترة (7)، أو الإجماع القطعي، أو صريح العقل، حيث
لا يقبل شيء من ذلك التأويل.
ثم المروي تارة يخترعه الواضع، وتارة يأخذ كلام غيره: كبعض
السلف الصالح، أو قدماء الحكماء، أو الإسرائيليات، أو يأخذ
حديثا ضعيف الإسناد فيركب له إسنادا صحيحا
ليروج.
والحامل للواضع على الوضع: إما عدم الدين كالزنادقة، أو غلبة
الجهل كبعض المتعبدين، أو فرط العصبية، كبعض المقلدين، أو
اتباع هوى بعض الرؤساء، أو الإغراب
__________
(1) عطفه الوجادة على الإجازة مشعر باستقلال الوجادة في
الاتصال دون أن ينضم لها الإجازة، وسوف يأتي مناقشة هذه
المسألة - بإذن الله -.
(2) قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (2/ 8): (قال الحاكم:
لما قدم علينا أبو جعفر الكُشَّى - بضم الكاف وشدة المعجمة -
وحدث عن عبد بن حميد سألته عن مولده؟ فذكر أنه سنة ستين
ومائتين فقلت لأصحابنا: هذا الشيخ سمع من عبد حميد بعد موته
بثلاثة عشر سنة).
(3) وقيده الماتن في النزهة بـ: "التعمد"، وسوف يأتي بإذن الله
مناقشة هذا القيد.
(4) انظر اللقاني (1/ 1010).
(5) قال اللقاني (1/ 1012): (المراد: ما لم يقله صلى الله عليه
وسلم أصلا؛ لا باللفظ ولا بالمعنى، فلا ترد الرواية بالمعنى
عند مجوزيها، وهو الحق؛ لوجود المعنى، ويدخل فيه ما سيأتي من
تركيب متن مروي بسند ضعيف مع سند صحيح؛ لأن الهيئة المخصوصة
غير منسوبة إليه عليه السلام لا باللفظ ولا بالمعنى. وأما قلب
المتن لسند آخر غير ضعيف لقصد الامتحان؛ فليس بجرحة على الأصح،
لكن لا يستمر جوازه إلا بقدر الضروة فقط).
ثم قال: (خص المصنف الكذب برواية ما لم يقله صلى الله عليه
وسلم جريا على الغالب، وتبركا بلفظ الحديث، وإلا فالفعل والعزم
والهم والتقرير والوصف كذلك - ما لا يخفى -).
(6) قال اللقاني (1/ 1013): (فإن قلت: قيد التعمد غير مذكور في
الأصل! قلت: المقابلة مُغنية عن التصريح به، وإلا رجع لفحش
الغلط، أو سوء الحفظ. والحق في الصدق أنه: مطابقة حكم الخبر
للواقع مطلقا، عمدا كان أو لا، كان بإعتقاد عدم المطابقة
للواقع أم لا).
تنبيه:
بعض العلماء، وما جرى عليه عمل مصنفو كتب الموضوعات، عدم
اعتبار هذا القيد.
قال الشيخ بشير عمر في "منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث"
(1/ 147): (بعض العلماء لم ير التقييد بقيد التعمّد، ومنهم شيخ
الإسلام ابن تيمية، فعرّف الموضوع بأنه ما يُعلم انتفاء خبره
وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ فيه. والناظر في مناهج
النّقّاد المتقدمين ومصطلحاتهم في هذا الباب يرى أنهم يطلقون
الحكم بالوضع على حديث من وقع ذلك منه عمداً أو خطأً، كما
يصفون الراوي بالكذب وإن كان لم يتعمد اختلاق المتون، وكذلك
جامعوا كتب الموضوعات كما أفاده الشيخ المعلمي رحمه الله حيث
قال: "إذا قام عند الناقد من الأدلة ما غلب على ظنه معه بطلان
نسبة الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يقول: باطل أو
موضوع، وكلا اللفظين يقتضي أن الخبر مكذوب عمداً أو خطأ، إلا
أن المتبادر من الثاني الكذب عمداً غير أن هذا المتبادر لم
يَلتفِت إليه جامعو كتب الموضوعات، بل يوردون فيها ما يجدون
قيام الدليل على بطلانه وإن كان الظاهر عدم التعمد") وهذه
التفرقة بين الباطل والموضوع التي أشار إليها الشيخ المعلمي
اعتمدها بعض المعاصرين فجعلوا الموضوع ما تعمد فيه الراوي
الكذب، والباطل قد يجري على لسان الراوي الصادق اللهجة السيئ
الحفظ لكنه لم يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر اصطلاحي.
(7) قال اللقاني (2/ 1035): (خرج بها الآحاد؛ إذ مخالفتها لا
تدل على الوضع ولو لم تمكن التأويل).
(1/40)
لقصد الاشتهار.
وكل ذلك حرام بإجماع من يعتد به، إلا أن بعض الكرامية، وبعض
المتصوفة نقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ
من فاعله، نشأ عن جهل، لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام
الشرعية، واتفقوا على أن تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه
وسلم من الكبائر، وبالغ أبو محمد الجويني فكفر من تعمد الكذب
على النبي صلى الله عليه وسلم (1).
واتفقوا على تحريم رواية الموضوع إلا مقرونا ببيانه؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد
الكاذبين، أخرجه مسلم).
المتروك:
وهذا هو القسم الثاني من أقسام المردود: وهو ما يكون بسبب تهمة
الراوي بالكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمى الحديث
بـ: "المتروك".
قال ابن حجر في "النزهة" (ص/225): (أو تهمته بذلك: بأن لا يروى
ذلك الحديث إلا من جهته (2)، ويكون مخالفا للقواعد المعلومة
(3)، وكذا من عرف بالكذب في كلامه، وإن لم يظهر منه وقوع ذلك
في الحديث النبوي، وهذا (4) دون الأول).
قال الشيخ الطحان في "تيسيره" (ص/117): (إذا كان سبب الطعن في
الراوي هو التهمة بالكذب -وهو السبب الثاني- سمي حديثه:
المتروك.
- تعريفه: هو الحديث الذي في إسناده راوٍ متهم بالكذب.
- أسباب اتهام الراوي بالكذب: أسباب اتهام الراوي بالكذب أحد
أمرين؛ هما:
أ- ألا يروى ذلك الحديث إلا من جهته، ويكون مخالفا للقواعد
المعلومة.
ب- أن يعرف الراوي بالكذب في كلامه العادي، لكن لم يظهر منه
الكذب في الحديث النبوي).
المنكر - على رأي -:
قال الحافظ في "النزهة" (ص/223): (أو فُحش غَلَطِه، أي: كثرته
(5)، أو
__________
(1) قال تقي الدين في "الصارم المسلول" (ص:174): (من روى حديثا
يعلم أنه كذب فهذا حرام كما صح عنه أنه قال: " من روى عني
حديثا يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين " لكن لا يكفر إلا أن
ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر- أي كالاستهزاء ونحوه -).
وقال الشيخ ابن باز - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" (26/
316): (إن الكذب عليه من الكبائر العظيمة، وقد ذهب بعض أهل
العلم إلى كفر من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم،
ولكن الأكثر من أهل العلم على خلاف ذلك إلا أن يستحله، فإن
استحله كفر بالإجماع، وعلى كل تقدير فالكذب عليه صلى الله عليه
وسلم من أكبر الكبائر لعظم ما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة،
وما صاحبه عن الكفر ببعيد، أسأل الله العافية والسلامة).
فائدة - الفرق بين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم والكذب
على غيره:
قال الحافظ في "فتح الباري" (1/ 202): (فإن قيل الكذب معصية
إلا ما استثني في الإصلاح وغيره والمعاصي قد توعد عليها بالنار
فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الوعيد على من كذب على غيره؟
فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما - أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم وهو
الشيخ أبو محمد الجويني لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده
ومال ابن المُنَيِّر إلى اختياره ووجهه بأن الكاذب عليه في
تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على
استحلاله واستحلال الحرام كفر والحمل على الكفر كفر وفيما قاله
نظر لا يخفى والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك
الجواب الثاني - أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة
فافترقا ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب
على غيره أن يكون مقرهما واحدا أو طول إقامتهما سواء فقد دل
قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتبوأ) على طول الإقامة فيها بل
ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره إلا أن
الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين وقد
فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه وبين الكذب على
غيره في حديث المغيرة حيث يقول: (إن كذبا علي ليس ككذب على
أحد)).
(2) قال الشيخ عبد الله السمين في "حاشية لقط الدرر" (ص/80):
(أي الراوي المتهم، أي وغيره من الثقات الذين حضروا معه على
الشيخ لم يروه، وأما لو كان هو ثقة من بينهم أو كانهو ينفرد
يالشيخ في بعض الأحيان فإنه يقبل.
(3) وقال أيضا: (أي بأن يخالف من هو أوثق منه، وليس المراد
بالقواعد قواعد الشريعة كما قال الشيخ ملا على القاري).
(4) اختلف العلماء فيما يعود عليه هذا الضمير، فقال بعضهم: إنه
يعود للسبب الأول للطعن في الراوي أي: كذبه، ولذلك تعقب ابنُ
قاسم الحافظَ فقال: (لاحاجة لقوله: وهذا دون الأول؛ لأنه معلوم
أنه دون الأول في كلام المصنف) والصواب أن الضمير يعود للسبب
الأول من اسباب إتهام الراوي للكذب كما سيأتي، وانظر اللقاني
(2/ 1016)، وحاشية لقط الدرر (ص/80).
(5) قال الشيخ المأربي في "الجواهر السليمانية شرح المنظومة
البيقونية" (ص/61) ما
مختصره: (وهناك طرقا كثيرة لمعرفة ضبط الراوي وعدمه ومن ذلك:
- سَبْر روايات الراوي، ومقارنتها بروايات غيره من الثقات؛
لينظر هل يوافقهم أم يخالفهم؟ ويُحْكَم على حديثه بعد ذلك بما
يستحق.
- اختبار الراوي، وللاختبار صور، منها:
أ - أن يأتي إليه أحد أئمة الجرح والتعديل، فيسأله عن بعض
الأحاديث، فيحدثه بها على وجه ما، ثم يأتي إليه بعد زمن،
فيسأله عن الأحاديث نفسها، فإن أتى بها كما سمعها منه في المرة
الأولى؛ علم أن الرجل ضابط لحديثه، ومتقن له، أما إذا خَلَّط
فيها، وقَدَّم وأَخَّر؛ عَرَفَ أنه ليس كذلك، وتكلم فيه على
قدر خطئه ونوعه، فإن كانت هذه الأخطاء يسيرة عددا ونوعا؛
احتملوها له إذا كان مكثرا، وإلا طُعِن فيه.
ب - أن يُدْخِل الإمام منهم في حديث الراوي ما ليس منه، ثم
يقرأ عليه ذلك كله، موهمًا أن الجميع حديثه، فإن أقره وقبله،
مع ما أُدخل فيه؛ طعن في ضبطه، وإن ميز حديثه من غيره؛ علم أن
الرجل ضابط.
ج - أن يلقن الإمام منهم الراوي بقصد اختباره شيئا في السند أو
في المتن، لينظر هل سيعرف ويميز؛ فيرد ما لُقِّنَه، أو لا
يميز؛ فيقبل ما أُدخل عليه، فإن ميز؛ فهو ضابط، وإلا فغير
ضابط.
د - إغراب إمام من الأئمة على الراوي بالحديث، فيقلب سنده، أو
متنه، أو يركب سند حديث على متن حديث آخر، أو العكس، ليعرف ضبط
الراوي من عدمه أو قلته، ويحكم عليه بما يستحق حسب حِذْقه،
وفطنته، وضبطه، أو غفلته، وعدم فهمه، وهذا يفعله الشيوخ مع
تلاميذهم لمعرفة نباهتهم وتيقظهم، والعكس).
(1/45)
غفلته (1) عن الإتقان (2)، أو فسقه: أي:
بالفعل أو القول، مما لم يبلغ الكفر ...
ثم قال: (والثالث: المنكر -على رأي من لا يشترط في المنكر قيد
المخالفة (3) -
وكذا الرابع، والخامس، فمن فحش غلطه، أو كثرت غفلته، أو ظهر
فسقه، فحديثه منكر).
تنبيهان:
الأول - لاحظ أننا ذكرنا فيما سبق أن الحافظ يعتبر في المنكر
قيد المخالفة من الضعيف حيث قال في "النزهة" (ص/86): (وإن وقعت
المخالفة له مع الضعف فالراجح يقال له: "المعروف"، ومقابله
يقال له: "المنكر") وعلى هذا القول الذي ذكره هنا فلا يعتبر
قيد المخالفة بل المنكر هو الحديث الذي في إسناده راو فحش
غلطه، أو كثرت غفلته، أو ظهر فسقه.
قال الحافظ في "النكت" (2/ 675): (ما انفرد المستور أو الموصوف
بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه دون بعض بشيء لا متابع له
ولا شاهد فهذا أحد قسمي المنكر، وهو الذي يوجد في إطلاق كثير
من أهل الحديث. وإن خولف في ذلك، فهو القسم الثاني وهو المعتمد
على رأي الأكثرين).
الثاني - بين تعمد الكذب والفسق عموم وخصوص مطلق:
قال في "النزهة (ص/223): (وبينه وبين الأول عموم، وإنما أفرد
الأول لكون القدح به أشد في هذا الفن) والفسق أعم من تعمد
الكذب؛ لأنه أحد صوره.
المُعَلَّل:
قال في "النزهة" (ص:226): (ثم الوهم (4): - وهو القسم السادس
إن اطلع عليه، أي
الوهم، بالقرائن الدالة على وهم راويه - من وصل مرسل أو منقطع
أو إدخال حديث في حديث (5)، أو نحو ذلك من الأشياء القادحة
(6)، وتحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع وجمع
__________
(1) قال القاري في "شرح النخبة" (ص:432): (أي ذهوله (عن
الإتقان) أي الحفظ والإيقان. والظاهر: أنه عطف على غلطه، لا
على الفحش. والمعنى: أو فحش غفلته، أي كثرة غفلته، لأن الظاهر
أن مجرد الغفلة ليس سببا للطعن لقلة من يعافيه الله منها. ويدل
عليه قوله فيما بعد: أو كثرت غفلته).
(2) قال اللقاني (2/ 1017): (قال بعضهم: وفي كونها أشد من
الفسق نظر. انتهي. قلت: من تأمل وجد ضرر الغفلة في الحديث أشد
من ضرر الفسق، إذ ربما يكون شريبا متحريا في الرواية، والمغفل
لا يتأتى منه التحري، وهذا هو معنى الأشدية).
(3) قال اللقاني (2/ 1071): (المراد بالمخالفة: مخالفة من هو
أحفظ منه وأضبط، فالمنكر عند صاحب هذا الرأي: الفرد الذي ليس
في راويه من الثقة والضبط ما يجبر تفرده).
(4) قال القاري في "شرح النخبة" (ص:455): (أي رواية الحديث على
سبيل التوهم، وذلك قد يقع في الإسناد وهو الأكثر، وقد يقع في
المتن، مثل إدخال حديث في حديث آخر. والأول قد يقدح في صحة
الإسناد والمتن جميعا، لما في التعليل بالإرسال واشتباه الضعيف
بالثقة. مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء أيضا بإسناد
منقطع أقوى من الإسناد الموصول. وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة
من غير قدح في صحة المتن).
(5) قال اللقاني (2/ 1075): (وحاصله أن الإرسال الجلي، والقطع
الجلي، والإدراج الجلي، وغيرها، لا يطلق عليها في الاصطلاح
المشهور اسم: العلة، وإنما يُطلق على من كان منها خفيا مع
سلامة الحديث منها ظاهرا. ومن العلماء من يطلق اسم العلة على
كل قادح من فسق راوٍ، أو غفلته، أو جرحه، ومنهم من يُعِلُّ
الوصل بالإرسال، والرفع بالوقف، ومنهم من يطلق العلة على غير
قادح؛ كصل الثقة ما أرسله من لم يفقه ولم يرجح ... ).
(6) أخرج به غير القادح كإبدال راو ثقة بآخر ثقة كحديث
"البيعان بالخيار" فإن يعلي بن عبيد
الطنافسي رواه عن عمرو بن دينار، وهو عندهم محفوظ عن أخيه
عبدالله بن دينار، بكن كلاهما ثقة، فلا قدح.
(1/47)
الطرق- فهذا هو المعلل (1). وهو من أغمض أنواع علوم الحديث
وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهما ثاقبا، وحفظا
واسعا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد
والمتون؛ ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن:
كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن أبي
شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني. وقد تقصر عبارة
المعلل عن إقامة الحجة على دعواه، كالصيرفي في نقد الدينار
والدرهم). |